الدفن السماوي، كيف يدفن البوذيون موتاهم؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 8 في سلسلة أغرب طقوس الدفن عبر التاريخ


الدفن السماوي، كيف يدفن البوذيون موتاهم؟

شغلت قضية الموت العقل البشري منذ القدم، وجهد البشر في تفسيرها، وكرموا موتاهم بشتى الطرق. ومع تعدد الثقافات تعددت الطقوس الجنائزية؛ فمنهم من اختار الحرق، ومنهم من اختار دفن الموتى. أما البوذيون فقد اتخذوا اتجاهًا مغايرًا وقدموا موتاهم للنسور كطقس جنائزي لتكريم الموتى.

لمحة عن البوذية:

تعد البوذية فلسفة روحانية قديمة العهد. نشأت في الهند وانتشرت في معظم أنحاء شرق آسيا حتى وصلت لمنطقة التيبت.
يرى البوذيون الموت كتوقف لشيء وبداية لشيء آخر فهو من جهة الفناء التام وتوقف الحياة، ومن جهة أخرى بداية لرحلة روحانية جديدة. وبناءً على هذا التصور تبلورت طقوس الدفن السماوي.

البوذية بين الفلسفة والدين:

البوذية فلسفة في نظر البعض ودين في نظر من يمارسونها، والحقيقة أنها لا تندرج بشكل كلي تحت الفئتين، وقد يعتبرها البعض كطريقة في الحياة.
لا تعرف البوذية الألوهية ولا تتضمن أي عبادة للآلهة. مبدأ الروحانية بالنسبة للبوذية يرتبط ببث اليقظة والصحوة في داخل الفرد وليس بما هو خارجه.
و”البوذا” بالنسبة لأتباعه قديس، أو كائن أعظم روحياً؛ فالقديس في السياق البوذي شخص يقدم مثالاً للحقيقة التي أربكت الكائنات البشرية، وتدعوهم لليقظة أو ” الاستنارة”.

الحياة والموت في نظر البوذية:

تقوم البوذية على مبدأ التناسخ، أي ولادة الروح لعدة مرات في أجساد مختلفة، وتعرف دورة الحياة المتسلسلة هذه باسم “سامسارا” ولا ينظر للموت على أنه تهديد أو شيء محتوم، فهو بداية لحياة جديدة.


مراسم الدفن السماوي:

هو أكثر أنواع الدفن شيوعًا في منطقة التيبت لأتباع البوذية. تحتم هذه الديانة على أتباعها أن يتصفوا بالسخاء لذلك يقومون بتقديم أجساد الموتى للطيور الجارحة.

بعد الوفاة تترك الجثة دون أن تلمس لثلاثة أيام. ينشد الرهبان حول الجثة لتطهيرها من ذنوبها قبل يوم الدفن ثم تنظف الجثة وتُلف بقماش أبيض وتوضع بوضعية الجلوس، يبدأ الطقس قبل الفجر، يتصدر الرهبان الجنازة وينشدون الصلوات لإرشاد الأرواح حتى يصلون لمكان الدفن.

بعد الوصول يبدأ المختصون بتكسير وتقطيع الجثة لتستهلكها النسور، ثم يُحرق نوع من البخور لجذب النسور لأكل الجسد، وإن أكلت الجسد كاملًا فإن ذلك دليل على أن المتوفي طاهر من الذنوب. وإذا لم يؤكل تُجمع البقايا وتحرق مع إنشاد الصلوات للتطهير من الخطايا. و تعد النسور كائنات مقدسة في الديانة البوذية، فهي ترشد الأرواح للسماء حتى تُبعث من جديد.

طقوس دفن أخرى في التيبت

بجانب الدفن السماوي هناك الحرق والدفن النهري والدفن تحت الأرض وبالتسلسل فإن أعلى درجات الدفن قيمة بعد الدفن السماوي هو الحرق، يليه الدفن النهري، والدفن الأرضي.

يصعب على العقل البشري تقبل حقيقة أن الفناء قدره المحتوم، وجاءت الشعائر المختلفة لتبين لنا مدى اهتمام الناس بواقع الموت ورهبتهم منه.
إن التعرف على طقوس الشعوب في كافة المجالات، وخصيصًا طقوس الدفن يطلعنا على جوانب مهمة من حياتهم وفلسفتهم. فمن نظرتهم للموت نفهم منظورهم في الحياة.

اقرأ أيضًا: التحنيط الذاتي

أحد المدافن في منطقة التيبت

المصادر:

1-  bbc
2-   atlasobscura
3-  tibetpedia

من وضع قواعد الجسم المثالي؟ ولماذا أصبح هوس الجميع؟

ما المقصود بالحصول على جسم مثالي؟ ولماذا يوجد سباق للتكيف مع نوع معين من الجسم؟ ولماذا يوجد ضغط كبير على النساء للحصول على أجساد مثالية؟ والسؤال الأهم، لماذا نسعى دائمًا للحصول على موافقة المجتمع؟

نظرًا لأن المجتمع قد أعطى تعريفه لـ”الكمال”؛ فهناك العديد من النساء يواجهن مشاكل التنمر الجسدي، تدني احترام الذات، فقدان الشهية والشره العصبي.

تأثير ثقافة المجتمع على المرأة

في إطار الرغبة في الظهور بمظهر “مرغوب فيه” و “مثالي” وفقًا لمعايير المجتمع؛ فإن ثقافة المثالية كانت ولازالت قاسية على النساء. مثلاً، منذ الحقبة الفيكتورية، كان من المفترض أن تكون المرأة تافهة، حساسة، سهلة الانقياد ومطيعة دائمًا إلى حد الخضوع لأي تعديل. فالمرأة المثالية هي التي يمكن أن تتحمل الألم والمعاناة. منذ الطفولة كان من المفترض أن تكون الفتيات مُقيدات بأربطة ضيقة، مرتديات أقفال كذلك. كما كان من المفترض أن ترتدي النساء أو الفتيات الأكبر سنًا “الكورسيهات” لتحصل على الشكل الممشوق “المرغوب”. إذ أصبحت النساء ذوات الخَصر الصغير موضع إعجاب واعتبارهن جميلات.

قد يكون للسنوات الأخيرة بعض الإختلافات في نمط الملابس، لكن الحقيقة تظل كما هي حتى اليوم. يتم الضغط على النساء للحصول على أجساد مثالية لنيل إعجاب المجتمع والوصول للجمال.

معايير المجتمع القاسية على النساء

يُعتبر الجسم مثاليًا إذا كان نحيفًا، منغمًا، أبيضًا وطويلا. بسبب تعريفات كهذه، تبدأ الفتيات في سن صغيرة جدًا بالتفكير في زيادة وزنهن وحجمهن، والاهتمام المبالغ في مظهرهن. في حين أنهم في عمر من المفترض أن يميلن أكثر للعب واللهو.

وفقًا للجمعية الوطنية لفقدان الشهية العصبي والاضطرابات المصاحبة- National Association of Anorexia Nervosa and Associated disorders، تبدأ الفتيات في سن السادسة في التفكير في إجراء جراحة تجميلية لتلائم معايير الجمال التى سمعت عنها. فتنتبه لما حولها في ذلك الشأن، إذ تبدأ النساء في بروزة أجسادهن. وعند الاحساس بعدم الرضا عن الجسد؛ يأتي النقد.

والجدير بالذكر أيضًا أن هذا النقد يطال الرجال أيضًا! فأصبحوا يتعرضون للضغط للحصول على جسم مرغوب فيه. الفرق فقط – في الواقع- هو أن النساء يُظهرن أنفسهن بمظهر الضحايا المغلوبين لجذب الانتباه أو الحصول على الدعم والمساعدة.

إذًا، يمكننا القول بأن جميع الأجساد تقريبا تمر بالإحباط أو تتعرض للنقد. لكن في حالة النساء، فإن الأمر يبدو أكثر صعوبة أو ربما أهمية. فهناك فكرة عامة -في أغلب الثقافات على الأرجح- عن ضرورة اختيار زوجات جميلات من قِبل كل أسرة لأبناءها. ولأن الجسد هو موضوع التباهي والتفاخر، فمن المفترض أن يتم الاختيار بناءً عليه لأنه أكثر ما يُرضي العيون. بناءً على ذلك، ينتاب بعض الأُسر القلق حيال فتياتهم الصغيرات من أن يخالفن المعايير السالفة، فيُصبحن في نظر المجتمع بدينات، قبيحات وغير مرغوبات! كما يعتبر تزايد وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي لها دور كبير أيضًا في تفاقم تلك المشكلة، فزاد الضغط أكثر من ذي قبل.

الخجل من الانحراف عن معايير الجسم المثالي

السخرية من الجسد هي ممارسة إذلال الناس أو ممارسة التنمر عليهم واهانتهم بسبب شكل أجسامهم أو مظهرهم.

في الواقع، لقد أصبح البشر وقحين للغاية غير مبالين وغير إنسانيين منذ الثورة المعرفية. فعلى الرغم من قلة الناس الذين يتناسبون حقًا مع تعريفات الجمال التي وضعها المجتمع؛ إلا أنها أصبحت معيارًا يتبعه الجميع. إذ تبدأ الفتيات والنساء في القلق إذا لم يتناسب جسمها مع قِطع الملابس أو العلامات التجارية المشهورة.

لا تعتقد أن الأمر يتعلق بشكل الجسم والملابس فقط؛ بل هناك أشكال أخرى من الضغط تخضع لها الفتيات في سن صغيرة. مثل وضع مساحيق التجميل لتبدو جميلة وخالية من العيوب. إذ يُضغط على الفتيات بشدة فتلجأ لجميع الوسائل الممكنة لتظل في حالة جيدة ومقبولة”في نظر المجتمع” فأصبح هناك هاجسًا في الحصول على جسم مثالي، ببساطة لأن هناك شعور بالخوف من الرفض من قِبل المجتمع.

على من يقع اللوم؟

لا يوجد شخص يمكن إلقاء اللوم عليه في التشهير والتلاعب بجسد المرأة أو الضغط عليها للحصول على جسد مثالي، بل يجب إتهام المجتمع بأسره بذلك.

  • الفاعلون الحقيقيون هم قدوة الشعوب، الذين يُظهرون البطلات خاليات من العيوب وإلا فلن تحصل على البطل. يخلق ذلك التصور الرغبة المُلحة في الحصول على شخصية كاملة بدءًا من حجم الثديين إلى أصابع القدمين التي أصبح لها شروطًا أيضًا لتحقق الجمال.
  • وسائل الإعلام وصناعة “الموضة” لها تأثير كبير على حياة الناس “الجمهور”. الأفلام والمسلسلات التي نشاهدها، حيث تظهر الشخصيات الرئيسية تتمتع بشكل جيد، مُعين وثابت طوال الوقت. مما يُنمي ذلك فينا الرغبة المستمرة في الوصول لشكل أجسادهم.
  • الأفلام والبرامج الكوميدية “الساخرة” التي تسخر من “البدينات” و”السمراوات” طوال الوقت، توجه الناس بشكل غير مباشر إلى مسار المعايير الخاطئة.
  • ترويج الإعلانات التلفزيونية إلى منتجات التجميل التي تزعم أنها تحول البشرة تمامًا. أو التي تؤدي إلى الحصول على بشرة نموذجية خالية من العيوب. فتبث الفتاة في الإعلان فكرة أن أكبر مشاكل الحياة هي البشرة وعيوبها وإلى أي مدى يمكن أن تُرفض في عملها أو زيجتها بسبب بشرتها.
  • الأصدقاء ومجموعات الأقران أيضًا مُهمون جدًا، فتعليقاتهم أهم ما يكون. أحيانًا تؤذي الشخص إلى حد كبير. في بعض الأحيان يتسبب التعليق غير المباشر أو حتى النصيحة المستمرة التي تصدر عن صديق باتباع نظام غذائي صحي في جعل الفرد قلقًا و غير راضٍ عن نفسه.
  • أيضًا الأسرة، فهي جزء لا يتجزأ من حياتنا. فالتركيز والإلحاح المستمر من الوالدين على الفتاة بفقدان الوزن أو اكتساب بعضه من أجل الزواج، أمر ضاغط بطبيعته.
  • وفي بعض الأحيان يضغط بعض الأزواج على النساء للحصول على الجسم المثالي، كما يوجد نساء يخشين فقدان شركائهن إذا زاد حجمهن عن ذي قبل، أو إذا بدأن في الظهور بمظهرٍ خارج عن مقياس المجتمع للجمال.

بشكل عام، هناك ضغط على النساء من أغلب فئات المجتمع ليُصبحن مثاليات في الحجم.

تأثير معايير الجمال على الفتيات

نتيجة الضغط المستمر على الفتاة لتبدو جميلة بناءًا على معايير المجتمع، تتأثر النساء سلبًا؛ إذ يؤثر بشدة على المستوى العقلي والنفسي. تبدأ النساء في الشعور بنقص الثقة بالنفس، ويطورون إحساس تدني احترام الذات. بسبب الضغط المستمر من المجتمع؛ فإنهم يمنعون أنفسهم من الأنشطة التي يريدون القيام بها. بالإضافة لتقيدهم بأوضاع محددة في الجلوس، الحديث،الأكل،..

في بعض الأحيان يؤدي ذلك إلى الاكتئاب لدى العديد من النساء. فيبدأون في إيذاء أنفسهم من خلال اتباع أنظمة غذائية قاسية وغير صحية. أو المبالغة في ممارسة التمارين الرياضية وإرهاق أنفسهم إلى حد كبير. مما يجعلهم عُرضة للإصابة بأمراض مثل فقدان الشهية والشره المرضي العصبي.

ما هو سبيل الخلاص من هاجس الجسم المثالي؟

للتخلص من هذا الضغط، على الناس أن يبدأو في تقبل أنفسهم كما هم. إن قِصر القامة أو البشرة الداكنة ليس خطأهم، بل ليس خطئًا أو عيبًا على الإطلاق. فلا هناك سبب يجعلهم بحاجة إلى الاستمرار والاجتهاد في الترويج لصورتهم الذاتية الجيدة طوال الوقت. حب الذات والرعاية الذاتية أمران مهمان للغاية. فيعتبر فقدان الوزن من أجل التمتع بصحة جيدة علامة إيجابية للرعاية الذاتية. لكن إنقاص الوزن للحصول على موافقة المجتمع هو نهج خاطئ.

يجب أن يساعد كل من المجتمع ككل ووسائل الإعلام والأسرة والأصدقاء الشخص من خلال قبوله كما هو، والتوقف عن تقديم نماذج لأجساد معينة على أنها “مرغوبة” دون غيرها.

الخلاصة

يجب التوقف عن التفكير في الحاجة المُلحة للحصول على جسد مثالي لأي جنس. هناك ضغط من المجتمع لامتلاك أجساد مثالية للجميع، فكيف بعد أن يصيبنا هذا الضغط بالإكتئاب ويجعلنا عُرضة للأمراض أن يؤدي بنا إلى المثالية؟ بل يجب رفض تعبير الجسم المثالي الذي يرغبه المجتمع بشدة. كما لا يُعنى ذلك أن كونك غير لائق أمرًا صحيًا، لكن القلق العقلي والنفسي الذي يأتي من المجتمع بسبب معاييره الظالمة هو الشيء الغير صحي.

المصادر

تاريخ الكتابة

ما الذي له اليد الطولى في وصول العالم إلى ما هو عليه الآن؟ بالطبع، ليس هناك سبب واحد للتطور الحضاري. لكن ثمة أسباب معينة كانت وراء انتقال البشرية من استخدام العصا إلى استخدام الأجهزة الذكية. قد يقول البعض بأن النار هي مفتاح الحضارة، وهم محقون في ذلك. وقد يعول البعض على الخيال الأسطوري الذي مهد إلى معرفتنا الحالية بالعالم والكون، وهم بدورهم على الصواب. بيد أن الكتابة هي العنصر الأكثر فاعلية في رحلة الإنسان الشاقة نحو المزيد من المعرفة. هذه الأداة التي أُستخدمت قبل آلاف الأعوام في بلاد ما بين النهرين لأغراض تجارية هي الحارس الوحيد لاقتصادنا المعرفي. فتاريخ التقدم البشري هو على الأغلب تاريخ الكتابة، أو على الأقل لما كان هناك أي نقاش دون وجود هذه العلامات ذات البعدين. فسنخصص هذا المقال في البحث عن تاريخ الكتابة.

ما قبل الكتابة

إذا كانت اللغة المنطوقة هي أساس بناء علاقة أفقية مع الآخر في حدود زمانية ومكانية محددة، فالكتابة هي دعوة للحوار العمودي بين الأسلاف والاخلاف. تسعى اللغة المنطوقة إلى أهداف آنية وتواصل آني سرعان ما يُنسى. في حين، الكتابة هي مقاومة الزمن في سعي مستمر نحو أهداف طويلة المدى.

مع أن الكتابة لعبت دورًا مشابهًا للدور الذي لعبته النار في الحضارة البشرية، إلا أن تاريخ الكتابة فتي وقصير جدًا. اللغة المنطوقة سبقت المكتوبة بآلاف السنين ولا نعرف لماذا تكاسل البشر في هذا الاكتشاف. لكن، الكتابة ما هي إلا شكلٌ من أشكال التواصل الحر العمودي؛ ترك البشر الكثير من الرموز الأخرى لإقامة علاقة معنا. فالرسومات الفنية على جدران الكهوف تمثل بدورها نوعًا من اللغة المكتوبة ومع تفسير تلك الرسومات يمكن فهم الكثير عن الحالة البشرية قبل عشرات الآلاف من الأعوام.

الكتابة هي المظهر المادي للغة المنطوقة. ويُعتقد بأن البشر قد طوروا هذا المظهر المادي حوالي (50000 إلى 35000 ق.م) كما هو واضح من الرسوم الكهفية في عصر إنسان كرو-ماجنون. فتلك الرسومات كانت تعبر عن مفاهيم من الحياة اليومية، كرحلة صيد وما وقع فيها من الأحداث على سبيل المثال(1).

تاريخ الكتابة

الرموز الممهدة للكتابة

كان السلف المباشر لخط بلاد ما بين النهرين عبارة عن جهاز تسجيل (Recording Device) يتكون من قطع طينية ذات أشكال متعددة. تم العثور على الكثير من تلك الاشكال الطينية الهندسية مثل المخاريط والأسطوانات والأقراص والاشكال البيضوية  وهي تعود إلى 8000 إلى 3000 ق.م. هذه الاشكال تجسدت رموز دلالية ونظام من الإشارات لنقل المعلومات. على سبيل المثال، كان المخروط والكرة يمثلان على التوالي مقدارًا صغيرًا أو كبيرًا من الحبوب(2). بيد أن هذه الاشكال لم يكن لها سياق قواعدي. قثلاثة مخاريط وثلاث بيضات متناثرة بأي شكل من الأشكال كان من المقرر ترجمتها “ثلاث سلال من الحبوب، وثلاث أوعية زيت”(2).

الكتابة التصويرية

بعد أربعة آلاف عام، أدى النظام الرمزي (Token System) إلى الكتابة. حيث حل الخط (Script) محل العدادات (Counters) في كل من بلاد السومر وعيلام عندما كانت الأخيرة تحت الحكم السومري في فترة 3500 ق.م. كان يتم تخزين الرموز (Tokens) في مظاريف طينية مسدودة، من المرجح كانت تمثل الديون، ويقوم المحاسبين بوضع علامة خطية على تلك المظاريف. وتلك العلامات كانت أولى علامات الكتابة(2). بيد أن التحول هذا لم يكن كبيرًا ولم تتحرر الكتابة بعد من نظام الرمز سوى في تحويل الرموز من ثلاثية الأبعاد إلى ثنائية الأبعاد. كان الخروج الرئيسي الوحيد من نظام الرمز يتمثل في إنشاء نوعين متميزين من العلامات(signs): الرسوم التصويرية المحفورة(incised pictographs) والأرقام المؤثرة (impressed numerals). بدأ هذا المزيج من العلامات في التقسيم الدلالي بين العنصر المحسوب والرقم(2).

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب دروس من التاريخ لويل ديورانت

اللوغرام

المرحلة الثانية في تطور الكتابة تبدأ من حوالي 3000 ق.م. وذلك عند إنشاء علامات صوتية، بحيث تحولت العلامة الكتابية من عالم البصر إلى عالم السمع.

مع بناء الدولة، تطلبت اللوائح الجديدة تسجيل أسماء الأفراد الذين استلموا البضائع المسجلة على الألواح الطينية. وكانت العلامة الكتابية تكون بمثابة صورة ومحاكاة للعلامة المنطوقة، على سبيل المثال، يمكن كتابة اسم ربيع بعلامة دالة لفصل الربيع. وفي حال العبارات كان يتم استخدام رموز دالة وحسب لا الأفعال. هذه المرحلة من تطور خط بلاد ما بين النهرين والتي تميزت بإنشاء العلامات الصوتية، لم تؤدي فقط إلى فصل الكتابة عن المحاسبة ، بل أدت أيضًا إلى انتشارها من سومر إلى المناطق المجاورة، الحضارة المصرية على سبيل المثال(2).

ظهور الأبجدية

بدأت المرحلة الثالثة من تطور الكتابة حوالي 1500 ق.م مع اختراع الأبجدية. الأبجدية الأولى والتي تسمى بالسينائية (Porto-Sinaitic) والتي نشأت في أرض لبنان الحالية تأسست على حقيقية أن كل لغة تتألف من عدد محدد من الحروف وكل حرف يمثل صوتًا(2).

وكان قد حدث الانتقال من الكتابة المسمارية إلى الأبجدية في الشرق الأدنى القديم على مدى قرون. هذه الثورة المعرفية العظمى صدرها الشرق إلى بلاد الأغريق من خلال التجار الفينيقيين أبان القرن الثامن قبل الميلاد.

الجدير بالإشارة هو أن الفيضانات التي كانت تحدث في بلاد ما بين النهرين كان لها دور في ابتكار الأبجدية. حيث وجدت المجتمعات التي بنت المدن المبكرة أنها بحاجة إلى الاحتفاظ بسجلات لمخزوناتها وممتلكاتها وتجارتها(3).

الكتابة في مصر

منذ عام 3200 ق.م فصاعدًا، ظهرت الكتابة المصرية الهيروغليفية على ألواح عاجية صغيرة تُستخدم كملصقات للبضائع الجنائزية في المقابر. و تم العثور على الكتابة بالحبر باستخدام فرش وأقلام القصب لأول مرة في مصر. عُرفت هذه الكتابة بالحبر في اليونانية بالهيراتيكية (النص الكهنوتي) ، في حين أن الأحرف المنحوتة والمرسومة التي نراها على الآثار تسمى الهيروغليفية (المنحوتات المقدسة).

وكان للكتابة في مصر وظيفتان: الأولى كانت احتفالية وكانت كتابة منحوتة، والأخرى كانت في خدمة الإدارات الملكية والمعابد وكانت مكتوبة(4).

الكتابة في الصين

تطورت الكتابة في الصين من طقوس العرافة باستخدام عظام أوراكل عام 1200 قبل الميلاد. يبدو أن الكتابة الصينية نشأت بشكل مستقل، حيث لا يوجد دليل على انتقال ثقافي في هذا الوقت بين الصين وبلاد ما بين النهرين. تضمنت ممارسة العرافة الصينية القديمة نقوشًا على العظام أو الأصداف التي تم تسخينها بعد ذلك حتى تشققها. ومن ثم يتم تفسير الشقوق بواسطة العراف (Diviner) إذا كان هذا العراف قد حفر “الثلاثاء القادم سوف تمطر” و “الثلاثاء القادم لن تمطر” فإن نمط الشقوق على العظم أو الصدفة سيخبره ما هو الحال. بمرور الوقت ، تطورت هذه النقوش إلى النص الصيني(1).

تسجل عظام أوراكل هذه (شفرات كتف الثيران والسلاحف) الاسئلة التي طُرحت على النسب الملكي حول مواضيع متنوعة مثل تناوب المحاصيل والحرب والولادة وحتى وجع الأسنان. حتى الآن، تم العثور على ما يقرب من 150000 نموذج لمثل هذه العظام، تحتوي على أكثر من 4500 رمز مختلف، يمكن تحديد العديد منها على أنها أسلاف الأحرف الصينية التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم(4).

الخلاصة

منذ اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين بدأت الحضارة ترتقي أكثر فأكثر. فاللغة قديمة جدًا، لكنها لم تكن قادرة على القيام بوظيفتها الكاملة دون وجود الكتابة. العالم نفسه لما كان سيكون بهذا الشكل لولا الهبة التي قدمتها لنا الكتابة. لما كنا سنعرف ملحمة جلجامش ولا الفلسفة اليونانية ولا كتاب مبادئ الرياضيات ولا حتى النصوص الدينية. ثمة أمر مثير للإهتمام في تاريخ الكتابة ألا وهو حدوثها الحتمي. إذ أن الكتابة كانت ستكون حتى دون أن يجازف السومريون؛ فحسب الأدلة التاريخية تمكن الصينيون من اختراع نظام للكتابة خاص بهم بمنأى عن السومريين. والكتابة لم تأتي فجأة بشكلها الحالي إنما تطورت بما يخدم الحاجات البشرية.

المصادر:

  1. ancient.eu
  2. sites.utexas.edu
  3. sciencedirect
  4. bl.uk

هنري دونانت وإنشاء منظمة الصليب الأحمر

كانت أول مرة أستمع فيها لقصة هنري دونانت وأفكاره التي أدت لتأسيس منظمة الصليب الأحمر في اليوم التعريفي للهلال الأحمر المصري، وقتها شعرت بقدرة الفرد على إحداث التغيير.

في هذا المقال سنحكي لكم القصة الإنسانية وراء هذا الرجل وجهوده لتأسيس واحدة من أهم المنظمات الإنسانية وهي منظمة الصليب الأحمر.

معركة (سولفرينو- Solferino)

في ٢٤ يونيو عام ١٨٥٩ وفي قرية إيطالية تسمى سولفرينو كانت القوات الفرنسية بقيادة بونابرت الثالث في معركة حامية مع القوات النمساوية، كان أول تبادل لإطلاق النار في الساعة الثالثة فجرًا وعند السادسة صباحًا كانت المعركة على أشُدِها.

بعد الظهر تخلت القوات النمساوية عن مواقعها، وفي الليل كان هناك أكثر من ٤١,٠٠٠ مصاب و٦,٠٠٠ قتيل! كانت المساعدات الطبية في الجيش الفرنسي قليلة بسبب قلة أعداد الأطباء.

مع غياب وسائل النقل كانت الأمور أصعب، واستطاع القليل من الجرحى التوجه لقرية قريبة (كاستيجليون-Castiglione) بحثًا عن الطعام والماء.

رحلة هنري دونانت-Henri Dunant إلى إيطاليا

في نفس يوم المعركة، وصل رجل الأعمال السويسري هنري دونانت إلى قرية سولفرينو قاصدًا مقابلة بونابرت الثالث، ولكن عند وصوله كانت المعركة على أشدها.

كانت الصدمة هائلة على دونانت ولكنه مع ذلك تصرف سريعًا، فبدأ بالاستعانة بالسكان المدنيين في القرى القريبة وبالأخص النساء والفتيات وحثهم على تقديم المساعدة للمصابين.

لكنه أخبرهم بأن المساعدة لن تكون للمصابين من الجنود الفرنسيين فقط بل للجميع، ثم قال كلمته الشهيرة « Tutti Fratelli» أي الجميع أخوة.

لم تكن هناك إمدادات طبية كافية، فقرر هنري أن يوفرها للمصابين، ووقتها قدم المساعدات للجميع بغض النظر عن جانب كل منهم من المعركة.

كتاب تذكار سولفرينو

بعد عودة دونات إلى بلده سويسرا، قام بكتابة كتاب يحكي فيه عن تجربته أثناء معركة سولفرينو وكل ما حدث فيها، قام هنري حينها بطباعة الكتاب على نفقته الشخصية عام ١٨٦٢ وأخذ على عاتقه نشر هذا الكتاب.

بدأ بنشر كتابه وتجربته بين الشخصيات السياسية والعسكرية في أوروبا. فكان هنري هو صاحب فكرة قيام منظمة حيادية لمعالجة المصابين في الحروب والنزاعات.

تأسيس الصليب الأحمر

بعد أن لاقت أفكار دونانت إعجاب رئيس جمعية جنيف للرعاية العامة جوستاف موانييه، اجتمع به في ٩ فبراير عام ١٨٦٣، وبعد مناقشة اقتراحات دونات، كون هو وجوستاف لجنة مكونة من خمسة أشخاص.

بالإضافة إلى هنري وجوستاف كان هناك هناك أيضًا الجنرال السويسري هنري دوفور والطبيبين لويس أبيا وتيودور مونوار.

كان اجتماعهم الأول في يوم ١٧ فبراير في نفس العام وهو تاريخ تأسيس منظمة الصليب الأحمر. تم توقيع اتفاقية جنيف الأولى في وجود ١٢ دولة في أغسطس عام ١٨٦٣.

الخلافات بين هنري دونانت وبين جوستاف موانييه

رُغم إعجاب جوستاف بأفكار هنري إلا أن الخلافات بينهم أدتت إلى استقالة هنري من اللجنة فيما بعد. كان هنري أكثر الأعضاء مثالية في أفكاره والتي لم تناسب تمامًا وجهة نظر باقي الأعضاء العملية.

ساءت الأمور بعد تدهور حالته المادية في عام ١٨٦٧، وبعد أن ذاع خبر إفلاسه في أرجاء جنيف قبلت اللجنة استقالته ليس فقط كأمينًا لها بل أيضًا كعضو بها في سبتمبر من نفس العام.

الرحيل من جنيف

بعد أن قبلت المنظمة استقالته رحل دونانت عن جنيف متجه إلى باريس، وهناك استعانت به الإمبراطورة أوجيني لتستشيره في توسيع نطاق اتفاقية جنيف لتشمل الحروب البحرية.

في باريس أصبح دونات عضوًا فخريًا لجمعيات الصليب الأحمر، وأثناء الحرب بين فرنسا ومملكة بروسيا ساهم في العديد من الخدمات للجنود الجرحى.

كما أنه قام بعمل مؤتمر من أجل إلغاء الاتجار بالرقيق في لندن عام ١٨٧٥.

سنوات من التيه

بلا مال أو مأوى هكذا ألت إليه أحواله، وأخذ يرتحل من مكان إلى أخر حتى استقر به الحال في قرية هايدن السويسرية في عام ١٨٨٧. هناك تعرف عليه أحد الصحفيين ونشر مقال عنه في أحد الجرائد ومن ثم توالت عليه رسائل الامتنان من كل أنحاء العالم.

في عام ١٩٠١ حصل دونانت على جائزة نوبل للسلام وكان أول شخص حصل عليها تخليدًا لأعماله ومشاركاته الإنسانية لمداواة المرضى.

في ٣٠ أكتوبر عام ١٩١٠ رحل هنري عن عالمنا تاركًا فكرته التي حارب لتنفيذها حية في كل دولة من دول العالم.

هل شعار الصليب الأحمر شعار ديني؟

يظن الغالب أن الصليب الأحمر شعار ديني وهذا ليس بصحيح فهو شعار إنساني تمامًا.

ذاك لأن هذا الشعار لا يمثل الصليب، بل يمثل علم سويسرا، حيث أن العلامة في العصر الحديث تُشير إلى بعض المبادئ مثل الحرية والحيادية والديمقراطية.

علم سويسرا يتكون من علامة زائد بيضاء على خلفية حمراء، وتم عكس شعار منظمة الصليب الأحمر إلى علامة زائد حمراء على خلفية بيضاء وذلك لتكريم هنري دونانت.

الهلال الأحمر والدول العربية

تم تشكيل شعار الهلال الأحمر من قبل الدولة العثمانية في إحدى حروبها وهو يشبه الصليب الأحمر.

وعندما وقعت الدول العربية على اتفاقية جنيف غيروا فقط كلمة الصليب إلى الهلال، كما أن المنظمتين تابعتين لبعضهما البعض.

النهاية

منذ بداية الخلق دائمًا ما كانت هناك صراعات بين البشر وبعضهم البعض سواء كانت بسبب الدين أو جغرافيا المكان والتي ينتج عنها ملايين الجرحى والأموات ليومنا هذا.

لكن مع ذلك كان هناك أشخاصًا يحاولون أن يطيبوا تلك الجراح الدامية، وكان منهم هنري دونانت والذي أتت جهوده من العطاء ثمارها.

المصادر

هل الشركات الناشئة والشركات الصغيرة وجهان لعملة واحدة؟

يوجد تضارب مفاهيم لدى معظم الأشخاص بأن الشركات الناشئة -“startup”- بداية الشركات الصغيرة والمتوسطة؛ لذلك دعنا نتعرف على حقيقة الأمر.

ماهي الشركات الناشئة؟

الشركة الناشئة: هي شركة حديثة يؤسسها شخص أو أكثر، تعمل على إيجاد حل لمشكلة، وتتميز بالنمو وتطور نموذج العمل.[1]

الفرق بين الشركات الناشئة والصغيرة

  • الشركات الناشئة هي شركات مؤقتة؛ فتسعى للتطوير من نموذج العمل لتتمكن من السيطرة على السوق. بينما الشركات الصغيرة تسعى للبقاء في منافسة السوق.
  • الشركات الناشئة لا تصل إلى الربح بشكل سريع؛ لأنها تبحث عن نموذج عمل مثالي لتحقيق هدفها. بينما الشركات الصغيرة لا تسعى للسيطرة، إنما تسعى للربح بكفاءة.
  • احتمال نجاح نموذج عمل الشركة الناشئة ليس مؤكد؛ فيلجأ مؤسسو الشركات الناشئة للتمويل عن طريق المستثمرين أو شركات الاستثمار. بينما الشركات الصغيرة تلجأ للقروض؛ لأنها تعتمد على نموذج عمل مؤكد.[2]،[3]

كيفية البدء في إنشاء شركة ناشئة

يعتمد الأمر على بعض الخطوات لتقليل نسبة الوقوع في أخطاء، وهي:

  • حدد مشكلة عملائك: ليست الصعوبة في إيجاد حل، إنما بفهم عميق للمشكلة مما يسهل عليك إيجاد حلول مبتكرة.
  • عمل بحث: لا يكون البحث عن المنافسين فقط، بل البحث عن آراء العملاء في حلول المنافسين، وعن قصور تلك الحلول؛ مما يساعدك لخلق ميزة تنافسية.
  • الاستفسار من الخبراء: الاستعانة بالخبراء يساعدك على إيجاد أجوبة على كل الاستفهامات التي تدور في رأسك؛ مما يجعلك تتفادى بعض الأخطاء بسبب فهم خاطئ.
  • وضوح فكرة المنتج: قبل العمل على إنشاء المنتج يجب أن تكون فكرته واضحة؛ لأنك سوف تخبرعملائك كيف سيصبح المنتج عندما يتم طرحه فعليًا.
  • إيجاد العملاء المختبرين: هم عملائك المتبنيين الذين يسعون لتجربة منتجك قبل طرحه بشكل فعلي؛ والذين يساعدونك في تحسين الجودة.
  • طرح نماذج من المنتج: والذي يُسمى بالحد الأدنى من المنتج القابل للتطبيق؛ فيقوم العملاء المختبرين بتجربته. فإذا كنت تقوم بإنتاج الكعك، قم بطرح نماذج مصغرة من الكعكات لمعرفة انطباع الجمهور؛ وعلى أساسه ستحسن المكونات ليصبح بالمذاق الأمثل.
  • اكتساب عملاء جدد: يتم تجربة نماذج المنتج على العملاء المختبرين الذين في الغالب يكونون من دائرة الأقارب أو الأصدقاء، ولكن الرأي الأكثر نفعًا يكون رأي العملاء الغرباء(جدد). ويمكنك اكتساب العملاء الجدد من خلال:
    1. تنظيم إعلان بشكل منسق على الفيسبوك.
    2. التأكد من نجاح التحويل عند الضغط على الإعلان إلى الموقع الإلكتروني.
    3. اختيار السعر المناسب.
  • تحديد وعد العلامة التجارية: هي القيمة أو الفائدة التي ستضاف للعملاء من المنتج، وإذا لم يتم تحقيق هذه القيمة وإيصالها بالشكل الأمثل سوف تفقد ثقة العملاء.
  • الاهتمام برأي العملاء: خدمة العملاء لا تقتصر على إتمام عملية البيع وحسب، إنما بمعرفة رأي العملاء الذي يساعد في تحسين الجودة وتطوير المنتج بشكل أفضل.
  • المراجعة والتقييم: بعد هذه العملية الطويلة يلزم مراجعة وتقييم النتائج؛ لتقرر إذا كان المنتج ونموذج العمل يحتاجان للتطوير أم لا.[4]

بعض الأخطاء الشائعة التي تواجه الشركات الناشئة

يوجد أخطاء شائعة يقع فيها مؤسسو الشركات الناشئة؛ والتي بدورها السلبي تؤدي إلى فشل الشركة الناشئة أو تحقيق نتائج أقل من المطلوبة، منها:

  • تعيين أشخاص غير مناسبين: بسبب تطور وسائل التواصل؛ التقدم للوظائف عبر الانترنت أصبح سريعًا، يعتمد البعض على كفاءة الأشخاص من خلال استمارة التقديم دون إجراء مقابلة شخصية للتأكد من كفائتهم.
  • اختيار الفئة المستهدفة بشكل غير دقيق: لا يمكنك إرضاء جميع الفئات؛ لذلك يجب توجيه المنتج أو الخدمة لفئة محددة؛ لتفادي التشتت وعدم تحقيق النتائج المطلوبة.
  • البحث غير عميق: الكثير من رواد الأعمال لا يهتمون بالبحث العميق؛ مما يسبب عدم معرفة الاحتياجات الحقيقية أو تحديد ميزة تنافسية موجودة بالفعل لدى أحد المنافسين.
  • عدم وجود خبرة: الكثير من الشباب اليوم يسعى ليكون لقبه “رائد أعمال”، مع تجاهل أهمية وجود خبرة كافية للإدارة وفهم احتياجات السوق.
  • التسويق غير فعال: يرجع ذلك لاعتقاد البعض أنه كلما زادت ميزانية التسويق والإعلانات كلما زاد الربح؛ مع تجاهل أهمية كفاءة وتأثير تلك الإعلانات.
  • كثرة المنافسين: هناك الكثير من أصحاب الأفكار للمشاريع، وفي ازدياد كل يوم بسبب الابتكار والتطور؛ فيجب أن تكون فكرة مشروعك مدروسة جيدًا حتى تتمكن من التواجد ضمن هذه المنافسة.[5]،[6]

وفي النهاية قبل اتخاذ خطواتك نحو إنشاء مشروعك تأكد من قدرتك الإدارية، وأنك على قدر كافٍ من المسئولية لتحمل عواقب الأخطاء.

المصادر

القتل المتسلسل

يستمتع الكثيرون منّا بكتب وأفلام القتل المتسلسل المليئة بالرعب والإثارة، ولرُبّما أول ما يتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن القاتل المتسلسل صورة رجل أبيض في العشرين أو الثلاثين من عمره، ذو كاريزما عالية وذكاء حاذق وحياة غامضة. ولكن إلى أي مدى يتطابق الواقع مع  قصص الروايات والأفلام؟ وكيف يفسّر العلم ظاهرة القتل المتسلسل؟

تعريف:

تتعدّد تعريفات «القتل المتسلسل-Serial murder» وتختلف بحسب جنس القاتل وعدد ضحاياه والأسباب الدافعة لتنفيذ الجرائم. لكن التعريف السائد للقاتل المتسلسل هو كل قاتل ينفذ جرائم قتل في أمكنة وأزمنة متعددة، وله على الأقل ثلاث أو أربع ضحايا. وتكون فترة «برودة-Cooling off» بين الجريمة والأخرى، تمتد من ساعات إلى سنوات عدة، وتكون هذه الفترة خالية من الجريمة.  ويتميز هذا النوع من الجرائم عادةً بأنماط محددة (مشتركة بين الجرائم المتسلسلة) من حيث اختيار الضحايا أو أساليب القتل.

تجدر الإشارة إلى أن القتل المتسلسل يختلف عن القتل الجماعي الذي يستهدف مجموعة ضحايا في مكان وزمان واحد.

تاريخ جرائم القتل المتسلسل:

رغم أن استخدام مفهوم “القتل المتسلسل” وانتشاره يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التاريخ مليء بهذا النوع من الجرائم.

ولعلّ أول جريمة قتل متسلسلة مُوثّقة هي جريمة المرأة «لوكوستا-Locusta» التي وُظفت من قِبل الامبراطورة الرومانية «أغريبينا الصغرى-Agrippina the Younger» للتسميم لعدد من أعضاء العائلة الحاكمة، وقد أًعدمت لوكوستا في العام 69 بعد الميلاد.

من القاتلين المتسلسلين المشهورين عبر التاريخ أيضًا الرجل النبيل الفرنسي «جيل دو ري-Gilles De Rais» الذي ارتبط اسمه بقتل أكثر من مئة طفل، وقد أُعدم في القرن الخامس عشر.

في القرن التاسع عشر، زاد الحديث عن جرائم القتل المتسلسل وارتفعت نسبتها، ولكن العديد من الباحثين ينسبون هذا الارتفاع إلى تقدم تقنيات كشف الجرائم وتغطيتها الإعلامية.

أما في القرن العشرين، فقد تحولت جرائم القتل المتسلسل إلى قضايا رأي عام، وقد أثارت الدهشة والرعب في نفوس الجماهير. ونذكر هنا بعض الجرائم المرعبة التي حفرت في ذاكرة الكثيرين، منها جرائم الطبيب البريطاني «هارولد شيبمان-Harold Shipman» الذي قتل 215 شخصًا على الأقل بين عامي 1975 و1998، والقاتل محمد عمر آدم الذي اعترف في عام 2000 بمسؤوليته عن قتل 16 طالبة طب في اليمن و11 نساء أخريات في السودان.

ومع انتشار قصص جرائم القتل المتسلسل وإثارتها للجدل الواسع، شكّلت مصدر إلهام للكثير من الروائيين والكتّاب، فصدرت الكثير من أهم الروايات وأنجح الأفلام السينمائية التي تدور قصصها حول هذا النوع من الجرائم.

لذلك انتشرت صورة نمطية عن منفذي هذه الجرائم، قد لا تعكس دائمًا الواقع. كما أنها ساهمت في تضخيم تقدير نسبة هذه الجرائم، في حين أنها في الحقيقة لا تتعدى الـ2% من إجمالي عدد الجرائم.

كيف يفسر العلم جرائم القتل المتسلسل؟

لماذا يتصرف البشر بهذه الطريقة أو تلك؟ لماذا يكذبون أو يسرقون أو يقتلون؟ لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب أعمال الفلاسفة والعلماء والباحثين لمئات السنين. كذلك حاول هؤلاء تفسير ارتكاب جرائم وحشية مثل جرائم القتل المتسلسل.

تتعدّد النظريات التي تساهم في تفسير هذه الجرائم بين نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة والإحصائيات وصولًا إلى الطب النفسي وعلوم الجينات.

يشكّل الرجال الأغلبية الساحقة من القتلى المتسلسلين، مما يقترح وجود أسباب جينية مسؤولة عن ارتفاع منسوب العنف عند الرجال، كما يمكن ربطه بالدور الاجتماعي المرتبط بالرجال.

كذلك يتم الربط بين جرائم القتل المتسلسل وأمراض نفسية معينة مثل اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، بحيث يزيد هذا النوع من الاضطرابات النفسية احتمال القيام بجرائم، لكنه ليس ملازم لها بالضرورة.

ويُشير علماء النفس إلى أن التعرض للعنف أو الصدمات في الطفولة قد يكون عاملًا مؤثرًا في القيام بأعمال عنيفة أو جرمية وبالتالي المشاركة في جرائم القتل المتسلسل.

ولعلّ أكثر العوامل النفسية تأثيرًا هي وجود اضطرابات التعلق وقلق الهجر، فقد بينت دراسة أن أكثر من 70% من القتلة المتسلسلين عانوا من هذه الاضطرابات.

 في حين ركزت الكثير من الدراسات على الدراسة الشخصية والعوامل الفردية لدى القتلى المتسلسلين، طرح علماء الاجتماع وجهة أكثر شمولية في البحث عن عوامل اجتماعية مساهمة في بناء هؤلاء القتلة.

فقد اعتبر بعض الباحثين أن العدد الكبير من القتلة الرجال الذين يستهدفون النساء كضحايا لهم، ليس إلا وجهًا من وجوه العنف ضد المرأة وكراهية المرأة في المجتمعات الأبوية والذكورية.

 كذلك يرى البعض أن الحداثة والاقتصادات النيوليبرالية فرضت زيادة في الفردية وفي الفروقات الاجتماعية وأثرت على الحياة الجماعية، مما يعزّز احتماليات الجريمة.

إن الأكيد أن تفسير جرائم القتل بحاجة إلى تكامل هذه النظريات مع بعضها، فكل جريمة تختلف عن غيرها في أسبابها ودوافعها.

تبيّن جرائم قتل المتسلسل أن مجموعة من العوامل الفردية والاجتماعية كفيلة أن تحول الأشخاص إلى وحوش بشرية يقتلون دون رحمة، بل يشعرون باللذة والرضا عند ارتكابهم جرائم قتل بحق آخرين. فإلى أي مدى سيساعدنا العلم على تجنب هكذا جرائم؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

SAGE

Sciencedirect

الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

يرزح الاقتصاد العالمي تحت ضغط كبير، وتجتاح الأزمات دول الشرق الأوسط. انهيار اقتصادي في لبنان وسوريا وحرب في اليمن، تدخلات تركية وإيرانية تأجج نيران الصراع في المنطقة. العراق يعيش حالة من الاضطراب واقتصاد اليونان في حالة يرثى لها. أليس هذا هو الحال في سنة 2021 ميلاديًّا؟ بلى، ولكن الوضع أيضا كان هكذا في سنة 1177 ق.م. منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفي عصر يدعى بالعصر البرونزي، حلَّ الانهيار الحضاري الكبير ، فانهارت حضارات منطقة البحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى. وبانهيارها غيرت مسار ومستقبل العالم إلى الأبد.

استمر العصر البرونزي في منطقة الشرق الأدنى، ومصر وبحر إيجة ما يقرب من ألفَي عام. من سنة 3200 ق.م تقريبًا إلى بُعَيْد سنة 1200 ق.م. قامت في هذه الفترة العديد من الممالك الصغيرة والإمبراطوريات الكبيرة التي سيطرت على منطقة الشرق الأوسط. أسست نظمها وسياساتها الخاصة، وتشابكت العلاقات فيما بينها عبر طرق تجارية دولية واسعة حتى دعيت تلك الفترة بأول فترة أممية. إن أول ظهور للعولمة كما نعرفها اليوم قد بدأ منذ ذلك الحين. لكن وبعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهى الحال بغالبية أقاليم البحر المتوسط إلى نهاية مأساوية. فسرعان ما انهارت الامبراطوريات الكبيرة والممالك الصغيرة، وانهار معها النظام العالمي. مخلفًا سنوات من الظلام قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في المناطق المتضرِّرة، ممهدة الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.(1)

لسنوات عديدة وجهت معظم الأبحاث الأثرية التي درست هذا الانهيار وأسبابه أصابع الاتهام نحو شعوب البحر، اتهموا بأنهم قد اجتاحوا هذا العالم القديم ودمروه، فمن هم هؤلاء الشعوب؟

البداية والنهاية

في العام 1177 ق.م. وفي السنة الثامنة لحكم الفرعون المصري رمسيس الثالث وفي وقت واحد تقريبا بدأت عدة معارك برية وبحرية في دلتا مصر أو بالقرب منها. هاجمت قوات شعوب البحر الجيش المصري الذي كان في انتظارها. يوجد احتمال أن هذه المعارك كانت تمثل كمائن أخذ فيها المصريون أعدائهم على حين غرة أو أنها معركة واحدة طويلة، لكن ما هو مؤكد أن المصريين قد انتصروا فيها.

في معبده الجنائزي في مدينة هابو بالقرب من مدينة الأقصر حاليًا يمثل رمسيس الثالث معركته مع شعوب البحر بعدة جداريات ونقوش، وقد كتب بإيجاز في أحد هذه النصوص:

أعدَّت البلاد الأجنبية مؤامَرةً في جُزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمَّروها في خضمِّ المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يَصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دُفعةً واحدة. [لقد أقاموا] معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرضٍ خَرِبة لم يكن ثمَّة وجودٌ لبشرٍ عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدُّم صوب مصر، بينما كانت النارُ مُعدةً لهم. كان تحالفُهم يتكوَّن من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانًا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقةً وموقنةً بالنصر.(1)

يعطي هذا النقش العديد من المعلومات عن شعوب البحر. وكان يعتبر بالإضافة لباقي النقوش المصرية الدليل الأساسي لاجتياح شعوب البحر للعالم القديم وتدميره في أواخر عصر البرونز.

شعوب البحر

شعوب البحر، هو الاسم الذي أطلقه الباحثون عليهم اليوم، لكن المصريين القدماء لم يستخدموا هذا المصطلح أبدًا. عوضًا عن ذلك ححدوا هويتهم باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معًا: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا، والويشيش. وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.

أسماء هؤلاء الشعوب ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو. على هذه الجدران تظهر دروع الغزاة المستديرة، وأسلحتهم، وملابسهم، وقواربهم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين قد قارنوا بين الدروع والسفن في هذه الرسوم مع ما يشبهها في حضارات العالم القديم بحثًا عن أصل هذه الشعوب.

نقش يمثل معركة رمسيس الثالث مع شعوب البحر (مواقع التواصل )

على رؤوسهم ريش

بالنسبة لأشكالهم يظهرون في الرسوم وهم يرتدون قبعات من ريش على رؤوسهم، أو بأغطية رأس على شكل جماجم أو ذات قرون، كما يظهر بعضهم بلحية قصيرة مدببة وبإيزار قصير، وبعضهم الأخر بملابس طويلة تكاد تشبه التنانير. يشير هذا الاختلاف في الشكل واللباس إلى أن هذه الشعوب كانت من مناطق جغرافية وثقافات مختلفة.

لقد استعمل الغزاة القوارب التي تشبه مقدماتها رؤوس الأحصنة وهذا النمط كان منتشرا في حضارة بحر إيجة، كما استعملوا مركبات تجرها الثيران. قاتلوا بسيوف برونزية حادة واستعملوا رماح برؤوس معدنية وأقواس وسهام. أما دروعهم فكانت دائرية الشكل وهذا النمط كان منتشرًا أيضا في حضارة بحر إيجة. لقد جاء الغزاة في موجات وعلى مدى فترة طويلة من الزمن فهل أتوا من الفراغ؟

نقش يظهر أشكال شعوب البحر (مواقع التواصل )

أراضي خلف البحار

لم تترك المجموعات الست المنفصلة التي كوَّنت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو أي نقوش تدل على أصلها. كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجة في العصر البرونزي. أما الشيكليش فقد أتوا من جزيرة صقلية الحالية. والشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادًا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كلٍّ من الحالتَين. ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات. توجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرَّا فحسب إلى منطقتَي صقلية وسردينيا، ومنَحا اسمَيهما لهاتَين المنطقتَين، بعد هزيمتهم على يد المصريين.

ما علاقة فلسطين بكل هذا؟

من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يحدد الباحثون على نحو مؤكَّد سوى مجموعة واحدة فقط. اعتبر الباحثون أن الفلستيون من شعوب البحر ليسوا سوى الفِلَسْطِينِيِّينَ، الذين حدِّد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت. يبدو هذا واضحا من تشابه الاسماء وبالإضافة إلى هذا التحديد  نشر فريق من العلماء سنة 2019 ورقة بحثية في مجلة ساينس ادفانس اعتمدوا فيها على تحليلات الحمض النووي لتحديد أصول الفلستيين. اختاروا للبحث أكثر من مئة رفات من مدينة عسقلان تعود للفترة الانتقالية بين عصر البرونز والحديد. 10 عينات فقط أعطت كميات كافية للتحليل. وقد بينت النتائج أنه في أوائل العصر الحديدي أو نهاية العصر البرونزي حصل تغيير في التركيب الجيني لسكان المنطقة في فلسطين مع وجود جينات من أصل أوروبي في رفات بعض العينات، وهذا ما يتناسب مع الوقت الذي كان مقترحًا لوصول الفلستيين إلى الساحل المشرقي.(2)

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

غزو عالمي

يعتقد الباحثون اليوم أن شعوب البحر كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فأنهم أقاموا معسكرًا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية، ولبنان، وفلسطين) وإلى دلتا نيل مصر.

هاجمت هذه الشعوب دول العالم القديم في فترات زمنية مختلفة انتقلوا برًا من يونان إلى تركيا اما بحرًا فقد هاجموا الحضارة الميسينية حوالي سنة 1210-1200 ق.م. ثم انتقلوا إلى جزيرة كريت ومنها هاجموا قبرص ثم السواحل المشرقية سنة 1192-1190 ق.م. ثم انتقلوا إلى ديلتا مصر سنة 1177 ق.م.

في مدينة أوغاريت في سوريا عثر العلماء على لوح طيني منقوش عليه رسالة من ملك أوغاريت في شمال سوريا إلى ملك جزيرة قبرص:

  أبي الأن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في  مدني وألحقوا بالبلد الأذى. ألا يعرف أبي أن كل الرجال المشاة خاصتي ومركباتي الحربية متمركزون في خاتي، وأن كل سفني متمركز في أرض اللكا؟ أنهم لم يعودو بعد، لذا فالبلد ليس له حماية. فليكن أبي لى علم بها الأمر. الأن سفن العدو التي كانت اتية  قد ألحقت بنا الكثير من الضرر. وإذا كانت سفن أخرى ستظهر. فإعلمني بطريقة ما.

لا  نعلم اذا كانت هذه الرسالة قد وصلت  إلى وجهتها او لا لكن أوغاريت قد تدمرت كليا سنة 1190 – 1192 ق.م وهذا ما أظهرته دراسة حديثة.(3)

أما على ساحل المشرق الجنوبي فقد أسست هذه الشعوب ثلاثة مدن هي 《غزة – Gaza》و《 أشدود – Ashdod》و 《عسقلان – Ashkelon》و 《جاث – Gath》و《 عقرون – Ekron》

المناطق التي هاجمها شعوب البحر (مواقع التواصل )

غزاة أم لاجئون؟

نسب الباحثون السابقون كل الدمار الذي وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر. لكن قد يكون من المبالغة أن يلقوا بلائمة نهاية العصر البرونزي برمتها عليهم. فهم بذلك يمنحون تلك الشعوب قدرًا لا تستحقُّه من الأهمية، إذ إننا لا نَملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تُعطي انطباعات متضاربة. هل توجَّهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيًّا؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المُغيرين المنظَّمين تنظيمًا ضعيفًا، مثل الفايكينج الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرُّون هربًا من كارثة؟

لم يعد هناك يقين أن كل المواقع التي يوجد دليل على تدميرها قد دُمِّرَت على يد شعوب البحر. فيمكن للباحثين مثلا أن يستنتجوا من الأدلة الأثرية أن موقعًا ما قد تعرَّض للتدمير، ولكن لا يستطيعوا دومًا أن يستنتجوا السبب أو الفاعل. علاوة على ذلك، فإن المواقع لم تُدمَّر كلها على نحو مُتزامِن، ولا حتى بالضرورة في خلال نفس العقد من الزمن.

تشير الأدلة المتوفرة حاليًا إلى أنه من المرجح أن شعوب البحر ليسوا الفئة الوحيدة التي تقع عليها اللائمة في ذلك. يبدو مرجحًا الآن أن تلك الشعوب كانت الضحيةَ بقدر ما كانت المُعتدية في مسألة انهيار الحضارات. تقترح إحدى الفرضيات أن تلك الشعوب أُجبِرَت على الخروج من أوطانها جراء سلسلة من الأحداث المأساوية وارتحلت شرقًا حيث صادفت مَمالك وإمبراطوريات كانت بالفعل آخذةً في الانحسار. من المحتمَل جدًّا أيضًا أن السبب تحديدًا في قدرتها على مهاجمة الكثير من ممالك المنطقة والقضاء عليها في نهاية الأمر هو أن تلك الأنظمة الملَكية كانت بالفعل آخذةً في الانحسار وفي حالة ضعف لسبب أو لعدة أسباب أخرى سنتكلم عنها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

المصادر

  1. https://press.princeton.edu/books/paperback/9780691168388/1177-bc
  2. https://advances.sciencemag.org/content/5/7/eaax0061
  3. https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0020232

حتى الرياضيات تؤكد نظرية التطور!

تخيل أن عدد كبير من البشر يعيشون في جزيرة واحدة، وهناك فقط مجموعة صغيرة من الأشخاص على أيديهم بقعة سمراء، وتلك البقعة طفرة. قد تضيع تلك الطفرة إن لم تكن ميزتها قوية، ولكن إذا هاجر أولئك الأفراد الحاملين للطفرة؛ قد تكون الطفرة مفيدة وتنتشر وسط السكان وقد لا يحدث ذلك! [1]

يدرس علماء الأحياء البنية السكانية لفهم آلية توارث الجينات عبر العصور وعلاقتها بالتطور، وهذا هو صلب حديثنا ولكن دعنا عزيزي القارئ نتعرف على أحد الدعائم الرئيسة لدراسة البنية السكانية وربطها بالتطور -كي نثبت أنه حتى الرياضيات أكدت نظرية التطور- ألا وهو الانتقاء الطبيعي.[1]


الانتقاء الطبيعي

عام 1859م، صيغت لأول مرة نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي في كتاب داروين «حول أصل الأنواع». ووضح لنا الانتقاء الطبيعي هو أن الأفراد في المجتمع مختلفون وأن هذا الاختلاف عبّر عن أن بعض الأفراد لديهم سمات وراثية تجعلهم قادرون على التكيف وسط بيئة معينة وأن الأشخاص ذوي السمات التكيفية هم من لديهم القدرة على البقاء والتكاثر، وينقلون تلك الصفات للأجيال التالية وبمرور الوقت تصبح السمات المفيدة أكثر شيوعًا بين السكان.[2]

والانتقاء الطبيعي قادر على أكثر من ذلك، فمن الممكن أصلًا أن يدعم أنواعًا جديدة، وتُعرف هذه العملية بالتطور الكبير. حيث بيّنت لنا تحول الديناصورات إلى طيور والثدييات البرمائية إلى حيتان وأسلاف القردة إلى بشر! ولكن كيف يحدث ذلك؟ يؤدي أحد الأنواع إلى ظهور نوع جديد ومختلف تمامًا، وأصل حدوث ذلك هي الطفرات -هي تغير في بنية الجزئية للجينات-. قد تكون الطفرات عشوائية (ناتجة عن حدوث خطأ أثناء تكرار الخلايا خلال نسخ الحمض النووي) أو تحدث نتيجة للتعرض لكوارث بيئية أو إنسانية أو طبيعية كالمواد الكيميائيّة الضارة والاشعاع للنووي. يمكن أن تكون الطفرات ضارة أو محايدة أو مفيدة في بعض الأحيان، مما يؤدي إلى سمة جديدة ومفيدة.[3]

الرياضيات إما أن تؤكد أو أن تنفي النظرية التطورية

زادت النماذج الرياضية للانتقاء الطبيعي التطور صعوبة. فقد تم نشر ورقة بحثية جديدة في مجلة «Communications Biology» لفريق متعدد التخصصات من علماء في النمسا والولايات المتحدة، حيث قاموا بتحديد طريقة محتملة للخروج من تلك المتاهة. لكن على صعيد آخر، كانت نتائجهم معارضة بعض الشيء لما يحدث في الطبيعة. في نهاية المطاف، فإن أبحاثهم مفيدة للغاية للباحثين في مجال التكنولوجيا الحيوية وغيرها من المجالات التي تحتاج لتدعيم الانتقاء الطبيعي.[1]

قد أشارت نتائج الدراسة إلى أن ظهور الطفرات المفيدة يجب أن ينتشر عبر السكان. لكن هذه النتيجة غير مضمونة، فيمكن للحوادث العشوائية والأمراض والمصائب أن تمحو تلك الطفرات بسهولة عندما تكون جديدة ونادرة.[3]

لم يكن لدى علماء الأحياء سوى أفكار غير مطبقة علميًا حول تأثير البنية السكانية على الانتقاء الطبيعي. هنا اتجه «مارتن نواك_Martin Nowak» للرسوم البيانية الرياضية، فقد تمثلت في البنية السكانية التي تمثل العلاقات الديناميكية بين مجموعات العناصر. تلك العناصر على رأس الهيكل وتصف الخطوط والحواف بين كل زوج من العناصر المرتبطة في نظرية الرسم البياني التطوري. حيث الكائنات الحية في القمة وبمرور الوقت يكون لدى كل فرد احتمالية إنجاب ذرية مماثلة -حاملة لنفس الصفات الوراثية لكل من الأب والأم ولا يوجد طفرة جديدة بالجيل-، والتي من الممكن أن تحل محل فرد على الرأس المجاور -كما في صورة بالأسفل-. كذلك تواجه مخاطر استبدالها ببعض الكائنات من الجيل التالي.[1]

يتم ربط هذه الاحتمالات في البنية كـ “أوزان” -ذات اللونين الأزرق والأحمر- واتجاهات في الخطوط بين الرؤوس. فالأوزان تمثل السلوكيات في المجتمعات الحية كـ “أن تعبر الارتباطات التي تزيد من احتمال عزل السلالات عن بقية السكان عن الهجرات”.[1]

محاكاة التطور في رسم بياني سكاني

أهنالك شكوك تحيط كل التأكيدات!

تم نشر ورقة بحثية في مجلة «Nature» عام 2005م، أظهر فيها نواك وزملاؤه مدى قوة بعض البنى السكانية. تلك التي يمكن أن تمنع أو تدعم تأثيرات الانتقاء الطبيعي، فعند وجود أفراد مختلفون أي يحملون طفرة معينة مميزة فأولئك لن يستطيعوا أن يحتلوا أماكن وسط المجتمع وتلك البنية بمثابة عائق للتطور أي لا ينشأ جيل جديد مختلف. أيضًا لا يكون هناك فئات أخرى بينها نسب مشترك، ولكن حدث العكس مع بنية اختبروها العلماء -هي التي تمثل شكل النجمة في الأسفل- ووضحوا أن هناك طفرات تنتشر بشكل فعال. في نهاية المطاف، أتت النتائج بأن النماذج السكانية لهذه الدراسات تنطبق فقط على الكائنات الحية اللاجنسية مثل البكتيريا والميكروبات… [1]

ختامًا -عزيزي القارئ- نستطيع القول بأن الرياضيات أكدت قوة البنى السكانية التي تدعم الانتقاء الطبيعي وتقدم الأوراق الحديثة والسابقة حجة للبنية السكانية كقوة ذات مغزى في التطور.[1]

المصدر:

  • quantamagazine
  • britannica
  • nationalgeographic

الذكورة والأنوثة، صفات مكتسبة أم تصنيف بيولوجي؟

إن التنشئة الاجتماعية بين الجنسين هي العملية التي يتم من خلالها توعيه الجنسين بمسؤوليتهما المنفصلة، بعبارة أخرى هو تعلم التوقعات الاجتماعية التي تخص جنسًا معينًا. هناك العديد من التعريفات والتفسيرات التي قدمها علماء الاجتماع لتسليط الضوء على جوانب التنشئة الاجتماعية بين الجنسين وتعريف ماهي الذكورة والأنوثة. فما هي أهم العوامل التي تؤثر في توزيع الأدوار؟ وما مدي تأثير كلا من التنوع البيولوجي وتقاليد المجتمع في فرض الدور الاجتماعي للفرد؟

الجنس من المنظور الاجتماعي

الجنس والهوية أمران حاسمان في تحديد أدوار الفرد في المجتمع، يخلق تصور المجتمع والقوالب النمطية حول النوع الاجتماعي حاجة للتوافق مع المعايير الجنسانية التي يمليها المجتمع. فأدوار الجنسين والصور النمطية تجعل الأطفال في سن مبكرة يعرضون السلوك المناسب للجنس كما تُمليه الأعراف الثقافية.

فهم الجنس: التحليل النفسي للجنس

ينظر علماء النفس إلى الجنس على أنه شرط أن يكون الفرد ذكرًا أو أنثى. في السياق الإنساني، يعكس التمييز بين الجنسين استخدام هذه المصطلحات، فهو يشير عادةً إلى الجوانب البيولوجية للذكور أو الإناث. كما يشير إلى الجوانب النفسية والسلوكية والاجتماعية والثقافية لكونك ذكرًا أو أنثى. فالجنس هو جانب أساسي لاستكشاف الهوية الاجتماعية، فهو يحدد على الأغلب أدوار وتوقعات الفرد في بنيات المجتمع الموجودة مسبقًا.

ولفهم علم نفس الجنس وتأثيراته على الهوية الشخصية والداخلية للفرد؛ طور علماء النفس عِدة نظريات حول الجنس البيولوجي والجنس الاجتماعي والثقافي. والتي تهدف إلى فهم تشكيل وتطوير أداء الجنسين وتفسيرات الفروق بينمها. كذلك التحيزات والتوافق والقوالب النمطية.

ستتناول المقالة التالية إحدى أهم الأعمال البحثية حول علاقة التباين الجنسي وأدوار العمل في المجتمع وهي رواية (الجنس والمزاج قي ثلاث مجتمعات بدائية- Sex and temperament in three primitive societies). والتي تطرح سؤالاً في غاية الأهمية: هل الذكورة والأنوثة صفات مكتسبة أكثر من كونها تصنيفات بيولوجية؟

مارجريت ميد – الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية

مارجريت ميد- Margaret Mead، عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية، تمكنت من تحقيق عملٍ رائد من خلال كونها من أوائل الأفراد الذين أثبتوا أهمية تمايز الثقافات وتأثير ذلك على السلوكيات والمزاجات الفردية. فقد ربطت ميد هذه الجوانب بالجنس، وألفت ما يصل الى 20 كتابًا بناءًا  على أبحاثها.

تتناول روايتها، الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية التي صدرت عام 1935 مظاهر الدور الاجتماعي في ثلاث قبائل في أجزاء مختلفة من غينيا الجديدة. قررت ميد أن تستكشف حياة القبائل الثلات: أرابيش– Arapedh، مندوجومورMundugumor، تشامبوليTchambuli طوال رحلة حياة الأفراد هناك من الطفولة حتى البلوغ.

فتتحدى الرواية المفاهيم التقليدية المتعلقة بمعنى الأنوثة والذكورة. ذلك من خلال تحديد التباين في أدوار الجنسين الموجودة في جميع الثقافات في العالم. كما تُثير روايتها هذه النقاش الكلاسيكي حول “الطبيعية مقابل التنشئة” والتفاعل الحاصل بين الإثنين في تحديد الاختلافات بين الرجال والنساء.

لخصت مارجريت ميد عِدة ملاحظات أساسية تساعدنا في فهم كيف أن التنوع أو التقسيم الجنسي التقليدي للعمل على أساس أدوار الجنسين، يتم تقسيمه بالكامل من قِبل المجتمع الذي نعيش فيه اليوم وليس له علاقة ببيولوجياتنا.

1- قبيلة أرابيش- Arapesh

بالنسبة لقبيلة أرابيش، خَلُصَت الملاحظات التى قدمتها ميد إلى أن الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الجماعة كانوا من عشاق السلام، ليس لديهم وعي بمفاهيم مثل “الحرب” و “الاعتداء” و”اللجوء للحرب وأدواته”. أدى هذا الميل نحو السلام  وغياب مفهوم الحرب إلى نشوء مجتمع بلا مناصب قيادية، فكلهم مسئولون ويستمتعون بالعديد من الأنشطة الترفيهية مثل البستنة والصيد. بالإضافة إلى الأنشطة التى تقع في جُعبة مهام الأم كتربية الأطفال والعناية بهم، يتشاركها الرجال والنساء سويًا في تناغم قوي. فإن أهم ما يميز ويهتم به أفراد هذه القبيلة هو اللين واللطف، فهي صفة أساسية.

من ناحية الدور الجنسي، فكما ذكرنا، تنسج القبيلة المساواة في تقسيم العمل بين الرجال والنساء. إذ أن هناك مشاركة لكلا الجنسين- ذكورًا وإناثًا- فيما يُسمى بـ ” الأدوار الأمومية” مثل تربية الأطفال. فتربية الأطفال كانت مهمة الأب والأم حد على حد سواء. يتم أداؤها بإخلاص. توصلت ميد إلى أن أرابيش في الغالب أمومية في جوانبها الذكورية، أنثوية في جوانبها الاجتماعية.

2- قبيلة موندوجومور- Mondugumor

تميزت قبيلة موندوجومور بشكل حاد مع أرابيش، بسبب الصفات التي يمتلكونها. السمة البارزة لهذه القبيلة هي نظام “التجارة”، الذي يتفرع داخل الهياكل الاجتماعية للأسرة. بمعنى أن رجال الأسرة سواء كانوا آباءًا أو أبناء، لهم الحق في التجارة بالنساء مقابل زوجة أخرى وهكذا. إذ يمكن للأب أن يتاجر بالبنت أو الأخت. ويمكن للإبن أن يتاجر بالأخت مقابل الزوجة،.. ونتيجة لذلك، ساد شعور بالتنافس والعداء بين الأب والابن. علاوة على ذلك، غالبًا ما كانت الأمهات ينظرن إلى بناتهن على أنهن ” منافسات جنسيات” ويستكنن مشاعر الغيرة تجاة بناتهن.

في هذا النموذج الأسري، كان يُنظر للبنات على أنهن حلفاء لآباءهن، وكان يُنظر للأبناء على أنم حلفاء لأمهاتهم. مما خلق نوعًا من الانقسام في الأسرة. حيث أدت مشاعر العداء والريبة والوحشية -التى يتقاسمها الرجال والنساء على حد سواء- إلى تفاقم هذا الانقسام. فالإعلان عن الحمل داخل الأسرة كان يؤدي إلى نزاع زوجي حتى ولادة الطفل – ذكرًا كان أو أنثى- إذ يعني ذلك بدء التنافس.

بالنسبة للأطفال تلك القبيلة، تبدأ رحلة حياتهم بشكل سلبي؛ بسبب البيئة المشحونة التى ينبتون فيها. تستمر هذه التجربة السلبية طوال فترة حياة الطفل حتى مرحلة البلوغ، فيصبح جزءًا من النزاع وهكذا. كما أدت هذه الشخصيات القوية والعدوانية وربما الوحشية لهؤلاء الأفراد إلى كثرة نشوب الحروب والعدوان، مما جعلها قبيلة صيد بالدرجة الأولى.

3- قبيلة تشامبولي- Tchambuli

كان لأهل تشامبولي خصائص وميزات تتناقض بشدة مع سمات أرابيش وموندوجومور. في الواقع كان لديهم سمات فريدة من نوعها، فقد صورت قبيلتهم انعكاسًا في الأدوار التي يؤديها الرجال والنساء- عما هو شائع في العالم– ، أي أن الأدوار الجنسية التقليدية للرجال والنساء تبدلت في هذا المجتمع.

من ناحية الدور الأدائي فالنساء في هذه القبيلة قامت بالدور الغير تقليدي، فهن من يقمن بالتجارة والصيد والنسيج وكسب قوت اليوم لأسرهم. بالإضافة لكونهن مقدمات العاطفة والرعاية؛ فهن لا يعتنين بأطفالهن فحسب، بل يدللن ويعاملن أزواجهن أيضًا كأولاد صِغار وليسوا نظرائهم.

من ناحية أخرى، يقوم رجال هذه القبيلة بمزيد من الأنشطة الترفيهية والتزيين والتجميل. وقد شاع ما يُسمى بـ “بيوت النساء” حيث تقوم النساء بأدوارهن المنزلية والتمتع بصحبة بعضهن البعض. مقابل ذلك كان هناك بيوت “الطقوس والترفيه” خاصة بالرجال.

إذًا، يمكن لك أن تتخيل بسهولة كيف كان نظام السُلطة في هذه القبيلة التي تبدلت فيها معايير ومفاهيم الأنوثة والذكورة، فالمجتمع كله بأيديّ النساء. فما زلن يبرزن كأبوين أساسيين، ساعياتٍ إلى تحقيق التوازن بين حياتهن المنزلية وحياتهن العملية.

ما أهمية دراسة الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات مجتمعات مختلفة؟

صرَّحت ميد أنه بينما قامت كل ثقافة بطريقة ما بإضفاء الطابع المؤسسي على أدوار الرجال والنساء، إلا أنها لم تكن بالضرورة من حيث التناقضات بين الشخصيات المحددة لكلا الجنسين ولا من حيث الهيمنة والخضوع. فكما ذكرنا سابقًا، ساعدت دراسة الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية في هذه القبائل الثلاث على فهم كيفية اختلاف أدوار الجنسين في عِدة بيئات مختلفة جغرافيًا وثقافيًا وتكيفًا. وقد توصلت ميد إلى أربعة استنتاجات أساسية هما:

أولاً: لا يوجد أساس للسلوك الذكوري أو الأنثوي المرتبط بالجنس.

ثانيًا: كانت الاختلافات في الأدوار الجنسية للرجال والنساء في هذه القبائل الثلاث بمثابة إثبات أو دليل على أن التكيف الثقافي والاجتماعي للأفراد كان له تأثيرًا أكبر على سلوكهم وأدوراهم مقارنةً بالتأثير البيولوجي.

ثالثا: تؤدي الثقافات المختلفة إلى تكوين شخصيات مختلفة من حيث التنشئة.

رابعًا: تربية وتنشئة الفرد أكثر أهمية وتأثيرًا من الطبيعة.

ملاحظات حول نظرية ميد

لقد ذكرت ميد أن الغرض من هذا العمل لم يكن فقط لتحديد الأدوار النمطية للجنسين، لكن أيضًا لمراقبة وتحليل ثقافة تختلف فيها المشاعر بشكل صارخ عن تلك الموجودة في العالم في ذلك الوقت.

وعلى الرغم من أن العمل يحظى بالتقدير الكبير لوجهة النظر البناءة التي يقدمها حول الصور النمطية المرتبطة بأدوار النوع الاجتماعي والجنسي. إلا أنه أيضًا تلقى انتقادات بسبب حتميته الثقافية الصارمة. فعندما تظهر مسألة الانحرافات الثقافية أو المجتمعية في الصورة، كانت تلجأ ميد إلى تفسير نفسي أكثر يعترف بمدى وجود المتمردين في كل ثقافة. وكيف لا ينجح المجتمع دائمًا في فرض قِيمه وتعريفاته. إذ يُظهر هؤلاء المتمردون تباينًا بين ما يتوقع المجتمع منهم وبين ميولهم الفطرية. كما أشاد علماء الاجتماع بعمل ميد لإنه يصور كيف يمكن استنتاج المبادئ الاجتماعية

الخلاصة

من خلال أوراق ميد البحثية، يمكننا أن نفهم كيف أن المعتقدات حول التقسيم الجنسي للعمل في المجتمع التى تستند إلى بيولوجيا الرجال والنساء هي حجة لا أساس لها. لذلك، من الخطر على المجتمع أن يُصرح بالخصائص المحددة التي يجب أن يمتلكها الرجال والنساء بسبب جنسهم (معايير الذكورة والأنوثة). من الخطأ وصف بعض الشخصيات بأنها أنثوية وأخرى على أنها ذكورية. فمن أجل مواجهة هذه المشكلة، هناك حاجة لقبول السمات الأنثوية والذكورية في كل من الرجال والنساء. بل يمكن القول إن تصنيف السمات هو أساس المشكلة. فمن الممكن أن تتنوع وتتداخل السمات التي يمتلكها الفرد الواحد.

المصادر

voicesofyouth

oneworldeducation

unicef

BCcampus

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

يجب ألا ننظر إلى كل فلسفة باعتبارها حالة تراكمية أو مجموعة من التأملات المجردة التي لا أثر لها في الواقع. كل فلسفة تتأثر بعصرها وتؤثر فيه، إذ يمكن أن نقول بأن الفلسفة لا تفسر العالم وحسب بل تشارك في تغييره أيضًا. ففلسفة التنوير من الفلسفات التي غيرت وجه العالم على نحو جذري وقادت محاولات تفكيك الخطاب المقدس. في القرن الثامن عشر برزت حركة التنوير بشكل مدهش في أوربا وقضت على معظم السرديات التأسيسية في السياسة والفلسفة والاخلاق. في هذا المقال سنسلط الضوء على أهم جوانب وافكار فلسفة التنوير وتداعياتها.

مفهوم التنوير:

في النصف الأول من القرن الثامن عشر، جاء جان جاك روسو بسردية فلسفية سرعان ما تحولت إلى شبح يهدد أوربا. لم تكن سردية التنوير وليدة الصدفة أو حادث عرضي من تاريخ التخبط الفلسفي، إنما كانت مدفوعة بروح الثورة العلمية آنذاك. فكانت للاكتشافات العلمية والتقدم الصناعي دور بارز في حث العالم نحو إيجاد منهجية جديدة لتفسير العالم، إذ أن الحجة الدينية التقليدية كانت تسقط أمام الدليل العلمي. لهذا، نجد في أولى كتابات التنوير الشغف الكبير بالعلم، ففي كتابه (رسائل فلسفية) يتحدث فولتير عن نيوتن بإجلال. حيث اثبتت قوانين نيوتن بإن العالم قابل للتفسير والوصول إلى الحقائق القطعية ممكن.  شعر الإنسان بأن مفاتيح الأسرار الكونية لم تعد بيد السلطة الدينية؛ وهذا ما دفعه للتمرد ضد كافة اشكال التبعية ولإعادة النظر في مكانته.

يحمل التنوير دلالتين ثوريتين: كينونة الإنسان عابرة للهويات الوطنية والدينية والقومية، وبالتالي له وجود كوني. قدرة العقل الإنساني على بناء عالم مضيء ومتنور، بالتالي الإنسان مشروع التنوير. ففي الدلالة الأولى اطاح التنوير بالقوالب الدينية والطبقية التي وضع فيها الإنسان واعلن القطيعة مع التراث القديم. وفي الدلالة الثانية ايقظ القدرة الفكرية للفرد لمعارضة الدور الدين الإرشادي في الفكر والعمل(1).

التنوير الفرنسي:

حمل الفلاسفة الفرنسيون قضية التنوير نحو الأمام مثل مونتسكيو وفولتير وروسو وديدرو وكويسناي وألمبيرت، ولعبوا دورًا بارزًا في زرع روح التفكير المستقل وعرض العقلانية. كما هاجموا عدم المساواة والقسوة والاستغلال في المجتمع الفرنسي وبشروا بمستقبل ليبرالي وتقدمي حر(2). والثورة الفرنسية كانت ثمرة هذه الجهود الفلسفية.

مونتسكيو:

ردًا على الطروح القومية التي تنظر إلى الآخر نظرة دونية وعدائية يقول مونتسكيو بأنني إنسان بالضرورة وفرنسي بالصدفة (3). وسخر من المجتمع الفرنسي وهاجم نظام الحكم المطلق الذي انشأه لويس الرابع عشر والكنيسة الكاثوليكية وجميع طبقات المجتمع(4). في كتابه (روح القوانبين) دعا مونستكيو إلى نظام دستوري من شأنه أن يخدم مصالح الشعب الفرنسي، كما أكد على أن حرية الافراد لا يمكن أبدًا أن تكون آمنة بدون فصل سلطات الحكومة إلى ثلاثة أجهزة مستقلة – تشريعية وقضائية وتنفيذية(2).

فولتير:

يعد فولتير من الفلاسفة الأكثر ارتباطًا بالتنوير ليس فقط لما له من أطروحات تنويرية، فدخوله السجن كان بمثابة توقيع فلسفي على الثورة الفرنسية. هاجم نظام الحكم رغم الاستبداد والعادات والمفاهيم السائدة في المجتمع واعتبر الكنيسة الكاثوليكية كوكر للخرافات ومركزًا للتعصب وترسيخ العبودية(2).

روسو:

فتح جبهته أولًا ضد العقلانية المتمثلة بديكارت، وأسس لعقلانية خصبة قادرة على مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية. ودافع عن الحريات والحقوق المدنية وحق التمرد ضد النظام حين يفشل في خدمة الناس(2).

التنوير الإنكليزي:

يمثل التنوير الإنكليزي الحجر الأساس لفلسفة التنوير، فاكتشافات نيوتن العلمية هي التي الهمت فلاسفة التنوير الفرنسي. كان لتوماس هوبز وديفيد هيوم وآدم سميث حضورًا مميزًا في بلورة فكرة التنوير على جميع الاصعدة. شارك هوبز في إرساء العقد الاجتماعي والنظام السياسي. أما هيوم فكان رائد التجريبية ونقد الدين، ففسر هيوم الحالة الإنسانية في ضوء العلم التجريبي. وانطلاقًا من دراساته التجريبية انتقد هيوم اللاهوت والمعجزات والتفسيرات الأسطورية. بينما آدم سميث فهو مهندس النظام الاقتصاد السياسي(5).

التنوير الألماني:

وصل التنوير ألمانيا متأخرًا مقارنة مع فرنسا وبريطانيا، كمان أن التنوير الألماني كان يختلف كثيرًا عن باقي الحركات التنويرية لقربه الشديد من الميتافيزيقيا. كان كانط من أبرز فلاسفة التنوير في ألمانيا. حول مفهوم التنوير يقول كانط “التنوير هو انعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك”(6). فكانط كان من انصار الحرية الفردية، بوصفها الأفق المناسب لفهم العالم.

موقف التنوير الديني:

لم يكن لفلسفة التنوير طرح موحد حول مسألة الإيمان، لكن كان هناك تأويل موحد للأساطير والخرافات الدينية. رفض التنوير العقل الأسطوري والخرافات وسلطة الكنيسة المطلقة.  كانت هناك أربعة اشكال للدين في عصر التنوير: الربوبية، دين القلب، الإيمانية والإلحاد.

الربوبية:

تمثل الربوبية الشكل الديني الأكثر ارتباطًا بعصر التنوير، ووفقًا لها، فأنه بإمكاننا أن نستدل إلى الخالق من خلال العقل وهذا الخالق هو الذي يدير الكون وله خطة، ولا يتدخل الخالق في شؤون الخلق. كما رفضت الربوبية الإيمان الأعمى بالمعجزات وكذلك رفضت ألوهية المسيح بل اعتبرته معلمًا صالحًا(2).

دين القلب:

رفض هذا الاتجاه الطرح الربوبي بحجة أنه يخلق هوة بين الخالق والمخلوق، ويصور الخالق على أنه مجرد مهندس للكون. كان روسو من مؤمني دين القب، فوفقًا لروسو الدين قائم على المشاعر الإنسانية(2).

الإيمانية:

كان كانط من الفلاسفة المؤمنين، وهو أكثر فيلسوف ساهم في نقد الدين التقليدي. يؤمن هذا الإتجاه بإلوهية المسيح وقيامته، فضلًا عن الإيمان بالكتاب المقدس. بالنسبة لوجود الله فهو يقع في حدود المعرفة القبيلة، بحيث يصعب على الإنسان الوصول إلى الكينونة الإلهية السامية على العالم سواء عن طريق التجربة أو العقل. لكن نجد لدى كانط بأنه كان يستدل إلى وجود الله من خلال تصميم الكون والضمير.

الإلحاد:

يعلن الإلحاد حضوره في التنوير الفرنسي بشكل أكبر، فطبقًا لدينيس ديدرو يجب أن نبحث في مبادئ النظام الطبيعي داخل العمليات الطبيعية وليس في كائن خارق متعال على العالم(2).

موقف التنوير الاخلاقي:

قبل عصر التنوير، في الغرب كان التفكير الاخلاقي يتمحور حول العقيدة الدينية المتعلقة بالله والحياة الآخرة. لكن مع بزوغ نجم التنوير، تم قطع اوصال الاخلاق مع تلك الحياة الافتراضية وربطوها بالحياة الدنيا نفسها، داخل الإطار الفلسفي بشكل عام وداخل المجتمع إلى حد ما. فالسعادة بعدما كانت تتحقق برضى السماء والزهد صارت خاصية لعلاقات الإنسان في سياق العالم الحسي.

كانت للحروب المذهبية والقومية في فترة ما قبل التنوير دلالات اخلاقية خطيرة، إذ أن الاخلاق الدينية فشلت في وقف سفك دماء ملايين البشر بل كانت تبرر لتلك الجرائم أحيانًا، ومن هنا برزت الحاجة لإرساء أسس اخلاقية علمانية قادرة على احتواء الإشكالات الاخلاقية.

واجه فلاسفة التنوير تحديات كبيرة في تحديد النظام الاخلاقي، لهذا كان هناك تباين بين الآراء التي ناقشت المسألة الاخلاقية. توماس هوبز كان يميل إلى الاخلاقية الذاتية، ربط بين القيمة الاخلاقية والموضوع الاخلاقي من خلال الانطباع الفردي. فما هو خير هو  موضوع الرغبة أو الشهية، وما هو شر هو موضوع الكراهية والنفور، ورفض هوبز وجود ما هو خير بذاته أو العكس(2). هذه الفكرة فيها نوع من التناقض مع روح التنوير الداعية للعقلانية والموضوعية.

في الطرف المقابل كان كل من صامويل كلارك وإيريل شافتسيري يرفضان نظرة هوبز ويؤكدان على أن ذاتية هوبز تتناقض مع حرية الآخر. وأكدا على اخلاقية موضوعية، بحيث ما هو خير هو ما يحقق مصلحة الجميع(2).

في ألمانيا كان الطرح الاخلاقي مختلفًا، كانت الاخلاق ما زالت تتألق في سماء الميتافيزيقيا. كان يعتبر كانط الحكم الاخلاقي من الاحكام القبلية. رفض كانط النسبية الاخلاقية، فالكذب مثلًا، غير اخلاقي مهما كانت الظروف والاسباب.

اقرأ ايضًا: فلسفة الجنس والجنسانية

موقف التنوير السياسي:

كانت الثورات الإنكليزية (1688) والأمريكية (1877-1783) والفرنسية (1789-1799) قد تأثرت وأثرت في الحركة الفلسفية آنذاك. ففلاسفة التنوير كانوا ينظرون إلى الانظمة السياسية والاجتماعية عصرئد على أنها هشة بما يكفي لتسقط أمام النقد العقلاني؛ لكونها محاطة بالأساطير الدينية والتقاليد الغامضة(2). كان يصعب في عصر تكتشف فيه القوانين التي تحكم الكون أن يؤمن الإنسان بسلطة تفرض عليه العبودية بحجج واهية. كانت تطلعات التنوير تتجه نحو بناء مجتمع يحترم حرية الفرد والمساواة والتنوع الديني والعقائدي. وكان كتاب توماس هوبز اللفياثان يعد كتابًا تأسيسيًا لنظرية التنوير السياسية، ومع أن هوبز كان مناصرًا للسلطة المطلقة إلا أنه كان يؤمن بسلطة يشارك فيها الجميع وتحقق مصلحة الافراد.

 لكن آراء روسو كانت الأكثر إثارة لكونها كانت تمس علاقة الفرد مع السلطة على أساس أن الإنسان غاية والسلطة وسيلة. رأى روسو بأن الديمقراطية الخالصة هي الشكل الوحيد للحكومة التي يمكن من خلالها أن يحقق فيها الفرد حريته. وحرية الفرد تكون ممكنة من خلال الإرادة العامة التي هي إرادة الجهاز السياسي العام، وهذا الجهاز يختاره ويحدده الأفراد بكامل إرادتهم(2).   

موقف التنوير الجمالي:

حسب ما يلاحظه كاسيير فأن القرن الثامن عشر لم يكن عصر الفلسفة وحسب بل هو عصر النقد ايضًا، إذ كان النقد مركزيًا في عصر التنوير. كان لازدهار الجماليات علاقة طردية مع ميول العصر، ألكسندر بومغارتن يعد مؤسس منهجية الجماليات للتنوير، وبالنسبة لومغارتن علم الجماليات هو علم الحواس أو الإداراك الحسي. لم يعول التنوير على الجماليات النومينية والمثالية، إنما بحث في العلاقة الجمالية بين الموضوع الجميل والذات المدركة والمتعة الناتجة منها(2).

وفي ألمانيا أسس كريستان وولف لعقلانية ميتافيزيقية للتفكير الجمالي، ويؤكد على أن الجمال حقيقة مدركة من خلال الشعور بالمتعة. يرى وولف بأن الجمال هو الكمال الموجود في الموضوع، فالموضوع فيه نسق وترتيب وانسجام، وبالتالي فأننا نقول عن شيء ما جميل لما له من الانسجام والكمال. لذا، طبقًا لوولف الجمال هو الإداراك الحسي للكمال(2).  

الخلاصة:

منذ أن سادت الفلسفة الأرسطية العالم -المسيحي خاصة- لم تحدث ثورة فلسفية تضاهي ثورة التنوير. فعصر النهضة لم يحقق الكثير إلا على المستوى الفني والجمالي، والعقلانية ابت أن تتحرر من المنطق القديم. ما حققه التنوير أثر في كل العالم، سواء من خلال إعادة تأويل وتفكيك النص المقدس أو نقد الخطاب السياسي والإجتماعي أو تبنيه المنهجية العلمية. كما يقدم التنوير تحديات قاسية لكل مجتمع يدعو إلى التغيير، فكل محاولة إصلاحية تلازمها ضرورة إعادة هيكلة الخطاب الديني والسياسي، لا يمكن لأي تقدم أن يحصل فعليًا دون أن تكون العقلانية والمنهجية العلمية أداةً لها. إذ أن التنوير هو دعوة إلى تفكيك كل خطاب ديني ودنيوبي.

المصادر:

  1. https://plato.stanford.edu/entries/enlightenment/#RatEnl
  2. https://www.historytuitions.com/world-history/french-revolution/#Role_of_Philosophers_in_French_Revolution
  3. https://plato.stanford.edu/entries/montesquieu/
  4. https://www.encyclopedia.com/humanities/culture-magazines/french-literature-during-enlightenment
  5. https://www.encyclopedia.com/religion/encyclopedias-almanacs-transcripts-and-maps/enlightenment-philosophy
  6. http://www.columbia.edu/acis/ets/CCREAD/etscc/kant.html

نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود

نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود . هل سمعت يومًا عن أرض السيدات ذوات النهود؟ لا ليست مكانًا خياليًا ابتدعه كاتب في رواية ما، لكنها قرية تقع في جنوب الهند شهدت أحداثًا مريعة وظلمًا جسيمًا اكتسبت بسببه هذا الاسم. فما قصة هذه القرية؟

أرض السيدات ذوات النهود

تقع قرية «مولاتشي بورام-Mulachhipuram» أو أرض السيدات ذوات النهود ضمن مملكة «تراڤنكور-Travancore» قديمًا، ولاية «كيرالا-Kerala» حاليًا. وشهدت هذه القرية كما الحال مع أغلب مناطق جنوب الهند طبقية وظلمًا شديدين، عانى منه الرجال والنساء معًا.

تاريخ النظام الطبقي في الهند

قبل الحديث عن قصة هذه القرية، دعونا نسرد خلفية عن تاريخ النظام الطبقي في الهند، الذي ساهم بشكل مباشر في وقوع الظلم على كثير من الضحايا.
دخل الهنود الأوروبيون الهند في القرن الثاني قبل الميلاد. وجاءت معهم تعاليم «الڤيدا-vedas» وهي أقدم النصوص المقدسة في الهند ومنها نشأت الهندوسية.
حظي رجال الدين في الهند بمكانة مميزة. وبحلول القرن الثامن الميلادي استأثر رجال الدين/الكهنوت الهندوسي بالنفوذ والسلطة، وقضوا على معابد البوذية وتعاليمها ونشروا الهندوسية بدلًا منها.
ومن هنا بدأ النظام الطبقي في البلاد، الذي وصل ذروته في القرن التاسع عشر الميلادي. فنجد الهند تتبع نظامًا هرميًا يقع رجال الدين الذين عرفوا بـ «البراهميين-Brahmins» على قمته، يليهم الحكام والمحاربين، ثم المزارعين والتجار، وأخيرًا العمال والخدم والفلاحين.

ما قبل سيادة رجال الدين

قديمًا قبل سيادة رجال الدين لم يعرف الهند النظام الطبقي. وإنما صنف الأشخاص حسب وظائفهم إلى صيادين ومطربين ومزارعين وعمال وتجار. لكن بحلول القرن الثامن الميلادي وارتقاء البراهميين قمة الهرم الاجتماعي تغير كل شيء. فلم يكتفوا بالسلطة الدينية فحسب وإنما تدخلوا في شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد. وساقوا لذلك الذريعة الأشهر على الإطلاق وهم أنهم مبعوثون من الآله، وأن تميزهم وسلطتهم تنفيذًا لرغباته.

بناءًا على ذلك فرضوا عددًا من القواعد الصارمة منها:

  • “النبذ” بمعنى ألا يقترب منهم أي من أفراد الطبقات الأقل ولا يمسوهم. وكلما تدنت درجة الفرد في الهرم الاجتماعي كلما زادت المسافة التي وجب عليها الالتزام بها بعيدًا عن رجل الدين.
  • كذلك استأثروا بتعلم النصوص المقدسة لأنفسهم ولبعض من أفراد الطبقات العليا فقط.
  • وأيضًا منعوا العوام من دخول المعابد أو مس القرابين باستثناء قلة مميزة منهم.
  • أخيرًا والأكثر غرابة هو منع الرجال من تغطية صدورهم أو رؤوسهم في أي وقت وأي مكان كعلامة احترام لأفراد الطبقات الأعلى.

الشودرا الأقل حظًا

عُرفت الطبقة الأدنى في الهرم الاجتماعي بطبقة «الشودرا-Shudra» وهم كما ذكرنا من يشغلون أعمالًا متواضعة ويقع عليهم ظلمًا كبيرًا من أفراد الطبقات الأعلى.
لم تسلم سيدات هذه الطبقة من نفوذ الطبقات الأعلى، فأُمرت بالخضوع لرجال الدين وتلبية رغباتهم دائمًا. فكان يحق لأي رجل من رجال الدين أن يدخل أي بيت ويمارس الجنس مع أي من سيداته دون اعتراض، بل كان يُعد هذا نوعًا من المباركة التي تقع على العائلة. ومن تجرؤ على الاعتراض يعاقبها الحاكم وتوصم بالعار.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل بُنيت بيوت الطبقة الدنيا بحيث يؤدي السلم الخارجي مباشرة إلى الطابق العلوى حيث تعيش نساء البيت، وهكذا يُمكن لرجال الدين الصعود مباشرة دون الدخول. نتيجة لهذه الممارسات المهينة كان يصعب تحديد هوية والد أي طفل، وساد النظام الأمومي في المجتمع.

ضريبة الثدي

شهد القرن التاسع عشر ظهور قانون مجحف جديد، وهو منع سيدات الطبقات الدنيا من تغطية صدورهن في أي وقت وأي مكان. ومن تجرؤ على ذلك تفرض عليها ضريبة عُرفت بـ «ضريبة الثدي-Breast Tax» تم تحديد هذه الضريبة بناءًا على إجراء مهين، وهو تقييم شكل ثدي كل امرأة وحجمه، وكلما زاد حجمه كلما زادت الضريبة.

مُنعت السيدات من تغطية صدورهن كبادرة احترام وتقديس

أُمرت السيدات بالالتزام بكشف أجسادهن لأنها بادرة احترام وتقديس، كذلك كتذكير بمكانتهن الأدنى من غيرهن. واُستثنى من ذلك بالطبع سيدات الطبقات الأعلى.
يقص أحد المؤرخين أنه عند مرور موكب الملك، يجب على جميع السيدات كشف النصف العلوي من أجسامهم ونثر الورود أمام الملك، يستثنى من ذلك نساء رجال الدين، أما بقية السيدات بما فيهن السيدات في شرفات المنازل فيجب عليهن ذلك.

الاعتراضات على ضريبة الثدي


شهدت هذه الضريبة عددًا من التغيرات على مدار النصف الأول من القرن التاسع عشر. فظهر قانون يمنح الحق للسيدات المسيحيات في وضع رداء علوي يغطي صدروهن، ونتيجة لذلك اعتنقت كثير من سيدات الطبقات الأدنى المسيحية للتمتع بهذا الحق. لكنهن للأسف لم يسلمن من الاعتداءات والظلم، فعمد رجال الطبقات الأعلى إلى إهانة هؤلاء السيدات وتمزيق ألبستهن، مستخدمين عصا طويلة مثبت بطرفها بسكين (ملتزمين بقاعدة النبذ)
وأخيرًا نتيجة لعدم رضا الطبقات الأعلى تم إلغاء هذا القانون. لأنه ينشر “التلوث” في المجتمع فلا يمكن التفريق بين أفراد الطبقات العليا والدنيا.

استمرت اعتراضات السيدات ورفضهن لضريبة الثدي. واستمررن بتغطية صدورهن -مسيحيات كُن أو هندوسيات- حتى بعد إلغاء القانون. أبرز قصص الاعتراض على هذا القانون المجحف هي قصة نانجيلي، فتاة من أرض السيدات ذاوت النهود.

نانجيلي

عام 1859م رفضت «نانجيلي-Nangeli» إحدى فتيات قرية مولاتشي بورام، أرض السيدات ذوات النهود، دفع ضريبة الثدي حينما خرجت برداء يغطي نصف جسدها العلوي.

حينما سمع موظفو الملك ذلك ذهبوا إلى بيتها ليجبروها على دفع الضريبة. ضاقت نانجيلي بالإهانة وتملكها الغضب فأسرعت إلى السكين وقطعت ثدييها لتقدمهما إلى موظفي الملك. فقدت نانجيلي الكثير من الدماء، فضعف جسدها وماتت على الفور.

إحدى أعمال الفنان Murali T يوثق بها قصة نانجيلي

استبد الحزن بزوج نانجيلي ولم يطق فألقى نفسه في المحرقة مع جثتها، ولم يكن للزوجين أي أبناء. نتيجة لتضحية نانجيلي الفريدة، تم إلغاء ضريبة الثدي في اليوم التالي، وانتهت بعدها إلى الأبد.

نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود

حقوق الصورة: @pooja.jayann

الأمر المحزن أن قصة نانجيلي لم تصل إلى التاريخ. ولا يعرفها سوى أهالى قريتها والمناطق المحيطة. أما تضحية تلك السيدة الفريدة فلم توثق تاريخيا، ولم يحتفي بها أحد.
بل قامت الهيئة المركزية للتعليم الثانوي في الهند في قرار مهين، بمحو قصتها وقصص غيرها من ثوار الشودرا من المناهج الدراسية.

اقرأ أيضًا: التنافر المعرفي

المصادر

تاريخ الأعلام ورمزيتها

عندما تنظر إلى عَلم معيّن، ستشعر ربما بالفخر أو الوطنية، أو على الأقل سيذكّرك ببلد أو ثقافة أو لغة أو أشخاص. فالعَلم ليس مجرد قطعة قماش مُحمّلة بالألوان والرموز، بل هو يمثل هويةً كاملةً. فمتى بدأ استخدام الأعلام عبر التاريخ؟ وما علاقة العَلَم بالسياسة والمجتمع؟ تعرّف في هذا المقال على تاريخ الأعلام ورمزيتها.

تعريف العَلم:

العلم (أو الراية) هو ببساطة قطعة من القماش تُستخدم كرمز أو شعار لدولة أو جماعة أو جمعية أو منظمة أو قوة عسكرية أو شركة أو حتى شخص.

 يكون غالبًا مُعلقًا من جهة واحدة، ويحمل شكلًا مستطيلًا، لكنه قد يأخذ أشكالًا أخرى كالمربع (مثل علم سويسرا) أو شكلًا متعرّجًا (متل أعلام النيبال وولاية أوهيو الأميركية).

في الأعلى علم ولاية أوهيو الأميركية (متعرّج الشكل)، في الأسفل علم سويسرا (مربع الشكل) على يمين الصورة وعلم النيبال (متعرج الشكل) على يسارها.

وبما أن الرايات كانت تُستخدم أساسًا في ساحات المعارك، كرموز لأطراف النزاع وكعلامة لتحديد أراضي “الحلفاء والأعداء”، كان من المهم أن تكون مصنوعة من مادة خفيفة تسمح لها بالرفرفة، وأن تحمل الرمز نفسه من الجهتين.

نشأة الأعلام: متى بدأ استخدامها؟

إن الاستخدام الأول المعروف للأعلام كان من قِبل الصينيين القدماء، تحديدًا في عصر سُلالة «زو – Zhou» الحاكمة والتي دامت فترة حكمها بين عامي 1046 و256 قبل الميلاد. وحملت أعلامهم رموزًا عدة (على سبيل المثال طائر أحمر، تنين أزرق، نمر أبيض،…). وكان العلم الملكي يحظى بنفس درجة الاحترام والتبجيل التي يحصل عليها شخص الملك نفسه، فممنوع المس به أو لمسه.

في الهند القديمة، استُخدمت الأعلام ذات الشكل المثلّث واللون الأحمر او الأخضر وحملت غالبًا رموزًا ذهبية. وعُلِّقت الأعلام على العربات والفيلة، كما أنها تميّزت بأهميتها في القتالات والحروب، بحيث أن سقوط العلم كان يعني الهزيمة.

ساهمت الفتوحات الإسلامية (العرب والأتراك) فيما بعد بنشر الأعلام في أوروبا. فقد ذُكرت الأعلام منذ تاريخ الإسلام الحديث، ومن المُرجّح أنهم نقلوها عن الهنود. ولكنهم ساهموا بتبسيطها بشكل كبير، فحملت معظمها لونًا واحدًا. وقد رمز اللون الأسود إلى النبي محمد، وقد استُخدم هذا اللون من قبل العباسيين. أما الأمويين فقد استخدموا اللون الأبيض، فيما استخدم الفاطميون اللون الأخضر الذي أصبح فيما بعد يرمز للإسلام. في العام 1250 بعد الميلاد، تبنّى العثمانيون رمز الهلال الذي كان مقدسًا عند الآشوريين (منذ القرن التاسع قبل الميلاد). منذ ذلك الحين، اعتُمد الهلال كشعار للمسلمين.

أما في أوروبا، فقد بدأ اعتماد الأعلام الوطنية في القرون الوسطى وفي عصر النهضة.

رمزية الأعلام:

رغم اعتماد الأعلام الوطنية حول العالم عددًا محدودًا من الألوان والرموز، إلا أن أنماطها تتنوع بشكل كبير بين الدول المختلفة. ولابدّ من الإشارة إلى أن اعتماد الألوان والرموز ليس عشوائيًا، بل هو يرتبط بالموقع الجغرافي للدولة وتاريخها وثقافتها وتكوينها الأيديولوجي والديني، وغيرها من العوامل. وبالتالي فإن العلم مُصمّم  ليبعث برسالة معينة، ويتم تصميمها غالبًا في فترات سياسية مصيرية ومهمة. فعلم إيرلندا مثلًا صُمم للتعبير عن الوحدة الوطنية الإيرلندية، فيمثل الخط الأخضر الكاثوليك ويمثل الخط البرتقالي البروتستانت، ويجمع بينها (في الوسط) خط أبيض يرمز للسلام والوحدة بين الفئتين.

لذلك نشأ علم حديث نسبيًا، في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، يُدعى بال«Vexillology – علم الأعلام»، وهو يُعنى بدراسة الأعلام ورموزها وتاريخها.

يقوم تحليل الأعلام على فك شيفرتها على المستويين الدلالي والنحوي. المستوى الدلالي يحلّل كل عنصر أو رمز بشكل معزول (مثلًا دلالة اللون الأحمر على الدم أو الغضب…)، أما المستوى النحوي فهو يعالج أنماط الرموز وعلاقتها ببعضها، إذ إن استخدام الألوان نفسها في شكل أو نمط أو ترتيب مختلف يغير رمزية العلم كليًا.

ماذا تكشف دراسة الأعلام؟

في دراسة مثيرة للجدل أجرتها جامعة «دونجا جوريكا – Donja Gorica»، تبيّن أن دراسة الأعلام لا تقتصر على تحليل الرموز في سياقها التاريخي والثقافي، بل هي أيضًا قادرة على توقع المستوى الاقتصادي والاجتماعي ومستوى التنمية البشرية لدولة معينة بحسب عَلَمها. بل أكثر من ذلك، تقول الدراسة أن تحليل الأعلام قادر على توقع معدل الذكاء في الدولة.

  من هنا، بيّنت الدراسة علاقة الأعلام بالسياسة وعلم الاجتماع.

رغم بساطتها، تحمل الرايات وزنًا ثقيلًا من السياسة والتاريخ والثقافة والجغرافيا. فإلامَ يرمز علم بلادك؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

Springer

الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

على مقربة من سواحل مدينة جبيل اللبنانية، وفي ساعات الصباح الأولى، يقف بحارٌ أسمرُ اللون في سفينته الدائرية بمقدمتها التي تشبه رأس الحصان والمصنوعة من خشب الأرز اللبناني، ينظر بحيرة نحو البحر أمامه، ربما كان يفكر بوجهته أو ربما بتجارته، لكن ابدًا لم يكن ليخطر على باله بأن هويته بعد 2800 سنة من وفاته ستصبح ولسنوات عديدة، محط جدلٍ كبير.(1) الفينيقيون الجدد والحركات السياسية، قضيةٌ تعود لتطفو على السطح مجددًا، هي موضوع مقالنا اليوم.

تقول المؤرخة وعالمة الآثار 《جوزيفين كوين – Josephine Quin》أنه ومن أجل أن تحكم على مجموعة من الناس أنهم شعب واحد يجب أن تتوفر فيهم عدة معايير، أولها اسم مشترك بالإضافة لانتمائهم لأرض وثقافة واحدة ووجود حس التضامن فيما بينهم، وأنا لا اعتقد أن أيا منها قد توفر بالفينيقيين. (2)

إن الشائع بين الناس عن الفينيقيين أنهم بحارة مهرة وتجار أذكياء، استطاعوا أن يصلوا بسفنهم إلى كل مناطق البحر المتوسط، أسسوا فيها محطات ومستوطنات وحملوا اليها تجاراتهم وصباغهم الأرجواني وأبجديتهم، أما ما هو يقين للجميع فإن الفينيقيين قد شكلوا شعبًا واحدًا.

صدر كتاب كوين سنة 2017 بعنوان In Search Of The Phoenicians وقد غير بصدوره نظرة المجتمع العلمي عن الفينيقيين كليًا فما كان يقينًا عن أنهم شعب واحد قد أصبح اليوم غير صحيح. تشير كوين أن معظم الأبحاث المثيرة التي حصلت في العقود الماضية عن الهوية الفينيقية قد أهملت فكرت الهوية نفسها، وفي بحثها تحدت كوين كل ما كان مألوفًا عنهم وقالت إن المفاهيم القومية الحديثة هي من أنشأت الهوية الفينيقية وهذه الهوية قد خُلقت لتخدم أهدافًا سياسية في العصر الحديث. فكيف خدم الفينيقيون هذه السياسات الحديثة؟

الفينيقيون الجدد

البداية في لبنان او كم درج تسميتها لسنوات بأرض فينيقيا الأم، ظهرت فكرة الفينيقيين الجدد لأول مرة في كتابات المؤرخ اللبناني طنوس الشدياق حيث ربط بين فينيقيا ولبنان في كتابه history of the notables of mount Lebanon الصادر سنة 1859، يناقش في فصله الأول حدود لبنان وسكان المدن الفينيقية فيه. بعدها سرعان ما اخذت فكرة القائلة بأن اللبنانيين هم الفينيقيين القدماء ضجة واسعة في بداية القرن العشرين بين المهاجرين اللبنانيين في مصر والولايات المتحدة، وبمساعدة وثائق الحكومة الأمريكية التي هدفت إلى تحويل المهاجرين من الساحل السوري من عرب إلى فينيقيين من أجل رفع رتبتهم.

لم تصبح هذه الفكرة مشهورة في لبنان نفسه إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، ومع قدوم التأثير الثقافي الأوروبي وما تبعه من انتداب فرنسي لأراضي سوريا ولبنان اعتنق هذه الفكرة بعض رواد الاعمال والسياسيين والنشطاء اللبنانيين، كان الهدف هنا هو تقسيم لبنان وفصله عن سوريا واقناع اللبنانيين أنهم ليسوا عربًا، بل ربطهم ثقافيًا وشكليًا وحتى روحيًا بحضارة أقدم بكثير من العرب بالحضارة الفينيقية.

لا يمكن أن نعلم على وجه الخصوص إذا ما كانت هذه النزعة نحو الماضي هي فعلٌ فطري طبيعي او أنها كانت ستحدث دون تدخل الفرنسيين لتحويرها، لكن الفينيقية لم تكن الحركة الوحيدة في الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين التي تريد العودة إلى جذورها القديمة، هنالك أيضا الفرعونية والاشورية والآرامية في سوريا والكنعانية في فلسطين.

لماذا التاريخ القديم مهم لهذه الحركات السياسية الجديدة؟

يقول المؤرخ البريطاني《 إريك هوبسبام – Eric Hobsbawm》 الدول هي كيانات حديثة تاريخيا تتظاهر بأنها كانت موجودة لفترة طويلة ولتكون دولًا من الأساس يجب ان يكون لها ماض متفق عليه بين جميع مواطنيها وليس ضروريًا أن يكون هذا الماضي حقيقي. إذا كان من الضروري للبنان الخارج حديثا من الانتداب الفرنسي ان يتذكر اجداده الفينيقيين العظماء ويربط هويته بهم ليتحول اللبنانيون اليوم إلى الفينيقيين الجدد.

ساعدت القومية الفينيقية الفرنسين على فصل لبنان عن سوريا لكنها قد وحدت التونسيين ضد الاستعمار الأوروبي وإن كانت هذه القومية حقيقية أم اختراعا حدث في القرن التاسع عشر لا بد من وجود أدلة ملموسة عليها.

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

فينيقيون مجهولون

خلال حياتهم لم يطلق الفينيقيون على أنفسهم أي اسم، اليونان هم من اسموهم فينيقيين ولا يمكن الحسم في معنى هذه التسمية بعد، فربما دلت على لون أرجواني او شجرة النخيل أو على طائر الفينيق الخالد… اما الاسم الثاني الشائع عنهم فهو الكنعانيون، ويعتبر معظم الأكاديمييون اليوم أن هذا الاسم من أصل سامي أي أن الشعب المحلي وبلغته الخاصة قد عرف بهذا الاسم عن نفسه، لكن كوين تعود لتؤكد أن هناك القليل جدًا من الأدلة على هذا الاستخدام، وتقترح أن هذه الأدلة القليلة قد اسيء فهمها وتحليلها أيضًا. فالمرة الوحيدة التي وجدت فيها كلمة كنعان (KNʿN) مكتوبة بالفينيقية، كانت على عملات برونزية صكتها مدينة بيروت عام 168 قبل الميلاد، والتي أعطت اسم المدينة باسم أم لاوديكيا في كنعان (LʾDK ʾM BKNʿN).

تُؤخذ هذه العبارة أحيانًا كدليل بحد ذاتها على أن الفينيقيين قد سموا أنفسهم كنعانيين، لكن الواضح أن هذه العبارة تصف المدينة وليس سكانها، وسياقها السياسي يعني أنه لا ينبغي اعتبارها تسمية محايدة أطلقها الفينيقيون على أنفسهم فهي نسخة من اسم ” لاوديكيا في فينيقيا” الاسم الذي فرضه الملوك السلوقيون اليونانيون المقدونيون على بيروت، لتمييز المدينة عن لاوديكيا على البحر في أقصى الشمال.

لم يسموا أنفسهم فينيقيين ولا كنعانيين فكيف عرفوا عن نفسهم إذا؟ تجيب كوين عن هذا السؤال بالعودة إلى نصوص اللغة الفينيقية من المشرق نفسه، ما نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا عن أنفسهم بالرجوع إلى مدنهم أو في كثير من الأحيان إلى عائلاتهم ومن الشائع بالنسبة للنقوش الفينيقية أن تسرد عدة أجيال من الأجداد والاسلاف كنوع من التعريف عن النفس.

موضة عالمية

عند الحديث عن الصناعات الحرفية الفينيقية لا يمكن تجاهل روعتها ودقة تصنيعها، اشتهر الفينيقيون بخزفياتهم وصناعاتهم العاجية المميزة التي صُدرت إلى معظم مناطق الشرق الأدنى والبحر المتوسط، وعادة ما تؤخذ هذه الصناعات كدليل قوي على ثقافة مشتركة لشعب واحد لكن المشكلة أن القليل من هذه القطع قد وجد على أرض فينيقيا الأم.

تقول كوين إن البشر ليسوا قطعا فخارية ودراستنا لمدى انتشار هذه القطع الأثرية لا يمكننا ان نقيس من خلاله حدود شعب ما. كان هنالك نمط دولي سائد في العصر البرونزي الحديث تم انتاج هذا النمط الموحد وشرائه عبر مناطق واسعة فهو ليس محدودا بفينيقيا، والانتاج الواسع لهذه القطع لا يعكس ثقافة شعب واحد بل يعكس موضة عالمية كانت سائدة في ذلك العصر.

عدة لهجات

عادة ما تؤخذ اللغة كدليل قوي على الهوية المشتركة وفي حالة الفينيقيين تقول كوين أنه لا يوجد أي دليل على أنهم تشاركوا لغة واحدة. الفينيقية العبرية المؤابية … كانوا يعتبرون جميعا لغات كنعانية وفي الفترة الحديدية كانت اللغة المستخدمة في المملكة الإسرائيلية قريبة جدا من اللهجة الفينيقية المحكية في المدن المجاورة لها، وفي الوقت نفسه كان هنالك لهجات مميزة داخل اللغة الفينيقية نفسها منها البونيقية المستخدمة في المستعمرات الغربية. على حد تعبير كوين لا يمكننا اعتبار أن الفينيقيين قد امتلكوا لغة مشتركة بل تكلموا عدة لهجات مختلفة كانت تشبه لهجات المحيطين بهم وقد تواصلوا فيما بينهم عبرها.

تفرقوا حتى لا تُحكموا

حتى الان كان النقاش عن الهوية الفينيقية بسلبية، هل كانوا شعبًا واحدا أم لا، لكن إذا نظرنا إلى الأمر بإيجابية فربما تعمد الفينيقيون كما درجت تسميتهم ألا يكونوا شعبا واحدا وألا تكون لديهم هوية مشتركة كشكل من أشكال المقاومة ومحاربة الاستعمار الأجنبي.

جادل《 جيمس سي سكوت – James C. Scott》 مؤخرًا في كتابه The Art of Not Being Governed (2009) بأن الأشخاص الذين يتمتعون بالحكم الذاتي والذين يعيشون على أطراف وحدود الدول التوسعية الكبرى يميلون عادة إلى تبني استراتيجيات لتجنب السيطرة المباشرة عليهم من قبل هذه الدول ولتقليل الضرائب والتجنيد الاجباري وعمل السخرة. (3) وقد ركز سكوت في بحثه على مرتفعات جنوب شرق آسيا، وهي منطقة تُعرف الآن أحيانًا باسم《 زوميا – Zomia》، وعلاقتها بدول المسيطرة على السهول الكبرى في المنطقة مثل الصين وبورما.

يصف سكوت في بحثه سلسلة من التكتيكات التي يستخدمها سكان هذه التلال لتجنب سلطة الدولة، بما في ذلك تشتتهم في التضاريس الوعرة، وتنقلهم، وممارساتهم الزراعية، وهوياتهم العرقية وهيكلهم الاجتماعي المرن. يقول سكوت في وصفه للوضع السياسي في تلك المنطقة أن التحالفات السياسية كانت محدودة وقصيرة العمر في زوميا. في الواقع، تبدو العديد من جوانب تحليل سكوت مألوفة في عالم البحر الأبيض المتوسط القديم، على أطراف الإمبراطوريات الزراعية العظيمة في بلاد ما بين النهرين وإيران وما هو مثير للاهتمام هنا هو الفائدة الكبيرة لمثل هذا الاسلوب في المنطقة الجبلية في شمال المشرق القديم.

بالعودة إلى بحث سكوت يمكن أن نرى بوضوح كيف استخدم سكان المشرق القديم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات للتهرب من سيطرة القوة الإمبريالية عليهم. التشتت في التضاريس الوعرة والانقسام إلى عدة مدن وعقد تحالفات قصيرة الأمد كلها استراتيجيات اعتُمدت في فينيقيا للتهرب من سيطرة الامبراطوريات العظمى عليها. تفرقوا حتى لا تُحكموا، على حد تعبير سكوت.

كان الخيار الآخر المتاح أمام هذه الجماعات هو الذهاب إلى البحر، وهي منطقة مألوفة للفينيقيين حيث يمكن لخبرة ومعرفة البحارة المشرقيين أن تجعلهم وأنشطتهم غير مرئيين وغير خاضعين للمساءلة أمام أسيادهم في الشرق. قدم البحر أيضًا طريقًا للهروب من المزيد من سيطرت الإمبراطوريات المحلية.

مفاهيمنا الحديثة تشوه الماضي

لقد شوهت مفاهيمنا الحديثة عن الهوية والانتماء تاريخنا. لم يرى الفينيقيون يوما أنفسهم كشعب واحد بل ربما قد تعمدوا ذلك، ان تصنيفنا لهم بهذه الطريقة يعد تصنيفًا تعسفيا، لقد اعتمدنا على مفاهيم مصطنعة لتنظيم العالم وأنفسنا ومهما كان اعتقادنا بان هذه المفاهيم صحيحة فهذا لا يجعلها حقيقة علمية أو طبيعية. الحقيقة هي أنه وعلى الرغم من أن المؤرخين يعتقلون الموتى باستمرار من التاريخ ويفحصون جيوبهم بحثًا عن هويتهم، فهم عاجزون عن معرفة كيف كان الناس يفكرون حقًا في أنفسهم في الماضي، وبسبب هذا التركيز الأكاديمي التقليدي على عدد صغير من المجتمعات المتطورة وغير العادية فقد تم تشويه منطقة البحر الأبيض المتوسط القديمة وأهملت حضارات صغيرة أخرى وتم تصنيفها تعسفيا مع حضارات أخرى.

ليس لدينا دليل جيد على أن الناس القدامى الذين نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا أنفسهم كشعب واحد أو تصرفوا كمجموعة مستقرة. وبدلًا من أن نملأ هذا الفراغ بقصص من خيالنا يجب أن نقبل الفجوات في معرفتنا. بانتظار اكتشافات أثرية حديثة لتملأ هذا الفراغ.

المصادر

  1. Mark Cartwright. The Phoenicians – Master Mariners.: Ancient History Encyclopedia 2016.
  2. QUINN J. IN SEARCH OF THE PHOENICIANS.: PRINCETON UNIV Press; 2019.
  3. Scott J. The art of not being governed. New Haven, Conn.: Yale University Press; 2011.

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

يمثل تاريخ اليونان القديم خصوبة معرفية مميزة في مسيرة الإنسان المعرفية. قليلًا ما نجد من حديث أو حوار ثقافي إلا ويسجل الإغريق القدماء حضورهم. كأن كل بداية فعلية هي إغريقية بالضرورة بغض النظر عما قدمته الحضارات الشرقية من إسهامات ومشاركات في الثقافة البشرية. فالفلسفة وإن لم نتفق مع التطرف الغربي بشأن أصلها اليوناني فهي تألقت في سماء تلك البلاد أكثر من غيرها. وربما لولا الإغريق لما دخلت الفلسفة في الفضاء العمومي بهذا الثقل ولما دار كل هذا الجدل حولها. لكن ثمة هناك مفارقة في البحث المعرفي ألا وهي تهميش التراث السفسطائي بشكل واضح ومزعج، وكأن السفسطائية هي شجرة الفلسفة المحرمة. بالكاد نجد له حضورًا في الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة رغم طابع هذا التراث من حيث حداثته وفرادته عن كل تداول فلسفي آخر. فسنخصص هذا المقال لمناقشة آراء السفسطائية حول مواضيع محددة لفتح حوار مختلف مع تاريخ الفلسفة ولإعادة النظر في ملف السفسطائيين.

معنى السفسطائية

لغةً، تعني لفظة السفسطائي الشخص الحكيم، وهي تقابل لفظة الفيلسوف والتي يعنى بها الشخص الذي يحب الحكمة. السفسطائي يدعي أنه الحكيم، وكان بروتوعوراس هو أول من تجرأ ليطلق على نفسه الحكيم رغم التحديات الكثيرة. فالحكيم في التراث الإغريقي كان يطلق على هوميروس وهزيود والحكماء السبعة والانبياء(1)، فالسفسطائي يردم الهوة بين الإنسان والحكمة، عكس الفيلسوف الذي يجد في نفسه محبًا للحكمة وحسب وكأنها محرمة عليه أو يستحيل الوصول إليها. وذلك لكون الآلهة ومن يتواصلون معها مباشرة يحملون شعلة الحكمة، والفيلسوف هو الذي يتوق إليها.

مفهوم السفسطائي والسفسطة واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات من قبل الفلاسفة لا سيما أفلاطون. حتى تحول هذا المفهوم إلى نوع من الاستخفاف في يومنا هذا، فيُطلق على كل ما هو بديء سفسطة، فيصنفهم هيغل في الخانة المضادة للفلسفة أو اللا فلسفة(2). غير أن السفسطائية تمثل حركة تنويرية بطروحها الجريئة ومواقفها الإنسانية المدافعة عن الحقوق الكونية للإنسان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، فهي الأصل الحقيقي للحداثة وتشعباتها.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

السفسطائيون ونتاجاتهم

فقدنا الكثير من الكتب القيمة من جميع الحضارات نتيجة تدمير المكتبات لأسباب سياسية والتغيرات البيئية التي تسببت بتلف الكثير من المخطوطات والكتابات، وكانت لكتابات السفسطائيين حصة الأسد من التدمير، فهم كانوا منبوذين ومطاردين حتى من قبل الإغريق نفسهم وتعرضت معظم كتاباتهم للحرق. بجانب عدد بسيط جدا مما وصل إلينا من كتاباتهم الخاصة، لمحاورات أفلاطون دور مهم في الكشف عن افكارهم، وسوف نستعرض بعضًا من الاعمال المنسوبة إليهم وفقًا لمتبقيات تاريخية:

  • بروتوغوراس: في الحقيقة، حول الآلهة، حول بنية المجتمع الأصيلة، حول العالم الآخر، حول الفضائل وحول الدستور.
  • جورجياس: هيلين، بالاميد،الخطبة الأولمبية، الخطبة الجنائزية وحول اللا وجود.
  • بروديكوس: حول الوجود وطبيعة الإنسان.
  • أنتيفون: الحقيقة، السياسة وتفسير الاحلام.
  • هيبياس: الطروادة، نصائح، اسماء الشعوب وسجل ابطال الأولمبياد.
  • ثراسيماخوس: النص العظيم، الخطابة، الدستور والشفقة.

ثورة السفسطائية ضد التراث الإغريقي القديم

 الاساطير الأغريقية حول نشأة الكون والحقيقة وطبيعة الإنسان وكذلك قصائد هوميروس وهزيود تمثل التراث الإغريقي الأصيل الذي لم يتجرأ أحد المساس بها أو الخروج عن ظلها. فهذا التراث يؤكد بعض الحقائق المدعية، كالأصل الإلهي للعالم، والأصل الإلهي للقوانين والتشريعات. في حين، يزعم السفسطائيون بأن العالم ما هو إلا مادة لا دخل للآلهة والأرواح بها, وأن القوانين شأن بشري. فيقول السفسطائي كريتياس بأن البشر هم من اخترعوا الآلهة لترهيب الناس عند الخروج عن التقليد(2). وحول أصل القوانين، يدعي بروتوغوراس بأن القوانين تُخترع وتُعدل من قبل البشر بما يناسب منفعتهم. ويقول أيضًا بأن حياة الإنسان البدائية كانت وحشة ولا تخضع لأي قانون مما دفع بالبشر إلى سن القوانين لوقف العدوان المتبادل بينهم. ونظرًا لأن القوانين بحد ذاتها لم تكن فعالة إلا بعد الكشف عن الجريمة فقالوا بوجود آلهة ترى كل شيء وتعاقب المجرم (3).

كما كان للسفسطائيين رأي مخالف لرؤية هزيود وهومر والأساطير الإغريقية حول مجرى التاريخ والزمن. فكان الإيمان الراسخ هو أن التاريخ عبارة عن دورات، من الأفضل إلى الاسوأ. فكان يُعتقد بأن الدورة الأولى كانت تمثل سلالة ذهبية، بحيث لم تكن هناك حروب وسلوكيات شريرة ومؤذية. ومن ثم جاءت الدورة الفضية والتي كانت اسوأ من الذهبية وأفضل من البرونزية التي تلتها وهي بدورها كانت أحسن من الدورة الحديدية. فيقول هيزيود: “ليتني لم أكن من بشر الجيل الخامس بل متتُ قبله فالسلالة التي توجود الآن هي سلالة حديدية”. رفض السفسطائيون هذا التفسير، وقالوا بأن الماضي يمثل حالة وحشية وأن الإنسان يتقدم نحو الأفضل دوما، وأن الحاضر لا يخضع للماضي وأن المستقبل مفتوح.

ثورة السفسطائية ضد الفلسفة الطبيعية

يُقال بأن ديمقريطس قد فقأ عينيه ليبرهن بأن الحواس غير ضرورية لمعرفة الصدق والحقيقة. كما كان بارمنيدس و هيراكليتس وانكسيمانس وانكسيماندرس يرفضون دور الحواس في الوصول إلى الحقائق. وكان العقل هو الوسيط الوحيد بين الإنسان والحقيقة. بينما يؤكد السفسطائيون بأنه فقط من خلال الحواس المعرفة ممكنة. فيقول جورجياس بأن العقل الخالص من حيث هو مختلف عن الادراك الحسي او حتى كمعيار صحيح كالادارك الحسي محض خرافة(4). وبالنسبة للجوهر، كان فلاسفة ما قبل سقراط يزعمون بأن الظاهر لا يعبر عن حقيقة الأشياء إنما الجوهر أو الباطن، إلا أن السفسطائيون تمسكوا بالظاهر على أنه موضوع البحث، كما رفضوا إمكانية وجود حقائق ثابتة.

منهج البحث عند السفسطائية

قال أمبادوقليس أن الشبيه يدرك الشبيه، وزعمت المدرسة الذرية بأن الموضوع يأتي أولًا في المعرفة. وبعضهم قال بأن للأشياء حقيقة وكيفية ثابتة ومستقلة عن الذات. لكن السفسطائي بروتوغوراس يجد بأن المعرفة شأن إنساني وللذات الإنسانية الدور الأهم في الموقف الإدراكي. وله قول شهير في ذلك: “الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا، مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها(3). ويرى السفسطائيون بأن المعرفة لا تتعلق بالموضوع المعروف وحده بل بالذات العارفة أيضًا(5). إذن، فالإنسان هو نقطة الانطلاق في الوصول إلى المعرفة. لكن هذا لا يعني بأنهم من دعاة الذاتية الذين رفضوا وجود عالم مستقل عن ادراكنا.

طبيعة وإمكانية المعرفة

لم تكن السفسطائية مذهبًا لتروج لحكمة معينة، لذا، ثمة خلاف بين السفسطائيين حول الأبستومولوجيا. فقال جورجياس باستحالة المعرفة، إذ أكد بأنه “لا يوجد شيء على الإطلاق، وإن وجد لا يمكن فهمه، وإن فُهم لا يمكن نقله للآخرين”. لكن بروتوغوراس كان يؤمن بإمكانية المعرفة. بيد أن المعرفة عند بروتوغوراس لا تشمل الميتافيزيقيا بل تقتصر على العالم المادي الموضوعي من حيث ظهوره لنا. وهذا الظهور ليس بظهور ثابت. فالعالم يظهر لي بشكل ويظهر لغيري بشكل مختلف. فيقول بروتوغوراس بأن الأشياء تكون بالنسبة لي كما تبدو لي إنما تكون لغيري كما تبدا لهم”(3).

والنبسية كما فهمها السفسطائيون -على الأقل بعضهم-  تختلف عن النسبية التي شاعت بين الاوساط العدمية. فما يجعل من معرفة العالم نسبية هو كون العالم في حالة حركة وصيرورة مستمرة والإنسان نفسه جزء من عالم الصيرورة. فكلا من العالم والإنسان يصيران. وبهذا الصدد يقول بروتغوراس: “لا شيء يوجد بذاته أو يكون في ذاته وأنك لا تستطيع بأي حال من الاحوال أن تعبر عن شيء ما تعبيرًا صحيحًا، فما أن نفسر شيء ما يتحول إلى شيء آخر من حيث الكيفية” (6).

كان الفيلسوف هيراكليتس يقول بأنه لا يمكن أن تنزل في النهر نفسه مرتين وذلك لأن النهر قد تغير في المرة الثانية. لكن السفسطائي كاريتليوس تجاوز هيراكليتس بقوله “لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر حتى مرة واحدة طالما أن الصيرورة تجرف كل شيء”( 7). السفسطائية ترى في كل رأي بأنه صادق لأن الرأي لا يحتمل الكذب كيفما كان. فالكذب هو التعبير عن اللا وجود بالتالي فهو بدوره غير موجود وأن كل رأي يعبرعن الوجود فهو صادق بالضرورة. لكن كيف يكون لرأي ونقيضه نفس الدرجة من الصدق؟ هنا، تأتي السفسطائية بمفهوم التلاؤم. العالم يصير والإنسان يصير وهناك لقاءات مستمرة بين الإنسان والعالم وفي كل لحظة لقاء هناك تلاؤم ويظهر العالم بكيفية معينة للمدرك. وليس هناك رأي اصدق بل هناك الرأي الأحسن الذي يكون في خدمة الإنسان والمجتمع البشري أكثر.

وجود ومعرفة الآلهة

بالنسبة للآلهة يقول بروتوغوراس من المستحيل أن نعرف إذا كان هناك إله أم لا نظرًا لما يكتنفه الموضوع من الغموض ولقصر العمر. هذا الرأي اللاأدري لم يمر مرور الكرام فتم إحراق كتبه وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، فهرب منهم ومات غرقًا(6). ويجد أمبريكوس بأنه لو شاءت الصدفة لشخص ما أن يعرف حقيقة الآلهة بشكل تام فسيظل هو نفسه على غير علم بصواب رأيه(8). وعن شكل وتجسيد الآلهة. يقول كسينوفون بأن كل شعب تصور آلهة على الشكل الذي يريده ولو تمكنت الخيول أن تصف الآلهة لوصفتها على شكلها(3). ويقول بروديكوس بأن البشر استنتجوا وجود الآلهة من أشياء ذات معنى في حياتهم مثل الشمس والانهار والنار، فديونيزوس ليس بإله الخمر إنما هو الخمر نفسه(3). تأرجحت السفسطائية بين الإلحاد واللاادرية في هذه القضية. ولهذه الآراء بصمة واضحة في الفلسفات المعاصرة.

الحرية والفضيلة

كان للإغريق نظرة دونية تجاه الآخرين ويسمون كل من هو غير أغريقي بالبربري، ورأوا في أنفسهم نوع مميز من البشر. كما كان التراث الإغريقي الروحي والفلسفي يؤمن بأن الإنسان يولد حرًا أو عبدًا وبالتالي المساوة بين جميع البشر والطبقات غير ممكنة كان هوميروس يعتبر بأن الاقدار السماوية شاءت أن يكون هناك عبيد واحرار ولا يمكن لأحد أن يتجاوز تلك الاقدار، وديمقريطس نفسه دعم هذا الرأي. غير أن السفسطائية انزلت القوانين من السماء إلى الأرض وقوضت فرضية التراث حول الاحرار والعبيد. فيقول هيباس أننا نحن والبرارة أخوة في الطبيعة. ورفض أنتيفون التمييز بين الإغريقي والبربري وقال قوله الشهير”خلقنا الخالق احرارًا وليس هناك من هو عبد بالطبيعة”(4).

وبالنسبة للفضيلة، لم تكن السفسطائية تؤمن بوجود فضيلة ثابتة، بل نظرت في المسألة نظرة منفعية براغماتية. أي ما يقع في حدود الفضيلة هو ما يخدم المجتمع الإنساني وهاجم السفسطائيون الأخلاق التقليدية اليونانية لكونها قائمة على أسس متناقضة مع الطبيعة.

مكانة الثورة السفسطائية في التاريخ الفلسفي

الرأي الشائع عن السفسطائية هو أنها كانت حركة من الدجالين الذين يلعبون بالكلمات والحجج لإقناع الناس بأمور لا قيمة لها. وحين نقرأ محاورات أفلاطون نجد بأنهم كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر أمام سقراط لضعف حججهم. في حين السفسطائية يمكن أن تعتبر فلسفة تنويرية لجرأتهم على تقويض الكثير من الأفكار الفلسفية والدينية آنذاك، دفعوا ارواحهم ثمن آرائهم الإنسانية. كما أن التراث السفساطئي كان غنيًا لدرجة أن الفلسفات الحديثة مثل الوجودية والبراغماتية والهرمونوطيقية قد تشربت منه. فهذه الشجرة المحرمة تستحق أن نجازف بعض الشيء للوصول إلى ثمارها

اقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

المصادر:

  1. https://iep.utm.edu/sophists/
  2. https://www.britannica.com/topic/Sophist-philosophy/Humanistic-issues
  3. https://plato.stanford.edu/entries/sophists/
  4. محمد حسين النجم، السوفسطائية في الفكر اليوناني، منشورات الحكمة 2008 ص119
  5. http://etheses.dur.ac.uk/4023/
  6. https://plato.stanford.edu/entries/protagoras/#MythProt
  7. https://aeon.co/ideas/can-you-step-in-the-same-river-twice-wittgenstein-v-heraclitus
  8. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، ص76.
  9. حامد خليل، الإنسان عند السفسطائيين، المجلة العربية للعلوم،ص32.

5 مغالطات منطقية يجب عليك معرفتها

المغالطة المنطقية هي استدلال خاطئ على صحة ادعاء ما، فيستخدم المُغالط أدلة واهية لا علاقة لها بادعاءه ليثبت ادعاءه، وما أكثر المغالطات المنطقية التي نقع فيها في حياتنا اليومية؛ لذلك سنناقش اليوم 5 من أشهر المغالطات المنطقية المستخدمة بكثرة.

1- «الشخصنة-Ad Hominem»

تعني الكلمة اللاتينية (Ad hominem) بالإنجليزية (Against the man) أي (ضد الإنسان) بالعربية، فمغالطة الشخصنة تعتمد على مهاجمة صاحب الحجة بدلًا من دحض الحجة نفسها.

مثال:

شخص1: أنا أرى أن اتباع النظام النباتي صحي.

مُغالط: كيف تدافع عن النظام النباتي وأنت لا تتبعه؟

2- «مغالطة رجل القش- strawman fallacy»

أخذت هذه المغالطة اسمها من رجل القش الذي يضعه المزارعون في حقولهم ليوهم الطيور والحيوانات بوجود حارس فيقومون بالابتعاد عن حقله، فأصحاب هذه المغالطة يضعون رجل قش في المناقشة بغرض التضليل، فيقومون بإيجاد ادعاء آخر غير الادعاء الأصلي لمهاجمته بدلًا من دحض الحجة الأساسية، فيتوهم الحضور أن المُغالط قد رد على الادعاء دون أن يرد عليه في الواقع.

مثال:

شخص1: من الضروري أن نهتم بالتعليم الجنسي للمراهقين، لكي يتمكنوا في المستقبل من ممارسة الجنس الآمن وتجنب الإصابة بالأمراض الجنسية.

مُغالط: لا يجب علينا أن نسمح للمراهقين بممارسة الجنس دون ضوابط.

3- «التوسل بالجهل-Appealing to ignorance»

وهو ادعاء معرفة شيء ما بلا دليل، فقط لأن أحدهم لم يُثبت العكس، وهذه من أكثر المغالطات التي يقع فيها الكثيرون، إذ أن عبء الدليل يقع على المدعي، وليس المعارض.

مثال:

مُغالط: لا يوجد دليل على عدم وجود الفضائيين على المريخ، لذا فهم موجودون.

4- «التوسل بالسلطة-Appealing to authority»

وهي تصديق ادعاء ما، فقط لأن صاحب ذلك الادعاء هو شخص أو مؤسسة ذات مكانة أو مصداقية، دون تحري الأدلة.

مثال:

مُغالط: يجب علينا استخدام معجون الأسنان ذلك.

شخص1: لماذا؟

مُغالط: لأن 4 من كل 5 أطباء أسنان يوصون باستخدامه.

5- «الترابط والسببية-Correlation-Causation fallacy»

هذه المغالطة تُبنى عليها الكثير من الخرافات وهي إحدى منابع التفكير الخرافي الغير علمي، فهي الربط بين حدثين بعلاقة سببية، فقط لوقوع أحدهما بعد الآخر.

مثال:

مُغالط: لقد حصلت على علامة جيدة في اختبار الأمس لأنني كنت أرتدي قميصي الأحمر، لذا فقميصي الأحمر سبب في حصولي على هذه العلامات الجيدة.

في النهاية، هناك العديد من المغالطات المنطقية التي يستخدمها الناس في الحياة بشكل يومي، فعليك أن تعرف المغالطات المنطقية وتتعلم كيف ترصدها، لتجنب الخداع.

المصادر:

scientificamerican

grammarist

softschools

yourdictionary

literaryterms

Exit mobile version