ملخص كتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون

نشر كتاب “سيكولوجية الجماهيرˮ أول مرة عام 1895 لمؤلفه غوستاف لوبون، والذي يعد مؤسس علم نفسية الجماهير. وسنستعرض هنا ملخصًا موجزًا للكتاب.

مقدمة سيكولوجية الجماهير (عصر الجماهير)

تبدو الانقلابات الكبرى التي تسبق عادةً تبدل الحضارات محسومةً بتحولات سياسية ضخمة كالغزو أو قلب السلالات المالكة. ولكن الدراسة المتفحصة تكشف غالبًا أن السبب الحقيقي هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. أما الأحداث الضخمة التي تتناقلها كتب التاريخ فليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية التي تصيب سيكولوجية الجماهير وعواطفها.

إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير. فالجماهير هي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار، ولا يستطيع شيء تهديدها. ونشأت قوة الجماهير أولًا عن نشر بعض الأفكار التي زرعت في النفوس ببطء، ثم بالتجميع المتدرج للأفراد من خلال الروابط والجمعيات. وإن معرفة سيكولوجية الجماهير (علم نفس الجماهير) تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألّا تحكمه الجماهير.

الكتاب الأول (روح الجماهير)

الخصائص العامة للجماهير، القانون النفسي لوحدتها الذهنية

الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور هي تلاشي الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتوجه الجميع إلى نفس الاتجاه بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل إلى تحويل الأفكار المحرّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة.

ومن أسباب ظهور هذه الصفات، اكتساب الفرد بواسطة العدد المتجمع فقط شعورًا عارمًا بالقوة، والعدوى العقلية أو الذهنية للعواطف والأفعال في الجمهور.

“لا يوجد في التجمع الذي يشكله جمهور ما حاصلٌ ومتوسط للعناصر، وإنما يوجد فقط تركيب وخلق للخاصيات. وهذا يشبه ما يحصل في مجال الكيمياء. فبعض العناصر المستخدمة في التركيب كالقواعد والحوامض مثلًا تتداخل في بعضها البعض وتتركب من أجل تشكيل مادة جديدة مزودة بخصائص مختلفة عن تلك الخصائص التي كانت تتحلى بها العناصر المفردة قبل تركيبها”.

جوستاف لوبون

عواطف الجماهير وأخلاقياتها

الخصائص الأساسية للجماهير

  • سرعة انفعال الجماهير وخفّتها ونزقها.

إذ تكون الانفعالات التحريضية التي تخضع لها الجماهير مهيمنةً وقوية إلى درجة أنها مستعدة للموت من أجلها.

  • سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأي شيء.

نجد الجمهور غالبًا في حالة ترقب مهيأة لتلقي أي اقتراح، ويفرض أول اقتراح يظهر نفسَه مباشرة بواسطة العدوى والانتشار، فخلق الأساطير التي تنتشر بسهولة في أوساط الجماهير ينتج عن سرعة التصديق والتضخيم الهائل للأحداث.

  • عواطف الجماهير، تضخيمها وتبسيطها.

بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها يحميانها من عذاب الشكوك وعدم اليقين.

  • تعصّب الجماهير واستبداديتها ونزعتها المحافظة.

“إن الاستبداد والتعصب يشكلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدًا، وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها. فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلًا من أشكال الضعف. وما كانت عواطفها متجهة أبدًا نحو الزعماء الرحيمين وطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس. وهي لا تقيم تلك النصب التذكارية العالية إلا لهم. وإذا كانت تدعس بأقدامها الديكتاتور المخلوع فذلك لأنه قد فقد قوته ودخل بالتالي في خانة الضعفاء المحتقرين وغير المهابين. إن نمط البطل العزيز على قلب الجماهير هو ذلك الذي يتخذ هيئة القيصر. فخيلاؤه تجذبها، وهيبته تفرض نفسها عليها، وسيفه يرهبها”.

جوستاف لوبون
  • أخلاقية الجماهير.

الجماهير غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية فيما يخص بعض الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أما بالنسبة لبعض الصفات كالإخلاص والنزاهة والتضحية بالذات فهي قادرة على أرفع أنواع الأخلاقية، ولكنها تبرهن على انحطاط أخلاقيتها غالبًا.

أفكار، ومحاجّات عقلية، ومخيلة الجماهير

  • أفكار الجماهير.

وتقسم إلى أفكار طارئة تتشكل تحت تأثير اللحظة كالانبهار بفرد أو عقيدة ما، وأفكار أساسية تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقرارًا كبيرًا كالأفكار الدينية والديمقراطية والاجتماعية. ولا تهيمن الأفكار إلا إذا اتخذت هيئة بسيطة جدًا وتجسدت في سيكولوجية الجماهير على هيئة صور، فتدخل إلى اللاوعي وتصبح عاطفة متماسكة. وإذا كان يلزم وقت طويل كي تترسخ الأفكار، فإنه يلزم وقت لا يقل عنه طولًا كي تزول.

  • المحاجّات العقلية للجماهير.

ترتكز المحاجّات العقلية المؤثرة على الجماهير على ترابطات بين أشياء متنافرة ليس بينها إلا علاقات سطحية ظاهرية. كما أن الجماهير تعمّم حالات فردية وخصوصية، وهاتان هما الخاصيتان الأساسيتان للمنطق الجماعي.

  • خيال الجماهير.

تأسست مقدرة الفاتحين وقوة الدول على قاعدة الخيال الشعبي، وإن معرفة سيكولوجية الجماهير وفن التأثير على مخيلتها تعني معرفة فن حكمها.

“لم أستطع إنهاء حرب الڤاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي. وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا. ولو أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد هيكل سليمان”.

نابليون في مجلس الدولة الفرنسي

الأشكال الدينية التي تتخذها كل قناعات الجماهير

للعاطفة الدينية خصائص بسيطة جدًا، عبادة إنسان يعتبر خارقًا للعادة، والخوف من القوة التي تعزى إليه، كما أن الخضوع الأعمى لأوامره مظهر مهم، واستحالة أية مناقشة لعقائده، والرغبة في نشر هذه العقائد، والميل لاعتبار كل من يرفضون تبنيها أعداءً. ولذلك فالتعصب وعدم التسامح يشكلان المرافق الطبيعي لها.

الكتاب الثاني (آراء الجماهير وعقائدها)

العوامل البعيدة المشكلة لعقائد الجماهير وآرائها

تمهد هذه العوامل الأرضية لانبثاق الأفكار الجديدة، إذ تجعل الجماهير قادرة على تبني بعض القناعات وغير مؤهلة لتبني قناعات أخرى.

  1. العِرق.

وهو أهم من كل العوامل الأخرى مجتمعة، إذ يمكن للمقترحات الاجتماعية أن تمارس فعلًا مهمًّا، ولكنه مؤقت دائمًا إذا كانت مضادة لمقترحات العِرق أي لكل سلسلة الأسلاف.

  • التقاليد الموروثة.

تمثل التقاليد خلاصة العِرق، ولا يمكن لأية حضارة أن توجد بدونها، أي بدون روح قومية، والجماهير تعارض بإصرار أية محاولة لتغييرها.

  • الزمن.

إن بعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما تبدو مستحيلة في فترة أخرى، فالزمن يراكم بقايا العقائد والأفكار وتولد منها أفكار عصر ما، فهو يجعل كل العقائد تتطور وتموت، فبه تمتلك قوتها وبه تفقدها.

  • المؤسسات السياسية والاجتماعية.

لقد حصلت حروب دموية لفرض مؤسسات تعزى إليها مقدرة خارقة على خلق السعادة، فالمؤسسات تؤثر على روح الجماهير لأنها تولد انتفاضات كهذه، ولكنها لا تمتلك أية فضيلة.

  • التعليم والتربية.

يتيح التعليم المقدم في بلد ما استشراف مصير هذا البلد ومستقبله، فمع التربية والتعليم تتحسن سيكولوجية الجماهير وروحها أو تفسد، فهما مسؤولان عن ذلك جزئيًا.

العوامل المباشرة التي تساهم في تشكيل آراء الجماهير

تؤدي هذه العوامل إلى التمردات الشعبية أو الإضرابات. وهي التي تدفع أغلبية من الشعب إلى الوصول بشخص ما إلى السلطة أو إسقاط حكومة معينة.

  1. الصور، والكلمات، والشعارات

ترتبط قوة الكلمات بالصور التي تثيرها، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بدقة هي التي تمتلك أحيانًا أكبر قدرة على التأثير. مثلًا، ديمقراطية، اشتراكية، حرية، …إلخ.

  • الأوهام.

تحوّل الجماهير نظرها عن الحقائق التي تزعجها وتفضل تأليه الخطأ إذا ما جذبها، فمن يعرف كيف يوهمها يصبح سيدها، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينها يصبح ضحية لها.

  • التجربة.

تشكل التجربة المنهجية الوحيدة الفعالة تقريبًا لزرع حقيقة ما في روح الجماهير، وإن التجارب التي عاشها جيل ما غير ذات جدوى بالنسبة للجيل اللاحق، فالأحداث التاريخية التي تضرب عادة مثلًا للموعظة لا تفيد شيئًا، وتكمن فائدتها الوحيدة في البرهنة على ضرورة تكرار التجارب من عصر إلى عصر لتمارس بعض التأثير.

  • العقل.

يعدّ العقل عاملًا سلبيًا في التأثير.

محرّكو الجماهير، ووسائل الإقناع التي يمتلكونها

  1. محرّكو الجماهير.

إن القادة ليسوا رجال فكر غالبًا، وإنما رجال ممارسة وانخراط، وغالبًا ما يكونون خطباء ماهرين، إذ تعطي كثافة الإيمان لكلامهم قوة تحريضية كبيرة، فالكثرة تصغي دائمًا إلى الإنسان المزود بإرادة قوية.

  • وسائل العمل التي يستخدمها المحركون أو القادة.

التأكيد، والتكرار، والعدوى. إذ يشكل التأكيد المجرد من البراهين الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير، والشيء المؤكد يرسخ في النفوس بواسطة التكرار إلى درجة أنه يقبل كحقيقة برهانية، وعندما يتاح لتوكيد ما أن يكرّر كثيرًا وبالإجماع، يتشكل عندئذٍ ما ندعوه بتيار الرأي العام، وتتدخل الآلية الجبارة للعدوى.

  • الهيبة الشخصية.

وهي نوع من الجاذبية الساحرة التي يمارسها فرد أو عقيدة ما على روح الجماهير، ولها نوعان أساسيان.

  • الهيبة المكتسبة، ويصنعها اسم العائلة والثروة والشهرة وهي أكثر انتشارًا.
  • الهيبة الشخصية، وهي ذات طبيعة مختلفة جدًا وتشكّل مَلَكَةً مستقلة عن الألقاب والسلطات، ويمارس من يمتلكونها سحرًا مغناطيسيًا على المحيطين بهم بما فيهم أندادهم، والنجاح أحد أهم العوامل التي تشكلها، إذ تختفي دائمًا مع الفشل.

محدودية تغير كلّ من عقائد الجماهير وآرائها

  1. العقائد الثابتة.

وهي العقائد الإيمانية الكبرى والتي تدوم قرونًا عديدة وترتكز عليها حضارة بأكملها، مثل أفكار الإصلاح المسيحي (لوثر) والأفكار الديمقراطية والاجتماعية.

“أما العقائد الكبرى العامة فذات عدد محصور جدًا. وتشكلُها وتلاشيها يمثلان بالنسبة لكل عرق تاريخي نقاط الذروة في تاريخه. إنها تشكل الهيكل العظمي للحضارات”.

جوستاف لوبون
  • الآراء المتحركة للجماهير.

وهي طبقة سطحية من الآراء والأفكار، تتموضع فوق العقائد الراسخة، وتولد وتموت باستمرار، مثل النظريات التي توجه الفنون والآداب. وتتزايد هذه الآراء لأن العقائد القديمة تفقد هيمنتها على النفوس تدريجيًا، وبسبب ظهور الصحافة ونشرها لأكثر الآراء اختلافًا. وينتج عن هذه الأسباب المختلفة ظاهرة جديدة جدًا في تاريخ العالم؛ وهي عجز الحكومات عن قيادة الرأي العام.

الكتاب الثالث (تصنيف الفئات المختلفة من الجماهير ودراستها)

تصنيف الجماهير

تقسم الجماهير إلى

جماهير غير متجانسة.

  1. جماهير مغْفَلَة (أسماء أفرادها غير معروفة)، كجماهير الشارع.
  2. جماهير غير مغْفَلَة، كهيئات المحلّفين والمجالس البرلمانية.

جماهير متجانسة

  1. الطوائف، كالطوائف السياسية والدينية.
  2. الزمر، كالزمرة العسكرية والزمرة العمالية.
  3. الطبقات، كالطبقة البورجوازية والطبقة الفلاحية.

تشكل الطائفة المرحلة الأولى من مراحل تشكل الجماهير المتجانسة، إذ تحتوي على أفراد من ثقافات ومهن وأوساط مختلفة أحيانًا، ولا رابطة بينها إلا العقيدة والإيمان.

وتمثل الزمرة أعلى درجات التنظيم التي يقدر عليها الجمهور، ولا تشمل إلا أفرادًا من نفس المهنة، أي ذوي تربية وأوساط متماثلة تقريبًا.

وتتشكل الطبقة من أفراد ذوي أصول مختلفة توحّدهم بعض المصالح وبعض عادات الحياة والتربية المتشابهة.

الجماهير المدعوة بالمجرمة

وتمتلك نفس الخصائص العامة لجميع أنواع الجماهير، فجرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها لا يعدّون أنفسهم مجرمين، بل يقتنعون أنهم أطاعوا واجبهم.

محلّفو محكمة الجنايات

نعثر في هذا الجمهور على الخصائص الأساسية، فهيئات المحلّفين تتأثر جدًا بالعواطف ومسحورة بمظاهر الهيبة، وإن هذه الهيئات الديمقراطية في تشكيلتها تبدو أرستقراطية في عاطفتها وميولها. والقرارات المتخذة متماثلة أيًا تكن تركيبة الهيئة المحلّفة ومهما اختلفت وتنوعت.

الجماهير الانتخابية

وهي جماهير غير متجانسة، ونعثر في قراراتهم على تأثير القادة المحركين وعلى دور التوكيد والتكرار والعدوى والهيبة الشخصية، فالوعود المبالغ فيها تولّد آثارًا ضخمة على الناخبين في لحظتها، والناخب لا يهتم لاحقًا بمسألة التحقق فيما إذا كان المرشح قد التزم بوعوده أم لا، بل إنه ينسى ذلك تمامًا. وإن تصويت الجماهير يعبر غالبًا عن آمال العِرق وحاجياته اللاواعية.

المجالس النيابية

وهي جماهير غير متجانسة وغير مغْفَلَة، وتمثل آراءً متطرفة، فالأفراد يميلون دائمًا إلى تضخيم قيم مبادئ أحزابهم عندما ينخرطون في جمهور ما. وإن قابلية التحريض والعدوى تظل محدودة في المجالس النيابية؛ فلكلّ حزب محركوه وقادته.

“إن المجالس النيابية السياسية هي آخر محلّ في الأرض يمكن للعبقرية أن تشع فيه. فلا أهمية فيه إلا للفصاحة الخطابية المتناسبة مع الزمان والمكان، وللخدمات المقدمة للأحزاب السياسية لا للوطن. أما الجمهور العادي فيتلقى هيبة القائد المحرك ولا يدخل في سلوكه أية مصلحة شخصية ولا ينتظر جزاءً ولا شكورا”.

جوستاف لوبون

والمجالس النيابية ليست جماهيرًا بالمعنى الاصطلاحي إلا في بعض الأوقات، فأعضاؤها يحققون فردانيتهم في حالات عديدة، ولذلك يمكنها أن تصوغ قوانين ممتازة.

وعلى الرغم من صعوبات تسييرها، فإنها تمثل أفضل طريقة وجدتها الشعوب لحكم ذاتها، ولا يهددها إلا خطران:

  1. التبذير الإجباري للميزانية، وهو نتيجة لمطالب الجماهير كزيادة الرواتب والتي تتطلب فرض ضرائب جديدة.
  2. التقييد التدريجي للحريات الفردية، ويتجلّى بالنسبة لكل البلدان بسنّ عدد هائل من القوانين التشريعية، فالشعوب تقبل بفرض الإكراهات القسرية كل يوم لأنها تقع ضحية الوهم القائل بأنه كلما زدنا عدد القوانين فإن المساواة والحرية تصبحان مضمونتين أكثر.

إن دورة الحياة لشعب ما، الانتقال من حالة البربرية إلى حالة الحضارة عن طريق ملاحقة حلم ما، ثم الدخول في مرحلة الانحطاط والموت ما إن يفقد هذا الحلم قوته.

يمكنك قراءة المزيد من ملخصات الكتب من هنا.

كيف يتعلم الأطفال ضبط النفس؟

إن الحاجة إلى التحكم في الذات يُمكن أن يشعر البعض وكأنها مُضايقة في بعض الأحيان وشفقة أحيانًا أخرى، ولكن المهم والمطلوب هو تأثيرها القوي المذهل. يتعلق ضبط النفس بالقدرة على إدارة السلوكيات والعواطف للوصول إلى هدف طويل المدى.

لا يعني ذلك قطعًا أن الأطفال الذين يفتقرون إلى السيطرة على النفس، يفتقرون إلى الذكاء. أحيانًا يكون لدىأح الأفراد المتسرعون والذين يميلون إلى إلى المخاطرة نقاط قوة. وقد يصبحون مغامرين ومكتشفين وأصحاب مشاريع أو ربما مخترعين. لكن مع بعض المتاعب المتوقعة. وعلينا كأبوين أو رعاة مساعدتهم على إزالة العقبات والمتاعب من طريقهم قدرالإمكان، وتعلم الانضباط الذاتي وممارسة ضبط النفس هو أحد الأدوات السحرية في عملية التربية، لذا، يتساءل البالغون دائمًا: كيف يتعلم الأطفال ضبط النفس؟

ما هو الانضباط الذاتي لدى الأطفال؟

عُرف التحكم الذاتي بطرق عديدة مثل قوة الإرادة أو الانضباط الذاتي أو صوت الضمير الداخلي. لكن مهما كان تعريفك الخاص للانضباط الذاتي، فتظل وظيفة التحكم الذاتي هي القدرة على تنظيم نفسك وإدارة مهامك.

فالتحكم في الذات جزء من مجموعة من المهارات التي تسمح للأطفال والبالغين بإدارة أفكارهم وأفعالهم ومشاعرهم حتى يتمكنوا من إنجاز أمورهم، لذا يمنح الخبراء تلك المهارات سمة تنفيذية. فبالنسبة للأطفال، فإن تنظيم الجلوس، اللعب، مواعيد الوجبات والواجبات، وغيرها تنطوي على ممارسة التحكم والانضباط الذاتي بشكل مبسط، فهي مهارات تنمو مع الوقت.

وتقوم الرقابة الذاتية مباشرة على صنع القرار. فنقص السيطرة على النفس أثناء الطفولة المتمثل أكثر الأوقات في القليل من الطعام الممتع، أو وقت أكثر من المهام والواجبات المنزلية، مع القليل من نوبات الغضب. وعلى المدى القصي، قد تبدو الآثار المترتبة على هذه القرارات بسيطة إلى حد ما. ولكن أثناء مرحلة المراهقة، قد تكون عواقب سوء اتخاذ القرارات والافتقار إلى السيطرة على النفس وخيمة، سواء على المدى القصير أو الطويل.

ففي مرحلة المراهقة، تكون التجارب التي يتعرض إليها أطفالنا إلى حد كبير خارج أيدينا. هنا حيث يبدأون في اكتشاف من هم وأين وكيف يتلائمون مع العالم. ومستوى سيطرتهم على أنفسهم في هذه المرحلة من أهم الأمورالواجب عليهم ممارستها. لأنها ستلعب دورًا كبيرًا في اتخاذ قراراتهم وخوض تجاربهم، كذلك طريقة تطور دماغهم أثناء انتقالهم إلى مرحلة البلوغ. التحكم الذاتي في مرحلة الطفولة يؤدي إلى التحكم الذاتي في مرحلة المراهقة والذي بدوره يُهيئ دماغ طفلك للحياة.

كيف أصبح الانضباط الذاتي ضرورة؟

لقد حظيت دراسة نيوزيلندية  بإشادة دولية لضخامة بياناتها. إذ تابع الباحثون 1000 طفل منذ ولادتهم وحتى سن 32. فبدا الأطفال ذوو المستويات الأعلى من السيطرة على النفس في سن الخامسة كونهم أكثر عرضة “كبالغين” لأن يكونوا أكثر صحة وأكثر ثراء وأقل عرضة للإدمان أو الإدانة الجنائية.

من الناحية الدراسية، فإن للانضباط الذاتي أثر إيجابي على نتائج التعلم عمومًا، فهو العامل الرئيسي الذي يؤثر على المتعلم، إذا يسمح للمتعلم بتحقيق الأهداف الرئيسية.

ومن المعروف أن يميل عموم الأطفال إلى التمتع بمهارات ضعيفة في التنظيم الذاتي.

ولا يمكن إغفال وجود الكثير من التباين الفردي أيضًا. فبعض الأطفال لديهم المزيد من المشاكل في تنظيم أنفسهم، ويجدون صعوبة في ممارسة ذلك وتنظيمه.

ونعلم أن الكثير يعتمد على عمر الطفل. إذ يفتقر الأطفال الصغار إلى السيطرة الذاتية على الأطفال الأكبر سنًا. وتتطور السيطرة على النفس على مر السنين، مع حدوث بعض أكبر التغيرات بين سن 3 و 7 سنوات.

 وقد خلصت دراسة بارزة أجريت على مدى ثلاثة عقود إلى أن مستوى السيطرة على النفس لدى الأطفال البالغين من العمر خمس سنوات، هو أحد أكبر الأدلة على جودتهم الصحية والمالية، بالإضافة إلى نجاحهم كبالغين. ومعرفة كيفية زيادة السيطرة على النفس لدى الأطفال يمكن أن تساعدهم على السير على طريق يزدهرون ويتألقون فيه.

على الرغم من إشارة بعض الدراسات إلى أن الجينات تلعب دورًا في تشكيل تطور التنظيم الذاتي، إلا أنه يمكن أن يكون لدينا تأثير كبير على الطريقة التي يتصرف بها أطفالن ولكن، هل يستطيع الطفل مقاومة الإلهاءات؟ أيستطيع الإهتداء بالحافز الداخلي؟ هل يمكنه تأخير إشباع رغباته؟ أيمكنه رسم خططه المستقبلية والسير وفقًا لها؟

كيف نغرس ممارسة التنظيم الذاتي في سلوك الطفل؟

تؤكد الدراسات أن ذلك ممكن. يمكن بالفعل أن يستفيد الأطفال عندما نزيل أو نقلل الإغراءات والإلهاءات، وعندما نخلق بيئات تكافئ ضبط النفس. ويحتاج الأطفال أيضًا إلى رسائل تذكير في الوقت المناسب للبقاء على المسار الصحيح، ونصائح عملية ملموسة للبقاء على درب الدوافع، والتغلب على العقبات. وبصفتك الشخص البالغ أو المرشد في حياة طفلك، فإنك في وضع يسمح لك بتعزيز قدرتهم على النجاح وتحقيق العديد من الإنجازات في مرحلة البلوغ من خلال تعزيز قدرتهم على التحكم في الذات. فهل يمكن يمكن التدرج والوصول إلى الانضباط الذاتي عن طريق إزالة المشتتات والإلهاءات فقط؟ أم هو مسار يجب أن يسير فيه الطفل أيًا كانت المغريات؟ وكيف يمكن ذلك على أية حال؟

سنسرد لك بعض النقاط التي يمكنك من خلالها مساعدة طفلك على ممارسة تطوير التحكم في الذات:

  • اخلق الفرص لذلك دائمًا

اتاحة الفرص التي يتعين عليهم فيها أن يقرروا ما إذا كانوا سيمارسون السيطرة على أنفسهم أو يستسلمون للإغراء. مثال على ذلك، التصرف في الأموال وادخارها، مع إيضاح مستوى التقدم كل فترة.

  • وضع الحدود

توفر الحدود فرصًا لتعلم كيفية التنظيم الذاتي. فإذا لم تكن هناك حدود، إذًا من المستحيل تقريبا بالنسبة للطفل أن يعرف متى يحتاج إلى اللجوء إلى التحكم الذاتي. من المهم أن يعرفوا أين هي الحدود.

  • خلو البيئة المحيطة من الإجهاد قدر الإمكان

يعمل الإجهاد دائما على تعطيل المكابح العقلية، فالطفل في حالة التعب أو الإرهاق يفقد هدوءه، ويجد صعوبة في السيطرة على ذاته، كولي أمر عليك تقليل المشتتات ليسهل سيطرته على نفسه كطفل.

 وأشهر مثال على تلك الحالة هي المعركة القائمة بإستمرار أمام المحال التجارية أو محلات الألعاب، لا يمكنك إخفاء المحال من أمام أعينه، لكن يمكنك التحدث معه قبل الخروج، مؤكدًا له أنك متفهم أنه يريد شراء أشياء أو ألعاب لكن ليس هذا هو اليوم المناسب، وعليكما ترتيب تلك الأشياء وكتابتها سويًا في وقت لاحق، وهنا عليك الإلتزام بخطة زمنية للشراء. في تلك الحالة تكون قد جنبته الرغبة الحثيثة في الشراء هذا اليوم، وجنبته الارهاق النفسي في إقناعك بالشراء.

  • اترك له بعض المساحة

أنت أولًا وأخيرًا تتعامل مع طفل، يحب أن يشعر بالاستقلال وحرية الإرادة، فستجده لن يلتزم طول الوقت بخطه تضعها له، طالما الحدود موضوعة وواضحة، فلا قلق، فقط عدِد وضعه باستمرار في الواقف التي تُذكره بضرورة ضبط النفس والتحكم في الرغبات.

  • علمهم كيف يصرفون انتباههم (الصمود)

دائمًا ما يكون الانتظار قاسي جدًا على الأطفال، فهو يدفع الأطفال في التفكير المستمر فيما يريدون القيام به، لكن مهم جدًا تعويدهم الصمود والانتظار، وخلق المواقف لممارسة ذلك باستمرار، تعمد جعلهم يقومون بنشاط آخر بينما هم منغمسون في الانتظار، مع بعض المجهود الذهني.

  •  تعزيز وعيهم الذاتي

كلما زاد الوعي الذاتي لدى طفلك، كلما زادت سيطرته على سلوكه. ساعده على فهم الأشياء التي تميل إلى تقليل قدرته على ضبط النفس. استكشف قبله ما يحدث قبل أن يتخذ قرارات متهورة. ساعده يفهم نفسه بصدق وواقعية، هل هو يشعر بالتعب؟ هل هو إجهاد؟ أم جوع؟ ربما ملل أوقلق؟ دعه هو يجيب عن سؤاله لنفسه، فكلما زاد وعيه، كلما زاد تمكنه من الانصراف عن الأشياء التي تميل إلى إضعاف قدرته على ضبط النفس.

أخيرًا

من الطبيعي أن يحبط الأطفال أحيانًا، أو يندفعوا أحيانًا أخرى. سيجد كل طفل أسلوب لشق طريقة في العالم. وضبط النفس كبناء يُبنى بمرور الوقت، ولا هناك عجلة لهم لأن يصبحوا خبراء. فهي صفة يمكن تعزيزها مهما كانت أعمارهم. من البديهي أن يستغرق بناء الإنسان الصحي الواعي القوي وقتًا. كل ما عليك القيام به كمُرشد وموجه هو توفير الفرص التي سترعاهم بشكل جيد، وإرشادهم لكي يكونوا أفرادًا مميزين وناجحين لأنهم يستحقون منك أن تبذل المجهود لكي يُصبحوا كذلك.

المصـــــادر

pnas

ncbi

americanscientist

mackillop

kidshealth

sciencedirectassets

علم النفس الرياضياتي: أفق جديد للقرن الواحد والعشرين

علم النفس الرياضياتي: أفق جديد للقرن الواحد والعشرين

معظمنا يحب مجال علم النفس، نحب قراءته والتعمق في مختلف مواضيعه، لأنه يلمس إحدى جوانب حياتنا اليومية. قد تساعدنا قراءة مقال ما في علم النفس على فهم أنفسنا بشكل جيد أو حتى في حل مشكلة حياتية متكررة.
بعضنا الآخر يحب الرياضيات. ويحب فهم المعادلات والأنظمة الحسابية وعلاقة المتغيرات ببعضها البعض. بعض الأشخاص يصرحون بأن سبب حبهم لممارسة الرياضيات هو أنها تمثل نهجًا جيدًا وواضحًا لفهم وتفسير العالم. فالرياضيات بكل بساطة تمثل الأبعاد الحياتية المختلفة كالأعداد مثلًا أو المساحات برموز يمكن كتابتها وتمثيلها ووضعها في معادلات واضحة وبالتالي سهولة معالجتها.
ولذلك السبب يتم تطبيق وممارسة النهج الرياضي في العديد من مجالات العلم وأشهرها الفيزياء.

ولكن هل تساءلت من قبل عن إمكانية تطبيق ذلك النهج في علم النفس؟ هل من الممكن استخدام وتطبيق المعادلات الرياضية في النظريات التي تصف السلوك البشري؟

الإجابة هي نعم. وهذا ما يعرف ب«علم النفس الرياضياتي-mathematical psychology»

ماهو «علم النفس الرياضياتي-mathematical psychology»

علم النفس الرياضياتي أو علم النفس الحسابي هو نهج في علم النفس قائم على استخدام وتطبيق المعادلات والمفاهيم الرياضية في تناول النظريات في علم النفس. عن طريق بناء نماذج حسابية لقياس العمليات الإدراكية والفكرية والمعرفية والحركية. يهتم أيضًا بوضع القوانين الحسابية التي تربط العلاقة بين التحفيز والسلوك. [1]

لا يتم اعتبار علم النفس الرياضياتي فرع مستقل من علم النفس ولكنه بالأحرى “نهج” يُستخدم من قبل عالم النفس في مجال دراسته. ويمكن تطبيق نهج علم النفس الحسابي في الكثير من فروع علم النفس. [2]

يتم استخدام النهج الرياضي بهدف استنباط فرضيات أكثر دقة وبالتالي يسفر عن عمليات تحقق تجريبية أكثر صرامة. يوجد خمسة مجالات بحث رئيسية في علم النفس الرياضي: التعلم والذاكرة ، والإدراك والفيزياء النفسية ، والاختيار وصنع القرار ، واللغة والتفكير ، والقياس والتوسع.

وكما أشرنا مسبقًا، أن النجاح الذي حققه النهج الرياضي في علم الفيزياء أدى إلى محاولات تطبيقه أيضًا في علم النفس على أمل محاكاة هذا النجاح.

تُستخدم الرياضيات في علم النفس على نطاق واسع تقريبًا في مجالين: أحدهما هو النمذجة الرياضية للنظريات النفسية والظواهر التجريبية، مما يؤدي إلى علم النفس الرياضي. والآخر هو النهج الإحصائي لممارسات القياس الكمي في علم النفس، مما يؤدي إلى القياس النفسي أو ما يعرف بpsychometrics.

كيف يسير نهج علم النفس الرياضياتي

يبدأ عالم النفس الحسابي عادةً بتدارس الظاهرة النفسية وتركيباتها الأساسية التي يرغب في بناء نموذج رياضي لها. حيث أن ذلك النموذج الرياضي هو عبارة عن مجموعة من الهياكل الرياضية التي تشمل المتغيرات والمعادلات الممثلين للظاهرة النفسية.
لذلك، فقياس المتغيرات المتعلقة بالظاهرة النفسية أمر حاسم لبناء النموذج الرياضي.

تحديات

لذلك من أكبر تحديات علم النفس الحسابي هو قياس متغيرات الظاهرة النفسية. لأنه يوجد الكثير من العمليات النفسية المعقدة التي يصعب قياس متغيراتها. فالمجالات مثل الرؤية، والتعلم والذاكرة، والحكم واتخاذ القرار، كثيرًا ما تتمتع بسهولة قياس متغيراتها
مثل الدقة ووقت الاستجابة، ولذلك يسهل تناولها بالتفكير الرياضي وتتمتع بنسبة أكبر من علماء النفس الرياضيين مقارنةً بالمجالات الأخرى. أما العمليات المعقدة مثل سلوك الخلايا العصبية، أو تدفق المعلومات عبر المسارات البصرية، أو تراكم الأدلة في عملية اتخاذ القرار، أو إنتاج اللغة وتطويرها فتمثل حملًا شاقًا لعلماء النفس الحسابيين.

مصادر:

[1] Wikipedia
[2] ResearchGate

ما هي المشاعر؟ وكيف نشعر بها؟

تتحكم المشاعر بحياتنا أغلب الوقت، لدينا دائمًا هذا الصراع مع عواطفنا التي تتحكم بمزاجنا وإنتاجيتنا، نختبر جميع أنواع المشاعر في يومنا العادي ولكن من الصعب جدًا تفسير سبب هذه المشاعر التي تحدث في نفس اللحظة.

هناك الكثير من الخلاف حول ماهية المشاعر وكيفية دراستها، لذلك يدخل في دراستها العديد من مجالات البحث مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان وعلم الأعصاب. على الرغم من هذا لم يتوصل الباحثون إلى اتفاق حول هذه التركيبة الغريبة!

فما هي المشاعر من وجهة نظر فلسفية؟ ولماذا نشعر بها؟

ما هي المشاعر؟

لا يوجد توافق في الآراء في الكتابات حول تعريف المشاعر. إن هذا المصطلح يعتبر مسلماً به في حد ذاته، وفي أغلب الأحيان يتم تعريف المشاعر بالإشارة إلى قائمة: الغضب، والاشمئزاز، والخوف، والفرح، والحزن، والمفاجأة. حيث أن وصف حدوث المشاعر غير كافٍ للتعبير عما نشعر به بالضبط.

تفترض معظم التفسيرات العلمي أن المشاعر مثل أي حالة عقلية أخرى تدعمها العمليات الجسدية في الدماغ أو الجسم وبالتالي يمكن تفسيرها تفسيرًا ماديًا، حيث تعرف العاطفة على أنها رد فعل معقد يتضمن عناصر تجريبية وسلوكية وفسيولوجية.

العواطف هي كيفية تعامل الأفراد مع الأمور أو المواقف التي يجدونها ذات أهمية شخصية. إن التجارب العاطفية تشتمل على ثلاثة مكونات: التجربة الذاتية ، والاستجابة الفسيولوجية ، والاستجابة السلوكية أو التعبيرية..

1. التجربة الذاتية

تبدأ كل المشاعر لدينا بتجربة ذاتية، يشار إليها أيضا على أنها حافز، ولكن ما معنى هذا؟ 
في حين أن المشاعر الأساسية يعبر عنها جميع الأفراد بغض النظر عن الثقافة أو التنشئة، فإن التجربة التي تنتج عنهم يمكن أن تكون ذاتية إلى حد كبير.

الخبرات الذاتية يمكن أن تتراوح من شيء بسيط مثل رؤية لون إلى شيء معقد وكبير مثل الزواج أو فقد شخص عزيز، بغض النظر عن مدى قوة التجربة، يمكن أن تثير العديد من المشاعر في فرد واحد وقد تكون المشاعر مختلفة من فرد إلى آخر. على سبيل المثال، قد يشعر شخص ما بالغضب والندم لفقدان شخص محبوب بينما يشعر شخص آخر بحزن شديد.

2. الاستجابات الفسيولوجية

جميعنا نعرف كيف يخفق القلب بسرعة عند الخوف، هذه الاستجابة الفسيولوجية هي نتيجة رد فعل الجهاز العصبي الذاتي تجاه المشاعر التي نعاني منها. حيث يتحكم الجهاز العصبي الذاتي في استجاباتنا الجسدية غير الطوعية وينظم استجابتنا للقتال.

وفقًا للعديد من علماء النفس، من المحتمل أن تكون استجاباتنا الفسيولوجية قد ساعدتنا على التطور والبقاء على قيد الحياة كبشر عبر التاريخ.

من المثير للاهتمام، أن الدراسات أظهرت أن الاستجابات الفسيولوجية المستقلة تكون أقوى عندما تكون تعابير وجه الشخص مشابهة للحالة الشعورية التي يعيشها. وبعبارة أخرى ، فإن تعابير الوجه تلعب دورًا هامًا في الاستجابة للعاطفة بالمعنى المادي.

3. الاستجابات السلوكية

تعتبر الاستجابة السلوكية هي التعبير الفعلي عن العاطفة. يمكن أن تشمل الاستجابات السلوكية ابتسامة أو عبوس أو ضحكة أو تنهيدة، جنبًا إلى جنب مع العديد من ردود الفعل الأخرى اعتمادًا على المعايير الاجتماعية والشخصية.

في حين تشير الأبحاث الوافرة إلى أن العديد من أشكال التعبير عن الوجه عالمية ومشتركة بين البشر جميعًا، مثل العبوس للإشارة إلى الحزن، إلا أن المعايير الاجتماعية الثقافية والتربية الفردية تلعب أيضًا دورًا في استجاباتنا السلوكية. على سبيل المثال، كيفية التعبير عن الحب تختلف من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى.

الاستجابات السلوكية مهمة لتوضيح مشاعرنا للآخرين، ولكن تظهر الأبحاث أنها مهمة أيضًا لتحقيق الراحة النفسية للأفراد، حيث وجدت دراسة في مجلة علم النفس غير الطبيعي أنه أثناء مشاهدة الأفلام العاطفية السلبية والإيجابية، كان لقمع الاستجابات السلوكية للمشاعر تأثيرات جسدية على المشاركين، وتضمنت الآثار ارتفاع معدل ضربات القلب.

وهذا يشير إلى أن التعبير عن الاستجابات السلوكية للمحفزات الإيجابية والسلبية على حد سواء، هو أفضل لصحتك العامة من إخفاء تلك الاستجابات داخلك. لذلك، هناك الكثير من الفوائد للابتسام والضحك والتعبير عن المشاعر السلبية بطريقة صحية.

توضح الاستجابات الفسيولوجية والسلوكية المرتبطة بالمشاعر أن العاطفة أكثر من كونها حالة عقلية . بل تؤثر العاطفة على سلوكنا وصحتنا. فضلاً عن ذلك فإن قدرتنا على فهم استجابات الآخرين السلوكية تلعب دوراً ضخماً في ذكائنا العاطفي.

المشاعر وعلم النفس

يعود تاريخ النظريات والفرضيات حول العواطف إلى قرون مضت. والواقع أن العواطف الأساسية أو الأولية ترد في «كتاب الحقوق-Book of Rites»، وهو موسوعة صينية من القرن الأول.
إن تحديد وقياس العاطفة أصعب بكثير من العديد من الاستجابات البشرية الأخرى. أجريت الكثير من الدراسات في علم النفس العاطفي التي تتعلق بالمشاعر الأساسية، واستجاباتنا النفسية والسلوكية، ودور الذكاء العاطفي في حياتنا.

المشاعر الأساسية والمعقدة

تنقسم المشاعر في علم النفس العاطفي إلى مجموعتين: أساسية ومعقدة. حيث ترتبط المشاعر الأساسية مع تعابير الوجه المعترف بها وتميل إلى أن تحدث تلقائيًا. كان تشارلز داروين أول من اقترح أن تعابير الوجه الناتجة عن العاطفة عالمية ويشعر بها عامة الناس. كان هذا الاقتراح فكرة محورية لنظريته في التطور، مما يعني ضمنًا أن العواطف وتعبيراتها كانت بيولوجية وقابلة للتكيف. في الواقع، لاحظ الباحثون وجود المشاعر عند الحيوانات، مما يشير إلى أنها محورية للبقاء على قيد الحياة في الأنواع الأخرى أيضًا. ومن المرجح أن تكون العواطف الأساسية قد لعبت دورًا في بقائنا على قيد الحياة طوال التطور البشري.

حدد عالم النفس العاطفي بول إيكمان ستة عواطف أساسية يمكن تفسيرها من خلال تعابير الوجه. وشملت السعادة والحزن والخوف والغضب والمفاجأة والاشمئزاز. ووسع القائمة في عام 1999 لتشمل أيضا الإحراج والإثارة والازدراء والخزي والفخر والرضا والتسلية، رغم أن هذه الإضافات لم يتم تكييفها على نطاق واسع.

قائمة بالمشاعر الأساسية الستة

1. الحزن
2. السعادة
3. الخوف
4. الغضب
5. المفاجأة
6. الاشمئزاز

في ثمانينيات القرن العشرين، حدد عالم النفس «روبرت بلوتشيك-Robert Plutchik» ثماني عواطف أساسية جمعها في أزواج من المتناقضات، بما في ذلك الفرح والحزن، والغضب والخوف، والثقة والاشمئزاز، والمفاجأة والتوقع. يعرف هذا التصنيف بعجلة المشاعر ويمكن مقارنته بعجلة الألوان من حيث أن بعض العواطف المختلطة معًا يمكن أن تخلق عواطف معقدة جديدة.

في الآونة الأخيرة، وجدت دراسة جديدة من معهد علم الأعصاب وعلم النفس في جامعة غلاسكو في عام 2014 أنه بدلًا من ستة، قد يكون هناك فقط أربع عواطف أساسية يمكن التعرف عليها بسهولة. واكتشفت الدراسة أن الغضب والاشمئزاز يتشابهان في تعابير الوجه، وكذلك المفاجأة والخوف. ويشير هذا إلى أن الاختلافات بين تلك المشاعر قائمة على أساس اجتماعي وليس على أساس بيولوجي. وعلى الرغم من كل البحوث والتكيفات المتضاربة، فإن معظم البحوث تعترف بوجود مجموعة من العواطف الأساسية العالمية ذات السمات الوجودية المعترف بها.

هناك ظواهر مختلفة للمشاعر المعقدة وقد لا يكون من السهل التعرف عليها، مثل الحزن أو الغيرة أو الندم. وتعرف العواطف المعقدة بأنها “مجموع اثنين أو أكثر من العواطف الأخرى”. ويستخدم (APA) مثالًا على أن الكراهية هي اندماج في الخوف والغضب والاشمئزاز. والمشاعر الأساسية، من ناحية أخرى، غير ثابتة وفطرية. وتشمل العواطف المعقدة الأخرى الحب، والإحراج، والحسد، والامتنان، والذنب، والكبرياء، والقلق، من بين العديد من المشاعر الأخرى.

تختلف العواطف المعقدة اختلافًا كبيرًا في كيفية ظهورها على وجه الشخص وليس لديها تعابير يمكن التعرف عليها بسهولة. الحزن يبدو مختلفًا تمامًا بين الثقافات والأفراد. بعض المشاعر المعقدة، مثل الغيرة، قد لا يكون لها أي تعبير الوجه المصاحب على الإطلاق.

ما هي نظريات المشاعر؟

فهمنا سابقًا أن العاطفة متعددة الأوجه وقابلة للنقاش. وهكذا، فإن العديد من نظريات المشاعر موجودة. وفي حين تدحض بعض النظريات نظريات أخرى بشكل مباشر، فإن العديد منها يبني على الآخر. هذه بعض النظريات الشائعة عن علم النفس العاطفي التي ساعدت في تشكيل المجال وما هي نظرة البشر للمشاعر.

1.«نظرية جيمس لانج-James-Lange Theory»

نظرية جيمس لانج للمشاعر هي واحدة من أوائل نظريات المشاعر في علم النفس الحديث. وتفترض النظرية التي وضعها ويليام جيمس وكارل لانج في القرن التاسع عشر، أن المحفزات الفسيولوجية (المثيرة) تتسبب في رد فعل الجهاز العصبي الذاتي الذي يدفع الأفراد بدوره إلى تجربة المشاعر. يمكن لردود أفعال الجهاز العصبي أن تتضمن نبضات قلب سريعة، عضلات مضغوطة، عرق وغيرها. وفقًا لهذه النظرية، تأتي الاستجابة الفسيولوجية قبل السلوك العاطفي. مع مرور الوقت، تم تحدي نظرية جيمس لانج، وكذلك توسعت في نظريات أخرى، مما يشير إلى أن العاطفة هي مزيج من الاستجابة الفسيولوجية والنفسية.

2. «نظرية ردود الفعل الوجودية-Facial-Feedback Theory»

تشير نظرية ردود الفعل الوجودية للمشاعر إلى أن تعابير الوجه هي أمر بالغ الأهمية في ممارسة المشاعر. ترتبط هذه النظرية بعمل تشارلز داروين وويليام جيمس الذي افترض أن تعابير الوجه تؤثر على العاطفة على عكس كونها استجابة لعاطفة. تقول هذه النظرية أن المشاعر مرتبطة مباشرة بالتغيرات الجسدية في عضلات الوجه. وهكذا، سيكون الشخص الذي أجبر نفسه على الابتسام أكثر سعادة من شخص تظاهر بالعبوس المزيف.

3.«نظرية كانون-بارد-Cannon-Bard Theory»

طورها والتر كانون وفيليب بارد في عشرينيات القرن العشرين، تم تطوير نظرية كانون-بارد للمشاعر لدحض نظرية جيمس لانج. تفترض هذه النظرية أن التغيرات الجسدية والمشاعر تحدث في وقت واحد بدلًا من واحد بعد الآخر. هذه النظرية مدعومة بعلم الأحياء العصبية الذي يقول أنه بمجرد اكتشاف الحدث المحفز ، يتم نقل المعلومات إلى كل من اللوزة الدماغية وقشرة الدماغ في نفس الوقت. إذا كان هذا صحيحًا، فالشهوة والعاطفة هما حدث واحد في نفس الوقت.

4. «نظرية شاختر-سينغر-Schachter-Singer»

تقدم هذه النظرية التي طورها ستانلي شاختر وجيروم إي سينجر عنصر المنطق في عملية العاطفة. النظرية تفترض أننا عندما نعاني من حدث ما فإنه يسبب إثارة فيزيولوجية، وعندما نحاول إيجاد سبب للإثارة عندها، نختبر العاطفة.

5. «نظرية التقييم المعرفي-Cognitive Appraisal Theory»

كان ريتشارد لازاروس رائد نظرية التقييم المعرفي، ووفقًا لهذه النظرية يجب أن يحدث التفكير قبل التعرض للمشاعر. وهكذا ، فإن الشخص يختبر أولًا تجربة التحفيز، والتفكير، ومن ثم سيختبر في ذات الوقت تجربة الاستجابة الفسيولوجية والمشاعر.

هذه النظريات ليست الوحيدة الموجودة للمشاعر، لكنها تقدم أمثلة عظيمة عن أن الأفكار والمشاعر وُجدت مختلفة بعضها عن بعض. ما تشترك فيه كل نظريات العاطفة هو فكرة أن العاطفة تقوم على نوع من التحفيز الذاتي أو الخبرة الشخصية، مما يحفز على رد فعل بيولوجي ونفسي.

بماذا يفيدنا فهم مشاعرنا؟

كما ناقشنا سابقًا، ساعدت المشاعر البشر على التطور والبقاء على قيد الحياة. وفقًا لإيكمان الذي طور عجلة العاطفة “سيكون خطيرًا جدًا إذا لم يكن لدينا عواطف. كما أنها ستكون حياة مملة جدًا. لأنه في الأساس، مشاعرنا هي التي تدفعنا نحو الإثارة، والمتعة، حتى الغضب “. لهذا السبب من المهم أن نكون قادرين على فهم المشاعر، كما أنها تلعب دورًا مهم في تصرفاتنا.

يجادل (إيكمان) بأن المشاعر بناءة بشكل أساسي. وهي متأثرة بما هو مفيد لجنسنا بشكل عام وما تعلمناه أثناء تربيتنا. إنها توجه سلوكنا بطريقة تقودنا إلى نتيجة إيجابية. ومع ذلك، يمكن أن تصبح العواطف مدمرة إذا كانت العواطف اللاواعية تسبب ردود فعل لسنا قادرين على فهمها.

طالما أنك تفهم ماهية مشاعرك وتحوّل ما فهمته عنها إلى أفعال، يعني أنك تقوم بما يسمى بالوعي العاطفي. ويطلق على قدرة القيام بذلك مع الآخرين أيضًا باسم الذكاء العاطفي.

ما هو الذكاء العاطفي؟

الذكاء العاطفي هو القدرة على الإدراك والتحكم وتقييم المشاعر. اُقترح هذا المصطلح لأول مرة الباحثين بيتر سالوفي وجون دي ماير ووجد شعبية من خلال كتاب دان جولمان عام 1996م. يعرّف هذا الكتاب الذكاء العاطفي بأنه القدرة على التعرف على عواطفنا وفهمها وإدارتها، فضلًا عن التعرف على عواطف الآخرين وفهمها والتأثير عليها.

اكتسبت دراسة الذكاء العاطفي شعبية كبيرة منذ منتصف التسعينات، خصوصًا بين المهنيين في مجال الأعمال التجارية، ومدربي العلاقات، وكثر استخدام المصطلح لتشجيع الآخرين على تحسين حياتهم. يعتقد العديد من الباحثين أن الذكاء العاطفي يمكن تحسينه مع مرور الوقت، بينما يجادل البعض الآخر بأنها صفة ولدنا بها أو بدونها.

ماذا تشمل مكونات الذكاء العاطفي؟

  • تقييم المشاعر والتعبير عنها سواء كانت مشاعرنا أو مشاعر الآخرين من حولنا: تعني التعرف على المشاعر أو التعبير عنها بشكل لفظي أو غير لفظي.
  • تعلم تنظيم العواطف في النفس وإدارتها: حيث يتم تحفيز كافة الأطراف نحو نتائج إيجابية.
  • استخدام العواطف بطرق تكيفية: حيث أن تعلم كيفية استخدام العواطف وتفسيرها يقود إلى تحقيق نتائج إيجابية.

ينفتح أصحاب الذكاء عاطفي على تجارب عاطفية إيجابية وسلبية، يعرفون المشاعر ويوصلونها إلى الآخر بشكل مناسب. كما يمكن للناس ذوي الذكاء العاطفي استخدام فهمهم لعواطفهم وعواطف الآخرين كدافع نحو النمو الشخصي والاجتماعي،

أما أصحاب الذكاء العاطفي المنخفض قد لا يستطيعون فهم عواطفهم والسيطرة عليها أو على عواطف الآخرين. وهذا يمكن أن يُشعر الآخرين بالسوء عندما يجدون أن أفعالهم وتعبيراتهم غير مفهومة.

من الواضح أن هناك فوائد شخصية ومهنية لتحسين ذكائك العاطفي. وفي فوربس، تناول «شايد مينغ تان-Chade-Meng Tan» فوائد تحسين الذكاء العاطفي، كما أشار إلى أن الذكاء العاطفي المرتفع يرتبط بأداء أفضل في العمل، ويجعل الناس قادة أفضل، ويهيئ الظروف للسعادة الشخصية. وقال: “هناك أيضاً فوائد شخصية مقنعة، وتظهر أبسط هذه الفوائد في ثلاث صفات بالشخصية وهي الهدوء ووضوح العقل، والمرونة، كما ستكون العلاقات عند الأشخاص الذين يملكون ذكاء عاطفي أكثر إرضاءً”.

يلعب الذكاء العاطفي دورًا في النجاح الشامل يشبه إلى حدٍ كبير الذكاء التقليدي. في الواقع، يجادل بعض الباحثين على أنها تلعب دورًا أكبر. قدم عالم النفس دانيال جولمان في كتابه “الذكاء العاطفي: ما الذي قد يهم أكثر من معدل الذكاء”  فكرة أن معدل الذكاء العاطفي أشبه بكثير بمعدل الذكاء التقليدي، فإن معدل الذكاء هو مقياس لإثبات الذكاء العاطفي عند الأفراد. ويجادل غولمان بأن معدل الذكاء العاطفي يساوي ضعف معدل الذكاء والمهارات التقنية مجتمعة عندما يتعلق الأمر بالنجاح.

وسواء كان ذلك صحيحا أم لا فهو أمر قابل للنقاش بالتأكيد، ولكن الذكاء العاطفي قد خدم البشر بشكل جيد طوال تطورنا وتاريخنا. كما أنه لعب دورًا قبل فترة طويلة من تحديده رسميًا.

ما هو مستقبل علم النفس العاطفي؟

لقد تم بالفعل إجراء العديد من الدراسات والبحوث القوية حول المشاعر، لذلك فإن مجال علم النفس العاطفي لديه بلا شك مستقبل مثير بدءًا بالذكاء الاصطناعي إلى التحديات الجديدة انتهاءً بالنظريات الراسخة، لا يوجد تفسير لما سيكون عليه فهمنا للبشر واستجاباتهم العاطفية في المستقبل.[1]

ولنختم بإنفوجراف مُبسط عن نظريات المشاعر وفوائدها.

ما هي المشاعر وكيف نشعر بها؟


المصادر:
UWA

جنوح الأحداث ودور الوالدين .. نظرة عامة

ينطبق مصطلح جنوح الأحداث على انتهاك القانون الجنائي وأنماط معينة من السلوك غير المعتمدة للأطفال والمراهقين الصغار. جنوح الأحداث ينطوي على فعل خاطئ من قبل طفل أو شاب دون سن يحددها القانون. الجانح الأحداث هو الشخص الذي هو أقل من 16 عاما في حالة الأولاد و 18 عاما في حالة الفتيات الذين يغمسون أنفسهم في الأنشطة المعادية للمجتمع. فما هو جنوح الأحداث و ما هو دور الوالدين إليك نظرة عامة.

يمكن أن تصنف السلوكيات على أنها جنوح فردي. إذ يشارك فيه فرد واحد فقط ويتتبع سبب الفعل الجانح إلى الجانح الفردي. كما يمكن أن يكون الانحراف مدعومًا من مجموعة، فهو فعل  يرتكب في الرفقة ولا يعزى السبب إلى شخصية الأفراد بل إلى ثقافة منزل الفرد وجواره.

العوامل المؤثرة على تطوير السلوك الجانح

يصل العديد من الأطفال إلى مرحلة البلوغ دون تورطهم في سلوك جنوح خطير، حتى في مواجهة مخاطر متعددة. وعلى الرغم من أن عوامل الخطر قد تساعد في تحديد الأطفال الأكثر احتياجا إلى التدخلات الوقائية. فإنها لا تستطيع تحديد الأطفال المعينين الذين سيصبحون مجرمين خطرين أو مزمنين. من المعروف منذ فترة طويلة أن معظم المجرمين البالغين كانوا متورطين في السلوك الجانح كأطفال ومراهقين.

تركز النظريات الاجتماعية لجنوح الأحداث على البيئة والهياكل الاجتماعية وعملية التعلم. ومع ذلك، من المتفق عليه عمومًا أن عددًا من العوامل التي تلعب دورًا مهما في سلوك الشاب الجانح، يمكن تقسيمها إلى مجموعتين، العوامل الفردية والعوامل الظرفية.

وقد ارتبط عدد كبير من العوامل والخصائص الفردية بتطور جنوح الأحداث. وتشمل هذه العوامل الفردية العمر والجنس والمضاعفات أثناء الحمل والولادة والاندفاع والعدوانية وتعاطي المخدرات. بعض العوامل تعمل قبل الولادة (قبل الولادة) أو قريبة من وأثناء وبعد فترة وجيزة من الولادة (الفترة المحيطة بالولادة). يمكن تحديد بعضها في مرحلة الطفولة المبكرة؛ وعوامل أخرى قد لا تكون واضحة حتى مرحلة الطفولة المتأخرة أو خلال فترة المراهقة. ولكي نقدر تماما تطور هذه الخصائص الفردية وعلاقاتها بالجنوح، يحتاج المرء إلى دراسة تطور الفرد في التفاعل مع البيئة. من أجل تبسيط عرض البحث، ومع ذلك، فإن هذا القسم يتعامل فقط مع العوامل الفردية.

كما أن العوامل السببية للجنوح متنوعة وعديدة، وكذلك التعريفات. يعرف علماء الاجتماع الانحراف على أنه أي سلوك يعرفه أعضاء المجموعة الاجتماعية على أنه ينتهك معاييرهم. ينطبق هذا المفهوم على كل من الأعمال الإجرامية للانحراف. وكذلك على الأعمال غير الإجرامية التي ينظر إليها أعضاء المجموعة على أنها غير أخلاقية أو غريبة أو مريضة أو غير ذلك خارج حدود الاحترام.

مفهوم السلوك الجانح

يقتصر مفهوم السلوك الجانح على انتهاك قوانين العقوبات العادية للبلد التي يقوم بها الأولاد أو الفتيات حتى سن الثامنة عشرة.

فتحظر قوانين الدولة نوعين من السلوك للأحداث: الأول يشمل السلوك الإجرامي للبالغين. على سبيل المثال، القتل والاغتصاب والاحتيال والسطو والسرقة، إلخ.. والثاني يشمل جرائم الوضع مثل الهروب من المنزل, التغيب عن المدرسة الجامحة أو غير الخاضعة للحكم, إلخ.

ويميل الدور المميز للأطفال والمراهقين في الأسر وترابطهم مع أفراد الأسرة إلى أن يستمر لفترة أطول. يلعب الآباء الدور الرئيسي في التنشئة الاجتماعية لأطفالهم. أيضًا يواجه المراهقون مشاكل مختلفة مثل جنوح الأحداث، وتعاطي الكحول والمخدرات، والأمية، والهروب من المدارس، والعنف الأسري. بين المراهقين، ارتبطت المراهقة المبكرة (الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و 15 عاما) بمستويات أعلى من الصراع مع الوالدين.

فترة المراهقة والسلوك الجانح

وقد تتحول العلاقات بين المراهقين والوالدين بشكل كبير خلال هذه الفترة، وجدت الأبحاث أن تضارب جودة العلاقات بين الوالدين والمراهقين يؤدي إلى سوء تعديل المراهقين. يرتبط سلوك المراهقين المنحرف عن المعايير الاجتماعية أيضا بعلاقة الوالدين

 بالمراهقين. فأشارت دراسة إلى أهمية دور الأسرة في مثل هذا الموضوع. فهي تلعب الأسرة والعلاقات بين أفرادها دورًا كبيرًا ومؤثرًا على سلوك الجانح من خلال ثلاثة عوامل رئيسية هي:

  • التوجيه الأبوي
  • مشاركة الوالدين
  • التعلق الأبوي

تلك هي ثلاثة عوامل لها آثارها على سلوك الجانح. في هذه الدراسة، أجريت محاولة استكشاف علاقات الوالدين للمراهقين من منظور المراهقة. ومدى ارتباط الوالدين بالمراهقين؛ وجهات نظر المراهقين نحو التوجيه الأبوي؛ تصور المراهقين حول الرقابة الأبوية؛ ونوع التواصل بين المراهق والوالد من منظور العلاقة.

جنوح الأحداث ودور الوالدين

الجنوح مشكلة عالمية وينظر إليها في جميع أنحاء العالم دون استثناءات لأي ثقافات أو ديانات محددة. عمومًا، يشير الجنوح إلى الأعمال غير القانونية، سواء كانت إجرامية أم لا، التي يرتكبها الشباب دون سن 18 عاما. طور مصطلح جنوح الأحداث رسميًا في الولايات المتحدة في عام 1899. عندما سن أول قانون لجنوح الأحداث في شيكاغو، إلينوى قد تؤثر العائلة على سلوك الشخص إما سلبًا أو إيجابًا سواء في مرحلة الطفولة والبلوغ. يمكن القول أن الأسرة السليمة هي اتحاد فعال بين الأم والأب. لذلك عندما يكون هناك انفصال, قد يؤثر الاضطراب على الطفل إلى حد كبير. الأسرة العاملة مفيدة للطفل أكثر من الأسرة المغايرة. ففصل الأسرة يعد مساهمًا كبيرًا في إهمال الأطفال مما يؤدي بشكل عام إلى سلوك الطفل المنحرف. على سبيل المثال ، ترك المنازل والمدمنين على الرذائل وما شابه ذلك من إهمال الوالدين والأسرة، وعدم الإشراف والتوجيه.

إذا نظرنا إلى السلوك الجانح من منظور اضطراب السلوك، فإنه يشمل بُعدين واسعين: الاستيعاب الداخلي والخارجي. فتوجه الاضطرابات الداخلية إلى الداخل وتتضمن عجزا سلوكيا، مثل الانسحاب والعزلة والاكتئاب. من ناحية أخرى، يتم توجيه الاضطرابات الخارجية إلى الخارج وتنطوي على تجاوزات سلوكية، مثل إزعاج الآخرين العدوان اللفظي والجسدي، وأعمال العنف.

بالنسبة للعديد من الشباب اليوم، يتم تحدي الأنماط التقليدية التي توجه العلاقات والتحولات بين الأسرة والمدرسة والعمل. العلاقات الاجتماعية التي تضمن عملية سلسة للتنشئة الاجتماعية تنهار؛ أصبحت مسارات نمط الحياة أكثر تنوعًا وأقل قابلية للتنبؤ.

 إن إعادة هيكلة سوق العمل، وتوسيع فجوة النضج (فترة اعتماد الشباب على الأسرة). ويمكن القول إن الفرص محدودة لتصبح راشدًا مستقلاً هي تغييرات تؤثر على العلاقات مع العائلة والأصدقاء، والفرص والخيارات التعليمية، والمشاركة في سوق العمل، والأنشطة الترفيهية وأنماط الحياة.

 في العديد من الثقافات، كان ينظر إلى الأسرة على أنها المؤسسة الاجتماعية المركزية المسؤولة عن غرس مجموعة من المعايير والقيم والمعتقدات والمثل العليا في الشباب. قد يؤدي فشل الأسر في إنجاز هذه المهمة إلى عواقب وخيمة على الفرد وكذلك على المجتمع ككل.

العلاقة بين الأسر والجنوح

درس الباحثون العلاقة بين الأسر و الجنوح. فيما يتعلق بمشاركة الوالدين، تظهر بعض الدراسات أن المزيد من الوقت الذي يقضيه مع الوالدين يؤدي إلى مشاركة أقل في الجريمة والانحراف.

كلما زاد وقت الفراغ الذي يقضيه المراهق مع والديه، قل احتمال انحراف المراهق. قد لا يكون العديد من الأطفال الذين يعانون من الطلاق أو غير ذلك في أسر غير تقليدية أقرب إلى والديهم مثل الأطفال في عائلتين من الوالدين.

قد يعانون من ضعف الروابط مع والديهم وغيرهم، مما يزيد من احتمال مشاركتهم في الجريمة والانحراف.

إذا كان الطفل يعيش في بنية أسرية غير تقليدية، فقد يؤثر ذلك على العناصرالأربعة السابق ذكرها

الأسر غير الواعية، غير المقتدرة تفشل في توفير المرفقات التي يمكن أن تعزز الأطفال في أنماط الحياة الاجتماعية. إذا نشأ الطفل في منزل مفكك مليء بالاحتياجات غير المستجابة. سيواجه الطفل به وقتًا عصيبًا اجتماعيًا وقد يتسبب ذلك في تحول وانغماس الطفل في أعمال منحرفة.

من ناحية أخرى، اجتمع غالبية الباحثون على أنه يجب أن تكون هناك علاقة جيدة بين الأم والطفل حتى تتطور ثقته بنفسه ويبتعد عن عادات وسلوكيات الغضب والانحراف. إذا طور الطفل الغضب وعدم الثقة دون وعي وتوجيه، يصبح الطفل دون ضمير ويتصرف في اي اتجاه معادي لقيم المجتمع وقوانينه.

الجنوح بين الأسرة والمراهق

هناك فرضيتين متطرفين تحددان الأدوار المختلفة للأقران في تطوير السلوك العدواني والمعادي للمجتمع للطفل الجانح، وهناك بعض الخصائص الفردية التي تؤدي إلى الجنوح. العائلة مهمة طوال فترة المراهقة المبكرة. خلال مرحلة المراهقة المبكرة، من المرجح أن تؤدي التحولات التنموية إلى تغييرات في احتياجات المراهقين داخل الأسرة.

عند النظر في تطور المراهق، فإن نوعية العلاقات بين الوالدين والمراهقين أمر حيوي، أوضح تقارب العلاقات بين الوالدين والمراهقين التأثير المفيد للسيطرة الموثوقة. كما أن جودة العلاقات بين الوالدين والمراهقين تفسر السلوك المعادي للمجتمع للمراهقين.

اختلاف التأثير على الذكور والإناث

ويُنظر إلى جودة العلاقات على أنها مجموعة من المواقف تجاه الطفل التي يتم توصيلها للطفل في التاريخ الطويل للعلاقات. وأن الجودة السلبية للعلاقات بين المراهقين وأولياء أمورهم مرتبطة بمستويات أعلى من المشاكل الخارجية، مثل إزعاج الآخرين، والعدوان اللفظي والجسدي، وأعمال العنف،..

وقد وجدت الأبحاث أن العلاقات بين المراهقين الذين يعانون من السلوك المعادي للمجتمع وأولياء أمورهم، تتميز بعدم وجود روابط عاطفية بين الآباء والمراهقين.

عدم الاستقرار الأسري، ونقص التماسك الأسري، ونقص العلاقات الجيدة بين الوالدين والأطفال على سبيل المثال، كلها أسباب تؤدى إلى تعاطي المخدرات للمراهقين. غالبية الجرائم الجنائية للمراهقين يرتكبها الذكور.

هذا التمثيل المفرط للذكور في جنوح الأحداث هو واحد من أكثر النتائج قوة واستقرارًا في الأدبيات. بدءا من مرحلة الطفولة اللاحقة، يظهر الأولاد معدلات أعلى من مشاكل السلوك مقارنة بالفتيات.

قد تشارك الفتيات في أنشطة إجرامية، لكن الأولاد يرتكبون جرائم أكثر خطورة مثل الاعتداء المشدد والسرقة والقتل.

ومع ذلك، تظهر الفتيات ميلا نحو العدوان غير المباشر واللفظي. تقيد بعض البيئات بعض الاستجابات السلوكية للمراهقين، بينما تميل البيئات الأخرى إلى تعزيز مجموعة واسعة من التكيفات السلوكية.

يمكن القول بأن هناك انتقال من بيئات مقيدة (مثل المدرسة والأسرة) إلى البيئات غير المقيدة (مثل الأقران والعصابات) في مرحلة المراهقة. خلال هذه الفترة، يبدأ المراهقون في ممارسة الخيارات بشكل مستقل ومحاولة الانفصال عن البيئة المقيدة. لفهم العلاقة المتبادلة بين الوالدين والطفل المراهق. المراهقة هو فترة انتقالية من الطفولة إلى مرحلة البلوغ والعلاقة بين المراهقين وأولياء أمورهم حيوية. عدم وجود العلاقة القوية، وعدم مشاركة الوالدين، واللوم والغضب يمكن أن يؤدي إلى السلوك الجانح بين المراهقين.

في دراسة حول القبول أو الرفض المتوقع، أجريت على المراهقين الذكور والإناث في المنزل والمدرسة وارتباطهم بالحالات النفسية التي يعانون منها. ملأت عينة من 350 طالبة و 220 من طلاب نفس الصف

وقياس القبول والرفض من قبل الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والمعلمين الذكور والمعلمات وزملاء الدراسة. ومقياس الحالة النفسية، وقياس القلق والاكتئاب والأعراض النفسية الجسدية واضطرابات السلوك،

تظهر النتائج أن جميع دوائر رفض القبول المتصورة مرتبطة ودمجها في ثلاثة عوامل رئيسية للرفض: الأسرة والمعلمين وزملاء الدراسة. ارتبطت جميع العوامل بالحالات النفسية التي يعاني منها المراهقون. وارتبطت الحالات النفسية التي يعاني منها المراهقون الذكور بدوائر القبول والرفض المتصورة في المنزل وفي المدرسة. ولا سيما عندما يتعلق الأمر بشخصيات نسائية، في حين ارتبطت الحالات النفسية للمراهقات بشخصيات من الذكور والإناث في المنزل.

الخلاصة

وعلى الرغم من دور الأسرة الكبير، إلا أن الآباء والأمهات لا يشرفون على الأطفال تماما. في الغالب ، لا يعرف الوالدان مكان وجود دائرة الأقران لأطفالهما. لا يشارك الأطفال ما يكفي من المعلومات مع والديهم كما يشاركونها مع أصدقائهم مما قد يؤدي إلى أن يصبح الطفل جانحًاا. شوهد الأطفال في النتائج أن تشارك دائما في كل مرة في مشاجرات مختلفة مع والديهم. في الغالب ، شوهدت الفتيات المراهقات ينخرطن في حجج أكثر من الأولاد المراهقين.

ملخص

يجب على الآباء قضاء المزيد من وقت الفراغ مع أطفالهم ومحاولة أن يكونوا أفضل صديق لهم. يجب على الآباء أيضا التركيز بشكل أكبر في معرفة أقرانهم من أطفالهم. لأن التأثيرات غير الضرورية لمجموعات الأقران يمكن أن تؤدي إلى أن يكون الطفل جنوحًا. حتى نتمكن من التوصل إلى عام مفاده أن العلاقة المتبادلة بين الوالدين وأطفالهما يجب أن يكون لها ارتباط ودي لمنع الطفل من الانخراط في مزيد من السلوك أو الأنشطة الجانحة. يجب على الآباء ليس فقط الجلوس مع أطفالهم لمراجعة واستذكار دروسهم الطفل، أو لقاء طفلهم في وقت العشاء ولكن أيضا يجب أن يكون محادثة عارضة الأسرة التي يمكن أن تكون مفيدة جدًا في بناء القيم الأخلاقية للطفل.

مصادر

jstor

scirp

jstor

psycnet

sciencedirect

pubmed

jstor

ncbi

ncbi

jstor

psycnet

journals

nap

مقدمة لعلم النفس البيئي: النظريات والمجالات

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

في المقال السابق بدأنا بتعريف علم النفس البيئي، المجال الذي يدرس التفاعل بين الأفراد والبيئة الطبيعية والحضرية. ما يعني أن علم النفس البيئي يستكشف تأثير البيئة على التجربة والسلوك والصحة؛ بالإضافة إلى تأثير الأفراد على البيئة. وقدمنا نبذة تاريخية مختصرة لتاريخ دراسة هذه العلاقة المتبادلة بين الطرفين: البشر والبيئة. في هذا المقال نركز على هذا خصائص ونظريات علم النفس البيئي التي تحكم البحث فيه. وبعد استعراض الخلفيات النظرية لهذا المجال المثير، سننتقل في المقالات التالية للتطبيقات العملية في المجالات المختلفة التي يبحثها.

خصائص علم النفس البيئي حاليًا

1- النهج التفاعلي «Interactive Approach»

كما يشير التعريف المذكور أعلاه، فإن محور اهتمام علم النفس البيئي هو التفاعل بين البشر وبيئتهم؛ كما يستكشف كيفية تأثير البيئة على السلوك والعوامل المؤثرة على السلوك التي يمكن أن تساعد لتحسين جودة البيئة. على سبيل المثال فإن توفر البنية التحتية للنقل العام والخاص وجودتها يؤثران على مستويات استعمال السيارات، والتي بالتبعية تؤثر على شدة مشاكل بيئية كتلوث الهواء والاحتباس الحراري. بالمقابل فإن جودة البيئة والطبيعة المحيطة تؤثر على البشر وسلوكياتهم ومزاجهم سلبًا (الضوضاء في المدن قد تؤثر على التركيز وتتسبب بالأمراض مثلًا) أو إيجابًا (التعرض للطبيعة يحمل فوائد صحية ونفسية). ولذلك فإن البشر مرتبطون ببيئاتهم بعلاقة ديناميكية متبادلة.

2- التعاون عبر التخصصات

يعمل الكثير من علماء نفس البيئة في بيئات متعددة التخصصات «Interdisciplinary» ويتعاونون مع باحثين من مجالات أخرى قد توفر وجهة نظر جديدة حول الظاهرة محل الدراسة، ويمكن لتلك المجالات مشتركة أن توفر تصورًا شاملًا حول القضية محل البحث. كما أشرنا في الاستعراض التاريخي السابق، فإن هذه المشاركة متعددة التخصصات تشمل ثلاث مجالات بالدرجة الأولى؛ هي العمارة والجغرافيا، علم النفس الاجتماعي والإدراكي، وعلوم البيئة.

3- النهج الموجه نحو المشكلات

لا يقوم علم النفس -على غرار علوم أساسية أخرى- بالأصل على البحث العلمي المجرد، بل يسعى في الغالب لعلاج مشاكل حياتية واقعية. ولكن هذا لا يعني أن علم النفس البيئي غير مهتم بالتنظير، فكما سنرى لاحقًا فإن جزءًا كبيرًا من هذا العلم موجه نحو وضع الفرضيات واختبارها بغرض سبر وشرح وتوقع التفاعلات البشرية-البيئية. لكن لتطوير النظريات غايةٌ أكبر هي تحديد أكثر الحلول فاعلية للمشاكل الواقعية.

يدرس علم النفس البيئي التفاعل البشري-البيئي على مستويات متباينة، من البيئات الصغيرة كالأحياء والبيوت مرورًا بالمدن وانتهاءً بالكوكب كله. والتحديات الموجودة في كل مستوىً قد تخضع للدراسة، بدءًا بتحديات إعادة التدوير وتوفير الطاقة مرورًا بالحفاظ على التنوع البيولوجي في بلدٍ ما وانتهاءً بوضع استراتيجيات مكافحة تغير المناخ.

4- تعدد المناهج

يستخدم علم النفس البيئي نفس المناهج الوصفية والكمية التي تتبعها باقي التخصصات النفسية. ولكن يتمتع علم النفس البيئي بتعدد نماذج البحث «Research Paradigms»، كلٌ بنقاط الضعف والقوة الخاصة بها. يحاول علماء نفس البيئة إذن تكرار الدراسات والأبحاث باستعمال مناهج بحث متعددة لتلافي قصورات بعضها البعض، وبالتالي تحسين مصداقيتها الداخلية والخارجية.

نظريات علم النفس البيئي

كما أن مناهج البحث في العلوم الإنسانية متداخلة بطبيعتها، فكذلك علم النفس البيئي. بالإضافة إلى أنه يتبنى نماذج عامة تتبنى أصلًا تداخل المناهج والعوامل والمجالات. والنموذج -أي الإطار العام الذي يشتمل على فرضيات ومسلمات تحكم البحث العلمي حسب توماس كون- السائد لدى الباحثين هو النموذج الاجتماعي البيئي، والذي يعتبر بديلًا للفرضيات الحتمية. وهو الذي يحكم نظريات علم النفس البيئي المختلفة.

النموذج الاجتماعي-البيئي

هذا النموذج -ويسمى أحيانًا بالنموذج البيئي «Ecological Paradigm»- هو النموذج السائد في المجال. وقد نشأ لمحاولة فهم العلاقة الديناميكية بين العوامل البيئية والفردية بشكل أكثر عمقًا من النظريات الحتمية الأخر، إذ يحاول الوصل بين النظريات السلوكية -التي تركز على تعاملات على مستوى أصغر- وبين النظريات الأنثروبولوجية. النموذج الاجتماعي البيئي «Social Ecological Paradigm» أقل حتمية من النظريات والنماذج البيولوجية أو السيوكولوجية ويربط السلوك البشري بالبيئة والثقافة بشكلٍ أكبر.

على سبيل المثال، كان بعض الباحثين قد افترضوا بناءً على عدة أبحاث أن المجاورة المكانية تزيد فرص إقامة العلاقات والصداقات بين الناس بشكل مطّرد، وقد استعرضنا إحدى الدراسات المؤسسة لهذه الفرضية في المقال السابق. ولكن حين أعيدت هذه الدراسة على بيئات مختلفة، حيث السكان مختلفون طبقيًا وإثنيًا وليسوا طلابًا وزملاء في نفس الجامعة، وجد الباحثون أن القرب والمجاورة لم يكونا بذلك التأثير الذي افترض من قبل. حيث كانت عوامل مثل التنوع العرقي ومدى حاجة الجيران إلى المساعدة من الآخرين وتوفر الانترنت تقلص من تأثير المجاورة والاحتكاك المتكرر. وهكذا فإن النموذج الاجتماعي-البيئي يحاول وضع النظريات السيكولوجية المختلفة في سياقات أكبر.

نظرية النُظُم

قد يبدو جليًا الآن أن علم النفس البيئي لا يبحث -أو حتى لا يمكنه أن يبحث- عن حلول وإجابات اختزالية ومبسطة، وبدا هذا أكثر وضوحًا خلال استعراض النموذج الاجتماعي البيئي أعلاه.  لذلك يعتمد علماء نفس البيئة أيضًا على «نظرية النظم – Systems Theory» لدراسة هذه العلاقة المعقدة في إطار النموذج السابق؛ وبالتحديد على نموذج النظام المفتوح. إذ يُستعمل هذا النموذج في دراسة البيئة والمجتمع -كما يستعمل أيضًا في علم الأحياء والإدارة والاقتصاد وغيرها- وتحليل ما يحدث حين تضطرب بيئة أو نظام ما (ما يؤدي في حالة دراسة البيئة إلى الضغط النفسي والفسيولوجي).

على سبيل المثال، فإن تعرض الفرد لمدخلات أو لمعطيات كثيرة قد يتسبب له بالضغط والإجهاد. ولذلك ففي المدن الكبيرة تتسبب أعداد البشر وكثافتهم في الإجهاد للسكان، فيحاولون موازنة نظامهم اليومي بتقليل عدد معارفهم وارتباطاتهم الاجتماعية لكي لا يُجهدوا بتفاعلات اجتماعية كثيرة أو غير مهمة، وفي حال الاضطرار للتعامل مع الغرباء في الشارع فإن الناس تحاول اختصار اللقاء قدر الإمكان نظرًا لانشغالهم وتعدد ارتباطاتهم.[1]

أدى البحث في نظرية النظم أيضًا إلى تطوير «نظرية بيئات السلوك – Behavior Settings Theory»، والتي تقول بأن سلوك الأفراد يتأثر بالبيئة والمعطيات الموجودة بها أكثر من من تأثره بالسمات الشخصية للفرد. ويعد رائدا هذه النظرية هما “روجر باركر» وتلميذه “آلان ويكر»، والذان درسا ميل النظم المفتوحة للتوازن بشكل تلقائي لضمان استمرارها. فحاجة الأنظمة (كالمدارس أو الكنائس مثلًا) للبقاء متماسكة تفرض على أفرادها أنواعًا معينة من السلوك، فطلاب المدارس وروّاد الكنائس الأصغر يشتركون في أنشطة أكثر لكي تتمكن المؤسسة نفسها من الاستمرار.

مناهج البحث

كما ذكرنا فعلم النفس البيئي يتبنى مناهج البحث الكمية والنوعية على حد سواء. فالباحثون يقومون بالاستبيانات، والتجارب المعملية، ودراسات الحالات والدراسات الميدانية. بالإضافة إلى ذلك ففي بعض الأحيان يكون من الصعب بل المستحيل دراسة بيئة ما لضخامتها وكثرة عواملها وأفرادها، فيقوم الباحثون بتصنيع محاكات حاسوبية ومجسمات تمكنهم من تحليل بيئةٍ ما حاسوبيًا، أو تتيح للمشاركين في دراسةٍ ما اختبار بيئة افتراضية وتسجيل انطباعاتهم عنها على سبيل المثال. وكما سنرى لاحقًا فيمكن حتى للمعماريين والمخططين استخدام هذا الأسلوب لدراسة التصميمات وآثارها الواقعية.

مجالات علم النفس البيئي

يمكننا فرز مجالات علم النفس البيئي إجمالًا إلى ثلاث نطاقات. النطاق الأول هو البحث في العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على التجربة والصحة والسلوك، والوسائل الممكنة لتحسين الراحة والصحة للبشر عن طريق تعديل البيئة. يشمل هذا النطاق مواضيع مثل تقييم الخطر «Risk Assessment» والتعامل معه، والفوائد الصحية للطبيعة، وجودة البيئة الحضرية والمدن، وآثار العوامل البيئية على جودة ومستوى المعيشة.

النطاق الثاني هو «الإدراك البيئي – Environmental Cognition»، أي كيف يدرك البشر بيئاتهم المباشرة ويتفاعلون معها. يشمل البحث في هذا المجال مواضيع مثل الهوية والشخصية باعتبارها عملية بيئية، كيف يقيّم الناس بيئاتهم ويتصورونها؟ وكيف تتجلى آثار البيئة في الفرد، والذي بدوره يتفاعل مع تلك الآثار بناءً على إدراكه وملاحظته لها؟

يختلف إدراك الفرد للبيئة عن إدراكه للأشياء. فبينما يتطلب إدراك موضوعٍ ما ذاتًا مُدركة، فإن إدراك البيئة يتطلب  ذاتًا مشاركة. فإدراك البيئة التي تحيا فيها يتطلب الفعل والحركة، ولا يقتصر على الحواس الخمس. كما يشمل المشاعر والانطباعات والقيم التي يحملها الفرد تجاه بيئته. تساعد نظريات الإدراك البيئي في وضع مخططات أكثر انسيابية ووضوحًا للمدن كما تمنح الباحثين وسيلة لدراسة المجتمع طبقيًا إذ يختلف إدراك كل طبقة اجتماعية للمدينة على سبيل المثال.

النطاق الثالث يتضمن دراسة السلوكيات البيئية، بما فيها السلوكيات الصديقة للبيئة، وعلاقتها بالقيم والأعراف المجتمعية، وكيف يرتبط البشر ببيئاتهم «Place Attachment»، وكيف يحفز -أو يعيق- ذلك كله المشاركة في سلوكيات ونشاطات صديقة للبيئة وأيضًا دراسة عمليات التغيير الاجتماعي والبيئي.

علوم النفس والأعصاب المعمارية

هناك مجال ناشئ داخل علم النفس يشتغل على دراسة تأثير التفاصيل المعمارية على النفس والدماغ، مثل أثر الواجهات وارتفاع الأسقف والإضاءة على التركيز والمشاعر وغيرها. وعلى الرغم من بدء ظهور مؤتمرات ومراكز تدعم هذه الأبحاث [2ٍ]، باعتبارها توفر مادة نظرية لتصميمٍ أفضل للمكان والحيز، بالإضافة إلى توفر بعض الدوريات والمجلات المهتمة بمثل هذه الأبحاث، فيبدو أنها  لا تزال غير منظمة إلى حد كبير، ناهيك عن إمكانيات تطبيقها عمليًا بشكل علمي على نطاقٍ واسع.

بهذا نكون قد استعرضنا سريعًا أهم خصائص ونظريات علم النفس البيئي بالإضافة إلى مجالاته البحثية. في المقالات التالية سنقوم بعرض بعض التطبيقات العملية لهذه المجالات، لنرى كيف يمكن لها الفرع من علوم النفس والتصميم أن يحسّن من جودة بيئاتنا الطبيعية والحضرية على حدٍ سواء. وسنبدأ بالحديث عن النطاق الأول لعلم النفس البيئي: وهو العوامل البيئية المؤثرة سلبًا وإيجابًا على الصحة والسلوك والتجربة البشرية وسنستهلها بالحديث عن التخطيط العمراني المحب للبيئة، أو ما يسمى بالبايوفيليا.

المصادر: 
[1] Stanley Milgram, The Experience of Living in Cities 
[2] على سبيل المثال: NeuroAU، وأيضًا Centre for Conscious Design 
[3] Environmental Psychology: an Introduction
[4] Environmental Psychology, Daniel Stokols

علم النفس البيئي: نبذة تاريخية عن علاقة العمران بالنفس

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم النفس البيئي

كيف يتفاعل البشر مع بيئتهم؟

هل حدث من قبل أن ذهبت إلى مكانٍ ما وتوقفت منبهرًا من منظره وما أوجده من مشاعر بداخلك؟ لماذا قد نشعر بالملل إذا مشينا بجانب بعض المباني ذات الواجهات المغلقة؟ ما الذي يجعل بعض الأماكن والساحات تنبض بالحياة وبعضها الآخر موحشًا؟ هل يمكننا تحليل شخصية شخص ما من غرفته ومقتنياته؟ وما هي أضرار الازدحام على الصحة وكيف نصمم الأحياء السكنية لتكون آمنة وأيسر للسير؟ هذه الأسئلة تقع ضمن مجال علم النفس البيئي «Environmental Psychology»، و هو علم يدرس تأثير البيئة إجمالًا على التجربة والسلوك والصالح البشري العام، بالإضافة إلى تأثير الأفراد (والمجتمعات) على البيئة. وتعدد مجالاته يجعله مجالًا مثيرًا للاهتمام والبحث إذ أنه يتعلق بالكثير من القضايا التي نعيشها بشكل يومي.

البدايات: علم النفس “المعماري”

ظهر علم النفس البيئي رسميًا كفرع من علوم النفس خلال فترة الستينات. إلا أن المصطلح ظهر لأول مرة في النصف الأول من القرن العشرين، حين درس «ويلي هيلباخ» أثر عوامل بيئية مختلفة مثل اللون والشكل والشمس والقمر على أنشطة بشرية مختلفة، وقسّم البيئة إلى ثلاث نطاقات: البيئة والمجتمع والعمران (أو الحضر). اعتقد هيلباخ أن كلًّا من هذه النطاقات يؤثر على العقل البشري عبر وسيلتين: الأثر المباشر للمعاني والرموز (التجارب المباشرة للبيئة)، والأثر غير المباشر عن طريق التأثيرات الفسيولوجية على الجسم والدماغ.[1]

في هذه الفترة كانت الأبحاث التي تستكشف العلاقة بين البيئة والنفس مبعثرة إلى حد كبير، ولم يكن معترفًا بها كمجال بحثيّ مستقل. بحلول أربعينات القرن العشرين بدأت الدراسة المنهجية للمكان والحيز كما ظهرت العديد من الدراسات حول إضاءة المنازل وأثرها على الصحة وسلوكيات الأطفال في البيئات الطبيعية وغيرها. وحيث كانت معظم تلك الدراسات تركز على الكيفية التي تؤثر بها البيئات الحضرية بالأخص على إحساس وسلوكيات الناس، فقد سُميت بـ«علم النفس المعماري»، للتمييز بينها وبين دراسات علم النفس الأكثر تقليدية.

بيئة حضرية فعّالة

في تلك الفترة كان التركيز الأكبر على البيئة المبنية أو الحضرية، مثل المعمار والتقنية، وآثارها على النفس. وكان هذا التركيز على البيئات المبنية مدفوعًا بشكل كبير بالمناخ السياسي والاجتماعي في تلك الفترة. حيث كانت العمارة الحديثة تحاول معالجة تحديات ما بعد الحرب العالمية -مثل توفير الإسكان المناسب للسكان. ولهذا نشأت أسئلة حول الكيفية المثلى لبناء المنازل والمكاتب والمستشفيات لتخدم مستعمليها بأكبر فاعلية ممكنة، وكيف يمكن للمؤثرات البيئية (كالحرارة، والرطوبة، والتكدس والازدحام) التأثير على الأداء البشري وبالتالي كيف يمكن التحكم بها.

البحث الاجتماعي في المعمار

بدأت تظهر ولو بشكل طفيف أيضًا دراسات اجتماعية ونفسية حول الأثر الاجتماعي للحيّز، ـ لعل أبرزها الدراسة الرائدة لعالم النفس «ليون فيستنغر» التي أظهر فيها العلاقة بين المجاورة المكانية واحتمالية تكوين علاقات اجتماعية طويلة المدى، وهو ما أسماه بأثر المجاورة «Proximity Effect». أي أن الناس يميلون لإقامة علاقات اجتماعية أكثر مع الذين هم أقرب لهم فيزيائيًا. درس «فستنغر» سكنًا طلابيًا بمعهد إم آي تي ولاحظ أن الطلاب الذين يعيشون في غرف بجانب درج المبنى كانت لديهم علاقات اجتماعية أكثر مع باقي السكان حيث يحتكون بهم بشكل أكثر تواترًا، كما أنه كلما كانت غرفتان أقرب لبعضهما زادت فرصة ساكنيهما لتكوين صداقة.

بناءً على أبحاثه حول سيكولوجية الجماعات والانتماء، كان فيستنغر يطالب المعماريين أيضًا بأخذ الاحتياجات الاجتماعية للسكان ورغبتهم في الانتماء قيد الحسبان أثناء تصميم المناطق السكنية.[2] توالت في الفترة التالية، وبالأخص منذ الستينات، الدراسات حول البعد الإنساني في التصميم والتخطيط العمراني، مثل دراسات «كيفن لينش» عن “صورة المدينة” و«روبرت سومر» حول المساحات الشخصية ونظرية «أوسكار نيومان» حول «المساحات الآمنة – Defensible Space» لخلق أماكن أكثر أمنًا وسلامة.

علم النفس البيئي والاستدامة

الفترة التالية لنمو مجال علم النفس البيئي بدأت في الستينات، حين بدأ العالم بإدراك المشاكل والأخطار البيئية المحيطة. ومن هنا ظهرت الدراسات حول مشكلة الاستدامة ودراسة وتغيير السلوك البيئي لخلق بيئة مستدامة وصحية. شملت تلك الدراسات في بداياتها مشاكل مثل تلوث الهواء والتلوث الضوضائي، ومن ثم توسعت لتشمل مباحث كاستهلاك الطاقة ودراسة المخاطر المرتبطة بتقنيات الطاقة. في الثمانينات بدأت بالظهور أيضًا الدراسات حول جهود تحفيز الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالسلوكيات الصديقة للبيئة. وتصاعد هذا التوجه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حيث صار من الواضح أن الأزمات البيئية كالتغير المناخي والتلوث والتصحر تهدد الصحة والأمن الغذائي والمائي للعالم أجمع. وبالتالي فقد تم استدعاء مفهوم للاستدامة يشمل الصالح العام البيئي والمجتمعي والاقتصادي، ويرى بعض الباحثين أن علم النفس البيئي تطور بمرور الزمن إلى “علم نفس الاستدامة” على المستويات الثلاث.

كيف نصمم مدنًا أكثر جاذبية؟

بجانب دراسة البيئة والاستدامة والطاقة التي توسعت مع اتساع الوعي بالازمة المناخية، بدأت أيضًا دراسة الكيفية التي يتفاعل بها البشر مع بيئاتهم الحضرية، وهو ما يسمى في بعض الأحيان بعلم النفس الحضري «Urban Psychology» والذي كان رائده هو المخطط الأمريكي «وليام و. وايت»،  الذي يلقب أحيانًا بأبو علم النفس الحضري.[3] كان «وايت» مهتمًا بمعرفة السبب الذي يجعل بعض الميادين والشوارع والحدائق مليئة بالناس وجاذبة للنشاط البشري، بينما تكون أخرى شديدة الوحشة ومنفرة للنشاط البشري. ولذلك قام بتصوير وملاحظة شوارع وميادين وحدائق نيويورك ليحاول تحليل العوامل التي تجعل الناس يتجمعون في مكانٍ ما.

كانت من أبرز نتائج وايت -والتي تبدو شديدة البداهة حد الضحك ربما- هي أن الناس يجلسون حيث يتوفر لهم مكان للجلوس. فلدهشة وايت نفسه كان العديد من الحدائق والميادين لا يوفر حتى مقاعد للجلوس والاستمتاع بالهواء والشمس. هذا إن لم يتم وضع موانع ضد جلوسهم حول بعض المباني؛ كما تفعل بعض الشركات والمؤسسات حين تحاول طرد المشردين والشحاذين -ومن أسماهم وايت “غير المرغوب فيهم” «Undesirables»- عن طريق تسوير مبانيها وجعل محيطها غير جذاب؛ وتكون النتيجة أن الناس يبتعدون عنه ويصبح موحشًا في حين أن أولئك غير المرغوب فيهم يحتلونه. لقد لخص وايت نتائج دراساته بقوله “أنه من الصعب جدًا تصميم مكانٍ غير جذاب للناس. ما يستحق الدهشة هو كيف يتم ذلك باستمرار”.[4]

نطاق علم النفس البيئي حاليًا

لعلنا الآن نتساءل عن حدود ونطاق علم النفس البيئي، هل هو لتصميم مبانٍ أكثر فاعلية وراحة، أم للبحث حول قضية الاستدامة ودعم مصادر الطاقة البديلة؟ هل يدرس البشر أم الحضر؟  وما هي بالضبط البيئة التي يدرس النفس البشرية ضمنها؟ الحقيقة هي أن علم النفس البيئي مجال متعدد النطاقات «Multi-disciplinary»، ويتصف بمقاربته متعددة المجالات للقضايا محل البحث وتعدد مناهجه، فهو يتداخل بشكل صميميّ مع الهندسة المعمارية وعلوم البيئة والسياسات العامة، بالإضافة إلى التبعات المجتمعية لها كالآثار الصحية والنفسية. وبالمقابل يبحث أيضًا كيف يؤثر الناس في بيئاتهم: كيف يجعلونها أكثر ذاتية، كيف يعبرون عن أنفسهم وانتماءاتهم، وكيف يدفعهم ذلك إلى الحفاظ على سلامة محيطهم وبيئتهم على سبيل المثال.

سنتحدث في مقالاتٍ تالية عن تطبيقات معاصرة لعلم النفس البيئي وأثرها في البيئة الحضرية والسلوك البشري، ولكن يكفينا في هذه الفقرة أن نبين أن العلاقة المتبادلة بين البشر وبيئتهم (حضرية كانت أو طبيعية) معقدة ومتداخلة للغاية. ولعل هذا سبب في أن علم النفس البيئي يتسم بالبحث بدافع العثور على أكثر الحلول فاعلية لمشاكل حاضرة بالفعل. إضافة إلى أن علم النفس البيئي يدرس هذه العلاقة على مستوياتٍ عدة، ابتداءً بمشاكل النفايات وإعادة التدوير على مستوى الأحياء مرورًا بالتخطيط السليم والصحي للأحياء السكنية ومناطق العمل على مستوى المدن والدول وانتهاءً بدراسة التقنيات الجديدة لمواجهة تغير المناخ على مستوى الكوكب كله.

ولذلك أيضًا، فإن هناك عدة مجالات تبحث هذه العلاقة وتتداخل مع بعضها البعض على عدة مستويات وفي عدة نطاقات.  فبجانب علم النفس البيئي، هناك على سبيل المثال أيضًا علم الاجتماع الحضري «Urban Sociology» وعلم البيئة الحضري «Urban Ecology» وعلم الظواهر أو الفينومينولوجيا المعمارية «Architectural Phenomenology»، وكلها لديها دوريات ومجلات متخصصة وبعضها يدرّس في أقسام جامعية مختصة.


المصادر:

  1. Environmental Psychology : an Introduction
  2. Blueprints for a History of Environmental Psychology
  3. Architecture and Group Membership, Leon Festinger
  4. Project for Public Spaces
  5. Social Life of Small Urban Spaces

ما هو علم النفس الشرعي؟

مع هوس المجتمع باكتشاف ما يدور داخل عقل المجرم، فلا عجب أن يكون مجال علم النفس الشرعي رائعًا للغاية. فيما يلي أهم ما يمكنك معرفته حول مجال علم النفس الشرعي وكيف يؤثر على نظام العدالة الجنائية.

تعريف علم النفس الشرعي

علم النفس الشرعي هو دراسة علم النفس الإكلينيكي في المواقف القانونية. يشير هذا إلى دراسة العلاقة بين علم النفس البشري ونظام العدالة الجنائية. يعتبر هذا التعريف تعريفًا واسعًا للمصطلح، يخصص مساحة للبحث والدراسة الأكاديمية لعلم النفس والقانون. بينما يمكن أن يكون هناك تعريف أضيق يشير إلى التقييم النفسي المهني للفرد الذي يشارك حاليًا في عملية قانونية. يمكن أن يكون هذا تقييمًا لفهم الحالة الذهنية للشخص أثناء الجريمة أو قدرته على المثول للمحاكمة أو يقيم مدى مصداقية الشهود، وغير ذلك.

ويعرِّف المجلس الأمريكي لعلم النفس الشرعي- American Board of Forensic psychology هذا المجال بأنه تطبيق علم النفس على القضايا التي تتعلق بالقانون والنظام القانوني.وقد نما الاهتمام بعلم النفس الشرعي بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

لمحة تاريخية قصيرة

بينما يعتبر علم النفس الشرعي مجال تخصص جديد إلى حد ما في علم النفس؛ إلا أن الأيام الأولى لهذا المجال تعود إلى بدايات علم النفس. لطالما سعى الفلاسفة والعلماء إلى فهم الدوافع التى تجعل الناس يرتكبون الجرائم، أو يتصرفون بعدوانية أو ينخرطون في سلوكيات مُعادية للمجتمع. في الواقع، لقد تم الاعتراف رسميًا بعلم النفس الشرعي كمجال تخصص من قِبل الجمعية الأمريكية لعلم النفس – American Psychological Association APA عام 2001 م. وعلى الرغم من ذلك؛ فإن مجال علم النفس الشرعي له جذور تعود إلى أول مختبر علم نفسWundt في لايبزيغ-ألمانيا، المختبر الذي أسسه Wilhelm Wundt عام 1879 م كأول مختبر لعلم النفس التجريبي. لم يحدث النمو الملحوظ في علم النفس الشرعي الأمريكي إلا بعد الحرب العالمية الثانية. قبل ذلك الوقت، عمل علماء النفس كشهود خبراء، ولكن فقط في المحاكمات التي لم يُنظر إليها على أنها انتهاك للأخصائيين الطبيين، الذين كان يُنظر إليهم على أنهم شهود أكثر مصداقية. في قضية هاوثورن عام 1940 م، قضت المحاكم بأن معيار الشهود الخبراء يعتمد على مدى معرفة الشاهد بالموضوع، وليس ما إذا كان الشخص حاصل على شهادة طبية.

وشهد المجال نموًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، إذ أصبح هناك المزيد من الطلاب المهتمين والمقبلين على هذا الفرع التطبيقي لعلم النفس. كان للأفلام الشعبية والبرامج التلفزيونية والكتب والروايات دور كبير في لفت أنظار الناس إلى هذا المجال. فغالبًا ما تصور الأبطال الرائعين الذين يتتبعون الجرائم ويتعقبون المجرمين باستخدام علم النفس. فانتبه الناس إلى مدى روعة علم النفس في الخوض في العقول لحل الجرائم وتحقيق العدالة. وبالإضافة إلى رونقه في وسائل الإعلام والأفلام؛ فهو يلعب دورًا مهمًا في الحياة الواقعية. فهو، كما ذكرنا، ينطوي على التقييم النفسي لأولئك المشاركين في المسألة القانونية.

ما أهمية علم النفس الشرعي في نظام العدالة الجنائية؟

علم النفس الشرعي له أهمية كبيرة في نظام العدالة الجنائية؛ تعطي دراسة السلوك البشري من أجل إنفاذ القانون وتحقيق العدالة فرصة لمعرفة كيف ولماذا تحدث الجرائم وكيف يمكن لقضايا الصحة العقلية الموجودة مسبقًا أن تساهم في الجريمة. أثناء الدراسة في هذا المجال، يبذل علماء النفس الشرعي جهدًا للمساعدة في إعادة تأهيل السجناء الذين لديهم تاريخ من الجرائم المستمرة. الفكرة هي كسر حلقة سلوكهم حتى لا يتعرضوا للسجن بسبب أفعالهم. يقدم علماء النفس أيضًا توصية مهنية ومتخصصة للمحكمة حول ما إذا كان الشخص مؤهلاً بما يكفي للمحاكمة. وإذا كانت هناك حاجة إلى علاج الصحة العقلية بعد الإدانة، فيمكن للطبيب النفسي الشرعي أيضًا تقديم توصيات بشأن ذلك.

فيما يتميز علم النفس الشرعي عن مجالات علم النفس الأخرى؟

يتميز علم النفس الشرعي عن أي تخصص آخر مثل علم النفس الإكلينيكي بأنه عادة ما تكون واجبات الطبيب النفسي الشرعي محدودة إلى حد ما من حيث النطاق والمدة. بينما يُطلب من أخصائي علم النفس الشرعي أداء واجب محدد للغاية في كل حالة على حدة، مثل تحديد ما إذا كان المشتبه به مؤهلًا عقليًا لمواجهة التهم. وعلى عكس التعامل السريري النموذجي، حيث يسعى المريض أو الشخص طواعية للحصول على المساعدة أو التقييم، يتعامل الطبيب النفسي الشرعي عادةً مع أشخاص ليسوا أمامه بمحض إرادتهم. يمكن لهذا أن يجعل التقييم والتشخيص والعلاج أكثر صعوبة لأن بعض الأشخاص يقاومون عن عمد محاولات المساعدة.

من هو الطبيب النفسي الشرعي وماذا يعمل؟

عندما يعمل علماء النفس الشرعيون في محاكم الأسرة مثلاً، فإنهم يقدمون خدمات العلاج النفسي، والتحقيق في تقارير إساءة معاملة الأطفال، وإجراء تقييمات حضانة الأطفال، وإجراء تقييمات مخاطر الزيارة. يقدم علماء النفس الشرعيون العاملون في المحاكم المدنية العلاج النفسي لضحايا الجرائم، ويقيمون الكفاءة، ويقدمون آراءً ثانية. ويقدم العاملون في المحاكم الجنائية تقييمًا للمجرمين الأحداث والبالغين، ويجرون تقييمات للكفاءة العقلية، ويتعاملون مع الأطفال الشهود. غالبًا ما يُجري علماء النفس الشرعي أبحاثهم الخاصة، بالإضافة إلى دراسة وتحليل أبحاث متخصصين آخرين. قد يدرسون المجرمين وجرائمهم لمعرفة سمات أنواع معينة من المجرمين، والتي قد تتضمن إجراء مقابلات بين المجرمين وأقربائهم أو ضحاياهم. قد يعمل علماء النفس الشرعيون أيضًا كشهود خبراء أثناء المحاكمات الجنائية، ويقدمون شهادات حول سبب حدوث جريمة ما. قد يعبرون أيضًا عن سبب اعتقادهم أن المدعى عليه من المحتمل أن يكون قد ارتكب الجرائم المعنية. قد يكون لطبيب النفس الشرعي أيضًا تأثير على إصدار الأحكام على المجرم.

كيف تصبح أخصائيًا شرعيًا؟

إذا كنت تستمتع بالتعرف على العلاقة بين السلوك البشري والقانون، فمن المحتمل أن يثير هذا اهتمامك قليلاً. وإذا احترفت المجال وأتقنت علومه ومناجهه، ربما تصبح من أرباب مهنة تُدر عليك قرابة 79.000 دولارًا سنويًا! عادة ما يكون علماء النفس الشرعيون علماء نفس مُرخصين متخصصين في تطبيق المعرفة النفسية على المسائل القانونية، في كل من المجالات الجنائية والمدنية. فهم حاصلون على درجات جامعية في علم النفس، ودكتوراه في أغلب الأحيان. كما قد يتطلب العمل كطبيب نفسي درجة الدكتوراه. ولكن هناك بعض فرص العمل في المدارس والمؤسسات الصناعية التي قد تصبح متاحة بعد حصول الطالب على درجة الماجستير.

ومع ذلك، فإن التخصص في هذا المجال لا يتطلب بالضرورة درجة الدكتوراه. حيث تحدد أهداف التوظيف المستقبلية للطالب نوع الدرجة المطلوبة للعمل. وبالنسبة للتدرج الأكاديمي للحصول على رخصة مزاولة مهنة الطب النفسي الشرعي، تبدأ الرحلة التعليمية بدرجة البكالوريوس في علم النفس من جامعة أو كلية معتمدة. يختار بعض الطلاب التخصص في علم النفس مع التركيز على علم النفس الشرعي، ولكن قد يجد طلاب آخرون أنه من الأفضل الحصول على شهادة في مجال ذي صلة مثل علم النفس الإجرامي.

يُفضل بعض الطلاب الاستزادة من علم الإجرام أو العدالة الجنائية أثناء حصولهم على بكالوريوس العلوم في علم النفس أو بكالوريوس العلوم في علم النفس الشرعي. ولابد أن يكون لدى علماء النفس الشرعي فهم قوي لعلم النفس والطب الشرعي. كما تتطلب هذه الوظيفة مهارات اتصال وتفكير استراتيجي قوية، حيث يجب على هؤلاء المحترفين إجراء المقابلات وتحليل الإجابات ولغة الجسد.

التوظيف في مجال علم النفس الشرعي

يمكن لعلماء النفس الشرعي العمل في مجموعة متنوعة من أماكن العمل. غالبًا ما يعمل الأكاديميون في هذا المجال في المعامل أو الكليات أو مراكز البحث التي تركز على هذا المجال، يمكنهم أيضًا العثور على فرص انتساب للوكالات الحكومية التي تدعم عملهم. علماء النفس الشرعيون في العمل الميداني لشركات المحاماة والمحاكم والمصالح الحكومية، وفي مصحات الصحة العقلية وبرامج الإفراج المشروط والمستشفيات وأنظمة الإصلاح الحكومية، ومصحات إعادة التأهيل. يمكن لعلماء النفس الشرعي، في بعض الحالات، العمل كمستشارين، وبناء علامتهم التجارية الخاصة والعمل على العقود التي يتلقونها من تطبيق القانون والحكومة وشركات المحاماة الخاصة. كما يتاح لهؤلاء الأخصائيين النفسيين العمل في مجتمع الاستخبارات كمدربين، وتدريب الوكلاء على اكتشاف السلوك الإجرامي من خلال التحليل النفسي. تشمل بعض الوظائف التي عادة ما تجرى في علم النفس الشرعي ما يلي:

تقييمات الكفاءة.

توصيات إصدار الأحكام.

تقييمات مخاطر إعادة الإجرام.

شهادة كشاهد خبير.

تقييمات حضانة الأطفال.

البحث الأكاديمي عن الجريمة.

استشارة سلطات تطبيق القانون.

معاملة المجرمين.

تقديم الخدمات النفسية للنزلاء والمخالفين.

مستشاري المحاكمة الذين يساعدون في اختيار هيئة المحلفين أو إعداد الشهود أو الاستراتيجيات القانونية.

تصميم البرامج الإصلاحية.

يُعرَّف علم النفس الشرعي بأنه تقاطع بين علم النفس والقانون، لكن يمكن لعلماء هذا المجال أداء العديد من الأدوار، لذلك يمكن أن يختلف هذا التعريف.

في كثير من الحالات، لا يكون العاملين بهذا المجال بالضرورة “علماء نفس شرعي”. فقد يتخصصون في علم النفس السريري أو علم النفس المدرسي، وقد يكونون أطباء أعصاب، أو مستشارين يقدمون خبراتهم النفسية على الإدلاء بالشهادة والتحليل أو التوصيات في القضايا القانونية أو الجنائية.

موضوعات على الهامش

على الرغم من أن هذا التخصص مازال خيارًا غير شائع للحصول على درجة علمية، ولكن أصبح هناك المزيد من المدارس التي تقدمه كتخصص. إذا كنت مهتمًا بأن تصبح اختصاصيًا في علم النفس الشرعي، فيجب أن تحصل على دورات تركز على موضوعات نذكر منها:

علم النفس الجنائي

السلوك الاجتماعي

السلوك غير الطبيعي

علم النفس المعرفي

المعرفة

الأدوية وعلم الأدوية النفسية

قانون العدالة الجنائية.

أخيرًا.. أحد الجوانب الأكثر جاذبية لكونك طبيب نفسي شرعي هو أنك دائمًا في تحديات وتجارب جديدة مثيرة للاهتمام. يمكنك تقييم الشهود في يوم من الأيام وتقديم الشهادة في المحكمة في اليوم التالي. إذا كنت مهتمًا بكل من علم النفس والقانون، ربما تكون هذه المهنة التي تجمع بينهما خيارًا رائعًا بالنسبة لك.

المصادر:

Psychology Today

APA

Learnhowtobecome

verywellmind

علم النفس التطوري: عقل العصر الحجري في جماجمنا الحديثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

حاول العلماء والباحثون والفلاسفة عبر الزمن البحث عن أسباب أفكارنا و مشاعرنا وأصول سلوكياتنا وتصرفاتنا. وتعدّدت المدارس والفروع العلمية والنظريات، إلا أن أحدثها بدأ يتعمّق في دور الجينات في تحديد حاجاتنا ورغباتنا. من هنا، بدأ الحديث عن علم النفس التطوري الذي يدرس تأثير التطور ودوره في تشكيل عقلنا البشري الحالي. فما هو علم النفس التطوري؟ وماذا يخبرنا عن دماغنا؟

الصراع الفلسفي القديم

منذ أيام أفلاطون، وُجد صراع قديم في الفلسفة حول ما إذا أننا نملك معرفة غير  مُكتسبة أم أن معارفنا تأتي حصرًا من اختبارنا للعالم. فقد اعتبر الفيلسوف «جون لوك-John Locke» أن أدمغتنا تولد معنا كصفحة بيضاء، وأن كل ما نعرفه اكتسبناه عن طريق التجربة. في المقابل، عارضه الفيلسوف «جوتفريد ليبنيز – Gottfried Leibnez» الذي اعتبر أن بعضًا من معرفتنا وُلد معنا ويُعتبر جزءًا من بنيتنا. أما اليوم، فبتنا نعلم أن رغم أننا نكتسب الكثير من خلال تجاربنا الحسية والتنشئة الاجتماعية، فإننا نولد مع خصائص معينة اكتسباها عبر الوراثة. من هنا، نشأ علم النفس التطوري الذي يدرس تطور العقل البشري كما نعرفه اليوم من خلال الانتقاء الطبيعي.

الانتقاء الطبيعي وتطور العقل البشري

من أهم عناصر تطوّر الكائنات الحية هي عملية الانتقاء الطبيعي التي تسمح بالبقاء للكائنات التي تملك الخصائص الأكثر تكيفًا مع محيطها، وتنقلها هذه الكائنات إلى الأجيال اللاحقة.

لذلك، تتميّز الكائنات بما يسمى بالـ “تكييفات – Adaptations” وهي عبارة عن خصائص جسدية أو سلوكية موروثة، ومفيدة لناحية التناسل أو البقاء على قيد الحياة. وكما تتأثر الكائنات بالبيئة المحيطة بها، فهي بالمقابل تساهم أيضًا بنفسها في تغيير الظروف البيئية التي تتعرض لها وتتكيف لأجلها.

علم النفس التطوري

ما زال السؤال الفلسفي نفسه يُطرح اليوم في العلوم المعرفية: إلى أي مدى يتأثر الدماغ بالخصائص الموروثة عبر الانتقاء الطبيعي؟ وإلى أي مدى يتأثر بالتنشئة الاجتماعية؟

يمكن تعريف علم نفس التطور أنه فرع من علم النفس يدرس السلوكيات والأفكار والمشاعر من وجهة نظر تطورية. وهو علم حديث، نشأ في نهاية الثمانينيات، وقد أتى كنتيجة للعديد من المجالات العلمية الأخرى من الإيثولوجيا (علم سلوك الحيوان) وعلم النفس المعرفي وعلوم الأحياء التطورية والأنثروبولوجيا (علم الأنسنة) وعلم النفس الاجتماعي.

علم نفس التطور قائم على أربعة اعتبارات أساسية هي التالية

– يعتبر علم النفس التطوري أن الدماغ البشري هو نتيجة لعملية الانتقاء الطبيعي.
– تكيف دماغنا ليتأقلم مع المحيط الذي عاش فيه أسلافنا، وليحل المشاكل التي واجهوها.
– القدرات الذهنية التي طوّرها أسلافنا لمجابهة مشاكلهم والبقاء على قيد الحياة في محيطهم هي قدرات قابلة للوراثة، أي أنها تنتقل جينيًا من جيل إلى آخر.
– أدمغتنا البشرية كما نعرفها الآن هي أدمغة أجدادنا التي راكمت التطور على مدى كل العصور التي سبقتنا.

عقل العصر الحجري

يُعتبر الزوجان، «ليدا كوسميدس-Leda Cosmides» عالمة النفس الأميركية وعالم الأنثروبولوجيا الأميركي «جون توبي-John Tooby»، مؤسّسا علم النفس التطوري. وانتشرت لهما عبارة شهيرة تقول:

«جماجمنا العصرية تأوي عقل العصر الحجري – Our modern skulls house a Stone Age mind».

فبحسب علماء النفس التطوري، إن معظم تاريخ جنسنا البشري قضيناه كمجموعات عشائرية صغيرة في السافانا الأفريقية، في ظروف بيئية حارة جدًا. وذلك منذ حوالى مليون و 800 ألف سنة حتى 10 آلاف سنة قبل الآن، وكانوا معتمدين على الصيد بشكل أساسي. لذلك يعتبر العلماء أن هذه الفترة هي المسؤولة عن القسم الأكبر من تطور الدماغ البشري، وسمّوا تلك البيئة بـ «بيئة التكيف التطوري – Environment of evolutionary adaptation».

لم تبدأ الزراعة حتى قبل خمسة آلاف سنة، أما الثورة الصناعية فهي حدثت منذ مئتي عام فقط. هذه الفترة لا تتعدى الواحد بالمئة من إجمالي التاريخ البشري، لذلك فإن التكييفات التي اكتسبناها ناتجة عن الفترة التي سبقتها.

ولكن إلى أي مدى تتناسب التكييفات التي حافظت على حياتنا في العصر الحجري أساليب حياتنا اليوم؟ لا شك أننا نمتن بالكثير للانتقاء الطبيعي الذي جعل أدمغتنا بأشكالها الحالية. إلا أن بعض التكييفات التي ورثناها أصبحت غير مفيدة، أو حتى مضرة أحيانًا للجنس البشري وتسمّى بالـ«Mal adaptations». نذكر مثلًا أن الرغبة في تناول كميات كبيرة من الملح والسكر كانت حاجة أساسية في ذلك العصر لتأمين الحاجة من الطاقة الأساسية للعيش. أما تناول هذه الكمية في أيامنا هذه، مع انتشار الأطعمة المالحة والحلوة وتوفرها الدائم، أصبح يشكل خطرًا على صحة الإنسان الذي يعيش في البيئة الحضارية.

يعطي عالم النفس الكندي «ستيفن بينكر – Stephen Pinker» مثالًا آخرًا على هذا النوع من التكيفات “Mal adaptations”. وهو الخوف الغريزي والحشوي  من الأفاعي والعناكب. رغم أنها لم تعد قاتلة وخطيرة على حياة الإنسان، ولا تقتل العدد الذي تقتله القيادة دون حزام أمان سنويًا، إلا أن ردة فعلنا الغريزية ناتجة عن الخطر الذي كانت تمثله هذه الكائنات على حياة البشر في العصر الحجري.

إذًا باختصار، أدمغتنا تشبه أدمغة أسلافنا الذين عاشوا في العصر الحجري أكثر بكثير مما نتوقع. هذه نبذة صغيرة عمّا توصّل إليه علم النفس التطوري، لكنه ما زال في خطواته الأولى في البحث عن أصولنا الفكرية والعقلية والسلوكية.

المصادر
Britannica
Coursera : Philosophy and the sciences, The University of Edinburgh

القتل المتسلسل

يستمتع الكثيرون منّا بكتب وأفلام القتل المتسلسل المليئة بالرعب والإثارة، ولرُبّما أول ما يتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن القاتل المتسلسل صورة رجل أبيض في العشرين أو الثلاثين من عمره، ذو كاريزما عالية وذكاء حاذق وحياة غامضة. ولكن إلى أي مدى يتطابق الواقع مع  قصص الروايات والأفلام؟ وكيف يفسّر العلم ظاهرة القتل المتسلسل؟

تعريف:

تتعدّد تعريفات «القتل المتسلسل-Serial murder» وتختلف بحسب جنس القاتل وعدد ضحاياه والأسباب الدافعة لتنفيذ الجرائم. لكن التعريف السائد للقاتل المتسلسل هو كل قاتل ينفذ جرائم قتل في أمكنة وأزمنة متعددة، وله على الأقل ثلاث أو أربع ضحايا. وتكون فترة «برودة-Cooling off» بين الجريمة والأخرى، تمتد من ساعات إلى سنوات عدة، وتكون هذه الفترة خالية من الجريمة.  ويتميز هذا النوع من الجرائم عادةً بأنماط محددة (مشتركة بين الجرائم المتسلسلة) من حيث اختيار الضحايا أو أساليب القتل.

تجدر الإشارة إلى أن القتل المتسلسل يختلف عن القتل الجماعي الذي يستهدف مجموعة ضحايا في مكان وزمان واحد.

تاريخ جرائم القتل المتسلسل:

رغم أن استخدام مفهوم “القتل المتسلسل” وانتشاره يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التاريخ مليء بهذا النوع من الجرائم.

ولعلّ أول جريمة قتل متسلسلة مُوثّقة هي جريمة المرأة «لوكوستا-Locusta» التي وُظفت من قِبل الامبراطورة الرومانية «أغريبينا الصغرى-Agrippina the Younger» للتسميم لعدد من أعضاء العائلة الحاكمة، وقد أًعدمت لوكوستا في العام 69 بعد الميلاد.

من القاتلين المتسلسلين المشهورين عبر التاريخ أيضًا الرجل النبيل الفرنسي «جيل دو ري-Gilles De Rais» الذي ارتبط اسمه بقتل أكثر من مئة طفل، وقد أُعدم في القرن الخامس عشر.

في القرن التاسع عشر، زاد الحديث عن جرائم القتل المتسلسل وارتفعت نسبتها، ولكن العديد من الباحثين ينسبون هذا الارتفاع إلى تقدم تقنيات كشف الجرائم وتغطيتها الإعلامية.

أما في القرن العشرين، فقد تحولت جرائم القتل المتسلسل إلى قضايا رأي عام، وقد أثارت الدهشة والرعب في نفوس الجماهير. ونذكر هنا بعض الجرائم المرعبة التي حفرت في ذاكرة الكثيرين، منها جرائم الطبيب البريطاني «هارولد شيبمان-Harold Shipman» الذي قتل 215 شخصًا على الأقل بين عامي 1975 و1998، والقاتل محمد عمر آدم الذي اعترف في عام 2000 بمسؤوليته عن قتل 16 طالبة طب في اليمن و11 نساء أخريات في السودان.

ومع انتشار قصص جرائم القتل المتسلسل وإثارتها للجدل الواسع، شكّلت مصدر إلهام للكثير من الروائيين والكتّاب، فصدرت الكثير من أهم الروايات وأنجح الأفلام السينمائية التي تدور قصصها حول هذا النوع من الجرائم.

لذلك انتشرت صورة نمطية عن منفذي هذه الجرائم، قد لا تعكس دائمًا الواقع. كما أنها ساهمت في تضخيم تقدير نسبة هذه الجرائم، في حين أنها في الحقيقة لا تتعدى الـ2% من إجمالي عدد الجرائم.

كيف يفسر العلم جرائم القتل المتسلسل؟

لماذا يتصرف البشر بهذه الطريقة أو تلك؟ لماذا يكذبون أو يسرقون أو يقتلون؟ لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب أعمال الفلاسفة والعلماء والباحثين لمئات السنين. كذلك حاول هؤلاء تفسير ارتكاب جرائم وحشية مثل جرائم القتل المتسلسل.

تتعدّد النظريات التي تساهم في تفسير هذه الجرائم بين نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة والإحصائيات وصولًا إلى الطب النفسي وعلوم الجينات.

يشكّل الرجال الأغلبية الساحقة من القتلى المتسلسلين، مما يقترح وجود أسباب جينية مسؤولة عن ارتفاع منسوب العنف عند الرجال، كما يمكن ربطه بالدور الاجتماعي المرتبط بالرجال.

كذلك يتم الربط بين جرائم القتل المتسلسل وأمراض نفسية معينة مثل اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، بحيث يزيد هذا النوع من الاضطرابات النفسية احتمال القيام بجرائم، لكنه ليس ملازم لها بالضرورة.

ويُشير علماء النفس إلى أن التعرض للعنف أو الصدمات في الطفولة قد يكون عاملًا مؤثرًا في القيام بأعمال عنيفة أو جرمية وبالتالي المشاركة في جرائم القتل المتسلسل.

ولعلّ أكثر العوامل النفسية تأثيرًا هي وجود اضطرابات التعلق وقلق الهجر، فقد بينت دراسة أن أكثر من 70% من القتلة المتسلسلين عانوا من هذه الاضطرابات.

 في حين ركزت الكثير من الدراسات على الدراسة الشخصية والعوامل الفردية لدى القتلى المتسلسلين، طرح علماء الاجتماع وجهة أكثر شمولية في البحث عن عوامل اجتماعية مساهمة في بناء هؤلاء القتلة.

فقد اعتبر بعض الباحثين أن العدد الكبير من القتلة الرجال الذين يستهدفون النساء كضحايا لهم، ليس إلا وجهًا من وجوه العنف ضد المرأة وكراهية المرأة في المجتمعات الأبوية والذكورية.

 كذلك يرى البعض أن الحداثة والاقتصادات النيوليبرالية فرضت زيادة في الفردية وفي الفروقات الاجتماعية وأثرت على الحياة الجماعية، مما يعزّز احتماليات الجريمة.

إن الأكيد أن تفسير جرائم القتل بحاجة إلى تكامل هذه النظريات مع بعضها، فكل جريمة تختلف عن غيرها في أسبابها ودوافعها.

تبيّن جرائم قتل المتسلسل أن مجموعة من العوامل الفردية والاجتماعية كفيلة أن تحول الأشخاص إلى وحوش بشرية يقتلون دون رحمة، بل يشعرون باللذة والرضا عند ارتكابهم جرائم قتل بحق آخرين. فإلى أي مدى سيساعدنا العلم على تجنب هكذا جرائم؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

SAGE

Sciencedirect

الذاكرة و تأثير راشومون : هل يمكننا الوثوق بذاكرتنا؟

هل تعتقد أن ذاكرتك قوية بما يكفي لاسترجاع ما يحدث أمامك الآن دون أخطاء؟ حاول أن تتذكر أي يوم مميز في حياتك. ثم اسأل من شاركوك نفس اليوم عن تفاصيله. لا تندهش عندما يسردون وقائع لم ولن تتذكرها رغم تأكديهم أنها حدثت. فلن تعرف أبدًا مدى صحة رواياتهم أو روايتك لأن الذاكرة البشرية-على عكس ما تعتقد- تتغير وتتجدد باستمرار لتخلق لكل منا نسخته الفريدة عن الواقعة ذاتها.

قصة القتيل في الغاب

اليابان في القرن الثاني عشر حيث تستمع المحكمة لشهادات الشهود حول الجثَّة التي وجدها حطَّاب في الغابة. لكنها لم تكن محاكمة عادية، إذ اختلفت الشهادات بشكل لا يُصَدَّق. كان هناك سيف، لا لم يكن هناك سيف. زوجة القتيل خانته، لا لم تخُنْه. وهكذا التَبَس عليهم أمرهم مع كلِّ شهادة جديدة، لدرجة أن ثلاثة من الشهود اعترف كل منهم أنه القاتل ولا قاتل سواه!

“من الصعب القول من هو المُخطِئ الأعظم أنتم أم أنا”

-قاطع الطرق “تاجو مارو” المتهم بقتل الرجل واغتصاب زوجته أمام المحكمة.

هذه لمحة من قصة (رينوسكي أكوتاكاوا) الممتعة التي حولها المبدع الياباني (أكيرا كوراساوا) إلى فيلم «راشومون-Rashomon»الحائز على الجائزة الأولى من مهرجان فينيسيا، وجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. جاءت تسمية “تأثير راشومون” لوصف التضارب الحادث بين شهود العَيان على نفس الحادثة. يتكرر تأثير راشومون كثيرًا في حياتنا اليومية بدءًا من الأشياء التي تضعها في مكان وتظن أنك وضعتها في مكانٍ آخر، وصولًا إلى التفسيرات المختلفة للوقائع والأحداث من مراسلي التلفاز، وغيرها من المواقف التي يصبح فيها الوصول إلى الحقيقة مستحيلًا.

الملصق الدعائي لفيلم راشومون

ماذا يربط بين الذاكرة والمثلَّجات والهاتف الصيني؟

قام علماء بتجربة يشاهد فيها المتطوعون حلقة من مسلسل تلفزيوني ثم يُسأَلون عن أحداث الحلقة بعد وقت من مشاهدتها. في خلال هذا الوقت يختار المتطوعون بين التَمرُّن على حلِّ أسئلة عن الحلقة أو لعب لُعبة Tetris. قبل الاختبار النهائي شاهد المتطوعون فيديو ملخّص لأحداث الحلقة تم تغيير بعض التفاصيل فيه عن تلك التي شاهدوها في الحلقة الأصلية بهدف تشتيتهم. في الاختبار النهائي، وجد أن إجابات الفريق الذي اختار حل الأسئلة أقل دقة بشكل ملحوظ من إجابات الفريق الذي لعب Tetris! فكيف حدث هذا؟(1)

عندما تمر بموقفٍ ما تتكون ذكرى لهذا الموقف في الدماغ على شكل روابط عصبية في الذاكرة طويلة المدى فيما يعرف بعملية «تقوية أو ضم الذاكرة-Memory Consolidation». هذا جميل فالذكرى تتحول إلى حالة غير نشطة يتم تخزينها، إلا أنك كلما استرجعت هذه الذكرَى تصبح نشطة مرة أخرى ويتم إعادة عملية ضمِّها مرة أخرى “reconsolidation”. هذا يعني أنه عند استرجاع الذكرى تصبح هشَّة وقابلة للتشوه والتغيير لبعض الوقت، تمامًا كقطعة مثلجات أخرجتها من المُجَمِّد حتى انصهرت وتشوَّهت ثم جمَّدتها مرة أخرى(2).

عملية تغير الذكرى عند استرجاعها

كلما استرجعت الذكرى كلما تغيرت واختلطت بغيرها ثم تحفظ بحالتها الجديدة إلى أن تسترجعها فتتغير من جديد وهكذا. الأمر أشبه بلعبة “الهاتف الصيني” حيث يهمس اللاعب الأول في أذن من يليه بحكاية ما، ويهمس بها الثاني للثالث وهكذا. تجد في النهاية أن القصة التي يرويها اللاعب الأخير تختلف كثيرًا عن القصة الأصلية.

رحلة الذاكرة من اليقين إلى الشك!

بدأ الاهتمام بتغيُّر الذاكرة على يد عالم النفس البريطاني «فريديريك بارتليت-Frederick Bartlett»في الثلاثينيات. ومن الغريب أن لعبة الهاتف الصيني نفسها هي التي ألهمته بالبحث في تغيّر الذاكرة. حيث قام بإجراء تجارب أوضح من خلالها تغيير ذاكرة الأشخاص لقصةٍ معينة يقرؤونَها حسب اختلاف خلفياتهم الثقافية والتاريخية(3).

كما قامت «اليزابيث لوفتس-Elizabeth Loftus»عالمة النفس والقانون بجامعة كاليفورنيا بدراسة تأثير الأسئلة الموجهة “Leading Questions” على استرجاع الذكريات لدى الشهود. يشاهد المتطوعون اصطدامًا بين سيارتين، ثم يُسأَلون عن سرعة السيارتين. وجد أنه عند سؤالِهم: كم كانت السرعة حين “تصادَمَتا” يعطون تقديرات للسرعة أعلى من تلك التي يُعطونَها حين يُسأَلون عن السرعة حين “تلامَسَتا”(3).

قام العلماء أيضًا بعدَّة تجارب على الفئران والبشر والحيوانات لِمَحوِ ذِكرَى معينة باستخدام أدوية تمنع تصنيع الروابط العصبية.

كما درسوا تأثير التَحَيُّز على الذاكرة. يشاهد المتطوعون شجارًا بين اثنين، ثم يتم تقسيمهم إلى مجموعتين. إحداهُما تروي الواقعة لشخصٍ لا يُحب أحد طرفي النزاع، والأخرى تروي لشخصٍ لا يحب الطرف الآخر. وجد أن الشهادات جاءت متباينة بين المجموعتين. ولكن المُدهِش أنه حين طُلِب من كلتا المجموعتين الإدلاء بشهادةٍ أمام شخصٍ محايد، كانت روايات شهود كل مجموعة تنتقص من الأحداث حسب تحيُّزِهم لأحد الطرفين في المرة السابقة!(4)

وتوالت الكثير من التجارب حتى وقتنا هذا مؤكدة على نفس الحقيقة: أن ذاكرتنا تُخطِئ وترتجل وتَتَبدَل تحت تأثير الكثير من العوامل. يمكنها اختلاق التفسيرات وإعادة ترتيب الأحداث، وتبديل الشخصيات بما يؤكد على تأثير “راشومون” الذي كُتِبَ عنه قبل أن تؤكده الدراسات العلمية.

نصف كوب الذاكرة المَملوء

الأمر الجيّد في تغيّر الذاكرة هو أنَّنا يمكننا تغييرها! فَكِّر في مرضَى الخوف غير المبرر أو الفوبيا، أو متلازمة توَتُّر ما بعد الصدمة. ماذا لو تَمكَّن العلاج النفسي من استغلال هشاشة الذاكرة وقت استرجاعها في تغيير الذكرى السيئة التي سببت الحالة المرضية؟ يمكن من خلال هذا التأثير إعادة كتابة الذكريات كَيْلا ترتبط بمشاعر الخوف أو التوتر مرة أخرى(5). أيضًا بدراسة الظروف والعوامل التي تؤثِّر في تغير الذاكرة يمكننا أن نضع شهادات شهود العيان في محلِّها الصحيح من حيث القوَّة أو الضعف.

يفتح تأثير راشومون أمامنا الباب كي نراجع ما نعرفه عن ذاكرتنا طوال هذه السنوات. هل كان الماضي أجمل وأكثر بركةً كما يخبرنا من عاصروه من الكبار؟ هل كنت سعيدًا حقًا في تلك الرحلة؟ أم أنك تتذكر هذا لأنك ترى ابتسامتك في الصور؟ هل كان التاريخ منصفًا في وصف الوقائع والأحداث حتى لو تحرَّى المؤرِّخون الصدق؟ حسنًا إذا وصلت إلى هنا عزيزي القارئ فأنصحك بمراقبة ذاكرتك وعدم النظر للأمور بنظرة أحادية. فذاكرتك قد اعتادت ملئ الفراغات وتبديل الأحداث واختلاق المبررات كلما استرجعتها. ليس عيبًا منها، فالعقل دائمًا يسعى لراحتك، لذا قد تجده حريصًا على أن يروي لك قصة منطقية مقبولة لديك على أن يروي ما حدث بالضبط. إذا رأيت مصابًا بداء ألزهايمر تجده يقسم على صدق ما يقول، رغم أن عقله ببساطة قد حاك له قصةً لم تحدث قط. يبقى لي أن أرشح لك فيلم Rashomon، ولا تثق فيما نقلته لك من أحداث القصَّة فلعل ذاكرتي قد خدعتني مجدَّدًا!

المصادر:
1.National Geographic
2. Wikipedia
3.The Conversation
4. Neurophilosophy
5.Scientific American

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

تاريخ علم النفس

يعود مصطلح «علم النفس-Psychology» إلى اللغة اللاتينية ويعني دراسة الروح، تطورت الكلمة عبر العصور ليصبح علمُ النفس حاليًا علمَ السلوك والعمليات العقلية. ظهر المصطلح أول مرة في القرن السادس عشر، ولم تترسخ أسس العلم وقواعده المتعارف عليها حاليًا سوى في منتصف القرن التاسع عشر. شغل سؤال الوعي البشري ومنشأه تفكير العلماء والفلاسفة عبر العصور، منهم أرسطو الذي اقتنع أن الوعي منشأه القلب لا العقل. ومنهم الشعب الصيني، حيث طُورت أول اختبارات نفسية في العالم منذ ألفي عام تقريبًا وأُلزم الموظفون الحكوميون بالخضوع لاختبارات الشخصية والذكاء.

وأيضًا الرازي، الذي يُعد أول من وصف المرض النفسي وعالجه بل وخصص له جناحًا مستقلًا في مشفاه ببغداد. كان الغرض من جهود هؤلاء العلماء واحدًا وهو محاولة إيجاد الإجابات عن الأسئلة المهمة التي تخصنا نحن البشر، من نحن؟ وكيف يعمل عقلنا البشري؟ وماذا يجعلنا على ما نحن عليه؟مجالات علم النفس ينقسم علم النفس إلى خمس مجالات فرعية:

أولها: «علم الأعصاب-Neuro Science» وهو العلم الذي يهتم بدراسة العقل البشري والتفكير عن طريق دراسة المخ.

ثانيًا: «علم نفس النمو-Devlopmental Psychology» وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة تطور البشر ونموهم وتعليمهم.

ثالثًا: «علم النفس المعرفي-Cognitive Psychology» وهذا العلم يُعد بمثابة أسلوب حاسوبي لدراسة العقل البشري، وذلك عن طريق مقارنة العقل بالحاسوب ومحاولة التوصل إلى كيفية فعل البشر الأشياء مثل: تعلم اللغة أو لعب الألعاب أو التعرف على الأغراض المختلفة.

رابعًا: «علم النفس الاجتماعي-Social Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالعلاقات البشرية والطريقة التي يتفاعل بها البشر مع بعضهم البعض. خامسًا «علم النفس السريري-Clinical Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالصحة العقلية والمرض العقلي.الفرضية المدهشة سنلقي الضوء في هذا الجزء على المجال الأول من علم النفس وهو علم الأعصاب.

أول ما سنتحدث عنه هو: المخ. وضع العالم الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك فرضية تُدعى «الفرضية المدهشة-The Astonishing Hypothesis» والتي تنص على: “أنت وأفراحك وأحزانك، وذكرياتك وطموحاتك، وإحساسك بهويتك وإرادتك الحرة ليست سوى نتاج سلوك جماعي للخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها” وهنا يمكننا التمهل قليلًا والتفكير، هل هذه الفرضية قابلة للتصديق؟ الحقيقة أن هذه الفرضية كانت محل جدل كبير، ولا يؤمن أغلب البشر بها.

لأنه في الواقع أغلب البشر “ازدواجيين”. لكن ما هي الازدواجية؟

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

«الازدواجية -Dualism» عقيدة يتبعها أغلب البشر، وتظهر بشكل واضح في كل الأديان وأغلب الأنظمة الفلسفية على مر العصور. أكثر المدافعين عن الازدواجية شهرةً ووضوحًا هو الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت-René Descartes». طور ديكارت نظريته عن الازدواجية التي تصف العقل البشري أنه كيان غير مادي يستطيع القيام بعمليات التفكير والتخيل والشعور والإرادة بشكل منفصل عن الجسد.

وعندما طرح ديكارت السؤال: هل البشر مجرد آلات مادية؟ جاءت إجابته: لا، لسنا مجرد آلات مادية. اعتبر ديكارت الحيوانات آلات مادية بل ووصفها أنها آلات وحشية، أما عند البشر فالأمر مختلف، فبينما يتشارك البشر والحيوانات في امتلاك الجسد المادي، إلا أن البشر يمتلكون الروح/العقل غير المادي الذي يسكن/يتعلق بالجسد المادي.

إثبات الازدواجية ساق ديكارت حجتين لإثبات نظريته عن الازدواجية. الأولى التي تعتمد على تأملات الأفعال البشرية وتثبت أن البشر ليسوا آلات مادية. طور ديكارت هذه الحجة أثناء تأملاته في الحديقة الملكية الفرنسية، تميزت تلك الحديقة بوجود روبوتات هيدروليكية تعمل على تدفق المياه، فعندما تخطو على لوحة ما يظهر لك فارس بسيف في يده وعندما تخطو على أخرى تختبيء امرأة جميلة خلف الشجيرات، وهنا سأل ديكارت السؤال: هذه الآلات تستجيب بصورة معينة وكذلك البشر، فعندما تطرق على ركبة أحدهم سترتفع في الهواء، إذن هل البشر آلات مادية؟ وأجاب ديكارت: لا، لسنا آلات مادية!

لسنا آلات مادية من منظور ديكارت!

فسر ديكارت ذلك بتوضيح أن البشر ليسوا محدودين برد الفعل، بل على العكس لدى البشر القدرة على الابتكار والتصرف بعفوية. مثال على ذلك في اللغة: عندما يحييك أحدهم: مرحبًا، كيف حالك؟ سيأتي ردك فورًا: مرحبًا، أنا بخير. لكن الأمر لا يتوقف عند هذه النقطة، فأنت تملك الخيار أن تجيب على هذا النحو مثلًا: أنا في أحسن حال! وهنا يظهر الاختلاف بين الآلات والبشر، فالآلات لا يمكنها الاختيار ومحدودة برد الفعل، أما البشر فلا وبالتالي البشر ليسوا آلات مادية.

الحجة الثانية وهي الأشهر وتعتمد على مذهب الشك. شكك ديكارت في كل ما حوله، وأخذ يسأل نفسه: “ما الذي يمكنني أن أكون متأكدًا منه؟ فربما يوجد آله وربما لا، وربما أعيش في دولة غنية وربما يتم خداعي، وربما هذا الجسد ليس حقيقيًا، يظن المجانين في بعض الأحيان أن لديهم أطرافًا إضافية أو يرون أجسادهم بصور مختلفة عن الواقع، كيف أعرف أنني لست مجنونًا؟” الشيء الوحيد الذي لم يستطع ديكارت الشك فيه هو أنه يفكر، فلو فعل سيكون هذا بمثابة دحض لذاته. ومن هنا استخلص ديكارت أنه “هناك شيء مختلف فيما يخص امتلاك الجسد، إنه أمر غير مؤكد على عكس امتلاك العقل.”

وهكذا استخدم ديكارت مذهب الشك لإثبات نظريته عن الازدواجية وانفصال العقل والجسد. الازدواجية والفطرة تظهر الازدواجية بوضوح وبشكل فطري في اللغة، فالازدواجية واللغة مترابطان إلى حد كبير.

كافكا وهومر عن الازدواجية

مثال على ذلك، عند الحديث عن أشيائنا العزيزة والمقربة نقول: سيارتي أو كتابي أو قلبي أو ذراعي ولا يتوقف الأمر هنا فنقول: عقلي، نتحدث عن امتلاك العقل كأنه وبشكل ما منفصل عن الجسد. تظهر الازدواجية أيضا بشكل فطري في نظرتنا للهوية الشخصية، فنرى أن مرور الجسم بتغيرات كبيرة وجذرية لا يعني تغير الشخص ذاته. والأمثلة التي توضح ذلك خيالية، منها ما كتبه فرانز كافكا في واحدة من أعظم القصص القصيرة في القرن الماضي:

“استيقظ جريجوري سامسا في صباح ما من ليلة مليئة بالأحلام المزعجة، ليجد نفسه تحول إلى حشرة عملاقة.”

هنا يدعونا كافكا إلى تخيل الاستيقاظ في جسد صرصور ضخم وبالفعل لا نواجه صعوبة في ذلك. مثال آخر يعود إلى مئات السنين قبل الميلاد، حينما يصف “هومر” مصير رفقاء “أوديسيوس” اللذين وقعت عليهم لعنة شريرة ليعلقوا في أجساد خنازير، كان لهم رأس وجسد وشعر وصوت الخنازير لكن ظلت عقولهم/أرواحهم كالسابق لم تتغير.

وهنا أيضًا يتم دعوتنا بشكل فطري إلى تخيل مصير إيجاد أنفسنا في أجساد كائنات أخرى.الازدواجية والبشر يؤمن معظم البشر من جميع الأديان في معظم مناطق العالم على مر العصور بقدرتهم على النجاة من دمار أجسادهم. اختلفت الثقافات في تحديد مصير الروح، منها ما يقول أنها ترتقي إلى الجنة أو تهبط إلى الجحيم، ومنها ما يقول أنها تعود لتشغل جسدًا آخرًا، أو لتشغل حيزًا في عالم روحي لا شكلي. لكن الأمر المشترك بينهم جميعًا هو أن ما تكونه أنت، ما يعنيه وجودك كإنسان منفصل انفصالًا تامًا عن جسدك المادي.

ملحدون في الجنة الإيمان!

أحد المسوحات التي تمت في ولاية شيكاغو استطلعت ديانات الأشخاص وماذا باعتقادهم قد يحدث لهم عند الموت، وجائت النتائج كالتالي: رأت النسبة الأكبر من الأشخاص المعتنقين للمسيحية واليهودية أنهم سيذهبون إلى الجنة عند الموت، نسبة أقل من المشاركين نفت اعتناقها لأي دين، لكنهم اعتقدوا أيضًا أنهم سيذهبون للجنة عند الموت! دحض الازدواجية نستنتج مما سبق أن الازدواجية في كل شيء، وتعتمد عليها الكثير من الثوابت.

لكن يبقى للعلم رأي آخر، أشار كريك أن الإجماع العلمي يرى الازدواجية خاطئة، ليس هناك “أنت” منفصل عن جسدك، وبالتحديد ليس هناك “أنت” منفصل عن مخك، فالعقل هو ما يفعله المخ، العقل انعكاس لعمل المخ.

أما الازدواجية فهي عقيدة غير علمية لا تستطيع الإجابة عن أسئلة مثل: كيف يتعلم الأطفال اللغة؟ أو ما الذي يجعل الشخص جذابًا؟ أو كيف ينشأ المرض النفسي؟

تفسير الازدواجية!

تفسير الازدواجية الوحيد أن كل هذا ليس ماديًا، إنه جزء من كيان الروح/العقل غير المادي. وعاني ديكارت نفسه من هذه النقطة، فقد توصل إلى ضرورة وجود إتصال ما بين الجسد المادي والعقل غير المادي، وإلا فلماذا تشعر بالألم عندما يرتطم اصبعنا بشيء؟ ولماذا تقفز ركبتك في الهواء عند الطرق عليها؟ لكنه فشل في تحديد ماهية هذا الاتصال.

علاوة على ذلك، هناك أدلة قوية تثبت مشاركة المخ في الحياة العقلية، حيث تشير الأبحاث إلى تناظر أجزاء المخ مع نشاطنا العقلي. وهذا ليس بالاكتشاف الجديد، فقد عرف الفلاسفة والعلماء منذ وقت طويل أن الضرب على الرأس يمكن أن يغير القدرات العقلية، كذلك يمكن لمرض الزُهري أن يجعل المرء مختلًا، وللمواد الكيميائية مثل الكافيين والكحول تأثير على نشاط العقل.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، حيث مكنتنا تقنيات التصوير مثل الأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغناطيسي من التعرف على المناطق النشطة من المخ أثناء المراحل المختلفة من النشاط العقلي مثل: الفارق بين رؤية الكلمات وسماعها وقراءتها وتوليدها تتناظر مع مناطق نشطة مختلفة من المخ. مثال آخر: يُمكن بتتبع المناطق النشطة من المخ معرفة ما إذا كان الشخص يستمع إلى الموسيقى أو يفكر في الجنس أو حتى يفكر في حل معضلة أخلاقية ما.

وأخيرًا يمكننا القول أن الإجماع العلمي يتفق مع فكرة أن العقل نتاج لعمل المخ، أن مشاعر البشر وضمائرهم وأخلاقهم وإرادتهم الحرة ذات أصل مادي، أن الإنسان في الحقيقة ليس سوى مخ! لكن يظل السؤال هنا، كيف يمكن أن ننشأ نحن البشر بكل تعقيداتنا من هذا العضو الرمادي الصغير بتلافيفه وتجاويفه؟ كيف يعمل العقل؟ والسؤال الأهم كيف ينشأ التفكير من العقل؟ وهذا ما سنتطرق إليه في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:
Psychology
Mind-body dualism
The Astonishing Hypothesis
PhilPapers

Exit mobile version