فوز الإيرانية نرجس محمدي بجائزة نوبل في السلام 2023

قررت لجنة نوبل النرويجية منح جائزة نوبل للسلام لعام 2023 إلى نرجس محمدي لنضالها ضد اضطهاد المرأة في إيران وكفاحها من أجل تعزيز حقوق الإنسان والحرية للجميع. لقد جاء كفاحها الشجاع بثمن باهظ دفعته وتدفعه نرجس اليوم. فقد اعتقلها النظام الإيراني 13 مرة، وأدانها خمس مرات، وحكم عليها بالسجن لمدة 31 عامًا و154 جلدة. لا تزال نرجس محمدي في السجن بينما نكتب لكم الآن.

أصبحت نرجس محمدي بعد هذا الإعلان المرأة رقم 19 التي تفوز بجائزة نوبل للسلام وثاني امرأة إيرانية، بعد فوز الناشطة الحقوقية شيرين عبادي بالجائزة في عام 2003.

قصة نرجس محمدي

في سبتمبر/أيلول 2022، قُتلت شابة كردية تُدعى مهسا جينا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق الإيرانية. وأدى مقتلها إلى اندلاع أكبر مظاهرات سياسية ضد النظام في إيران منذ وصوله إلى السلطة في عام 1979. وتحت شعار “المرأة – الحياة – الحرية”، شارك مئات الآلاف من الإيرانيين في احتجاجات سلمية ضد وحشية السلطات وقمعها للنساء. قام النظام بقمع الاحتجاجات بشدة: قُتل أكثر من 500 متظاهر. وأصيب الآلاف، من بينهم كثيرون أصيبوا بالعمى بسبب الرصاص المطاطي الذي أطلقته الشرطة. وتم اعتقال ما لا يقل عن 20 ألف شخص واحتجازهم في حجز النظام.

شعار المظاهرات

الشعار الذي اعتمده المتظاهرون – “المرأة – الحياة – الحرية” – يعبر بشكل مناسب عن تفاني وعمل نرجس محمدي. امرأة: تناضل نرجس من أجل كل النساء ضد التمييز والقمع المنهجي.
حياة: تدعم نرجس نضال المرأة من أجل الحق في عيش حياة كريمة. وقد قوبل هذا النضال في جميع أنحاء إيران بالاضطهاد والسجن والتعذيب وحتى الموت.
حرية: تناضل نرجس من أجل حرية التعبير والحق في الاستقلال، وضد القواعد التي تلزم النساء بالبقاء بعيدًا عن الأنظار وتغطية أجسادهن إجبارًا. إن مطالب الحرية التي عبر عنها المتظاهرون لا تنطبق على النساء فحسب، بل على جميع السكان.

نشأة نرجس محمدي

في التسعينيات، عندما كانت نرجس محمدي طالبة فيزياء شابة، كانت تميز نفسها كمدافعة عن المساواة وحقوق المرأة. وبعد أن أنهت دراستها عملت مهندسة وكاتبة عمود في العديد من الصحف الإصلاحية. وفي عام 2003، انخرطت في مركز المدافعين عن حقوق الإنسان في طهران، وهي منظمة أسستها الحائزة على جائزة نوبل للسلام شيرين عبادي. وفي عام 2011، ألقي القبض على السيدة محمدي للمرة الأولى وحُكم عليها بالسجن لسنوات عديدة بسبب جهودها في مساعدة النشطاء المسجونين وعائلاتهم.

وبعد مرور عامين، وبعد إطلاق سراحها بكفالة، انخرطت السيدة محمدي في حملة ضد استخدام عقوبة الإعدام. وكانت إيران منذ فترة طويلة من بين الدول التي تنفذ أعلى نسبة من سكانها سنويًا. ومنذ يناير/كانون الثاني 2022 فقط، حُكم على أكثر من 860 سجيناً بالإعدام في إيران.

أدى نشاط نرجس ضد عقوبة الإعدام إلى إعادة اعتقالها في عام 2015، والحكم عليها بالسجن لسنوات إضافية خلف الجدران. عند عودتها إلى السجن، بدأت في معارضة استخدام النظام المنهجي للتعذيب والعنف الجنسي ضد السجناء السياسيين، وخاصة النساء، الذي يمارس في السجون الإيرانية.

قيادة من داخل السجن

وصلت أنباء موجة الاحتجاجات العام الماضي للسجناء السياسيين المحتجزين داخل سجن إيفين سيئ السمعة في طهران. ومرة أخرى، تولت السيدة محمدي القيادة. وأعربت من السجن عن دعمها للمتظاهرين ونظمت أعمال تضامن بين زملائها السجناء. وردت سلطات السجن بفرض شروط أكثر صرامة. فمُنعت السيدة محمدي من استقبال المكالمات والزوار. ومع ذلك، تمكنت من تهريب مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز في الذكرى السنوية الأولى لمقتل ماهسا جينا أميني. وكانت الرسالة: “كلما زاد عدد السجناء منا، أصبحنا أقوى”. ومن السجن، ساعدت نرجس في استمرارية زخم الاحتجاجات.

خطاب نرجس من داخل السجن

كنت أنا وزملائي السجينات مجتمعين في جناح النساء بسجن إيفين في طهران ذات مساء عندما شاهدنا تقريرًا تلفزيونيًا عن وفاة مهسا أميني. لقد مر يوم السبت قبل عام على وفاتها أثناء احتجازها من قبل شرطة الأخلاق الإيرانية بزعم عدم ارتداء الحجاب المناسب. أدى موتها إلى اندلاع انتفاضة فورية وواسعة النطاق – بقيادة النساء – هزت البلاد.

في جناح النساء، امتلأنا بالحزن والغضب. استخدمنا مكالماتنا الهاتفية القصيرة لجمع المعلومات. وفي الليل، كنا نجتمع لتبادل الأخبار التي سمعناها. كنا عالقين في الداخل، لكننا فعلنا ما في وسعنا لرفع أصواتنا ضد النظام. وصل الغضب إلى ذروته بعد بضعة أسابيع، عندما اجتاح حريق جزءًا من سجن إيفين في 15 أكتوبر/تشرين الأول. وهتفنا “الموت للجمهورية الإسلامية” وسط إطلاق النار من قوات الأمن والانفجارات وألسنة اللهب. قتل ثمانية أشخاص على الأقل. وتم اعتقال آلاف الأشخاص الذين كانوا يحتجون على وفاة السيدة أميني في الأشهر التي تلت ذلك.

ومع اقتراب الذكرى السنوية لوفاتها، عمل قادة إيران على قمع المعارضة. لقد سُجنت في سجن إيفين ثلاث مرات منذ عام 2012 بسبب عملي كمدافعة عن حقوق الإنسان، لكنني لم أر قط عددًا كبيرًا من المسجونين الجدد في جناح النساء هناك كما حدث في الأشهر الخمسة الماضية. كما امتلأت أجنحة النساء الأخرى.

من خلال أصدقائي في سجن قرجك جنوب شرق طهران، علمت بوجود حوالي 1400 معتقل جديد محتجزين هناك. وتم إرسال نساء أخريات إلى أجنحة أمنية مشددة، بما في ذلك قسم إيفين 209، الذي تديره المخابرات. وأخبرتنا إحدى المعتقلات، التي تم نقلها إلى سجن إيفين من سجن عادل آباد في شيراز، عن مئات المعتقلات الجدد في عادل آباد.

ما قد لا تفهمه الحكومة هو أنه كلما زاد عدد السجناء منا، أصبحنا أقوى. والمعنويات بين السجناء الجدد مرتفعة. وتحدث البعض بسهولة غريبة عن كتابة وصاياهم قبل النزول إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير. كلهم، بغض النظر عن كيفية اعتقالهم، كان لديهم مطلب واحد: إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية.

خلال الأشهر الأخيرة، التقيت بالعديد من السجينات اللاتي تعرضن للضرب والكدمات، وكُسرت عظامهن، وتعرضن للاعتداء الجنسي. لقد بذلت قصارى جهدي لتوثيق هذه المعلومات ومشاركتها. ومع ذلك، فإننا نواصل رفع أصواتنا. لقد أصدرنا بيانات وعقدنا اجتماعات عامة واعتصامات بعد أنباء المظاهرات الحاشدة والقتل والإعدامات في الشوارع. لقد حاولت المؤسسات الأمنية والقضائية ترهيبنا وإسكاتنا من خلال قطع مكالماتنا الهاتفية واجتماعاتنا الأسبوعية مع عائلاتنا، أو من خلال رفع دعاوى قضائية جديدة ضدنا.

في الأشهر السبعة الماضية، فتحوا ست قضايا جنائية جديدة بشأن أنشطتي في مجال حقوق الإنسان في السجن، وأضافوا عامين وثلاثة أشهر إلى عقوبتي، التي تبلغ الآن 10 سنوات وتسعة أشهر. لقد بدأت حملتي الانتخابية في إيران منذ 32 عامًا عندما كنت طالبًا. كان هدفي في ذلك الوقت هو محاربة الاستبداد الديني، الذي أدى، إلى جانب التقاليد والعادات الاجتماعية، إلى قمع عميق للنساء في هذا البلد. لا يزال هذا هدفي.

الآن، بعد رؤية الجهود الرائدة التي بذلتها الشابات والفتيات خلال هذه الحركة الثورية، أشعر أن أحلامي وأهدافي النسوية أصبحت أقرب إلى التحقيق. لقد برزت النساء كطليعة لهذه الانتفاضة، وأظهرن شجاعة ومقاومة هائلة، حتى في مواجهة العداء والعدوان المتزايد من النظام الاستبدادي الديني.
في الماضي، قبل وفاة السيدة أميني، سمعت بعض الروايات عن اعتداءات جنسية ضد النساء داخل سجونهن، لكنني لم أشهد شخصيًا هذا العدد من الضرب والإصابات التي تهدد الحياة، ولم أواجه قصص الاعتداء والتحرش الجنسي. بهذا الحجم. ويبدو أن النظام ينشر عمدا ثقافة العنف ضد المرأة. ومع ذلك، لن تكون قادرة على ترهيبهم أو كبح جماحهم. المرأة لن تستسلم.

إن إرادة البقاء تغذينا، سواء كنا داخل السجن أو خارجه. وقد يؤدي القمع العنيف والوحشي الذي تمارسه الحكومة في بعض الأحيان إلى إبعاد الناس عن الشوارع، لكن نضالنا سيستمر حتى اليوم الذي يطغى فيه النور على الظلام وتعانق شمس الحرية الشعب الإيراني.”

نرجس محمد
نشر هذا الخطاب في New york times بتاريخ 16 سبتمبر 2023 بعنوان: “كلما حبسونا، أصبحنا أقوى”

لم منحت جائزة نوبل في السلام 2023 برأي اللجنة؟

نرجس محمدي امرأة ومدافعة عن حقوق الإنسان ومناضلة من أجل الحرية. بمنحها جائزة نوبل للسلام لهذا العام، ترغب لجنة نوبل النرويجية في تكريم كفاحها الشجاع من أجل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية في إيران.

كما تُكرّم جائزة السلام لهذا العام أيضًا مئات الآلاف من الأشخاص الذين تظاهروا في العام السابق ضد سياسات التمييز والقمع التي ينتهجها النظام الإيراني والتي تستهدف النساء. ولن يتسنى للعالم أن يحقق الأخوة بين الأمم التي سعى ألفريد نوبل إلى تعزيزها إلا من خلال تبني حقوق متساوية للجميع.

تتبع جائزة نرجس محمدي تقليدًا طويلًا، حيث منحت لجنة نوبل النرويجية جائزة السلام لأولئك الذين يعملون من أجل تعزيز العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية. وهذه شروط مسبقة هامة للسلام الدائم.

المصدر: بيان لجنة جائزة نوبل 2023

اقرأ أيضًا:

لماذا فاز وايزمان وكاريكو بجائزة نوبل الطب 2023 ؟

قررت جمعية نوبل منح جائزة نوبل الطب 2023 لكلا من الهنجارية الأمريكية “كاتالين كاريكو” والأمريكي “درو وايزمان” لاكتشافاتهما المتعلقة بتعديلات قاعدة النيوكليوزيد التي مكنت من تطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19.

كانت اكتشافات الفائزين بجائزة نوبل الطب 2023 حاسمة لتطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19 خلال الوباء الذي بدأ في أوائل عام 2020. ومن خلال النتائج الرائدة التي توصلوا إليها، والتي غيرت فهمنا بشكل أساسي لكيفية تفاعل mRNA مع جهاز المناعة لدينا، ساهم الفائزان في المعدل السريع غير المسبوق لتطوير اللقاحات أثناء أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان في العصر الحديث.

اللقاحات قبل الوباء

يحفز التطعيم تكوين استجابة مناعية لمسببات مرضية معينة. وتلك الاستجابة المناعية تمنح الجسم القدرة على مكافحة المرض في حالة التعرض له لاحقًا كأنها ذاكرة مناعية. وكانت اللقاحات القائمة على الفيروسات الميتة أو المضعفة متاحة منذ فترة طويلة، وتمثلت في اللقاحات ضد شلل الأطفال والحصبة والحمى الصفراء. وفي عام 1951، حصل ماكس ثيلر على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لتطوير لقاح الحمى الصفراء.

بفضل التقدم في البيولوجيا الجزيئية في العقود الأخيرة، تم تطوير لقاحات تعتمد على مكونات فيروسية فردية، وليس فيروسات كاملة. إذ تستخدم أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية، والتي عادةً ما تشفر البروتينات الموجودة على سطح الفيروس، في صنع البروتينات التي تحفز تكوين الأجسام المضادة التي تحجب الفيروس. ومن الأمثلة على ذلك اللقاحات ضد فيروس التهاب الكبد B وفيروس الورم الحليمي البشري. وبدلاً من ذلك، تمكن العلماء من نقل أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية إلى فيروس حامل غير ضار، “ناقل”. وتستخدم هذه الطريقة في اللقاحات ضد فيروس الإيبولا حاليًا. فعندما يتم حقن لقاحات الشفرة الوراثية الفيروسية، ينتج الجسم البروتين الفيروسي المحدد في خلايانا، مما يحفز الاستجابة المناعية ضد الفيروس المستهدف.

يتطلب إنتاج لقاحات كاملة تعتمد على الفيروسات والبروتينات والنواقل تطوير لتقنيات زراعة الخلايا على نطاق واسع. وتحد هذه العملية كثيفة الاستخدام للموارد من إمكانيات الإنتاج السريع للقاحات استجابةً لتفشي الأوبئة والأمراض. لذلك، حاول الباحثون منذ فترة طويلة تطوير تقنيات لقاحات مستقلة عن زراعة الخلايا، لكن ثبت أن ذلك يمثل تحديًا.

لقاحات mRNA فكرة واعدة

في خلايانا، يتم نقل المعلومات الوراثية المشفرة في الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، والذي يستخدم كقالب لإنتاج البروتين. خلال الثمانينات، تم تقديم طرق فعالة لإنتاج mRNA بدون زراعة الخلايا، وسميت النسخ المختبري. أدت هذه الخطوة الحاسمة إلى تسريع تطوير تطبيقات البيولوجيا الجزيئية في العديد من المجالات. وانطلقت منذ ذلك الحين أيضًا أفكار استخدام تقنيات mRNA لأغراض اللقاحات والعلاج، ولكن لا تزال هناك حواجز في الطريق. كان الرنا المرسال المنسوخ في المختبر غير مستقر ويشكل تحديًا في إيصاله للمواقع المستهدفة، مما يتطلب تطوير أنظمة دهنية حاملة متطورة لتغليف الرنا المرسال كي لا يتعرض لمهاجمة الخلايا المناعية البشرية فتدمره. علاوة على ذلك، أدى mRNA المنتج في المختبر إلى حدوث تفاعلات التهابية ومناعية بالفعل. لذلك كان الحماس لتطوير تقنية mRNA للأغراض السريرية محدودًا في البداية. لم يكن أحد يعلم حينها أن تقنية كهذه قد تنقذ العالم يومًا ما أو تحصل على نوبل الطب 2023 بالتأكيد!

لكن لم تثبط هذه العقبات عزيمة عالمة الكيمياء الحيوية المجرية “كاتالين كاريكو”، التي كرست جهودها لتطوير طرق لاستخدام الحمض النووي الريبوزي المرسال في العلاج. فخلال أوائل التسعينيات، عندما كانت أستاذة مساعدة في جامعة بنسلفانيا، ظلت وفية لرؤيتها المتمثلة في تحويل mRNA كسلاح علاجي، رغم صعوبة إقناع ممولي الأبحاث بأهمية مشروعها. وقد كان زميل كاريكو الجديد في جامعتها هو عالم المناعة درو وايزمان. كان وايزمان مهتمًا بالخلايا الجذعية، التي لها وظائف مهمة في المراقبة المناعية وتنشيط الاستجابات المناعية الناجمة عن اللقاح. وسرعان ما بدأ تعاون مثمر بين الاثنين، مدفوعًا بأفكار جديدة، مع التركيز على كيفية تفاعل أنواع مختلفة من الحمض النووي الريبوزي (RNA) مع الجهاز المناعي.

كشف مذهل استحق نوبل الطب 2023

لاحظ كاريكو ووايزمان أن الخلايا الجذعية تتعرف في المختبر على الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) المنسوخ باعتباره مادة غريبة. مما يؤدي إلى تنشيط الخلايا الجذعية وإطلاق جزيئات الإشارة الالتهابية، وبذلك تمكنوا من تفسير المشكلة التي تواجه الmRNA. تساءل الباحثان عن سبب التعرف على الرنا المرسال (mRNA) المنقول في المختبر على أنه جسم غريب في حين أن الرنا المرسال (mRNA) المستخلص من خلايا الثدييات لم يؤد إلى نفس الاستجابة الالتهابية! أدرك كاريكو ووايزمان أن هناك بعض الخصائص المهمة غير المكتشفة تميز الأنواع المختلفة من الرنا المرسال.

يحتوي الحمض النووي الريبوزي (RNA) على أربع قواعد، مختصرة A وU وG وC، وتتوافق مع A وT وG وC في الحمض النووي، وهي حروف الشفرة الوراثية. وقد عرف كاريكو ووايزمان أن القواعد الموجودة في الحمض النووي الريبوزي (RNA) المستخلص من خلايا الثدييات يتم “تعديلها كيميائيًا” في كثير من الأحيان. في حين أن الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) المنسوخ في المختبر ليس كذلك. إذن يبدو أن غياب القواعد “المُعدّلة” في الحمض النووي الريبي (RNA) المنسوخ في المختبر يحمل سرًا يمكنه أن يفسر التفاعل الالتهابي غير المرغوب فيه.

كشف سر نوبل الطب 2023

للتحقق من الفرضية، أنتج الباحثان أنواعًا مختلفة من mRNA، كل منها يحتوي على تغييرات كيميائية فريدة في قواعدها. وتم تعريض تلك الأنواع للخلايا الجذعية، وكانت النتائج مذهلة. نجح الباحثان في التغلب على الاستجابة الالتهابية بعد تضمين بعض التعديلات الأساسية في الحمض النووي الريبوزي المرسال. كان هذا بمثابة تغيير نموذجي في فهمنا لكيفية تعرف الخلايا على أشكال مختلفة من الرنا المرسال والاستجابة لها. أدرك كاريكو ووايزمان على الفور أن اكتشافهما كان له أهمية كبيرة في استخدام mRNA كعلاج. ونشرت هذه النتائج الرئيسية عام 2005، أي قبل خمسة عشر عامًا من ظهور جائحة كوفيد-19.

في مزيد من الدراسات التي نشرت في عامي 2008 و2010، أظهر كاريكو ووايزمان أن الرنا المرسال المعدّل أدى إلى زيادة إنتاج البروتين بشكل ملحوظ مقارنة بالرنا المرسال غير المعدل. وأن السبب في هذا التأثير يرجع إلى انخفاض تنشيط الإنزيم الذي ينظم إنتاج البروتين. ومن خلال اكتشافاتهما بأن التعديلات الأساسية أدت إلى تقليل الاستجابات الالتهابية وزيادة إنتاج البروتين، تمكن كاريكو وويسمان من إزالة العقبات الحاسمة في طريقهما إلى التطبيقات السريرية لـ mRNA.

لقاحات mRNA وإمكاناتها المذهلة!

بدأ الاهتمام بتكنولوجيا mRNA في التزايد، وفي عام 2010، كانت العديد من الشركات تعمل على تطوير هذه التقنية. وتمت متابعة اللقاحات ضد فيروس زيكا وفيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية؛ ويرتبط الأخير ارتباطًا وثيقًا بـ SARS-CoV-2. وبعد تفشي جائحة كوفيد-19، تم تطوير لقاحين معدلين من الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) لتشفير البروتين السطحي لـ SARS-CoV-2 بسرعة قياسية. تم الإبلاغ عن تأثيرات وقائية تبلغ حوالي 95%، وتمت الموافقة على كلا اللقاحين في وقت مبكر من ديسمبر 2020.

إن المرونة والسرعة المذهلة التي تمكنا بها من تطوير لقاحات mRNA ضد الكورونا تمهد الطريق لاستخدام التقنية ذاتها أيضًا للقاحات ضد الأمراض المعدية الأخرى. وفي المستقبل، يمكن استخدام هذه التكنولوجيا لتوصيل البروتينات العلاجية وعلاج بعض أنواع السرطان.

تم تقديم العديد من اللقاحات الأخرى ضد الكورونا، بناءً على منهجيات مختلفة، بسرعة. وتم تقديم أكثر من 13 مليار جرعة لقاح لكوفيد-19 على مستوى العالم. لقد أنقذت اللقاحات حياة الملايين ومنعت الإصابة بأمراض خطيرة لدى آخرين، مما سمح للمجتمعات بالانفتاح والعودة إلى الظروف الطبيعية. ومن خلال اكتشافات كل من كاتيلين ووايزمان الأساسية لأهمية التعديلات الأساسية في الحمض النووي الريبوزي المرسال، ساهم الحائزان على جائزة نوبل لهذا العام بشكل حاسم في هذا التطور التحويلي خلال واحدة من أكبر الأزمات الصحية في عصرنا.

المصدر: البيان الصحفي لجائزة نوبل الطب 2023

بطاقة تعريفية للفائزان بجائزة نوبل الطب 2023

كالتالين كاريكو

ولدت كاتالين كاريكو عام 1955 في زولنوك بالمجر. وحصلت على درجة الدكتوراه من جامعة سيجد في عام 1982 وأجرت أبحاث ما بعد الدكتوراه في الأكاديمية المجرية للعلوم في زيجيد حتى عام 1985. ثم أجرت أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة تيمبل، في فيلادلفيا، وجامعة العلوم الصحية، في بيثيسدا. وفي عام 1989، تم تعيينها كأستاذ مساعد في جامعة بنسلفانيا، حيث بقيت حتى عام 2013. ثم أصبحت نائبة رئيس ثم نائبة الرئيس الأولى في شركة BioNTech RNA Pharmaceuticals. ومنذ عام 2021، عملت أستاذة في جامعة سيجد وأستاذة مساعدة في كلية بيرلمان للطب في جامعة بنسلفانيا.

درو وايزمان

ولد درو وايزمان عام 1959 في ليكسينغتون، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة بوسطن في عام 1987. وأجرى تدريبه السريري في مركز بيث إسرائيل ديكونيس الطبي في كلية الطب بجامعة هارفارد وأبحاث ما بعد الدكتوراه في المعاهد الوطنية للصحة. في عام 1997، أنشأ وايزمان مجموعته البحثية في كلية بيرلمان للطب بجامعة بنسلفانيا. وهو أستاذ عائلة روبرتس في أبحاث اللقاحات ومدير معهد بنسلفانيا لابتكارات الحمض النووي الريبي (RNA).

ثمانية قرارات جعلت جوائز نوبل تبدو حمقاء!

لا يمكن سحب جوائز نوبل، لذلك يجب على لجنة التحكيم التفكير مليًا في اختياراتهم للجوائز الست كام عام. تكمن الأزمة في المعضلة التالية، فالاكتشاف قد يبدو رائدًا اليوم، ولكن هل سيصمد أمام اختبار الزمن؟ أراد مؤسس الجائزة ألفريد نوبل تكريم أولئك الذين حققت اكتشافاتهم “أكبر فائدة للبشرية”. فيما يلي عدة قرارات لجائزة نوبل تبدو موضع تساؤل بعد أن رماها الزمان بسهامه. إليك في هذا المقال ثمانية قرارات جعلت جوائز نوبل تبدو حمقاء بدرجة ما!

1. فوز ألماني شارك في هجمات بالغاز السام

حصل فريتز هابر على جائزة الكيمياء لعام 1918 لاكتشافه كيفية إنتاج الأمونيا من غازات النيتروجين والهيدروجين. وتم استخدام طريقته لتصنيع الأسمدة، وقدم اكتشافه دفعة كبيرة للزراعة في جميع أنحاء العالم. لكن تغاضت لجنة نوبل تمامًا عن دور هابر في المواد الكيميائية التي استخدمت خلال الحرب العالمية الأولى. إذ دعم هابر بحماسة المجهود الحربي الألماني، وأشرف على أول هجوم بغاز الكلور في إبرس في بلجيكا عام 1915. وقد أسفر استخدام غاز الكلور في إبرس عن مقتل الآلاف من قوات الحلفاء.

2. عندما منحت نوبل في الطب لاكتشاف سبب السرطان

فاز العالم الدنماركي يوهانس فيبيجر بجائزة الطب عام 1926 لاكتشافه أن الدودة المستديرة تسبب السرطان في الفئران. وكانت هناك مشكلة واحدة فقط، وهي أن الدودة المستديرة لا تسبب السرطان في الفئران!

أصر فيبيجر على أن بحثه أظهر أن الفئران التي تناولت يرقات الديدان عن طريق أكل الصراصير قد أصيبت بالسرطان. وفي الوقت الذي فاز فيه بالجائزة، اعتقدت لجنة تحكيم نوبل أن هذا أمر منطقي. ولكن اتضح لاحقًا أن الفئران أصيبت بالسرطان بسبب نقص فيتامين أ. خطأ كارثي من اللجنة ومن منهجيتها بالطبع!

3. مكتشف استخدام مادة الدي.دي.تي DDT

كانت جائزة الطب لعام 1948 للعالم السويسري بول مولر تكريمًا لاكتشاف ذو حدين. إذ لم يخترع مولر ثنائي كلورو ثنائي الفينيل ثلاثي كلورو الإيثان، أو المعروف اختصارًا بالـ DDT، لكنه اكتشف خصائصه كمبيد قوي للآفات. إذ يمكن للمادة أن تقتل الكثير من الذباب والبعوض والخنافس في وقت قصير.

أثبت المركب فعاليته في حماية المحاصيل الزراعية ومكافحة الأمراض التي تنقلها الحشرات مثل التيفوس والملاريا. أنقذ المبيد مئات الآلاف من الأرواح وساعد في القضاء على الملاريا في جنوب أوروبا.

ولكن في الستينيات، وجد دعاة حماية البيئة أن مادة الدي.دي.تي سامة للحياة البرية والبيئة. فحظرت الولايات المتحدة مادة الدي.دي.تي عام 1972. وفي عام 2001، تم حظر الDDT بموجب معاهدة دولية، على الرغم من السماح ببعض الإعفاءات لبعض البلدان التي تكافح الملاريا.

4. فوز جراحة الفص المخي بجائزة الطب

ربما بدا قطع أدمغة الناس فكرة جيدة في ذلك الوقت، ولكن بلا شك لم تكن مكافأة العالم البرتغالي أنطونيو إيغاس مونيز في عام 1949 لابتكاره عملية جراحية للفص المخي لعلاج الأمراض العقلية أفضل أوقات جوائز نوبل.

أصبحت هذه الجراحة شائعة جدًا في الأربعينيات من القرن الماضي، وفي حفل توزيع الجوائز تم الإشادة بها باعتبارها “واحدة من أهم الاكتشافات على الإطلاق في مجال العلاج النفسي”. لكن كان لها آثار جانبية خطيرة، إذ مات بعض المرضى وأصيب آخرون بأضرار بالغة في الدماغ. حتى العمليات التي اعتُبرت ناجحة تركت المرضى غير مستجيبين ومخدرين عاطفيًا.

تراجعت هذه الطريقة بسرعة في الخمسينيات من القرن الماضي حيث انتشرت أدوية علاج الأمراض العقلية. وبالطبع نادرًا ما يتم استخدامها اليوم.

5. عندما لم يفز المهاتما غاندي بجائزة السلام

تم ترشيح زعيم الاستقلال الهندي، الذي يعتبر أحد أعظم أبطال التاريخ في الكفاح السلمي، لجائزة نوبل للسلام ما لا يقل عن خمس مرات. ولكنه لم يفز قط!

وقد أقرت لجنة جائزة السلام، التي نادرًا ما تعترف بخطأ، في النهاية بأن عدم منح جائزة غاندي كان بمثابة إغفال. وفي عام 1989 – أي بعد 41 عامًا من وفاة غاندي – أشاد رئيس لجنة نوبل بغاندي عندما قدم جائزة ذلك العام إلى الدالاي لاما. بالتأكيد لا يحتاج غاندي لإشادة نوبل، فكفاحه باقٍ في تاريخ بلاده للأبد. وسيبقى تجاهل غاندي من القرارات التي جعلت جوائز نوبل تبدو حمقاء، أليس كذلك؟

6. تكريم عرفات ورابين وبيريز!

كرمت لجنة جائزة نوبل للسلام عام 1994 رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات لجهودهم في التفاوض على السلام بين إسرائيل وفلسطين في سلسلة اللقاءات التي جرت في أوسلو عام 1993. وقد مُنحوا جائزة نوبل للسلام على الرغم من عدم تمكنهم من التوصل إلى أي اتفاق عملي للسلام في تلك الاجتماعات.

عندما صوتت لجنة نوبل لمنح عرفات جائزة السلام، استقال أحد أعضائها على الفور واستنكر علنًا عرفات”كإرهابي “.

المؤرخ بيرتون فيلدمان في “جائزة نوبل: تاريخ العبقرية والخلاف والهيبة”

في الواقع، كان عرفات قد انخرط في السابق في العديد من الأعمال البارزة ضد إسرائيل. كما ترأس الفلسطينيين حيث استمروا في كفاح مسلح في السنوات اللاحقة حتى وفاته في عام 2004. المهزلة هنا تكمن في اعتبار عرفات “إرهابي” رغم كفاحه ضد احتلال لبلاده، وأن يمنح المحتل جائزة عن سلام لم يتحقق من الأصل. وحتى إن فرضنا أن نوبل لا تمنح لإنجازات من منظور وطني محدود، فلم منحت الجائزة لنيلسون مانديلا رغم كفاحه المسلح ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لذلك يأتي منح رابين وبيريز مدعاة أكبر للاستنكار ويستحق الاستقالة أكثر من عرفات بالتأكيد.

7. أدباء عظماء خسروا الجائزة بسبب سوء تفسير

صرح مؤسس جائزة نوبل ألفريد نوبل في وصيته أن جائزة الأدب يجب أن تُمنح للمؤلف الذي أنتج “في مجال الأدب العمل الأكثر تميزًا في اتجاه مثالي”.و في السنوات الأولى للجائزة (1901 إلى 1912)، فسرت لجنة اختيار نوبل هذه الصياغة على أنها تعني الكتّاب الذين كانوا يدافعون عن المثالية السامية الداعية للحياة والتفاؤل.

لهذا السبب، لم تعترف اللجنة ببعض أشهر المؤلفين في ذلك الوقت – وفي الواقع، طوال الوقت – مثل جيمس جويس، وليو تولستوي، وأنطون تشيخوف، ومارسيل بروست، وهنريك إبسن، ومارك توين، الذين اعتُبرت أعمالهم متشائمة وديستوبيا رغم عظمة كتاباتهم.

ماتت هذه الأساطير الأدبية قبل أن تعيد اللجنة تفسيرها لإرادة نوبل، لتعيد صياغة كلماته على أنها تعني “الأعمال ذات الجدارة الأدبية الدائمة”.

8. جدول مندليف لم يفز بنوبل!

يعد الجدول الدوري للعناصر أحد أكثر الأدوات فائدة – وبالتأكيد الأكثر شهرة – في كل الكيمياء. وكانت البصيرة العظيمة لمنشئ الجدول الأصلي، الكيميائي الروسي دميتري مينديليف، في تنظيم العناصر وفقًا لأوزانها الذرية. ويؤدي القيام بذلك إلى الكشف عن أنماط في خصائصها.

على سبيل المثال، جميع العناصر الكيميائية الموجودة في العمود الموجود في أقصى اليمين هي “غازات نبيلة” لا تكوّن بسهولة روابط كيميائية مع أي شيء آخر. علاوة على ذلك، فإن العناصر الموجودة في المنطقة الوسطى من الجدول كلها معادن. قام منديليف باستخدام جدوله الدوري بالعديد من الاستنتاجات المفيدة حول طبيعة المادة. وكان قادرًا حتى على التنبؤ بخصائص العناصر التي لم يتم اكتشافها بعد.

ومع ذلك، على الرغم من حقيقة أن مندليف عاش حتى عام 1907، أي بعد ست سنوات من بدء منح جائزة نوبل في الكيمياء، لم يتم الاعتراف بإنجازاته. كان ذلك بحق إحدى القرارات التي جعلت جوائز نوبل تبدو حمقاء!

كان استبعاد مندليف بسبب مكائد وراء الكواليس من قبل أحد أعضاء لجنة اختيار نوبل الذي اختلف مع عمل مندليف.

“الطريق إلى ستوكهولم: جوائز نوبل والعلوم والعلماء” (أكسفورد، 2002)، للكاتب إستفان هارغيتاي والعهدة عليه في مصداقية ادعاءاته

بعض هذه الأحداث يمكن تفسيرها بأشكال مختلفة. وبعضها قد يفسره أعضاء تحكيم نوبل فقط ولا يمكن الدفاع عنهم بأي حال من الأحوال. لكن من المؤكد أن الجائزة تحاول أن تصبح على درجة أعلى من التدقيق في العقود الأخيرة، لكن يبدو أن الأخطاء لا مفر منها. إذ سقطت الجائزة في فخ الفضائح الجنسية والمالية وتلاها استقالات عديدة، مما أدى إلى إلغاء جائزة نوبل في الأدب عام 2018 وتأجيلها لمدة عام. إذن، فالأخطاء جزء رئيسي في أي جماعة بشرية ولا يمكن تلافيه، لكن ما يجب تمييزه هو القدرة على تصحيح المسار. فالفارق بين جماعة تصحح وتنبذ سلوكياتها الخاطئة وجماعة أخرى لا تعترف بها بالمرة. وتبقى تلك القرارات الثمانية التي جعلت جوائز نوبل تبدو حمقاء، فهل لديكم المزيد؟ شاركونا آرائكم في التعليقات.

المصادر

Five decisions that made the Nobel Prizes look bad (phys.org)
Top 5 Nobel Prize Goof-Ups | Live Science
The official website of the Nobel Prize – NobelPrize.org

ردود على نقد التطور

هذه المقالة هي الجزء 12 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

بعد عرض أدلة التطور والرد على الطرح المضاد للتطور الذي يروج له الخلقيون، يحين موعدنا مع الرد على أشهر انتقادات وجهت لنظرية التطور.

التشابه ليس دليلًا على التطور

يعترض الخلقيون قائلين أن التشابه بين تراكيب الكائنات الحية ليس دليلًا على التطور. هذا ادعاء صحيح إلى حد ما، فليست كل التشابهات بين الكائنات الحية يمكن استخدامها على أنها دليل على تطورها من بعضها البعض بشكل مباشر.

على سبيل المثال، يمتلك كل من الطيور والحشرات الطائرة أجنحة، ولكن هذا لا يمكن أن يستخدم كدليل على انحدارهم من سلف مشترك امتلك أجنحة. في الواقع هذا ادعاء خاطئ، فقد طوّر كل منهم تركيبة الأجنحة بشكل منفصل. ولكن كيف يعرف العلماء ما إن كانت هذه التراكيب منحدرة من سلف مشترك أم تطورت بشكل منفصل؟

تكمن الإجابة في معرفة التركيبة والوظيفة للأعضاء التي نقارنها. فمثلًا، لدى كل من الخفافيش والطيور أجنحة، ولكنها مختلفة تمامًا في التركيبة على الرغم من تأديتهم لنفس الوظيفة. فعلى سبيل المثال، يتكون جناح الخفاش من غشاء يمتد بين أصابعه، بينما لا نرى ذلك في أجنحة الطيور.

حقوق الصورة: Macmillanhighered

ولكن عندما نأتي مثلًا لنرى زعانف الحيتان مقارنة بذراع الإنسان، نرى أنهما يتبعان نمطًا واحدًا كما ناقشنا في الجزء الأول من السلسلة. فعلى الرغم من امتلاكهم لوظائف مختلفة تمامًا، فنحن نرى نفس التركيبة. بالإضافة إلى أن زعانف الحوت لا تشبه زعانف الأسماك، ولكنها كما قلنا تتبع نمط الأطراف الأمامية لدى الثدييات. وهو ما يتوافق مع كونها ثدييات أصلًا.

باختصار، نوع التشابه الذي يستخدم للدلالة على التطور من سلف مشترك هو التشابه غير الضروري في تركيبة الأعضاء على الرغم من اختلاف الوظيفة. [1]

وجود فجوات في السجل الأحفوري

ينتقد الخلقيون نظرية التطور باعتبارها تفتقد لاكتمال السجل الأحفوري. فعندما يرون الكم الهائل من الأدلة التي تؤيد التطور من السجل الأحفوري، يقولون أن السجل الأحفوري غير مكتمل.

بالطبع هذا الادعاء صحيح، ولكنه لا يصلح لاستخدامه في نقد التطور. فتكوّن الحفريات عملية نادرة للغاية، ونحن على الأرجح لن نحصل على سجل أحفوري مكتمل في يوم من الأيام. ولكن هذا لا يصلح لمواجهة الكم الهائل من الحفريات التي عثرنا عليها، حيث أن كل حفرية من الحفريات الموجودة في السجل الأحفوري كانت “حلقة مفقودة” في مرحلة ما. على سبيل المثال، كان الاعتقاد سائدًا منذ زمن بعيد أن الإنسان والشيمبانزي متشابهان، ولكن لم تكن هناك حفريات انتقالية لتدعيم فكرة انحدار الإنسان والشيمبانزي من سلف مشترك. أصبح لدينا اليوم سجل أحفوري يزخر بالحفريات الانتقالية التي تحكي لنا قصة تطور الإنسان.

إذًا فمجرد وجود فجوات في السجل الأحفوري لن ينفي وجود عدد كبير من الحفريات الانتقالية المكتشفة بالفعل، ولا يصلح كنقد للتطور. يمكن اعتبار وجود فجوات في السجل الأحفوري دعوة مفتوحة للجميع للمشاركة في سد تلك الفجوات بممارسة البحث العلمي والحملات الاستكشافية لاكتشاف المزيد من الحفريات.

الانفجار الكمبري

ليس لدى الخلقيين حجة أفضل الانفجار الكمبري ليستخدموها في نقد التطور. إلا أنها مبنية على أساس نفس الادعاء السابق كما سنوضح. تتلخص حجتهم أن في مرحلة ما من تاريخ الأرض، ظهر عدد ضخم من الكائنات الحية بشكل “مفاجئ” في السجل الأحفوري. وأن داروين نفسه اعترف بندرة الحفريات مما قبل العصر الكمبري، مما يثبت فرضيتهم عن الخلق المباشر.

ولكن هذا ادعاء غير صحيح بالمرة، فالحياة لم تبدأ في العصر الكمبري. ولكن يمكننا اقتفاء أثر للحياة مما قبل الانفجار الكمبري بحوالي 3 بليون سنة! وصحيح أن الحفريات ما قبل الانفجار الكمبري كانت نادرة في عصر داروين، ولكن هذا كان في عصر داروين فقط!

وجد العلماء العديد من الحفريات مما قبل الكمبري، والتي تعتبر نماذجًا أولية لأشكال الحياة التي عاشت في العصر الكمبري. مثل «بارفانكورينا-Parvancorina»، والتي تُشبه «الترايلوبايت-Trilobites» التي عاشت في العصر الكمبري إلى حد كبير. ولا يمكننا معرفة ما إذا كانت هي الأسلاف الحقيقية للترايلوبايت، ولكننا نرى التشابه في الصفات التشريحية كما تتنبأ نظرية التطور بالضبط. كما عُثر عليها في نفس الطبقات الرسوبية التي يتنبأ التطور بوجودها فيها! [2]

حقوق الصورة: Research Gate

كما عثر العلماء على «الكمبريلا-Kimbrella»، والتي تشابه الرخويات بدرجة كبيرة. ومجددًا، في نفس الطبقات الرسوبية التي تتنبأ بها نظرية التطور. [3] وغيرها الكثير من أشكال الحياة البدائية التي يمكننا العثور عليها مما قبل الانفجار الكمبري، وهذا يقودنا إلى استنتاج مفاده أن الانفجار الكمبري ليس “انفجارًا” حقًا.

أضف إلى علمك أن الانفجار الكمبري استمر لحوالي 20 مليون سنة، وهو ليس بالرقم الصغير! فمهما حدث من تنوع حيوي، فقد حدث على مدار 20 مليون سنة! [4]

في الواقع، لدينا أمثلة على تحولات تطورية كبيرة في فترات أقل بكثير من هذه، فلدينا سجل أحفوري جيد جدًا يوثق تطور الحيتانيات مثلًا. حتى أن نوعًا جديدًا من الحيتان البدائية اكتشف في وادي الحيتان في مصر في 2021 [5]، وأطلق عليه مكتشفوه اسم «فيوميسيتس أنوبيس-Phiomicetus Anubis». ونحن نعلم أن هذا التحول الكبير من حيوانات برية إلى الحيتان حدث في أقل من 10 مليون سنة فقط! [6]

إذًا فالعثور على حفريات انتقالية قبل الانفجار الكمبري تعد صورًا أولية للكائنات التي ظهرت فيه. ومعرفة أن الانفجار الكمبري استمر 20 مليون سنة، تكفي للإطاحة بحجة الانفجار الكمبري، وإثبات أنها لم تعد تصلح لاستخدامها في نقد التطور.

التطور يحدث داخل نفس النوع

يعترض الكثيرون قائلين أن التطور يحدث في نفس النوع فقط، ويتخيلون أن كل أمثلة التطور المرصود هي مجرد تكيفات ولا تصلح لاستخدامها كدليل على التطور. وللرد على هذا الادعاء علينا أولًا معرفة تعريف «النوع-species».

وفقًا للموسوعة البريطانية، النوع هو مجموعة من الكائنات الحية تضم أفرادًا يمتلكون خصائص متشابهة ويمكنهم التزاوج. [7]

والواقع أن هناك تجربة شهيرة توضح حدوث «الانتواع-Speciation»، مباشرة أمام أعيننا. حيث قامت «دايان دود-Diane Dodd» بتجربة بسيطة قامت فيها بعزل مجموعتين من ذباب الفاكهة، ووضعت كل مجموعة في قفص مغلق. قامت دايان بتغذية مجموعة منهم على طعام مكون بشكل أساسي من سكر «المالتوز-Maltose»، بينما غذّت المجموعة الأخرى بطعام مكوّن بشكل أساسي من «النشاء-Starch». وبعد فترة، أطلقت المجموعتين على بعضهما البعض لترى أنماط التزاوج التي سيتخذونها، وهنا كانت المفاجأة!

تزاوج ذباب المالتوز مع ذباب المالتوز، وذباب النشاء مع ذباب النشاء. هذا مثال على الانتواع يحدث أمام أعيننا، فقد أدى الانعزال والعيش في ظروف مختلفة لفترة من الزمن إلى ظهور نوعين من ذباب الفاكهة. [8] ولكنهم يقولون أن الذباب ظل ذبابًا، ولم يصبح أي كائن آخر. أجل، فهل تقول نظرية التطور أن الذباب سيبيض عصافيرًا مثلًا؟

ما يخبرنا به التطور أن التغيرات الصغيرة تتراكم على مدى زمني طويل لتصير تغيرات كبيرة ملحوظة. وكل التغيرات الصغيرة التي نرصدها في المعمل أو خارج المعمل ما هي إلا خطوات صغيرة إذا استمرت وتراكمت، ستصير الكائنات بشكل مختلف تمامًا. فتراكم السنتيمترات (على الرغم من صغرها) سيعطينا عاجلًا أم آجلًا كيلومترات، ولا يمكنك إنكار هذا لأنه لا يعجبك. وهنا قد تتساءل إذا لم يكن التطور الكبير مرصودًا فكيف للعلماء أن يعرفوا حدوثه؟

يعرف العلماء حدوثه من السجل الأحفوري الذي يوثق تطور أنواع كثيرة. كما يعرفونه من علم الأجنة الذي يوفّر أدلة قوية على التطور. وكذلك يعرفونه من الجينوم الذي أثبت حدوث التطور بأدلة قاطعة كما بينت كثيرًا في هذه السلسلة بطولها.

لوسي قرد عادي

نعم، هذا صحيح تمامًا، فالتصنيف العلمي لي ولك وللشيمبانزي والغوريلا والأورانجوتان هو «القردة العليا-Great Apes». وكذلك كان الأوسترالوبيثيكاس (لوسي)، ولكن ليس هذا ما يعنيه الخلقيون، ما يقصدونه هو أن لوسي مجرد شيمبانزي وليست ضمن الخط التطوري للبشر.

وهذا غير صحيح لأننا نجد صفات بشرية لدى لوسي ليست لدى القرود غير البشرية، مثل المشي المنتصب. نعرف أن لوسي قد مشيت منتصبة عن طريق معرفة زاوية تمفصل عظمة الفخذ مع عظمة الحوض في الحفرية. كما عثرنا على حفريات لآثار أقدامها، وهي مشابهة لآثار البشر كما ناقشنا بتفصيل أكثر في الجزء الخاص بالسجل الأحفوري.

رسومات إرنست هيكل

يقولون أن خط الأدلة من علم الأجنة مبني على رسومات إرنست هيكل التي اكتشف لاحقًا أنها مزيفة. حيث رأى هيكل أن الجنين يمر بمراحل أثناء تكونه يكون مشابهًا فيها لأسلافه في مرحلة البلوغ، فيما يُعرف ب«التلخيص-Recapitulation» وهذا لأن الجنين -وفقًا لرأي هيكل- يُلخّص تاريخه التطوري أثناء مراحل تكونه. فعلى سبيل المثال، سيبدأ الجنين البشري بكائن أحادي الخلية، ثم سمكة، ثم يصير كائنًا برمائيًا، وهكذا إلى أن يصل إلى الهيئة البشرية (وفقًا لفرضية هيكل).

وهذا مجرد هراء، فقد قمنا بتخطئة نظرية هيكل في أول فقرة من مقال علم الأجنة. كما دعّمنا الأدلة التي أوردناها من علم الأجنة بصور فوتوغرافية لا علاقة لها برسومات هيكل من قريب أو بعيد. وقد تجاوز العلم رسومات هيكل بسنوات من البحث والتدقيق والتمحيص. ولكن يبقى الخلقيون مولعون بالبحث في ركام الفرضيات العلمية التي قام المجتمع العلمي نفسه برفضها لينتقدوا بها العلم الحديث، وفي هذا تدليس واضح.

عدد كروموسومات الإنسان

يردد الخلقيون عن جهل هذا المثال كثيرًا، فيقولون كيف للإنسان أن يمتلك عددًا مختلفًا من الكروموسومات عن القردة العليا إن كان منهم؟ والحقيقة أن الكروموسوم 2 لدى الإنسان عبارة عن كروموسومين ملتحمين كما أثبتنا بشكل أكثر تفصيلًا في مقال أدلة الجينوم. هذا بغض النظر عن وجود حالات مرضية لتغير عدد الكروموسومات داخل نفس النوع، فلدينا نحن البشر مجموعة من التغيرات الكروموسومية بالفعل:

• «متلازمة داون-Down syndrome»، وتنتج عن وجود كروموسوم زائد مماثل للزوج رقم 21، وبالتالي فإن كل خلايا الجسم تحتوي على 47 كروموسوم بدلًا من 46.
• «متلازمة كلاينفلتر- Klinefelter syndrome»، وتنتج عن وجود كروموسوم X زائد في الحيوان المنوي، فتصبح كروموسومات الجنين XXY.
• «متلازمة تيرنر-Turner syndrome»، وتحدث في الإناث نتيجة عدم نقص وجود كروموسوم X بشكل كلي أو جزئي. [9]

كما أن الأبحاث العلمية أثبتت بشكل قطعي أن الكروموسوم 2 عبارة عن كروموسومين ملتحمين، لذا فلا فائدة من نكرانه أو محاولة الهروب منه. فليتعامل الخلقيون مع ذلك!

«سمكة السيليكانث-Ceolacanth»

يحتج الخلقيون بأن سمكة السيليكانث لم تتطور على مدى ملايين السنين وهذا يجعل منها «أحفورة حية-Living fossil»، وأن هذا يعارض التطور. وهو ادعاء باطل من وجهين:

أولًا، لا تحتم نظرية التطور على كل الكائنات أن تستمر في التغير، فالانتخاب الطبيعي يحافظ على الصفات المناسبة لبيئتها بشكل كافٍ. لذا فوجود أي كائن لم يتغير على مدى سنين كثيرة لا يُعد حجة لتستخدم في نقد التطور.

ثانيًا، لا تعد السيليكانث أحفورة حية أصلًا، فالسجل الأحفوري يزخر بأقرباء السيليكانث المنقرضين مثلما نرى في هذه الصورة (سمكة Latimeria هي نوع السيليكانث الموجود حاليًا). [10]

حقوق الصورة: Ecologica

منذ أن خرجت نظرية التطور إلى النور وهي مبحث مهم من مباحث العلم الحديث. لذا فقد رأينا أن نعرض لكم أبرز أدلة التطور وأكثرها شيوعًا، مع العلم بأن هناك عدد أكبر من الأمثلة في كل خط من خطوط الأدلة التي ناقشناها. ويستمر البحث في نظرية التطور، وتستمر الأدلة في الزيادة، ونستمر في إطلاعكم بكل جديد في مجال العلوم.

المصادر

[1] Berkeley
[2] Fossil Fandom
[3] Nature
[4] Springer
[5] Royal Society
[6] Whales
[7] Britannica
[8] Berkeley
[9] About Kids Health
[10] Ecologica

التصميم الذكي في ميزان العلم

هذه المقالة هي الجزء 11 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

يلقى التصميم الذكي تأييدًا واسعًا لدى معارضي التطور، حيث يلجأون إليه في تفسير تنوع الكائنات الحية. لكن هل تصمد هذه الفكرة أمام نظرية التطور حقًا؟ سرعان ما يظهر تفوق التطور في توفير تفاسير علمية حقيقية للطبيعة، واليوم سنضع التصميم الذكي في ميزان العلم للرد عليه وعلى الادعاءات غير العلمية التي يرددها مؤيديه.

ليس غرضنا من هذا المقال التعرض لمسألة خلق الحياة من قريب أو من بعيد، فالتطور لا يناقش فكرة الخلق. التطور غير معنِي أصلًا بتلك المسائل أو بتفسير نشأة الحياة، وإنما يسعى لتفسير التنوع الحيوي بعد أن نشأت الحياة أصلًا. إن كنت تبحث عما يعارضه التطور، فالتطور يعارض مفهوم الخلق الخاص لكل نوع بشكل منفصل عن الأنواع الأخرى بالتحديد. وقد وجب التنبيه لكي لا يُساء فهم مغزى المقال.

هل فكرة التصميم الذكي علمية؟

يحاول الخلقيون إقحام التصميم الذكي كتفسير علمي للتنوع الحيوي. ولكن سرعان ما ينهار أمام معايير الفرضية العلمية، وهذا لأن من معايير الفرضية العلمية أن تكون:

1- تركز على العالم الطبيعي المادي. إذ يطرح مؤيدو التصميم الذكي الفرضية كتفسير للتنوع الحيوي الطبيعي، والصفات التشريحية والجزيئية المادية لدى بعض الكائنات.

2- تسعى لتفسير العالم الطبيعي. ويدعي الخلقيون أن التصميم الذكي يفسر العالم الطبيعي ولكنه سرعان ما يكون مختصرًا للغاية في تفسيراته. على سبيل المثال، يفسر التصميم الذكي وجود السوط البكتيري بأنه بفعل مصمم ما ذكي، ولكنه يفشل في توفير أي معلومات عن طبيعة هذا المصمم أو عن كيفية تصميمه للسوط البكتيري.

3- تستخدم أفكارًا قابلة للاختبار. إذ يجب على أي فرضية علمية تقديم توقعات وتنبؤات بشأن الملاحظات التي نرصدها في العالم الطبيعي لتأييد أو دحض الفرضية. ولكن نظرًا لأن التصميم الذكي لا يعطي تفسيرًا لكيفية التصميم أو ماهية المصمم، فإنه يفشل في توفير تنبؤات دقيقة من شأنها أن تساعدنا على معرفة مدى صحة هذه الفكرة. باختصار، التصميم الذكي غير قابل للاختبار. أي لا يمكن أن يضع مؤيدوه شروط يمكن حينها إسقاط فرضية التصميم الذكي، بالتالي تفقد فرضية التصميم الذكي ركن أساسي في بنائها العلمي.

4- تقوم على الأدلة

نظرًا لكون التصميم الذكي غير قابل للاختبار فهو يفشل في طرح أدلة لدعمه. ولكن داعمو هذا الطرح يعمدون إلى الاستدلال على طرحهم بتوجيه الانتقادات للتطور (مثل فكرة التعقيد غير القابل للاختزال)، والتي تم اختبارها ودحضها علميًا كما سنبيّن بعد قليل.

5- تشمل المجتمع العلمي

لا ينشر مروجو التصميم الذكي أبحاثهم في المجلات العلمية المرموقة. ويقاومون تعديل أفكارهم لمواءمة تدقيق المجتمع العلمي والبيانات العلمية، ولكن لهم مجتمعًا خاصًا بهم. وهو مجتمع مسخّر لدعم أفكارهم، وليس لمحاولة فهم وتفسير العالم الطبيعي.

6- تساهم في حركة البحث العلمي

حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، لم يساهم التصميم الذكي في أي اكتشاف علمي جديد. بالطبع يستمر مؤيدو هذا الطرح في الكتابة عن هذه الفكرة ولكنه عمل غير إنتاجي، لا يساعد في تقديم أي تفسيرات دقيقة للعالم الطبيعي. [1] بالإضافة طبعًا إلى كون التصميم الذكي قائم على أكتاف أيدولوجيات دينية مبنية على تأويلات وفهم معين لبعض النصوص الدينية، مما يلقي به خارج سياج الفرضيات العلمية.

خلاصة ما سبق، إن فرضية التصميم الذكي هي أبعد ما تكون عن الفرضية العلمية. حتى لو كانت تسعى لتفسير العالم الطبيعي. وعلى الرغم من تقديم داعمي هذه الفرضية بعض الادعاءات قابلة للاختبار (وخاطئة) بشأن التطور، فالتصميم الذكي نفسه غير قابل للاختبار وفق المنهجية العلمية.

«التعقيد غير القابل للاختزال-Irreducible complexity»

التعقيد غير القابل للاختزال هو مصطلح صاغه «مايكل بيهي-Michael Behe» عام 1996 في كتابه «صندوق داروين الأسود-Darwin’s Black Box». وهو مصطلح يشير إلى الأنظمة الحيوية التي – من وجهة نظر بيهي – تعتمد في عملها على مجموعة من الأجزاء التي تعمل في تناسق مع بعضها البعض. ولا يمكن للنظام أن يعمل إذا تم استبعاد أحد هذه الأجزاء منه، وأن كل جزء في هذه الأنظمة لن يؤدي أي وظيفة بذاته. وبالتالي استحالة أن تكون هذه الأنظمة تطورت تدريجيًا، وإنما تحتاج إلى مصمم من وجهة نظر بيهي.

تكاد هذه الفكرة أن تصبح الدليل الوحيد القابل للمناقشة والتي يقدمها مروجو التصميم الذكي. وعلى الرغم من أن هذا الادعاء يعتمد على فجوات معرفية متوهَمة في العلم ليقحم فيها تفسيراته الأيديولوجية. وعلى الرغم من إثبات خطأ هذا الادعاء علميًا، إلا أنه ما زال يتردد على مسامعنا حتى اليوم. ولهذا رأينا أن نناقشه ونستعرض بعض أمثلتهم للرد عليها.

العين البشرية

بقع العين في الإيوجيلينا. مصدر الصورة: reference.com

يرى مروجو هذا الطرح أن العين البشرية معقدة للغاية، وتتكون من عدد من الأجزاء لا يمكن أن تعمل العين بدون إحداها. إذا فالعين لا يمكن أن تكون قد تطورت تدريجيا وإنما تحتاج إلى مصمم قام بخلقها بشكل مباشر. أليس كذلك؟

يبدو الطرح منطقيًا، لكنه غير صحيح على الإطلاق. فأبسط صور العيون في الطبيعة هي «بقع العين-Eyespots»، وهي عبارة عن بروتينات بسيطة حساسة للضوء. وتمتلك الكائنات البسيطة وحيدة الخلية مثل الإيوجلينا بقع العين، وعلى الرغم من عدم قابليتها لتكوين صورة، إلا أنها تساعد الإيوجلينا على رصد الضوء لتجنب مفترساتها.

أيضًا «كؤوس العين-Cup eyes» هي شكل أكثر تعقيدًا بقليل من بقع العين. تتكون كؤوس العين من سطح منحني من بقع العين، وهذا الانحناء يساعد على تحديد اتجاه الضوء. ويمكننا أن نجدها في «الديدان البلاناريانية-Planarian worms».

وباستمرار انحناء كcوس العين نرى ما يُعرف بPin eye، والتي تمتلكها كائنات مثل «النوتيلوس-Nautilus»، وهي تساعد على تكوين صورة مشوشة.

ومن ثم تأتي المرحلة الآتية وهي إضافة العدسة عند فتحة العين، والتي تمتلكها حيوانات كثيرة من ضمنها البشر، وتقوم هذه العدسة بتركيز أشعة الضوء عن طريق «الانكسار الضوئي-Light refraction».

هناك مقطع فيديو رائع لعالم الأحياء ريتشارد داوكينز يقوم فيه بشرح تطور العين يمكنك مشاهدته من هنا.

في الواقع، تطورت العيون في الكائنات الحية حوالي 40 مرة بشكل منفصل. وخلاصة القول في تطور العيون أنه حتى أبسط أجزاء العين البشرية موجودة في كائنات مختلفة وهي وظيفية وتوفر الرؤية لهذه الكائنات. يمكننا أن نرى كيف أن كائنات مختلفة تمتلك تراكيب مختلفة، وتفتقر إلى بعض أجزاء العين البشرية. ولكنها ما زالت تعمل (باختلاف درجة الجودة بالطبع)، وبهذا نرى أن العين ليست كما يدعي مؤيدو التصميم الذكي “غير قابلة للاختزال”. [2]

«الخنفساء القاذفة-Bombardier beetle»

الخنفساء القاذفة هي حشرة مميزة، وحظيت بهذا الاسم لكونها تقذف مزيجًا من الكيماويات ذات درجة الحرارة العالية تجاه مفترساتها. ويحدث هذا عن طريق عملية معروفة، تقوم فيها الخلايا بإنتاج «الهيدروكوينونات-Hydroquinones» و«بيروكسيد الهيدروجين-Hydrogen peroxide» (وبعض الكيماويات الأخرى حسب النوع). يقوم جسد الخنفساء بتجميع تلك الكيماويات في خزان، وينفتح هذا الخزان عن طريق صمام يتحكم فيه عضلات ويحجزها في غرفة تفاعل ذات جدران سميكة. جدران هذه الغرفة مبطنة بخلايا تفرز إنزيمات «الكاتالاز-Catalase»، و«البيروكسيداز-peroxidase». وتقوم الإنزيمات بتكسير بيروكسيد الهيدروجين بسرعة وتُسرع عملية أكسدة الهيدروكوينونات إلى “p-quinones”. وينتج عن هذه التفاعلات كميات من الأوكسجين وما يكفي من الحرارة لرفع درجة حرارة هذه الكيماويات إلى درجة الغليان. يتبخر حوالي 20% من الكيماويات، وتحت ضغط الغازات الناتجة عن هذه التفاعلات، ينغلق الصمام وتندفع الكيماويات الحارقة عن طريق فتحات في بطن الخنفساء.

ويرى مروجو التصميم الذكي أن هذه الآلية الدفاعية لا يمكن أن تكون قد تطورت بشكل تدريجي، وإنما يجب أن تكون أعصابها وعضلاتها والكيماويات التي تقذفها قد ظهرت في وقت واحد. لنرى صحة هذا الادعاء!

هذا الادعاء خاطئ أيضًا، إذ أننا أمام سيناريو لتطور هذه الآلية الدفاعية، خطوة بخطوة. لنرى:

1- تنتج خلايا بشرة الخنفساء الكوينونات، وهذا موجود في كثير من «المفصليات-Arthropods» الأخرى.
2- تستقر الكوينونات على بشرة الحشرة جاعلة منها سيئة المذاق بالنسبة لمفترساتها (تستخدم العديد من المفصليات الكوينونات كآلية دفاعية بالفعل).
3- تنشأ انبعاجات صغيرة في البشرة بين «الخلايا الخشبية-Scleritis»، وهذا يسمح للحشرة بإطلاق المزيد من الكوينونات إلى السطح عندما تهتز.
4- يزداد عمق الانبعاجات، وتتحرك العضلات قليلًا للسماح لها بإطلاق الكوينونات (لدى بعض أنواع النمل مثل هذه الغدد).
5- يزداد عمق انبعاجين (الخزانات الآن)، حتى تصبح بقية الانبعاجات غير مهمة بالمقارنة بهما.
6- تظهر كيماويات دفاعية أخرى بجانب الكوينونات في كثير من الحشرات التي تعيش اليوم لتساعدها ضد مفترساتها التي طورت مقاومة للكوينونات. إحدى هذه الكيماويات الدفاعية الجديدة هو الهيدروكوينون.
7- تكوّن الخلايا المنتجة للهيدروكوينون طبقات على الخزان لتنتج المزيد من الهيدروكوينون. وتسمح القنوات الموجودة بين الخلايا لكل الطبقات بنقل الهيدروكوينون إلى الخزان.
8- تصير القنوات أنبوبًا مخصصًا لنقل الكيماويات، وتنسحب الخلايا الإفرازية من سطح الخزان لتكون عضوًا منفصلًا. جدير بالذكر أن هذه المرحلة (الغدد الإفرازية المتصلة بالخزانات عن طريق أنابيب) موجودة بالفعل في كثير من أنواع الخنافس غير الخنفساء القاذفة.
9- تتكيف العضلات لإغلاق الخزان، كي تمنع تسرب الكيماويات خارجه في غير وقت الحاجة.
10- يختلط بيروكسيد الهيدروجين (وهو منتج ثانوي، يتم إنتاجه بشكل طبيعي أثناء عملية الأيض) مع الهيدروكوينونات، لتكوين مزيج يمكن استخدامه للدفاع في وقت الحاجة.
11- تظهر الخلايا المنتجة لإنزيمات الكاتالاز والبيروكسيداز، على طول الممر الخارج من الخزان. وهذا يضمن وجود المزيد من الكوينونات في الإفرازات الدفاعية.
الكاتالاز موجود في جميع الخلايا تقريبًا، والبيروكسيداز كذلك شائع لدى النباتات والحيوانات والبكتيريا. مما يعني أن هذه الإنزيمات لا تحتاج إلى صناعتها من الصفر، ولكن فقط تركيزها في مكان محدد.
12- ينتج المزيد من الكاتالاز والبيروكسيداز، لتزيد من حرارة السائل المقذوف. كما تزيد كذلك من سرعة قذفه نتيجة لوجود الأوكسجين الذي يُوّلد نتيجة التفاعل. تعتبر خنفساء Metrius contractus مثالًا جيدًا على الخنافس القاذفة التي تمتلك إخراجًا رغويًا، وليس على شكل نفاثات.
13- تصبح جدران الممر أقوى لتحمل الحرارة والضغط الناتجين عن التفاعل.
14- يستمر إنتاج المزيد من الكاتالاز والبيروكسيداز، كما تزداد جدران الممر قوة وسُمكًا حتى تأخذ شكل غرف التفاعل الموجودة في الخنافس القاذفة اليوم.
15- يزداد طول طرف بطن الخنفساء ويصبح أكثر مرونة للسماح لها بتصويب السائل في اتجاهات متعددة.

ونلاحظ من هذا السيناريو أن كل هذه الخطوات هي خطوات بسيطة وتحقق منفعة للخنفساء، لذا سيسمح الانتخاب الطبيعي بتمريرها. وقد يتساءل الخلقيون عن كيفية معرفتنا لهذا السيناريو، في الواقع، هذا مجرد سيناريو افتراضي قد يكون غير حقيقي أصلا!

فالفكرة ليست في كون السيناريو حقيقي، وإنما في توضيح إمكانية تأدية بعض أجزاء النظام لوظائف جزئية. أي بطلان فكرة التعقيد غير القابل للاختزال. بالإضافة إلى توافر آليات مشابهة في كائنات أخرى بشكل أبسط. ففي كل خطوة من السيناريو المفترض، حافظ النظام على وظيفته الأساسية وهي الحماية والدفاع. وفي كل خطوة، تطورت آلية الخنفساء الدفاعية بشكل أفضل.

مجددًا، لا يهم إن كان هذا هو السيناريو الحقيقي أم لا، المهم هو إمكانية تطور هذا النظام بشكل تدريجي مع الاحتفاظ بوظيفته في كل خطوة كما وضحنا. وهذا كافٍ لنعلم أنه ليس “غير قابل للاختزال” كما يروج داعمو التصميم الذكي. [3]

«السوط البكتيري-Bacterial flagellum»

السوط البكتيري هو تركيبة تشبه الذيل، حيث تعتبر وظيفته الأساسية هي مساعدة البكتيريا على التحرك. يرى الخلقيون أن السوط البكتيري مصنوع من مجموعة بروتينات لا يمكن أن يؤدي كل بروتين منها أي وظيفة وحده. وهذا يجعل السوط البكتيري غير قابل للاختزال في نظرهم، فهل ادعائهم صحيح؟

حقوق الصورة: youtube


هذا ادعاء خاطئ لأبعد درجة، فالطبيعة مليئة بنماذج أولية وظيفية للسوط البكتيري (تذكروا ادعاءهم بأن أي نموذج أولي لأي نظام غير قابل للاختزال هو نموذج غير وظيفي)، بل ووظيفة كافية لتسبب خطرًا على حياة الإنسان.

من المعروف أن بعض أنواع البكتيريا تسبب الأمراض للكائنات التي تضيفها، والتي تعرف باسم «المضيف-Host». ولتتمكن البكتيريا من إصابة المضيف، عليها أن تحقن خلايا الكائن المضيف بالمواد السامة. ولكي تفعل البكتيريا ذلك تستخدم جهازًا يُدعى «الجهاز الإفرازي من النوع الثالث-Type III secretory system»، والذي يُرمز له بTTSS. تستخدم البكتيريا ال TTSS لتحقن السموم مباشرة في السيتوبلازم الخاص بخلية المضيف.

وقد تتساءل عن علاقة الTTSS بالسوط البكتيري الذي نتحدث عنه. أظهرت الدراسات أن قاعدة السوط تتشابه في البروتينات التي تكوّنها إلى حد كبير مع البروتينات التي تكون الTTSS. بالطبع، خبر غير سار لداعمي التصميم الذكي! إذ أن فكرة التعقيد غير القابل للاختزال قائمة على أنه بإزالة جزء واحد من النظام سيفقد النظام وظيفته. لكن هذا غير صحيح، فإذا أزلنا معظم أجزاء السوط البكتيري سيتبقى لنا جهاز إفرازي من النوع الثالث، وهو جهاز وظيفي كما ذكرنا.

TTSS. حقوق الصورة: Researchgate


يُعد وجود الTTSS في عدد كبير من أنواع البكتيريا المختلفة دليلًا على أن جزءًا صغيرًا من نظام “غير قابل للاختزال” (كما يتوهم الخلقيون) لا يزال يؤدي وظيفة بيولوجية مهمة لدى البكتيريا. وهذا يعني أن ادعاءهم بأنه على السوط البكتيري أن يتم تجميعه بشكل كامل قبل أن يصبح أي جزء منه ذو وظيفة هو ادعاء خاطئ. وهو ما يعني أن السوط البكتيري ليس “غير قابل للاختزال” كما يدعون. [4] ، [5]

وخلاصة القول في التعقيد غير القابل للاختزال أنه مجرد دليل متهافت مبني على فهم منقوص لعلم الأحياء اخترعه مايكل بيهي ليدعم فرضية التصميم الذكي. وأن كل أمثلته كما ذكرنا ليست غير قابلة للاختزال، ويمكنها أن تتطور تدريجيًا وهو ما نتوقعه من التطور. فالانتخاب الطبيعي لا يبدأ من الصفر، وإنما يعمل على أجهزة وظيفية موجودة من الأساس ليكسبها وظيفة جديدة أو يعزز وظيفتها الأصلية.

دحض التصميم الذكي

والآن بعد أن أوضحنا مدى تهافت دليل التعقيد غير القابل للاختزال، والذي بانهياره ينهار التصميم الذكي ويصبح كرماد تذروه الرياح بلا أي دليل ليدعمه. نأتي الآن بنيان الخلقيين من القواعد، حيث أن الأمثلة التي سنذكرها بعد قليل لا يمكن تفسيرها في ضوء التصميم الذكي. كذلك لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء التطور.

«العصب الحنجري المتكرر-Recurrent laryngeal nerve»

العصب الحنجري هو العصب الذي يصل بين الحنجرة والدماغ. وعلى الرغم من قرب المسافة بين الحنجرة والدماغ إلا أنه يأخذ مسارًا على شكل حرف U في الأبجدية الإنجليزية بدلًا من أن يسلك مسلكًا مباشرًا. يلتف العصب الحنجري في جسد الإنسان من تحت الشريان «الأبهر-Aorta»، ثم يصعد مجددًا ليصل إلى الحنجرة. إلا أن الأمر يصبح أكثر غرابة عندما نأتي لحيوان كبير في الحجم مثل الزرافة. فيقوم هذا العصب بقطع مسافة تبلغ 15 قدم (حوالي 5 أمتار) ليلتف على شكل حرف U داخل عنق الزرافة!

العصب الحنجري. حقوق الصورة: The Bite Stuff

وكما نرى، فهذا التصميم ليس ضروريًا على الإطلاق. فليس بهذا العصب حاجة ليقطع كل هذه المسافة ويلتف من تحت الأبهر ثم يصعد مجددًا لبلوغ وجهته. فما هو التفسير الممكن لهذه الظاهرة وفقًا لنظرية التطور؟

يكمن السبب في أننا تطورنا من أسماك، حيث أن فرع العصب الحائر يمتد في الأسماك من الأعلى للأسفل بجانب الوعاء الدموي القوسي الخيشومي السادس. يظل العصب بهذا الشكل في الأسماك الناضجة ليصل المخ بالخياشيم ليساعدها على ضخ المياه.

العصب الحائر في الأسماك. حقوق الصورة: Art Station

أثناء تطورنا، فقدنا الوعاء الدموي من القوس الخامس. وتحركت الأوعية الدموية من الأقواس الرابع والسادس إلى الأسفل لتكوين الشريان الأبهر وشريانًا يصل الأبهر بالرئتين. ولكن كان على العصب الحنجري أن يظل متصلًا بالبِنى الجنينية التي ستكون الحنجرة، والتي ظلت بالقرب من المخ.

ولأن الشريان الأبهر تطور إلى الوراء باتجاه القلب، كان على العصب الحنجري أن يلتف من تحته. ويمكنك مشاهدة مقطع فيديو قصير يوضح تطور هذه العملية من هنا.

في الواقع، نمتلك نفس التكوين السمكي للأعصاب والأوعية الدموية أثناء النمو الجنيني. ولكن ينتهي بنا المطاف بهذا التصميم للعصب الحنجري. [6]

الجهاز الهضمي للباندا

على الرغم من اعتماد دببة الباندا على نبات البامبو بشكل أساسي في الغذاء، إلا أن جهازها الهضمي ليس متكيفًا مع هذا النمط الغذائي. تقضي الباندا 14 ساعة يوميًا في أكل المزيد والمزيد من البامبو، لكنه لا يستطيع الاستفادة إلا من 17% من كمية البامبو التي يأكلها، فلماذا؟

يرجع السبب إلى امتلاك الباندا جهازًا هضميًا متكيفًا أكثر مع أكل اللحوم. فجهازها الهضمي يعاني من غياب البكتيريا التي تفرز إنزيمات لهضم السيليلوز مثل بكتيريا Ruminococcaceae الموجودة في الحيوانات آكلة النباتات الأخرى.

لا يمكننا تفسير هذا في ضوء التصميم الذكي لجهاز الباندا الهضمي، ولكن يمكننا تفسيره في ضوء تطور الباندا من دببة آكلة للحوم. الأمر منطقي، فجميع أنواع الدببة الأخرى آكلة للحوم، وبالتالي فقد ورث الباندا جهازه الهضمي من الدببة التي تعتمد في غذائها بشكل أساسي على اللحوم. [7] بينما يغض الخلقيون البصر عن هذا المثال الذي لا يترك مجالًا لفرضيتهم، فالجهاز الهضمي للباندا غير مصمم بشكل خاص بوضوح.

الولادة البشرية

عملية الولادة البشرية مؤلمة بشكل لا يحتمل، وسببت الوفاقة قبل تطور الطب الحديث لعدد كبير من النساء مع أجنتهم أثناء الولادة. وتكمن المشكلة في أننا طورنا دماغًا كبيرًا نسبيًا، هذا الدماغ أكبر من فتحة الحوض التي يمر من خلالها رأس الجنين. احتاجت فتحة الحوض إلى أن تكون ضيقة لتبقي على خاصية المشي المنتصب لدى البشر، وهو ما يتسبب للمرأة بهذا الألم الشنيع أثناء الولادة.

فإذا كان الإنسان مصممًا بشكل خاص، لم يكن ليستخدم نفس آلية الولادة التي تستخدمها باقي الحيوانات بطريقة أقل ألمًا (والتي لا تناسبنا بسبب رؤوسنا الكبيرة). ولكننا محكومون بتاريخنا التطوري كغيرنا من الكائنات. [6]

لا يصلح التصميم الذكي كفرضية علمية، يقف اليوم بلا أي أدلة حقيقية تصلح لإعلانه بديل عن نظرية التطور بأي حال.

المصادر

[1] Berkeley
[2] Nature
[3] Talk Origins
[4] NCBI
[5] Miller
[6] Why Evolution Is True?, By Jerry Coyne
[7] BIO M

أدلة التطور من الجينوم

هذه المقالة هي الجزء 10 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

في مقال اليوم نتعرف على أقوى خط من خطوط أدلة التطور، إذ سنتحدث عن أدلة التطور من الجينوم. الأدلة الجينومية هي نوع حديث نسبيًا من أنواع الأدلة على التطور، حيث أن كل ما سنذكره في مقال اليوم من أدلة لم يكن معروفًا قبل القرن الماضي. لقد تطورت علوم الجينوم بقوة وأصبحت ركيزة أساسية في علوم الطب والصحة والبيولوجيا. توقع الكثيرون أنها ستوجه ضربة قاضية لنظرية التطور، ولكنها على العكس، وجهت ضربة قاضية لكل ما يخالف التطور. لقد ظهرت جينات الأعضاء الضامرة بوضوح، بل وكيف ضمرت جينيًا. أصبح بالإمكان رسم شجرة التطور بواسطة الحواسيب من خلال تحليل تتابعات متعدد لجين معين ومعرفة رحلته التطورية عبر الكائنات الحية. والآن لنستعرض الأدلة، ولكن علينا أولًا أن نفهم بعض أساسيات علم «الأحياء الجزيئية-Molecular Biology».

ما هو ال DNA؟

قواعد الدنا النتيروجينية. حقوق الصورة: Medical News Today

تتكون كل الكائنات الحية التي تعيش على كوكبنا من خلايا، فالخلية هي الوحدة الأساسية لبناء الكائن الحي. وفي نواة الخلية، نجد جزيئات معقدة تُدعى «الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين-Deoxyribonucleic acid» وهي ما نرمز له ب “DNA”.

ويتكون ال DNA من تسلسل حروف هي A,C,T,G وكل حرف منهم يرمز إلى مركب كيميائي، حيث أن:

• حرف A يرمز إلى «أدينين-Adenine»
• حرف C يرمز إلى «سيتوزين-Cytosine»
• حرف T يرمز إلى «ثيامين-Thymine»
• حرف G يرمز إلى «جوانين-Guanine»

وتُدعى هذه المركبات الأربعة ب «القواعد النيتروجينية-Nitrogenous bases». عند اتحاد القواعد النتيروجينية مع جزيء «سكر خماسي الكربون-Pentose sugar»، و«مجموعة فوسفات-Phosphate group» تكون «النيوكليوتيدات-Nucleotides»، وهي وحدة البناء الأساسية لل DNA.

ما هي الجينات؟ وكيف تعمل؟

الجين هو قطعة لها بداية ونهاية من شريط الDNA، بمعنى أدق، هو تسلسل محدد من الحروف A,C,T,G. يحمل هذا التسلسل الأوامر اللازمة لإنتاج بروتين محدد، كأنها حروف في كتيب تعليمات لتركيب أجزاء المروحة. وفقًا لترتيب تلك الحروف، تترتب الأجزاء معًا وينتج في النهاية مروحة تعمل بكفاءة. ولكن كيف تعمل الجينات؟

يتم نسخ تسلسل حروف الجين الموجودة على شريط الDNA إلى تسلسل حروف آخر يُسمى «RNA رسول-Messenger RNA» ويُرمز له ب”mRNA”. ينتقل جزيء الmRNA هذا من نواة الخلية إلى «الريبوسوم-Ribosome» (أحد العُضيّات الموجودة داخل الخلية)، ويعمل الريبوسوم كآلة لإنتاج البروتين، حيث يقوم بقراءة تسلسل حروف الmRNA. تعطي كل 3 حروف الأمر لاختيار أي نوع من أنواع «الأحماض الأمينية-Amino Acids» بالتحديد ليضعه الريبوسوم في السلسلة. على سبيل المثال، الحروف “CAA” تخبر الريبوسوم أن يختار «الجلوتامين-Glutamine» (أحد الأحماض الأمينية). وعند الانتهاء من قراءة الmRNA تكون عملية تكوين البروتين قد تمت، ويمكنك مشاهدة مقطع يوضح هذه العملية الرائعة من هنا. [1]

وبعد هذه المقدمة التمهيدية البسيطة، ننتقل إلى استعراض أدلة التطور من الجينوم.

وحدة الشيفرة الجينية

كما ذكرنا، تستخدم كل الكائنات الحية على الأرض الDNA لتشفير معلوماتها الوراثية. كما تستخدم نفس طريقة صنع البروتين، حيث تعطي نفس الثلاث حروف الأمر للريبوسوم لوضع نفس الحمض الأميني في سلسلة الأحماض الأمينية لصنع البروتين في كل الكائنات الحية، ولكن ما هو تفسير هذا؟

وقد يتساءل القارئ عما إن كان هذا يتطلب تفسيرًا أصلًا، ولكن صدق أو لا تصدق عزيزي القارئ، شيفرة الDNA ليست الشيفرة الوحيدة الممكنة.

أظهرت الأبحاث باستخدام برامج الحاسوب إمكانية تشفير المعلومات الوراثية بما يزيد عن مليون شيفرة جينية ممكنة غير الDNA. بل أن بعضها قد يؤدي وظيفته بشكل أفضل بكثير من الDNA، فلماذا تستخدم كل الكائنات نفس الشيفرة؟ [2] , [3]

لا يمكننا فهم هذا إلا في ضوء نظرية التطور من أصل مشترك. فنظرية التطور تخبرنا أن جميع هذه الكائنات ورثت شيفرتها الوراثية من نفس الكائن الأولي.

ولا يمكننا أن نفهم سر وحدة الشيفرة في ضوء فكرة الخلق الخاص. لو كانت كل الكائنات قد خُلقت بشكل منفصل لما كان هناك حاجة لتكون هناك شيفرة موحدة. بل على العكس، فوجود شيفرات مختلفة في الكائنات المختلفة كان ليمنع انتقال الفيروسات بين الحيوانات المختلفة، مثل إنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور والكورونا التي تصيب البشر، وغيرها من الفيروسات.

نسبة التشابه الجيني بين الرئيسيات

لا تتشارك الكائنات نفس الشيفرة فحسب، بل تتشارك في كمية كبيرة من الجينات. وتختلف نسبة التشابه الجيني بين الكائنات وفقًا لقربها أو بعدها عن بعضها البعض تطوريًا.

تبلغ نسبة الاختلاف الجيني بين البشر نسبة ضئيلة تُقدر ب 0.1%، وتستخدم نسبة التشابه في معرفة الأنساب وتحديدها قضائيًا اليوم. أما بيننا وبين أولاد عمومتنا من الشيمبانزي وقرود البونوبو تبلغ نسبة التشابه حوالي 1.2%، بينما تصل إلى 1.6% بيننا وبين الغوريلا. والأهم من ذلك، هو أن كل من البشر والشيمبانزي والبونوبو يتشاركون نفس نسبة الاختلاف الجيني عن الغوريلا. أي أن الشيمبانزي والبونوبو أقرب إلى الإنسان منهم إلى الغوريلا.

وتختلف طرق حساب نسبة التشابه والاختلاف الجيني، وباختلاف الطريقة تختلف النسبة. حيث أنه بأخذ الجينوم الكامل بالحسبان، تُظهر النتائج أن هناك مناطق من الDNA قد حُذفت، أو تمت مضاعفتها مرات ومرات. أضيف بعضها في أماكن أخرى من الجينوم أيضًا. وعند الأخذ بكل هذه الاختلافات، قد تصل نسبة الاختلاف الجيني بين الإنسان والشيمبانزي إلى ما بين 4% و5%. ومهما اختلفت طرق الحساب فالنتيجة واحدة، وهي أن الإنسان والشيمبانزي والبونوبو أقرب إلى بعضهم منهم إلى الغوريلا أو أي من الرئيسيات الأخرى. وهذا يخبرنا بحقيقة مدهشة وبديهية في الأوساط العلمية اليوم، وهي أننا لسنا فقط أقارب القردة العليا، بل نحن منهم!

وتتيح لنا دراسة نسب التشابه الجيني بين الكائنات بناء شجرة عائلة تربط هذه الكائنات ببعضها البعض. والمفاجأة أن هذه الشجرة تطابق ما يخبرنا به كل من التشريح المقارن ودراسة الحفريات في ضوء نظرية التطور. [4]

حقوق الصورة: Human Origins


يعترض بعض المشككين قائلين أن التشابه الجيني لا يعني وحدة الأصل. لكن الواقع يقول أن الجينات لا تنتقل بين الكائنات الحية إلا بالتكاثر، فكون الكائنات تمتلك نفس الجينات يعني انحدارها من نفس الأصول. وكما تثق في تحليل الDNA الذي يخبرك إذا ما كان الطفل ابنك البيولوجي أم لا، عليك أن تثق بنتائج تلك الأبحاث التي تخبرك عن علاقتك التطورية بينك وبين أبناء عمومتك من الشيمبانزي والبونوبو وباقي الرئيسيات. علمًا بأن تحليل الDNA يتم بنفس الطرق التي قيست بها هذه النسب.

الكروموسوم 2

لدى الإنسان 23 زوجًا من الكروموسومات (46 كروموسوم)، بينما تمتلك القردة العليا الأخرى (الشيمبانزي، والأورانجوتان، والبونوبو، والغوريلا) 24 زوجًا (48 كروموسوم). غالبًا ما يلجأ المشككون لهذه المعلومة لدحض التطور، فيقولون إذا كان الإنسان من القردة العليا، فلماذا يختلف عنهم في عدد الكروموسومات؟

وتكمن الإجابة في أن تسلسل الDNA على الكروموسوم 2 لدى الإنسان متطابق تقريبًا مع كروموسومين منفصلين لدى الشيمبانزي. اقترح العلماء أن سبب اختلاف عدد الكروموسومات وفقًا لنظرية التطور هو أن الكروموسوم 2 عبارة عن كروموسومين مندمجين من كروموسومات القردة العليا، ولكن كيف نختبر هذه الفرضية؟

تُدعى أطراف الكروموسومات «تيلوميرات-Telomeres»، كما أن هناك منطقة تقع في منتصف الكروموسومات تُدعى «سنترومير-Centromere». يحتوي الكروموسوم الطبيعي على 2 تيلومير (نهايتين) وسنترومير واحد. فإذا كان الكروموسوم 2 في الإنسان عبارة عن اندماج في كروموسومين في القردة العليا، فعلينا أن نعثر على آثار لهذا الالتحام.

وجد العلماء آثار هذا الالتحام بالفعل، فقد أظهرت الأبحاث وجود بقايا تيلومير في منتصف الكروموسوم 2 (ناتج عن التحام تيلوميري الكروموسومين)، وبقايا سنترومير كذلك. هذا ما يثبت أن الكروموسوم 2 هو بالفعل عبارة عن اندماج كروموسومين من كروموسومات القردة العليا بشكل قاطع ولا يمكن تفسيره إلا باندماج كروموسومين. يدل هذا بما لا يدع مجال للشك على أصولنا المشتركة مع القردة العليا الأخرى. [5] , [6]

التحام الكروموسومين لتكوين كروموسوم 2. حقوق الصورة: Wikipedia

تكرار CMT1A الأقرب

على الكروموسوم 17 في الإنسان يقع جين PMP-22 الذي يشفر لإنتاج بروتين (Peripheral nerve protein-22)، محاطًا بنسختين من جين CMT1A، وهما «تكرار CMT1A الأقرب-Proximal CMT1A-REP»، و«تكرار CMT1A الأبعد-Destal CMT1A-REP».

ويؤدي «تعابُر الكروموسومات-Chromosome crossover» غير المتساوي، الناتج عن سوء اصطفاف التكرارين الأبعد والأقرب للجين CMT1A إلى مرضين عصبيين شائعين هما:
• Charcot-Marie-Tooth disease type (1A) (CMT1A)
• Hereditary Neuropathy with liability to Pressure Palsies (HNPP).

وبهذا نعتبر وجود نسختين من جين CMT1A خطأً وراثيًا، إذ يتسبب هذا التكرار غير الضروري بالإصابة بالأمراض العصبية، ولكن كيف يدل هذا على التطور؟

أظهرت تحاليل الDNA للرئيسيات امتلاكها جميعها لتكرار CMT1A الأبعد، ولكن فقط الإنسان والشيمبانزي وحدهما يمتلكان تكرار CMT1A الأقرب جنبًا إلى جنب مع التكرار الأبعد. أي أن هذا الخطأ الوراثي موجود فقط في الإنسان والشيمبانزي، ويمكننا تفسير هذا بحدوث عملية تضاعف للجين CMT1A في آخر سلف مشترك للإنسان والشيمبانزي.

لا يمكننا تفسير وجود هذا الخطأ لكل من الشيمبانزي والإنسان إلا وفق نظرية التطور. إذ ستتضاءل احتمالية حدوث نفس الخطأ لدى كل من النوعين بشكل منفصل دونًا عن بقية الرئيسيات التي أجريت عليها التحاليل. يصبح الأمر منطقيًا وفقًا لشجرة العائلة التطورية للقردة العليا. [7]

«الجينات الزائفة-Pseudogenes»

أثناء عملية التطور، تحدث طفرات لبعض الجينات متسببة في تعطيلها وتحويلها إلى جينات غير مشفرة للبروتين. تسمى هذه الجينات بالجينات الزائفة، لأنها لا تؤدي وظيفتها. تعتبر تلك الجينات الزائفة من أوضح الأمثلة على نظرية التطور، إذ لا يوجد ما يفسرها سوى النظرية. فهل من أمثلة؟

تنتج أجسام جميع الثدييات فيتامين C. إلا أن أجسام «الرئيسيات جافة الأنف-Haplorhini» (مجموعة تشمل قرود العالم القديم، وقرود العالم الجديد، والقرود العليا ومنها الإنسان) لا تستطيع صنع فيتامين C. تحصل الرئيسيات جافة الأنف علي فيتامين سي من غذائها، وفي حال عدم حصولها على الكميات الكافية، تُصاب بداء «الأسقربوط-Scurvy». يرجع هذا إلى عدم قدرتها على تصنيع إنزيم “l-gulono-gamma-lactone oxidase”، نظرًا لتعطل جين GULO المسئول عن إنتاج هذا الإنزيم.

المثير في الأمر هو أن جين GULO معطّل في جميع الرئيسيات جافة الأنف لنفس السبب، وهو فقدان «الإكسونات-Exons» (نطاقات مشفرة في الجينات) أرقام 1,2,3,5,6,8,11. وهو ما لا يمكننا فهمه إلا في ضوء انحدار الرئيسيات جافة الأنف من سلف مشترك.

ولا تصمد فكرة الخلق الخاص أو التصميم الذكي في محاولة تفسير الجينات الزائفة. فلا داعي لوجود جين GULO في تلك الأنواع إن كان معطلًا أصلًا. كما أنه لا داعي لأن يتم تعطيل الجين بفقدان نفس الإكسونات بين مختلف أنواع الرئيسيات جافة الأنف. إذ أن نفس الجين معطل في «خنزير غينيا-Guinea pig»، ولكن لأسباب مختلفة وهي فقدان الإكسون 5 وجزء من الإكسون 6. مما يعني أن هذا الجين قد تعطل لديه بشكل منفصل عن المسار التوري للرئيسيات جافة الأنف التي ينتمي إليها البشر. وبالتالي، لا يمكن تفسير تعطل جين GULO إلا في ضوء نظرية التطور من سلف مشترك. [8]

وكذلك حيوان «البلاتيبوس-Platypus»، الذي لا يمتلك معدة حقيقية، وعلى الرغم من ذلك، يمتلك جينين زائفين مرتبطين بصنع إنزيمات هضمية. [9]

وعلى الرغم من عدم امتلاك الحيتان البالينية للأسنان، فهي تمتلك جين MMP20 معطل يشفر لصنع بعض البروتينات التي تدخل في تركيبة الأسنان. وكما ذكرنا في الجزء الخاص بتطور الحيتانيات، تنمو لدى أجنة الحيتان البالينية براعم أسنان بالفعل. [10] كما تمتلك الطيور (وهي حيوانات بلا أسنان) جينات معطلة لتكوين أسنان! [11]

ووجود هذه الجينات الزائفة يعد من أقوى أدلة التطور من الجينوم، كما أنه دعم الأدلة التشريحية للتطور.

كيس المُح

نشترك نحن والزواحف والدجاج في امتلاكنا للبيض (البويضة في حالة إناث البشر). إلا أن الطيور (مثل الدجاج) لديها قشرة تحمي البيضة، كما تمتلك كيس المُح، والذي يقوم بتوفير الغذاء للجنين لمساعدته على النمو. ولكن بويضة الإنسان أصغر بكثير من بيض الدجاج، وليس فيها قشرة أو مُح حتى. ولكن تكون الأجنة البشرية كيس مح فارغ يختفي أثناء فترة الحمل، فهل من تفسير جيني؟

تمتلك كل الفقاريات التي تبيض بروتين Vitellogenin، مما يعني وجود جين يشفر لصنع هذا البروتين، فماذا تظهر الأبحاث؟

تظهر الأبحاث وجود قطع من DNA المُح في الجينوم البشري، مطابقة تماما للجينات الأصلية التي لدى الدجاج. ليس هذا وحسب، بل إنه عند مقارنة جينوم الإنسان بجينوم الدجاج يتضح أن هذه القطع محاطة بنفس الجينات لدى كل من الإنسان والدجاج. يعد هذا أحد أدلة التطور من الجينوم. [12] , [13]

جين NANOG

جين NANOG هو أحد «الجينات الزائفة المعالَجة-Processed pseudogenes». وهي جينات تنشأ نتيجة خطأ أثناء عملية نسخ حروف الDNA إلى mRNA. فبدلًا من أن تكتمل عملية إنتاج البروتين بشكل طبيعي، يُعاد بالخطأ نسخ الmRNA إلى الDNA لتكوين نسخة زائفة من الجين الأصلي في مكان آخر في الجينوم. هذا ما حدث مع NANOG، حيث نجد على الجينوم الخاص بنا 10 نسخ زائفة من هذا الجين بالإضافة إلى النسخة الأصلية التي تعمل. فكيف يكون هذا دليلًا على التطور؟

تكمن المفاجأة في أننا نتشارك 9 نسخ زائفة من جين NANOG مع أبناء عمومتنا من الشيمبانزي. بينما النسخة NANOGP8 حصرية لدى جينوم الإنسان. والأدهى، أن هذه النسخ ال 9 موجودة على جينوم الشيمبانزي في نفس الأماكن التي توجد فيها على جينوم الإنسان! إن احتمالية حدوث نفس الأخطاء 9 مرات في نفس المكان لدى النوعين بشكل منفصل احتمالية غاية في الضآلة. وأن تصدف هذه الاحتمالية شديدة الضآلة بين كائنين تصفهم نظرية التطور بالأقرابة يصعب الأمر على منكرين التطور. المشكلة لدى منكري التطور هو في إيجاد تفسير آخر خارج نظرية التطور لتلك الأدلة الحاسمة.

وهذا يعني أننا ورثنا 9 نسخ NANOG زائفة من آخر سلف مشترك بيننا وبين الشيمبانزي، أما عن النسخة المتبقية وهي NANOGP8، فهي وجدت في جينوم الإنسان بعد انفصاله عن الشيمبانزي، وهذا يعد أحد أقوى أدلة التطور من الجينوم. [14]

«سيتوكروم سي-Cytochrome C»

هناك جينات تتشاركها كل الكائنات الحية على اختلافها، لأنها تؤدي وظائف أساسية للغاية. جينات تتشاركها كل الكائنات ابتداء من أشكال الحياة وحيدة الخلية وحتى الإنسان، وتُعرف هذه الجينات ب «الجينات واسعة الانتشار-Ubiqitous genes».

وهذه الجينات ليس لها دخل بالصفات الخاصة بكل نوع، إذ أنها كما قلنا أعلاه، مسئولة عن وظائف أساسية للغاية تتشاركها معظم أشكال الحياة. ولا يُشترط أن تكون هذه الجينات بنفس تسلسل الحروف، إذ أن هناك عدد كبير من التسلسلات التي تؤدي نفس الوظيفة الحيوية الكيميائية.

والوراثة كما ذكرنا في أمثلة كثيرة أعلاه، تسمح بتمرير تسلسلات الجينات حتى وإن لم يكن لهذه التسلسلات فائدة وظيفية. وعلى هذا، فلا يمكننا تفسير وجود نفس التسلسل في هذه الجينات بين نوعين إلا بالوراثة؛ ذلك لأنهم لا يحتاجون نفس التسلسل إن كان كل منهم قد وجد بشكل منفصل كما يدعي المنكرون. يكفي وجود جين مكافئ يؤدي وظيفة مشابهة وهو أمر يحدث في الطبيعة بالفعل.

على سبيل المثال، نحن نعلم أن الإنسان والشيمبانزي متشابهين في كثير من الصفات. فيمكننا البناء على هذا، وتنبؤ استخدامهم لبروتينات متشابهة، بغض النظر عن ما إذا كانت تجمعهم علاقة وراثية أم لا. يصبح الأمر أكثر غرابة عندما نقارن بين تسلسلات جينية غير مؤثرة على خصائص أي من النوعين، فعلام نتحدث؟

نحن نتحدث عن بروتين «سيتوكروم سي-Cytochrome C»، وهو بروتين واسع الانتشار، إذ يوجد في كل أنواع الكائنات الحية بما في ذلك البكتيريا. وهو موجود في الميتوكندريا، حيث يقوم بنقل الإلكترونات في عملية أيض أساسية تُدعى ب «الفسفرة المؤكسدة-Oxidative phosphorylation».

ومما سبق يمكننا استنتاج أن امتلاك كل الكائنات لنفس تركيبة سيتوكروم سي شيء غير ضروري بالمرة، إذ يكفي فقط امتلاكها لبروتين مكافئ يؤدي نفس الوظيفة.

كما أظهرت الأبحاث أن سيتوكروم سي الخاص بالإنسان يعمل لدى الخميرة التي تم حذف نسخة سيتوكروم سي الخاصة بها. على الرغم من أن نسبة الاختلاف بين تركيبة السيتوكرومين تبلغ 40%.

في الواقع، سيتوكروم سي الخاص بالتونا (أسماك)، والحمام (طيور)، والأحصنة (ثدييات)، وذباب الفاكهة (حشرات)، والفئران (ثدييات)، جميعها تعمل في الخميرة التي تم حذف سيتوكروم سي الخاص بها!

علاوة على ذلك، أثبت تحليل جيني شامل لسيتوكروم سي أن أغلب الأحماض الأمينية الموجودة في تسلسل هذا البروتين غير ضرورية. وأنه فقط حوالي ثلث الأحماض الأمينية ال100 الموجودة في سيتوكروم سي كافية للقيام بوظيفته، وذلك لأن معظم الأحماض الأمينية في سيتوكروم سي هي أحماض «مفرطة التغيير-Hypervariable». والأحماض المفرطة التغيير يمكن استبدالها بعدد كبير من الأحماض الأمينية الأخرى التي ستكون قادرة على إتمام نفس الوظيفة.

تجربة هوبرت

والغريب في الأمر هو قيام الفيزيائي Hubert P. Yockey بحساب عدد تسلسلات الأحماض الأمينية الممكنة لتكوين البروتينات المكافئة لسيتوكروم سي، والقادرة على القيام بنفس تلك الوظيفة الأساسية. تبيّن أن عدد هذه التسلسلات الممكنة هو 10⁹³ × 2.316، وهو عدد مهول يزيد عن عدد الذرات في الكون المعروف بأكثر من بليون مرة! ومما سبق نستنتج أن تشابه تركيبة سيتوكروم سي بين الكائنات ليس ضروريًا على الإطلاق، فهل يخبرنا المنكرون سبب حدوثه إن كانت نظرية التطور خاطئة؟

ولكن العجيب هو أن الإنسان والشيمبانزي يتشاركون نفس تركيبة سيتوكروم سي، بلا أي اختلاف، واحتمالية حدوث هذا إذا أنكرنا العلاقة الوراثية بين الإنسان والشيمبانزي أقل من 10^-93 (1 من 10⁹³)، ويختلف كل من الإنسان والشيمبانزي عن باقي الثدييات الأخرى ب10 أحماض أمينية في تسلسل سيتوكروم سي فقط، وفرصة حدوث هذا إذا أنكرنا علاقتهم التطورية هي 10^-29 (1 من 10²⁹).

والخميرة أحد أبعد الكائنات «حقيقيات النوى-Eukaryotic» عن الإنسان، إلا أنها تختلف عنّا في تركيبة سيتوكروم سي ب51 حمض أميني فقط، وفرصة حدوث هذا دون وجود علاقة وراثية بيننا وبين الخميرة أقل من 10^-25 (1 من 10²⁵). [15]

ومن كل ما سبق نستنتج أن التشابه في تركيبة سيتوكروم سي بين الكائنات الحية إنما هو نتيجة انحدارها من أسلاف مشتركة بينها، وكلما كانت الكائنات أبعد في الشجرة التطورية عن بعضها البعض، كلما زادت الاختلافات في تركيبة بروتين سيتوكروم سي، وكل هذا يجعل من سيتوكروم سي أحد أقوى أدلة التطور من الجينوم.

تشفير DNA زائد عن الحاجة

كما هو الحال مع سيتوكروم سي، هناك جينات أخرى واسعة الانتشار. لا تحتاج الكائنات نفس التسلسل الجيني لإنتاج نفس البروتين، ولن نترك المثال السابق، فسنتحدث أيضًا عن الجين المسئول عن إنتاج بروتين سيتوكروم سي.

على الأقل، هناك ثلاث «كودونات-Codons» مختلفة يمكنها إعطاء الأمر للريبوسوم لاختيار نفس الحمض الأميني لوضعه في تسلسل البروتين. (الكودون هو الثلاث حروف من الDNA التي يقرأها الريبوسوم لاختيار الحمض الأميني). وهذا يعني أنه في حالة سيتوكروم سي، هناك حوالي 3¹⁰⁴ أو ما يزيد عن 10⁴⁶ تسلسل جيني مختلف يمكنهم إنتاج نفس البروتين بنفس تسلسل الأحماض الأمينية للقيام بنفس الوظيفة.

وبالتالي فاستخدام الكائنات المختلفة لنفس التسلسل لا يمكن تفسيره وفقًا لفكرة الخلق الخاص ولا التصميم الذكي لكل نوع بشكل منفرد. إذ يمكن لكل كائن أن يستخدم تسلسلًا جينيًا مختلفًا. والعجيب، والمتوقع وفق نظرية التطور، أننا عند فحص التسلسل الجيني المسئول عن إنتاج سيتوكروم سي لكل من الإنسان والشيمبانزي، نجد اختلافًا في 4 نيوكليوتيدات فقط (حوالي 1.2%)، على الرغم من وجود 10⁴⁶ تسلسل جيني ممكن.

في حالة سيتوكروم سي، سنجد أن التشابه في تسلسل الأحماض الأمينية غير ضروري! وكذلك في الجين المسئول عن تشفيره! مما يجعله دليلًا مزدوجًا من أدلة التطور من الجينوم. [15]

«الفيروسات القهقرية-Endogenous Retroviruses»

لا تستطيع الفيروسات التكاثر بذاتها، فعندما يُصاب الكائن بعدوى فيروسية، يقوم الفيروس بإدخال حمضه النووي إلى الحمض النووي الخاص بالخلية، فتقوم الخلية بصنع المزيد من الفيروسات من نفس النوع.

ولكن إذا أصاب الحمض النووي الفيروسي حيوانًا منويًا أو بويضة فسينتقل الحمض النووي الفيروسي إلى الأبناء. هذا لا يعني بالضرورة موت الإبن، إذ أن بعض الطفرات قد تحدث في الجين الفيروسي لتعطيله.

إذا فجينات الفيروسات القهقرية هي جينات موجودة في الجينوم الخاص بك، أتت إليك عندما أصيب أحد أسلافك بهذه الفيروسات ونقل جيناتها إليك على مدى أجيال. تعمل الفيروسات القهقرية كسجل تاريخي لك ولأسلافك من الكائنات الحية التي أصابتها من قبل.

يجب أن تكون الفيروسات القهقرية اختبارًا قويًا لنظرية التطور، أليس كذلك؟ فإذا كنا نحن والرئيسيات الأخرى انحدرنا من سلف مشترك فيجب أن نعثر على جينات فيروسات قهقرية من فيروسات أصابت أسلافهم قبل انفصال الرئيسيات عن بعضها البعض. كما يجب أن نعثر عليها في نفس المكان في الجينوم، إذ أن احتمالية أن يقوم الفيروس بإدخال الجين في نفس المكان على الجينوم لدى نوعين مختلفين دون افتراض وجود علاقة وراثية بينهما هي احتمالية غاية في الضآلة! تخيل أن تراكم عدد هائل من الاحتماليات شديدة الضآلة في كل الكائنات الحية لتفسير الأمر بالصدفة، يصبح تفسيرك مضحك للغاية بحق!

إن كان كل نوع من الرئيسيات قد خُلق بشكل خاص، فلا يجب أن تتشارك الرئيسيات جينات نفس الفيروسات في نفس الأماكن على الحمض النووي الخاص بها بالطبع. تسامحًا مع المنكرين، قد نعثر على نفس الفيروسات، ولكن ليس في نفس الأماكن أبدًا. إذ أن الفيروس عندما يصيب كائنًا ما، فهناك عدد كبير جدًا من الأماكن على الجينوم التي قد يُدخل حمضه النووي فيها. فقد أظهرت دراسات شاملة أن هناك ما يزيد عن 10 مليون مكان ممكن على الجينوم الخاص بالإنسان!

عند مقارنة الجينوم الخاص بالإنسان وذلك الخاص بالشيمبانزي، فاحتمالية عثورنا على جين فيروسي في نفس المكان بين النوعين، وأن يكون الجين عائدًا إلى نفس الفيروس، هي احتمالية أقل من 1 في 10 مليون.

قام العلماء بالبحث عن فيروس HERV-W لدى 12 نوع من الرئيسيات. ويمتلك الشيمبانزي من فيروس HERV-W عدد 208 نسخة، بينما يمتلك الإنسان 211 نسخة، فماذا وجدوا؟

أظهرت الدراسات أن الإنسان والشيمبانزي يتشاركون 205 نسخة من نفس هذا الفيروس في نفس المكان على جينوم كل منهما! [16] أنت الآن أمام دليل لا يدع مجال للشك أمام أي متخصص.

صورة توضيحية فقط وليست موضحة لأماكن الفيروسات، ولكنها لتبسيط الفكرة فقط. حقوق الصورة: Stated Clearly

إذا فقد ورث كل من الإنسان والشيمبانزي 205 نسخة من هذا الفيروس من آخر سلف مشترك لهما قبل انفصالهما. بينما ال 6 نسخ الحصرية لدى الإنسان وال 3 نسخ لدى الشيمبانزي، على الأرجح قد ظهرت بعد انفصال المسارات التطورية لكل منهما.

وهذا بحد ذاته كافٍ لتنحية فكرة الخلق الخاص أو التصميم الذكي. إذ أن احتمالية إصابة كلا النوعين بنفس الفيروس في نفس الأماكن على الجينوم بهذا العدد من النسخ بشكل منفصل هو احتمال ضئيل يبلغ 1 في 10¹⁴¹⁸ × 5.88. [17] وهذا يجعل من الفيروسات القهقرية دليلًا بالغ القوة من أدلة التطور من الجينوم.

جين ACYL3

نختتم كلامنا عن أدلة التطور من الجينوم بالحديث عن جين ACYL3 من باب التعديد وليس الإثبات، فما سبق أكثر من كاف. يعمل جين ACYL3 في كل الثدييات على كوكب الأرض (بما في ذلك الغوريلا والأورانجوتان) باستثناء نوعين فقط، وهما الإنسان والشيمبانزي. مما يعني تعطله في آخر سلف مشترك بين الإنسان والشيمبانزي، وهو ما يؤكده كون هذا الجين مُعطل لدى النوعين لنفس السبب بالضبط وهو حدوث طفرة أبدلت الجوانين بالأدينين. فبدلًا من أن يكون التسلسل هو TGG، والذي عند ترجمته يعطي الأمر للريبوسوم باختيار الحمض الأميني «تريبتوفان-Tryptophan»، جعلته الطفرة TGA، والذي عند ترجمته يعطي الأمر للريبوسوم بالتوقف ففسد الجين لدى هذين النوعين فقط. [18]

ولا يمكن تفسير تعطل الجين لدى نوعين فقط بنفس السبب إلا في ضوء نظرية التطور من سلف مشترك. وهو ما يجعله أحد أقوى وأبسط أدلة التطور من الجينوم.

قمنا في هذه السلسلة بسرد عدد كبير من أدلة التطور، وكلها كانت على سبيل المثال لا الحصر. فهناك عدد كبير من الأدلة التي لا يمكننا حصرها في سلسلة مقالات، بل أن هناك أدلة تظهر مع المزيد من الأبحاث يوميًا. فبعض الأدلة الواردة في هذا المقال مأخوذة من أبحاث لم يمر على نشرها 4 سنوات حتى، أي أن الأدلة في تزايد مع استمرار الأبحاث العلمية. فمجال التطور من أكثر المجالات التي تُنشر فيها الأبحاث العلمية. وبعد أن انتهينا من سرد أدلتنا، ننتقل في الجزء القادم إلى تفنيد دعاوى الخلقيين والرد عليهم بخصوص “التصميم الذكي”.

المصادر

[1] The Tech Genetics
[2] Livescience
[3] The Genetic Code: What Is It Good For? An Analysis of the Effects of
Selection Pressures on Genetic Codes, by Olivia P.Judson, Daniel Haydon
[4] Human Origins
[5] PNAS
[6] Springer
[7] Oxford
[8] Inactivation dates of the human and guinea pig vitamin C genes, by Marc Y. Lachapelle, Guy Drouin
[9] Bio med central
[10] Royal Society
[11] Bio med central
[12] PLOS
[13] Pubmed
[14] NCBI
[15] Talk Origins
[16] Pubmed
[17] Google.Docs
[18] PLOS

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تم استبدال مصطلحات معينة استخدمها أرسطو وأتباعه لوصف الطبيعة بنظريات جديدة وأدت تلك الأفكار لثورة علمية حقيقية تستند إلى فلسفة علمية جديدة. ومن ذلك المنظور، سنلقي نظرة في هذا المقال على اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر بشكل دقيق ومن خلال النصوص.

اختلاف أرسطو وديكارت

يصف النصان التاليان نفس الظاهرة وهي احتراق قطعة من الخشب، كتبهما أرسطو وديكارت. وكما ناقشنا سابقًا، حاول ديكارت استبدال الفلسفة الطبيعية الأرسطية، لأنه اعتبر الأرسطية عائقًا حقيقيًا أمام تقدم العلم، لما أضفته من غموض وأقحمت الروح لتفسير الأشكال الجوهرية.

أثناء قراءة النص، يرجى التفكير في إجابة السؤالين التاليين:
1. ما هي تركيبة الخشب؟ وكيف توصف عملية الاحتراق في النصين؟
2. هل أمكنك تمييز خصائص الفلسفة الأرسطية والفلسفة الميكانيكية الديكارتية؟

أرسطو والعناصر الأربعة

“يبقى أن نتحدث عن ماهية الأجسام التي تخضع للتوالد والتجدد، ولماذا. نظرًا لأن المعرفة في كل حالة تعتمد على ما هو تأسيسي، والعناصر هي المكونات الأساسية للأجسام، يجب أن نعرف أي من هذه الأجسام هو العنصر ولماذا. وبعد ذلك ما هو عدد العناصر وخصائصهم. ستكون الإجابة واضحة إذا شرحنا أولاً نوع مادة العنصر.

العنصر هو الجسم الذي يمكن تحليل الأجسام الأخرى فيه، ويحتمل أن يكون موجود فيها، في أي منها وهو أمر لا يزال محل نزاع. العناصر نفسها غير قابلة للتقسيم إلى أجسام مختلفة في الشكل. هذا ما قد نعنيه بالعناصر.

الآن إذا كان ما وصفناه عنصرًا، فمن الواضح أنه لا بد من وجود مثل هذه الأجسام. فاللحم والخشب وجميع الأجسام المماثلة الأخرى قد تحتوي على عناصر الأرض والنار، حيث يرى المرء هذه العناصر تنضح منها. ومن ناحية أخرى، لا يبدو (أمامنا في الوضع الطبيعي) أن اللحم أو الخشب يحتوي على النار ولا يصح أن نفترض خلوها منها. وبالمثل، حتى لو كان هناك جسم جوهري واحد، فلن يحتويهم. لأنه على الرغم من أنه سيكون إما لحمًا أو عظمًا أو أي شيء آخر، فهو لا يظهر في الحال. أنه يحتوي على إمكانية التحول، ويبقى السؤال، كيف تظهر هذه الإمكانية؟”

أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495. [1]
احتراق الخشب يبرز اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تفسير أرسطو

كتب أرسطو “كتاب عن السماوات” عام 350 قبل الميلاد، وهو الكتاب الكوني الرئيسي. يناقش أرسطو في “كتاب عن السماوات” فكرة العناصر الأربعة، والتي تتكون منها جميع الأشياء الفرعية (كل الأشياء التي تقع تحت مجال القمر)؛ والأثير، والمادة الكاملة التي تتكون منها الأجرام السماوية (الأجسام الموجودة فوق القمر). يرى أرسطو أن الأشياء الدنيوية تبقى عرضة للتغيير، فهي قابلة للتلف وسريعة الزوال. بينما الأجرام السماوية أبدية وغير قابلة للتلف.

الأشياء الفردية -وفقًا لأرسطو- تتكون من مادة وشكل. فالمادة عند أرسطو تتكون من أربعة عناصر وهي الأرض، والماء، والهواء، والنار، وهي ظاهرة في الأشياء بقوة. أثناء عملية الحرق مثلاً، يتحلل الخشب إلى رماد الأرض ونار.

يستنتج أرسطو أن الخشب مصنوع من النار، أما الأرض فمتماسكة على شكل خشب. وبالتالي، فإن عملية الحرق بالنسبة لأرسطو ليست سوى تحلل الأجسام الفردية إلى العناصر المكونة لها وهو مجرد فقدان شكل.

ديكارت والميكانيكية

“أعرف نوعين فقط من الأجسام في العالم تحمل الضوء بداخلها، وهي النجوم والنار. ولأن النجوم بلا شك أبعد على المعرفة البشرية من النار، يجب أن نحاول شرح ما نلاحظه في النار أولًا.

عندما يحترق الخشب أو بعض المواد الأخرى المماثلة، يمكننا رؤية تحرك الأجزاء الدقيقة من الخشب بالعين المجردة. تفصل النار الأجزاء الدقيقة عن بعضها البعض، وبالتالي تتحول تلك الأجزاء الدقيقة إلى نار وهواء ودخان، ويبقى جزء خشن كرماد.

قد يتخيل آخرون -إن أرادوا- أن شكل النار ونوعية الحرارة وعملية الاحتراق أشياء مختلفة تمامًا في الخشب. أما أنا فأخشى الافتراض عن طريق الخطأ أن هناك أي شيء أكثر مما هو موجود أمام عيني في الخشب. يجب أن يكون كل ما يظهر أمامي بالضرورة كامن داخل الخشب. لذا فسأقتصر على تصوري لحركة أجزائه. لأنك قد تكون قادرًا على إشعال النار والتدفئة باستخدام الحطب، ويمكنك حرقه بقدر ما تريد، ولكن إن كنت لا تفترض أن بعض أجزائه تتحرك وتنفصل عن بعضها، فلا يمكن تخيله يخضع لأي تغيير.

من ناحية أخرى، إذا أزلت النار، فقد أزلت الحرارة، وحينها ستحافظ على الخشب من الاحتراق. إذن، تمنحني الحرارة بعض القوة التي تدفع أجزاء الخشب الدقيقة في حركة عنيفة وتفصلها عن الأجزاء الخشنة. ضع في اعتبارك أن هذه القوة وحدها ستكون قادرة على إحداث جميع التغييرات نفسها التي نلاحظها في الخشب عند الاحتراق.”

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

تفسير ديكارت


“الآن بما أنه لا يمكن تصور كيف يمكن لجسم ما أن يحرك آخر إلا من خلال حركته الخاصة، يمكنني أن أستنتج أن ذلك اللهب الذي ينهش الخشب يتكون من أجزاء دقيقة تتحرك بشكل مستقل عن بعضها البعض بحركة عنيفة وسريعة للغاية. بينما تتحرك تلك الجسيمات بهذه الطريقة، يدفعون أجزاء الجسم التي يلمسونها ويحركون الجسيمات التي لا تقاومها.

يتحرك اللهب بشكل فردي، لأنه على الرغم من أن جسيماته تعمل معًا لإحداث تأثير واحد، إلا أننا نرى أن كل جسيم منهم يعمل من تلقاء نفسه على الأجسام التي يلمسها.

أقول، أيضًا، أن حركة جزيئات اللهب سريعة جدًا وعنيفة جدًا، لأنهم دقيقون جدًا لدرجة أننا لا نستطيع تمييزهم بالعين المجردة. وبالتالي لن يكون لدى تلك الجسيمات القوة التي يتعين عليها التأثير بها على الأجسام الأخرى إذا كانت سرعة لم تعوض عن قلة حجمها.

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

كتب ديكارت كتاب العالم بين 1629 و 1633م بالفرنسية، بعنوان Trait du monde et de la lumiere، ونشره عام 1664. يناقش ديكارت موضوعات مختلفة، من الميتافيزيقا إلى الطبيعة والبيولوجيا، ويكشف فيه عن فلسفته الميكانيكية.

تأصيل ديكارتي

يتبنى ديكارت نظرية المادة الجسيمية. فيصف ديكارت هنا عملية الاحتراق كنتيجة لحركة الجسيمات. يتحلل الخشب أثناء عملية الاحتراق إلى أجزاء صغيرة من الرماد والدخان والنار والهواء.

انتقد ديكارت في كتاباته فكرة أرسطو بأن الحرارة أو النار موجودة في المادة. يرى ديكارت أن الاحتراق يحدث عندما تدفع جزيئات النار جزيئات الخشب. يحدث الأمر بطريقة سريعة وعنيفة، مما يؤدي إلى ظهور تنظيم جديد.

رأينا سابقًا أن الفلسفة المدرسية تعرضت للنقد، وكانت هناك محاولات لاستبدالها. كان التمييز الأرسطي بين المادة والشكل من أكبر المشاكل في الفلسفة الحديثة المبكرة. تم استبدال هذا التمييز بفكرة أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة جدًا، تتفاعل مع بعضها البعض وفقًا لقوانين الطبيعة. افترض هذا التحول الانتقال من إطار كانت فيه الملاحظة الخارجية الشكلية كافية لوصف الطبيعة وظواهرها إلى إطار كان فيه البنية الداخلية للمادة وجسيماتها والتفاعل الميكانيكي بينها هي الأساس.

بالنسبة للنوع الثاني من التفاسير، لم تكن الملاحظة البسيطة كافية. وسنناقش سويًا الطريقة التي تعامل بها أوائل علماء الثورة العلمية الحديثة مع تلك المشكلة المتمثلة في الوصول إلى البنية الداخلية للمادة واكتشاف قوانين الطبيعة.

المصادر
[1] أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495.
[2] رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83.
[3] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen

كيف هدم ديكارت الفكر الأرسطي؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

وفقًا لما قاله ديكارت، فإن تصور السكولائيين أمثال فرانسيكو سواريز تحديدًا هو ما جعل مبدأ “الشكل الجوهري” أكثر إشكالية مما كان عليه بالفعل. إذا كانت الأشكال الجوهرية مثل الأرواح، فهذا لم يكن ليحدث إلا لأن المدرسيين قد تصوروا الطبيعة بطريقة مجسمة للغاية عن طريق وضع الروح بمثابة المبدأ حتى في المواد غير الحية مثل الماء! [1] إذن، كيف هدم ديكارت الفكر الأرسطي ؟

“الجسيمية -corpuscularianism”

حسب ديكارت، تتكون كل الأجسام من أجزاء دقيقة من المادة أو الجسيمات. تفتقر هذه الجسيمات إلى أي نوع من المحركات وجميعها في حد ذاتها غير فاعلة بالمرة. تتحرك الجسيمات فقط نتيجة الاصطدام بجسم آخر، والطريقة التي تحدد سرعة واتجاهات هذه الحركة هي عبارة عن عدد قليل من قوانين الحركة البسيطة.

نتيجة لهذه الحركة الموجهة بالقانون، تلتصق بعض الجسيمات ببعضها البعض وتشكل بنى معقدة مستقرة. هذه الهياكل المعقدة المستقرة هي الأجسام التي نراها من حولنا. [2]

“كل جزء فردي من المادة يظل دائمًا في نفس الحالة -الموضع- طالما لم يجبره الاصطدام بغيره من الأجزاء على تغيير تلك الحالة. هذا يعني أنه إذا كان للجزء حجم ما، فلن يصبح أصغر أبدًا ما لم يقسمه الآخرون. إذا كان مستديرًا أو مربعًا، فلن يغير هذا الشكل أبدًا ما لم يجبره الآخرون على ذلك.

إذا استقر في مكان ما، فلن يغادر ذلك المكان أبدًا ما لم يطرده الآخرون. وإذا تحرك، فستستمر حركته دائمًا بنفس القوة حتى يوقفه الآخرون أو يؤخرونه.”

(ديكارت، العالم، ترجمة جيه كوتينجهام وآخرون)

تعرف هذه الفكرة باسم “الجسيمية – corpuscularianism”. وقد اندمجت الجسيمية الديكارتية مع فكرة أخرى دمرتا مبدأ الشكل الجوهري تمامًا.

الجسيمية والآلية، المزيج المدمر لمبدأ الشكل الجوهري

بالإضافة إلى الجسيمية، تقول الفكرة الأخرى بأن الخصائص الفيزيائية للأجسام هي نتيجة التكوين الداخلي لجزيئاتها. يُنظر إلى الجسم وفقًا للطريقة التي تترتب بها جزيئاته، ويتحرك ويتصرف بالطريقة التي يتصرف بها بسبب التفاعل الميكانيكي بين جزيئاته، وتُعرف هذه الفكرة “بالآلية – mechanism”.

هذا المزيج من الجسيمية والآلية طرد الأرواح من الأجسام شر طردة. أصبح تكوين الأجسام نتيجة لحركة الجسيمات التي يوجهها القانون. فأجزاء الساعة تتحرك نتيجة للتفاعل الميكانيكي بين أجزائها المادية.

لم ينظر ديكارت وحده هذه النظرة الميكانيكية للعالم، ولكن اعتقد بها آخرون مثل الكيميائي روبرت بويل والأعضاء الأوائل الآخرين لما يسمى بالجمعية الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية، والتي تأسست عام 1660م.

تعريف الجسيمية والآلية

  • الجسيمية: هي الفرضية القائلة بأن الأجسام تتكون من أجزاء دقيقة من المادة، أو “جسيمات”.
  • الآلية: هي الفرضية القائلة بأن خصائص الجسم وسلوكه يمكن حسابها وفق التفاعل الميكانيكي بين أجزائه المادية.

شرح لو جراند -تلميذ ديكارت- لفكرته

يتمثل نقد لو جراند في الأساس للنموذج الأرسطي في أنه لم يسبق لأحد أن رأى شكلاً أو يعرف بالضبط ما هو الشكل الجوهري. إن القول بأن الخصائص الفيزيائية للجسم تنبع من شكله، ليس مفيدًا على الإطلاق. إنه يعني أن الخصائص الفيزيائية للجسم تنبع من شيء غير معروف.

اعتقد Le Grand أنه يمكن وصف جميع الأجسام بأنها آلات، تنبع خواصها الفيزيائية من التفاعل الميكانيكي بين أجزائها المادية وحركتها مثل ديكارت وهو ما استخدمه لو جراند بالفعل في تفسير الظواهر المختلفة. [3]

تفسير أنطوان لو جراند لاحتراق الخشب وتحوله إلى رماد

رفض أنطوان لو غراند (1694) تفسير تحول الخشب إلى رماد بأنه ظهور مادة جديدة، لكنه اعتقد أن الأجزاء المادية للخشب امتزجت من جديد نتيجة للاحتراق، لتظهر هذه الأجزاء كرماد وليس كخشب.

اختلف تحليل Le Grand بشكل واضح عن التحليلات الأرسطية التقليدية، حيث نظروا إلى تحول الخشب إلى رماد على أنه حالة تغيير جوهري، أي عملية تختفي فيها مادة من الوجود لتظهر مادة أخرى.

تابع آخرون تطوير النموذج الديكارتي ومخالفة المنهج الأرسطي أمثال نيقولاس مالبرانش وبويل وغيرهم. [1]

بالنسبة لكثير من الناس، قدّم هذا المزيج من الجسيمية والآلية نوعًا من الطبيعة الواضحة الأقل غموضًا مما قدمته الأرسطية. ومع ذلك، فقد حمل النموذج الجديد مشكلاته الخاصة أيضًا.

المصادر
[1] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen
[2] كتاب كتابات فلسفية لرينيه ديكارت
[3] Stanford Encyclopedia of philosophy

أدلة تطور الحيتانيات

هذه المقالة هي الجزء 9 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

لم نخصص مقالًا في هذه السلسلة للحديث عن الحيتانيات إلا لأنها تمتلك صرحًا ضخمًا من أدلة التطور التي تتشابك مع بعضها البعض من مختلف فروع العلم. كما أنها من أعظم أمثلة قدرة نظرية التطور التنبؤية. وهذا المقال يرصد أدلة تطور الحيتانيات، فتعالوا معنا نتعرف عليها.

وفقًا لتعريف الموسوعة البريطانية، فإن «الحيتانيات-Cetaceans» لفظ يطلق على الثدييات البحرية التي تشمل الحيتان والدلافين وخنازير البحر بمختلف أنواعها. [1]

لماذا لا تعد الحيتانيات من الأسماك؟

على الرغم من التشابه الكبير في الهيئة الخارجية بين الحيتانيات والأسماك إلا أنها لا تعتبر من الأسماك. إذ تمتاز الحيتانيات بصفات غير سمكية، فهي على سبيل المثال من الثدييات التي تلد وترضع أطفالها – تمامًا مثل الثدييات البرية -. كما أنها ذات دم حار (بينما الأسماك ذوات دم بارد). الحيتانيات على عكس الأسماك، لا تمتلك خياشيم تساعدها على التنفس وإنما تتنفس عن طريق رئتين. لهذا قد تلقى الحيتانيات مصرعها إن لم تصعد لسطح الماء للحصول على الأوكسجين في الوقت المناسب. [2]

وعلى ذكر التنفس، تمتلك الحيتانيات ثقوبًا أعلى الرأس لتساعدها على التنفس. وتمتلك بعض الحيتان فتحتين مشابهتين لأنوف الثدييات البرية. رغم امتلاك الدلافين وخنازير البحر فتحة واحدة، إلا أنه يتكشّف لنا شيء غريب عند تشريح جماجم الدلافين وخنازير البحر. إذ نجد أن هذا الثقب الواحد ينقسم إلى فتحتين أنفيتين [3]. فهل يُعد وجود فتحتين ذو دلالة على علاقتها بالثدييات الأرضية؟ سنعرف هذا بعد قليل.

حقوق الصورة: kythera-family.net

الأدلة من التشريح المقارن

وعلى الرغم من امتلاك كل من الحيتانيات والأسماك للزعانف إلا أنهما بعيدان كل البعد عن التشابه التشريحي. فعند النظر إلى زعانف الحيتانيات نجد أنها تتبع نمطًا مشابهًا للنمط الموجود في «رباعيات الأطراف-Tetrapods». تتكون زعانف الحيتانيات من عظمة كبيرة وهي عظمة «العضد-Humerus» (باللون البرتقالي)، ثم عظمتين وهما عظام «الساعد والزند-Radius and Ulna» (باللونين الأحمر والأبيض)، ثم عدد من العظام وهي عظام «الرسغ-Carpals» (باللون الأصفر)، ثم تنتهي ب «مشط اليد والأصابع-Metacarpals and Phalanges» (باللون البني). يدل هذا على انتماء الحيتانيات إلى رباعيات الأطراف. [4]

حقوق الصورة: Labster theory


ولكن إذا كانت الحيتانيات من رباعيات الأطراف، فأين أطرافها الخلفية؟ في الواقع تمتلك الحيتانيات أطرافًا خلفية ضامرة كثيرًا ما يثير الخلقيون بشأنها بعض التساؤلات، وسنجيب عن هذه التساؤلات في نهاية هذا المقال.

ويمكننا من كل ما سبق استنتاج العلاقة الوثيقة بين الحيتانيات والثدييات البرية وهو ما يمكن تفسيره بتطور الحيتانيات من ثدييات برية. ولكن هل هناك خط آخر من خطوط الأدلة ليدعم هذا الاستنتاج؟ لنرَ ما عند علم الأجنة ليقوله.

الأدلة من علم الأجنة

إذا ما تتبعنا مراحل تكون أجنة الحيتانيات وجدناها (مثل رباعيات الأطراف) تتكون لديها براعم أطراف أمامية وخلفية. إلا أن الأطراف الأمامية تُكمل نموها لتصير زعانف الحوت، بينما تتوقف براعم الأطراف الخلفية عن النمو. [5]

حقوق الصورة: evolution for skeptics

ليس هذا وحسب، ولكنها أيضًا تبدأ بتكوين فتحتي أنف في مقدمة الرأس (كالتي عند الثدييات البرية). ولكن تهاجر هاتين الفتحتين تدريجيًا إلى أعلى الرأس ليلتحما في حالة الدلافين. [6]


كما أن معظم الحيتانيات تفتقر إلى وجود شعر يكسو أجسادها كما الثدييات. ولكن تمتلك أجنة الدلافين شعر شارب مثل الذي نراه في القطط، ولكنه يختفي قبل الولادة أو بعد الولادة بفترة قصيرة. [7]

شوارب الدلافين. حقوق الصورة: whyevolutionistrue


«الحيتان البالينية-Baleen whales» هي حيتان لا تمتلك أسنانًا، ولكن تمتلك تراكيبًا تُدعى البالينات. يستخدم الحوت البالينات في تناول طعامه عن طريق فتح فمه وسحب الماء المحمّل بالعوالق، ثم يدفع الماء خارج فمه وتقوم البالينات بفلترة العوالق لتبقى داخل فمه ليتغذى عليها.

حقوق الصورة: hakai magazine

والمثير للدهشة هنا هو أنه على الرغم من عدم امتلاك الحيتان البالينية للأسنان. إلا أن أجنتها تبدأ بتكوين أسنان في الفكين العلوي والسفلي أثناء وجودها في أرحام أمهاتها، ولكنها تختفي قبل الولادة ولا يبقى لها أي أثر. [8]

حقوق الصورة: evolution for skeptics

وكما ذكرنا في الجزء الخاص بعلم الأجنة من هذه السلسلة فإن وجود تراكيب جنينية مثل هذه في الحيتانيات تدل على حملها لجينات تكوين هذه التراكيب من أسلافها. فهل يأتي السجل الأحفوري مصدقًا على استنتاجاتنا ويخبرنا كيف كانت أسلاف الحيتانيات الحديثة؟

السجل الأحفوري وتطور الحيتانيات

يُعد السجل الأحفوري للحيتانيات واحدًا من أغنى السجلات الأحفورية بالحفريات الانتقالية. ذلك لأنه مليء بالحفريات التي توثق تطور الحيتانيات من ثدييات برية إلى ثدييات مائية، دعونا نناقش بعضها على سبيل المثال لا الحصر.

«بازيلوسورد-Basilosaurid»

وجدت حفريات حوت البازيلوسورد بين 23 إلى 41 مليون سنة ماضية، ويمتلك بعض الصفات المثيرة. عند النظر إلى جمجمة البازيلوسورد، لا نجد فتحات الأنف أعلى الرأس كما الحيتان الحديثة، ولا في مقدمة الرأس كما الثدييات البرية، ولكنها تقع تمامًا في المنتصف. وهذا يوثق الانتقال التدريجي لمكان فتحات الأنف أثناء تطور الحيتانيات من ثدييات برية. [9] بالإضافة إلى أرجل صغيرة، تحتوي على «عظمة ورك-Femur»، و«قصبة ساق-Tibia»، و«قصبة صغرى-Fibula»، و«غطاء ركبة-Patella»، وعظام كاحل، بل وحتى أصابع قدم.

هذه الأرجل أكبر من بقايا الأطراف الخلفية الضامرة الموجودة لدى الحيتان الحديثة، ولكنها أصغر من أن تستخدم في المشي على اليابسة. بالإضافة إلى عدم اتصالها بالعمود الفقري، فلم تكن لتستخدم في الحركة، لذلك فهي على الأرجح كانت تستخدم أثناء التزاوج أو لحك الجلد. [10]

حقوق الصورة: earth archives

وفي هذا السياق، يمكننا استنتاج أنه بالرجوع في الزمن إلى الوراء، سنجد الحيتانيات أقرب إلى الثدييات البرية.

«ماياسيتوس-Maiacetus»

عاش الماياسيتوس منذ حوالي 47.5 مليون سنة، وكان هذا هو شكل الهيكل العظمي المتحجر الذي عُثر عليه للماياسيتوس.

حقوق الصورة: artstation

ويمكننا ملاحظة امتلاكه عظام أطراف خلفية أقوى، مما يرجح أنه كان يستطيع السير على اليابسة، ولكن لماذا يعتبره العلماء من الحيتانيات؟

يعتبر العلماء ماياسيتوس من الحيتانيات لعدة أسباب هي:

1. جميع حفريات ماياسيتوس وُجدت بين حفريات لكائنات بحرية مما يرجح معيشته في البحر.
2. عظام وركه كانت قوية لكن أرجله كانت قصيرة، بالإضافة إلى أصابعه الطويلة. مما يخبرنا بأنه على الأرجح كان يواجه صعوبة في المشي.
3. التركيبة الفريدة لعظام الأذن الوسطى، والتي تطابق تلك الموجودة لدى حيتان البازيلوسورد والحيتانيات الحديثة.
4. امتلك ماياسيتوس أصابع وأصابع قدم مسطحة بنتوءات على جوانب تلك الأصابع، مما يرجح باحتمالية كبيرة امتلاكه لغشاء يمتد بين تلك الأصابع ليساعده على السباحة.
5. امتلاك أسنان مشابهة لأسنان البازيلوسورد.
6. «الخطم المطوّل-Elongated snout»، وهي خاصية موجودة في كل الحيتانيات الحديثة وكل الحفريات الانتقالية للحيتانيات التي تأتي في السجل الأحفوري بعد الماياسيتوس.
7. امتلاك قواطع وأسنان أمامية مخروطية الشكل، وهذه الخاصية ليست عادية في الثدييات، ولكنها موجودة في الحيتانيات الحديثة ذات الأسنان (حيتان الأوركا، والدلافين، وحيتان العنبر).
8. امتلاك تركيبة كاحل فريدة تربطه ب «شفعيات الأصابع-Artiodactyls»، مثل أفراس النهر والخنازير والغزلان. تركيبة الكاحل تلك مثيرة للاهتمام، إذ أن الحمض النووي للحيتان يخبرنا بأنها شفعيات أصابع معدلة. [11]

«باكيسيتوس-Pakicetus»

عاش الباكيسيتوس منذ حوالي 50 مليون سنة، وكان هذا هو شكله.

حقوق الصورة: britannica


وقد تتساءل عن علاقة هذا الكائن بالحيتانيات، وهو سؤال مشروع، إذ أنه لا يشبه الحيتانيات ظاهريًا، ولكنه على علاقة بالحيتانيات، ويمكننا معرفة هذا من شكل جمجمته الطويلة بشكل مميز، ولكن هذا ليس كافيًا لوضعه في السجل الأحفوري الذي يوثق تطور الحيتانيات من ثدييات برية، فماذا عن امتلاكه لصفة مميِّزة للحيتانيات؟

امتلك باكيسيتوس تركيبة فريدة للأذن، وهذه التركيبة لا توجد إلا في الحيتانيات الحديثة.

كما أن تركيبة كاحله تربطه بشفعيات الأصابع التي تحدثنا عنها منذ قليل، والتي تشمل الحيتانيات. [12]

«إيتيوسيتوس-Aetiocetus»

ذكرنا منذ قليل امتلاك أجنة الحيتان البالينية لبراعم أسنان، وهذا يدل على امتلاكها لجينات تكوين الأسنان من أسلافها. يعني هذا بدوره وجود سلف مشترك بين الحيتانيات ذات الأسنان والحيتان البالينية، فماذا لدى السجل الأحفوري ليقوله بهذا الشأن؟

امتلك إيتيوسيتوس أسنانًا صغيرة جدًا بمسافات كبيرة بينها، بالإضافة إلى وجود فتحات للتغذية تُدعى “foramina”. يعد هذا مؤشرًا على امتلاكه للبالينات، وبهذا نستنتج أن الإيتيوسيتوس امتلك أسنانًا جنبًا إلى جنب مع البالينات في فمه. مما يعني أن الإيتيوسيتوس يعد شكلًا انتقاليًا يوثق انحدار الحيتان البالينية من الحيتانيات ذات الأسنان. [13]

ليست هذه هي الحفريات الوحيدة في السجل الأحفوري للحيتانيات، فهناك حفريات لحيوانات أخرى سنذكر بعضها بعد قليل.

تفنيد اعتراضات الخلقيين

على الرغم من الأدلة الكثيرة على تطور الحيتانيات من شتى فروع العلم المذكورة أعلاه، إلا أن الخلقيين يرمون بكل هذا عرض الحائط ويتمسكون بحجج وأطروحات واهية مستوردة من أطروحات الخلقيين الأجانب. ولكننا رأينا أن نقف نطرح هذه الحجج في مقالنا هذا لمناقشتها.

زعنفة ذيل «رودوسيتوس-Rodhocetus»

يرى الخلقيون أن العلماء يقومون بتزييف البيانات لوضع الحفريات ضمن السياقات التطورية للحيوانات. وفي هذا المثال يحتجون بما حدث مع حفرية الرودوسيتوس، حيث يعتبر الرودوسيتوس واحدًا من الكائنات الانتقالية في السجل الأحفوري للحيتانيات، فأين هي المشكلة بالتحديد؟ تقع المشكلة من وجهة نظر الخلقيين في أن مكتشف هذه الأحفورة أضاف إليها زعانفًا وزعنفة ذيل لوضعها في السياق التطوري للحيتان.

حقيقة ما حدث مع حفرية الرودوسيتوس هو أنه عندما اكتشفها «فيليب جينجريتش-Philip Gingerich» لم تكن تمتلك ذيلًا أو أطرافًا مكتملة، فكانت بهذا الشكل.

حقوق الصورة: bensozia


ولكن عندما احتاج جينجريتش إلى تمثيل هذا الكائن لعرضه في المتاحف لجأ إلى افتراض بقية الأجزاء لتكون معروضة على العامة. افترض جينجريتش وجود زعانف وزعنفة ذيل، نظرًا لخصائص أخرى امتلكها رودوسيتوس تضعه ضمن السياق التطوري للحيتانيات، مثل موقع الفتحات الأنفية التي تقع أعلى الخطم مثل البازيلوسورد (في طريقها التدريجي إلى أعلى الرأس كما في الحيتانيات الحديثة). بالإضافة إلى موقع أذنه الداخلية التي كانت إلى أسفل (في طريقها إلى قاع الجمجمة كما في الحيتانيات الحديثة).

إذًا لم يضع جينجريتش الرودوسيتوس في السياق التطوري للحيتانيات بناء على تخمينات، وإنما على صفات مميزة للحيوانات الانتقالية في السجل الأحفوري للحيتانيات.

أما عن الزعانف وزعنفة الذيل فهذا النموذج لم يكن إلا للعرض في المتحف على العامة. حيث أن هذا النموذج لم يخضع لمراجعة علمية ولم يعتمده المجتمع العلمي، وإنما كان للتبسيط على العامة فقط. لا داعي للقول بأن “العلماء يخدعون الناس”، ولكن لاحقًا اكتشف جينجريتش حفرية رودوسيتوس أخرى، وهذه المرة بأطراف أمامية وخلفية ذات أصابع طويلة [14] كما توقع بالفعل. أما عن زعنفة الذيل فلا يمكننا معرفة ما إذا كان يمتلك زعنفة ذيل بالفعل أم لا، إذ أنه حتى الحيتانيات الحديثة لا تُظهر امتلاكها لزعنفة ذيل عند تحولها لحفريات على الرغم من امتلاكها لواحدة.

حقوق الصورة: researchgate


الأمر إذًا كان مجرد نموذج تخيلي (غير معتمد علميًا) تم تعديله بعد الاكتشافات العلمية الأحدث، وهذا ما يحدث مع النماذج التخيلية للحفريات. فجميع نماذج الديناصورات التي نمتلكها في المتاحف غير دقيقة. إذ أن الأدلة الأحدث تشير إلى امتلاك بعض الديناصورات للريش، وليس كما تظهر في المتاحف.

النماذج المعروضة في المتاحف يكون غرضها التبسيط للعامة فقط وليس الدراسة العلمية. علميًا، تدرس الحفريات بما وُجد في مواقع الحفر، وليس بالنماذج الممثلة في المتاحف. وحتى في حالة عدم امتلاك رودوسيتوس للزعانف فهذا لا يؤثر على كونه ضمن السجل الأحفوري لتطور الحيتانيات بالمرة، نظرًا لامتلاكه صفات حيتانية مميزة كما رأينا أعلاه. لا يمكن للخلقيين مثلًا امتلاك دليل على تصنيف الرودوسيتوس بشكل مختلف عما صنفه جينجريتش.

هل يعارض «إندوهاياس-Indohyus» الخط الزمني لتطور الحيتانيات؟

يقول الخلقيون أن باكيسيتوس عاش منذ 50 مليون سنة، بينما إندوهاياس (حيوان ضمن السياق التطوري للحيتانيات) عاش منذ 48 مليون سنة. أي أن الإندوهاياس يفترض أن يكون أقرب تشريحيًا إلى الحيتان من باكيسيتوس (لكونه أحدث)، ولكن باكيسيتوس أقرب تشريحيًا إلى الحيتان من إندوهاياس. يعتقد الخلقيون أن العلماء يتلاعبون بترتيب الحفريات في السجل الأحفوري لإجبار البيانات على دعم التطور.

هناك سوء فهم لعملية التطور في هذا الطرح، فالتطور ليس عملية تقدم خطّي إلى الأمام و إذ أن الصورة النمطية التي نراها في الرسومات التعبيرية مثل هذه ليست دقيقة.

بالإضافة إلى كون كل حفرية من المذكورة في المثال لها مدى زمني لأعمارها وليس مجرد أرقام صماء، فعلى سبيل المثال وجدت حفريات باكيسيتوس بين ما يعود من 52 إلى 48 مليون سنة مضت، وإندوهاياس بين ما يعود من 50 إلى 48 مليون سنة مضت، فهي نطاقات زمنية متداخلة وليست مجرد أرقام.

وفضلًا عن أن هذه الأرقام لا تعبر بالضرورة عن الفترة التي عاش خلالها الحيوان، إذ يمكن أن يكون عاش قبلها وبعدها، إلا أن هذا حتى لا يمنع من وجود هذه الكائنات في نفس الفترة الزمنية.

مثال

على سبيل المثال، نحن البشر نعيش في نفس الفترة التي يعيش فيها الشيمبانزي، وبعد ملايين السنين عند النظر إلى صور الشيمبانزي وصور البشر الحاليين، قد يستنتج شخص ما بطريقة خاطئة أننا منحدرون من الشيمبانزي، وقد يتعجب من كون البشر يعيشون في نفس الفترة التي يعيش فيها الشيمبانزي (نفس المغالطة التي وقع فيها الخلقيون في هذا المثال) ولكن هذا ليس صحيحًا على الرغم من امتلاك الشيمبانزي لخصائص بدائية أكثر من البشر، ولهذا فلا يدعي العلماء أن إندوهاياس انحدر من باكيسيتوس أو العكس، في الواقع لا يعتقدون أن أيًا من الحفريات المكتشفة تمثل أسلاف الكائنات الحديثة، ولهذا يتم التعبير عن الأسلاف في الرسومات بنقاط مجردة، مثل هذه الصورة.

حقوق الصورة: understanding evolution


بالإضافة إلى أنه إن كان العلماء ينوون التلاعب بالبيانات لموافقة التطور، فلم يكونوا ليجعلوا هذه الأرقام معلنة للعامة، فهم بالتأكيد يعلمون أن 48 أقل من 50، فلماذا لم يتلاعبوا بالأرقام؟

هذا لأن الحجة أصلًا مبنية على فهم خاطئ لعملية التطور، لا أكثر.

هل انتقلت الحياة من الماء إلى اليابسة أم العكس؟

يرى الخلقيون أن ادعاء تطور الحيتانيات من ثدييات برية يعارض باقي الأدلة التطورية التي تخبرنا بانتقال الحياة من الماء إلى اليابسة.

قلنا: لا يوجد هدف مسبق للتطور ليحدد مسارًا واحدًا للحياة لتسلكه، فالحياة بالفعل انتقلت من الماء إلى اليابسة ولكن بعض الكائنات انتقلت مجددًا إلى الماء وهو ما تظهره الأدلة التشريحية والأحفورية كما رأينا أعلاه، كما أن «تحليل نظائر الأوكسجين-Oxygen isotope analysis» يمكننا من التعرف على نوع المياه التي كان يشربها الحيوان أثناء حياته عند العثور على حفرية له، وأظهرت النتائج أن باكيسيتوس شرب مياهًا عذبة [15]، بينما شرب «أمبيولوسيتوس-Ambulocetus» (حيوان انتقالي في السجل الأحفوري للحيتانيات) مياهًا عذبة ومياهًا مالحة، وهذا بحد ذاته يعتبر دليلًا على الانتقال التدريجي للحياة من اليابسة إلى الماء مرة أخرى. [9]

الأطراف الخلفية للحيتانيات

ذكرنا في أول المقال وجود أطراف خلفية ضامرة في أجسام الحيتانيات. يرى الخلقيون أن هذه ليست سوى بقايا عظام حوض لتدعيم الأعضاء التناسلية فقط.

بالفعل تمتلك معظم الحيتانيات عظمتي حوض فقط. ولكن ما يجهله الخلقيون هو امتلاك «الحوت مقوس الرأس-Bowhead whale» لعظام ورك وساق بالإضافة إلى عظام الحوض. بل أن عظام الورك والحوض تتمفصلان كما في الثدييات البرية، ويوجد في المفصل أحيانًا «سائل زلالي-Synovial fluid» وهو سائل يعمل كزيت لتشحيم العظام في المفاصل المتحركة. وهذا يعد دليلًا على كونها عظام أطراف خلفية ضامرة، وليست مجرد دعامات للأعضاء التناسلية. [16]


بالإضافة إلى السجل الأحفوري الذي يدعم فكرة كونها أطرافًا خلفية، فعند التقدم بالزمن في السجل الأحفوري باتجاه الحيتانيات الحديثة، نلاحظ فقدانها التدريجي لأطرافها الخلفية، كما في الصورة التالية.

حقوق الصورة: researchgate


وكما ذكرنا أعلاه، تنمو لأجنة الحيتان براعم أطراف خلفية ولكنها سرعان ما تتوقف عن النمو. فإذا كانت مجرد دعامات للأعضاء التناسلية، فلماذا نرى التدرج في فقدانها في السجل الأحفوري؟ ولماذا يمتلك الحوت مقوس الرأس عظام ورك وساق ضامرتين؟ ولم يحتوي مفصل ورك الحوت مقوس الرأس على سائل زلالي؟ ولماذا تمتلك أجنة الحيتان براعم أطراف خلفية؟

سقنا في هذا المقال أدلتنا على تطور الحيتانيات وقمنا بتفنيد ادعاءات الخلقيين بشأن هذا الأمر، وفي المقال القادم نستعرض أقوى أدلة التطور، أدلة التطور من الجينوم.

المصادر

[1] britannica
[2] scienceline
[3] whales
[4] britannica
[5] pnas
[6] pandasthumb
[7] Highlights of Cetacean Embryology, J. G. M. Thewissen
[8] ncbi
[9] berkeley
[10] britannica
[11] stated clearly
[12] AMNH
[13] sciencedaily
[14] sciencemag
[15] UPI
[16] The Walking Whales: From Land to Water in Eight Million Years, by J. G. M. “Hans” Thewissen, p.30

أدلة التطور: التطور السريع

هذه المقالة هي الجزء 8 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

عندما يجد معارضو التطور أنفسهم محاصرين بأدلة دامغة على التطور، يلوحون بورقتهم الأخيرة، قائلين بأن التطور غير قابل للرصد أو التجربة. ويستنتجون من إدعائهم أن التطور لا يصمد أمام منهج العلم التجريبي. وعلى الرغم من أن هذا القول هو سوء فهم لآلية عمل العلم التجريبي، فعملية الرصد لا تعني بالضرورة أن نشهد كل شيء ونراه بأعيننا، ولكننا سنتغاضى عن هذا ونقدم لهم ما يبحثون عنه. نستعرض في مقال اليوم أمثلة من التطور السريع الذي لا يتطلب ملايين الأعوام لكي نرصده، فهل سيقرّون بحقيقة التطور؟

صراصير جزيرة كاواي

على جزيرة «كاواي-Kauai» (إحدى جزر هاواي)، اعتاد أن يعيش نوع من الصراصير يعتمد ذكوره على إصدار الضجيج كنداء للإناث باستخدام أجنحته. ولكن هناك مشكلة في ذلك السلوك، إذ أن هذا الضجيج لا يجذب الإناث وحسب، ولكنه يجذب أيضًا نوعًا من الذباب، الذي يصيب الصرصور بالطفيليات الآكلة للحم، والتي بدورها تتسبب في مقتل الصرصور بعد أسبوع.

حقوق الصورة: berkeley

ولكن قلب التطور موازين هذه المعادلة، حيث ظهر نوع جديد من ذكور تلك الصراصير بأجنحة مشابهة لأجنحة الإناث التي لا تصدر ضجيجًا. فأجنحة الذكور التي تصدر ضجيجًا تحتوي على أجزاء تشبه المكشطة والأسنان، وهذا هو ما يتسبب بالضجيج. ولكن النوع الجديد يمتلك أجنحة صامتة كتلك التي تمتلكها الإناث.

ونرى هنا أن الذكور من التي تصدر ضجيجًا ستحصل على فرصة أعلى في التزاوج والتكاثر من النوع الجديد، حيث ستستطيع أن تجذب الإناث بضجيجها. ولكن هذا سيكون صحيحًا فقط في حالة عدم وجود الذباب. فالصراصير ذات الأجنحة الصامتة لن تجذب انتباه الذباب وستتكاثر في مأمن من الطفيليات الآكلة للحم.

هذا ما حدث بالفعل، ففي عام 2003، أصبحت جزيرة كاواي تعج بالصراصير الصامتة. وعلى مدى 20 جيلًا فقط، أصبحت صراصير جزيرة كاواي كلها من النوع الصامت، وهذا يعد واحدًا من أقوى أمثلة التطور السريع. [1]

«العث المفلفل-Peppered moth»

في عام 1848، تم تسجيل اكتشاف أول عثة مفلفلة سوداء، حيث كان العث الفلفل أبيض اللون. إلا أن ما كان نادرًا في عام 1848 أصبح شائعًا على مدى ال 50 سنة التالية، حيث أصبح العث الأسود يشكل نسبة 98% من العث الموجود في مدن إنجلترا، فما السبب؟

كانت إنجلترا في ذلك الوقت تمر بما يعرف ب «الثورة الصناعية-Industrial revolution»، فكانت تبني المزيد من المصانع. واستخدمت المصانع الفحم كوقود لها، وهو ما تسبب بتصاعد كميات كبيرة من الدخان الأسود. وتسبب الدخان في كسوة الأشجار باللون الأسود، وهو ما أثّر على لون العث.

اعتقد العلماء في بادئ الأمر أن العث يغير لونه ليلائم لون الأشجار، أو أن لون العث قد تغير تأثرًا بالكيماويات الموجودة في الدخان. ولكن الأبحاث تظهر أن السبب كان جينيًا، فاللون الأسود كان نتيجة لطفرة في الحمض النووي لحشرة عث واحدة. مررت تلك الحشرة الطفرة لباقي نسل هذه العثة، ولكن لماذا انتشر العث الأسود على حساب العث الأبيض؟

العث الأسود. حقوق الصورة: the university of liverpool


يرجع تفسير هذا إلى الانتخاب الطبيعي، حيث أن اللون الأبيض لم يعد يوفر التمويه الكافي للنجاة بعد تغير لون الأشجار. حصل العث الأسود على فرصة أكبر في البقاء وبالتالي التكاثر.

ويستمر تطور العث حتى اليوم، ففي آخر 50 عامًا، قل التلوث في معظم الدول الصناعية بشكل كبير. وكما تتنبأ نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي لداروين، أصبحت أعداد العث الأسود في تناقص مع نقص التلوث في الغابات. [2] ولأن قوة النظريات العلمية تكمن في قدرتها على التنبؤ، تزداد قوة نظرية التطور مع كل حالة تنبؤية ناجحة.

سحالي بود مركارو

في عام 1971، نقل بعض العلماء 5 أزواج من «سحالي الحائط الإيطالية-Italian wall lizards» من جزيرة Pod kopiste إلى جزيرة Pod Mrcaru، علمًا بأن جزيرة Pod Mrcaru كانت تحتوي على مجتمعها الخاص من السحالي. وبعد 36 عام (أي ما يُعادل 30 جيلًا من السحالي)، عاد العلماء إلى الجزيرة ليجدوها ممتلئة بالسحالي.

ليس هذا ما يثير الدهشة، وإنما التحليل الجيني لهذه السحالي الذي أظهر أنها تنحدر من ال 10 سحالي التي تركها العلماء سابقًا. حيث اختفى السحالي الأصلية الساكنة للجزيرة. وهنا تأتي المفاجأة، حيث استطاعت السحالي التي تركها العلماء تطوير صفات يتطلب تطويرها ملايين السنين في 36 عامًا فقط.

أصبحت السحالي الجديدة تتغذى على النباتات (بعد أن كان مصدر الغذاء الرئيسي لها هو الحشرات). كما امتلكت عضة أقوى، ورؤوسًا أطول وأعرض. ليس هذا وحسب، بل طوّرت ما يُعرف ب «الصمام اللفائفي الأعوري-Ileocecal valve»، وهي عضلة تفصل بين الأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة لتساعد السحالي على إبطاء عملية الهضم لتحويل السليلوز الموجود في النباتات إلى أحماض دهنية متطايرة.

حقوق الصورة: google sites

كل هذا في 36 عامًا فقط! لقد كانت هذه النتائج صادمة، فهي تُبرز قوة التطور وقدرته على إحداث تغيرات كبيرة في فترات زمنية قصيرة. كما أنها من أقوى أمثلة التطور السريع. [3]

ذكرنا في هذا المقال بعض الأمثلة على التطور السريع، ونقول “بعض” لأن هذه الأمثلة ليست الوحيدة. هناك الكثير والكثير من المرات التي حدث فيها التطور في مدى زمني قصير. كتبنا مقالًا سابقًا عن أمثلة للتطور في المعامل، فأدلة التطور أكثر بكثير من أن تُحصى في مقال أو حتى كتاب. اخترنا هنا فقط أبرز الأدلة وأكثرها انتشارًا وأسهلها شرحًا وقابلية للتوضيح.

المصادر

[1] berkeley
[2] ask a biologist
[3] national geographic

تحديات النموذج الديكارتي

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

صراع ويليام هارفي والديكارتية، وتحديات النموذج الديكارتي

وفقًا للديكارتيين، نتجت الأجسام عن حركة الجسيمات وتصادمها. عندما تصطدم الجسيمات، تلتصق بعضها ببعض لتشكيل هياكل أكثر أو أقل تعقيدًا، والهياكل هي الأجسام التي نراها من حولنا. ولكن فيم اختلف ويليام هارفي مع ديكارت؟ ولماذا احتدم صراع بين عالم مثل ويليام هارفي والديكارتية؟ وكيف للجسيمية والآلية ألا تقنع عالم مخضرم مثل ويليام هارفي؟

لم يخل النموذج الجديد الجامع بين الجسيمية والآلية من الألغاز. لكشف تلك الألغاز، ضع في اعتبارك الفرق بين بنية بسيطة نسبيًا مثل الحجر أو المعدن، والبنية الأكثر تعقيدًا لكائن حي مثل الدجاج. ربما يكون الحجر أو المعدن ناتجًا عن حركة وتصادم الجسيمات. لكن هل ينطبق الأمر ذاته على كائن حي كالدجاج؟

وجد بعض المفكرين أن هذا النموذج يمثّل مشكلة في حالة التوالد الحيواني. على سبيل المثال، شكك عالم الأحياء الإنجليزي ويليام هارفي (1578-1657م) في إمكانية تفسير الكائنات الحية بهذه الطريقة، أي عن طريق حركة جسيمات وتصادم أجزاء من المادة. [1]

لماذا شكك ويليام هارفي في إمكانية تطبيق أفكار ديكارت على الكائنات الحية؟

السبب الذي جعل العديد من المفكرين المعاصرين يشككون فيما إذا كانت الكائنات الحية يمكن أن تنتج من مجرد حركة وتصادم الأجزاء، هو أن الطريقة التي تتحرك بها الجسيمات وتصطدم ببعضها البعض هي -إلى حد ما- عشوائية.

لا تتحرك الجزيئات وتتصادم وفقًا لخطة، وقد تؤدي الحركة العشوائية وتصادم الجسيمات إلى بنية خشنة للحجر أو المعدن. لكن وفقًا للعديد من المفكرين، فإن بنية الأجسام العضوية أكثر تعقيدًا بشكل كبير من بنية الأحجار أو المعادن.

تُظهر الكائنات الحية بنية متطورة ودقيقة للغاية، تسمح لها بالحركة والهضم والإنجاب. ووجد الكثيرون صعوبة في تخيل إمكانية أن تتكون هذه الهياكل وحركاتها نتيجة للحركة العشوائية وتصادم أجزاء من المادة.

قد يتطلب أصل الهياكل العضوية نوعًا مختلفًا من التحليل عن الأجسام الأبسط، مثل الأحجار والمعادن. ذلك تحديدًا ما دفع كثيرون إلى التشكيك في إمكانية تعميم وصف ديكارت العام لكيفية تكوين الأجسام بحيث ينطبق على حالة الكائنات الحية أيضًا. [2]

مالبرانش في مواجهة ويليام هارفي

وجد نيكولاس مالبرانش -أحد الديكارتيين- أن هناك فرقًا مهمًا بين الطريقة التي تتشكل بها الأجسام غير الحية مثل المعادن من جهة، وتوليد الكائنات الحية من جهة أخرى. ففي حالة الأجسام غير الحية مثل المعادن، يمكننا أن نرى كيفية تكونها بشكل مجزأ عندما تصطدم الجسيمات وتلتصق ببعضها البعض.

المرحلة الأولى تبدأ بالتصاق جسيمان معًا لتشكيل اتحاد. وفي المرحلة التالية، تتحد المزيد من الجسيمات مع هذا الاتحاد المتشكل حديثًا، وهذه العملية هي التي تؤدي بالتدريج إلى معدن ذي شكل وبنية معينة.

وجد مالبرانش أن ما يجعل حالة تكوين الحيوانات صعبة للغاية هو أن الأجسام العضوية لها نوع خاص من الوحدة. كل عضو في جسم الحيوان يعتمد على الآخر. لا يوجد قلب بدون شرايين، ولا شرايين بدون دماء، ولا دماء بدون نخاع عظم، وهكذا. لكن إذا كانت الأجسام العضوية تتمتع بهذا النوع الفريد من الوحدة حيث تعتمد جميع الأجزاء بعضها على بعض، فمن الصعب أن نرى ظهور أعضائها تدريجياً، الواحد تلو الآخر. من الصعب أن نرى ظهور الشرايين قبل القلب، بالنظر إلى الطريقة التي يعتمد بها القلب والجهاز الشرياني على بعضهما البعض.

لا يمكن للقلب أن ينبض ويضخ الدم عبر الشرايين إلا إذا اكتملت الأوردة التي تعيد الدم إليه مرة أخرى. باختصار، من الواضح أن الآلة لا يمكنها العمل إلا عندما تكتمل، وبالتالي لا يمكن للقلب أن يعيش بمفرده. … سيكون من الخطأ إذن التظاهر بشرح تكوين الحيوانات والنباتات وأجزائها، على أساس القوانين البسيطة والعامة التي تحكم الحركة.

(مالبرانش، البحث بعد الحقيقة، ص 465. ترجمة لينون وأولسكامب) Malebranche, The Search after Truth, 465. Translation Lennon and Olscamp

ولكن إذا لم تنطبق الطريقة القياسية الديكارتية على الكائنات الحية، فكيف تنشأ؟ حول هذا السؤال سوف ننتقل للجزء التالي.

معضلة الكائن الحي

قد تساعدنا المقارنة في فهم الأمر، لنفترض أننا نمسك بعدد من الأحرف البلاستيكية، ثم أسقطناها على الأرض مرة تلو الأخرى. من الصعب جدًا أن نتخيل كيف يمكن لتلك الحروف أن تسترشد بالجاذبية وقوانين الحركة لإنتاج أبيات شعر منظومة ومرتبة للمتنبي ولو مرة واحدة من عدد هائل من المرات.

المطلوب أعقد من ذلك، تخيل أن نفس الأبيات ستظهر مرارًا وتكرارًا بينما نكرر التجربة – وهو ما يبدو حقًا غير ممكن!

قدمت حالة تكوين الحيوانات، نقد خاص للتصور الديكارتي لميكنة الطبيعة. فكيف تعامل العلماء والفلاسفة مع هذه المعضلة؟

كيف تعامل الفلاسفة مع معضلة الكائن الحي؟

قدّم علماء ومفكرون تصورين للتغلب على المعضلة. التصور الأول هو العودة إلى مجموعة أدوات الفلسفة الطبيعية الأرسطية مرة أخرى، وعلى رأسهم ويليام هارفي.

صراع ويليام هارفي والديكارتية وعودته إلى الشكل الجوهري

وفقًا لعالم الأحياء الإنجليزي ويليام هارفي، فعندما تنمو دجاجة في بيضة، فإن هذه العملية تسترشد بما أسماه “القوة التكوينية”. نظمت هذه القوة التكوينية مادة البيضة بطريقة تظهر في النهاية بنية الدجاجة. تفاصيل هذه العملية لا تهمنا هنا، لكن النقطة المهمة في الوقت الحالي هي أن المادة في هذا التصور ليست غير فاعلة تمامًا كما تصور ديكارت.

على الأقل في حالة التوليد الحيواني، فالمادة تظهر القدرة على التنظيم الذاتي أفضل بكثير في الفلسفة الطبيعية الأرسطية عنها في النظرة الآلية الديكارتية للعالم من وجهة نظر ويليام هارفي.

الدمية الروسية والتشكل المسبق لمالبرانش

الدمية الروسية
حقوق الصورة: https://pixabay.com/photos/matryoshka-russian-dolls-nesting-970943/

كان التصور الثاني هو التفكير في توليد الحيوانات على غرار ما يمكن أن نطلق عليه نموذج “الدمية الروسية”. تحتوي كل دمية روسية على نسخة مصغرة من نفسها، تمامًا كما يحتوي كل والد على نسخة مصغرة من نفسه (الإبن).

انقسم مؤيدو هذا الرأي حول مسألة ما إذا كانت هذه النسخة المصغرة موجودة في البيضة أم في بذرة الأب.

وفقًا لأتباع ديكارت، اعتقد نيكولاس مالبرانش أن نسل الحيوان موجودًا في بيضة الأم. وقد خلق الله الجيل الأول من كل نوع حيواني كأنه دمية روسية كبيرة، وتحتوي تلك الدمية على جميع الأجيال القادمة بالفعل بداخلها.

قد تبدو فكرة التكون المسبق تلك غريبة بالنسبة لك، وهي بالفعل تتمتع بسمعة سيئة بين العديد من المؤرخين والعلماء، ومع ذلك، من المهم أن ندرك أنها ظهرت كإجابة على معضلة حقيقية في القرن السابع عشر وطريقة للخروج من معضلة إنتاج الهياكل العضوية المعقدة عن مجرد حركة وتصادم جسيمات.

وفقًا للبعض، كشفت حالة التوالد الحيواني عن بعض تحديات ميكنة الطبيعة الديكارتية، وكان التشكل المسبق مهمًا تاريخيًا كطريقة للتعامل مع هذه التحديات.

يشير أنصار فكرة “التشكل المسبق” أو “الدمية الروسية” لتوليد الحيوانات، أحيانًا إلى النتائج التي توصل إليها علماء الميكروسكوب الأوائل لدعم نظريتهم.

ميكروسكوب سوامردام كدليل على ادعاءات مالبرانش

عند أخذ النتائج التي توصل إليها علماء الميكروسكوب الأوائل مثل “ملبيجي – Malpighi” و”سوامردام –Swammerdam” لدعم نظريات التشكل المسبق لمالبرانش سنجد استنتاجات مالبرانش منطقية أيضًا. فما رآه علماء الأحياء مثل سوامردام تحت مجاهرهم هو أن التركيب العضوي المعقد للعديد من الحيوانات كان موجودًا قبل أن يمكن تمييزه بالعين المجردة.

اعتقد سوامردام بأن أطراف وأجنحة الفراشة كانت موجودة بالفعل، وإن كانت مطوية، تحت جلد اليرقة.

لم يكن بالإمكان تمييز هذه الأطراف والأجنحة بالعين المجردة، لكن ساعد المجهر في اكتشافها وهو ما كتبه في كتاب تاريخ الحشرات عام 1669.

“اليرقة هي الفراشة نفسها، لكنها كانت مغطاة برداء يمنع أجزائها من الكشف عن نفسها.”

سوامردام في كتاب (تاريخ الحشرات Historia insectorum، الجزء الثاني)

يُعتقد بأن فكرة التشكل المسبق التي اعتقد بها مالبرانش مبنية بالأساس على نتائج سوامردام الميكروسكوبية، فإذا كانت الفراشة موجودة بالفعل بكل أجزائها في اليرقة، فلم لا تكون موجودة بالفعل في البيضة أيضًا.

غالبًا يعود هذا الادعاء أيضًا إلى سوامردام نفسه. فهو من كتب أن البيضة “تحتوي على كل أجزاء” الفراشة، وأنها في الواقع كانت “الحيوان الصغير نفسه، مغطى بغشاء” (تاريخ الحشرات ، العدد 1: 64).

لكن نظرًا لأن البويضة نشأت من الأعضاء التناسلية لحيوان أنثى، فقد نرغب في العودة إلى فكرة الدمية الروسية الأنثوية التي تحتوي على نسخة مصغرة من نسلها.

بتتبع خيوط هذه الحجة، توصل مفكرون مثل مالبرانش إلى استنتاج مفاده أن أنثى الحيوان لا بد وأنها كانت نسخة مصغرة داخل أمها، وهكذا حتى أول أنثى من نوعها.

“يجب أن نقبل أن جسد كل إنسان وحيوان ولد وسيولد حتى نهاية الزمان ربما قد ظهر منذ بداية خلق العالم. أعتقد أن إناث الحيوانات الأصلية ربما تكون قد خُلقت من نفس النوع الذي أنجبته والذي ستنجبه في المستقبل.”

(البحث عن الحقيقة، لمالبرانش، 27. ترجمة لينون وأولسكامب)
Malebranche, The Search after Truth, 27. Translation Lennon and Olscamp

لم ينتهي حديثنا عن الأدوات كالمجهر والتليسكوب، لكنها البداية فقط، وسيكون لنا في الحديث عنها مقال تفصيلي.

هل ماتت الفيزياء الأرسطية بطرح ديكارت؟

زعم المؤرخ باترفيلد أن القرن السابع عشر شهد زوال الفلسفة الطبيعية الأرسطية. لكن يحتاج هذا الادعاء إلى بعض التوضيح.

باتترفيلد محق بالطبع، لقد تعرضت الفيزياء الأرسطية لهجوم شديد في القرن السابع عشر على يد ديكارت وأتباعه. وقفت هيمنة الفلسفة الطبيعية الأرسطية في جامعات العصور الوسطى في طريق التقدم العلمي الحقيقي طويلًا، لكن لا يدفعك هذا إلى تخيل موتها فور هجوم ديكارت، فقد رأينا تمسك عالم الأحياء ويليام هارفي بالعودة إلى مجموعة أدوات الفلسفة الأرسطية في تحدي الديكارتية عبر فكرة التوالد، واختلفا في تفسير عمل القلب أيضًا.

صراع ويليام هارفي والديكارتية على أنقاض جالينوس

هيمنت تعاليم الفيزيائي اليوناني القديم “جالينوس” على الفكر الطبي الغربي لما يقرب من 1400 عام، لذا فليس من المستغرب أن التفسيرات الفيزيولوجية المنطقية الجديدة للظواهر قوبلت بمقاومة. رفض ديكارت وهارفي وجهة نظر جالينوس القائلة بأن الدم يتحرك ببساطة للأمام والخلف من خلال نفس الوعاء.

قال هارفي أن القلب عبارة عن مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ثم تعود إلى القلب، وهو ما شكك فيه ديكارت. كما عارض تفسير هارفي لطبيعة الانقباض والانبساط، كل هذا دون مساعدة من أي أدوات دقيقة.

يعكس مفهوم علم وظائف الأعضاء عند ديكارت تفانيه في بناء نظام فلسفي موحد، يضم الفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الكونيات ونظرية المعرفة وجوانب معينة من الدين. لقد نظر ديكارت إلى الجسم بطريقة ميكانيكية، واعتبرها آلات، وأنه يمكن تحويل وظائفها المختلفة إلى نماذج ميكانيكية مماثلة للساعة والآلات التي تعتمد على الروافع والبكرات.

رغم اعتقاد ديكارت بآلية الجسم لكنه رفض فكرة المضخة الآلية القلبية

على الرغم من هذه الميول الآلية الدافعة لقبول ديكارت لأفكار هارفي، رفض ديكارت فكرة أن القلب هو مجرد مضخة تدفع الدم إلى الجسد. يعكس هذا جزئيًا اعتقاد ديكارت بأن الإرادة تتحكم في جميع العضلات. لم يعلم ديكارت بإمكانية وجود عضلات لاإرادية من الأساس.

على الرغم من اعتراف ديكارت بأن بعض الحركات العضلية، مثل رد فعل اليد التلقائي للوخز، يمكن أن ينتج عنه فعل انعكاسي، إلا أنه رفض فكرة الانقباض العضلي اللاإرادي.

اعتقد ديكارت أن القلب لا يمكن أن يكون مضخة، بل هو فرن. يسخّن الفرن القلبي جزيئات صغيرة في الدم، مما تسبب تمددها على الفور. هذا التمدد الديناميكي والمفاجئ للدم داخل القلب تسبب في تضخم العضو مما أجبر الصمامات الأذينية البطينية أن تنغلق، وتفتح الصمامات شبه القمرية.

عندما ينطلق الدم الحار في الشريان، يتمدد الشريان، وهو ما كان مرئيًا للعين المجردة ويمكن الشعور به حينذاك. تخيل ديكارت أنه عندما يبرد الدم، فهو يأخذ مساحة أقل، وتنهار الشرايين والأوردة – كما يفعل القلب نفسه. لكنه اتفق مع هارفي على أن الدم يعود إلى القلب من خلال نظام من الأوردة، لكن الدم الحار هو الذي يحرك الدورة الدموية وليس القلب نفسه.

عندما يعود الدم البارد إلى القلب من أجزاء مختلفة من الجسم، يختلط بكمية صغيرة من الدم باقية في القلب. هذا الدم المتبقي وفقًا لديكارت، يمتلك خاصية تشبه الخميرة التي تسبب تمدد الدم العائد إلى البطين، وبالتالي بدء العملية مرة أخرى. لذلك، شبّه ديكارت القلب بالفرن.

لم يفكر ديكارت في القلب على أنه عضلة، ولم يتخيل أن حركته نتيجة لانقباض عضلي لا إرادي كما اعتقد هارفي. لكن تغير حجم القلب وشكله لأن الدم داخله يتمدد بسرعة مع تسخينه وإجباره على الخروج إلى نظام الأوعية الدموية بينما يبرد بسرعة أثناء دورانه في الجسم. [5]

صراع ويليام هارفي والديكارتية بين العقلانية والتجريبية

الفارق الرئيسي بين ديكارت وهارفي هو الفارق بين العقلاني والتجريبي. فويليام هارفي كان تجريبيًا يصل إلى استنتجاته بالتجربة. أما ديكارت، فحاول توفيق العالم مع نظرة فلسفية عقلانية. وقد بدا لنا من ذلك الصراع نشأة ملامح منهج وليد بين الأرسطية والديكارتية، هو المنهج التجريبي، لكنه لم يظهر على الفور بالطبع، كما لم تمت الأرسطية على الفور.

حتى الديكارتيين أمثال مالبرانش استمروا في استخدام مصطلحات المادة والشكل في تصورهم للعالم المادي. فالفلسفة الطبيعية الأرسطية قدمت مجموعة من المفاهيم التي ساعدتها على البقاء.

مع تطور العلم في القرن السابع عشر، لم يتخلص أتباع ديكارت من مفهوم الشكل بالكلية، بل أعادوا تفسيره ليناسب أفكارهم. بالتالي، يمكننا القول أن أفكار ديكارت والأرسطية كان لهما أثر كبير على علماء ومفكرين القرن السابع عشر. ورغم هدم ديكارت للأرسطية، إلا أنها كانت تعود في الأمور التي يغيب التفسير العلمي التجريبي الدقيق عنها في كثير من الأحيان.

مصادر
[1] Futurelearn, Scientific Revolution, University of Groningen
[2] Animal Generation and the Mechanical Philosophy: Some Light on the Role of Biology in the Scientific Revolution Andrew J. Pyle History and Philosophy of the Life Sciences Vol. 9, No. 2 (1987), pp. 225-254
[3] Biology and Theology in Malbranche’s Theory of animal
[4] (On the Origins of Modern Science, vii-viii) لهاربرت باترفيلد
[5] Hurst JW: Robert C. Schlant. (Profiles in Cardiology[Eds. Hurst JW andFye WB]). Clin Cardiol1999;602–605

فرانسيسكو سواريز ومحاولة تفسير أرسطية أخيرة

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

فرانسيسكو سواريز ومحاولة تفسير أرسطية أخيرة

تعلمنا سويًا في المقال السابق كيفية استخدام نموذج تحليل شكل المادة الأرسطي لفهم عمليات مثل تحويل اليرقة إلى فراشة. كما طبّقنا نموذج شكل المادة لتقديم تحليلات للظواهر الطبيعية الأخرى أيضًا. ورغم منطقية النموذج البادية للوهلة الأولى إلا أننا الآن في وضع يسمح لنا بتقييمه وتحديد بعض نقاط قوته وضعفه. فتعالوا بنا لنعرف كيف انتقد ديكارت الفكر الأرسطي؟

نقد الفكر الأرسطي، نقاط الضعف ونقاط القوة

نقاط قوة نموذج تحليل المادة الأرسطي

  • قد تقول إن إحدى السمات الجذابة لهذا النموذج هي أنه بسيط نسبيًا، أي يمكنه وصف مجموعة واسعة من العمليات الطبيعية، بدءًا من حرق الخشب أو تحول اليرقة إلى فراشة وتغير لون تفاحة متعفنة، بسهولة نسبيًا. فليس علينا سوى افتراض فقد أو اكتساب المادة شيئًا معينًا.
  • أيضًا، يتناغم النموذج مع الحدس القائل بأن بعض خصائص الجسم ضرورية له، في حين أن البعض الآخر مجرد خصائص عرضية. فيلتقط النموذج هذه الفكرة من خلال التمييز بين الأشكال الجوهرية التي تؤسس الخصائص الأساسية للأجسام، والأشكال العرضية التي تؤدي إلى خصائص عرضية متغيّرة.

نقاط ضعف نموذج تحليل المادة الأرسطي

  • إحدى نقاط الضعف المهمة لهذا النموذج هي غموضه التام. إن القول بأن الماء يتصرف كالماء بسبب شكله هو ادعاء ضبابي غير مفسّر. لجعل هذا الادعاء ملموسًا، سنحتاج إلى مزيد من التفسير لنوع شكل الجسم. بدون مثل هذه العملية، سيظل شكل الجسم نوعًا ما كـ “الصندوق الأسود” الذي يؤدي بطريقة ما إلى ظهور خصائصه الفيزيائية.

    ماذا لو قلنا بأن الماء يتصرف كالماء لأنه عبارة عن H2O، أي لأنه رابطة كيميائية بين ذرتين من الهيدروجين وذرة أكسجين واحدة، فقد أصبح لدينا تفسير ملموس للغاية. لقد فتحنا الصندوق الأسود ونظرنا بداخله وعرفنا الأسباب الحقيقية، أليس كذلك؟
  • قال النموذج الأرسطي أن تحول الخشب إلى رماد، يفقد مادة الخشب شكلها وتكتسب شكلًا آخر. لكن من أين يأتي هذا الشكل الجديد؟ لا يقدم النموذج إجابة واضحة على هذا السؤال، مما يضعف بشكل كبير من قوته التفسيرية.

    كان المدرسّون أنفسهم مدركين لهذه المشكلة، لكنهم لم يقدموا حلاً واضحًا مرضيًا.

في مقالنا الأخير، رأينا كيف تعامل مفكرو العصور الوسطى، مثل توما الأكويني، مع الأجساد من حيث المادة والشكل. سيطر نموذج التحليل الأرسطي هذا، على جامعات القرون الوسطى، أي منذ حوالي 1200 سنة ميلادية وما بعدها. لكن في القرن السابع عشر، تعرض النموذج لهجوم شرس من مفكرين مثل رينيه ديكارت وروبرت بويل.[1]

لماذا تعرض النموذج الأرسطي للهجوم؟

كان الهدف الرئيسي للنقد الحديث المبكر للفلسفة الطبيعية المدرسية هو فكرة الشكل الجوهري، وتوجهت إليها نيران الناقدين. فكما رأينا، كان الشكل الجوهري للجسد مبدأ رئيسي يصعب تفسيره. أصبح الشكل الجوهري هو المحدد لنوع الجسد الذي كان عليه، وجعله يتحرك ويتصرف بطرق معينة.

هكذا كان الماء هو الماء في هذا النموذج كنتيجة لشكله الجوهري. ونتيجة لهذا الشكل الجوهري، سيغلي الماء عند تسخينه ويبرد مرة أخرى بعد إزالة مصدر الحرارة. هكذا بلا أسباب سوى الشكل الجوهري، فهو بذاته يفسر كل شيء، ونحن لا نعرف عنه شيء تقريبًا.

بالإضافة إلى نقاط ضعف النموذج الأرسطي الممثلة في الغموض والحدسية، فقد استحق النموذج الهجوم كما يبدو.

ما قبل ديكارت

فرانسيسكو سواريز وتفسير الشكل الجوهري بالروح

على الرغم من بساطة الأمر من وجهة نظر السكولائيين حينها أمثال توما الإكويني، فقد وجد ديكارت صعوبة في رؤية ما يمكن أن تكون عليه هذه الأشكال الجوهرية. اعترف العديد من المدرسين بأن الأشكال الجوهرية لا يمكن رؤيتها أو ملاحظتها في حد ذاتها.

في القرن السادس عشر، حاول الكاهن اليسوعي الإسباني فرانسيسكو سواريز تسليط الضوء على هذا الوضع من خلال مقارنة الأشكال الجوهرية بأرواح البشر.

في البداية، فسر فرانسيسكو ظاهرة فقدان الحرارة وفقًا للشكل الجوهري. قال فرانسيسكو أن ما يدفع الماء الساخن لأن يبرد بعد إبعاد مصدر التسخين هو شكله الجوهري البارد بالأساس، لهذا يحاول الماء أن يعود لشكله الجوهري.

برودة الماء بعد تسخينه

اعتقد فرانسيسكو سواريز بأن الجسد البشري له روح توجهه من الداخل، وهكذا المواد الأخرى أيضًا، لها شكل جوهري يوجه سلوكهم وحركاتهم من الداخل. [2]

قيل عن أعمال وتفسيرات فرانسيسكو سواريز أنها مهدت وألهمت ديكارت وكانت حلقة وسطى بين الانتقال من الأرسطية إلى الثورة العلمية كما رأينا في تفسيره الأخير لبرودة الماء الساخن بعد فترة.

حاول فرانسيسكو سواريز إنقاذ السكولائية والأرسطية من عقلانية وتفسيرات وشغف معرفي وتفسيري لدى الكثيرين في عصره، فهل نجح؟ هذا ما سنعرفه في المقال التالي.

المصادر
[1] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen
[2] كتاب خلافات ميتافيزيقية لسواريز فرانسيسكو
[3] كتاب كتابات فلسفية لرينيه ديكارت
[4] Stanford Encyclopedia of philosophy



الأرسطية والفلسفة السكولائية، توما الإكويني نموذجًا

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

الأرسطية والفلسفة السكولائية، توما الإكويني نموذجًا

يريد الثوار التغيير، بل وقلب كل الأنظمة واستبدالها بأخرى جديدة. هكذا أراد الثوار الفرنسيون الإطاحة بالنظام الملكي واستبداله بالجمهورية. لذلك، إذا كنت ممن يعرفون بوجود ثورة علمية في القرن السابع عشر، وتود معرفة بدايات تلك الثورة العلمية بداية من توما الأكويني وحتى اكتمالها على الفكر الأرسطي، فهناك سؤالان نحتاج إلى طرحهما.

السؤال الأول هو، ما الذي أراد علماء القرن السابع عشر استبداله؟ والثاني، ما الذي أرادوا استبداله به؟

سننظر في أول هذه الأسئلة في هذا المقال. ما الذي أراد العلماء الأوائل استبداله؟

الإجابة المختصرة على هذا السؤال هي أنهم أرادوا استبدال “الفلسفة المدرسية” أو السكولائية. نعني بالفلسفة المدرسية هنا فلسفة مدارس أو جامعات العصور الوسطى.

الفلسفة المدرسية – الفلسفة السكولائية

تتضمن الفلسفة المدرسية مجموعة واسعة من التخصصات من المنطق والأخلاق إلى ما يسمى بـ “الفلسفة الطبيعية”، أو ما نسميه العلم. تابعت الفلسفة الطبيعية المدرسية السير على نهج المفكر اليوناني أرسطو. [1]

في العصور الوسطى، كان يُشار أحيانًا إلى أرسطو بـ”الفيلسوف”، وقد طور مفكرو العصور الوسطى مثل توما الأكويني أفكارهم الخاصة من خلال البناء على أفكار أرسطو.

دعونا نلقي نظرة فاحصة على الفلسفة الطبيعية الأرسطية التي هيمنت على جامعات العصور الوسطى. ربما تكون أفضل طريقة للقيام بذلك هي النظر إلى واحدة أو اثنتين من الظواهر الطبيعية والسؤال عن كيفية تحليلها لمفكر من العصور الوسطى مثل توما الأكويني. لذا أولاً وقبل كل شيء، فكّر في تحول اليرقة إلى فراشة.

تحول اليرقة إلى فراشة

الفلسفة المدرسية عند توما الأكويني

وفقًا لتوما الأكويني، نحن نتعامل هنا مع حالة أسماها “التغيير الجوهري”، وهي عملية تغيير حيث تتوقف مادة ما عن الوجود وتظهر مادة أخرى إلى الوجود، فعندما تتحول اليرقة إلى فراشة، تختفي اليرقة من الوجود ولكن تأتي الفراشة إليه. [2]

بمجرد ظهور الفراشة، لن تبقى على حالها أيضًا، ولكن ستتغير بعدة طرق أخرى. على سبيل المثال ستنمو الفراشة، وقد يتغير لونها، لكن هذه تغييرات أقل جذرية بكثير من تحوّل اليرقة إلى فراشة، فالتحول هنا بمثابة التغيير الجوهري عند توما الأكويني.

دعونا نقارن بين الحالتين. عندما تتحول اليرقة إلى فراشة، تختفي اليرقة من الوجود. لكن، عندما يتغير لون الفراشة، فإنها تنجو من هذا التغيير، ولا تختفي من الوجود، أليس كذلك؟

في الواقع، تغيّر اللون هو ما أطلق عليه الأكويني “تغيير عَرَضي”، حيث يحدث تغير في مستوى الخصائص العَرَضية. يمكن توضيح هذا التمييز بين التغيير العرضي والجوهري بشكل أكبر من حيث الأشكال العَرَضية والجوهرية.

التغيير العَرَضي والتغيير الجوهري عند توما الأكويني

وفقًا لتوما الأكويني، فإن الجسد الطبيعي جزء من المادة، تَكوّن بواسطة ما أسماه بـ “الشكل الجوهري”. [3] والشكل الجوهري للجسم هو المبدأ، وهو ما يجعله الجسم الذي هو عليه. الشكل الجوهري للجسم هو ما يجعله يتحرك ويتصرف بطرق مميزة. قد نلخص الأمر بأن الشكل الجوهري للجسم يشبه بشكل ما المُحرك الداخلي المتحكم في كل شيء.

اليرقة في مثالنا السابق هي جزء من المادة، والشكل الجوهري هو ما يكوّنها، مما يجعلها تبدو مثل يرقة، ورائحتها مثل يرقة، وتتحرك وتتصرف كيرقة. أُعيد تكوين هذا الجزء نفسه من المادة بشكل جوهري جديد، مما جعلها تبدو مثل الفراشة، ورائحتها مثل الفراشة، وتتحرك وتتصرف كالفراشة.

في الواقع، عندما أعيد تكوين نفس الجزء من المادة بهذه الطريقة، اختفت اليرقة من الوجود، ولكن ظهرت الفراشة بدلًا منها. فالفراشة لا تتحرك كاليرقة ولا تتصرف مثلها، ولكن أصبح لها محرك داخلي جديد بصفات جديدة.

يمكن إسقاط نفس التحليل على التغيير العرضي. عندما تظهر الفراشات للوجود، ستخضع كل مُركّب المادة والشكل الجوهري لمزيد من التغيرات التي أسماها الأكويني “الأشكال العرضية”.

تُمثل هذه النماذج العرضية الخصائص المؤقتة التي تمتلكها الفراشة في أي لحظة زمنية معينة. فهو يفسر حجم الفراشة ولونها وشكلها المحدد وفقًا لمبدأ الأشكال العرضية. عندما تتغير ألوان الفراشة من اللون الأزرق مثلًا إلى الأحمر، سيفسر الأكويني هذا التغيير بأنها تفقد شكلاً عرضيًا وتكتسب شكلًا عرضيًّا آخر.

مارس التفكير الأرسطي بنفسك

الآن، أنت أصبحت على دراية بمفهومين أساسيين للفلسفة الطبيعية الأرسطية وهما، المادة والشكل. وفقًا لهذه المفاهيم، يمكنك الآن محاولة صياغة تحليلات أرسطية للظواهر الطبيعية بنفسك.

فكر من حيث المادة والشكل في تحليلات لأحداث مثل حرق قطعة خشب وتحول تفاحة حمراء إلى بنية.

احتراق قطعة خشب

كيف ستفسر الحالات السابقة إن كنت أرسطيًّا؟

لقد قدمت للتو تحليلات أرسطية من حيث المادة والشكل بنفسك عندما فكرت في تحول قطعة من الخشب إلى رماد وتحول تفاحة حمراء إلى اللون البني.

سننظر بإيجاز في هاتين الحالتين ببعض التفصيل. عندما تتحول قطعة من الخشب إلى رماد، يقول الأرسطيون أن هذه عملية تتوقف فيها مادة (قطعة الخشب) عن الوجود، وتظهر مادة أخرى.

نحن نتعامل مع حالة تغيير جوهري. في التغيير الجوهري، يعاد تكوين المادة المختفية عبر مادة جديدة تظهر إلى الوجود. في هذه الحالة، تفقد قطعة الخشب الشكل الذي أعطاها الطبيعة الخشبية، وتكتسب شكل الرماد بدلاً من ذلك بصفات جديدة.

ثانيًا، عندما تتحول تفاحة حمراء إلى اللون البني. يتغير التفاح بالفعل، لكنه ينجو من العملية. التفاحة التي كانت حمراء في البداية هي نفسها التفاحة التي أصبحت بنية الآن. لذلك، نحن نتعامل مع حالة تغيير عرضي. في حالة التغيير العرضي، تحتفظ الأشياء بموادها وشكلها الجوهري. ومع ذلك، فهي تخضع لتغيير على مستوى الشكل العرضي فقط. في هذه الحالة، كان للتفاحة في البداية شكل عرضي جعلها حمراء، لكنها فقدت هذا الشكل مع مرور الوقت. ثم اكتسبت شكلاً عرضيًا آخر جعلها بنية اللون.

الثورة العلمية على الفكر الأرسطي

سيطر نموذج التحليل هذا للمادة والشكل على جامعات العصور الوسطى لعدة قرون. ومع ذلك، لم يرض أمثال رينيه ديكارت وروبرت بويل وقادة التنوير في القرن السابع عشر عنه، وهذا يثير سؤالين، أولاً، لماذا لم ينل هذا النموذج إعجابهم؟ وثانيًا، ما النموذج الذي رغبوا في استبدال المنهج الأرسطي به؟ وهو نفس السؤال الثاني الذي بدأنا به المقال، لكنه باق معنا لمقال آخر.

المصادر
[1] Britannica
[2] Internet Encyclopedia of Philosophy
[3] The Conversation

أدلة التطور من السجل الأحفوري

هذه المقالة هي الجزء 7 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

رأينا في الأجزاء السابقة كيف يمكننا أن نستدل على تطور الكائنات الحية عبر الزمن من خلال النظر في صفاتها التشريحية (مثلما رأينا في الجزئين الأول والثاني)، ومراحل تكونها الجنينية، وسلوكياتها، بل وحتى كيف يمكننا مشاهدة تطور الكائنات الحية في المعامل. واليوم نحن على موعد مع نوع فريد من الأدلة، حيث يأتي السجل الأحفوري مصدقًا لما استنتجناه في الأجزاء السابقة ومؤكدًا على تطور الكائنات الحية وتغيرها عبر الزمن. فتعالوا معنا نرى أدلة التطور من السجل الأحفوري.

كيف تتكون الحفريات؟

تتكون الحفريات بـ 5 طرق مختلفة هي:

  1. «التمعدن-Permineralization»، وهي عملية تحدث عندما تحمل المياه الموجودة في التربة الأملاح إلى «الفراغات الخلوية-Cellular spaces» لدى الحيوان أو النبات. تتبلور هذه الأملاح لتنتج صخورًا على شكل الحيوان أو النبات الخاضع لهذه العملية، وهذا هو أكثر أنواع الحفريات شيوعًا. حيث نجد تلك الحفريات في السجل الأحفوري على شكل أسنان، وعظام، وأصداف، وأخشاب (في حالة الأشجار المتحجرة).
  2. «المصبوبات-Casts»، حيث يزيل الماء كل الأنسجة التي امتلكها الحيوان، تاركةً فقط أثره في الرواسب على شكل قالب. ثم تملأ الأملاح هذه القوالب فتُكوّن شكلًا مشابهًا لشكل الكائن الأصلي. يمكننا ملاحظة هذا النوع من الحفريات في حفريات «اللافقاريات البحرية-Marine invertebrates».
  3. «العنبر-Amber»، يوجد هذا النوع من الحفريات عندما يعلق الحيوان في المادة الصمغية للأشجار. تتحول تلك المادة إلى العنبر بعد دفنها في هذه الأشجار تحت الأرض، ويمكننا ملاحظة هذا النوع من الحفريات في حفريات الحشرات وبعض السحالي.
  4. «حفريات الآثار-Trace fossils»، وهي حفريات تسجل نشاط الكائن الحي في الفترة التي عاش فيها، مثل الأعشاش، والجحور، وآثار الأقدام، والبراز.
  5. «البقايا المحفوظة-Preserved remains»، نعثر في هذا النوع من الحفريات على بقايا من الكائن الحي، مثل الجلود، والشعر، والعظام المحفوظة. يعد هذا النوع من الحفريات الأكثر ندرة، حيث يتطلب العثور على حفريات من هذا النوع دفن الكائن الحي مباشرة بعد وفاته في الثلج، أو الرماد البركاني، أو «المستنقعات الخثية-Peat bogs». من أمثلة هذا النوع حفريات الماموث. [1]

ما هي الحفريات الانتقالية؟

«الحفرية الانتقالية-Transitional fossil» هي الحفرية التي تحتوي على صفات مشتركة بين الأسلاف القديمة والكائنات الحديثة. [2]

عند افتراض تطور نوع من نوع آخر، يجب أن يمر النوع بمراحل وسيطة يحمل فيها صفات من النوع الأول وصفات من النوع الثاني. فإن أردت أن تنتقل من النقطة (أ) إلى النقطة (ج) عليك المرور بالنقطة (ب) أولًا.

فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا تطور الطيور من الديناصورات مثلما رأينا في جزء سابق، علينا العثور على حفرية لكائن وسيط يحمل صفات مشابهة لصفات الديناصورات جنبًا إلى جنب مع صفات الطيور.

وما علينا سوى أن نبحث في السجل الأحفوري عن حفريات لكائنات وسيطة بين نوعين وبهذا نستنتج علاقتهما التطورية. كما نكون قد عثرنا على دليل من أدلة التطور من السجل الأحفوري.

من المياه إلى اليابسة

رأينا في الجزء المتعلق بالأدلة الجنينية على التطور تكوّن الأقواس الخيشومية التي تمتلكها الأسماك لدى أجنة الحيوانات غير المائية. دفع ذلك العلماء إلى استنتاج تطور الحيوانات الأرضية من الحيوانات البحرية. ولكن هل هناك عيّنات من السجل الأحفوري لتوثيق انتقال الحياة على الأرض من المياه إلى اليابسة؟

حدث ذلك بالفعل، تعالوا نتعرّف على حكاية الـ «تكتاليك-Tiktaalik».

التكتاليك

عاش التكتاليك منذ حوالي 375 مليون سنة، ويمثل شكلًا من أشكال التكيّف لمناسبة المياه الضحلة شحيحة الأوكسجين التي كان يعيش فيها. وهو ما سيمهد لظهور البرمائيات وانتقال الحياة من المياه إلى اليابسة حيث تنفس الأكسجين.

يمتلك تكتاليك صفات سمكية، جنبًا إلى جنب مع صفات لرباعيات الأطراف. كما يمتلك صفات وسيطة بين كل من الأسماك ورباعيات الأطراف. فتعالوا معنا نتعرف على هذه الصفات.

صفات تكتاليك السمكية:

  • امتلاك الخياشيم.
  • امتلاك قشور الأسماك.

صفات تكتاليك المشابهة لرباعيات الأطراف:

  • عظام ضلوع مشابهة لتلك التي تمتلكها رباعيات الأطراف.
  • رقبة قادرة على التحرك (وهي صفة لا تمتلكها الأسماك).
  • امتلاك رئتين.

صفات وسيطة بين الأسماك ورباعيات الأطراف:

  • مفاصل وأطراف نصف سمكية – نصف رباعية الأطراف. فقد امتلك تكتاليك مفصل رسغ وظيفي، جنبًا إلى جنب مع زعانف سمكية بدلًا من الأصابع في نهاية الأطراف.
  • منطقة أذن نصف سمكية – نصف رباعية الأطراف.
كائن التكتاليك. حقوق الصورة: Wikimedia commons

فهل يمكننا اعتبار التكتاليك سلف مشترك لكل رباعيات الأطراف؟

بالطبع لا، فعلى الرغم من امتلاك تكتاليك لصفات وسيطة بين الأسماك ورباعيات الأطراف. إلا أنه ليس سوى حلقة في سلسلة تسبقه فيها سمكة «باندركتايس-Panderichthys» التي عاشت منذ 380 مليون سنة. ويليه في السلسلة حيوان «إكثيوستيجا-Ichthyostega» الذي عاش منذ 365 مليون سنة. [3]

فأي حفرية انتقالية نعثر عليها هي مجرد حلقة انتقالية بين حلقات انتقالية أخرى. فالتطور بطيء (في أغلب الأحيان) ويعمل بإحداث تغيرات طفيفة على مدار الزمن. حتى إذا تراكمت هذه التغيرات، حصلنا على نوع جديد.

فعلى سبيل المثال كلما تحركنا في الزمن ابتداءً من الباندركتايس مرورًا بالتكتاليك ووصولًا إلى الإكثيوستيجا، لاحظنا تراجعًا في الصفات السمكية. حيث تمثل الحيوانات حلقات انتقالية بين الأسماك والبرمائيات. فعلى سبيل المثال، نرى التدرج في فقدان الغطاء الخيشومي وتغير شكل الجمجمة تدريجيًا. يعد هذا الفقد واحدًا من أبرز أدلة التطور من السجل الأحفوري. [4]

فقد الصفات السمكية في السجل الأحفوري. حقوق الصورة: Nature

تطور الثدييات من الزواحف

تطورت الثدييات في «العصر الترياسي-Triassic period» من زواحف «السينابسيدات-Synapsids». وتُسمى السينابسيدات بـ”الزواحف الشبيهة بالثدييات” [5]، ولكن هل نملك دليلًا على هذا الادعاء حقًا؟

تمتلك الزواحف عظامًا في الفك السفلي لا تمتلكها الثدييات. فالفك السفلي للثدييات يتكون من «العظام السِنّية-Dentary bones» فقط، بينما تمتلك الزواحف تراكيبًا أخرى في فكها السفلي جنبًا إلى جنب مع العظمة السنّية. فأين ذهبت هذه العظام؟

إذا تتبعنا السجل الأحفوري الذي يسجل تطور الثدييات من الزواحف، فسنكتشف حدوث تراجع تدريجي في جماجم الحفريات للعظام الأخرى مثل «العظمة الزاوية-Angular bone» و«العظمة الفوق زاوية-Surangular bone» كلما تقدمنا في الزمن نحو ظهور الثدييات.

مقارنة لحالة الفك في العصور المختلفة. حقوق الصورة: Palomar


كما يشير تطور آلية السمع عند الثدييات إلى تطورها من الزواحف. إذ تمتلك الزواحف عظمتين هما «العظمة المفصلية-Articular bone» و«العظمة الرباعية-Quadrate bone». ويتمفصل عند هذه العظام الفك السفلي لكل الأنواع ماعدا الثدييات، فأين ذهبت هذه العظام إذا كانت الثدييات متطورة من الزواحف؟

استمرت أحجام هذه العظام في الصِغر التدريجي حتى تغيّر موقعها وهاجرت إلى الأذن الوسطى لتكوين عظمتين مهمتين في السمع لدى الثدييات هما «عظمة المطرقة-Malleus bone». تطورت عظمة المطرقة من العظمة المفصلية، وتطورت «عظمة السندان-Incus bone» من العظمة الرباعية.

السجل الأحفوري غني بالعيّنات التي توثق تطور الثدييات من الزواحف. ومن الصعب التحدث عن حفرية بعينها كحلقة مفقودة بين الزواحف والثدييات، ولكن تعالوا معنا نتعرف على أحد أبرز هذه الحفريات الانتقالية. إنه «ثريناكسودون-Thrinaxodon».

«ثريناكسودون-Thrinaxodon»

تعد هذه الحفرية واحدة من أقوى أدلة التطور من السجل الأحفوري، حيث تسود العظمة السنّية تكوين الفك السفلي للثريناكسودون (مثل الثدييات). إلا أن الثريناكسودون احتفظ بالعظام المفصلية والرباعية (مثل الزواحف). كما امتلك ثريناكسودون «سقف حلق-Palate» مكتمل النمو ليسمح له بالتنفس والأكل في نفس الوقت (مثل الثدييات). أسنان الثريناكسودون لم تكن شبيهة بالأوتاد كالتي عند الزواحف، وإنما كانت ذات تركيبة معقدة كتلك التي عند الثدييات. لذلك يصح أن نقول عنها أنها ضروس. في الواقع كلمة “Thrinaxodon” هي كلمة يونانية تعني «ذو الأسنان الرمحية ذات الثلاث شعب-Trident tooth»، في إشارة إلى تكوين أسنانه. إلا أن أنه وعلى عكس الثدييات، امتلك ثريناكسودون عظمة تفصل بين «الفك الصدغي-Temporal jaw»، و«محجر العين-Eye socket».

ومما سبق نلاحظ امتلاك الثريناكسودون لكل من صفات الثدييات والزواحف، فهو يمثل حلقة وسيطة بينهما بحق. ولكنه ليس الوحيد، فكما قلنا أعلاه، السجل الأحفوري غني بالحلقات الوسيطة بين الثدييات والزواحف مما يجعل من الصعب الحديث عن حفرية بعينها على أنها هي الحلقة المفقودة بينهما. [6]

كائن الثريناكسودون. حقوق الصورة: Pinterest

تطور الثعابين

نعلم جميعًا أن الثعابين تزحف. لكننا شاهدنا في الجزء المتعلق بالنمو الجنيني أن أجنة الثعابين تنمو لها براعم أطراف خلفية في أولى ساعات نموها. واستنتجنا من هذا امتلاك الثعابين لجينات نمو الأرجل. وبالتالي تطورها من حيوانات كانت تمشي على أربعة أطراف. فما علينا الآن سوى أن نبحث في السجل الأحفوري عن حلقة انتقالية بين الثعابين وبين رباعيات الأطراف، فهل وجدنا شيئًا مشابهًا؟

وجد الباحثون مجموعة من الحفريات تعود لأنواع مختلفة. من أهمها هو «ناجاش ريونيجرينا-Najash Rionegrina»، والذي يعود إلى العصر الطباشيري. حفرية ناجاش هي حفرية مميزة ومهمة لدراسة تطور الثعابين وفقدانها للأطراف. فالناجاش، على عكس باقي حفريات الثعابين ذات الأطراف، يمتلك «عظمة عجز-Sacrum» (عظمة مثلثة الشكل تقع في آخر العمود الفقري). بالإضافة إلى أطراف خلفية قوية وجيدة النمو.

ولم تفقد الثعابين هذه الأرجل بشكل كامل. فكما ناقشنا سابقًا تمتلك الأصلات أرجلًا ضامرة بالقرب من نهاية ذيلها. وهو ما يدل على امتلاكها لأرجل في الماضي، تمامًا كما أكد لنا السجل الأحفوري. [7]

حقوق الصورة: conchovalleyhomepage.com

تطور الخيلانيات

تمتلك «الخيلانيات-Sirenians» (أبقار البحر) الحالية أطرافًا أمامية أشبه بالزعانف لتساعدها في السباحة. نلاحظ غياب تام للأطراف الخلفية، ولكن هذا لم يكن حال أسلافها.

في عام 1855، وصف عالم التشريح البريطاني «السير ريتشارد أوين-Sir Richard Owen» جمجمة غريبة عثر عليها في جامايكا تعود إلى ما بين 50 إلى 47 مليون سنة. أدرك أوين امتلاك هذه العينة لصفات مثل انتكاس خرطوم الأنف، بالإضافة إلى فتحات الأنف الموجودة أعلى الجمجمة، والعديد من صفات الخيلانيات. هذا وقد عثر على الجمجمة مع قطع من الضلوع سميكة وكثيفة للغاية، وهي صفة فريدة ومميزة للخيلانيات.

على الرغم من كون ريتشارد أوين معارضًا للتطور إلا أنه لم يستطع أن ينكر مشابهة هذه الحفرية للخيلانيات الحديثة. وأسماها أوين “Prorastomus serinoides”، وكانت بقية العظام فتاتًا، فتُرجح كونه حيوانًا رباعي الأرجل بحجم الخِراف.

وبعد سنوات، وتحديدًا في عام 1904، عثر على حفرية لما عرف باسم “Protosiren fraasi”، تعود إلى ما بين 40 إلى 47 مليون سنة (أي أنها أحدث من الprorastomus). وكما هو متوقع، فالشبه بين الكائنات الأقرب زمنيًا والكائنات الحالية أكبر منه بين الكائنات الأقدم والحالية وهو أهم ادعاءات نظرية التطور. امتلك الprotosiren جمجمة أكثر شبهًا للخيلانيات الحديثة بانتكاس أكثر وضوحًا لخرطوم الأنف، وفتحات أنف أكثر رجوعًا إلى الوراء على الجمجمة. كما امتلك أطرافًا خلفية صغيرة. وعلاوة على ذلك، لم تكن أوراكه مثبّتة بشكل جيد في عظام ظهره الخلفية. مما يعني أن الprotosiren كان حيوانًا مائيًا بالكامل، وأنه كان بالكاد مشي على اليابسة.

تطور الخيلانيات. حقوق الصورة: Pinterest

هل الprotosiren كاف كحفرية وسيطة؟

أظهرت حفرية الprorastomus بداية العظام السميكة والكثيفة الخاصة بأبقار البحر لكن أطرافها لم تكن محفوظة بشكل جيد. بينما كان الprotosiren ذو أطراف خلفية قصيرة ترجح أنه عاش في الماء. إذًا ما نحتاجه هنا هو العثور على حفرية وسيطة بينهما، وهي حفرية يجب أن تمتلك جمجمة وضلوعًا خيلانية. جنبًا إلى جنب مع المشي على أربعة قوائم، وهذا للتأكيد على تطور أبقار البحر من حيوانات أرضية.

وبالفعل عثرنا على هدفنا المنشود، فقد نشر «داريل دومنينج-Daryl Domning» اكتشافه في مجلة «نيتشر-Nature». حيث عثر على ما أسماه “Pezosiren portelli”، وهو حيوان بحجم الخنزير تقريبًا بهيكل عظمي مكتمل إلى حد كبير.

امتلك Pezosiren portelli جمجمة وضلوعًا خيلانية. والأهم من ذلك، امتلك pezosiren عظام ورك كاملة وأطرافًا أمامية وخلفية. وعلى الرغم من قِصر هذه الأطراف إلا أنها كانت طبيعية تمامًا للمشي عليها. بالإضافة إلى عدم امتلاكه لأي تراكيب متخصصة في السباحة، وهذا يعد دليلًا من أدلة التطور من السجل الأحفوري.

وبهذا نكون قد عثرنا على الحلقة المفقودة في تطور الخيلانيات، لنثبت أن الخيلانيات الحديثة تطورت من ثدييات أرضية. والجدير بالذكر هنا هو أن الخيلانيات لم تفقد أطرافها الخلفية بشكل كامل، وإنما تملك بقايا أطراف خلفية ضامرة. [8] ، [9]

من الديناصورات إلى الطيور

بِتنا نعلم أن الطيور تطورت من الديناصورات، ولكن كيف علمنا هذا؟

بعد أن تساءل تشارلز داروين في كتابه عن سر عدم وجود حفريات انتقالية، عُثر على أولى حفريات «أركيوبتريكس-Archaeopteryx»، فقط بعد سنتين من نشر داروين لكتابه.

ويمتلك الأركيوبتريكس كلًا من صفات الطيور والديناصورات. فنراه يمتلك ذيلًا طويلًا، وهي صفة تشريحية لا وجود لها في الطيور الحديثة. إذ تكون ذيول الطيور قصيرة إذا نظرنا إلى هياكلها العظمية، كما امتلك أسنانًا. الأسنان كذلك صفة غير موجودة في الطيور الحديثة.

امتلك الأركيوبتريكس مخالبًا مشابهة لتلك التي عند الديناصورات ال «ثيروبودية-Theropods». مخالب الديناصورات كذلك صفة ليست طيرية. كما أن مكان التحام العمود الفقري بالجمجمة في الأركيوبتريكس من الخلف، وليس من الأسفل كما في الطيور. بالإضافة إلى «ضلوع المعدة-Gastralia» وهي ضلوع مميزة للزواحف (الديناصورات في هذا السياق).

الأركيوبتريكس. حقوق الصورة: ThoughtCo

إذًا فأركيوبتريكس مجرد ديناصور عادي، صحيح؟

هل الأركيوبيتريكس ديناصور عادي؟

كلا، فالأركيوبتريكس يمتلك ريشًا عند أطرافه الأمامية وعند ذيله كذلك. الريش صفة غير موجودة في الزواحف، فلا تمتلك الزواحف أي ريش على الإطلاق (عُثر على ديناصورات تمتلك ريش فيما بعد). كما أن إصبع الإبهام لدى الأركيوبتريكس كبير ومعاكس في الاتجاه لبقية أصابع قدمه، تمامًا مثل الطيور. فهل يصح تصنيف أركيوبتريكس كطائر؟

أيضًا لا، وإنما هو كائن انتقالي بين الديناصورات والطيور، وليس سلفًا للطيور. وكما في التكتاليك، فالأركيوبتريكس أيضًا حلقة واحدة وسط سلسلة من الكائنات الانتقالية التي توثّق تطور الطيور من الديناصورات، وكما الحال مع التكتاليك فقد عُثر على حفريات انتقالية أخرى غير الأركيوبتريكس لتوثيق تطور الطيور من الديناصورات، مثل “Rahonavis” والذي احتفظ بالأسنان، والمخالب، والذيل العظمي الطويل مثل أركيوبتريكس، ولكن فقرات وركه التحمت بعظام وركه (مثل الطيور الحديثة).

حقوق الصورة: Wikipedia

و”Confuciusornis” والذي فقد أسنانه، والتحمت فقرات ذيله لتكوين «ذيل ذنَبي-Pygostyle» كالذي نراه في الطيور الحديثة، ولكنه احتفظ بأصابع الديناصورات الطويلة

حقوق الصورة: Britannica

و”Sinornis”، وهو طائر بدائي احتفظ بالأسنان، وامتلك عظام حوض غير ملتحمة، و«رصغ مشط-Tarsometatarsus» غير ملتحم كذلك، إلا أنه امتلك ذيلًا ذنبيًا أقصر، وأصابع أقصر، وإصبع إبهام معاكس لبقية أصابع القدم بشكل كامل، وعظام صدر كبيرة لتثبيت العضلات المستخدمة في الطيران.

حقوق الصورة: Wikipedia


وكل هذه الحفريات الانتقالية تشهد على التطور البطيء والتدريجي للطيور من الديناصورات، وتُعد من أبرز أدلة التطور من السجل الأحفوري. [10]

السجل الأحفوري وتطور الإنسان

قد يطرح القارئ الآن سؤال “وماذا عن البشر؟”، ألا يحتوي السجل الأحفوري على أدلة تشهد على تطور البشر؟

بالطبع يحوي الكثير من الأدلة. ولكن هناك حفرية واحدة مهمة في السياق الذي نتحدث عنه (سياق الحفريات الانتقالية)، وهي حفرية «أوسترالوبيثيكاس أفارنسيس-Australopethicus afarensis». وعُرفت باسم “لوسي”، فما المهم بشأن هذه الحفرية؟

تعود هذه الحفرية إلى حوالي 3.7 مليون سنة. والمهم بشأن هذه الحفرية هو أنها تمتلك خليطًا من صفات البشر جنبًا إلى جنب مع صفات القرود. تعالوا معنا نتعرف عليها.

صفات الأوسترالوبيثيكاس

امتلك الأوسترالوبيثيكاس جمجمة تُشير إلى حجم دماغ صغير (من صفات القرود). كما تُعد أذرعه الطويلة وقفصه الصدري المخروطي من صفات القرود كذلك. إلا أن عموده الفقري وعظام حوضه وركبتيه أقرب إلى تلك البشرية.

ومن أهم مميزات أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس هي المشي المنتصب على قدمين، تمامًا كما نفعل، ولكن كيف عرفنا ذلك؟

نستطيع معرفة ذلك من خلال دراسة اتصال عظمة الفخذ بكل من الحوض والركبة. فعند البشر مثلًا، تميل عظمتا الفخذ نحو بعضهما البعض ليكون مركز الجاذبية واحدًا أثناء المشي المنتصب. بينما في أبناء عمومتنا من القرود العليا التي تمشي على أربعة قوائم. ونلاحظ أن عظام الفخذ لديهم تكون منفرجة. إذًا ما علينا هو أن نرى ما إذا كانت عظام فخذ لوسي تميل نحو بعضها البعض كالبشر أم منفرجة كالشيمبانزي. وبالفعل وجدنا أن عظمتي الفخذ تميلان باتجاه بعضهما البعض عند لوسي بدرجة مقاربة لدرجة الميل عند البشر. كما لاحظ الباحثون امتلاك لوسي لعظام حوض أقرب إلى البشر من تلك عند الشيمبانزي كما ذكرنا أعلاه. [11]

حقوق الصورة: Janet K. Ray

أدلة إضافية

عُثر على حفرية لآثار أقدام بشرية في تنزانيا تعود إلى 3.6 مليون سنة، على امتداد 27 متر، بمجموع 70 أثرًا للأقدام. حيث سار ثلاثة أفراد في رماد بركاني مبتل. عندما ثار البركان القريب من هذا الموقع ثانيةً، غطّت طبقات من الرماد البركاني هذه الآثار وحفظتها لنكتشفها بعدها بأكثر من 3 مليون سنة. ولكن كيف عرفنا أن هذه الآثار تعود بالتحديد إلى نوع أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس؟

يشير شكل الأقدام (الواضح من حفريات الآثار) جنبًا إلى جنب مع طول وترتيب أصابع القدم إلى أن هذه الآثار هي من صنع بشر بدائيين. والنوع البشري البدائي الوحيد الذي يعود إلى تلك الفترة هو نوع أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس.

في الواقع، عُثر على حفريات ل Au. afarensis بالقرب من هذه الآثار وفي نفس الطبقة الرسوبية. وهو ما يخبرنا أن ال Au. afarensis كانوا موجودين في نفس المكان والزمان الذي تُركت فيه هذه الآثار. وبالتالي فهي آثارهم، مما يعني أنهم مشوا بشكل منتصب. [12]

وها نحن ذا نرى كيف أن حفرية قدمت واحدًا من أقوى أدلة التطور من السجل الأحفوري، تحديدًا تطور البشر.

حقوق الصورة: Humanorigins

السمك المفلطح

يُعد «السمك المفلطح-Flat fish» واحدًا من أغرب أنواع الأسماك. حيث أن عيني هذه السمكة يقعان على جانب واحد من رأسها. على عكس باقي الأسماك التي تقع كل عين من عيونها على جانب من رأسها. لذلك فتستلقي هذه السمكة على جانبها للرؤية. ولكن إن افترضنا أن هجرة العينين إلى جانب واحد من الرأس هو نتاج تطور من أسماك امتلكت عينًا على كل جانب (كما هو شائع). فيجب أن نعثر على حفرية انتقالية تمثّل حلقة وسيطة بين مواقع العيون المختلفة.

وبالفعل عثرنا على هذه الحفرية، إنها «أمفيستيوم-Amphistium». هذه الحفرية لا تمتلك عينًا على كل جانب، ولا عينين على نفس الجانب. وإنما تملك عينًا على أعلى الرأس، وعينًا على أحد الجوانب. فهي الحلقة المفقودة بين الأسماك التي تمتلك عينًا على كل جانب من الرأس، وبين السمكة المفلطحة التي تمتلك عيناها على جانب واحد من رأسها. وهذا أيضًا من أدلة التطور من السجل الأحفوري. [13]

حقوق الصورة: National Geographic

اتساق السجل الأحفوري

يقول عالم الأحياء البريطاني «ريتشارد دوكينز-Richard Dawkins»:

“يمكن إثبات خطأ التطور بسهولة لو عُثر على حفرية واحدة في ترتيب تاريخي خاطئ، وقد اجتاز التطور هذا الاختبار بنجاح عظيم”

حيث أن السجل الأحفوري يُظهر تدرجًا واضحًا في ظهور الصفات والكائنات. ويوّثق السجل الأحفوري انتقال الحياة من الأقدم إلى الأحدث، ولم يتم العثور على حفرية واحدة في غير موقعها من الخط الزمني للتطور. فلم نعثر مثلًا على حفرية بشرية تعود للعصور التي عاشت فيها الديناصورات، ولن يتم العثور على شيء كهذا.

ولكن ماذا عن الانفجار الكمبري؟ وماذا أيضًا عن وجود فجوات في السجل الأحفوري؟

كل هذا وأكثر سنجيب عليه في الجزء الأخير من هذه السلسلة.

المصادر

[1] Australian Museum
[2] Merriam Webster
[3] Nature
[4] Fandom
[5] Britannica
[6] THE STORY OF LIFE in 25 FOSSILS, by Donald R.Prothero, p.(261 – 267)
[7] Zoolinnean
[8] Nature
[9] THE STORY OF LIFE in 25 FOSSILS, by Donald R.Prothero, p.(288 – 293)
[10] Evolution: What the Fossils Say and Why It Matters, by Donald R.Prothero, p.(263 – 267)
[11] Natural History Museum
[12] Human Origins
[13] Fandom

Exit mobile version