الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

على مقربة من سواحل مدينة جبيل اللبنانية، وفي ساعات الصباح الأولى، يقف بحارٌ أسمرُ اللون في سفينته الدائرية بمقدمتها التي تشبه رأس الحصان والمصنوعة من خشب الأرز اللبناني، ينظر بحيرة نحو البحر أمامه، ربما كان يفكر بوجهته أو ربما بتجارته، لكن ابدًا لم يكن ليخطر على باله بأن هويته بعد 2800 سنة من وفاته ستصبح ولسنوات عديدة، محط جدلٍ كبير.(1) الفينيقيون الجدد والحركات السياسية، قضيةٌ تعود لتطفو على السطح مجددًا، هي موضوع مقالنا اليوم.

تقول المؤرخة وعالمة الآثار 《جوزيفين كوين – Josephine Quin》أنه ومن أجل أن تحكم على مجموعة من الناس أنهم شعب واحد يجب أن تتوفر فيهم عدة معايير، أولها اسم مشترك بالإضافة لانتمائهم لأرض وثقافة واحدة ووجود حس التضامن فيما بينهم، وأنا لا اعتقد أن أيا منها قد توفر بالفينيقيين. (2)

إن الشائع بين الناس عن الفينيقيين أنهم بحارة مهرة وتجار أذكياء، استطاعوا أن يصلوا بسفنهم إلى كل مناطق البحر المتوسط، أسسوا فيها محطات ومستوطنات وحملوا اليها تجاراتهم وصباغهم الأرجواني وأبجديتهم، أما ما هو يقين للجميع فإن الفينيقيين قد شكلوا شعبًا واحدًا.

صدر كتاب كوين سنة 2017 بعنوان In Search Of The Phoenicians وقد غير بصدوره نظرة المجتمع العلمي عن الفينيقيين كليًا فما كان يقينًا عن أنهم شعب واحد قد أصبح اليوم غير صحيح. تشير كوين أن معظم الأبحاث المثيرة التي حصلت في العقود الماضية عن الهوية الفينيقية قد أهملت فكرت الهوية نفسها، وفي بحثها تحدت كوين كل ما كان مألوفًا عنهم وقالت إن المفاهيم القومية الحديثة هي من أنشأت الهوية الفينيقية وهذه الهوية قد خُلقت لتخدم أهدافًا سياسية في العصر الحديث. فكيف خدم الفينيقيون هذه السياسات الحديثة؟

الفينيقيون الجدد

البداية في لبنان او كم درج تسميتها لسنوات بأرض فينيقيا الأم، ظهرت فكرة الفينيقيين الجدد لأول مرة في كتابات المؤرخ اللبناني طنوس الشدياق حيث ربط بين فينيقيا ولبنان في كتابه history of the notables of mount Lebanon الصادر سنة 1859، يناقش في فصله الأول حدود لبنان وسكان المدن الفينيقية فيه. بعدها سرعان ما اخذت فكرة القائلة بأن اللبنانيين هم الفينيقيين القدماء ضجة واسعة في بداية القرن العشرين بين المهاجرين اللبنانيين في مصر والولايات المتحدة، وبمساعدة وثائق الحكومة الأمريكية التي هدفت إلى تحويل المهاجرين من الساحل السوري من عرب إلى فينيقيين من أجل رفع رتبتهم.

لم تصبح هذه الفكرة مشهورة في لبنان نفسه إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، ومع قدوم التأثير الثقافي الأوروبي وما تبعه من انتداب فرنسي لأراضي سوريا ولبنان اعتنق هذه الفكرة بعض رواد الاعمال والسياسيين والنشطاء اللبنانيين، كان الهدف هنا هو تقسيم لبنان وفصله عن سوريا واقناع اللبنانيين أنهم ليسوا عربًا، بل ربطهم ثقافيًا وشكليًا وحتى روحيًا بحضارة أقدم بكثير من العرب بالحضارة الفينيقية.

لا يمكن أن نعلم على وجه الخصوص إذا ما كانت هذه النزعة نحو الماضي هي فعلٌ فطري طبيعي او أنها كانت ستحدث دون تدخل الفرنسيين لتحويرها، لكن الفينيقية لم تكن الحركة الوحيدة في الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين التي تريد العودة إلى جذورها القديمة، هنالك أيضا الفرعونية والاشورية والآرامية في سوريا والكنعانية في فلسطين.

لماذا التاريخ القديم مهم لهذه الحركات السياسية الجديدة؟

يقول المؤرخ البريطاني《 إريك هوبسبام – Eric Hobsbawm》 الدول هي كيانات حديثة تاريخيا تتظاهر بأنها كانت موجودة لفترة طويلة ولتكون دولًا من الأساس يجب ان يكون لها ماض متفق عليه بين جميع مواطنيها وليس ضروريًا أن يكون هذا الماضي حقيقي. إذا كان من الضروري للبنان الخارج حديثا من الانتداب الفرنسي ان يتذكر اجداده الفينيقيين العظماء ويربط هويته بهم ليتحول اللبنانيون اليوم إلى الفينيقيين الجدد.

ساعدت القومية الفينيقية الفرنسين على فصل لبنان عن سوريا لكنها قد وحدت التونسيين ضد الاستعمار الأوروبي وإن كانت هذه القومية حقيقية أم اختراعا حدث في القرن التاسع عشر لا بد من وجود أدلة ملموسة عليها.

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

فينيقيون مجهولون

خلال حياتهم لم يطلق الفينيقيون على أنفسهم أي اسم، اليونان هم من اسموهم فينيقيين ولا يمكن الحسم في معنى هذه التسمية بعد، فربما دلت على لون أرجواني او شجرة النخيل أو على طائر الفينيق الخالد… اما الاسم الثاني الشائع عنهم فهو الكنعانيون، ويعتبر معظم الأكاديمييون اليوم أن هذا الاسم من أصل سامي أي أن الشعب المحلي وبلغته الخاصة قد عرف بهذا الاسم عن نفسه، لكن كوين تعود لتؤكد أن هناك القليل جدًا من الأدلة على هذا الاستخدام، وتقترح أن هذه الأدلة القليلة قد اسيء فهمها وتحليلها أيضًا. فالمرة الوحيدة التي وجدت فيها كلمة كنعان (KNʿN) مكتوبة بالفينيقية، كانت على عملات برونزية صكتها مدينة بيروت عام 168 قبل الميلاد، والتي أعطت اسم المدينة باسم أم لاوديكيا في كنعان (LʾDK ʾM BKNʿN).

تُؤخذ هذه العبارة أحيانًا كدليل بحد ذاتها على أن الفينيقيين قد سموا أنفسهم كنعانيين، لكن الواضح أن هذه العبارة تصف المدينة وليس سكانها، وسياقها السياسي يعني أنه لا ينبغي اعتبارها تسمية محايدة أطلقها الفينيقيون على أنفسهم فهي نسخة من اسم ” لاوديكيا في فينيقيا” الاسم الذي فرضه الملوك السلوقيون اليونانيون المقدونيون على بيروت، لتمييز المدينة عن لاوديكيا على البحر في أقصى الشمال.

لم يسموا أنفسهم فينيقيين ولا كنعانيين فكيف عرفوا عن نفسهم إذا؟ تجيب كوين عن هذا السؤال بالعودة إلى نصوص اللغة الفينيقية من المشرق نفسه، ما نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا عن أنفسهم بالرجوع إلى مدنهم أو في كثير من الأحيان إلى عائلاتهم ومن الشائع بالنسبة للنقوش الفينيقية أن تسرد عدة أجيال من الأجداد والاسلاف كنوع من التعريف عن النفس.

موضة عالمية

عند الحديث عن الصناعات الحرفية الفينيقية لا يمكن تجاهل روعتها ودقة تصنيعها، اشتهر الفينيقيون بخزفياتهم وصناعاتهم العاجية المميزة التي صُدرت إلى معظم مناطق الشرق الأدنى والبحر المتوسط، وعادة ما تؤخذ هذه الصناعات كدليل قوي على ثقافة مشتركة لشعب واحد لكن المشكلة أن القليل من هذه القطع قد وجد على أرض فينيقيا الأم.

تقول كوين إن البشر ليسوا قطعا فخارية ودراستنا لمدى انتشار هذه القطع الأثرية لا يمكننا ان نقيس من خلاله حدود شعب ما. كان هنالك نمط دولي سائد في العصر البرونزي الحديث تم انتاج هذا النمط الموحد وشرائه عبر مناطق واسعة فهو ليس محدودا بفينيقيا، والانتاج الواسع لهذه القطع لا يعكس ثقافة شعب واحد بل يعكس موضة عالمية كانت سائدة في ذلك العصر.

عدة لهجات

عادة ما تؤخذ اللغة كدليل قوي على الهوية المشتركة وفي حالة الفينيقيين تقول كوين أنه لا يوجد أي دليل على أنهم تشاركوا لغة واحدة. الفينيقية العبرية المؤابية … كانوا يعتبرون جميعا لغات كنعانية وفي الفترة الحديدية كانت اللغة المستخدمة في المملكة الإسرائيلية قريبة جدا من اللهجة الفينيقية المحكية في المدن المجاورة لها، وفي الوقت نفسه كان هنالك لهجات مميزة داخل اللغة الفينيقية نفسها منها البونيقية المستخدمة في المستعمرات الغربية. على حد تعبير كوين لا يمكننا اعتبار أن الفينيقيين قد امتلكوا لغة مشتركة بل تكلموا عدة لهجات مختلفة كانت تشبه لهجات المحيطين بهم وقد تواصلوا فيما بينهم عبرها.

تفرقوا حتى لا تُحكموا

حتى الان كان النقاش عن الهوية الفينيقية بسلبية، هل كانوا شعبًا واحدا أم لا، لكن إذا نظرنا إلى الأمر بإيجابية فربما تعمد الفينيقيون كما درجت تسميتهم ألا يكونوا شعبا واحدا وألا تكون لديهم هوية مشتركة كشكل من أشكال المقاومة ومحاربة الاستعمار الأجنبي.

جادل《 جيمس سي سكوت – James C. Scott》 مؤخرًا في كتابه The Art of Not Being Governed (2009) بأن الأشخاص الذين يتمتعون بالحكم الذاتي والذين يعيشون على أطراف وحدود الدول التوسعية الكبرى يميلون عادة إلى تبني استراتيجيات لتجنب السيطرة المباشرة عليهم من قبل هذه الدول ولتقليل الضرائب والتجنيد الاجباري وعمل السخرة. (3) وقد ركز سكوت في بحثه على مرتفعات جنوب شرق آسيا، وهي منطقة تُعرف الآن أحيانًا باسم《 زوميا – Zomia》، وعلاقتها بدول المسيطرة على السهول الكبرى في المنطقة مثل الصين وبورما.

يصف سكوت في بحثه سلسلة من التكتيكات التي يستخدمها سكان هذه التلال لتجنب سلطة الدولة، بما في ذلك تشتتهم في التضاريس الوعرة، وتنقلهم، وممارساتهم الزراعية، وهوياتهم العرقية وهيكلهم الاجتماعي المرن. يقول سكوت في وصفه للوضع السياسي في تلك المنطقة أن التحالفات السياسية كانت محدودة وقصيرة العمر في زوميا. في الواقع، تبدو العديد من جوانب تحليل سكوت مألوفة في عالم البحر الأبيض المتوسط القديم، على أطراف الإمبراطوريات الزراعية العظيمة في بلاد ما بين النهرين وإيران وما هو مثير للاهتمام هنا هو الفائدة الكبيرة لمثل هذا الاسلوب في المنطقة الجبلية في شمال المشرق القديم.

بالعودة إلى بحث سكوت يمكن أن نرى بوضوح كيف استخدم سكان المشرق القديم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات للتهرب من سيطرة القوة الإمبريالية عليهم. التشتت في التضاريس الوعرة والانقسام إلى عدة مدن وعقد تحالفات قصيرة الأمد كلها استراتيجيات اعتُمدت في فينيقيا للتهرب من سيطرة الامبراطوريات العظمى عليها. تفرقوا حتى لا تُحكموا، على حد تعبير سكوت.

كان الخيار الآخر المتاح أمام هذه الجماعات هو الذهاب إلى البحر، وهي منطقة مألوفة للفينيقيين حيث يمكن لخبرة ومعرفة البحارة المشرقيين أن تجعلهم وأنشطتهم غير مرئيين وغير خاضعين للمساءلة أمام أسيادهم في الشرق. قدم البحر أيضًا طريقًا للهروب من المزيد من سيطرت الإمبراطوريات المحلية.

مفاهيمنا الحديثة تشوه الماضي

لقد شوهت مفاهيمنا الحديثة عن الهوية والانتماء تاريخنا. لم يرى الفينيقيون يوما أنفسهم كشعب واحد بل ربما قد تعمدوا ذلك، ان تصنيفنا لهم بهذه الطريقة يعد تصنيفًا تعسفيا، لقد اعتمدنا على مفاهيم مصطنعة لتنظيم العالم وأنفسنا ومهما كان اعتقادنا بان هذه المفاهيم صحيحة فهذا لا يجعلها حقيقة علمية أو طبيعية. الحقيقة هي أنه وعلى الرغم من أن المؤرخين يعتقلون الموتى باستمرار من التاريخ ويفحصون جيوبهم بحثًا عن هويتهم، فهم عاجزون عن معرفة كيف كان الناس يفكرون حقًا في أنفسهم في الماضي، وبسبب هذا التركيز الأكاديمي التقليدي على عدد صغير من المجتمعات المتطورة وغير العادية فقد تم تشويه منطقة البحر الأبيض المتوسط القديمة وأهملت حضارات صغيرة أخرى وتم تصنيفها تعسفيا مع حضارات أخرى.

ليس لدينا دليل جيد على أن الناس القدامى الذين نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا أنفسهم كشعب واحد أو تصرفوا كمجموعة مستقرة. وبدلًا من أن نملأ هذا الفراغ بقصص من خيالنا يجب أن نقبل الفجوات في معرفتنا. بانتظار اكتشافات أثرية حديثة لتملأ هذا الفراغ.

المصادر

  1. Mark Cartwright. The Phoenicians – Master Mariners.: Ancient History Encyclopedia 2016.
  2. QUINN J. IN SEARCH OF THE PHOENICIANS.: PRINCETON UNIV Press; 2019.
  3. Scott J. The art of not being governed. New Haven, Conn.: Yale University Press; 2011.

التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

المكان 《منطقة تانيت – The Precinct of Tanit》 في قرطاجة (تونس حاليًا) أما الزمان فبين القرنين السابع والثاني قبل الميلاد. يتقدم رجل بقدمه اليمنى إلى الأمام، مرتديًا زيه الكهنوتي، يحمل بيده اليسرى ما يبدو وكأنه طفل صغير بدون ملامح، يرفع يده ليطلب من الآلهة تقبل قربانه ويحرق الطفل. فما الدافع وراء التضحية بالأطفال حرقًا؟

توفيت قرطاجة

يقع توفيت قرطاجة خارج المدينة وما نسميه اليوم توفيت كان مدفن كبير لجثث الأطفال المحترقة. هذا ما توصل له 《لورنس ستاجر –LAWRENCE STAGER》 الذي كان مسؤول الحفريات في مدينة تونس من سنة 1975 إلى سنة 1980. (1) لقد استخدم الفينيقيون التوفيت كمدفن للجثث المحترقة من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن الثاني ق.م. حيث تدمرت قرطاجة على يد الرومان. (2) وجد ستاجر في الموقع بقايا جثث محترقة لآلاف الأطفال الرضع مدفونة مع بقايا عظمية تعود لحيوانات كالخراف والماعز والطيور في جرار تعلوها علامات حجرية منحوتة (مسلات)، وغالبًا ما تحمل نقوشًا أيقونية فسرها بعض الباحثين على أنها تدل على التضحية بالأطفال.

تضحية أم بروباغاندا؟

بالعودة إلى الماضي، إلى الزمن الذي ازدهرت فيه قرطاجة، كان الإغريق والرومان في كتاباتهم الأدبية يتهمون الفينيقيين في قرطاجة بالتضحية بأطفالهم للإله 《كرونوس – kronos》 من أجل كسب المعارك، وجاءت الأدلة الأثرية المتمثلة بعظام الأطفال الكثيرة المحترقة في منطقة توفيت لتدعم كتاباتهم، لكن العداوة بين الرومان والفينيقيين في قرطاجة كانت معروفة، لذلك بقيت هذه الكتابات محط جدل كبير وغير موثوقة في الأوساط العلمية كونها يمكن أن تكون بروباغاندا مغرضة ضد القرطاجيين. سنة 2010 قام عالم الأحياء والأنثروبولوجيا 《جيفري إتش شوارتز – Jeffrey H. Schwartz》 من جامعة بيتسبرغ بأول دراسة على عينات من بقايا الهياكل العظمية البشرية المحترقة (348 جرة دفن، العدد = 540 فردًا) التي استخرجها من التوفيت القرطاجي(1)

جرى هذا البحث بناءًا على دراسة تكوين الأسنان وأنسجة المينا وعلى عظام من الجمجمة 《العظم الصدغي- Temporal bone》 مع الأخذ بالحسبان الآثار المحتملة لانكماش العظام الناجم عن الحرارة. الهدف الأساسي من الدراسة كان معرفة ما إذا كان البشر المدفونين في التوفيت أضحيات محروقة حية أم أحرقوا بعد الموت كما كان شائعًا في العالم القديم. لكن دراسة شوارتز وعلى عكس المتوقع أظهرت أن معظم العينات تعود لأجنة ماتت قبل فترة الولادة، أو ما بين 5-6 أشهر بعد الولادة، وبدلا من الحديث عن التضحية كسبب للوفاة يقول شوارتز أن هذه النسبة من الأعمار تتوافق مع البيانات الحديثة حول وفيات الفترة المحيطة بالولادة، أي أن هذه الوفيات طبيعية. وفي قرطاج تفاقمت نسبة الوفيات بسبب العديد من الأمراض التي كانت شائعة في العالم القديم كما في المدن الكبرى الأخرى، مثل روما وبومبي. إذن كان توفيت قرطاجة مدفن للأطفال أو الأجنة الذين ماتوا قبل الولادة أو بعدها بفترة وجيزة، بغض النظر عن سبب الوفاة. يبقى أن الأمر لم ينتهي هنا فكل فرضية علمية تحمل هامشها من الخطأ.

تأريخ الأعمار دليل على التضحية

إن إثبات التضحية بالبشر من عدمه عموما يعتمد بشكل كبير على القدرة على تحديد أعمار العظام المدروسة، والعمر ليس من السهل تحديده. في السنة التالية لنشر شوارتز لبحثه قامت 《باتريشيا سميث – Patricia Smith》 المتخصصة في البيولوجيا والأنثروبولوجيا وفريق من المتخصصين، بنشر ورقة بحثية اعتمدت فيها على مجموعة من التقنيات الجديدة لتأريخ الأعمار، وقد بينت الدراسة أن معظم الأطفال في قرطاجة قد ماتوا بين شهر وشهر ونصف بعد الولادة، لذلك اعتبرت سميث أن التضحية بالأطفال كانت محتملة جدا. (2)

إقرأ أيضًا: ما هو التحنيط الذاتي ؟

تقول سميث في دراستها أنه من أكثر القضايا المحورية في النقاش عن كيفية تقدير أعمار الرضع هو كيفية تأثير حرق الجثث على العظام المستخدمة في التأريخ. وتقول سميث أن هذه الدراسة اعتمدت على مجموعة من التقنيات منها 《القياس الحيوي- biometry》،《والمجهر الضوئي-light microscopy》 لتحديد عمر العظام للأطفال.

طول الأسنان يحدد عمر الميت

باستخدام طول الاسنان، وبعد تصحيح الانكماش، وجدت سميث وفريقها أن عمر الاطفال الرضع في توفيت بلغ ذروته بين الشهر والشهر والنصف مع بعض العينات التي وصل عمرها لأربع سنوات، وهذا التوزيع العمري يختلف عما هو موجود في مدافن الرضع في المواقع الأثرية الأخرى الذين ماتوا بشكل طبيعي. هذا التوزيع العمري، وكذلك المعاملة الجنائزية الخاصة للأطفال الرضع، يدعم الأدلة النصية والأيقونية التي تقول: إن الفينيقيين مارسوا التضحية بأطفالهم. وهذا ما عارض دراسة شوارتز الذي قال إن توفيت قرطاجة قد استخدم كمقبرة لدفن الرضع المجهضين أو الذين ماتوا قبل الولادة.

من ناحية أخرى حسب سميث فإن حرق الجثث على نار مكشوفة هو طقس أكثر تكلفة ويستغرق وقتًا طويلاً من الدفن وفي معظم المجتمعات عادة ما يتم هذا الطقس لكبار السن أو للنخبة في المجتمع. وقد توصلت سميث إلى قناعة بأن الفينيقيين أحرقوا الجثث في أماكن مفتوحة وليس في أفران مغلقة بعد أن وجدت اختلافات في نسبة الحرق على العينات التي درستها وأرجعت ذلك إلى تساقط بعض العظام وعدم تعرضها لنار كافية أثناء عملية الحرق. أمر أخر يدعم فرضية سميث، في مدينة قرطاجة بأكملها كان نمو الأشجار نادرًا إن لم يكن غائبًا. (3)

إذا فندرة الأشجار جعلت عملية الحرق مكلفة جدا، فلم قد يلجأ الفينيقيون إلى حرق جثث أطفالهم المتوفين وتحمل كل هذه التكلفة بدل دفنهم بطريقة اعتيادية؟ لذلك وكما تفترض سميث فقد ضحى الفينيقيون بأطفالهم كنوع من الطقوس الدينية التي تقربهم من الآلهة.

آلة الزمن هي الحل

بالنسبة للفريقين فكلاهما على حق، ومع أن الإثنين اعتمدوا على تقنيات علمية دقيقة في تحليل العظام إلا ان نتائجهم أتت مختلفة والسبب في ذلك يعود للتفسير العلمي للفرضيات المطروحة، وهذا ما يميز العلوم الإنسانية بشكل عام عن غيرها، فالتفسير والتحليل فيها لا ينتهي. بعد البحث الذي نشر سنة 2011 عن سميث وفريقها والذي ناقض بحث شوارتز عاد الأخير في السنة التالية إلى نشر ورقة بحثية ليرد على نقد سميث لبحثه. (4) وبناءًا على خبرة شوارتز الطويلة في دراسة العظام يؤكد أن معظم العينات من التوفيت التي درساها كانت تعود لأجنة قد ماتوا قبل الولادة. كما أن شوارتز قد اعترض على بحث سميث واعتبر أن الأخيرة قد أخطأت في حساب انكماش العظام بسبب الحرق ومن هنا فقد أخطأت بتأريخ عمر العظام وبسبب هذا الخطأ توصلت لنتيجة أن التضحية بالأطفال كانت محتملة. إن قضية التضحية بأطفال قرطاجة لم تحسم بعد، بانتظار اكتشافات أثرية جديدة في المستقبل لتحل المشكلة، أو ربما إذا حصلنا على ألة زمن سنعرف الحقيقة.

المصادر

  1. Schwartz J, Houghton F, Macchiarelli R, Bondioli L. Skeletal Remains from Punic Carthage Do Not Support Systematic Sacrifice of Infants. PLoS ONE. 2010;5(2):e9177.
  2. Smith P, Avishai G, Greene J, Stager L. Aging cremated infants: the problem of sacrifice at the Tophet of Carthage. Antiquity. 2011;85(329):859-874.
  3. Zeist W, Veen M, DIET AND VEGETATION AT ANCIENT CARTHAGE THE ARCHAEOBOTANICAL EVIDENCE. Groningen Institute of Archaeology University of Groningen. 2001
  4. Schwartz J, Houghton F, Bondioli L, Macchiarelli R. Bones, teeth, and estimating the age of perinates: Carthaginian infant sacrifice revisited. here.
Exit mobile version