القتل المتسلسل

يستمتع الكثيرون منّا بكتب وأفلام القتل المتسلسل المليئة بالرعب والإثارة، ولرُبّما أول ما يتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن القاتل المتسلسل صورة رجل أبيض في العشرين أو الثلاثين من عمره، ذو كاريزما عالية وذكاء حاذق وحياة غامضة. ولكن إلى أي مدى يتطابق الواقع مع  قصص الروايات والأفلام؟ وكيف يفسّر العلم ظاهرة القتل المتسلسل؟

تعريف:

تتعدّد تعريفات «القتل المتسلسل-Serial murder» وتختلف بحسب جنس القاتل وعدد ضحاياه والأسباب الدافعة لتنفيذ الجرائم. لكن التعريف السائد للقاتل المتسلسل هو كل قاتل ينفذ جرائم قتل في أمكنة وأزمنة متعددة، وله على الأقل ثلاث أو أربع ضحايا. وتكون فترة «برودة-Cooling off» بين الجريمة والأخرى، تمتد من ساعات إلى سنوات عدة، وتكون هذه الفترة خالية من الجريمة.  ويتميز هذا النوع من الجرائم عادةً بأنماط محددة (مشتركة بين الجرائم المتسلسلة) من حيث اختيار الضحايا أو أساليب القتل.

تجدر الإشارة إلى أن القتل المتسلسل يختلف عن القتل الجماعي الذي يستهدف مجموعة ضحايا في مكان وزمان واحد.

تاريخ جرائم القتل المتسلسل:

رغم أن استخدام مفهوم “القتل المتسلسل” وانتشاره يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التاريخ مليء بهذا النوع من الجرائم.

ولعلّ أول جريمة قتل متسلسلة مُوثّقة هي جريمة المرأة «لوكوستا-Locusta» التي وُظفت من قِبل الامبراطورة الرومانية «أغريبينا الصغرى-Agrippina the Younger» للتسميم لعدد من أعضاء العائلة الحاكمة، وقد أًعدمت لوكوستا في العام 69 بعد الميلاد.

من القاتلين المتسلسلين المشهورين عبر التاريخ أيضًا الرجل النبيل الفرنسي «جيل دو ري-Gilles De Rais» الذي ارتبط اسمه بقتل أكثر من مئة طفل، وقد أُعدم في القرن الخامس عشر.

في القرن التاسع عشر، زاد الحديث عن جرائم القتل المتسلسل وارتفعت نسبتها، ولكن العديد من الباحثين ينسبون هذا الارتفاع إلى تقدم تقنيات كشف الجرائم وتغطيتها الإعلامية.

أما في القرن العشرين، فقد تحولت جرائم القتل المتسلسل إلى قضايا رأي عام، وقد أثارت الدهشة والرعب في نفوس الجماهير. ونذكر هنا بعض الجرائم المرعبة التي حفرت في ذاكرة الكثيرين، منها جرائم الطبيب البريطاني «هارولد شيبمان-Harold Shipman» الذي قتل 215 شخصًا على الأقل بين عامي 1975 و1998، والقاتل محمد عمر آدم الذي اعترف في عام 2000 بمسؤوليته عن قتل 16 طالبة طب في اليمن و11 نساء أخريات في السودان.

ومع انتشار قصص جرائم القتل المتسلسل وإثارتها للجدل الواسع، شكّلت مصدر إلهام للكثير من الروائيين والكتّاب، فصدرت الكثير من أهم الروايات وأنجح الأفلام السينمائية التي تدور قصصها حول هذا النوع من الجرائم.

لذلك انتشرت صورة نمطية عن منفذي هذه الجرائم، قد لا تعكس دائمًا الواقع. كما أنها ساهمت في تضخيم تقدير نسبة هذه الجرائم، في حين أنها في الحقيقة لا تتعدى الـ2% من إجمالي عدد الجرائم.

كيف يفسر العلم جرائم القتل المتسلسل؟

لماذا يتصرف البشر بهذه الطريقة أو تلك؟ لماذا يكذبون أو يسرقون أو يقتلون؟ لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب أعمال الفلاسفة والعلماء والباحثين لمئات السنين. كذلك حاول هؤلاء تفسير ارتكاب جرائم وحشية مثل جرائم القتل المتسلسل.

تتعدّد النظريات التي تساهم في تفسير هذه الجرائم بين نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة والإحصائيات وصولًا إلى الطب النفسي وعلوم الجينات.

يشكّل الرجال الأغلبية الساحقة من القتلى المتسلسلين، مما يقترح وجود أسباب جينية مسؤولة عن ارتفاع منسوب العنف عند الرجال، كما يمكن ربطه بالدور الاجتماعي المرتبط بالرجال.

كذلك يتم الربط بين جرائم القتل المتسلسل وأمراض نفسية معينة مثل اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، بحيث يزيد هذا النوع من الاضطرابات النفسية احتمال القيام بجرائم، لكنه ليس ملازم لها بالضرورة.

ويُشير علماء النفس إلى أن التعرض للعنف أو الصدمات في الطفولة قد يكون عاملًا مؤثرًا في القيام بأعمال عنيفة أو جرمية وبالتالي المشاركة في جرائم القتل المتسلسل.

ولعلّ أكثر العوامل النفسية تأثيرًا هي وجود اضطرابات التعلق وقلق الهجر، فقد بينت دراسة أن أكثر من 70% من القتلة المتسلسلين عانوا من هذه الاضطرابات.

 في حين ركزت الكثير من الدراسات على الدراسة الشخصية والعوامل الفردية لدى القتلى المتسلسلين، طرح علماء الاجتماع وجهة أكثر شمولية في البحث عن عوامل اجتماعية مساهمة في بناء هؤلاء القتلة.

فقد اعتبر بعض الباحثين أن العدد الكبير من القتلة الرجال الذين يستهدفون النساء كضحايا لهم، ليس إلا وجهًا من وجوه العنف ضد المرأة وكراهية المرأة في المجتمعات الأبوية والذكورية.

 كذلك يرى البعض أن الحداثة والاقتصادات النيوليبرالية فرضت زيادة في الفردية وفي الفروقات الاجتماعية وأثرت على الحياة الجماعية، مما يعزّز احتماليات الجريمة.

إن الأكيد أن تفسير جرائم القتل بحاجة إلى تكامل هذه النظريات مع بعضها، فكل جريمة تختلف عن غيرها في أسبابها ودوافعها.

تبيّن جرائم قتل المتسلسل أن مجموعة من العوامل الفردية والاجتماعية كفيلة أن تحول الأشخاص إلى وحوش بشرية يقتلون دون رحمة، بل يشعرون باللذة والرضا عند ارتكابهم جرائم قتل بحق آخرين. فإلى أي مدى سيساعدنا العلم على تجنب هكذا جرائم؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

SAGE

Sciencedirect

ما هو علم الجريمة؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

على الرغم من تطوّر المجتمعات وتمدّنها، وعلى الرغم من القوانين وأنظمة المحاسبة التي تحكم معظم دول العالم، ما زالت الأعمال الإجرامية تشكّل خرقًا خطيرًا لكل الأنظمة والمجتمعات البشرية وتهدد حياة وأمن الكثيرين حول العالم. فما هو تفسير انتشار الجرائم؟ وهل هي ناتجة عن أسباب فردية وشخصية أم أن ظروف المجتمع هي المسؤولة عن حدوثها؟ ما السبيل لتجنّب الجريمة، وفي حال حدثت، ما هو نظام المحاسبة الأكثر عدالة؟ نشأ علم الجريمة كعلم مستقل ليبحث عن إجابات لهذه الأسئلة والتعمّق في أسباب الجريمة ونتائجها.

ما هو علم الجريمة (أو علم الإجرام)؟

يدرس علم الجريمة الأعمال الجرمية الفردية والجماعية والجنوح، ويتناول أسبابها وأساليب تصحيحها وتجنبها. ينطلق علم الجريمة من نظريات متعدّدة في علوم مختلفة من علوم الحياة إلى علم النفس والطب النفسي إلى علوم الاجتماع والاقتصاد وعلوم الإنسان والإحصائيات.

نبذة تاريخية عن نشأة علم الجريمة:

رغم أن علم الجريمة كما نعرفه الآن لم يبدأ قبل القرن الثامن عشر، إلا أنه يجد أصوله في حضارات قديمة. فقد واجه الإنسان السلوكيات “الشريرة” والإجرامية منذ أقدم العصور، لذلك كان لا بد للبشر أن يضعوا قوانين رادعة للأعمال الجرمية ولو كانوا عاجزين في حينها عن فهم أسباب هذه الأعمال.

العصور القديمة

من أشهر وأقدم القوانين التي عرفتها الحضارات هي شريعة حمورابي في الحضارة البابلية (في عام 1754 قبل الميلاد)، واحتوت على 282 قانون تحت قاعدة “العين بالعين والسن بالسن”.

بدورهم تحدث الفلاسفة الإغريق عن السلوكيات الإجرامية، فاعتبر الفيلسوف أفلاطون أن سبب مخالفة القوانين هو غياب التعليم، فيما شدد أرسطو على أهمية العقاب لتجنب الأعمال الإجرامية.

تطورت فيما بعد النظرة الحديثة للأعمال غبر القانونية في الجمهورية الرومانية، التي شهدت في عام 494 قبل الميلاد ثورة من قبل عامة الشعب لفرض قوانين تمنع استغلالهم وتعاقب الأعمال الجرمية. وقد شكلت هذه المقاربة أسس المقاربة الغربية الحديثة، التي تعاقب فيها الدولة مرتكبي الأعمال الجرمية.

العصور الوسطى

أما في العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا تحت تأثير حكم الكنيسة الكاثوليكية، رُبطت الجريمة بالشر الإلهي. وتراوحت الأفكار بين العقاب الشديد للمجرمين، وبين مسامحتهم وتخليصهم من الشر.

كانت بدايات علم الجريمة في القرن الثامن عشر مع الحركة الإنسانية في أوروبا التي شدّدت على قيمة الإنسان وكرامته والتي ألقت الضوء على وحشية أنظمة السجون وعدم فعاليتها لتجنب الجرائم. وكانت في ذاك الوقت تُستخدم أشد الأساليب تعذيبًا من طعن أجساد المُتهمين إلى سحقها. فنشأت المدرسة الكلاسيكية في علم الجريمة لتدعو إلى تطوير نظام المحاسبة وتخفيف أو إلغاء التعذيب للمُتهمين وقد كان من رواد هذه المدرسة الكاتب والفيلسوف الإيطالي «سيزار بيكاريا-Cesare Beccaria» والمحامي البريطاني «سير صامويل روميلي-Sir Samuel Romilly »  والعالم البريطاني «جون هووارد-John Howard». ولعبت المدرسة الكلاسيكية لعلم الجريمة دورًا هامًّا في جعل نظام المحاسبة أكثر عدالة وإنسانية.

القرن التاسع عشر وحديثًا

في بداية القرن التاسع عشر، نشرت فرنسا للمرة الأولى إحصائيات وطنية لمستويات الجريمة. وتم تحليل هذه الأرقام الإحصائية من قِبل عالم الرياضيات والاجتماع البلجيكي «أدولف كيتيليت – Adolph Quetelet» فوجد أن توزع الجرائم ليس عشوائي، بل يخضع إلى أنماط اجتماعية معينة. من هنا، تم الربط للمرة الأولى بين الجريمة والبنية الاجتماعية، أي أن المجتمع يتحمل مسؤولية جرائمه. واعتبر كيتيليت أن المجرمين هم مجرد أدوات لتنفيذ الجرائم التي يتحمّل مسؤوليتها المجتمع ككل.

ثم جاءت المدرسة الوضعية (Positivist school) التي درست خصائص الأفراد المرتكبين للجرائم، وتأسست على يد الطبيب الإيطالي «سيزار لومبروزو- Cesar Lombroso» الذي اكتشف وجود فروقات بيولوجية وجسدية بين مرتكبي الجرائم وغير المرتكبين. تطورت المدرسة الوضعية لتشمل أيضًا دراسة الخصائص النفسية والعقلية والاجتماعية المسؤولة عن ارتكاب الجرائم. وبالتالي اعتبرت أن مرتكبي الجرائم غير مسؤولين فعليًا عنها، بل هم ضحايا ظروفهم وخصائصهم. لذلك هي تفترض أن “العقاب” يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الفردية بدلًا من الجريمة المُرتكبة.

ما هي النظريات المعتمدة حاليًا في علم الجريمة؟

تعددت النظريات في علم الجريمة بين نظريات بيولوجية ونفسية واجتماعية. فتفترض النظريات البيولوجية وجود أسباب جسدية، غالبًا جينية، تحفز العنف والانفعال. أما النظريات النفسية فهي تفسر العمل الجرمي بخلل نفسي، وتربطه أحيانًا بعدد من الأمراض النفسية كاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. في حين أن النظريات الاجتماعية تلقي المسؤولية الأكبرعلى المجتمع الذي يحفز، من خلال الظروف القاسية وانتشار العنف وغياب القانون والإحساس بالأمان، على ارتكاب الجرائم.

لم تكفِ أي من النظريات المطروحة لتفسير الأعمال الجرمية، فهي أعمال بالغة التعقيد. لذلك يعتمد علماء الجريمة حاليًا تشابك النظريات والأسباب البيولوجية والنفسية والاجتماعية لتفسير الجرائم وبالتالي معالجتها وتجنبها.

وغالبًا ما تصنف الجريمة حاليًا إلى نوعين بحسب دافعها: وسيلي وانفعالي.

الدافع الوسيلي يعني أن الجريمة تُرتكب عن سبق إصرار وتصميم، وغالبًا ما تعود بالنفع على المُرتكب (مثلًا: القتل المأجور أو القتل بهدف السرقة …). أما في حالة الدافع الانفعالي، تكون الجريمة بنفسها هي الهدف، وتنتج عادةً عن انفعال شعوري تلقائي (غيرة أو غضب أو خوف…). يكون العقاب أكثر قساوةً في حالة الجريمة الناتجة عن الدافع الوسيلي.

ختامًا، ما زالت المجتمعات بحاجة لإجابات أكثر دقة حول دوافع الجرائم وأسبابها، لتتمكن من تطوير بنية اجتماعية سليمة تخفف من مستويات العنف والجريمة، والأهم تطوير أنظمة محاسبة قائمة على مبدأ إعادة التأهيل، فتعطي الفرد فرصة جديدة لحياة متوازنة، وتعطي المجتمع فرصة للاستفادة من طاقاته.

المصادر:

Britannica.com

Criminology.com

Legal service india

إقرأ أيضًا: التنشئة الاجتماعية: الطبع مقابل التطبع

Exit mobile version