كيف يفسر علم النفس السلوكيات المتعلّقة بالجوع والطعام؟

من البديهي القول أن الحاجة إلى الطعام هي واحدة من الحاجات الفيزيولوجية الأساسية للحياة. لذلك فإن هذه الحاجة لم تحافظ فقط على الحياة البشرية، بل لعبت دورًا أساسيًا في صقل  سلوكيات الإنسان الحديث عبر التطور لملايين السنين. في القرن العشرين، بدأت محاولات علم النفس في تفسير السلوكيات المتعلقة بالطعام. فما هي أبرز النظريات حول ماهية الجوع؟ وكيف يفسر علم النفس السلوكيات المتعلّقة بالجوع والطعام؟

نظريات النقطة المحددة:

يعتقد غالبية الأشخاص أن الجوع ينتج عن نقص في الطاقة، بحيث أن جسدنا يطلب الطعام للحفاظ على مستوى الطاقة لديه. ويسمّى هذا الاعتقاد ب”Set-point assumption – اعتقاد النقطة المحددة”. وهو يقارن الجسم بالمنظم الحراري (الترموستات) الذي يعطي الحرارة أو التبريد بحيث تصبح حرارة المنزل أقرب إلى النقطة المحددة (Set-point).

وقد طرح العلماء نوعين من نظريات النقطة المحددة هما:

  • نظرية توازن السكري: تعتبر هذه النظرية أن هدف تناول الطعام الأساسي هو الحفاظ على توازن مستوى السكري. وتصف هذه النظرية بشكل رئيسي شعوري الجوع والشبع وتربطهما بمستوى السكر في الدم. إذ تعتبر أننا نشعر بالجوع عند انخفاضه، وننهي وجبتنا عند استعادة مستواه الطبيعي.
  • نظرية توازن مستوى الدهون:  تعتبر أن كل شخص يملك مستوى دهون، وأن أي انحراف عن هذا المستوى يقابله تعديلات في نسب الأطعمة، وتصف هذه النظرية عملية تنظيم وزن الجسم (على الأمد الطويل).

إذًا فإن هاتين النظريتين لا تتعارضان، بل هما تتكاملان في وصف عمليات الجوع والشبع (بدء الوجبة وإنهائها) من جهة، ووصف تنظيم وزن الجسم من جهة أخرى.

نقد نظريات النقطة المحددة:

واجهت نظريات النقطة المحددة العديد من الانتقادات بحيث اعتبرها الكثير من الباحثين غير كافية لتفسير سلوكيات تناول الطعام.

لا تفسّر هذه النظريات اضطرابات الأكل المنتشرة حول العالم، كالسمنة مثلًا. إذ تدل هذه الاضطرابات أن الأشخاص يميلون إلى الأكل بالرغم من وجود مخزون كافٍ من الطاقة (الدهون) في جسدهم.

كذلك فإن هذه النظريات غير قابلة للتطبيق في حالة  أسلافنا، الذين كانوا يمرون بفترات متقطعة من توفر الطعام بكثرة أحيانًا وفترات أخرى من نقص الطعام الحاد. لذلك كانوا بحاجة لتناول أكبر كمية ممكنة من الدهون خلال توفرها لتخزينها لفترات لاحقة.

بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الباحثون أن نقص مستوى السكر في الدم نادرًا ما يحفز الشعور بالجوع. إذ إن الشخص يحتاج لحقن إبرة الأنسولين (مادة تخفّض مستوى السكر في الدم)، لكي يشعر بالجوع.

كما أن الكثيرين من الباحثين يعتبرون أن هذه النظريات تتجاهل الكثير من العوامل التي تؤثر في سلوكيات الأكل كالتذوق والتعلم والعادات الاجتماعية وغيرها.

نظريات الجوع والطعام الحديثة:

نظرية الحافز الإيحابي للطعام:

على عكس نظريات النقطة المحدّدة، تعتبر نظرية الحافز الإيجابي أن الذي يدفعنا لتناول الطعام ليس هو نقص مخزون الطاقة بل توقع اللذة التي تنتج عن الطعام. وقد أثبتت العديد من الدراسات ثبات هذه النظرية عند البشر وعند الحيوانات. نذكر منها دراسة أُجريت عام 1980 على فئران بحيث تم إضافة وجبات من الشوكولا والخبز على وجباتها الأساسية (الكافية أساسًا). وبيّنت النتائج زيادة بنسبة 84% في كمية السعرات الحرارية، وازداد وزنها بحوالي 48% بعد 120 يوم.

أثبتت الدراسات كذلك أن العديد من العوامل تؤثر في كمية الطعام المتناولة؛ مثل نكهات الأطعمة وتوقيت الوجبات ووجود العائلة أو الأصدقاء خلال الوجبة، وغيرها من العوامل.

نظرية وودز- Woods :

عارض الباحث ستيفن وودز نظرية النقطة المحددة أيضًا، واعتبر أن تناول الطعام يشوش التوازن في الجسد. إذ أن بعد تناول وجبة طعام، تتدفق كمية كبيرة من الدم إلى الجهاز الهضمي، وترتفع نسبة السكر في الدم، كما ترتفع حرارة الجسم.

لذلك اعتبر وودز أنه من الصحي تناول العديد من الوجبات الصغيرة ( 6 إلى 7 مرات في اليوم) بدل تناول 3 وجبات كبيرة.

النظرية التطورية للجوع والطعام:

بحسب النظرية التطورية للطعام، طوّرت الثدييات نظام تغذية لتجنب فقدان مخزون الطاقة، وذلك لأن الثدييات (وأسلافنا من البشر) عاشت في محيط ذي كميات طعام غير ثابتة. لذلك يميل البشر إلى تناول كميات كبيرة من السكريات والدهون والأطعمة المالحة، بهدف تخزين كميات من الطاقة. يمكننا بهذا فهم سبب تفاقم اضطراب السمنة في المجتمعات الحديثة حيث الأطعمة متوفرة بشكل دائم وبكميات كبيرة.

المصادر:

edx

University of British Columbia

إقرأ أيضًا: ما هو الدافع (الحافز) في علم النفس

ما هو الدافع (الحافز) في علم النفس؟

هل تتساءل في هذه اللحظة ما الذي يدفعك إلى قراءة هذا المقال؟ وهل سبق لك أن تساءلت ما الذي يدفعك إلى القيام بكل نشاطات حياتك، من أبسطها (كاختيار طعام مثلًا) إلى أكثرها تعقيدًا (كاختيارك لمجال تخصصك مثلًا)؟ إن كل سلوك تقوم به هو في الواقع ناتج عن مجموعة من الدوافع (الحوافز) النفسية والجسدية، وقد عمل الباحثون في علم النفس على تعريف الدافع وتفسيره، وذلك لفهم السلوكيات البشرية. إذن ما هو الدافع (الحافز) في علم النفس؟ وما هي أبرز النظريات التي تفسّر الدوافع وطريقة تفاعلها مع المحيط وتأثيرها على السلوك؟

تعريف الدافع:

الدافع هو كل رغبة أو حاجة تدفعنا باتجاه سلوك معيّن. وقد صنف العلماء الدوافع إجمالًا ضمن خانتين: الدوافع الداخلية (Intrinsic motivation) والدوافع الخارجية (Extrinsic motivation).

الدافع الداخلي هو كل اندفاع ذاتي نحو سلوك معيّن، وغالبًا ما يكون السلوك نفسه مصدرًا للدافع. فالطفل مثلًا يندفع بشكل فطري إلى اللعب، لأن اللعب بحد ذاته ممتع. أما الدافع الخارجي فهو الدافع الذي يصدر من المحيط كنتيجة لسلوك معيّن. وفي هذه الحالة، يكون السلوك وسيلة للحصول على الحافز، فيعمل مثلاً الطفل على ترتيب ألعابه بهدف الحصول على مكافأة معينة.

من ناحية أخرى، تُصنف الدوافع إلى دوافع جسدية (مثل الجوع والعطش والجنس والنوم وغيرها) ودوافع نفسية أو اجتماعية (مثل اللعب والشعور بالإنجاز والاستقلالية).

أبرز النظريات حول الدافع في علم النفس:

1) نظريات الدوافع الغريزية:

تأثر علماء النفس بنظرية التطور الداروينية وحاولوا تفسير السلوك انطلاقًا من الغرائز. و قد كان عالم النفس والفيلسوف الأميركي “ويليام جايمز” من أوائل المساهمين في البحث حول الدافع. افترض جايمز أن السلوك البشري تقوده مجموعة من غرائز البقاء. ويمكن تعريف الغريزة بالسلوك الفطري الذي يولد مع الإنسان دون الحاجة إلى تعلّمه. لكن في عصر جايمز كان تعريف الغريزة غير ثابت، ويختلف من عالم نفس إلى آخر. بحسب جايمز، توجد العشرات من الغرائز مثل غريزة حماية الأم لطفلها وغريزة البحث عن السكر وغريزة الصيد وغيرها… وهي تتحكم بسلوكيات الانسان.

واجهت هذه النظرية كمًّا كبيرًا من النقد نظرًا لدور التلقين والتعلم والتنشئة الاجتماعية في التأثير على السلوك، وقد بدأ إثبات هذا الدور (تحديدًا دولا التعلم ) منذ بداية القرن العشرين.

أما اليوم، فيعتبر علماء النفس التطوري أن فهم الوظيفة التكيفية للسلوك قد يكون مفتاحًا لفهم أصله وتفسيره.

2) نظرية الدافع (Drive theory):

اشتهرت هذه النظرية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، لتفسير الحافز النفسي والسلوك والتعلم. وهي تتمحور حول فكرة الحفاظ على التوازن (Homeostasis)، فجسدنا مثلًا قادر على الحفاظ على توازن في حرارته من خلال عدد من الآليات التي تُفعل عند حدوث أي خلل في الحرارة (فترتجف العضلات في البرد، ويزيد التعرق في الحر).

كذلك، تعبر نظرية الدافع أن سلوكنا يهدف إلى الحفاظ على التوازن الجسدي والنفسي، وأن الدافع يولد عند وجود أي خلل في هذا التوازن، أي عند عدم تلبية أيٍّ من الحاجات الجسدية أو النفسية.

3) نظرية الحافز الإيجابي:

في حين ترتكز نظرية الدافع حول الدوافع الداخلية، تعتبر نظرية الحافز الإيجابي أن سلوكنا يتأثر بشكل أساسي بالحوافز الخارجية، فنبحث من خلال سلوكنا على مكافأة أو تجنب العقاب أو المشكلة. كما استندت هذه النظرية عل عدد من الدراسات التي بينت تكرار السلوكيات بشكل أكبر عند وجود مكافأة.

لكن النظرية لا تلغي دور الدافع الداخلي، بل تعيره دورًا غير مباشر في تحديد السلوك. ويعتبر عالم النفس “بول توماس يونغ” أن حالة الفرد النفسية والشعورية تؤثر في مدى تأثره بالحوافز الخارجية.

4) نظرية الإثارة للتحفيز:

بعكس نظرية الدافع التي تعتبر أن الدافع إلى السلوك هو العودة إلى التوازن، تعتبر نظرية الإثارة أن الإنسان يمكن أن يندفع لسلوك معين بهدف الحفاظ على المستوى الأمثل من الإثارة. الاستثارة ضرورة لازمة من أجل الانجاز، ونعطي مثالًا على ذلك فضولك الذي دفعك إلى قراءة هذا المقال.

وفقًا لنظرية الإثارة للتحفيز، يتمتع كل شخص بحد من الإثارة يكون الأمثل من أجل التحفيز والإنجاز. إذا انخفض مستوى الإثارة (شعرت بالنعس أو الضجر خلال الامتحان مثلًا)، ستنخفض إنتاجيتك. والعكس صحيح أيضًا، إذ أن ارتفاع الاثارة بحد كبير فوق مستواها الأمثل (شعرت بتوتر شديد خلال الامتحان) يؤثر سلبًا على إنتاجيتك.

5) النظرية الإنسانية : هرم ماسلو

بحسب ماسلو ، إن الحاجات الإنسانية هي التي تدفع بنا إلى سلوكياتنا. وقد صنف هذه الحاجات إلى خمس مستويات رئيسة بشكل هرمي وهي:

  • الأول : الحاجات الفيزيولوجية كالتنفس والغذاء والماء والإخراج والنوم والجماع.
  • الثاني: حاجات الأمان كالسلامة الجسدية والأمان الأسري والصحي والوظيفي
  • الثالث: الحاجات الاجتماعية كالصداقة والعلاقات الحميمة والأسرية
  • الرابع: الحاجة للتقدير (المكانة والثقة والشعور بالإنجاز)
  • الخامس: تحقيق الذات (تحقيق الإنجازات والأنشطة الإبداعية

ختامًا، لا يمكن اختصار فهمنا للسلوكيات البشرية ودوافعها من خلال نظرية واحدة، إذ إن الأكيد هو تداخل الدوافع الخارجية والداخلية مع عوامل أخرى بطريقة معقّدة يجعل كل منا يتصرف بطريقة فريدة، وله خياراته الخاصة. وقد يكون علم النفس بكافة تفرعاته، ما زال عاجزًا عن فهم شامل لحوافز سلوكنا.

المصادر:

edx

openstax.org

Positivepsychology.com

Researchgate.com

Psychologynoteshq

إقرأ أيضًا: إدراك الزمن: كيف يخدعنا في إدراك الوقت

هل البشر هم الحيوانات القادرة على البكاء؟

منذ اللحظة الأولى من حياته، يصرخ الطفل باكيًا، معبرًا عن حاجته للأمان والطعام والدفئ. يرافق البكاء الإنسان منذ نعومة أظافره حتى آخر لحظات حياته، ولا يعبّر البكاء فقط عن الألم الجسدي أو الحزن، بل قد يعبّر أيضًا عن الفرح. إن قدرة الإنسان على البكاء تطال كل المجتمعات، رغم اختلاف ثقافاتهم، لكن هل تطال الحيوانات الأخرى أيضًا؟ هل تشعر الحيوانات بالحزن كما نفعل وتعبر عنه بالبكاء؟ أم أن البشر هم الحيوانات القادرة على البكاء؟

ماذا نعني بالبكاء؟

إن فرز الدموع ظاهرة مشتركة لكثير من الكائنات الحية، وهي ظاهرة قديمة. إذ كل الحيوانات التي تبصر من خلال عيونها المتحركة، تملك جفونًا أو اغشية لحمايتها. غالبًا ما تلعب الدموع دورًا هامًا في تسهيل فتح وإغلاق هذه الأغشية، كما تساهم في ترطيب وحماية عدسات العين. إذاً فإن الـ”بكاء” له أدوار فيزيولوجية واضحة. وبهذا المعنى، فإن الكثير من الحيوانات تشاركنا البكاء.

أما البكاء بالمعنى الذي نعرفه فهو مرتبط بالتعبير العاطفي، وهو سلوك فطري يقوم به الطفل منذ لحظات حياته الأولى. وقد طرح الكثير من العلماء إشكالية بكاء الحيوانات من عدمه، وقد تعددت وجهات نظرهم في هذا الخصوص. كما أن بكاء الحيوانات يطرح إشكاليات أعمق عن كيفية إدراك الحيوانات للمشاعر وذكائها العاطفي، وهو مجال يصعب دراسته بطبيعة الحال. من هنا، يمكن القول أن البكاء هو تعبير عاطفي شائع جدًا عند البشر، وهو ميزة بشرية إذ نادرًا ما نجدها عند غيرنا من الحيوانات، حتى الأقرب إلينا تطوريًا كالشيمبانزي.

هل من حيوانات قادرة على البكاء؟

قد يكون البكاء كما نعرفه كبشر محصورًا بصنفنا، إلا أن الحيوانات تصدر أصواتًا وصرخات وتذرف دموعًا شبيهة بالبكاء البشري أحيانًا.

فقد اعتبر داروين في كتابه “The Expression of the emotions in Man and animals” أن بعض الحيوانات قادرة على ذرف الدموع عاطفيًا، وتحدّث عن ملاحظته لقرد ماكاك في حديقة للحيوانات في لندن يبكي من الحزن. كما يتحدّث أيضًا عن معاينته لفيلة تذرف دموعها عند التقاطها (لحبسها) أو عندما تكون على حافة الموت. لكن العديد من علماء السلوك الحيواني اليوم يخالفونه الرأي.

كذلك، يؤكد الباحثون أن غالبية صغار الطيور والثدييات تصدر أصواتًا عالية النبرة وذات نمط متكرّر لتطلب المساعدة أو الإنقاذ. لهذه الصرخات فوائد أكيدة في الحفاظ على حياة هذه الحيوانات، إذ أنها تساهم في تحديد مكانها وتلقي الطعام والمساعدة من حيوانات صنفها الأكبر سنًا.

يشير العالم “جاك بانكسيب – Jaak Panksepp “أن صغار الفئران تُصدر صرخات عند انفصالها عن أمها، قد تكون مشابهة لبكاء الأطفال، لكننا غير قادرين كبشر على سماعها لأنها تقع في مجال الموجات فوق الصوتية. كذلك تصدر صغار الكلاب أنينًا عند انفصالها عن أمها. وغالبًا ما توقف صغار الفئران والكلاب صراخها أو أنينها عندما توضع في اتصال جسدي مع الأم.

يعتقد بعض الباحثين أن الصرخات التي تصدرها صغار الحيوانات قد تشكل أصل اللفظ والنطق عند البشر. إذ إنه يُعتقد أن الثدييات الأولى كانت حيوانات ليلية تعتمد الأصوات للتواصل، فشكلت صرخا صغارها وسيلة التعبير عن الجوع وساعدت كبارها على إيجادها بسهولة.

اقرأ أيضًا عن الفوائد الصحية للبكاء

البكاء خاصية بشرية

إذن فإن ظاهرة بكاء الحيوانات ظاهرة نادرة، كما أنها تختلف اختلافًا جذريًا عن بكاء البشر، لذلك يُعتبر البكاء خاصية بشرية. من هنا، حاول العديد من الباحثين تحديد أصول البكاء وفوائده التطورية التي جعلته مشتركًا عند جميع البشر. إلا أنه من الصعب معرفة عمر “الدموع” كما نعرفها الآن، إذ أنها لا تترك آثارًا في الحفريات للبحث عن أصولها التطورية. لذلك يبقى الخيار الوحيد هو البحث الأعمق في الذكاء العاطفي عند الحيوانات والأطفال والمقارنة بين الأصناف، كما يعمل العلماء على دراسات في مجال علوم الأعصاب لفهم طريقة عمل الدماغ والمناطق المسؤولة عن البكاء.

اقرأ أيضًا عن لماذا نبكي؟

المصادر:

dana.org
newscientist.com
livescience.com

إدراك الزمن: كيف يخدعنا دماغنا في إدراك الوقت؟

هل تساءلت يومًا لماذا يمر وقت العطلة سريعًا، فيما تشعر في دوام العمل أن الوقت يمر بطيئًا؟ إذا كنت تشاهد التلفاز لمدة دقيقتين، فغالبًا ستعتبر أنها فترة قصيرة للغاية. لكن هل حاولت الوقوف على قدم واحدة لمدة دقيقتين؟ ستشعر حينها أن الدقيقتين هي مدّة زمنية طويلة ولا تمر بسهولة، رغم أن في كلي الحالتين الدقيقتان تتألفان من 120 ثانية. إذًا فإن إدراكنا للوقت هو في الحقيقة نسبي وغير موضوعي، وغالبًا ما يختلف عن المرور الفعلي والواقعي للوقت. فلماذا يُخدع دماغنا في إدراك الزمن؟ وما هي أكثر أوهام إدراك الزمن شيوعًا؟

ضابط الوقت في دماغنا

إن قدرة إدراك الوقت وفهمه واحدة من أهم الوظائف الأساسية لجميع نشاطات الحياة. لذلك، فقد درس علماء النفس هذه الوظيفة منذ بدايات علم النفس التجريبي. لكن الدماغ لا يشبه أجهزة قياس الوقت المادية التي نستخدمها، من هنا صعوبة دراسة كيفية فهم الدماغ للوقت. كما أنه لا يوجد أي عضو مخصص للإشارة إلى الوقت، ولا منطقة دماغية واحدة مخصصة لفهم الزمن.

كذلك لاحظ علماء النفس الفجوة بين مرور الوقت الفعلي وادراكنا النفسي للوقت، لذلك بدأوا بدراستها منذ أكثر من 150 سنة. في القرن التاسع عشر، عمل العالمان “غوستاف ثيودور فشنر” و”إيرنست هينريش ويبير” على موضوع الإدراك الحسي، ممّا فتح المجال لدراسة إدراك الوقت أيضًا. أما في القرن الواحد والعشرين، أصبح هذا المفهوم موضوع دراسة العديد من المجالات العلمية كعلم النفس المعرفي والانتباه واللغويات وعلوم الدماغ والعلوم العصبية وغيرها.

عمد الباحثون على مدى العقود الأخيرة دراسة إدراك الوقت على شكل ضابط للوقت داخلي في الدماغ، وهو يبطؤ ويتسارع بحسب الانتباه والمتعة. كما حاولوا تحديد مناطق الدماغ المسؤولة عن الشعور بالوقت، فوجدوا أن شبكة واسعة من المناطق العصبية في الدماغ تتداخل في هذه الوظيفة.

كيف تؤثر المشاعر الإيجابية على إدراكنا للزمن؟

يختلف إدراك الزمن بحسب المشاعر التي نعايشها كالفرح والمتعة والخوف والحزن والملل وغيرها. وقد برهن العلماء هذا الاختلاف من خلال تجارب عديدة.

تترافق غالبًا المشاعر الإيجابية والمتعة والانشغال بشعور أن الزمن يمر بشكل أسرع، وقد سمّي هذا الشعور بـ”تدفق الوقت” (Flow). في إحدى التجارب، عرض الباحثون عددًا من الصور على المشاركين، وكان على المشاركين معرفة أي من الصور عُرضت لوقت أطول. شملت الصور صورًا حيادية غير ملفتة (أشكال هندسية) وصورًا “أيجابية وملفتة” (كالورود مثلًا) وصورًا إيجابية أكثر إلفاتًا كالحلويات. تمامًا كما توقع الباحثون، شعر المشاركون أن صور الحلويات ظهرت لمدة أقصر (أي ان الوقت مرّ أسرع) مقارنةّ بالصور الأخرى، علمًا أن جميع الصور ظهرت بنفس المدة.

في المقابل، وجد العلماء أن بعض المشاعر الإيجابية تترافق على العكس بالشعور ببطء الزمن. حيث أظهرت دراسات سلوكية في جامعتي مينيسوتا وستانفورد في العام 2012، أن المشاركين في مشاهدة قصص ملهمة أو عميقة أو روحية شعروا ببطء الوقت. كذلك بيّنت سلسلة دراسات في جامعة كارلتون الكندية أن النشاطات في الطبيعة (وهي مرتبطة غالبًا بالشعور بالراحة وخفض التوتر) تُشعر المشاركين فيها ببطء الزمن.

كيف يؤثر الخوف على إدراكنا للزمن؟

عمل الباحث في العلوم العصبية “دايفيد إيغلمان” على تأثير الخوف في إدراك الوقت. وقد بيّن أن الأشخاص الذين يشعرون بالخوف يحسون أن الوقت يمر بوتيرة أبطأ.

كما بيّن باحثون آخرون في دراسة أجروها عام 2011 أن الأشخاص الذين يشاهدون مقاطع من أفلام الرعب يشعرون أن هذه المقاطع ذات مدة زمنية أطول من مقاطع الأفلام الأخرى.

ينطبق ذلك أيضًا على الأشخاص الذين عايشوا أحداثًا مصحوبة بالخوف كحوادث السير أو المعارك العسكرية، وغالبًا ما يصفون بدقة فترات الخوف ويحسون كأنها مرت بشكل بطيء حتى لو كانت مقتصرة على ثوانٍ أو دقائق معدودة.

إذًا فما يمكن استنتاجه هنا هو أن دماغنا يخدعنا في إدراك الزمن ونقع ضحية أوهام هذا الإدراك.

اقرأ أيضا ما نعرفه عن الزمن، أعظم ألغاز الكون

المصادر:

Psychologicalscience.org
NCBI
Stanford.edu

الاستماع إلى الموسيقى خلال الحمل : آثاره على صحة الأم والجنين

هذه المقالة هي الجزء 5 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لطاما عُرفت الموسيقى بآثارها الإيجابية على الصحة النفسية والجسدية، وقد استُخدمت للاسترخاء وتخفيض مستوى التوتر والمشاعر السلبية والاكتئاب والقلق. ولكن إلى أي مدى يؤثر الاستماع إلى الموسيقى خلال الحمل على صحة المرأة الحامل؟ وما هو حجم تأثيره على الجنين؟

هل النساء الحوامل أكثر حساسية على الموسيقى؟

غالبًا ما تكون النساء الحوامل أكثر حساسية على عدد من المؤثرات الحسية الخارجية كالروائح ومذاقات الأطعمة مثلًا. ويعود ذلك على الأرجح للتغيرات الهورمونية في فترة الحمل. ولكن بحسب عدد من الدراسات، قد تكون النساء الحوامل أكثر تأثرًا بالموسيقى أيضًا.

بحسب “مركز ماكس بلانك للعلوم المعرفية البشرية وعلوم الدماغ” الألماني، يؤدي الاستماع إلى الموسيقى إلى تغيرات في ضغط الدم وعدد نبضات القلب وسرعة التنفس وحتى في حرارة الجسم أحيانًا عند جميع الأشخاص. أما تأثير الموسيقى في النساء الحوامل قد يكون أقوى بأضعاف، ممّا يطرح فرضية تأثير الموسيقى في الجنين أيضًا.

وفي دراسة أجراها عدد من الباحثين عام 2014، تبيّن أن النساء الحوامل يستمتعن أكثر من غيرهن بالموسيقى. كما يظهرن علامات أعلى من التوتر (أي ارتفاع سريع بضغط الدم) عند الاستماع إلى “موسيقى مزعجة” (كالموسيقى المشغلة بالعكس مثلًا). لكن لم يستطع فريق الباحثين تبيان أسباب فرط تأثر النساء الحوامل بالموسيقى، إلا أن ارتفاع نسب هورمون الأستروجين خلال فترة الحمل قد يكون واحدًا من الأسباب المؤدية لذلك. (1)

كما أضاف الفريق أن دراستهم أظهرت تأثر الأجنة بالموسيقى منذ بداية الشهر السادس من الحمل. ويظهر ذلك من خلال تغيّر عدد نبضات قلب الجنين عند تعرّضه للموسيقى.

الآثار الجسدية والنفسية للموسيقى على المرأة الحامل:

كثرت الدراسات التي بيّنت أهمية الموسيقى في تخفيف أعراض التوتر وتأثيرها الإيجابي على الصحة الجسدية والنفسية. وقد شملت هذه الدراسات البالغين والأطفال وكبار السن. كما استخدمت الموسيقى كأداة للعلاج من خلال دورها في تخفيف الأوجاع الجسدية وخفض مستويات التوتر والاكتئاب.

أما بالنسبة للنساء الحوامل، فهي فئة معرضة للاضطرابات النفسية أكثر من غيرها، إذ أن الدراسات تشير إلى أن حوالي خُمس النساء الحوامل يتعرّضن لمشاكل في مجال الصحة النفسية في فترة حملهن. من هنا، أُجريت العديد من الدراسات لتبيان أثر الاستماع للموسيقى عندهنّ.

بحسب دراسة أجراها باحثون عام 2011 على عينة من 154 مرأة حامل، إن استماع النساء الحوامل للموسيقى لمدة ثلاثين دقيقة فقط كفيل بخفض مستوى ال”كورتيزول” (وهو هورمون التوتر) وخفض مستويات القلق. (2) كما وجدت دراسة أخرى أن النساء اللواتي استمعن للموسيقى لمدة 20 دقيقة يوميًا خلال 12 أسبوع أظهرن انخفاضًا كبيرًا في مستويات القلق والاكتئاب. (3)

إضافة إلى ذلك، تفترض نتائج الدراسات أن الاستماع إلى الموسيقى خلال فترة الحمل قد يلعب دورًا في الحماية من اكتئاب ما بعد الولادة، خصوصًا في الأشهر الثلاث الأولى بعد الولادة. (4)

الآثار الجسدية والنفسية على الطفل:

لا يقتصر تأثير استماع المرأة للموسيقى عليها فقط، بل هو أيضًا يؤثر في الجنين. فالجنين قادر أن يتفاعل مع الموسيقى منذ شهر الحمل السادس، فهو يُظهر ارتفاعًا في عدد نبضات القلب عند تعرّضه للموسيقى.

ما زال تأثير الموسيقى على نمو الجنين غير واضح، إلا أن دراسات عدة تظهر أن الطفل قادر على تذكر الموسيقى التي استمع إليها في رحم والدته، حتى عمر الأربعة أشهر بعد ولادته. (5).

في تجارب على جراء الفئران، تبيّن أن تعرّضها للموسيقى قبل الولادة أدّى إلى تحفيز تكوين الخلايا العصبية بعد ولادتها، في حين أن تعرض جراء الفئران للضجة قبل الولادة فقد خفّض من تكوين خلاياها العصبية. (6)

أما عند الأطفال، فقد تبيّن أن تعرضهم للموسيقى قبل الولادة يساهم في تحسين سلوكهم حديث الولادة (وهو يشمل التحكم الحركي ومستوى اليقظة وغيرها من المؤشرات).

“الموسيقى غذاء الروح”. تُثبت الموسيقى في كل دراسة أهميتها في حياتنا اليومية، ليس فقط كنشاط ترفيهي، بل أيضًا كـأداة وقاية وعلاج على صعيد الصحة النفسية والجسدية.

المصادر:

(1): MedicalNewsToday

(2): PubMed

(3): BMC

(4): BMJ Journals

(5): NCBI

(6): NCBI

إقرأ أيضًا: كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

آلة الفلوت: منذ العصر الحجري حتى اليوم

هذه المقالة هي الجزء 8 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

رافقت الموسيقى الإنسان منذ القدم، من خلال الغناء والرقص والعزف. وتُعتبر آلة الفلوت واحدة من أقدم الآلات الموسيقية على الإطلاق، لكنها أخذت أشكالاً عدّة مع اختلاف العصور والمناطق حول العالم. إذن ما هي آلة الفلوت؟ وما هو تاريخها؟

ما هي آلة الفلوت؟

آلة الفلوت (الناي بالعربية) هي آلة موسيقية نفخية معدنية أو خشبية، على شكل أنبوب رفيع مثقوب. وتصدر الموسيقى من خلال تذبذب الهواء داخل الآلة أو اصطدامه بحافتها. تتعدّد أشكال آلات الفلوت ويمكن تصنيفها إلى نوعين. النوع الأول يتضمن آلات الفلوت الطولية (كالناي العربي والكافال البلقانية والريكوردر والبان بايب Panpipe)، وينفخ العازف فيها من الفتحة الموجودة في الأعلى ويتجه الهواء نحو فتحة الآلة السفلية. أما النوع الثاني فهو يشمل الآلات العرضية، التي يحملها العازف بشكل أفقي (غالبًا باتجاه اليمين)، وينفخ في فتحة جانبية. ومن أبرز الأمثلة على النوع الثاني هي الفلوت الغربية (Flûte traversière) وهي من أشهر آلات الفلوت وأكثرها انتشارًا.

تاريخ آلة الفلوت:

هي تُعتبر من أقدم الآلات الموسيقية التي اخترعها الإنسان، فقد اكتشف علماء الآثار آلات فلوت قديمة جدًا تعود إلى ما بين 35 ألف و 40 ألف عام، وذلك في مناطق مختلفة من العالم (الصين، أوروبا، أفريقيا) ممّا يبين استخدام الفلوت بأشكال مختلفة من قبل حضارات قديمة عديدة. صنع إنسان العصر الحجري آلات الفلوت من عظام الحيوانات كالماموث والطيور، أو من القصب.

ظهرت أوائل الكتابات عن الفلوت في اللغة السومرية في حوالى العام 2600 قبل الميلاد. كما ظهر دور هذه الآلة في الديانة الهندوسية بحيث يعزف الإله كريشنا مستخدمًا آلة الفلوت المقدسة.

وصلت الفلوت العرضانية إلى أوروبا للمرة الأولى في العصور الوسطى من خلال التبادل مع الإمبراطورية البيزنطية، وقد انتشرت بشكل خاص في ألمانيا.

خلال الفترة القائمة بين 1100 و1200 بعد الميلاد، استُخدمت لعزف موسيقى البلاط وفي الموسيقى العسكرية في أوروبا.

في عصر النهضة، انتشر عزف الفلوت الجماعي بين العازفين وسمّيت هذه الموسيقى ب”موسيقى القرين – Consort music”. ابتداءً من القرن السابع عشر، جمعت هذه الموسيقى آلة الفلوت مع آلات أخرى. كما عمل صانعو الآلة، خصوصًا في إيطاليا وهولندا، في هذه الفترة على زيادة أجزاء إضافية (مما يعني إمكانية عزف نوتات إضافية) على الآلة.

بدأ في بدايات القرن الثمن عشر اعتماد آلة الفلوت لعزف السولو (أي العزف المنفرد)، وقد كتب المؤلفون الموسيقيون العظماء أمثال فيفالدي و باخ و هانديل العديد من المعزوفات الخاصة للفلوت.

تصميم الفلوت الحديث:

في العام 1847، صمم صانع الآلات الألماني “ثيوبالد بويم – Theobald Boehm” شكلًا حديثًا للفلوت، بحيث أضاف المفاتيح على الأنبوب المعدني، ممّا أسس لشكل الفلوت الغربي الحديث الذي نعرفه اليوم.

تُعتبر الفلوت الغربية واحدة من أهم آلات الموسيقى الكلاسيكية و موسيقى الجاز، كما تظهر أحيانًا في موسيقى البوب. أما أنواع الفلوت الأخرى فهي غالبًا تشكل جزءًا من الموسيقى التقليدية لبلدان مختلفة (كالناي و المزمار للموسيقى الشرقية، والفلوت الهندية).

في نهاية هذا المقال، أقترح لك عزيزي القارئ مجموعة من المعزوفات لأنواع مختلفة من الفلوت، وأتمنى لك وقتًا ممتعًا:

المصادر:

Britannica
Yamaha.com
Theinstrumentplace.com

إقرأ أيضًا: تاريخ الموسيقى

هل تؤثّر الموسيقى في نمو النبات؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لطلما عُرفت الموسيقى بتأثيرها في البشر، لكن العديد العلماء والباحثين تحدّثوا أيضًا عن تأثير الموسيقى في باقي الكائنات الحية كالحيوانات، فتبيّن مثلًا أن الموسيقى الكلاسيكية حسّنت من سلوك الفئران وزادت من إنتاج الحليب البقري. أما النباتات فهي كائنات حية أيضًا، تتنفس وتنمو وتتكاثر، ولكنها لا تملك أذنين. إذن هل تؤثّر الموسيقى في نمو النبات؟ وإلى أي مدى؟

تاريخ دراسة تأثير الموسيقى في الحيوانات:

استبعد الباحثون لسنين طويلة إمكانية تأثر النباتات بالموسيقى، كونها كائنات لا تملك جهازًا عصبيًا، فيصعب تلقيها للموسيقى أو تجاوبها معها. في المقابل، لاحظ آخرون تجاوب النبات للموسيقى، ودرسوا هذه الفرضية.

كان عالم النبات البنغالي “جاغاديش تشاندرا بوز -Jagadish Chandra Bose ” من أوائل الذين درسوا تأثر النبات بمختلف المؤثرات، ومنها الموسيقى في كتابه “Response in the living and non-living” (عام 1902) وفي كتابه “Plants response as a means of physiological investigation” (عام 1906). [1]

العلم يسأل ويجيب: هل تؤثر الموسيقى في النبات؟

في العام 1962، قاد الدكتور سينغ ( Dr. T.C. Singh) وهو المسؤول عن قسم علم النبات في جامعة أنامالاي في الهند، مجموعة من الأبحاث لدراسة تأثر نمو النبات بالموسيقى. وقد لاحظ زيادة بحوالى ال20% في نمو نبات البلسم وزيادة بنسبة 72% بكتلتها الحيوية بعد تعرّضها للموسيقى الكلاسيكية، وقد لاحظ الأثر نفسه بعد تعريضها لموسيقى الراجا (Raga music)، وهي موسيقى قائمة على آلتي الكمان والفلوت. أما تشغيل موسيقى الراجا لمحاصيل الحقول فقد زاد من نموها بنسبة تتراوح بين 35% و60%. كما بيّن دكتور سينغ أن الحبوب المعرّضة للموسيقى الكلاسيكية قد نمت بشكل أسرع وأعطت عددًا أكبر من الورق. [2]

في العام 1974، نشرت دوروثي ريتالاك كتابها “The Sound of Music and Plants” الذي وصفت فيه مجموعة من الاختبارات التي أجرتها لدراسة كيفية تأثير أنواع مختلفة من الموسيقى على النبات. وبيّنت النتائج أن تعريض النباتات لنوتة ثابتة على مدى ثمان ساعات يوميًا قد أدى إلى تراجع نموه وموته أحياناً. أما تعريضها لنفس النوتة بشكل متقطع أدى إلى زيادة في نموها. كما بينت نتائج مختلفة بحسب نوع الموسيقى، ففي حين كانت الموسيقى الكلاسيكية والجاز تحفز نمو النبات، كانت مويبقى الروك ذات تأثير سلبي عليه. تجدر الإشارة إلى أن العديد من العلماء يعتبرون ان اختبارات دوروثي ريتالاك تفتقد للمصداقية العلمية، ولا يمكن اعتبارها كمصدر علمي موثوق. [3]

أما دراسات الباحث الهندي “غوتاما ريدي” فقد بيّنت أن موسيقى الراغا الهندية حسنت نمو النباتات والمزروعات كالسبانخ والصويا والقمح. كما حفزت إنبات بذور الكوسى والبامية. [1]

في دراسة أخرى أُجريت في جامعة غوجارات في الهند، تبيّن أن النباتات التي تعرّضت للموسيقى الهادئة نمت بشكل أسرع، وذلك بنسب متفاوتة بحسب نوع النبات. كما أظهرت النباتات المعرضة للموسيقى عددًا أكبر من الأوراق والزهور. كما تفتحت الزهور فيها بوقت مبكر مقارنة بالنباتات التي لم تتعرض لأي موسيقى. [4]

إذن فإن هذه الدراسات تشير إلى أن الموسيقى تؤثر في النبات ونموها.

كيف تؤثر الموسيقى في النبات؟

رغم وجود عدد من الدراسات التي تشير إلى تأثر النبات بالموسيقى، إلا أن سبب هذا التأثير ما زال غامضًا وغير واضح. الفرضية الأكثر ترجيحاً هي حساسية النبات لتغير ضغط الهواء. فالموسيقى عبارة عن موجات صوتية مؤلفة من جزيئات الهواء المضغوطة. وبالتالي فإن الموجات الصوتية قد تكون قادرة على التأثير على مستقبلات تغير ضغط الهواء عند النبات.

يعتبر عدد من الباحثين أن حساسية النبات على الأصوات والتذبذبات قد تكون لها أسباب تطورية. فقد بينت الدراسات أن النباتات تتواصل من خلال الذبذبات، وهي تنمو بشكل أفضل عندما تكون محاطة بنباتات أخرى. كما أن النبات قد يكون قادرًا على الاستجابة للذبذبات التي تتسبب بها الرياح، ليحمي نفسه منها، فينمو بشكل أبطأ في فترة الرياح لكي يستطيع مقاومتها.

ولكن تأكيد سبب تأثر النبات بالموسيقى واختلاف هذا التأثير بحسب نوع النبات ونوع الموسيقى مازال بحاجة للبحث والتقصي العلمي.

الموسيقى لغة كونية

ليست الموسيقى حكرًا على البشر، فالدراسات تبيّن يومًا بعد يوم أن الموسيقى تؤثر في باقي الكائنات الحية من الحيوانات والنباتات. ولكن تأثر الكائنات بالذبذبات يفتح الأسئلة حول كيفية احساس النبات بالأصوات وتواصلها مع بعضها. فإلى مدى سيستطيع العلم إجابتنا حول هذه الأسئلة في المستقبل؟

 المصادر:

[1]: Researchgate..ne

[2]: agriculture.com.ph

[3]: dovesong.com

[4]: Academia.edu

إقرأ أيضًا: كيف توثر الموسيقى في الحيوانات؟

ما هو أثر الموسيقى في الحيوانات؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

ما هو أثر الموسيقى في الحيوانات؟

دُرس تأثير الموسيقى على البشر لسنين طويلة وقد أصبح معروفًا حجم تأثيرها على أدمغتنا وأجسادنا وصولًا إلى تأثيرها على المجتمع والهوية والسياسة. ولكن حب الموسيقى لا يقتصر على البشر، فللموسيقى أيضًا تأثير على الطبيعة، وتحديدًا على الحيوانات. ويشمل هذا التأثير آثارًا جسدية ونفسية وسلوكية. إذن ما هو أثر الموسيقى في الحيوانات؟ وكيف يختلف تأثيرها من حيوان إلى آخر؟

هل تؤثر الموسيقى في كل الحيوانات على حد سواء؟

يختلف تأثير الموسيقى على الحيوانات بحسب اختلاف نظامها الإدراكي السمعي. فبينما تتأثر بعض أنواع الحيوانات بالموسيقى التي يصنعها ويستمع البشر إليها، تتأثر أخرى بأنواع من “الموسيقى” ضمن نطاق تردد الأصوات الذي يناسبها، والذي قد يعجز البشر عن سماعه. على سبيل المثال، كان الباحثون يختبرون تأثير الموسيقى على الفئران. لكنهم اكشتفوا أن تواصل الفئران بين بعضها يتم من خلال الموجات فوق الصوتية. فمن الصعب إذن أن تستمتع بالموسيقى التي نستمع إليها. في المقابل، تستطيع الطيور المُغرّدة -وهي نوع من الطيور تقلّد الأصوات البشرية- الاستماع إلى الموسيقى والأصوات البشرية، كما تستطيع تقليدها وغناءها.

الآثار الجسدية والنفسية : نمو الدماغ وتعلم المهارات

أُجريت العديد من الدراسات لاختبار نمو الدماغ والمرونة العصبية، ومنها في فترة ما قبل الولادة أو في فترة بعد الولادة. بيّنت إحدى الدراسات أن تعرض الفئران للموسيقى الكلاسيكية (موزارت) حسّن من انتباهها السمعي وقدرتها على تمييز الأصوات. أما تعرضها للموسيقى قبل الولادة، فقد ساهم في نمو الخلايا العصبية السمعية. في المقابل، فقد سبب تعرضها للضوضاء العالية خفض من نسبة تكوين الخلايا العصبية (Neurogenesis) , خفض من قدرتها على التعلم المكاني.

الآثار الجسدية والنفسية: النمو الجسدي

استُخدمت الموسيقى للتأثير فيزيولوجيًا على الحيوانات، تحديدًا في المزارع. فقد بيّنت العديد من الدراسات أن تعرّض البقر للموسيقى الهادئة يزيد من إنتاج الحليب بنسبة 12،64%. بالنسبة للدواجن، لم تشر النتائج بوضوح إلى مساهمة الموسيقى في تحسين نموها. ولكنها أشارت إلى أن استماع الدواجن للموسيقى يساهم في زيادة معدّل تغذيتها، ممّا ساهم في نموها أسرع بشكل غير مباشر.

الآثار الجسدية والنفسية: خفض مستوى التوتر

تساهم الموسيقى الهادئة في خفض مستوى التوتر (الذي يقاس من خلال عدد ضربات القلب وضغط الدم) عند البشر وعند العديد من الحيوانات كالشيمبانزي والفيلة والفئران والدجاج والكلاب. في المقابل، تزيد الموسيقى العالية أو السريعة مستوى التوتر عند عدد من الحيوانات، لذلك فإنه لا يمكن حسم دور الموسيقى لمستوى التوتر، بل يتعلق ذلك بنوع الموسيقى ودرجتها من جهة، وبأصناف الحيوانات التي تتعرض لها من جهة أخرى.

الآثار السلوكية

أظهرت عدد من الأبحاث أن للموسيقى تأثير في السلوكيات الحيوانية.

عند الشيمبانزي مثلًا، الصنف الأقرب إلى الإنسان، تساهم الموسيقى في زيادة التفاعل الاجتماعي بين أفرادها. كما بيّنت دراسة أن حيوانات الشيمبانزي التي تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية أظهرت عددًا أقل من السلوكيات العنيفة، وعددًا أكبر من السلوكيات الاجتماعية والاستكشافية.

في دراسات أخرى أُجريت على الكلاب، تبيّن أن الكلاب التي تتعرض للموسيقى الكلاسيكية تكون أكثر هدوءًا وتُمضي وقتًا أطول بالاستراحة وتصدر أصواتًا أقل من الكلاب الأخرى، في حين أن الكلاب التي تتعرض لموسيقى الميتال (Metal)، وهي نوع من الموسيقى الصاخبة، فهي تكون أكثر حركة وتوترًا.

إذن، يعتبر العلماء أن الموسيقى تؤثر في الحيوانات بدرجات مختلفة، وقد يكون إيجابيًا أو سلبيًا بحسب نوع الموسيقى وبحسب الحيوان الذي يتعرّض لها. وبذلك، تتخطّى الموسيقى كونها لغة بشرية عالمية لا تعرف الحدود، بل هي أيضًا لغة كونية تفهمها الحيوانات أو تتأثر بها على الأقل.

المصادر:
Nature.com
Researchgate.com
Sciencefocus

يمكنك أيضًا قراءة: لماذا نحب الاستماع إلى الموسيقى؟

موسيقى الجاز: الموسيقى التي وُلدت من رحم النضال ضد العنصرية

هذه المقالة هي الجزء 10 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لا تقتصر مقاومة الشعوب للظلم والعنصرية على النضالات السياسية والعسكرية، بل هي تتخطاها إلى النضالات الفنية والموسيقية. وتُعد موسيقى الجاز أحد أبرز الأمثلة على المقاومة بالفن. فما هو الجاز؟ وما هو تاريخ هذا النمط الموسيقي؟ وكيف ساهم الجاز بمحاربة العنصرية؟

ما هو الجاز؟

“الجاز – Jazz” هو نمط موسيقي واسع أُنشئ في الولايات المتحدة الأميركية من قبل الأميركيين من أصل أفريقي، تميّز في بداياته بالارتجال الموسيقي. وهو يجد جذوره في موسيقى “البلوز – Blues” و”الراغتايم- Ragtime”، ويمزج بين الإيقاعات الأفريقية والهيكلية الموسيقية الأوروبية.

يتميّز الجاز غالبًا بتناغم موسيقي (هارموني) معقّد، وتأخير النبرة الموسيقية (syncopation) وبدرجات مختلفة من الارتجال الموسيقي. من أكثر الآلات الموسيقية المُستخدمة في الجاز هي آلة الـ”ترومبيت-Trumpet” والـ”ساكسوفون -Saxophone” والبيانو والـ”درامز – Drums” والغيتار.

من الصعب تحديد تعريف واضح وخصائص موسيقية ثابتة للجاز، إذ أنه منذ نشأته في القرن العشرين، شهد الجاز تغيرات وتطورات كبيرة، وتفرع بعدد من الأنواع الموسيقية المختلفة. ولكن على الرغم من تنوّعه، يتمتع الجاز بهوية فريدة وخاصة تميّزه عن باقي الأنماط الموسيقية.

تاريخ موسيقى الجاز:

انطلق الجاز في بدايته من مدينة نيو أورلايانز التي تقع في ولاية لويزيانا الأميركية، وذلك في بدايات القرن العشرين. وقد شكّلت الخلفية الثقافية الغنية لهذه المدينة أرضًا خصبة لتشكل نمط الجاز الموسيقي، فقد تميّزت نيو أورليانز بالتنوع السكاني الأكبر بين المدن الجنوبية، بحيث جمعت المدينة سكانًا من أصول أفريقية وفرنسية وكاريبية وأيطالية وألمانية ومكسيكية وبريطانية وغيرها. بين العامين 1910 و 1915، انتشر تنظيم أدوار الآلات الموسيقية ضمن مجموعة متناسقة. ورغم عدم إتاحة كل الآلات الموسيقية للعازفين ذوي البشرة السمراء، استطاع هؤلاء خلق موسيقى متناسقة ومستقلة، من خلال استخدام الآلات المتاحة لهم كالكلارينيت والبوق (ترومبيت) والترومبون والتوبا والبيانو والآلات الايقاعية. بعد فترة، بدأ الموسيقيون بالارتجال خلال عروض الفرق الموسيقية، وكانت هذه بداية موسيقى الجاز.

امتزجت الموسيقى الأفريقية التقليدية مع أنماط موسيقية أخرى لينمو الجاز تدريجيًا متجذرًا من الراغتايم والبلوز وموسيقى فرق المسيرة. وكان الجاز في بدايته موسيقى للرقص. بعد تسجيل أغاني الجاز الأولى في عام 1917، انتشر الجاز سريعًا في مدن وولايات أخرى.

نجوم الجاز الأوائل

وقد لمع نجوم الجاز الأوائل أمثال لويس أرمسترونغ ودوك إلنجتون و تشارلي باركر الذين رسموا ملامح موسيقى الجاز. ابتدع هؤلاء تقنياتها وقادوا انتشار الجاز في الولايات المتحدة الأميركية والعالم. في العشرينيات من القرن الماضي، تجذّر الجاز للمرة الأولى في بريطانيا متأثرًا بموجة الجاز الأميركية. وهو ما ساهم في انتشاره في باقي دول العالم.

في الاربعينات، ساهم انتشار الراديو والأفلام والإعلانات بانتشار أكبر لموسيقى الجاز. تحول مغنيو هذا النمط المةسيقي إلى نجوم عالميين وذوي شعبية عالية. كما انتقل العديد من عازفي الجاز إلى الخدمة العسكرية خلال الحرب، ممّا فتح المجال أمام عازفات إناث لدخول مجال الجاز. وقد شهدت سنوات الخمسينات على نجاح كبير للجاز أيضًا، بحيث اعتُبر موسيقى جيل الشباب، وقد تأسست نوادي الجاز في مختلف دول العالم. كذلك تأسس فرع موسيقي جديد تحت مظلة الجاز وهو اليببوب (Bepop).

في الستنينات، شهدت موسيقى الجاز تغييرًا كبيرًا وقد وُلد نمط موسيقي جديد سمّي بالجاز الحديث. لكن صعود نجم موسيقى الروك جعل من الجاز أقل شعبية من ذي قبل. ورغم ذلك، استمرت موسيقى الجاز بالتجدد والانتشار، وهي تعتبر من أهم الانماط الموسيقية وأكثرها انتشارًا وشعبية حتى اليوم.

كيف ساهمت موسيقى الجاز بمقاومة العنصرية؟

كانت موسيقى الجاز بمثابة مساحة للأميركيين ذوي البشرة السمراء، للتعبير عن معاناتهم وأوجاعهم وأفراحهم ورغباتهم، وقد وُلدت موسيقى الجاز في أكثر المناطق التي عانت من التمييز العنصري. كما عبّرت هذه الموسيقى عن هوية الأميركيين ذوي البشرة السمراء وفخرهم بأصولهم الإفريقية وتاريخهم.

لكن دور الجاز لم يقتصر على كونه وسيلة للتعبير، بل تحوّل لأداة لرفع الصوت بوجه التمييز العنصري، من خلال كلمات أغاني الجاز وموسيقاها. فقد بدّل مثلًا لويس أرمسترونغ كلمات أغنية “What did I do to be so” ليثير قضية التمييز العرقي في كلماته سنة 1929. وفي العام 1960، أصدر “ماكس روتش – Max Roach” ألبوم الجاز تحت اسم “We insist!”، الذي غنى فيه عن تاريخ العبودية وتحرر الأفارقة من أنظمته وشمل دعوات لتحرير جنوب أفريقيا. كما غنى العديد من مغني الجاز ضد التمييز الطبقي والجندري.

بالإضافة إلى ذلك، ساهمت صناعة الجاز باختلاط الأميركيين البيض والسود، ورغم وجود التمييز العرقي في كافة القطاعات، اكتسب المغنون السود احترامًا كبيرًا ومعاملة عادلة مقارنة بالمغنين البيض.

Jazz stands for freedom. It’s supposed to be the voice of freedom: Get out there and improvise, and take chances, and don’t be a perfectionist – leave that to the classical musicians

Dave Brubeck

يقول مغني الجاز داف بروبيك أن الجاز هو “صوت الحرية”. وقد ساهم الجاز في كسر حواجز الخوف والعنصرية من جهة، وبكسر تقاليد الموسيقى التقليدية من خلال إفساح المجال للارتجال من جهة أخرى. من هنا، يُعتبر هذا النمط الموسيقى ثورة فنية، بدأت في مدينة تعاني من الفقر والتمييز ووصلت أصداؤها إلى العالم أجمع.

المصادر:

American history
Britannica
National jazz archive
York college

إقرأ أيضًا: ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

لماذا نحب الاستماع إلى الموسيقى؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

تتجذّر الموسيقى في السلوك البشري منذ القدم، وهي ترافق جميع الحضارات البشرية في مختلف بقاع الأرض. وتشكّل الموسيقى جزءًا من الطبيعة البشرية، إذ أن أغلب البشر يمتلكون بالفطرة القدرة على فهم الموسيقى والاستمتاع بها، وذلك من عمر صغير جدًا. ولكن لماذا نحب الاستماع إلى الموسيقى؟ غالبًا ما تكون السلوكيات المشتركة بين البشر هي سلوكيات ذات أصول تطورية، أي أنها ساهمت في التكاثر والبقاء على قيد الحياة. فما هي الوظائف التي لعبتها الموسيقى؟

الأصول التطورية للموسيقى

تعود علاقة الموسيقى بالإنسان إلى أكثر من أربعين ألف عام، وهي ليست اختراعًا نشأ عند عدد معيّن من الأفراد وانتشر فيما بعد بين البشر كالكتابة مثلًا، بل هي على العكس نشأت بشكل فطري في جميع الحضارات البشرية، حتى الأقدم منها. (1) (إقرأ أيضًا: تاريخ الموسيقى) إن قِدم الموسيقى وتجذّرها في التاريخ البشري دفع العديد من العلماء إلى البحث حول الوظائف التطوّرية للموسيقى.

تنتشر السلوكيات الموسيقية في الطبيعة عند مختلف الحيوانات من الطيور والحيتان وصولًا إلى الحيوانات الأقرب إلينا جينيًا وهي القردة العليا كالغوريلا والشيمبانزي، التي تصنع الموسيقى من خلال الضرب باليدين. تستخدم الحيوانات الموسيقى لتسهيل التزاوج أو التواصل فيما بينها. من هنا، يمكن ملاحظة أدوار الموسيقى التطورية عند الحيوانات.

الموسيقى عند دارون

كتب مؤسس نظرية التطور داروين عن احتمال وجود وظائف تطورية للموسيقى، واعتبر أن البشر استخدموا الموسيقى للتواصل فيما بينهم قبل تطوير اللغة المعقّدة، وتحديدًا للإثارة الجنسية. في عام 2000 م، اعتبر عالم النفس الأميركي جورج ميلر الموسيقى ذات دور أساسي في الجنس، إذ أن القدرات الموسيقية (الغناء والرقص والعزف وغيرها) يمكن أن تتقاطع مع الصفات الضرورية من أجل التكاثر ورعاية الأطفال، فجودة الأداء الموسيقي تعكس عوامل العمر والصحة والرشاقة والذكاء والتآزر اليدوي والانتباه وغيرها. وأضاف ميلر دور الموسيقى كعامل لجذب انتباه الشريك الجنسي وإثارته.

من ناحية أخرى، تحدّث عالم النفس “كولوين تريفارذن – Colwyn Trevarthen” عن دور الموسيقى في التواصل بين الأم وطفلها، بحيث تستخدم الدندنة والإيقاعات لخلق أنماط ثابتة من التفاعل تساهم بتعزيز علاقة تُشعر الطفل بالأمان. (2)

بالنسبة لعلماء آخرين كـ”بانكسيب-Panksepp” و”برناتزكي-Bernatzky”، لعبت الموسيقى وظيفة تطورية من خلال تسهيل التواصل الاجتماعي وبالتالي زيادة الإنتاجية في عمل المجموعات والقبائل.

من خلال الفرضيات المطروحة، يمكن استنتاج أن الموسيقى تملك عدة وظائف تطورية، قد تكون ساهمت في جعل خاصية خلق الموسيقى والاستمتاع بها خاصية بشرية عالمية وفطرية.

الموسيقى بحسب نظرية الاستخدامات والإشباعات

نظرية الاستخدامات والإشباعات هي مقاربة لتفسير سلوكيات الأفراد تجاه وسائل الإعلام والتواصل لتلبية حاجاتهم الفردية.

أثبتت الأبحاث أن الأشخاص يستمعون إلى الموسيقى لعدد كبير من الأسباب. فقد وجد الباحثون غانتز و بيرسون وشيللر في العام 1978 م أن المراهقين يستمعون إلى الموسيقى بهدف تخفيف التوتر و تمضية الوقت وتخفيف مشاعر الوحدة وإدارة مزاجهم.

في العام 1999 م، عمل الباحثان هارغريفز و نورث على البحث عن وظائف الموسيقى الاجتماعية، وقد وجدوا أنها تلعب ثلاث وظائف أساسية: إدارة المزاج وتحديد الهوية الفردية وتعزيز العلاقات الاجتماعية. وفي دراسة أجروها على عينة من المراهقين الذين يبلغون 13 و14 عامًا ، تبيّن أن وظيفة الموسيقى الأساسية هي رسم صورة اجتماعية للآخرين من جهة، وتلبية حاجاتهم العاطفية من جهة أخرى. (4)

ختامًا، تؤثر الموسيقى على أدمغتنا وتحفز شعور اللذة، مما يجعلنا نستمتع بالاستماع إليها. وهي تساهم في تخفيف التوتر والتعبير عن المشاعر من جهة، وفي صقل هويتنا الفردية وصورتنا الاجتماعية من جهة أخرى. وأنت عزيزي القارئ، ما هو السبب الذي يدفعك إلى حب الموسيقى؟

المصادر:

(1) Language, Brain, and Cognitive Development: Essays in Honor of Jacques Mehler
(2) Taylor & Francis online
(3) NCBI
(4) ACADEMIA

تطوّر الموسيقى العربية بين التاريخ والجغرافيا

هذه المقالة هي الجزء 9 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

تشكّل الموسيقى واحدًا من أبرز الأوجه الثقافية للمجتمعات، وهي تؤثر وتتأثر بتطوّر هذه المجتمعات وتغيرها. لذلك، يكشف البحث عن تطور أي نوع من الموسيقى مستويات أعمق من البحث في التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع. فما هي مراحل تطوّر الموسيقى العربية عبر التاريخ؟ وكيف تأثرت هذه الموسيقى بالأحداث التاريخية من جهة، وبالتبادل الثقافي مع مختلف البقع الجغرافية في العالم من جهة أخرى؟

تعريف الموسيقى العربية

يمكن تعريف الموسيقى العربية عمليًا بكل بساطة بالموسيقى المنتشرة في المناطق المتحدثة باللغة العربية حاليًا، من الخليج مرورًا ببلاد الشام وصولًا إلى المغرب العربي. لكن تعريف الموسيقى العربية يتخذ مفهومًا مختلفًا قي بعديه التاريخي والتقني.

تاريخيًا، يُقصد بالموسيقى العربية الموسيقى التي نشأت في شبه الجزيرة العربية في فترة ما قبل الإسلام، والتي تطوّرت خلال انتشار الإسلام، وكانت مدارسها مركزة في مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرنين السابع والثامن، ومن ثم في بغداد وقرطبا بعد توسع الدولة الإسلامية. وبعد القرن الثالث عشر حتى اليوم، أصبحت منتشرة في مختلف مناطق الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا.

من الناحية الموسيقية التقنية، تتميز الموسيقى العربية بأنظمتها النغمية وتقسيمانها الإيقاعية وآلاتها الموسيقية، لذلك تُشمل الموسيقى التركية والفارسية أحيانًا معها كونها تحمل طابعًا شرقيًا مشتركًا.

المراحل التاريخية لتطوّر الموسيقى العربية

تتجذّر أصول الموسيقى العربية، بحسب غالبية المؤرخين، في شعر الجاهلية الذي كان منتشرًا بين القرنين الخامس والسابع بعد الميلاد، بحيث كان الشعراء يلقون الشعر بمرافقة إيقاع بواسطة الطبل، ونغمة بواسطة آلة العود. وكانت حينئذٍ تُعطى النساء ذوات الأصوات الجميلة والمميزة وظيفة حفظ الشعر وغنائه بحسب الأوزان الشعرية، إلى جانب تعلّم العزف على آلة موسيقية كالعود والطبل والربابة وغيرها.

في فترة انتشار الدين الإسلامي في القرن التاسع، ترجم الفيلسوف العربي “إسحاق الكندي” المبادئ والقوانين الموسيقية الإغريقية، وأضاف نظريات موسيقية جديدة، ونشر خمسة عشر مقالًا حول الموسيقى. في أحد مقالاته استخدم كلمة “موسيقى” للمرة الأولى في اللغة العربية، من ثم استُخدمت هذه الكلمة في اللغات الفارسية والتركية والانكليزية وغيرها من اللغات. بين القرنين التاسع والعاشر، نُُشرت للمرة الأولى موسوعة تجمع القصائد والموسيقى. كما نشر “أبو نصر الفارابي” كتابه بعنوان “كتاب الموسيقى الكبير”، الذي يوثّق فيه المقامات الموسيقية العربية التي ما زالت مستخدمة حتى اليوم.

بعد توسّع الدولة الإسلامية، تحوّلت الأندلس في القرن الحادي عشر إلى مركز لتنصنيع الآلات الموسيقية، التي سرعان ما انتشرت في باقي القارة الأوروبية.

في القرن الثالث عشر، كان الموسيقي العربي “صفي الدين الأُرموي” أول من ضبط طريقة تدوين الأنغام وتقسيم الإيقاعات، والتي لم تُعتمد في العالم الغربي حتى القرن العشرين.

الموسيقى في الدولة العثمانية وما بعدها

مع تأسيس الدولة العثمانية وتوسّعها فيما بعد، تفاعلت الموسيقى العربية مع الكثير من الثقافات الموسيقية المختلفة، من الموسيقى التركية إلى الموسيقى الفارسية والبيزنطية والأرمنية وغيرها. وتطوّرت في تلك الفترة الموسيقى وتعدّدت الآلات الموسيقية المستخدمة. كما تعلم الرجال العزف على الآلات الموسيقية كالعود والقانون والناي.

بعد احتلال نابوليون لمصر، نقل العديد من العادات الموسيقية العربية والعثمانية لأوروبا، فانتقل استخدام الآلات الموسيقية المعتمدة في الفرق العثمانية العسكرية (كالبيكولو والسيمبال) إلى الفرق الأوركسترالية الموسيقية الأوروبية.

في القرن العشرين، كانت مصر أولى الدول العربية التي تشهد صعود مفهوم القومية، ممّا ساهم بخلق تيار موسيقي وطني منفرد، وتحوّلت القاهرة إلى مركز للإبداع الموسيقي. وقد كانت “أم كلثوم” في مصر إحدى أبرز وجوه التيار الموسيقي الجديد، تبعتها “فيروز” في لبنان.

بدأت الموسيقى العربية بالتأثر بالتيارات الموسيقية الغربية في الخمسينات والستنيات، ممّا سمح بإستخدام الآلات والإيقاعات الموسيقية الغربية، كما فتح المجال لنشوء العديد من الأنواع الموسيقية العربية كالبوب والروك والجاز والراب والهيب هوب و الإلكترونيك غيرها.

اليوم، تُعد الموسيقى العربية من أكثر الثقافات غنىً وتنوّع، إذ تختلف الموسيقى من منطقة عربية إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى ضمن البلد الواحد. ضف على ذلك تأثر الموسيقى العربية بالأنماط الغربية مما زاد من تنوعها وغناها.

المصادر:
traditionalarabmusic.com
Jstor.org
Insidearabia.com
Zawaya.org

إقرأ أيضًا: تاريخ الموسيقى

علاقة الموسيقى بالسياسة: الموسيقى في خدمة الأنظمة السياسية

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

لا يخفى على أحد دور الموسيقى كأداة للترفيه والمتعة وكناتج ثقافي وجمالي، لكنها أيضًا جزءٌ لا يتجزأ من حياة المجتمع الذي تنشأ فيه وتتوجه إليه. تساهم الموسيقى في تشكيل سلوكنا الاجتماعي والأخلاقي وفي التأثير عليه وتغييره، كما تؤثر على نظرتنا للهوية والدين والسياسة. الموسيقى قادرة أيضًا على توحيد الحشود وتحريكها وإثارة الحماس فيها. من هنا، يظهر دور الموسيقى الاجتماعي والسياسي. فكيف يمكن وصف علاقة الموسيقى بالسياسة؟ وكيف يتم استخدام الموسيقى في خدمة البروباغندا؟

كيف رأى الفلاسفة علاقة الموسيقى بالسياسة؟

لطالما شكّلت الموسيقى مادة دسمة للنقاش الفلسفي، وقد كتب الفلاسفة منذ القِدم عن السلطة والقوة التي تمتلكها الموسيقى، ممّا يمهّد لدورها في السياسة.

لعلّ أفلاطون من أوائل الفلاسفة الذين نسبوا للموسيقى قوة التأثير، فقد آمن أفلاطون أن الموسيقى تمتلك “تأثيرًا على الروح”، وصنّف الموسيقى بين “الموسيقى الجيّدة” و”الموسيقى السيئة”. (1) كما اعتبر أنه يجب إتقان الموسيقى في سبيل خدمة الشجاعة والفضيلة. وكانت الموسيقى حاضرة في تصورّه للمدينة الفاضلة. كما لأفلاطون كذلك لأرسطو، تُعتبر الموسيقى أداة مهمة في تعليم الأطفال وتثقيفهم أيضًا. (2)

في عصر التنوير، كتب الفيلسوف جان جاك روسو عن دور الموسيقى في السياسة، فقد ربط بين الموسيقى واللغة، والمشاعر التي تكمن في المجتمع وتحدّد العلاقات فيه. كذلك ركز روسو على الجانب العاطفي في العلاقات الاجتماعية، وقدرة الموسيقى على الإقناع بأيديولوجيات سياسية، بدون استخدام القوة. (3) ويذكر روسو الأغنية السويسرية التقليدية “ranz des vaches”، التي منعت السلطات السويسرية بثها أو غناءها أمام الجنود السويسريين في القتال، لأنها تدفعهم غالبًا إلى البكاء والرغبة بالعودة إلى وطنهم. (2)

وقد يكون الفيلسوف الألماني “ثيودور أدورنو” أحد أكثر الفلاسفة الذين درسوا تأثير الموسيقى على السياسة وتأثرها بها. فقد كان ناقدًا شديدًا للرأسمالية، واعتبر أن الموسيقى أصبحت بخدمة الإنتاج. ورأى أدورنو أن إنتاج موسيقى شعبية بمعايير شبه موحّدة بهدف زيادة نسب الاستماع إليها وبيعها، يسفّه مع الوقت قيمة الموسيقى وقدرة المستمعين على تقدير واستساغة قيمتها الفنية. إن الموسيقى الجيدة بالنسبة لأدورنو هي القادرة على إثارة الحس النقدي عند المستمع، بحيث تحثه على عيش حياة تحمل قدرًا أكبر من الحرية والاستقلالية. (4)

الموسيقى في خدمة الأنظمة السياسية:

تُدرك الأنظمة والأحزاب السياسية أهمية الموسيقى وتأثيرها على الشعوب، وهي غالبًا تستخدمها في سبيل بث الأيديولوجيات التي تؤمن بها.

في عصر النهضة في أوروبا وتحديدًا في إيطاليا، نشأ تيار موسيقي أوبيرالي يهدف إلى وصف وشرح الأدوار والعمليات السياسية، والتعبير عن استدامة وشرعية المجتمع المنظم. وبعد النجاح الكبير لهذا التيار الموسيقي في السياسة، استخدمته الكنيسة، واستبدلت به تعدد الأصوات في الموسيقى (polyphony) الذي كان معتمدًا سابقًا.

في أمثلة أكثر حداثة، أسّس الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية الفرق الموسيقية لتحريض العسكر وتشجيعهم معنويًا في القتال. كذلك استخدم النازيون أغاني ألمانية شعبية في خدمة بروباغندا الحزب النازي. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تولّى مجلس الاستراتيجية النفسية التابع لوكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة الأميركية مسؤوليات عدة، كانت إحداها الإشراف على بث ونشر الأغاني القومية. (5)

بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، استغلت العديد من الأنظمة السياسة في دول أفريقية، مثل جمهورية زائير وكينياـ الموسيقى لجمع تأييد الشعوب حولها. في جمهورية كونغو الديمقراطية، تشكل موسيقى ال”ليبانجا – Libanga” جزءًا مهمًا من الموسيقى التقليدية والإرث الفني السياسي، وهي موسيقى قائمة على تمجيد القادة السياسيين والحشد حولهم.

يمكن أيضًا ذكر العديد من الأغاني العربية في هذا السياق، لعلّ أشهرها هي أغاني المطربة أم كلثوم للملك فؤاد والملك فاروق والرئيس جمال عبد الناصر.

حتى الآن، تستخدم الموسيقى في الكثير من الدول لمرافقة الحملات الانتخابية، وهي تهدف للتأثير عاطفيًا على الناخبين، وإثارة صور وروابط معينة بحسب اختيار الموسيقى.

الموسيقى في الأناشيد الوطنية

قد تكون الأناشيد الوطنية من أبرز أوجه استخدام الموسيقى في السياسة. فهي لا تجسّد نظامًا سياسيًا فقط، بل هوية وطنية وثقافية كاملة.

على الرغم من بساطة أنغامها وكلماتها عادةً، تحتل الأناشيد الوطنية مرتبة هامة، تمامًا كالأعلام الوطنية، وهي تحظى باحترام عال. وذلك لأن النشيد الوطني لا يقتصر على كونه موسيقى وكلمات فقط، بل هو هوية جامعة قادرة على خلق شعور بالانتماء والقوة، يرافق الشعوب في كل مناسباتها الهامة.

تناولنا في هذا المقال جانبًا واحدًا من دور الموسيقى في السياسة. فرغم استخدامها من قبل الأنظمة السياسية لنشر البروباغندا الخاصة بها، تستخدم الموسيقى أيضًا في الكثير من الأحيان كأداة مقاومة في وجه الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. وتعرضت في الكثير من الأحيان للقمع والمنع من النشر. ويدل كل ما سبق على العلاقة الوطيدة التي تجمع الموسيقى بالسياسة، وتأثيرها الضخم على المجتمع بكافة عناصره.

المصادر
1- francemusique.fr
2- cairn.info
3- Jstor.org
4- Coursera
5- Wiley Online Library

كيف ترتبط الموسيقى بالهوية الفردية؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

يقول الفنان البريطاني كيث ريتشاردز :

“الموسيقى ضرورية، تأتي في مرتبة تلي الطعام والهواء والماء والدفء. الموسيقى هي ضرورة من ضرورات الحياة.”

يختصر ريتشاردز بهذه الجملة المَرتبة التي تحتلّها الموسيقى عند الأفراد والشعوب، إذ ترافقهم بكل مناسباتهم وتصبح جزءًا لا يتجزأ من هويتهم الفردية والجماعية. فماذا نعني بالهوية؟ و كيف ترتبط الموسيقى بالهوية الفردية؟

مفهوم الهوية الفردية

يشكّل تعريف مفهوم الهوية تحديًا بنفسه، إذ لا يتفق الأكاديميون على تعريف موحّد لهذه الكلمة. من جهة، تعني الهوية الفردية مجموعة الخصائص والسمات التي تعرّف عن شخص وتميّزه عن باقي الأفراد. من جهة أخرى، تعني الهوية الصورة التي يكوّنها كل شخص منا عن نفسه و/أو الصورة التي يعكسها للآخرين.

ويحمل السؤال عن الهوية “من أنا؟ من أنت؟” في طيّاته الكثير من الأبعاد التي أثارت جدلًا فلسفيًا واسعًا. فهل الهوية ذات طبيعة بيولوجية، أي أنها محصورة بالجسد؟ أم أنها ذات طبيعة نفسية، وتتعلّق بالدماغ والذاكرة؟ وإذا فقد الانسان ذاكرته مثلًا، فهل يفقد هويته ويصير إنسانًا آخرًا؟

كل هذه الأسئلة دارت بشكل أساسي حول سمتين متناقضتين للهوية: الثبات والتغيير. فمن ناحية، تحمل الهوية نوعًا من الثبات بطبيعتها، ولكنها أيضًا في تغيير وتفاعل دائم مع محيطها، أي أن كل شخص منا، رغم امتلاكه هوية خاصة به، فإن هذه الهوية في تطور دائم مع الزمن.

الموسيقى والهوية الفردية

ممّا لا شك فيه أن الموسيقى هي من أهم الفنون التعبيرية، إذ أن كل قطعة موسيقية تعبّر عن شعور وأيديولوجية وثقافة معينة. لذلك فإن الحديث عن علاقة الموسيقى بالهوية غالبًا ما يقتصر على الوظيفة التعبيرية للموسيقى. ورغم أننا نميل إلى اعتبار أن الموسيقى التي نستمع إليها تلعب دورًا في تثبيت أفكار وسمات هوياتية نملكها في الأساس، لكن الموسيقى تلعب بالحقيقة دورًا أكثر عمقًا في تشكيل الهويات الفردية.

يصف العالم الموسيقي البريطاني “سيمون فريث – Simon Frith” الهوية بالعملية الذاتية الدائمة (Self in-process)، أي أن تشكيل الهوية وصقلها هو عملية مستمرة عبر الزمن.

ويعتبر فريث أن العلاقة بين الموسيقى والهوية لا تقتصر على دور الموسيقى في التعبير عن هويتنا، بل هي تسمح لنا باختبار عملية تشكيل الهوية، من خلال اكتشاف أفكار وأيديولوجيات جديدة نتأثر بها ونتفاعل معها. كما يعتبر فريث أن الموسيقى تشكّل إطارًا بشكل خاص للمراهقين لاختبار نطاق واسع من الحالات الشعورية والهويات، وبالتالي بناء شخصياتهم. إذًا، الموسيقى هي واحدة من القوى التي تساهم في صقل الهويات الفردية.

الموسيقى كأداة للسلطات عند ميشيل فوكو

لا يعيش الفرد في مكان منعزل، بل هو يتفاعل ويتأثر بمحيط واسع، وبالتالي فإن صقل هويته الفردية يتأثر بكل القوى المحيطة به. بحسب ميشيل فوكو، السلطة موجودة في كل مكان، وهي تؤثر على كل مجالات حياتنا، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الصحة إلى التعليم وصولًا إلى الفن.

إذًا فإن تأثرنا بالموسيقى وحكمنا عليها يتأثر بهذه السلطة، وتتأثر تجارب اختبارنا للموسيقى بما تعلمناه عن الموسيقى في المدرسة، وبما نعرفه عن الموسيقى من الإعلام، وبرؤوس الأموال والانتاجات الموسيقية.

الموسيقى المحيطة بنا ليست عشوائية إذًا، وهي تتأثر بالبنية الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. وتختلف الأنواع الموسيقية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.

الموسيقى بين جوديث باتلر وفوكو

ينظر فوكو إلى الهوية الفردية كنتيجة للقوى والسلطات الاجتماعية، ولا يراها كخيار. بالمقابل، ترى الفيلسوفة الأميركية “جوديث باتلر – Judith Butler” أن الهوية الفردية تتأثر بالقوى الاجتماعية، لكنها أيضًا تملك مساحة من الحرية وتقرير المصير. وتسمي هذه المساحة بمساحة “الارتجال”، أي تعتبر عملية تشكيل الهوية نوعًا من العرض الموسيقي، الذي رغم تحديده بقيود معينة، له مساحة من الارتجال والحرية.

لم تكن الموسيقى يومًا مجرد أداةً للترفيه، بل هي تشكل جزءًا من صميم هوية كلً منا، وترتبط خياراتنا الموسيقية بشكل وثيق بشخصياتنا وهوياتنا.كما تُستخدم الموسيقى التي نستمع إليها في حياتنا اليومية بصقل أيديولوجياتنا وتشكيل هوياتنا الفردية والجماعية. من هنا، يمكن فهم اعتبار ريتشاردز للموسيقى كحاجة حيوية على الصعيد النفسي والهوياتي.

المصادر:

Coursera
Taylor& Francis online
Questions of cultural identity, Chapter 7, Music and Identity

إقرأ أيضًا: الموسيقى والتسويق: كيف تؤثر الموسيقى على سلوكك الشرائي؟

الموسيقى والتسويق: كيف تؤثر الموسيقى على سلوكك الشرائي؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

رافقت الموسيقى الإنسان منذ زمن قديم, وشكّلت جزءًا هامًا من هويته الاجتماعية. وعُرفت الموسيقى بقدرتها على التأثير على المزاج وخلق عادات ومناسبات وأجواء معينة. وقد كتب الكثيرون من الفلاسفة، بدءًا من أفلاطون وصولاً إلى الفيلسوف والعالم الموسيقي الألماني أدورنو عن الموسيقى كأداة تأثير على البنى الاجتماعية والسلوكيات الفردية. في عالمنا الحديث، أصبحت الموسيقى متوفرة في كل زمان ومكان، ورغم أننا لا نعيرها دائمًا انتباهنا، إلا أن هذا لا يلغي تأثيرها اللاواعي على سلوكياتنا. فكيف تُستخدم الموسيقى كأداة للتأثير على سلوكنا الشرائي؟ وما العلاقة بين الموسيقى والتسويق؟

“الموزاك – Muzak”: موسيقى الخلفية

عندما نتكلّم عن الموسيقى، غالبًا ما يتبادر إلى ذهننا الأغاني المعروفة والمفضلة لدينا والتي نستمع إليها بشكل واعٍ. إلا أن الموسيقى تحيط بنا في كل مكان، وفي الكثير من الأحيان، لا نعير وجودها أي اهتمام.

فعندما نشاهد فيلمًا، تكون الموسيقى دائمًا حاضرة لزيادة تأثير المشاهد، وعندما نستمتع بأي لعبة الكترونية غالبًا ما ترافقها نغمة بسيطة، وكذلك عندما نكون في أي مكان عام، في مطعم أو متجر أو مطار، تكون الموسيقى حاضرة في الخلفية.

بدأ استخدام موسيقى الخلفية منذ أوائل القرن العشرين، وقد كانت شركة “موزاك – Muzak” سبّاقة في استخدام الخطوط الكهربائية لنقل موسيقى الفونوغراف للسكان.
بعد انتشار الراديو عرضت الشركة خدماتها على المطاعم والفنادق، التي تفضّل موسيقى الخلفية دون الأحاديث الإذاعية. من هنا، بدأ انتشار موسيقى الخلفية وتُسمى بالموزاك نسبةَ للشركة الأولى.

الموسيقى والتسويق في الإعلانات:

أصبحت الإعلانات تحتل جزءًا كبيرًا من حياتنا اليومية، وهي متواجدة في كل وسائل الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي. ويكاد لا يخلو إعلان واحد من الموسيقى، إذ أن الدراسات تبيّن أن الموسيقى تجعل من الإعلانات أكثر تأثيرًا على متلقيها.

تحفّز الموسيقى أجزاء من الدماغ متعلّقة بالذاكرة والعاطفة، لذلك غالبًا ما تثير الموسيقى التي نستمع إليها عددًا من الذكريات المتعلقة بمكان معين أو فترة معينة. لكن أنواع الموسيقى المختلفة تعطي تأثيرات عاطفية مختلفة.

بحسب دراسة أسترالية تختبر تأثير أنواع الموسيقى على 1000 شخص، تبيّن أن أنواع الموسيقى كلها تثير مشاعر قوية ولكن متناقضة. وقد تثير الموسيقى مشاعر البهجة والنشاط، أو مشاعر الحزن أو مشاعر السكون والراحة.

لذلك على المُعلن اختيار الشعور الذي يريد أن يثيره في إعلانه، وبالتالي اختيار الموسيقى المناسبة التي تخلق هذا الشعور.

الموسيقى والتسويق: الموسيقى الخلفية في المتاجر

تؤثر الموسيقى على أدمغتنا على مستوى لا واعٍ، فرغم أننا في أغلب الأحيان لا نعير الانتباه للموسيقى الخلفية للمتاجر والمطاعم، إلا أنها تؤثر على سلوكنا من حيث لا ندري.

وضع الموسيقى الخلفية في المتاجر لا يهدف فقط إلى خلق جو مريح فيها، بل هو أيضًا يعتمد توجيه الزبائن ودفعهم لشراء أكبر عدد ممكن من البضائع. لذلك تقصد المتاجر وضع الموسيقى المناسبة لزيادة مبيعاتها، كما تعطي هذه المهمة أحيانًا لشركات متخصصة في تصميم الموسيقى المناسبة لزبائن كل متجر.

على سبيل المثال، إن الاستماع للموسيقى البطيئة يدفع الزبائن إلى المشي بشكل أبطأ، وذلك يزيد من فرص رؤية البضائع وشرائها.

كما تبيّن الدراسات أن الاستماع إلى موسيقى توحي ببلد معين، تجعل الزبائن أكثر عرضة لشراء منتجات هذا البلد، فإذا وضع المتجر أغنية لـ”Edith Piaf”، يوحي عددًا من الزبائن بجو فرنسي، مما يزيد من احتمالية شرائهم جبنة فرنسية مثلًا.

في دراسة أجريت على طلاب جامعيين اسكتلانديين، قٌسموا إلى أربعة فرق، ووُضع كل فريق في غرفة مع موسيقى من بلد معين (موسيقى أميركية، صينية، هندية وغرفة دون موسيقى). أُعطيت الفرق لائحة طعام (تتضمن أطعمة من مختلف البلدان المذكورة) لاختار أطباق منها، فتبيّن أن معظم الطلاب اختار طعامًا يتماشى مع نوع الموسيقى الذي يستمع إليها.

كما تبين اختبارات أخرى أن نوع الموسيقى مرتبط بهوية اجتماعية معينة، وبالتالي بالقيمة النقدية المتوقعة. فالموسيقى الكلاسيكية مثلًا مرتبطة بصورة اجتماعية متعلقة بالترف أو “الرقي”، وهي تجعل الزبائن أكثر استعدادًا لدفع مبلغ أكبر مقابل شراء البضاعة نفسها عند الاستماع إلى نوع مختلف من الموسيقى.

تتأثر مشاعرنا وسلوكياتنا بكثير من المحفزات حولنا، ولعلّ الموسيقى من أهمها نظرًا لتأثيرها البيولوجي على الجسد والدماغ، ونظرًا للهوية الاجتماعية التي تمثلها. لكن استخدام الموسيقى في التسويق يدفعنا إلى التساؤل: إلى أي مدى يُعتبر استخدام الموسيقى للـ”تلاعب” بالزبائن أخلاقيًا؟

المصادر:

Coursera
The Guardian
Econsultancy.com
Psychologicalscience.org

إقرأ أيضًا: كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

هذه المقالة هي الجزء 11 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

من منّا لم يسمع بفرق البيتلز (The Beatles) والرولينغ ستونز (The Rolling Stones) والمغني الشهير “إلفيس بريسلي – Elvis Presley”؟ شكّلت هذه الأسماء الفنية الكبيرة أعمدة موسيقى الروك في بدايتها، لتتحوّل هذه الموسيقى إلى أكثر الأنواع انتشارًا وتأثيرًا في العالم، كما أنها تطوّرت عبر الزمن لتتفرّع إلى عدد من أنواع الموسيقى المختلفة التي تتراوح بين أكثر الأنواع هدوءً وأكثرها صخبًا. لكن ما هي موسيقى الروك؟ وكيف نشأت؟

ما هي موسيقى الروك؟

يُعتبر تعريف موسيقى الروك جدليًا بحيث تتعدّد تعريفاته وتصنيفاته. وتختلف المدرستان الأميركية والبريطانية، وهما الأكثر تأثيرًا في موسيقى الروك، في تعريفها، إذ إن التعريف الأميركي أكثر شمولًا.

يُعرّف الروك كنوع من أنواع الموسيقى الشعبية الذي يتميّز بإيقاع قوي يتمثّل بعزف مركّز على آلالات الإيقاعية كالطبول (Drums) وآلة الصنج (Cymbals). كما يرتبط بأصوات مُكبرّة من خلال الآلات الموسيقية الكهربائية كالغيتار الكهربائي والغيتار الباس الكهربائي (Bass electrical guitar)، وتُدعم هذه الآلات أحيانًا بآلات أخرى كالبيانو والكمان والتشيللو وغيرها. كذلك ترتبط موسيقى الروك بطبيعتها “الثورية”، إذ أثارت أغاني الروك مواضيع جريئة كالمخدّرات والجنس ونقد الأنظمة السياسية والاجتماعية.

انطلقت موسيقى الروك في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، وكانت تُعرف باسم “الروك أند رول”. وتطوّرت هذه الموسيقى تباعًا خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، فشملت الكثير من الأنماط والأساليب المتعددة، ممّا صعّب عملية تعريف نوع الروك وحصره بخصائص موسيقية محددة.

جذور موسيقى الروك

لم تنشأ موسيقى الروك من العدم، فهي تجد جذورها في أنواع أخرى من الموسيقى كانت منتشرة منذ الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. في هذه الفترة، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعاني من التفرقة العنصرية التي طالت المجال الثقافي والفني أيضًا، بحيث كانت موسيقى “البلوز – Blues” و”الريذم أند بلوز – Rhythm and Blues” محصورة أداءً وجمهورًا بالأميركيين من أصل أفريقي. أما موسيقى “الكانتري -Country ” وموسيقى الـ “بوب – Pop” فقد كانت تُعتبر موسيقى الأميركيين البيض.

في بداية الخمسينات، بدأت خريطة الموسيقى بالتغيير تدريجيًا، فبدأت الموسيقى الريفية بأنواعها تنتشر بشكل أكبر في المدن، لذلك أخذت طابعًا أكثر عدوانية، ممّا دفعها إلى استخدام آلات مكبرة للصوت كالغيتار الكهربائي. كذلك بدأ المغنون البيض بأداء أغانِ تنتمي إلى نوع البلوز، ممّا أعطى الفرصة لعدد من الفنانين السود بالتوجه إلى جمهور أكبر. شهدت هذه الفترة خلطًا بين أنواع عدة من الموسيقى، وهنا كانت بداية الروك أند رول الذي يُعتبر مزيجًا بين موسيقى البلوز والريذم أند بلوز والكانتري.

محاولات الروك الأولى

من الصعب تحديد أول أغنية روك في تاريخ الموسيقى، إذ نتجت هذه الموسيقى تدريجيًا عن المزيج بين أنواع الموسيقى المختلفة. ولكن العديد من المغنيين الأميركيين طبعوا المحاولات الأولى في الروك.

شكلت أغنية “Rock Around the clock” لفرقة “Bill Haley and his comets” محطة أساسية في انتشار موسيقى الروك في العام 1955. رغم أنها لم تكن أغنية الروك الأولى، إلا أنها كانت الأولى التي تحتل المرتبة الأعلى مبيعًا.

كذلك يُعتبر المغني الأميركي “تشاك بيري -Chuck Berry ” من مؤسسي الروك أند رول. وكان متأثرًا بموسيقى الكانتري. كما كان من الفنانين القلائل الذين يكتبون كلمات أغانيهم، وقد استغل تشاك بيري صعود ثقافة الشباب (أي المراهقين) ليكتب أغاني تحاكي قضاياهم وأفكارهم، فأصدر عددًا من الأغاني الشبابية التي لاقت نجاحًا كبيرًا.

المغني الأميركي تشاك بيري

كما نجح الموسيقي الأميركي “ليتل ريتشارد -Little Richard ” في خرق قواعد العرض المسرحي، إذ قدم عروضًا تحمل طابعًا من الجنون غير المألوف في ذاك الزمن، من حيث أزيائه وأسلوبه الغنائي. وأصدر أغاني روك ناجحة.

إلفيس بريسلي: موجة الروك أند رول الأولى

يُعتبر اليوم إلفيس بريسلي أحد أهم الوجوه الفنية في القرن العشرين، ويُلقّب بـ”ملك الروك أند رول”. تميّز إلفيس بحبه لموسيقى البلوز وقدرته على مزج الأنماط الموسيقية بشكل مُبتكر، كما تميّز بذكاء عالي باختيار أغانيه وبكاريزما ساحرة جعلته سريعًا أهم نجم موسيقي أميركي. في العام 1956، احتلّ إلفيس بريسلي المرتبة الأولى لمدة 25 أسبوعًا.

شكّلت أغنية “That’s alright Mama” النقلة النوعية في حياة إلفيس بريسلي الفنية، لكن تسجيل هذه الأغنية كان مجرد صدفة. إذ أن إلفيس كان مع غيره من الموسيقيين يغني متعبًا في وقت متأخر من الليل، وحين كان مدير الاستديو منهمكًا بإصلاح عطل تقني، بدأ بريسلي بغناء أغنية “That’s alright Mama” (وهي أغنية لأرثر كرودوب في الأساس) بطريقة فكاهية لمجرد التسلية، وانضم إليه العازفون. لكن مدير الاستديو أعجب بهذه النسخة من الأغنية وطلب تسجيلها. وبالفعل حققت الأغنية نجاحًا باهرًا.

أثار إلفيس بريسلي جدلًا في الخمسينات نظرًا لجرأة أغانيه ولاعتماده الإثارة الجنسية في عروضه الموسيقية، واعتبره البعض ذا تأثير سيئ على الشباب والمراهقين.

نجحت موسيقى الروك في تجسيد الروح الشبابية وأفكار المراهقين المتمرّدة، كما نجحت بكسر القيود بين ثقافات الأعراق المختلفة في الولايات المتحدة الأميركية. لكن سرعان ما انتشرت موسيقى الروك في العالم أجمع وتحولت إلى أهم أنواع الموسيقى وأكثرها تأثيرًا، ليس فقط على الصعيد الفني بل أيضًا على الصعيد السياسي والاجتماعي .

إقرأ أيضًا: كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

المصادر:

Coursera
Britannica
Musicaldictionary.com
Rockmusictimeline.com

Exit mobile version