سحر الكيمياء في عالم مصر القديمة, اكتشافات مازالت تدهشنا

من بين جميع العلوم، الكيمياء هي أكثر العلوم التي يرتبط بها المصريون القدماء ارتباطًا وثيقًا. حتى إن إحدى المدارس الفكرية تنسب كلمة كيمياء إلى الإسم المصري لمصر القديمة”kemet”، الذي نقله الكيميائيون اليونانيون والعرب. و التي تعني “الأرض السوداء”، وتصف لون التربة السوداء الخصبة التي تترسب سنويًا من نهر النيل. و ليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا هو الاسم و الاعتراف بأن المصريين كانوا أفضل الكيميائيين في العالم القديم حتى الإغريق اعترفوا بذلك. إن الاستخدام المصري للكيمياء أُعتُقِدَ بأنه “أسطوري علمي”. فلقد اعتقدوا، على سبيل المثال، أن المواد تمتلك جوهرًا أو انبعاثًا لآلهة مختلفة مثل المغنتيت حيث ربطوه بالإله حورس. وكان يُعتقد أن ملح النطرون مع أوزوريس وراتنجات الأشجار هي دموع الآلهة. استخدمت الكيمياء على نطاق واسع، لكن ارتباطها بالطقوس الدينية كان محوريًا، حيث عمل علماء المعادن والعطور والصباغون خارج المعابد، وفقًا لقواعد الطقوس. مما أدى هذا إلى السرية المحيطة بمعرفتهم الكيميائية. فكيف كان المصريون القدماء بتلك البراعة في الكيمياء؟ وهل كانت انجازاتهم مجرد “تجربة وخطأ” أم أكثر تعقيدا مما نعتقد؟

تقنيات في صناعة الألوان والأصباغ

يعتبر تخليق المواد هي  جوهر الكيمياء وهو مايميز الكيميائي الماهر. وكان المصريون القدماء أول حضارة تصنع صبغة غير عضوية، وهي الأزرق المصري. كان هذا جزءًا من رغبتهم في تقليد الأحجار الكريمة التي ارتبطوا بها مع الآلهة، ولا سيما اللازورد، وهو معدن سيليكات الألومنيوم الأزرق النادر المحتوي على اللازوريت، والذي اعتقدوا أنه يشكل شَعْر الإله. من عام 2500 قبل الميلاد، بدأوا في تصنيع الصبغ الأزرق رباعي سيليكات الكالسيوم والنحاس (CaO.CuO.4SiO2). و أعيد تصنيعها في العصر الروماني، قبل أن تضيع التكنولوجيا. ثم أعيد اكتشافها فقط في القرن التاسع عشر.

و بالنظر إلى الكيمياء التي ينطوي عليها الأمر، لا يمكنك إلا أن تقدر مهاراتهم. حيث تم محاولة تحضير القليل من الأزرق المصري, واحتاج الأمر إلي وجود جو مؤكسد, ومحفز ومواد خام _مثل السيليكا والجير والنحاس_ إلي التسخين مع مادة البوراكس “Borax” للحصول علي ذلك اللون. وذلك مع الأخذ فى الاعتبار قياس العناصر المتكافأة للمنتج النهائي, ممايشير إلي أن الكيميائيين المصريين كانوا قادرين علي تعديل ظروف أفرانهم ومعدل التبريد لتكوين صبغات خضراء بديلة عن عمد أيضاً. إن اللون الأزرق المصري، وهو أول صبغة اصطناعية، تم صنعها منذ 3000 عام قبل الميلاد، و تركيبتها الكيميائية هي CaCuSi4O10، أو CaO3CuO34SiO2، وهي عبارة عن سيليكات نحاس الكالسيوم. تم إنتاجها عن طريق تسخين رمال الكوارتز ومركب نحاسي و CaCO3 وكمية صغيرة من القلويات (رماد النبات أو النطرون) معاً إلى 800-1000درجة مئوية لعدة ساعات ، وخلال هذه الفترة يحدث التفاعل التالي:[1]

Cu2CO3(OH)2+8SiO2 +2CaCO3= 2CaCuSi4O10+3CO2 +H2O

واعتمادًا على كيفية طحن هذه الكريستالات الناتجة عن التفاعل، ينتج مجموعة من الألوان الزرقاء. حيث يعطى المسحوق الناعم لون أزرق سماوي فاتح والحبوب الخشنة تعطي ألوانًا زرقاء أغمق.

عُرف عن القدماء المصريين في العالم القديم بأنهم صباغون ممتازون. لقد عرفوا الموردينتس “Mordents” وهي مواد تستخدم لربط الصبغة بالقماش. وقد استخدموا “حجر الشب” أو مايمسي بال “Alum” لذلك الغرض . و غالبًا ما يحتوي حجر الشب_ وهو ملح كبريتات البوتاسيوم الألومنيوم_ على شوائب من الحديد، مما قد يؤدي إلى ظهور لون غير مرغوب فيه في عملية الصباغة. مما يبدو من المحتمل أنه في العصور القديمة تمت تنقية الشب عن طريق عمليات إعادة التبلور”Recrystallization”.

إلى جانب الصبغات المعدنية، استخدم المصريون صبغات نباتية مثل الفوة ، القرطم ، والألكانيت للون الأحمر، ونبات وسمة الصباغين للأزرق. ولحاء شجرة الرمان للأصفر. و يحتوي المستخلص الأحمر من نبات الفوة على الإيزارين، الذي تم اكتشافه على الأقمشة الحمراء الموجودة في مقبرة توت عنخ آمون.

 وجاء اللون النيلي أو الأزرق من نبتة النيلي أو من نبات وسمة الصباغين. حيث يُهرس النبات في الماء ويُترك للخليط ليتخمر، وبعد ذلك يتشكل راسب أزرق من “الإنديجوتين”. ويتم تجفيفه ثم استخدامه علي هذا الشكل. ثم بعد ذلك يتم اختزال الأنديجوتين إلى مركب عديم اللون قابل للذوبان عن طريق المعالجة الكيميائية على سبيل المثال، العسل أو الجير، ثم يُغمر النسيج في المحلول ويُترك ليجف. وعن طريق الأكسدة بالهواء أثناء عملية التجفيف يظهر اللون .

كانت الصبغة الأكثر قيمة في العصور القديمة هي اللون الأرجواني الصوري” Tyrian purple”. هذه الصبغة هي “ديبروموينديجوتين”. حيث حصل القدماء عليها من سلائف “precursors” شبه عديمة اللون من غدد المحار التي يحصدوها من البحر الأبيض المتوسط. وينشأ اللون الأرجواني عندما يجف القماش المعالج في الشمس.

كيمياء البحث عن الحياة الأبدية

كانت مهارات التحنيط لدى المصريين في أوجها خلال فترة حكمه في الأسرة الثامنة عشر. حيث تم العثور علي مجموعة واسعة من المواد العضوية _من أصل حيواني ونباتي_ المرتبطة بالتحنيط علي جثث الممياوات. على الرغم من أن التحنيط المبكر كان يُنظر إليه في البداية على أنه مجرد جفاف ناجم عن الصحراء المصرية الحارة والجافة. و اعتمدت هذه العملية، المستخدمة للحفاظ على الجسم للآخرة، على تجفيف الأنسجة لمقاومة التعفن. و تطورت من بداية بسيطة إلى عملية معقدة. حيث يقول هيرودوت، أن الجسم بعد إزالة المخ وبعض الأعضاء الداخلية، تتم تغطيته بالنطرون لمدة 70 يومًا لتجفيف الأنسجة. وتم استخدام النطرون كعامل تجفيف وخَلُص إلي أنه تم استخدامه في الحالة الجافة وليس كسوائل. وأن الفترة المثلي للجفاف هي 30-40 يومًا. تم استخدام الراتينج المصهور أيضًا كعامل تحنيط. و مكنت التحسينات الفنية خلال الأسرة التاسعة عشرة من الاحتفاظ بلون الجلد الطبيعي كما يظهر في مومياء رمسيس الثاني.

وقد اكتشف العالم “باكلي” أدلة أكثر تعقيدا على التحنيط. ففي وقت مبكر من أواخر العصر الحجري الحديث قبل العصر الفرعوني، منذ أكثر من 6000 عام، وجد أنهم يستخدمون بالفعل المنتجات الطبيعية، وراتنجات الأشجار، والمنتجات النباتية التي لها خصائص مضادة للبكتيريا والفطريات ومبيدات الحشرات إلى حد ما. مما يؤدي إلي حماية ممتازة لكامل الجسم في هذا الوقت.[2]

إن ظن الأغلبية في تحنيط توت عنخ آمون أنه من المحتمل أن قد تم تحنيطه في محلول النطرون بالطريقة السابق ذكرها. و لكن تم ذكر فكرة مضادة لهذا في عام 1914 من قبل الكيميائي ألفريد لوكاس، الذي عمل مع كارتر_مكتشف مقبرة توت عنخ آمون_ والذي كان معروفًا باسم شيرلوك هولمز في علم المصريات. حيث أوضح تحليله للمومياء بقعًا من كلوريد الصوديوم والكبريتات على الجلد، ولكن بدون أي أثر للكربونات. لقد حيره هذا الأمر وخَلُصَ في النهاية إلى أن النطرون لم يستخدم على الإطلاق. ولكن باكلي اعتقد أن هذا سيكون سمة من سمات حل تلك الأحجية. وهو أن ليس لديك الكربونات والبيكربونات لأنهما قد تم دمجهما مع الأنسجة.

إن ارتفاع درجة القلوية “High PH” فى المحاليل، من شأنه أن يوقف البكتيريا عن مسارها، عن طريق منع وظيفة الإنزيم. مما يساعد المحلول أن ينتشر بشكل أعمق في الأنسجة ويغير بنية الكولاجين، ربما عن طريق الارتباط الكاتيوني ببقايا البروتين الكربوكسيلي، مما يوفر مزيدًا من الحفظ الكامل. ومن ثم سيظل الجسم يحتوي على كمية كبيرة من الأنسجة والماء بداخله.

و من تجارب التحنيط التي أجراها باكلي، بما في ذلك على جسم الإنسان المتبرع به، خَلُصَ إلى أنه عندما يتم إجراء العملية بعناية شديدة، فإن النتيجة ستكون حفظًا مثاليًا تقريبًا. فعندما يدخلون القبر ، يبدون تمامًا كما كانوا على قيد الحياة، وكأنهم نائمون.  إن تلك العملية أظهرت مستوى عالٍ من التعقيد والتحكم وهو استخدام الراتنجات العضوية من مجموعة متنوعة من المصادر. بالإضافة إلى استخدام هذه الخلائط كوسيلة لعزل الماء. حيث تشير الدلائل إلى أنه تم تطبيقها أيضًا على الأجسام قبل استخدام النطرون. وذلك بسبب الطبيعة الكاوية للكربونات والبيكربونات، فإذا لم تقم بتطبيق هذه الطبقة العضوية، فإنها سوف تبيض الجلد باللون الأبيض. ولكن إذا وضعت مادة الحاجز العضوي هذه أولاً ثم وضعتها في محلول النطرون، فإن ما تحصل عليه بعد ذلك هو حفظ ممتاز للون البشرة.

سر خلطات مستحضرات التجميل

من أهم ألغاز الكيمياء المصرية القديمة، اكتشاف أصباغ الرصاص الاصطناعية المستخدمة في مكياج الكحل الذي كان يرتديه المصريون القدماء. ويعود تاريخه إلى عام 2000 قبل الميلاد. وقد نُشر في عام 1999، التحليلات الكيميائية التي أجراها “فيليب والتر” في متحف اللوفر في باريس. حيث أظهرت أن المركبات المحفوظة جيدًا الموجودة في مجموعة اللوفر لأواني المكياج المصرية القديمة، تضمنت أصباغًا طبيعية (galena (PbS و cerussite (PbCO3). ولكن أيضًا اللوريونيت (Pb(OH)Cl) ومسحوق الفوسجينيت الأبيض (Pb2Cl2CO3)، و نادرًا ما يتم العثور على كلاهما بشكل طبيعي ومن غير المحتمل أن يكونا نتاج تحلل لأي شيء موجود. ومن ثم استنتج والتر أن هذه الأصباغ يجب أن تكون صنعت صناعياً، باستخدام ما نسميه اليوم الكيمياء الرطبة “Wet chemistry”.

و استنادًا إلى الوصفات الرومانية اللاحقة، جرب والتر طريقة لإنتاج الفوسجينيت. لقد استخدم معدن “الليثارج” _(PbO)_ المطحون بالملح وخلطها في الماء وفي بعض الحالات كربونات الصوديوم. ثم قام بتحييد المحلول القلوي الناتج (تصف الوصفة الرومانية صب المحلول واستبدال الماء كل يوم للتحكم في الرقم الهيدروجيني) وبعد عدة أسابيع وجد إما مادة اللوريونيت أو الفوسجينيت، مع بلورات ذات حجم مماثل لتلك الموجودة في العينات المصرية. و يشير هذا إلى أنه ربما كان لديهم بعض المعرفة بالتحكم في الأس الهيدروجيني والمحاليل المُثَبتَة “Buffering solutions” وبعض الكيمياء الكمية الأساسية.

تم تأكيد عمل والتر منذ ذلك الحين من قبل عدة مجموعات بحثية. ففي عام 2018 ، استخدمت “لوسيل بيك” ، من مختبر قياس الكربون 14 بجامعة باريس ساكلاي، التأريخ بالكربون المشع لإثبات أن عينات المكياج المصرية القديمة تضمنت مركبات اصطناعية. و من العينات التي تم اختبارها، تم تأكيد إحداها على أنها مستحضرات تجميل اصطناعية، مصنوعة من نفس مركب الفوسجينيت الذي اكتشفه والتر ومٌؤَرخ في الفترة من 1763 إلى 1216 قبل الميلاد.

كانت لوسيل بيك قادرةً أيضًا على تحديد تاريخ الوعاء الخشبي بالكربون (إلى 1514-1412 قبل الميلاد ، في عهد أمنحتب الثالث) الذي كان يحتوي على المكياج. و لقد حصلوا على علاقة ارتباط جيدة جدًا بين نتائج الصندوق الخشبي ونتائج عينات المكياج. لذلك في هذه الحالة، فإنه دليل مباشر على أن مستحضرات التجميل هذه تم إنتاجها بشكل مصطنع في ذلك الوقت. و قد يكون هذا أقدم دليل على استخدام الكيمياء الرطبة لإنتاج مستحضرات التجميل، على الرغم من أن واحدة فقط من العينات كانت اصطناعية، إلا أنها تبدو نادرة. اختبر بيك أيضًا بعض العينات من المتحف البريطاني ولم يعثر حتى الآن على أي مستحضرات تجميل اصطناعية.

جاء المزيد من الأدلة على وجود الفوسجينيت الاصطناعي من فريق من معمل أبحاث الآثار في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، وتم أخذ عينات من 11 حاوية كحل في متحف بيتري بجامعة لندن. لقد أجروا مجموعة واسعة من التحليلات الكيميائية لإلتقاط كل من المكونات غير العضوية والعضوية. ووجدوا أيضًا مركبات الرصاص التي من المحتمل أن تكون قد تم تصنيعها. ووجدوا تنوعًا أكبر بكثير من التحليل الحديث السابق، بما في ذلك أشياء مثل المعادن التي تحتوي على المنغنيز والنحاس. بالإضافة أيضًا إلي مكونات لا تحدث معًا بشكل طبيعي، لذلك كانت هناك نية متعمدة في صياغاتهم. في عام 2010، اقترح فريق فرنسي بما في ذلك والتر، أن تركيبات الكحل التي صنعها المصريون القدماء ربما تكون قد صيغت لخصائصهم الطبية. حيث أظهروا أن أيونات Pb2+ يمكنها أن تثير استجابة معينة من الإجهاد التأكسدي في خلايا الجلد التي يمكن أن تحفز الاستجابة المناعية.

فن تشكيل المعادن من ذهب توت عنخ آمون إلي تقنيات التلحيم

أظهر المصريون القدماء أيضًا مهارة فنية هائلة في صناعة المعادن. وعلي الرغم من عدم تمكنهم أبدًا من صهر الحديد- الحديد الوحيد الذي كان لديهم كان نيزكيًا ويسمى بشكل مناسب “معدن السماء”- لكنهم كانوا أساتذة في صناعة النحاس والفضة والذهب. أنتجوا أشياء مثل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون، المصنوع من سبائك الذهب عيار 23 قيراطًا، مع عيون كوارتز وسبج ولازورد مرصع. إحدى التقنيات التي تثير إعجاب هي طريقة اللحام، والمعروفة باسم اللحام الصلب الكيميائي، والتي تظهر في تصنيع المجوهرات الذهبية. حيث يتم استخدام ملح النحاس المسحوق مثل الملكيت (كربونات النحاس) ، و يتم لصقها في مكانها. و عند تسخين الملحين معًا (الذهب والنحاس)، ينتج عن ذلك انخفاض في درجة انصهار الذهب في الحال. وهذا ما كان يجعل سبائك النحاس والذهب مميزة لتشكيل اللحام. مرة أخري، انها كيمياء!.

ان مجال الحديث عن الكيمياء في مصر القديمة واسع وما تم ذكره ماهي الا مقتطفات من فيض علمهم الذي مازال يحير العلماء. و لا يُعرف سوى القليل نسبيًا عن معاملهم ومعداتهم. حيث يوجد في عدد من المعابد المصرية غرف تسمى المعامل. وهي غرفة محفورة فيها وصفات العطور وهناك أيضًا وصفات تستحضر عمليات الصباغة، ولا سيما في معبد دندرة. و في العصر الفرعوني، من شبه المؤكد أنه لم يكن هناك أي من الأواني الزجاجية التي قد نربطها بالمختبر. حيث لم يصل نفخ الزجاج إلى مصر حتى الإمبراطورية الرومانية.

كما أن الافتقار إلى النصوص الكيميائية جعلنا نفتقر إلى المعلومات حول كيفية نظر المصريين إلى العالم المادي وما إذا كان لديهم أي إطار نظري لوصف طبيعة المادة. و غالبًا ما يُنسب هذا النوع من التفكير إلى الإغريق، مثل ديموقريطوس الذي توصل إلى فكرة الذرة حوالي عام 400 قبل الميلاد. حيث أرجع بعض العلماء إلي أن هذا التركيز على التفكير الفلسفي قد يكون بسبب نقص الإغريق النسبي في الموارد الطبيعية والمواد التي منعتهم من تطوير المهارات العملية والتجريبية للمصريين. و من المحتمل أن الكثير من العلوم التي تعتبر الآن نتاجًا للثقافة اليونانية قد تم نقلها من مصر. مثل جميع أنواع الوصفات، وكيفية صنع اللؤلؤ الصناعي أو الأحجار الكريمة الاصطناعية، فهذه وصفات أقدم بكثير ترجع إلى التقاليد المصرية.

المصادر

1-Chemistry in the Time of the Pharaohs

2-Unwrapping ancient Egyptian chemistry

نابليون الشرق والمعركة الأولى في التاريخ

على الضفة الشرقية لنهر النيل وتحديدًا في شمال محافظة الأقصر جنوب مصر، حيث حرارة الجو، يقف الفرعون تحتمس الثالث على جدار صرحه في معبد الكرنك مرتديَا تاجه الأحمر، ممسكًا بيده اليسرى مجموعة من الأسرى ويهم بضربهم باليمنى، فيما يحيط بهذا المشهد المهيب نقوش وكتابات قديمة نقشت لتسجل إنجازات هذا الملك والمعركة الأولى في التاريخ.

نابليون الشرق كما يدعوه علماء الأثار تمكن من أن يجعل مصر في عهده أقوى إمبراطورية. لكن أبرز إنجازاته كان انتصاره على تحالف أكثر من 300 دويلة في معركة كانت من أولى المعارك المسجلة في التاريخ.

نابليون الشرق

لا نعرف بالضبط كيف ماتت حتشبسوت، لكن بعد وفاتها تسلم تحتمس الثالث السلطة واتجه بدايةً إلى أعدائه في الداخل حيث قضا على مناصري حتشبسوت، وهم العاملين في بلاطها، ثم أخذ بعد ذلك في القضاء على كل آثارها بصورة مروعة يشهد بشناعتها وعنفها ما أحدثه من الدمار في معبد الدير البحري، وهو المعبد المخصص لحتشبسوت، وبخاصةً في تماثيلها، هذا فضلا َّعما ألحقَه بسائر آثارها في كل أنحاء البلاد.

ولم يعترف تحتمس الثالث بحُكم حتشبسوت، بل جعل التواريخ تبتدئ بالسنة الأولى التي نُصب فيها حاكمًا لمصر عندما أعلنه الإله «رع» ووالده «تحتمس الثاني» ملكًا شرعيًّا على عرش مصر (١٥٠٤–١٤٥٠ق. م).

نقش في معبد الكرنك يظهر تحتمس الثالث يضرب أعدائه في معركة مجدو (مواقع التواصل)

 مصر أُم المشرق

لم تقم حتشبسوت في عهدها بأي حملة عسكرية بل اهتمت بالبناء والاصلاح الداخلي لكنها بالوقت نفسه حافظت على جاهزية قواتها. وقد كانت مصر مهيمنة اقتصاديًا وعسكريًا في تلك الفترة على مناطق المشرق القديم التي كانت تضم مدنًا من سوريا ولبنان وفلسطين اليوم.

خلال فترة انتقال الحكم إلى تحتمس الثالث، اعتبرت المدن المشرقية أن مصر ستمر بمرحلة ضعف واضطرابات، فأقامت هذه الدول تحالفًا وجمعت قواتها في مدينة 《مجدو-Meggido》 وأعلنت بدأ التمرد على مصر. (1)

إقرأ أيضًا: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

معركة مجدو

في سهل مرج ابن عامر شمال فلسطين حيث تمتد المساحات الخضراء بدون نهاية، تقع مدينة مجدو، وعلى بعد 30 كلم جنوب شرقي حيفا ترتفع المدينة على تل في موقع استراتيجي يتحكم بالطريق التجاري والعسكري الذي يخترق جبل الكرمل من السهل الساحلي. كما أن المدينة تربط مصر بسوريا ومن أجل نجاح هذا التمرد كان لا بد من الحفاظ على هذه المدينة.

قرر تحتمس الثالث أن وقت الانطلاق بالحملة هو بداية شهر نيسان سنة 1457. وشهر نيسان هو شهر حصاد القمح في مصر. أما هذا التوقيت الاستراتيجي للانطلاق فاستهدف انتهاء المزارعين المصريين من الحصاد واستعدادهم للقتال في الجيش المصري المكون من العمال والفلاحيين، ولضمان اشتراك القطاع الزراعي في مصر كان لا بد من الانتهاء من الحصاد أولا ثم الانطلاق للمعارك. (2)

سار الجيش المصري المكون من 10 ألاف مقاتل مسافة 220 ميلا في 10 أيام أي ما يقارب 20 ميلا في اليوم، واستقر في غزة ليوم كامل من أجل الراحة قبل الانتقال إلى مدينة 《يحم-Yehem》 التي تقع جنوب غربي مجدو وتبعد عنها حوالي 40 كلم حيث توقف تحتمس الثالث ليجتمع مع كبار الضباط. على طول الطريق المؤدي لمجدو. كانت العديد من المدن المشرقية التي لا تزال موالية لمصر تدعم الجيش بالجنود والعتاد. (2)

على مفترق طرق

في مدينة يحم وُضعت الخطة، أمام تحتمس ثلاث طرق: طريق وعر يمر بأرونا وهو طريق ضيق يسمح بمسير فردي، وطريقين جانبين يمكن عبورهما بسهولة وسرعة. وقد اختار الفرعون أن تعبر القوات في طريقها إلى مجدو عبر ممر أرونا Aruna الضيق والوعر. التزم الجنرالات فورًا بالقرار، وحثوا الجيش على السير بسرعة، فقد دخلوا الممر تقريبا الساعة 6 صباحًا، ربما تم تفكيك العربات وقاد الرجال الخيول في صف واحد للخروج في وادي كينا القريب من مجدو. (3)

وكما توقع تحتمس، لم يجدوا أيًا من الأعداء بانتظارهم في الواقع فإن التحالف المشرقي قد توقع أن المصريين سيسلكون إحدى الطريقين السهلين ووضع جنوده هناك لملاقاته.

استغرق الجنود ليعبروا الممر حوالي ست ساعات لكن عنصر المفاجأة الآن بيد المصريين.

حوالي الواحدة ظهرًا أمر تحتمس الثالث الجنود ببناء المعسكر في منطقة 《Qina Brook》 التي تقع جنوب مجدو ولا تبعد عنها كثيرًا، وبعد خروج آخر القوات من الممر وزع الطعام، وفي تلك الليلة تلقى تحتمس شخصيًا تقارير الحراسة وأصدر الأوامر بأن المعركة ستبدأ في اليوم التالي، ووزع قواته بحيث الجناح الجنوبي كان  على التل فوق 《Qina Brook》 والجناح الشمالي كان في الجهة الشمالية الغربية لمجدو. وقاد الملك شخصيًا الهجوم من الوسط.

كما في صراع العروش

بحسب النصوص انطلق تحتمس إلى المعركة فجر اليوم التالي بعربة من الذهب الخالص وبحماية الآلهة، وقد ارتعب الأعداء منه فهربوا تاركين عرباتهم وخيولهم متجهين نحو المدينة التي أغلقت أبوابها في وجوههم، لكنهم تمكنوا من دخول المدينة عبر الملابس التي علقت لهم كالحبال على أسوار المدينة. (4)

أما لائحة الغنائم فتتضمن 340 أسير، 2041 حصان، 924 عربة والعديد من الماشية التي تركت خارج الأبواب. (2)

يشير تقرير 《Tjaneni》 الكاتب العسكري الذي رافق تحتمس إلى أنه إذا كان الجيش قد طارد العدو الهارب عبر الميدان وقتلهم أثناء فرارهم، فإن المعركة كانت ستنتهي بشكل حاسم في ذلك اليوم. في حين أن الجنود قد تخلوا عن قلوبهم للاستيلاء على الغنائم في الميدان وسمحوا لخصومهم بالوصول إلى حرم المدينة (4).

أمر تحتمس الثالث بحفر خندق حول مجدو، وبناء حاجز خشبي حول الخندق المائي. ولم يُسمح لأي شخص من داخل المدينة بالخروج إلا للاستسلام. استمر الحصار سبعة أشهر على الأقل، قبل استسلام قادة التحالف وتسليمهم للمدينة. حيث تم تجريدهم من مناصبهم وعين مكانهم مسؤولين جددًا، موالين لمصر. وكما في مسلسل صراع العروش أخذ أطفالهم كرهائن إلى مصر لضمان حسن سلوكهم وموالاتهم. تم الإعتناء بالرهائن جيدًا وواصلوا العيش في مستوى الراحة التي اعتادوا عليها.  تم تعليم الأطفال الثقافة المصرية وعندما بلغوا سن الرشد عادوا إلى أراضيهم مع ضمان الولاء للملك المصري. (3)

على الرغم من انتهاء معركة مجدو إلا أن أصدائها بقيت تتردد عبر الأجيال، فكل قوة تحالف المشرق قد هُزمت على يد مصر، أما تل مجدو أو 《Har-Megiddo》  كما ورد في العهد القديم فقد ترجم إلى اليونانية وأصبح 《Armageddon》 ومنه تحولت المعركة الأولى في التاريخ إلى معركة نهاية الزمان في بعض المعتقدات الدينية والنصوص السرية.

المصادر

  1. Redford D. The wars in Syria and Palestine of Thutmose III. Leiden: Brill; 2003.
  2. Spalinger A. War in Ancient Egypt. Blackwell Pub; 2007.
  3. . Mark J. Thutmose III at The Battle of Megiddo [Internet]. Ancient History Encyclopedia. 2020 [cited 1 November 2020]. Available from: https://www.ancient.eu/article/1101/thutmose-iii-at-the-battle-of-megiddo/
  4. Pritchard J, Fleming D. The ancient Near East. Princeton, N.J.: Princeton University Press; 2011.

الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

يرزح الاقتصاد العالمي تحت ضغط كبير، وتجتاح الأزمات دول الشرق الأوسط. انهيار اقتصادي في لبنان وسوريا وحرب في اليمن، تدخلات تركية وإيرانية تأجج نيران الصراع في المنطقة. العراق يعيش حالة من الاضطراب واقتصاد اليونان في حالة يرثى لها. أليس هذا هو الحال في سنة 2021 ميلاديًّا؟ بلى، ولكن الوضع أيضا كان هكذا في سنة 1177 ق.م. منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفي عصر يدعى بالعصر البرونزي، حلَّ الانهيار الحضاري الكبير ، فانهارت حضارات منطقة البحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى. وبانهيارها غيرت مسار ومستقبل العالم إلى الأبد.

استمر العصر البرونزي في منطقة الشرق الأدنى، ومصر وبحر إيجة ما يقرب من ألفَي عام. من سنة 3200 ق.م تقريبًا إلى بُعَيْد سنة 1200 ق.م. قامت في هذه الفترة العديد من الممالك الصغيرة والإمبراطوريات الكبيرة التي سيطرت على منطقة الشرق الأوسط. أسست نظمها وسياساتها الخاصة، وتشابكت العلاقات فيما بينها عبر طرق تجارية دولية واسعة حتى دعيت تلك الفترة بأول فترة أممية. إن أول ظهور للعولمة كما نعرفها اليوم قد بدأ منذ ذلك الحين. لكن وبعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهى الحال بغالبية أقاليم البحر المتوسط إلى نهاية مأساوية. فسرعان ما انهارت الامبراطوريات الكبيرة والممالك الصغيرة، وانهار معها النظام العالمي. مخلفًا سنوات من الظلام قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في المناطق المتضرِّرة، ممهدة الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.(1)

لسنوات عديدة وجهت معظم الأبحاث الأثرية التي درست هذا الانهيار وأسبابه أصابع الاتهام نحو شعوب البحر، اتهموا بأنهم قد اجتاحوا هذا العالم القديم ودمروه، فمن هم هؤلاء الشعوب؟

البداية والنهاية

في العام 1177 ق.م. وفي السنة الثامنة لحكم الفرعون المصري رمسيس الثالث وفي وقت واحد تقريبا بدأت عدة معارك برية وبحرية في دلتا مصر أو بالقرب منها. هاجمت قوات شعوب البحر الجيش المصري الذي كان في انتظارها. يوجد احتمال أن هذه المعارك كانت تمثل كمائن أخذ فيها المصريون أعدائهم على حين غرة أو أنها معركة واحدة طويلة، لكن ما هو مؤكد أن المصريين قد انتصروا فيها.

في معبده الجنائزي في مدينة هابو بالقرب من مدينة الأقصر حاليًا يمثل رمسيس الثالث معركته مع شعوب البحر بعدة جداريات ونقوش، وقد كتب بإيجاز في أحد هذه النصوص:

أعدَّت البلاد الأجنبية مؤامَرةً في جُزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمَّروها في خضمِّ المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يَصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دُفعةً واحدة. [لقد أقاموا] معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرضٍ خَرِبة لم يكن ثمَّة وجودٌ لبشرٍ عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدُّم صوب مصر، بينما كانت النارُ مُعدةً لهم. كان تحالفُهم يتكوَّن من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانًا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقةً وموقنةً بالنصر.(1)

يعطي هذا النقش العديد من المعلومات عن شعوب البحر. وكان يعتبر بالإضافة لباقي النقوش المصرية الدليل الأساسي لاجتياح شعوب البحر للعالم القديم وتدميره في أواخر عصر البرونز.

شعوب البحر

شعوب البحر، هو الاسم الذي أطلقه الباحثون عليهم اليوم، لكن المصريين القدماء لم يستخدموا هذا المصطلح أبدًا. عوضًا عن ذلك ححدوا هويتهم باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معًا: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا، والويشيش. وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.

أسماء هؤلاء الشعوب ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو. على هذه الجدران تظهر دروع الغزاة المستديرة، وأسلحتهم، وملابسهم، وقواربهم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين قد قارنوا بين الدروع والسفن في هذه الرسوم مع ما يشبهها في حضارات العالم القديم بحثًا عن أصل هذه الشعوب.

نقش يمثل معركة رمسيس الثالث مع شعوب البحر (مواقع التواصل )

على رؤوسهم ريش

بالنسبة لأشكالهم يظهرون في الرسوم وهم يرتدون قبعات من ريش على رؤوسهم، أو بأغطية رأس على شكل جماجم أو ذات قرون، كما يظهر بعضهم بلحية قصيرة مدببة وبإيزار قصير، وبعضهم الأخر بملابس طويلة تكاد تشبه التنانير. يشير هذا الاختلاف في الشكل واللباس إلى أن هذه الشعوب كانت من مناطق جغرافية وثقافات مختلفة.

لقد استعمل الغزاة القوارب التي تشبه مقدماتها رؤوس الأحصنة وهذا النمط كان منتشرا في حضارة بحر إيجة، كما استعملوا مركبات تجرها الثيران. قاتلوا بسيوف برونزية حادة واستعملوا رماح برؤوس معدنية وأقواس وسهام. أما دروعهم فكانت دائرية الشكل وهذا النمط كان منتشرًا أيضا في حضارة بحر إيجة. لقد جاء الغزاة في موجات وعلى مدى فترة طويلة من الزمن فهل أتوا من الفراغ؟

نقش يظهر أشكال شعوب البحر (مواقع التواصل )

أراضي خلف البحار

لم تترك المجموعات الست المنفصلة التي كوَّنت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو أي نقوش تدل على أصلها. كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجة في العصر البرونزي. أما الشيكليش فقد أتوا من جزيرة صقلية الحالية. والشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادًا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كلٍّ من الحالتَين. ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات. توجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرَّا فحسب إلى منطقتَي صقلية وسردينيا، ومنَحا اسمَيهما لهاتَين المنطقتَين، بعد هزيمتهم على يد المصريين.

ما علاقة فلسطين بكل هذا؟

من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يحدد الباحثون على نحو مؤكَّد سوى مجموعة واحدة فقط. اعتبر الباحثون أن الفلستيون من شعوب البحر ليسوا سوى الفِلَسْطِينِيِّينَ، الذين حدِّد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت. يبدو هذا واضحا من تشابه الاسماء وبالإضافة إلى هذا التحديد  نشر فريق من العلماء سنة 2019 ورقة بحثية في مجلة ساينس ادفانس اعتمدوا فيها على تحليلات الحمض النووي لتحديد أصول الفلستيين. اختاروا للبحث أكثر من مئة رفات من مدينة عسقلان تعود للفترة الانتقالية بين عصر البرونز والحديد. 10 عينات فقط أعطت كميات كافية للتحليل. وقد بينت النتائج أنه في أوائل العصر الحديدي أو نهاية العصر البرونزي حصل تغيير في التركيب الجيني لسكان المنطقة في فلسطين مع وجود جينات من أصل أوروبي في رفات بعض العينات، وهذا ما يتناسب مع الوقت الذي كان مقترحًا لوصول الفلستيين إلى الساحل المشرقي.(2)

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

غزو عالمي

يعتقد الباحثون اليوم أن شعوب البحر كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فأنهم أقاموا معسكرًا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية، ولبنان، وفلسطين) وإلى دلتا نيل مصر.

هاجمت هذه الشعوب دول العالم القديم في فترات زمنية مختلفة انتقلوا برًا من يونان إلى تركيا اما بحرًا فقد هاجموا الحضارة الميسينية حوالي سنة 1210-1200 ق.م. ثم انتقلوا إلى جزيرة كريت ومنها هاجموا قبرص ثم السواحل المشرقية سنة 1192-1190 ق.م. ثم انتقلوا إلى ديلتا مصر سنة 1177 ق.م.

في مدينة أوغاريت في سوريا عثر العلماء على لوح طيني منقوش عليه رسالة من ملك أوغاريت في شمال سوريا إلى ملك جزيرة قبرص:

  أبي الأن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في  مدني وألحقوا بالبلد الأذى. ألا يعرف أبي أن كل الرجال المشاة خاصتي ومركباتي الحربية متمركزون في خاتي، وأن كل سفني متمركز في أرض اللكا؟ أنهم لم يعودو بعد، لذا فالبلد ليس له حماية. فليكن أبي لى علم بها الأمر. الأن سفن العدو التي كانت اتية  قد ألحقت بنا الكثير من الضرر. وإذا كانت سفن أخرى ستظهر. فإعلمني بطريقة ما.

لا  نعلم اذا كانت هذه الرسالة قد وصلت  إلى وجهتها او لا لكن أوغاريت قد تدمرت كليا سنة 1190 – 1192 ق.م وهذا ما أظهرته دراسة حديثة.(3)

أما على ساحل المشرق الجنوبي فقد أسست هذه الشعوب ثلاثة مدن هي 《غزة – Gaza》و《 أشدود – Ashdod》و 《عسقلان – Ashkelon》و 《جاث – Gath》و《 عقرون – Ekron》

المناطق التي هاجمها شعوب البحر (مواقع التواصل )

غزاة أم لاجئون؟

نسب الباحثون السابقون كل الدمار الذي وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر. لكن قد يكون من المبالغة أن يلقوا بلائمة نهاية العصر البرونزي برمتها عليهم. فهم بذلك يمنحون تلك الشعوب قدرًا لا تستحقُّه من الأهمية، إذ إننا لا نَملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تُعطي انطباعات متضاربة. هل توجَّهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيًّا؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المُغيرين المنظَّمين تنظيمًا ضعيفًا، مثل الفايكينج الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرُّون هربًا من كارثة؟

لم يعد هناك يقين أن كل المواقع التي يوجد دليل على تدميرها قد دُمِّرَت على يد شعوب البحر. فيمكن للباحثين مثلا أن يستنتجوا من الأدلة الأثرية أن موقعًا ما قد تعرَّض للتدمير، ولكن لا يستطيعوا دومًا أن يستنتجوا السبب أو الفاعل. علاوة على ذلك، فإن المواقع لم تُدمَّر كلها على نحو مُتزامِن، ولا حتى بالضرورة في خلال نفس العقد من الزمن.

تشير الأدلة المتوفرة حاليًا إلى أنه من المرجح أن شعوب البحر ليسوا الفئة الوحيدة التي تقع عليها اللائمة في ذلك. يبدو مرجحًا الآن أن تلك الشعوب كانت الضحيةَ بقدر ما كانت المُعتدية في مسألة انهيار الحضارات. تقترح إحدى الفرضيات أن تلك الشعوب أُجبِرَت على الخروج من أوطانها جراء سلسلة من الأحداث المأساوية وارتحلت شرقًا حيث صادفت مَمالك وإمبراطوريات كانت بالفعل آخذةً في الانحسار. من المحتمَل جدًّا أيضًا أن السبب تحديدًا في قدرتها على مهاجمة الكثير من ممالك المنطقة والقضاء عليها في نهاية الأمر هو أن تلك الأنظمة الملَكية كانت بالفعل آخذةً في الانحسار وفي حالة ضعف لسبب أو لعدة أسباب أخرى سنتكلم عنها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

المصادر

  1. https://press.princeton.edu/books/paperback/9780691168388/1177-bc
  2. https://advances.sciencemag.org/content/5/7/eaax0061
  3. https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0020232

Exit mobile version