خمسة أفكار فلسفية في أنمي هجوم العمالقة، فما هي؟

هذا المقال خالي من حرق أي أحداث في القصة، فلا تقلق من قراءته إن لم تشاهد الأنمي بعد. إن هجوم العمالقة هو مسلسل أنمي خيالي سوداوي ياباني، يستكشف مجموعة متنوعة من الأحداث والأفكار الفلسفية المتضمنة. وقد حاز على تقييم 9 من 10 على موقع imdb حتى لحظة نشر هذا المقال وهو ما يجعله ضمن أعلى 10 مسلسلات في تاريخ الموقع.

نشرت حلقته الأخيرة في 4 نوفمبر 2023، أي بعد حوالي 10 سنوات من أولى حلقاته. ونستعرض في هذه المقالة خمسة أفكار فلسفية رئيسية استعرضها هجوم العمالقة، فما هي؟

1. طبيعة الحرية

تصارعت الشخصيات في أنمي هجوم العمالقة “Attack on Titan” باستمرار مع مسألة ما إذا كانوا أحرارًا حقًا. رغم أنهم محاصرون داخل جدران تحميهم من العمالقة، لكن هذه الجدران تحِد أيضًا من حريتهم. وعندما عرفوا المزيد عن العالم خارج الجدران، بدأوا في التساؤل عما إذا كانوا أفضل حالًا حقًا في الداخل. ذلك التناقض عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو في مقولته:

“يولد الانسان حرًا، ولكنه مكبل بالاغلال في كل مكان”

جان جاك روسو

يسلط هذا الاقتباس لجان جاك روسو الضوء على التناقض المتأصل بين الطبيعة البشرية وقيود المجتمع. تمامًا كما تكون الشخصيات في هجوم العمالقة محصورة جسديًا داخل الجدران، فهي أيضًا مقيدة نفسيًا بمخاوفهم وأحكامهم المسبقة.

تبدو تلك الرغبة والتساؤلات مشابهة لما يدور ببال الكثيرين منا، ممن يظنون أن الانعزال حلًا يضمن حريتهم. فيختارون ترك محيطهم ويبنون الأسوار حول أفكارهم ومعتقداتهم ظنًا منهم أنها تحمي حريتهم، لكنها في حقيقة الأمر تحبسهم داخلها. لكن ما يفاجئنا به الأنمي أن أبطاله لم يجدوا الحرية بمفهومها المطلق لا خارج الأسوار ولا داخلها لتبدو نسبية المفهوم أكثر واقعية. وكأن الحرية مثلها مثل السعادة، شعور مؤقت لن يلبث أن يزول مع أول تهديد.

2. دورة العنف

عالم هجوم العمالقة “attack on titans” مليء بالعنف، وتسقط الشخصيات باستمرار في دائرة من الانتقام لا تنتهي. هم يرون العنف شرًا ضروريًا لحماية أنفسهم من العمالقة، ولكنه يؤدي أيضًا إلى المزيد من العنف. إنهم يكافحون من أجل كسر هذه الحلقة وإيجاد طريقة للعيش في سلام. حتى تصل أفكار العنف إلى قمتها في الموسم الأخير وتتصاعد إلى منتهاها بكم هائل من الضحايا فيفقد السعي إلى السلام معناه.

“من يعرف سببا يعيش لأجله، يستطيع تحمل العيش بأي طريقة.”

الفيلسوف فريدريك نيتشه

يشير هذا الاقتباس لفريدريك نيتشه إلى أن إيجاد الهدف في الحياة يمكن أن يوفر القوة لتحمل حتى أصعب الظروف. الشخصيات في هجوم العمالقة، مدفوعين برغبتهم في حماية أحبائهم والتحرر من الاضطهاد، يجدون العزاء في النضال من أجل البقاء. وقد تحملوا في سبيل ذلك الدخول في دائرة العنف رغم مشاركة بعضهم في بدئها من جديد بمجرد كسرها. من الهجوم الأول وحتى الحلقة الأخيرة، تتكر دوامات العنف، فيمارس العنف من يُمارس عليه العنف ويقحم آخرين في دائرة جديدة من الانتقام وهكذا.

لكن العنف المؤدي للسلام بالكاد يسمى سلامًا حتى، وهذه الدائرة نراها يوميًا في صراعات الشعوب والحضارات وعلى شاشات الأخبار. تحارب القبائل الأفريقية بعضها البعض سعيًا إلى سلام لن يتحقق إلا بإبادة إحداها للأخرى، فهل هذا سلام حقًا؟ سعى المستعمرون الأوروبيون إلى إبادة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية من أجل السلام، فهل ما حققوه هو السلام بالفعل؟ ألم يختر من أبادوا السكان الأصليين، إبادة قريتي هيروشيما ونجازاكي في سياق آخر وبعد قرون من الحالة الأولى؟ هل ينسى القاتل جريمته؟ وهل سينساها العالم؟ وكيف سيتعايش معها؟ أسئلة صعبة يعجز عقل من يدخل دائرة العنف في إيجاد إجابة لها، لكن ربما وجدها إيرين ييغر في نهاية القصة.

3. طبيعة الحقيقة

الشخصيات في هجوم العمالقة يتم الكذب عليهم والتلاعب بهم باستمرار. إنهم غير متأكدين أبدًا مما هو صحيح وما هو خطأ، وهذا يصّعب عليهم اتخاذ قرارات مستنيرة. فيتعلمون بمرور الحلقات أن الحقيقة نسبية وأن لكل شخص وجهة نظره الخاصة. قد تبدو مواقف كل شخص أخلاقية وسليمة تمامًا، وقد تبدو غير أخلاقية وكارثية للطرف الآخر.

“أنا أفكر، إذن أنا موجود”

الفيلسوف رينيه ديكارت

تشير هذه العبارة الشهيرة لرينيه ديكارت إلى مركزية الوعي في فهمنا للواقع. وكما تشكك الشخصيات في هجوم العمالقة في تصوراتهم للعالم، فقد تحدى ديكارت فكرة الحقيقة الموضوعية، مشيرًا إلى أن أفكارنا وتجاربنا هي أساس معرفتنا.

تسير كمشاهد مع شخصيات القصة وفي كل جزء تكتشف عالم أوسع ويزيد وعيك مع كل حلقة وشعورك بمدى تعقد الحقيقة. هذا تحديدًا ما قصده ديكارت بمركزية العقل، فما تراه وتسمعه تعتقد أنه الحقيقة، ولن تعرف الحقيقة إلا بمعرفة المزيد والمزيد. وستظل الحقيقة نسبية وغير مكتملة طالما لم تعرف كل جوانب القصة. وقد ظلت حقيقة أغلب أبطال القصة تقريبًا غير واضحة حتى الحلقة الأخيرة.

4. أهمية التعاطف

غالبًا ما كانت الشخصيات في هجوم العمالقة مدفوعة بالكراهية والانحياز. إنهم يرون العمالقة على أنهم وحوش، والناس خارج الجدران كأعداء، ويرون أنفسهم كمظلومين. ومع ذلك، فقد تعلموا أيضًا أن العمالقة ليسوا جميعًا أشرار، وأن الأشخاص خارج الجدران مثلهم تمامًا. ذلك التدرج جعلهم يبدأون في فهم أهمية التعاطف مع الآخر. أن تضع نفسك مكان خصمك وتعرف كيف يفكر وكيف يشعر هو أمر لا غنى عنه للبشرية.

“الطريقة الوحيدة لفهم شخص آخر هي أن ترتدي جلده وترى العالم من خلال عينيه.”

الكاتبة هاربر لي

يؤكد هذا الاقتباس لهاربر لي عن روايتها “أن تقتل عصفورا محاكيًا” على أهمية التعاطف في تعزيز الروابط الهادفة. في هجوم العمالقة، تتعلم الشخصيات تدريجيًا كيفية التغلب على انحيازاتها والتعرف على إنسانية الآخرين. حتى أولئك الذين اعتبرونهم أعداء في البداية، تدور الأحداث ويكتشفون كيفية فهمهم والتعاطف معهم.

لا تخلو القصة من تناقضات التعاطف أيضًا، فقد تعاطف الضحايا مع جلاديهم أحيانًا فيما يعرف باسم متلازمة ستوكهولم. كان هذا التناقض أحد محاور القلق والخلط للمشاهد في بعض الأحيان، لكن لم يعيق ذلك الشخصيات فيما بعد عن إدراك حقيقتهم.

5. البحث عن معنى الحياة

غالبًا ما تواجه الشخصيات في هجوم العمالقة الموت واليأس. إنهم يتساءلون عن معنى الحياة في عالم قاسٍ للغاية ولا يرحم. ومع ذلك، فإنهم يجدون أيضًا القوة في علاقاتهم مع بعضهم البعض وفي كفاحهم من أجل البقاء. يتعلمون أن الحياة ثمينة وأنها تستحق القتال من أجلها.

“بحث الإنسان عن المعنى هو الدافع الأساسي في حياته.”

عالم النفس فيكتور فرانكل

نجا فيكتور فرانكل، من أهوال معسكرات الاعتقال، فسلط الضوء في هذا الاقتباس على الدافع البشري لإيجاد المعنى في الوجود. الشخصيات في هجوم العمالقة، على الرغم من مواجهة اليأس والخسارة، تكتشف الهدف في كفاحها باستمرار، وتجد القوة في روابطها مع الآخرين وتصميمها على خلق مستقبل أفضل. حتى من خلال التدمير، سواء مارسوه هم أو مورس عليهم، في كل الأحوال يبحثون عن المعنى كآلية دفاعية تضمن سلامتهم النفسية وبقاءهم.

إليكم ملخص كتاب بحث الإنسان عن معنى (الجزء الأول)

ما ستشاهده في هجوم العمالقة سيدفعك للتفكير كثيرًا في كيف بدأت كل شخصية في ذلك المسار المظلم الذي سلكته. ستتعجب في النهاية وستتساءل عمن كانوا الأخيار في البداية ومن كانوا الأشرار. وستجد أن الجميع امتلك المعنى ولكن ذلك المعنى ظل يتغير بتغير الأحداث والمواقف ودفعه لمسارات متشابكة مع الآخرين.

تلك كانت مجرد أمثلة من بعض الأفكار الفلسفية المقدمة في هجوم العمالقة. إن المسلسل عمل معقد ومثير للتفكير وسيبقى معك لفترة طويلة بعد الانتهاء من مشاهدته.

فلسفة القانون النسوية

فلسفة القانون النسوية

فلسفة القانون النسوية تدرس تأثير الهيمنة الذكورية على الأنظمة القانونية. تجمع بين الأبعاد النسوية في المعرفة والميتافيزيقا العلاقية والنظريات السياسية والأساليب الفلسفية لفهم كيف تفرض المؤسسات القانونية أنماط الجنس. تعتمد فلسفة القانون النسوية المعاصرة أيضًا على نظريات حقوق الإنسان الدولية ونظريات العرق النقدية ووجهات نظر أخرى متخصصة. تهدف هذه الفلسفة إلى تطوير النظريات، وتحليل المفاهيم، وإعادة تعريف أدوار الجنس والمساواة، لتحقيق المساواة بين الجنسين في القانون. تغطي هذه المجال مجموعة متنوعة من المواضيع في منشورات مختلفة، بدءًا من مجلات الفلسفة إلى دراسات النوع ومراجعات القانون. يتناول المقال مواضيع أساسية في نظريات القانون النسوي ويسلط الضوء على الحاجة إلى تغييرات مؤسسية في مجموعة من المجالات مثل المساواة السياسية، والهجرة والجنسية، والزواج، وحقوق اللإنجاب والحماية من العنف، وحقوق الاقتصاد.

مفاهيم رئيسة في فلسفة قانون النسوية:

النسوية القانونية تسلك مناهج متنوعة, راديكالية, ماركسية, ما بعد استعمارية وغيرها وتركز على مسائل مثل الحرية, المساواة, الهيمنة, الاختلاف والتنوع. المساواة في الحقوق والحريات والواجبات بين كلا الجنسين تعتبر ركيزة أساسية في فلسفة قانون النسوية.

مبدأ سيادة القانون:

هذا المبدأ يشير إلى الحياد القضائي وتطبيق القانون على الجميع والتناغم والاستفرار في الخطاب القانوني. تعارض النسوية القانونية هذا المبدأ لكونه يحافظ على الوضع الراهن والهياكل القانونية التقليدية التي وضعتها العقلية الذكورية. تجادل فيلسوفات القانون النسويات أن هذا النهج يجعل التحيز النظامي غير مرئيًا ومتجذرًا، وصعب التعرف عليه ومكافحته. التحيز النظامي هذا لا يؤثر على رأي القانونيين بل الضحايا أيضًا, ذلك لأن الضحية نفسها تفهم القانون بدلالتها التقليدية. طبقًا للنسوية القانونية فأن القوانين أوجدها الرجال, أو العقل الذكوري, بالتالي فأن عدم المساواة متجذر فيه. كما أن القانون يعكس ديناميات السلطة داخل المجتمع. حيث الرجال والنساء في مواقف غير متساوية تاريخيًا, فالمرأة تم تصويرها دائما كتابع.

المساواة والإختلاف:

لا تنكر النسوية القانونية وجود اختلافات بين الذكور والإناث, لكنها بيولوجية وليست أنطولوجية. فالنسوية القانوينة تأخذ على عاتقها تحقيق المساواة بين الجنسين أمام القانون وإلغاء التصورات النمطية التي كونها الذكور عن الإناث. لكن هذه الاختلافات البيولوجية يمكن تفسيرها تفسيرًا انحيازيًا, لهذا فأن التعامل مع هذه الاختلافات يضع النسوية القانونية في معضلة, ذلك أن هذه الاختلافات قد تؤدي بالمساواة. ترى النسوية القانونية أن الفرق/الاختلاف هو تقييم واقعي والمساواة هي معيار سياسي أو أخلاقي. وبالتالي، يجب أن تتطور النقاش بين مفهومي الهوية والاختلاف للتركيز على فهم وتحقيق المساواة.

المعقولية في القانون:

ترى فيلسوفات القانون النسويات أن المعقولية القانونية تتضمن أنماط ذكورية, سواء القانون الجنائي أو قانون العقود والاضرار وغيرها من القوانين. هذه القوانين تقوم على مفهوم “الرجل المعقول السوي” وهذا يعكس المنظور الذكوري في معقولية القانون. وفقًا لفلسفة القانون النسوية فأن معقولية القانون جاءت من فهم وتفسير الذكوريين لـ “المعقول” لهذا فأن الرجل هو المعيار للسوي وغير السوي وبالتالي للمعقول وغير المعقول.

العام والخاص:

فلسفة القانون النسوية تتناول موضوع التمييز بين القطاعين العام والخاص كموضوع مركزي. الليبراليين، بما في ذلك النسويين الليبراليين، يدافعون عن الحفاظ على مجال حياة خاص يجب أن يكون مخصصًا لاختيار الفرد. ومع ذلك، ترى النسويين الراديكاليين أن الهيمنة الذكورية والسيطرة الجنسية تتسللان إلى العلاقات الخاصة، مما يجعل من الصعب تمييز الأفعال التي تؤثر أساسا على الفرد عن الأفعال التي تؤثر على الآخرين بشكل أوسع. إن الهياكل القانونية التي تسمح بالهيمنة أو تعززها داخل العلاقات الحميمة هي مشكلة عميقة ويجب أن يتم تجاوزها. الجدل يمتد إلى قضايا مثل الدعارة، حيث يعتقد بعض الليبراليين أنه يجب تشريع الدعارة الطوعية بالقانون. بينما يجادل آخرون، بما في ذلك النسويين، بأنها قد تمكن لاحقاً عمليات الاتجار بالبشر. نقاشات النسويين تتعمق أيضا في حدود التمييز بين القطاعين العام والخاص في مجالات متنوعة مثل التكاثر والأسرة وأنماط العمل والعلاقات الجنسية والعنف الأسري، مع مناقشة تفاصيل إضافية في الأقسام اللاحقة.

حقوق الإنسان:

إقرأ أيضًا التمييز في الأجور بين الرجال والنساء يمنح كلوديا جولدين جائزة نوبل في الاقتصاد

تقدر الفيلسوفات النسويات التغيرات التي حدثت فيما يخص التعامل مع قضايا المرأة. بيد أنهن يعتبرن بأن التزامات حقوق الانسان في بعض الأماكن سطحية, فبعض القوانين التقليدية ما زالت سارية في بعض الدول. هناك جدل نسوي بشأن دور الحقوق. بعضهن، مثل اللواتي ينتمين إلى حركة الدراسات القانونية النقدية، يرون أن الحقوق يمكن أن تخفي ديناميات القوى المخفية. بينما يُجادل البعض الآخر، مثل نظريات العرق النقدية، بأن بعض النسويات تغفل عن أصوات النساء الأمريكيات من أصل أفريقي وأن الحقوق يمكن أن تكون ضرورية لحماية ضحايا التمييز والقمع. وتدور مناقشات مماثلة حول الحقوق في القانون الدولي، حيث تدعم النسويات الليبراليات الاعتراف الدولي بحقوق الإنسان، بينما ينتقد النظريون النقدية وبعض النسويات من البلدان النامية القانون الدولي والانحياز الهيكلي للحقوق وكذلك قناعة أن الحقوق تخفي القمع.

التعدد المنهجي:

فلسفة القانون النسوية تستند إلى منهجيات متعددة، بما في ذلك النسوية الإبستيمولوجية والميتافيزيقا العلاقية والواقعية القانونية ونظرية التداخل. إنها تتناول قضايا مثل الظلم الشهادي والظلم التأويلي، مسلطة الضوء على كيفية تأثير الصور النمطية للجنس والعرق على الإعتمادية. كما أنها تؤكد على أهمية فهم التجارب الحياتية في السياقات القانونية، وتتحدى الافتراضات الجوهرية حول أدوار النساء، وتنتقد الشكلية في تحليل القانون. بالإضافة إلى ذلك، تبحث في مجال التداخلية، التي تعترف بتداخل معقد بين فئات اجتماعية متعددة (مثل الجنس والعرق والطبقة) في تشكيل تجارب الأفراد وكيفية تفاعلهم مع القانون. هذا النهج يساعد على كشف التفاوتات الخفية ويوفر فهمًا أكثر تعقيدًا لمسائل قانونية متنوعة، مثل العنف في السجون.

المساوة الشكلية والمواطنة المتساوية:

حركة نساء منتصف القرن العشرين، المعروفة بنسوية الموجة الثانية، هدفت إلى تأمين حرية النساء والمواطنة المتساوية لهن. بينما كانت المساواة السياسية للنساء في البداية فكرة جريئة، إلا أنها أصبحت مقبولة على نطاق واسع في العديد من المجتمعات. ومع ذلك، في بعض الثقافات، تواجه النساء لا تزال قيودًا في مجالات مثل التصويت والتعليم والحقوق الإنجابية. تدافع القانونيات النسويات عن مشاركة النساء في الساحة العامة، معتبرات أن عدم المساواة في المواطنة غير عادلة. إطارات حقوق الإنسان الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، كانت حاسمة في تعزيز حقوق النساء على الصعيدين الوطني والعالمي. قامت العلماء القانونيين النسويين بالعمل على مسائل نسائية متنوعة واستخدموا المنصات الدولية لتعزيز الحوار والبحث.

بالإضافة إلى المواطنة المتساوية، تنتقد النسويات الهياكل القانونية والسياسية التي تفرض أعباء زائدة على النساء والأطفال الذين يسعون للمواطنة في بلدان أخرى. جهود العلماء النسويين قامت بتعميم قضايا النساء على الصعيدين الوطني والعالمي، مما أثر على الإصلاحات القانونية في مختلف الدول. ومع ذلك، تبقى تنفيذ القوانين والمعاهدات تحديًا، حيث قد لا يتم تنفيذها أو تتعارض مع العادات المحلية. وبالإضافة إلى ذلك، ما زال معنى المواطنة المتساوية قيد النقاش، مع أسئلة حول ما إذا كان يجب أن يتجاوز المساواة القانونية الشكلية. تلامس هذه النقاشات مسائل مثل تداخل التمييز والاختلافات الثقافية، وعلاقة معايير حقوق الإنسان بالعادات المحلية.

الزواج والإنجاب والعنف:

تسعى النسوية القانونية لتحقيق المساواة داخل المؤسسة الزوجية, وكذلك تطبيع الزواج المثلي ومواجهة التحديات الدينية والثقافية. رغم شرعنة الزواج المثلي, بيد أن هناك مشاكل أخرى يواجهها هذه الفئة, مثل تعامل الآخرين معهم (صاحب الدار مثلا) وهذا يحتاج حماية قانونية. كما أن حق الانجاب والاجهاض من المسائل المهمة في هذه الفلسفة. الرؤية التقليدية ترى في المرأة كشيء يملكه الرجل ويمكنه أن يتصرف بجسدها كما يشاء. لذلك فأن النسوية القانونية تدعو إلى تدخل القانون في هذه المسألة, حيث أن المرأة هي وحدها تمتلك جسدها وهي حرة فيها, حيث أن الحرية غير ممكنة مع اقصاء الجسد.

ترى النسويات بأن النساء ما زلن يعانين كثيرًا, ويواجهن العنف من الشريك والأقارب والأصدقاء, وفي معظم الحروب والأزمات تصبح النساء هدفًا للعنف. ورغم الاصلاحات القانونية الكثيرة في مصلحة النساء, إلا أن المرأة ما زالت هي الضحية, ويقتضي ذلك تفعيل قوانين حماية المرأة بشكل أكبر.

المصدر:

https://plato.stanford.edu/entries/feminism-law/

ما هي الحداثة وماذا نعني بالحركة الحداثية؟

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت حركة فنية وأدبية انفصلت عما سبقها من الأشكال التقليدية في كافة الفنون. وخلقت توجهاتُها الجديدة تغييراتٍ جذرية في كيفية تصوير الحياة. طالت هذه التغييرات جوانب الموسيقى والفن والهندسة المعمارية وغيرها من المجالات الفكرية. وتميزت هذه الحركة برفضها لكل ما سبقها من حركات لأنها لم تعد تستطيع التعبير عن المجتمع المعاصر بدقّة وصدق من منظور مؤسسيها. وأصبحت هذه الحركة تعرف بالحداثة أو الحداثية (modernism). وأعطت اسمها للعصر الذي تطورت فيه، إذ سادت أكثر الأمر في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وتقريباً حتى منتصف القرن العشرين [1].

ولدى العودة إلى أصل التسمية modernism، نجد أنها مشتقة من الكلمة اللاتينية modo والتي تعني “الآن”. وتمثل هذه الحركة ثورة على ما رسّخه القرن التاسع عشر من مبادئ الوطنية والحكمة الثقافية المطلقة. وكانت تلك المبادئ، خاصة في عصر الملكية فيكتوريا في إنكلترا، مبنية على أسس تقليدية، وانعكست على الفن والهندسة المعمارية والأدب والإيمان الديني والتنظيم الاجتماعي والحياة اليومية. لكن كل ذلك بات قديمًا باليًا في عصر الحداثة الصناعي [2].

الوصول إلى عصر الحداثة

الحركات السابقة

كان تأثير الحرب العالمية الأولى كبيراً في تمايز عصر الحداثة وتبلور أفكاره. فقد أثرت نتائج الحرب المدمرة وأهوالها على المفكرين وجعلتهم يعيدون النظر في الوجود الذي كانوا يظنون أنه مستقرٌ وهادف. وكان لهذه النظرة الجديدة بذور خصبة وضعها مفكرو نهاية القرن التاسع عشر كداروين وماركس ونيتشه وفرويد. ويمثل هؤلاء أعلاماً في مجالاتهم المختلفة بأفكارهم الثورية التي هزت مبادئ سابقة كانت ثابتة في أذهان الناس [3].

عند العودة بالزمن إلى الوراء قليلًا، بدت المرحلة المبكرة من عصر التنوير (Enlightenment) في القرن السابع عشر وإلى الثورة الفرنسية والصناعية في القرن الثامن عشر فترة سيادة للمنطق في العلوم المختلفة، واكتشاف العوالم الجديدة، وتسخير الطبيعة ومواردها لخدمة البشر ومتطلباتهم. واستطاعت النخبة من المفكرين والفنانين – عموماً – إيجاد توازن بين الإيمان بالله من المنظور الديني، وما توصلت إليه العلوم المختلفة من نظريات جديدة [3].

ثم أتى العصر الرومانسي (Romanticism) الذي تلى الثورة الفرنسية وسيطر على جزء كبير من القرن التاسع عشر ليولي اهتماماً أكبر للعواطف على حساب المنطق، وليقدّس الفرد على حساب الجماعة. وكان هذا نتيجة للتغيرات السياسية التي أعطت للشعب قوة أكبر في اختيار قادتهم [3].

ثم كان للمذهبين الواقعي والطبيعي بعض الأفكار المختلفة التي رفضت مثاليات الرومانسية وتفضيلها للفرد. فركزت الواقعية (Realism) على تمثيل الواقع في الفنون كما هو فعلاً، بعيداً عن المثاليات في نقل التجارب وتصوير الشخصيات البشرية. في حين لجأت الطبيعانية (Naturalism) إلى مراقبة أثر العوامل البيئية والاجتماعية والوراثية على الأفراد، ودراسة الطبيعة البشرية دراسة موضوعية بمبادئ علمية [3].

الأسس الفكرية للحداثة

عندما أتى عصر الحداثة، كان التركيز الأكبر على الغوص في أعماق التجارب والشخصيات البشرية بعد إدراك أن ما تم تصويره سابقاً لم يتجاوز السطح الظاهر للحقيقة. ويعود الفضل في هذا لدراسات سيغموند فرويد (1856-1939) في التحليل النفسي. إذ تحدث فرويد عن اللاوعي البشري وما يخبئه من مكنونات قد تظهر في الأحلام على سبيل المثال. ثم لا ننسى نظرية التطور التي فجرها تشارلز داروين (1809-1882) وما قدمه من أفكار الاصطفاء الطبيعي. فقد تحدى بها المعتقدات الدينية السائدة آنذاك، والتي كانت تنص على تفوق البشر على غيرهم من المخلوقات. أما بالنسبة لفريدريك نيتشه (1844-1900) فقد عبر بفلسفته عن شكوكه ورفضه للتعاليم الدينية المسيحية التي كانت راسخة عند الناس. إذ رأى أنها تستغل الضعفاء والمتواضعين بحجة النعيم المنشود. وهذا ما نجده أيضاً لدى كارل ماركس (1818-1883) ولكن في سياق مختلف قليلاً. فقد عبر عن رفضه لهيمنة الرأسمالية، ورفع راية الطبقة العاملة على أنها الطبقة المسحوقة التي يستغلها الأغنياء لتلبية خدماتهم [3].

كل هذه الأفكار التي غزت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العرشين شكّلت أساساً قوياً لثورة المفكرين على ما كان يُعتقد أنه مبادئ ثابتة فيما مضى. وزاد على ذلك حالة الاضطراب والفوضى التي خلقتها الحرب العالمية الأولى في المجتمعات عموماً وفي الأرواح الثكلى التي خلفتها. فقد قوضت الحرب ما كان قد بقي من آثار للأفكار السابقة لها [3].

الإطار الزمني لعصر الحداثة

إذاً، انبثقت حركة الحداثة في زمن اضطرابات مجتمعية شديدة نتجت بشكل أساسي عن التحول الصناعي والتحديث والحرب العالمية الأولى (1914-1918) [1]. وأدت الحرب إلى تحطيم مبدأ التقدم لدى العديد من معاصريها، فكيف ذلك؟

نتج عن هذه تفكيك المُثل التي سادت في عصر التنوير، والتي كانت تتنبأ أن التكنولوجيا الحديثة ستحقق التقدم للبشرية بما تنطوي عليه من تطور يحسّن المجتمع والحياة. إلا أن الحرب العالمية الأولى حطمت هذا المبدئ لأنها استخدمت التكنولوجيا الحديثة في إحداث الدمار الشامل للبشرية. وكانت نتيجة الحرب إحباطاً وخيبة أمل على مستوى المجتمعات، مع تشاؤم عميق من الطبيعة البشرية. وهذا ما خلق لدى تيارات الفنون والأدب نزعة ثورية انفصلت عن المثاليات التي سبقتها، ونادت – كما ذُكر سابقاً – بالتأكيد على تمثيل التجربة الشخصية للواقع دوناً عن الواقعية الموضوعية. وتجسد خيبة الأمل هذه بقصيدة “الأرض اليباب – The Waste Land” للشاعر الأمريكي تي. إس. إليوت (T. S. Eliot) التي نشرها عام في 1922 [1].

أما من ناحية التطوير الصناعي، كان العالم الغربي يحصد ثمار الثورة الصناعية كالسيارات والطائرات والمذياع ويسخّرها في الحياة اليومية. ومثلت هذه الابتكارات تحديات لما هو ممكن في المجتمع، إذ شهد الناس آنذاك أن الآلة قادرة على تحويل المجتمع بكليّته. إلا أن هذا التحول الصناعي وما نتج عنه من توسع حضري أدى إلى خلق فوارق اقتصادية واجتماعية بين الناس، وتعزيز ما كان موجوداً منها بالأصل. وهذا ما ولّد شعوراً بالضياع والخيبة لدى كثيرين. وانعكس هذا الشعور في مجالات فنية مختلفة وأدى إلى ظهور جوانب جديدة في الدراسات الفكرية [1].

سمات الحداثة

كانت حركة الحداثة تنادي بإعادة النظر في جوانب الوجود كافة، بدءاً من الجوانب التجارية ووصولاً إلى الفلسفية. حيث كان الهدف اكتشاف العوامل التي كانت تعيق التقدم وتبديلها بأخرى جديدة وتقدمية تؤدي إلى النتيجة نفسها. وكان مناصرو هذه الحركة يؤمنون بأن رفضهم للتقاليد سيمكّنهم من اكتشاف طرق جديدة بالكامل لصناعة الفنون. وفي الوقت نفسه سعوا إلى إجبار الجمهور على التشكيك بمبادئهم ومفاهيمهم التي كانوا يؤمنون بها. وكان التأكيد حينها على التعبير والتجريب والراديكالية في الممارسات المطبقة في مختلف الميادين، بطريقة تباغت الجمهور وتشعرهم بالاغتراب عما يشاهدوه أو يسمعوه. ومن الأمثلة على هذا، الميول السريالية في الفن (surrealism)، واللالحنية في الموسيقى (atonality)، وتيار الوعي في الأدب (stream of consciousness) [2].

إذاً، تضم حركة الحداثة تحت مظلتها طيفاً واسعاً من المجالات الفكرية. كما تتمثل سماتها الكثيرة في العديد من الأعمال في تلك المجالات، ولو بنسب متفاوتة. مثلاً، نذكر من هذه السمات الإدراك الواعي للانفصال القاطع عن التقاليد، واتباع التجريب في أساليب جديدة، وإدخال محتويات كانت سابقاً مهمشة أو محرمة. ونتج عن هذا التبني لأفكار التغيير هوسٌ بكل ما هو جديد، وتأكيدٌ على أهمية التجربة الشخصية وأن الفهم الحقيقي للتجارب يتفوق على تصويرها بشكل موضوعي. ويضاف إلى تلك السمات البحث في أشكال جديدة للذاتية بهدف التعبير عنها وتمثيلها في الفنون.

تحدّت أفكار الحداثة ما سبقها من أساليب متبعة في البحث في العلم والدين والفلسفة. وكان كل هذا يتم بروح ناقدة تسعى لنسف الحضارة الغربية وإعادة خلقها. ولكن تنوع الأعمال التي تصنف أنها من عصر الحداثة وتشعب مجالاتها يجعل من الصعب ذكر مثال واحد كتجسيد لكافة مبادئها [4]. وبهذا كانت حركة الحداثة نقلة نوعية في التاريخ البشري، وحركت عجلة الفكر بطرق جديدة واتجاهات لم يسبق لها مثيل.

المصادر

  1. Modernism: Definition, Examples & Movement | StudySmarter
  2. Modernism – By Movement / School – The Basics of Philosophy (philosophybasics.com)
  3. Backgrounds to Modernism (utexas.edu)
  4. Modernism – Routledge Encyclopedia of Philosophy

ما هو الموت؟

يصف الأطباء الموت في بعض الأفلام قائلين: «للأسف، توقفت جميع وظائفه الحيوية». فسواء كان ضمور الرئتين أو سكتة قلبية مفاجئة أو مرضًا عضالًا فتك بجسد الميت. فالعامل المشترك هو قصور أجهزة الجسم عن أداء وظيفتها. إن موت الجسد إيذانٌ للطبيب بإبلاغ أهل الميت وإشارة للعائلة بفعل ما يجب. الموت إذن هلاك جسدي يُفضي إلى عادات ومراسم معينة. ولكن ماذا يعني الموت فلسفيًا؟ هل ننعي الميت أم نزف تحرر فقيدنا من الأغلال الدنيوية؟ وهل يمكن النجاة منه؟

هل يمكن النجاة من الموت؟

لنعرف إمكانية النجاة من الموت يجب أن نفهم ماهيته، ولنطرح سؤالًا: ماذا يعني أن شخصًا ما قد مات؟ أن حياته انتهت؟  وكأننا نقول بالضبط: هل يمكن أن يكون هناك حياة عقب انتهاء الحياة؟ والإجابة قطعًا لا. وعلى نفس المنوال: هل إذا أكلت كل الطعام سيتبقى شيء؟ أو ماذا يحدث في الفيلم بعد نهايته؟ كلها أسئلة بلا إجابة فالمفترض أنه لا حياة بعد الموت.

لنفهم معنى النجاة تخيل معي أن طائرة تحطمت على الخط الفاصل بين كندا والولايات المتحدة وكان شغل المحققين الشاغل وقتها «أين سندفن الناجين؟»، نعم الناجين وليس المتوفين!

اعتاد الناس التفكير في البلد الأقرب بالضبط، ليكتشفوا حينها أن الإجابة كانت ببساطة «نحن لا ندفن الناجين». إذًا فالدفن للأموات والحياة للناجين وعليه فالنجاة عكس الموت. يصبح سؤال هل أكون ميتًا إن لم أكن من الناجين بديهيًا فالرُكاب إما ناجٍ أو ميت. لكن ماذا إذا مثلنا مراحل حياة الإنسان على النحو الآتي:

B1B2B3→…→ Bn

لترمز B  إلى الموت الجسدي. حينها تُمحى الأسئلة السابقة ويصبح السؤال: هل أظل على قيد الحياة بعد موت جسدي؟ أو هل يمكن أن أنجو أنا بعد موت الجسد؟ وهل أنا منفصل عن جسدي؟ للإجابة أو للاقتراب منها يجب أن نعرف من هو «أنت».

هل ينفصل الإنسان عن جسده عند الموت؟

إذا أردت أن تعرف مصيرك بعد الموت فلتبدأ بسؤال ميتافيزيقي: ما الذي يمثله شخص ما؟ أو ما أجزاء الإنسان؟ انقسم الفلاسفة والتفوا حول مذهبين أولهما (الثنائية Duality) وهي أن يتكون الإنسان من جسد ونفس، وثانيهما (الأحادية Monism) التي تنشق عنها (وحدة الجسد Physicalism) و(وحدة النفس Idealism). فما هي هذه المذاهب؟

الثنائية

تنص الثنائية على كون الإنسان جسدًا وشيئًا آخر لا نعرف ماهيته، على أن يكون هذا الشيء غير مادي وهو الكيان الذي يسمى العقل أو النفس. والعلاقة بين المكونين متبادلة؛ فالعقل يتحكم في الجسد، كأن تنوي الوقوف فتشرع قدماك إلى لمس الأرض. كما أن الجسد يؤثر في العقل، كأن تلدغ جسدك نحلة فتشعر بالألم الذي يعد بدوره معنويًا حسيًا. فاللدغة أصابت الجسد ولكن الألم تمثل في النفس أو العقل.

احتدم الجدل القائم بين الثنائيين والأحاديين وتسلح كل منهما بحجة ومنطق. دعونا نسمع جدالهما في حوار تخيلي بين كل من مولر (اسم ذو مقطع واحد أي يدعم وحدة الجسد) أن الجسد لا يحتاج نفسًا وأنها فرضية بلا داعٍ، بينما يرى فريدريك (اسم ذو مقطعين ويدعم الثنائيين) أن هنالك كيانًا غير مادي بجانب أجسادنا.

فريدريك: أزعم أن النفس موجودة وهي غير مادية. إذ تبقى بعد فناء الجسد وتكفل للإنسان الخلود.

مولر: أفهم وجهة نظرك، لكن إذا تكون الشخص من جسد ونفس مجتمعين كما تدعي، فإنه زوج مترابط ومستقل في ذات الوقت. فإن تفككت مكوناته بموت الجسد، تدمر الشخص لتدمر الزوج المترابط فلا يمكن لنفس كانت جزءًا من الزوج أن تقف بمفردها، وعليه لا توجد نفس.

فريدريك: فهمتني بشكل خاطئ، إذ لا تتضرر النفس بموت الجسد، من قال أنهما ملتصقان بغراء؟ العلاقة بين النفس والجسد مجرد ترابط وثيق قائم على التفاعل المتبادل وليس التصاقًا. وعليه لا يعني موت الجسد أن الشخص سيموت، فيمكن لروحه أن تتحرر ببساطة. إن فرضنا أن الجسد هو المنزل الذي نعيش فيه، فقد يعيش الشخص في منزل ويرتبط به ولكن احتراق المنزل لا يحتم موت الشخص، فقد يجد طريقه للخارج.

مولر: أنت تقول تفاعلًا متبادلًا، أليس كذلك؟ لكن إذا كانا يتصرفان بنفس الطريقة تمامًا، فلم لا نفترض أن هناك تفاعلًا موازيًا لموت الجسد، وهو موت النفس التابعة له؟ كما رمزت لعملية موت الجسد (Bodily Death) كالاتي:

B1 B2 B3→…→ Bn

نستطيع أن نفترض عملية مصاحبة وهي موت النفس (Soul Death):

S1 S2 S3→…→ Sn

فريدريك: لكن النفس كيان غير مادي، ولا يتأثر بعملية مادية كالموت على خلاف الجسد. وعليه لا يجدر بنا توقع موت النفس بتدمير الجسد.

يبدو أننا وصلنا في الحوار لنقطة جوهرية وهي وجود النفس. دعونا نستكمل الحوار بينهما لاحقًا.

كيف نثبت وجود شيء لا نراه كالنفس؟

الطريقة المعتادة هي افتراض وجود شيء لا نراه لتفسير أشياء نعلم يقينًا أنها موجودة فيما يعرف بالاستدلال على أفضل تفسير. وتصبح الفرضيات مدعومة بالملاحظات المادية التي وضعنا الفرضية لتفسيرها من الأساس [3]. فلم نصدق وجود الذرات مثلا رغم أننا لا نراها؟ ببساطة لأن النظرية الذرية (Atomic Theory) تفسر الانشطار النووي وإطلاق كمية كبيرة من الطاقة وهو أمر شهدناه جميعًا وله فيديوهات كثيرة على الانترنت. هل يوجد جراثيم؟ نعم، فهناك أمراض تتسبب بها الجراثيم ونرى أثر تلك الأمراض علينا. إذن، كي نستنتج وجود النفس، بقي لنا تحديد المشاهدة المادية التي سيكون وجود النفس مفسرًا لها.

لنعد إلى حوار فريدريك ومولر أو حوار الثنائية ووحدة الجسد.

فريدريك: تنطلق حجتي من مسلّمات ثلاث، الأولى أن لدينا إرادة حرة بصفتنا بشرًا. وثانيهما أن لا شيء خاضع للحتمية لديه إرادة حرة. وثالثهما وجوب أن تخضع جميع الأنظمة الفيزيائية البحتة للحتمية. فكل حدث في الكون خاضع لتسلسل منطقي سببي مُحدد سلفًا، ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة وثابتة. أؤمن بأنه لا يستقيم وجود الإرادة الحرة والحتمية معًا، وأن أجسادنا تحوي كيانًا غير مادي تنتج عنه إرادتنا الحرة وأفعالنا الواعية. 

مولر: وإذا ثبت الرأي القائل أن الإرادة الحرة مجرد وهم وأننا مُسيرون بالكامل، فهل ضربت حجتك في مقتل؟

فريدريك: ممم، ماذا عن خضوع كل المواد للحتمية؟ إذا ثبت ذلك وثبتت إرادة الإنسان الحرة، فلا يمكن أن يمتلك كيان مادي كالجسد وحده إرادة حرة، لأن تفاعلات المواد تتبع الحتمية. وهكذا النفس -باعتبارها كيانًا غير مادي- وهي المسبب بالتأكيد.

«لم يعد الكون حتميًا كما كان في الفيزياء الكلاسيكية».

ماكس بورن

لاحتمية المواد

مولر: إذن كل ما علي فعله هو نفي صفة الحتمية عن المواد وتوضيح أن المادة تمتلك إرادة حرة وأنها قد تتبرأ من حتميتها، أليس كذلك؟ حسنًا، أستطيع أن أجادل أن الأنظمة الفيزيائية تكون احتمالية في بعض الأحيان وهذا ما يدين به الرياضيّ والفيزيائي الألماني ماكس بورن. اتخذ بورن من ميكانيكا الكم مرجعيته فأي جسم كمي يبدو كنقطة ويتلاشى حينها أي وصف مكاني يعرّفه. وتتمتع الإلكترونات والأجسام الكمومية الأخرى بنوع من الوجود الاحتمالي. لذا يمكن للإلكترون أن يتواجد في أي مكان طالما دخل في حيز دالته الموجية.

يمكن وصف ذلك أيضًا من منظور هايزنبيرج ومبدأ عدم اليقين. فوفقًا لهذا المبدأ، كلما حددنا موقع الجسم الكمي بدقة أكبر قلت قدرتنا على تحديد سرعته على نحو دقيق، والعكس صحيح. لذا ما تقوله ميكانيكا الكم هو أن الجسيم الكمي لا يمكن أن يكون في مكان واحد فقط ولا أن يتحرك بسرعة واحدة فقط [4]. 

أرى أن الحتمية ليست فرضًا على المادة، فهناك مواد تتصرف على نحو عشوائي. وكنتيجة موازية، فالإرادة الحرة ليست حِكرًا على الكيانات غير المادية، فهناك مواد لا تخضع لقانون معين وتنتهج الاحتمالية وعليه يمكننا نسب صفة الإرادة الحرة لها. وأخيرًا أعتقد أنني أسقطت حجتك.

كما رأينا في حوار الثنائيين وممثلهم فريدريك، قامت الحجة على مسلّمات قابلة للنقد وثبت خطؤها. وحتى الآن لا مبرر للاعتقاد بأن الإنسان يتكون من جسد ونفس. وتوافقت الثنائية مع فلسفة رينيه ديكارت، الذي كان يرى أن العقل غير مادي. إذ ميّزه عن الدماغ بأنه موضع الذكاء وهو أول من صاغ مسألة العقل والجسد في صيغتها المعروفة اليوم. بينما كان إيمانويل كانط مؤمنًا بوحدة النفس. أما في نظر أرسطو، فالنفس لا تستقل عن المادة؛ وبذلك فإن النفس توجد بوجود الجسد وتفنى وتنتهي بموته وفنائه. والآن، إلى أي فئة تميل عزيزنا القارئ؟

المصادر

1-Stanford Encyclopedia of Philosophy

2-Encyclopedia.com

3-Yale University

4-Wondrium Daily

ما هي الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها؟

الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها

يمكن تعريف الفلسفة اللا إنجابية على أنها الفكرة التي تنادي بوجوب عدم ولادة الكائنات البشرية والكائنات الحية. وهذا المذهب الفلسفي يقوم على أسسٍ ومبادئ وأفكار تبرر الدعوة إلى عدم إنجاب الأطفال وتصنيفه على أنه فعل لا أخلاقي. وتختلف عن عدم الإنجاب الطوعي لأنه عبارة نمط حياة يختاره المرء لأسباب تكون في غالب الأحيان شخصية، وليس دعوة عامة [1].

تعود أفكار رفض الولادة إلى زمن بعيد، ويمكن إيجاد بذورها عند الإغريق القدماء. كما أثرت تلك الأفكار على الأدب والفلسفة الأوروبية حتى يومنا هذا. سنستعرض في هذا المقال الأسباب المختلفة لدعاة اللا إنجابية ومبادئهم، كما سنطرح وجهات نظر جدلية لهذه الفلسفة [pdf].

مبررات اللا إنجابية

يمكن تصنيف مبررات مناهضي الإنجاب حسب موقفين اثنين، أولهما خيري للبشر والثاني كاره للبشر [2].

الموقف الخيري للبشر

يؤكد الموقف الخيري للبشر (Philanthropic) على محبة البشر والثقة بهم، ويركز على فكرة الأذى الواقع على أولئك الذين يأتون إلى الوجود. وينادي هؤلاء بأن الإنجاب يجب أن يكون غير مسموح في كل الحالات ومع كل الاعتبارات. يستند هذا الموقف على أكثر من حجة وجدلية طرحها عدد من الفلاسفة [2].

عدم التماثل

تحدث الفيلسوف ديفيد بيناتار (David Benatar) حول فكرة عدم التماثل (asymmetry) بين المتعة والألم، والتي شرحها في كتابه من الأفضل ألا تكون موجودًا: ضرر الوجود (Better Never to Have Been: The Harm of Coming into Existence) (2006). في هذا الكتاب، يؤكد بيناتار أن عملية الإنجاب دائماً ما تنطوي على ضرر أو أذى يلحق بمن يأتي إلى الوجود. ويوسّع نقاشه إلى أبعد من دائرة البشر، فيرى أن كافة المخلوقات التي تشعر أو تدرك بما حولها تعيش حالة من الأذى عندما تأتي إلى الوجود. وبما أن هذا الأذى أمر محتم، من الأفضل ألا يأتي أحد إلى هذا الوجود منعاً للضرر، خاصة وأن عدم إنجابهم لن يتسبب بضرر لأيّ كان. وقد دعم بيناتار طرحه هذا بحجة عدم التماثل بين فكرتي الوجود وعدم الوجود، وكل من الألم والمتعة المنطويان عليهما.

ويمكن تلخيص فكرته بأن غياب الألم هو أمر جيد، حتى وإن لم يشعر أحدٌ بهذا الأمر الجيد، ولكن غياب المتعة هو ليس أمراً سيئاً طالما أنها لا تُسلب من أحد. ويشرح بيناتار هذه الفكرة وفق الجدولين التاليين:

العلاقة الأولى تمثل فكرة الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

سيناريو الإنجاب

العلاقة الثانية تمثل فكرة عدم الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

سيناريو اللا إنجاب

وما يصل إليه بيناتار هنا أن فكرة حصول الإنسان على المتعة من حياته لا تعني أن الوجود هو أفضل من عدمه. وعند عدم قدوم الإنسان إلى الوجود، لن يكون هنالك من يفتقد هذه المتعة، وبالتالي فإن غيابها ليس أمراً سيئاً. كما يعتبر بيناتار أن من يرى نفسه سعيداً في الوجود ولا يعتبر نفسه ضحية أذى أو ضرر هو واهم. ويفسر تقييم الناس الإيجابي لحياتهم على أنه ناتج عن مظاهر نفسية معينة لا عن نوعية الحياة الحقيقية [2].

فرض الوجود على البشر

من الطروحات الأخرى التي قدمها اللا إنجابيون المؤمنون بخيرية البشر أنه يستحيل الحصول على موافقة أحد على خلقه. وبالتالي فإن الإنجاب ينطوي بالضرورة على خلق ضحايا واستغلال الأطفال الرضع للحصول في النهاية على أشخاص بالغين راشدين. أي أن الأذى الواقع على الفرد القادم إلى الوجود هو أذى كبير ولم تتم الموافقة عليه، وبالتالي من يود الإنجاب لن يكون قد حصل على موافقة مفترضة من صاحب الشأن في هذا الفعل. بالمقابل، عند عدم إحضار شخص إلى الوجود، لن يكون هناك من يتعرض للأذى؛ لن يكون هناك أي شيء [2].

والخلاصة أن الجدلية التي تحمل راية خير البشر تقوم على مبدأ أنه بسبب الأذى الواقع على الفرد عند إحضاره للوجود، يعتبر الأنجاب تصرفاً خاطئاً بكل الأحوال وفي كل الظروف.

الموقف الكاره للبشر

يتمثل الموقف الثاني المناصر للإنجابية بجدلية كارهة للبشر (Misanthropic). وعلى عكس الآراء الخيرة للبشر، تركز هذه الفكرة على الأذى الذي يسببه البشر عند خلقهم. وترى أنه من غير المسموح، في أغلب الحالات، إنجاب البشر. أو على الأقل يجب أن يكون هذا غير مسموح في ظل الوضع الحالي الذي يتم فيه الإنجاب. مجدداً، يظهر اسم الفيلسوف ديفيد بيناتار في هذا النقاش. ويطرح فكرته في إطار النقاش التالي:

الجدلية الكارهة للبشر

ويعدد هذا المبدأ أنواع الأذى الذي يتسبب به البشر بعد إنجابهم. فمنه ما يتمثل بأذى للبشر الآخرين، ويأتي بالمرتبة الأولى بقتل البشر لبعضهم. كما يمكن أن يأتي على هيئة اغتصاب واعتداء واستعباد وتعذيب. ولا يتوقف على هذا، بل يمتد ليشمل الكذب والسرقة والغش والخيانة، وغير ذلك. ومن النادر تحقيق العدالة حتى عند السعي وراءها، والأمثلة على هذا كثيرة [2].

يتسبب البشر أيضاً بأذى للحيوانات بأنواع وأشكال متعددة ولا يمكن حصرها. فمعظم البشر ليسوا بنباتيين (vegetarian) أو خضريين (vegan)، وهذا ما يجعلهم شركاء ضمنيين للعذاب الذي يقع على الحيوانات بسبب البشر. يضاف إلى هذا التجارب التي تقع على الحيوانات لأغراض العلم، والأذى المتعمد لمجرد التسلية، وغير ذلك. وبنفس السياق، لا يمكن تجاهل الأذى الذي يحدثه البشر للبيئة، والأمثلة عديدة من التلوث والمشاكل المناخية التي تتسبب بها المصانع والنشاطات البشرية. ومع التضخم السكاني على مستوى العالم، من المستحيل خفض حدة الأثر السلبي الناتج على البيئة.

وبهذا يتلخص نقاش كارهي البشر حول عدم الإنجاب بأهميته لتفادي الضرر الذي يسببه البشر عند وجودهم على عدة أصعدة.

وجهات نظر مختلفة عن الفلسفة اللا إنجابية

تختلف الآراء من هذه الفلسفة باختلاف العقائد والمبادئ. وقد تكون المجموعات المتدينة من أكثر الرافضين لها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالديانات التوحيدية. حيث يحمل المؤمنون بها فكرة أن الوجود بطبيعته هو أمر جيد. ولا يخلو رد اللا إنجابيين هنا من الإشارة إلى العذاب الذي تنطوي عليه حياة البشر بالمجمل. كما يطرحون التساؤل التالي: إذا كان الوجود أمراً جيداً بحد ذاته، لماذا لا يسعى من يؤمن بهذه الفكرة إلى إنجاب أكبر عدد من الأطفال إذاً؟ [2]

بالطبع لا تخلو الفلسفة من الجدل والنقاش، وأحياناً تنبع التساؤلات من قلب الفكرة الأساسية. فهنا مثلاً، إذا تبنى البشر فلسفة اللا إنجابية، ستكون النتيجة انقراض الجنس البشري طوعاً. وهذا يعني أن البشر الموجودون حالياً – أي من يفترض أنهم سيطبقون عدم الإنجاب – سيكونون الجيل الأخير. سيتناقص عدد من تبقى موجوداً بالتدريج، وتزداد الصعوبة على القلة التي ستبقى حتى النهاية. وتتمثل المشكلة هنا في النظر إلى الأذى الذي سيقع على آخر أفراد الجنس البشري – في حال تطبيق اللا إنجابية – وهل هذا الأذى هو فعلاً أقل من الأذى الناتج عن الوجود؟ بالنسبة للفيلسوف بيناتار ومن يتفق معه، يبدو أنهم يؤمنون بأن عذاب الوجود يفوق بشدة العذاب الذي سيتحمله آخر البشر في مسيرة اللا إنجاب. وعليه، يتمسكون بتوصياتهم بالانقراض الطوعي للجنس البشري [2].

المصادر

What is anti-natalism

Anit-Natalism – Internet Encyclopedia of Philosophy

مدخل إلى الأخلاقيات في العمل

ما هي الأخلاقيات؟

تشكّل الأخلاقيات أساساً لعمليات اتّخاذ القرار سواءاً في الحياة اليومية أو في الأعمال. فسيرة الإنسان تحددها مجموعة قراراته، الصغير منها والكبير. وتأخذ عملية اتخاذ القرار شكل السلسلة -كما في لعبة كانسة الألغام-، حيث يفتح كل قرار الباب لمجموعة أخرى من القرارات، وهذا يعني أن قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات الصحيحة بشأن ما هو صائب وما هو خاطئ هي الحد الفاصل بين حياة ناجحة وحياة أقل نجاحاً.

وتوفّر الأخلاق مجموعة من معايير السلوك التي تساعدنا على تحديد التصرّف المناسب للمواقف وأبعاد تصرّفاتنا على حيوات الآخرين. فالأخلاق على اختلاف مناهجها هي الأساس الذي نأخذ به في عملية صنع القرار، وهي التي توفّر لنا الأسباب والحجّة لاتّخاذ أحد القرارات دون غيره [1].

يتقاطع هدف الأخلاق مع هدف القانون، وأيضاً مع هدف الدين بشكل جزئي في أن الثلاثة يوفّرون إجابات عن أسئلة كيفية العيش مع الآخرين. لكن بالرغم من أن العديد من الأديان تشجّع اتخاذ القرارات الأخلاقية إلا أنها لا تعالج النطاق الكامل للخيارات الأخلاقية التي نواجهها. وقد يخيّل لنا أن القانون بدوره أيضاً يوفّر أرضية مرجعية للأخلاق إلا أن القانون يُبنى بمبادئ توجيهية عالمية، وغير قادر على الاستجابة للسياقات الفردية -جميع المواقف التي نجد أنفسنا إزائها في حياتنا الفردية-. فضلاً عن أن القانون بطيء في معالجة المشاكل. ويواجه صعوبة في تصميم وتطبيق المعايير الأخلاقية في بعض المجالات الهامة [1].

كما أن الإنسان في سياق حياته اليومية قد يقع في فخ اعتبار أن الأخلاق واحدة. فيخلط الأخلاق بعضها ببعض، كما قد يخلط بين الطرق والأساليب لتنفيذ القرارات الأخلاقية والقرارات الأخلاقية ذاتها. ويمكن أن يفيد الوعي بالمغالطات المنطقية في الحد من هذا الخلط. حيث يعتمد القرار الأخلاقي على قيم معينة تتعلق بالجدارة والثقة، والاحترام، والمسؤولية، والإنصاف، والرعاية والمواطنة الصالحة. وتولّد القرارات الأخلاقية سلوكيات أخلاقية بدورها، وتوفّر أساساً نظرياً للأخلاقيات في العمل [2].

أهمية أخلاقيات العمل

تأتي أهمية الأخلاق في العمل على أساس المسؤولية المشتركة للعاملين، وذلك في ثلاثة مواضيع [2]:

  • الحفاظ على ثقة الجمهور.
  • إنفاق واستخدام الموارد بالطريقة المُثلى.
  • المسؤولية أمام أصحاب المصلحة من مانحين ووكالات تمويل وطلاب وأولياء أمور.. الخ.

ومن الممكن توزيع القيم الأخلاقية الأساسية في عالم الأعمال إلى مجموعة القيم التالية [2]:

  1. الجدارة بالثقة: افعل ماستقول أنك ستفعله. تصرّف بنزاهة، واوف بالوعود، واجعل أفعالك تتسق مع أقوالك. كن مخلصاً لمن لم يكن حاضراً، وحافظ على السمعة الطيّبة.
  2. الاحترام: معاملة الآخرين بأفضل مما يعاملوك. كُن منفتحاً ومتسامحاً مع الخلافات، وراعِ الآخرين وهذّب تدخّلاتك، وتعامل بسلام، وعامل الآخرين بالطريقة التي يريدون أن يُعاملوا بها.
  3. المسؤولية والإنصاف: افعل ما هو متوقّع منك فعله وتحرّى العدالة في سلوكك وأحكامك. وحافظ على الانضباط الذاتي، وفكر مليّاً قبل الفعل، وتحمّل مسؤولية أفعالك، ولا تتحيّز، واسمع للآخرين.
  4. الرعاية: أظهر اهتمامك وعبّر عن امتنانك، واغفر للآخرين، وساعد من يحتاجك.
  5. المواطنة: لتكن عضواً فاعلاً، تعاون مع زملائك في العمل، وشارك معلوماتك، وابق على اطلاع، وأحسن للجوار. التزم بالقانون، واسعى للصالح العام.

وتقوم الكثير من المؤسسات والشركات بصناعة مدوّنة سلوك يوقّع عليها الموظف حال التحاقه بالوظيفة. ومدونة السلوك هي إحدى طرق التحدث بوضوح ومشاركة الأخلاقيات المهنية. تشمل أيضاً مشاركة العواقب التأديبية التي تلزم خرق مدوّنة السلوك هذه، غير أنه ثمة مدوّنات أخلاقية أخرى تتعلّق بحساسية وطبيعة مهن معيّنة مثل قسم أبقراط في المجال الطبّي. والمدوّنة الأخلاقية أو ما تسمّى بمدوّنة السلوك تهدف بشكل عام إلى منع الفساد، والحفاظ على أداء صحيح، ومشرّف، ولائق ويمنع تضارب المصالح [3].

بحث في أساس أخلاقيات العمل

إذا ما وضعنا الأخلاق تحت المجهر سنجد أنه لا وجود لنهج أخلاقي واحد مثالي وكافي. وإنما هناك مناهج أخلاقية متنوّعة قد تشترك في نواحي وتتباين من نواحي أخرى. وهي تعمل إلى جانب بعضها البعض بحسب إملاءات سياق اتخاذ القرار، وبحسب ميولات المشاركين في عملية صنع القرار. ومعرفتنا لهذه الأنواع الأخلاقية تزيد من قدرتنا -كصنّاع قرار- على الحوار مع الآخر، و تحسّن من القدرة على تفّهم منطلقاته النظرية. مما يجعلنا نهتدي إلى القرارات الصائبة دون إلحاق الضرر بعملية التواصل والحفاظ على بيئة عمل تعاونية.

أولاً) منهج الصالح العام وتاريخه

من الممكن أن يكون الكذب فعل أخلاقي عند التركيز على العواقب.

أصل هذه النهج الفيلسوف اليوناني أبيقور «270-347 D.C» مؤسس الفلسفة الأبيقورية. والتي ذهبت إلى أن المتعة هي القيمة الجوهرية للإنسان، أما باقي الأمور هي مجرد طرق لتأمين هذه المتعة.

خضعت هذه الأخلاق إلى تطوير على يد الفيلسوف البريطاني جيريمي بينثام «1748-1832». حيث صنّف في نظامه الأخلاقي الأفعال الجيدة تبعاً لمقدار ما تجلبه من متعة، وتحجبه من ألم، وذلك لمجموعات من الناس وليس للفرد الواحد نفسه. وذهب بعدها جون ستيورات ميل «1806-1873» إلى أن الأمر ليس حكراً على المتعة المادية فقط، بل بمقدار ما يجلب سلوكنا من سعادة للكم الأكبر من الناس. ومنهج “الصالح العام في الأخلاق” مستمد من هذا النوع، وتبلور بشكل خاص مع أفلاطون «347-427 ق.م» وأرسطو «322-384 ق.م». ودعمه فلسفة جان جاك روسو «1712-1778»، حيث يتحدد الفعل الجيد بحسب هؤلاء الفلاسفة بقدر ما يساهم في الحياة المجتمعية الأخلاقية، ويؤكد هذا النهج على الاحترام والتعاطف مع الآخرين ويأخذ ويسترشد بالإرادة العامة. [2]

ثانياً) منهج الواجب وتاريخه: التركيز على الواجبات والالتزامات

الكذب غير أخلاقي، بغض النظر عن العواقب.

يعود أصل المنهج الفعلي إلى كانط «1724-1804»، إلا أن بعض الفلسفات الدينية تعرّضت له بشكل غير مباشر، مثل أعمال القديس أوغسطين «350-430». ويشدد هذا النهج على أهمية الإرادة الشخصية والنية في اتخاذ القرار الأخلاقي. وعند كانط لا يتعلق فعل الصواب بعواقب أفعالنا، فهي أشياء لا سيطرة لنا عليها في النهاية. بل الصواب متعلق بالنوايا السليمة، والنابعة من حتمية الواجب الإنساني الذي يتلخّص بالتالي: “تصرف بطريقة تعامل الإنسانية، سواء في شخصك، أو في شخص آخر. ودائما كغاية لا كوسيلة حتى النهاية”.

ويندرج قانون حامورابي الذي ينص على وجوب معاملة الأحرار على حد سواء، والعبيد على حد سواء، وبدون الاهتمام بالعواقب ضمن هذا النهج. كما تندرج الأخلاقيات الدينية المستمدة من الأمر الإلهي ضمن هذا النهج أيضاً. فالمعيار الأخلاقي بحسب الأخلاقيات الدينية هو ما يقرّه الله في شرعه وما يلزم أتباعه به، دون أن يلزَم الله بمعيار معين للصواب والخطأ [2].

ثالثاً) منهج الفضيلة وتاريخه: التركيز على الشخصية التي يجب أن نكونها

من يكذب، يمكن أن يقوم بأي فعل آخر غير أخلاقي، وهذا الشخص ليس فاضلاً.

ليس لهذا المنهج أصل معيّن إلا أن له شعبية في حضارات شرق آسيا، ويظهر في تعاليم كونفوشيوس «551-479 ق.م». حيث يؤكد كونفوشيوس على أن الخلوق هو الذي يتصرف بذكاء وبطريقة مناسبة في مجموعة متنوعة من المواقف. والأخلاق حسب منهج الفضيلة لا ترتبط بسلوك معين يقوم به الشخص في موقف معين، بل هي سمت لهذا الشخص. ويجب أن تتجسّد الفضائل الإنسانية المُثلى في حياته ككل، ووفق هذا الإطار يعمل منهج الفضيلة. وحسب أفكار كونفوشيوس؛ فإن أخلاق الفضيلة تُعلّم بالقدوة، وعملية التدريب والتعليم الأخلاقي هي أمر جاد وملزَم [2].

ثلاثة أطر لأخلاقيات العمل

تتطلب عملية اتخاذ قرارات أخلاقية جيّدة حساسية مدرّبة، وطريقة في موازنة الاعتبارات التي يجب أن تؤثر على اختيارنا لمسار العمل. حيث تشكّل عملية اتخاذ القرار بطريقة أخلاقية منتظمة “حدساً أخلاقياً”. هذا الحدس سيمكّننا من التقرير الأخلاقي التلقائي. ويشبه هذا الأمر العزف على البيانو و قيادة السيّارة. وبما أنه لا يوجد نظرية أخلاقية مثالية تصح في كافة السياقات، فمن الضروري التفكير وفق ثلاثة أطر:

مصدر: https://www.brown.edu/academics/science-and-technology-studies/framework-making-ethical-decisions

والملاحظ أن الأسئلة الأخلاقية في كل إطار غير متعارضة، إلا أنه يمكن استخدام كل إطار بهدف تحقيق بعض التقدم في تقديم إجابات لأنفسنا وللآخرين. ففي كثير من الحالات، قد تؤدي الأطر الثلاثة إلى استنتاجات متشابهة حول ما يجب فعله. إلا أن الأطر المختلفة قد تعطي أسباب مختلفة للوصول إلى هذه الاستنتاجات.
ومن الخطوات التي تمر بها عملية التقرير هي [1]:

  • تحديد الجوانب الأخلاقية للمسألة المطروحة.
  • الأخذ بالاعتبار جميع مصالح الأطراف المعنية.
  • جمع كل المعلومات ذات الصلة.
  • صياغة الإجراءات والنظر في البدائل عن طريق الأسئلة التالية:
    • نفعي أوّلي: ما الإجراء الذي سينتج أكثر فائدة وأقل ضرراً؟
    • واجبي حقوقي: ما الإجراء الذي يحترم حقوق كل من له مصلحة؟
    • واجبي تحرّي العدالة: ما الإجراء الذي يعامل الناس على قدم المساواة؟
    • نفعي ثانوي: ما الإجراء الذي يخدم المجتمع ككل، لا بعض الأعضاء فقط؟
    • فضائلي: ما الإجراء الذي يقودني إلى التصرف كنوع الشخص الذي يجب أن أكونه؟
  • بعد صياغة الإجراءات يتم اتخاذ القرار.
  • معاينة النتائج وتقييمها والتفكّر فيما إذا كان من الممكن تغيير شيء ما لتحسين النتيجة.

الأخلاقيات الشخصية في مقابل الأدوار في العمل

ترتكز مرجعياتنا الأخلاقية على أحد المناهج الأخلاقية السابقة (منهج النفعية والصالح العام، أو منهج الواجب، أو منهج الفضيلة). إلا أننا قد نشهد تعارضاً بين أدوارنا في العمل وبين ما تمليه عليه أخلاقياتنا الشخصية. فكل مهنة تلعب دوراً في المجتمع وتتطلب ممارسات متخصصة للوصول إلى الأهداف المهنية. لكن في الوقت ذاته، قد نكون أمام مواقف مثيرة للجدل، وإليكم مثالاً عن هذه المواقف [3].

توصيف الحالة: لدى منظّمة خيريّة هدف الحصول على طعام لمنطقة تعاني من مجاعة، وتعيّن عليها اختيار أشخاص لتلبية أدوار مختلفة في توصيل الطعام. من هؤلاء المختارين موظّف لديه شاحنات لنقل الطعام من المخزن إلى الأشخاص المحتاجين. ويتّضح أن هذا الشخص منخرط في أنواع غير قانونية من الأنشطة مثل الابتزاز. وله سوابق في استخدام المال الذي يوفّره له صاحب المصلحة (المنظمة في حالتنا هذه)، وذلك في أغراض غير قانونية. وهذه الممارسات تتسبب في حصول تهديدات وأضرار فعلية لأشخاص آخرين. غير أن ثمة حاجة لهذه الشاحنات ولا توجد وسيلة نقل أخرى متاحة.

التعارض الأخلاقي: إعطاء الأعمال إلى مجرم هو دعم غير مباشر للأنشطة الإجرامية.
كيفية الحل: يمكن للموظف حل المأزق عن طريق استراتيجية لوبان المؤلفة من أربع خطوات [4]:

  1. أن يكون الفرد قادراً على تبرير المؤسسة الاجتماعية ذات الصلة بناء على الصالح الأخلاقي الذي تقوم به.
  2. تبرير دوره المهني بناءاً على هيكل المؤسسة.
  3. تبرير الالتزام بدور خاص -والذي يعتبر قيد البحث- من خلال توضيح أن السلوك المطلوب ضروري لذلك الدور.
  4. تبرير الفعل الذي يتطلّبه الدور من خلال توضيح أن الالتزامات بالدور تتطلّب هذا الفعل.

وإذ كان هناك ترابطاً في الإجابات؛ يكون من الواجب القيام بالفعل، وإن تعارض مع الأخلاقيات الشخصية. وهذه الخطوات عبارة عن إطار إرشادي فقط يوفر مساءلة نقدية لدورنا المهني. وعليه؛ قد يجد الموظّف المسؤول عن التعاقد مع موظف الشاحنات؛ أنه لا ينبغي أداء المتطلّب المهني هذا.

مثلاً: إذا توفّرت شاحنات أخرى لكن الحصول عليها يستلزم جهد إضافي، فلا يوجد حينها خطأ في اتباع الخطوتين 1و 3. لكن الخطوة 4 ستكون غير ممكنة حيث التزامات الدور تفترض هذه المهمة. وهنا نجد أن التعارض بين الأخلاقيات المهنية والشخصية تعارض وهمي.

مغالطات أخلاقية

تؤدي اللامبالاة بعملية اتخاذ القرار، أو عدم توافر الوعي الأخلاقي عند من يقوم باتخاذ القرار إلى مجموعة من المغالطات، نذكر منها [2]:

  1. هذا ضروري إذن هو أخلاقي: حيث ليس كل ما هو ضروري هو أخلاقي.
  2. فخ الضرورة الزائف: قد نبالغ في تقدير تكلفة القيام بالشيء الصحيح، ونصوّب تفكيرنا تجاه تنفيذ الأمر بأي وسيلة ممكنة. وعلينا أن نستحضر هنا أن الضرورة تفسير وليست حقيقة.
  3. إذا كان الأمر قانونياً وجائزاً، إذن هو مناسب: ليس كل ما هو قانوني أخلاقي بالضرورة. حيث أن ما هو متاح فعله حسب اللوائح القانونية، لا يعفينا من مهمة أن تكون لنا أخلاق شخصية.
  4. إنها مجرد جزء من الوظيفة: كون الفعل جزء من الوظيفة لا يعني أن الفعل أخلاقي بالضرورة أو يصح في كافة السياقات. فالأشخاص الواعون يشعرون أنهم مبررون للقيام بأشياء في العمل يعرفون أنها خاطئة في سياقات أخرى.
  5. كنت أفعل ذلك من أجلك فقط: هذا التبرير يضع قيمتي الصدق والاحترام مقابل قيمة الاهتمام. كما يبالغ في تقدير رغبة الآخرين في الحماية من الحقيقة، وهو التبرير الأساسي للكذبة البيضاء.
  6. الجميع يفعل ذلك: لا يمكن أن نأمن لأرقام الجموع التي تفعل أمر ما للتدليل على صحّته أخلاقيًا. وتنطوي هذه المغالطة على خلط بين السلوكيات، والعادات الثقافية، والتنظيمية، والمهنية والمعايير الأخلاقية.
  7. حان الوقت: حيث يشعر من هو مرهق أو يتقاضى راتب منخفض أن الوقت حان لبعض الامتيازات البسيطة. ويعتبرها تعويض عادل لقاء خدماته المقدّمة. ومنها قبول الإكراميات، واساءة استخدام الإجازة المرضية، والاستخدام الشخصي للوازم المكتبية، إلخ.
  8. أنا فقط أحارب النار بالنار: وهذا افتراض خاطئ. يُبنى على أساس ردة الفعل، فلا أخلاقية الشخص الآخر معي يعني أن سلوكي غير الأخلاقي معه مبرر بدوره. وهذا الأمر يعرّض نزاهتك للخطر.

في الوقت الذي نلعن به الظلام، لابد أن نشعل شمعة. وكما تعج أعمالنا اليومية بمواقف تتطلّب منا اتخاذ قرارات صائبة، من المفيد أن نشعل الشموع عوضاً عن تحطيم ما تبّقى منها. ومن المهم التفكير بإنسانية ومسؤولية حول مواقفنا وأفعالنا، وآثار هذه الأفعال ليس فقط على الآخرين، بل على أنفسنا أيضاًَ كأثر رجعي. لعلّ هذا التفكير يكون معدياً ويمكّننا من العيش السعيد.

المصادر

[1] Brown University
[2] UC SanDiego
[3] UNODC
[4] .Lawyers and Justice: An Ethical Study, Luban David

عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما

عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما

يعد عدم الإنجاب الطوعي (voluntary childlessness) من المواضيع المثيرة للجدل في علم النفس وعلم الاجتماع والدراسات المتعلقة بالأسرة. وتكمن حساسية هذا الموضوع من النظرة السائدة في كثير من المجتمعات حول فكرة إنجاب الأطفال، حيث يعتبر هذا الأمر تتويجاً للعلاقة بين الرجل والمرأة. كما يمثل رمزاً للحب غير المشروط والتضحية اللذين يقدمهما الوالدان لأبنائهما كما حصلا عليهما من والديهما سابقاً.

أهمية الإنجاب عبر الزمن والوصمة المرتبطة بالعقم

ترجع المواقف السلبية تجاه عدم إنجاب الأطفال إلى حضارات إنسانية قديمة كالإغريق والرومان وأهل ما بين النهرين وغيرهم. وعادة ما كان ينظر إلى المرأة العاقر على أنها مسحورة أو ممسوسة من الشياطين، أو حلت عليها لعنة من نوع ما حرمتها من نعمة الأطفال. بالمقابل، لا يعتبر الرجل الطرف الملام في حالة العقم، وكان من الشائع لدى الكثير من الشعوب أن تقدم المرأة العاقر لزوجها إحدى الجواري أو الخادمات كي ينجب منها أطفالاً [1].

ويعد وجود آلهة للخصوبة لدى الكثير من الشعوب – إن لم يكن لديها جميعها – دليلاً قاطعاً على مدى اهتمامهم بهذه الفكرة، وحرصهم على تقديم الصلوات والقرابين للآلهة كي تذهب عنهم “لعنة” العقم. مثلاً، يذكر التاريخ أنه عند شعب ليتوانيا القديم، كانت المرأة العاقر تقدم لإلهة الخصوبة دجاجة بيضاء كذبيحة في سبيل أن تحمل وتلد. وحتى بعد انتشار الديانة المسيحية، كانت النسوة يلجأن إلى تكريس القداديس والصلوات كي ينعم عليهن الله بنعمة الإنجاب [1].

كما أن بعض القوانين القديمة تدخلت في حل مشكلة العقم، ونجد هذا لدى الباليين والآشوريين والمصريين مثلاً. فقد نصت بعض من قوانين هذه الحضارات على حق الرجل في طلاق زوجته إذا كانت عاقراً. كما ورد في شريعة حمورابي (1750 ق.م.) أنه على المرأة العاقر أن تقدم لزوجها إحدى خادماتها كي ينجب منها أطفالاً. وعندما يتم ذلك، تقوم الزوجة على رعاية الأطفال وتربيتهم كأنها أمهم، في حين تُعتق الخادمة مقابل هذه الخدمة التي قدمتها لسيدها [1].

حتى في العصر الحديث، لا يزال عدم الإنجاب من المسائل الإشكالية التي قد تؤرق الزوجين وتهز صورتهما الاجتماعية. ونرى بدائل عديدة عن الإنجاب الطبيعي قد يلجأ لها الزوجان اللذان منعتهما مشاكل صحية من هذا. فهناك من يقوم بالتبني، أو استخدام رحم بديل، وهناك من يلجأ إلى التلقيح الاصطناعي الذي يكون إما من الزوجين نفسهما أو من متبرعين [1].

تطور مفهوم عدم الإنجاب والانتقال إلى حالة عدم الإنجاب الطوعي

قد يكون عدم الإنجاب حالة مرضية ناتجة عن مشاكل صحية لدى المرأة أو الرجل. وكما ذكرنا في الفقرة السابقة، كانت تقدم القرابين والأضاحي للتخلص من هذا المرض أو اللعنة. في هذه الحالة يكون عدم الإنجاب إجبارياً ومفروضاً نتيجة ظروف معينة. ولكن ماذا إن لم يكن ناتجاً عن العقم؟ ماذا إن لم يكن هنالك عقم أصلاً؟

في الواقع، توجد حالة سائدة بين بعض الأشخاص يكون فيها عدم الإنجاب طوعياً أو اختيارياً. ومع أن دراسة هذه الفئة الديموغرافية لا تزال محدودة بعض الشيء، بدأ الاهتمام بها يتزايد، خصوصاً مع اتساع المجال لظهورها والتعريف بها، بل وتقديم الدعم لها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعن طريق الإنترنت عموماً [2].

 وقد وجدت إحصائيات في عدد من الدول المتقدمة أن نسبة حالة عدم الإنجاب هي في تزايد، ولكن يصعب التمييز في هذه الفئة من السكان بين الحالات الطوعية وتلك الإجبارية. بالمجمل، ورد في دراسة نشرت في مجلة (دراسات في مجال الأمومة – Studies in the Maternal) أن نسبة هذه الفئة من السكان تتراوح بين 15 و25 بالمئة في عدد من الدول المتقدمة. ومع تزايد الميل في هذا التوجه، بات الاهتمام الأكاديمي يتسع لتحليل البيانات المتعلقة بعدم الإنجاب الطوعي من جوانب اجتماعية ونفسية وطبية وشخصية وتاريخية، وحتى نسوية. ويتركز البحث هنا في نسبة السكان عديمي الأطفال، والأسباب الكامنة وراء هذه الحالة، إضافة إلى النتائج المترتبة عليها على الأصعدة الاجتماعية والنفسية [2].

الأسباب الكامنة وراء عدم الإنجاب الطوعي

حاولت بعض الدراسات الاستقصائية البحث في دوافع البالغين الذين لا يودون الإنجاب. وقد تعددت النتائج التي انتهوا لها، ويمكن تلخيصها كما يلي.

تمثل الرغبة بالحرية من تحمل مسؤولية الأطفال أحد أكثر الأسباب شيوعاً ويشترك فيها كل من الرجال والنساء. فهناك من يولي كثيراً من الاهتمام للسفر والتنقل دون روابط أو قيود، ويرى في وجود الأطفال حائلاً دون التمتع بهذه الحرية [2، 3].

ويفسر البعض عدم رغبتهم بأن يصبحوا آباءً بأنهم لا يرتاحون في التعامل مع الأطفال. ومع أن أصحاب هذا التفكير من الرجال هم أكثر من النساء، صرحت بعض النساء بشكل واضح أنهن لا يحببن الأطفال. من جهة أخرى، تميل النسبة لصالح النساء عند الحديث عن الأسباب المتعلقة بالتقدم المهني والتطور الشخصي. إذ ترى العديد من الشابات أن إنجاب الأطفال قد يكون سبباً في توقف حياتهن المهنية وعائقاً أمام إنجازاتهن. لذا يفضلن عدم الإنجاب والمضي قدماً في مسيرة التطوير الذاتي [2، 3].

ولدى التفكير بحياة الشريكين معاً، يرى بعض الأزواج أن عدم إنجاب الأطفال يبشر بعلاقة أكثر سعادة وراحة. كما يمكن لهذا أن يؤمن لهما راحة مادية ويوفر الكثير من المصاريف، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على حياتهما المشتركة [2، 3].

ويعزو البعض هذا الخيار إلى مشاكل نفسية كانوا قد عانوا منها في صغرهم. ويتمثل ذلك في تجارب سلبية مع الأهل، مما أثر على صاحب العلاقة وجعله غير قادر على تربية الأطفال بالطريقة الصحيحة التي لم يكن قد حظي بها أصلاً. أو قد يكون نتيجة تجارب اجتماعية غير ناجحة، ولّدت لدى الأشخاص البالغين شكوكاً حول مقدرتهم على أن يصبحوا آباءً [2، 3].

ثم توجد أسبابٌ أكبر من الأفراد المعنيين قد تلعب دوراً في قرارهم بعدم الإنجاب. حيث وجدت بعض الاستقصاءات أن هنالك من الأزواج من يبدي قلقاً حول موضوع التضخم السكاني. وهذا يدفعهم إلى عدم المشاركة في تفاقم هذه المشكلة. أو قد يكون السبب هو القلق من الظروف السيئة على مستوى العالم عموماً، والخوف من توريط الأطفال في الحياة على كوكب يعج بالمشاكل [2، 3].

الفرق بين عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية

إذاً، يمثل عدم الإنجاب الطوعي نمط حياة يتبناه المرء بكامل إرادته، بناءً على أسباب متعددة.

ولكن يوجد توجه فلسفي يشرح سبب هذا النمط، أو على وجه الدقة، ينادي به ويدعمه. يسمى هذا المنحى “اللا إنجابية – anti-natalism”، وهو موقف فلسفي يصنف عملية الإنجاب على أنها خاطئة أخلاقياً، وعليه لا ينبغي للبشر أن يتكاثروا. كما يعمم بعض أنصار اللا إنجابية نظرتهم السلبية للإنجاب حتى على الأجناس غير البشرية [4].

تتعدد الأسباب وراء هذا الموقف السلبي من التكاثر، لكن تتفق جميعها على نظرتها السوداوية حيال استمرار الجنس البشري على الأرض. فمثلاً، يرى معظم أنصار اللا إنجابية أن انقراض البشر هو أمر محتوم، وأنه من الأفضل للبشرية أن تنقرض بأسرع وقت ممكن. كما ينطلق هؤلاء من فكرة أن الموت هو أمر محزن ولا مفر منه، فالمرء يحزن لدى فقد محبيه. لكن الطريقة الأمثل لوقف موت البشر هي ببساطة عدم إنجابهم. إضافة لهذا، يرى اللا إنجابيون أن الحياة البشرية هي حياة معاناة وتعاسة، ومن أضمن الطرق للقضاء على العذاب في الحياة هي ألّا نعمل على استمرارها بمزيد من الأفراد البشريين [4].

كما توجد بعض التساؤلات حول أخلاقية فعل الإنجاب فيما يتعلق بموافقة الطرفين المعنيين؛ أي الأهل والأطفال. فعندما يختار البالغون إنجاب الأطفال، يقومون بالحكم على مصير شخص آخر لا يد له في هذا القرار؛ أي الطفل. ويطرح الكثير من الأطفال، أو حتى البالغين، هذا السؤال على والديهم: “لماذا أنجبتموني؟ أنا لم أطلب أن أولد!” وهذا أمر صحيح فعلاً، ويتمسك به مناصرو اللا إنجابية كذريعة لانتقاد عملية الإنجاب بالمبدأ [4].

ردود الفعل تجاه عدم الإنجاب الطوعي

الردود الإيجابية

وضحت إحدى الدراسات ردود أفعال مختلفة تجاه موقف بعض البالغين بعدم إنجاب الأطفال. وقد تباين ذلك بين مواقف داعمة للفكرة وأخرى رافضة لها. حيث كان أغلب الداعمين من فئة الشباب الذين يظهرون فهماً لهذا الموقف الذي قد يختاره أقرانهم. بالمقابل، أظهر بعض الكبار في السن، وخاصة من أفراد عائلة الأشخاص المعنيين، مشاعر حزن أو قلق حيال هذا الخيار. فهو لا يتناسب مع العقلية والمبادئ التي تربوا عليها [2، 3].

أما عن رأي الشريك، فقد أظهرت المقابلات التي أجرتها هذه الدراسة أن عدم الرغبة بالإنجاب كانت في بعض الحالات سبباً بارتباط الشريكين. وفي حالات أخرى، كانت هذه الرغبة شرطاً للارتباط ولم تكن لتنجح العلاقة لولا تحققه [2، 3].

كما وجد باحثون في دراسة أخرى ارتفاع نسبة الرضا في العلاقة التي لا إنجاب فيها، وانخفاض نسبة الطلاق بين الأزواج ممن لم ينجبوا مقابل الأزواج الذين لديهم أطفال دون سن الـ 16 عاماً. ولدى المقارنة بين أزواج كبار في السن، تبين أن التوتر الذي يعانيه الآباء هو أكبر من الموجود لدى غير الآباء. أي يتميز نمط الحياة الذي يكون فيه عدم الإنجاب اختيارياً بانعكاسات إيجابية على الحياة المشتركة للطرفين [3].

الردود السلبية

بالمقابل، لا تخلو النتائج وردود الفعل من مظاهر سلبية. فقد صرح بعض الأزواج أنه رغم تلقيهم للدعم من عائلاتهم وأصدقائهم، واجهوا تعليقات وانتقادات من أشخاص غرباء كلياً أو تربطهم علاقة سطحية. ويميل توجيه الانتقاد أو التساؤلات عن عدم الإنجاب إلى النساء أكثر من الرجال. بل على العكس، صرح بعض الرجال الذين لم ينجبوا أنهم يلقون مديحاً من أقرانهم. حيث ينظر إليهم أنهم يعيشون حياة تتسم بالحرية وعدم الالتزام. وهذا ما يثبت أن النظرة القديمة التي تربط كينونة المرأة بالإنجاب لا تزال موجودة ولو على بشكل أقل انتشاراً. وترى النساء في هذا ظلماً وانتهاكاً لخصوصيتهن [، 3].

أما على الصعيد الصحي، فقد وجدت بعض الدراسات ارتفاع نسبة الوفيات بسرطان الثدي لدى النساء اللواتي لم يسبق لهن الإنجاب. ومع الأسف، تؤكد أبحاث طبية ارتفاع احتمال الإصابة بسرطان الثدي بالتزامن حالة عدم الإنجاب أو التأخر بذلك لما بعد سن الثلاثين. وتستخدم هذه الحجة من قبل المجتمع في إقناع النساء بالإنجاب، إضافة إلى تسليط الضوء على أهمية وجود الأبناء لتقديم المساعدة لوالديهم في شيخوختهم. وهذا يؤكد وجود بقايا العقليات القديمة التي تصم عدم الإنجاب على أنه فعل سلبي، خاصة عندما يتعلق بالمرأة [3].

اقرأ أيضاً: هل سيتمكن الأطفال من النمو في الرحم الاصطناعي؟

المصادر

  1. Childlessness: Concept Analysis
  2. Research Gate
  3. Voluntary Childlessness
  4. Anti-natalism

ما هو التماسك الاجتماعي وكيف يقيس صحة المجتمع؟

تعريف التماسك الاجتماعي

يستخدم مصطلح «التماسك الاجتماعي – Social Cohesion» بطرق غير محددة إلا أنه غالباً يندرج في أحد إطارين. الأول متعلق بالسياسات العامة وإجراءاتها لشرح أهداف هذه السياسات وأسبابها المنطقية لتحسين حياة الأفراد. مثل تحسين الرعاية الصحية والتعليم والحماية الاجتماعية وضمان أن يكون للجميع صوت. والثانية لشرح التغييرات الاجتماعية والسياسية وأحياناً الاقتصادية الحاصلة في المجتمع [1].

وقد عرّفت «جوديث ماكسويل – Judith Maxwell»  عام 1996 المجتمع المتماسك -في ما يشير إليه الكثيرين على أنه أول ظهور رسمي للتعريف- بأنه يتضمّن وجود قيم مشتركة، وتفسيرات مشتركة للأشياء، وتقليل للتفاوت في الثروة والدخل وبشكل أعم تمكين الناس من الشعور بأنهم جزء من مشروع، وأنهم أعضاء في ذات المجتمع، ويواجهون تحديات مشتركة. ومن هنا يكون التماسك الاجتماعي؛ عملية مستمرة لتطوير مجتمع انطلاقاً من قيم مشتركة، وتحديات مشتركة، وفرص متكافئة على أساس الشعور بالأمل والثقة والعدالة [2].

ويعرّف «المجلس الأوروبي – European Council» التماسك الاجتماعي على أنه؛ قدرة المجتمع على ضمان رفاهية جميع أعضائه وتقليل التفاوتات وتجنب التهميش [3]. ويضيف «مجلس التعاون الاقتصادي – The Organization  for Economic Cooperation and Development» على هذا التعريف أن المجتمع المتماسك يتيح لأفراده فرصة الحراك الاجتماعي الصاعد. وهو غاية مرغوبة ووسيلة تنمية شاملة. فالحد من الفقر ليس كافياً بقدر ما هو مهم التركيز على برامج الحماية الاجتماعية وخلق سياسات إعادة توزيع جديدة فعّالة.

فيكون بهذا التماسك الاجتماعي الصمغ الذي يربط بين الناس، ويتعزز هذا الربط بالسعي إلى قدر أكبر من الشمولية. وزيادة مشاركة المواطنين وخلق فرص للترقي للجميع. وهذا أحد أهم الإجراءات العامة التي تعتبر الوثاق الذي يحمل المجتمع معاً في وحدة متماسكة [4]. ويرتبط الأفراد في ظل التماسك الاجتماعي على مستوى المواقف والقواعد والسلوكيات والمؤسسات بنهج يرتكز على تحقيق الإجماع ويبتعد عن الإكراه [5].

أهمية التماسك الاجتماعي؟

غالبًا ما يكون من الأسهل رؤية الخطأ في المجتمع أكثر من معرفة ما يجعله قويًا ومتماسكًا ومستقرًا. إلا أن هناك ثلاثة متطلبات لازمة لمجتمع متماسك. أولاً الثقة والاحترام. نحن بحاجة إلى روابط حقيقية بين الناس، وإلى رؤية الآخرين كبشر وليس كأدوات يمكن الاستفادة منها.

ثانياً، الوحدة في التنوع لأن كل مجتمع لديه تنوع ويجب قبول ذلك واحتضانه. ثالثاً، الهويات المرنة حتى لا نحتضن التنوع بشكل سطحي أو نتسامح فقط مع جيراننا، ولكن نبني روابط يمكن أن تقاوم توترات السرديات الحصرية والتي يسيطر عليها لون ثقافي واحد في ظل مجتمع متعدد الثقافة، مما يعزز احتماليات العنف [6].

هذه المتطلبات هي أشياء بسيطة وعملية، ولكن يجب تطويرها بطرق حساسة ثقافيًا في كل مجتمع.

وقد يفهم البعض التماسك الاجتماعي على أنه يعني الشعور بالتجانس كشكل من أشكال الوحدة الصارمة. إلا أن الروابط المشتركة لا تعنى بالضرورة وجود تشابه في اللغة أو العرق أو الدين أو نمط الحياة [3]. «وشعور التماسك – Sence of coherence» يعني قدرة الناس على التعامل مع الضغوطات اليومية وإدارة التوتر. بالإضافة إلى التفكير في الموارد الداخلية والخارجية وتحديدها وتعبئتها لخلق مواجهة فعّالة للتحدّيات المجتمعية. و «SOC – شعور التماسك» هو توجّه وطريقة في النظر تفترض أن العالم مفهوم، وقابل للإدارة وله معنى [7].

التضامن العضوي عند دوركايم

يشير عالم النفس «إيميل دوركايم – David Émile Durkheim» إلى أن الروابط في المجتمعات الحديثة المتمايزة باتت تتحول إلى نوع من “التضامن العضوي”. حيث يقوم هيكل الإنتاج الصناعي على اعتماد جميع من في هذا الهيكل على بعضهم البعض. حيث يعتمد العاملون في الصناعة والخدمات بالضرورة على المواد الخام التي يقدمها آخرون، والأغذية التي ينتجها الآخرون، ومثال الأسواق التي يتم فيها تبادل المنتجات، وهذه كلها أشكال من التضامن العضوي.

“وعي المواطنين أنهم يعتمدون على بعضهم البعض كأعضاء الجسم”

إيميل دوركايم

وفي هذا نقطة هامة على طريق تعزيز الوعي بالتماسك الاجتماعي وأهميته وذلك في ظل التباينات الشديدة بين الناس في الجماعة الواحدة، أيضاً في علاقة الجماعة الواحدة مع غيرها من الجماعات [4]. وعلى العكس من التجانس كمقوّم للتماسك الاجتماعي نجد أنه كلما كان التباين أشد بين الناس كانت الآفاق التي تزخر بها مخرجات التماسك الاجتماعي أكبر. فواقع المجتمعات اليوم معقّد ومليء بالمتغيّرات وتوافر المجتمع على أفراد و جماعات متعددة الثقافة استثمار كبير يزيد من قدرة المجتمع على الإبداع وابتكار الحلول.

التماسك الاجتماعي عند وينفريد لويس مابس

تقول الباحثة «وينفريد لويس مابس – Winnifred Louis Maps» أن التماسك الاجتماعي لا يعني التجانس. وإنما المجتمع المتماسك هو مجتمع يحترم بعضه البعض حتى لو كانوا مختلفين، حيث يوفر للناس الاختلاف دون الشعور بغياب الأمان أو فقدان الاحترام [8].

كما تضيف الباحثة أن الخلاف الآمن هو مهم بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالفئات المهمشة. حيث هناك درجة من الصراع الاجتماعي الإيجابي لازمة للتأكد من أن الفئات المحرومة يمكنها التعبير عن مظالمها [8].

ويرتبط كلام الباحثة هنا بشكل ملفت بأوضاع المجتمعات اليوم في ظل الهجرة الكثيفة والتنوع الثقافي الذي يزداد في أغلب المجتمعات. حيث مع ازدياد تباين الثقافات داخل المجتمع الواحد، تزداد الحاجة إلى فهم التماسك باعتباره توفير مساحة آمنة للآخر عوضاً عن إقصائه أو إلتهامه ضمن ثقافة أخرى. كما أن ماسبق ذكره يسلّط الضوء على ضرورة فتح باب للنقاش والحوار حول التحديات المجتمعية لإيجاد حلول مشتركة مبنية على الاحترام المتبادل والالتزام بالعدالة [8].

كيف يتحقق التماسك الاجتماعي؟

تتضمن عملية التماسك الاجتماعي مجموعة من التحركات الهامة على طول الطريق كالتحرّكات التالية [9]:

  1. التعاون مع الحكومة، ويتم عبر عدة محاور:
  • قياس التماسك ويكون هذا عن طريق وضع مقياس رصد لواقع التماسك الاجتماعي مثل مقياس Scanlon-Monash (SMI)، ويقيس واقع التماسك عبر خمس متغيرات: الانتماء، القيمة، العدالة الاجتماعية، المشاركة، والقبول [10].
  • الالتزام بالتماسك الاجتماعي كأولوية ضمن التخطيط الاستراتيجي.
  • تقييم الاستعداد وبناء القدرات.
  • تضمين أهداف التماسك الاجتماعي في السياسات والعمليات التنظيمية.

أمثلة عن تحرّكات حكومية: (1) خطة عمل توظيف السكان الأصليين والفئات الأقل اندماجاً. (2) لجنة استشارية للسلامة المجتمعية لتحسين السلامة في الأماكن العامة. (3) لجنة حي تقوم بتوثيق التحديات وتتشارك مع الناس المشاكل وتستقبل الحلول.

2. إشراك المجتمع، ويتم عبر عدة محاور:

  • تعرف على المجتمع: افهم خصائص الأشخاص الذي يعيشون ويعملون في المنطقة وما هي احتمالات التغير التي يمكن أن تطرأ عليهم مع الوقت.
  • إشراك المجتمع:  تحديد المجالات الحالية والمحتملة للتطوير والبناء انطلاقًا من نقاط القوة الحالية.
  • كن تمثيلياً وشاملاً: التأكد من سماع جميع الأصوات.
  • حصر التحديات: تحديد التوترات التي يمكن أن تقوض التماسك الاجتماعي في المنطقة واحتماليات حدوثها.

أمثلة عن إشراك المجتمع: (1) رسم خريطة تشمل التنوعات الديموغرافية في المنطقة وذلك لتكوين صورة عامة عن المجتمع المحلي الهدف، وللمساعدة في إدارة النقاشات مع الأفراد. (2) القيام بمجموعات تركيز ونقاش مع أفراد متنوّعين من المجتمع أو عبر استبيانات على الانترنت ومكالمات عبر الهاتف.

3. بناء شراكات طويلة الأمد، ويتم عبر عدة محاور:

  • تحديد الشركاء: فهم أي الشركاء يمكنهم المساعدة في بناء التماسك المجتمعي الآن أو مستقبلاً.
  • إشراك الشركاء: تطوير استراتيجية تضمن طريقة الاتصال معهم وطبيعة العلاقة التي ستكون.
  • العمل مع الشركاء لتحديد المشكلات واتخاذ القرارات عبر نموذج عمل تعاوني.
  • ضمان وجود شراكات على المدى الطويل وما يشمله من تتبع التغييرات الحاصلة في الموظفين ورعاية العلاقات بأشكالها الرسمية وغير الرسمية.

4. قم بعمل هادف يعتمد على المكان، ويتم عبر عدة محاور:

  • تمكين المجتمع وبناء قدراته للمشاركة في تخطيط وتنفيذ الأنشطة.
  • الاستعداد الدائم والعمل مع الشركاء لتطوير خطط يمكن تنفيذها سريعاً.
  • إشراك الشباب وتمكينهم من الشعور بالاتصال مع مجتمعهم وقضاياه وتوفير مساحة تفاعل آمنة.
  • تعلّم من الآخرين، لكن صمم برنامجك بشكل مناسب للاحتياج المحلي الخاص الذي لديك.
  • تطوير وسائل الاعلام والاتصال عن طريق استخدام وسائط الإعلام المتعددة للتواصل مع الناس ونشر حس التماسك الاجتماعي.

أمثلة عن الأعمال الهادفة المعتمدة على مكان: (1) أنشطة المنظمات الإنسانية المحلية والعالمية في المناطق المنكوبة في سوريا، والعراق، واليمن التي تستهدف بناء القدرات المحلية ومشاركتهم في رصد المشاكل وإبداع الحلول عن طريق ورشات العمل، جلسات التوعية، الاجتماعات، النوادي الفكرية، الأنشطة الرياضية، الأنطة الفنية والثقافية.

5. تقييم ومشاركة النتائج

  • تطوير عمل التقييم: العمل مع المجتمع على الأرض لتحديد كيفية قياس مدى ملاءمة وكفاءة إجراءات تعزيز التماسك الاجتماعي.
  • جمع بيانات التقييم: التفكير في المعلومات التي ينبغي جمعها لبناء التقييم.
  • مراجعة النتائج المحققة: هل هناك اختلاف أو أثر للأنشطة التي تمت على الأرض مع المجتمع الهدف وساهمت بتحسين التماسك الاجتماعي؟
  • تبادل الخبرات مع الآخرين.

التماسك الاجتماعي والصحة الجيدة

حددت إحدى الدراسات أن المناطق التي تتمتع بمزيد من الاستقرار السكني ومستويات أعلى من التماسك الاجتماعي لديها معدلات ضعف أقل لدى كبار السن. ووجدت دراسة أخرى علاقة مباشرة بين التماسك الاجتماعي وتحسين القدرة على أداء أنشطة الحياة اليومية، وارتفاع مستويات السعادة. كما أشارت تحقيقات أخرى لوجود روابط بين التماسك الاجتماعي والتحسن العام في الصحة النفسية، وزيادة معدلات المشي المنتظم، وارتفاع معدل استخدام الواقي الذكري، وانخفاض الاكتئاب، وتحكم أفضل في نسبة السكر في الدم، وخفض معدلات التدخين [11].

تشير النتائج المستخلصة من دراسات إضافية إلى فوائد التماسك الاجتماعي حيث تثبت علاقته بانخفاض معدلات زيادة الوزن والسمنة، ومعدلات أقل للوفيات لجميع الأسباب، وانخفاض حالات احتشاء عضلة القلب، ومعدلات أقل لإهمال الأطفال، وتحسن الحالة العامة عند أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة [11] .

وتتفق الدراسات المعمولة في التماسك الاجتماعي أن النظام الذي يدعو إلى سياسات رفاه أكثر مساواة والتي تشمل الخدمات الطبية العامة، من المرجّح أن يحافظ على صحة المجتمع ويحّسنها. كما أن عامل الثقة بين الفرد والخدمات المدنية له دور كبير في زيادة التماسك الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن تبنّي بلد ما سياسة متسامحة مع المهاجرين يعني أنه يتمتع بتنوع أعلى في القيم، وجهود حكومية أفضل لضمان حصول الجميع على حقوقهم.

إن البلدان المتسامحة مع المهاجرين هي بلدان أكثر عرضة لنفقات صحية أكبر إلى جانب نفقات التعليم وتوفير الفرص المتساوية للجنسين [5]. وهذه البلدان بالذات تكون تحت ضغط لصياغة سياسات صحية تحترم الحريات الفردية والاختلافات. وتوفر بيئة ملائمة للأفراد لمتابعة صحّتهم، لأنها تعي وتفهم الظروف التي تساهم بزيادة السلوكيات المنحرفة خصوصاً العقلية والنفسية [5].

كما أن الأفراد الذي يتمتعون بحالة صحية أفضل هم أكثر قدرة على المشاركة في الأنشطة المدنية والشعور بالثقة والأمان وهو ما يعود على المجتمع بالفائدة [5].

المصادر

[1] Taylor & Francis 
[2] Jstor
[3] The Scanlon Foundation Research Institute
[4] UN
[5] International Journal for Equity in Health
[6] The S. Rajaratnam School of International Studies (RSIS) 
[7] SpringerLink
[8] sychlopaedia
[9] Australian Human Rights Commission
[10] .SMI: The Scanlon-Monash “Index of Social Cohesion” Prof. Andrew Markus
[11] National Library of Medicine

ما هو الوعي الكمي ؟

يعد الوعي الكمي أحد علوم الفيزياء الحديثة المثيرة للجدل، حيث يندرج تحت علم الفيزياء الحيوية الكمومية. ويركز هذا العلم على قضايا الوعي والذكاء وعلاقتهما بفيزياء الكم. حيث أن حجة العلماء العاملين على هذا الفرع العلمي قائمة على وجود فوتونات حيوية في الدماغ. وأين وجدت الفوتونات بالتالي فبالتأكيد يوجد مكان لفيزياء الكم!

الوعي الكمي “Quantum mysticism”

يعرف أيضاً باسم التصوّف الكمي. يعد أحد أكثر العلوم (إذا صح التعبير) المثيرة للجدل في الأوساط العلمية. حتى أنه يشار إليه بازدراء في الكثير من الأحيان. وهو عبارة عن مجموعة من معتقدات الميتافيزيقيا والممارسات المرتبطة بها. والتي تدعي إمكانية بل حتمية ربط جوانب الوعي والروحانيات والذكاء ( والتي تمثل جانب كبير من معتقدات الصوفية ) بأفكار و نظريات ميكانيكا الكم. ولذلك سميت بالتصوّف الكمي.

وقد تعرّض هذا العلم وهذه الأفكار والنظريات إلى سيل من الانتقادات في الأوساط العلمية وخاصة علماء ميكانيكا الكم. وقد وصفت بالدجل وبالعلم الزائف.[1]

ورقة ويجنر

كتب العالم ويجنر “Eugene Wigner” في العام 1961 ورقة بعنوان ملاحظات على أسئلة العقل والجسد “Remarks on the mind-body questions”. أشار فيها إلى أن المراقب ( الواعي ) لعب دوراً أساسياً في ميكانيكا الكم. وقد اتخذت هذه الورقة كمصدر إلهام للصوفيين اللاحقين. وذلك بالرغم من أن ويجنر اتبع أسلوب وأفكار فلسفية في المقام الأول أثناء إعداده لهذه الورقة. وذلك الأمر يعد مخالفاً إلى حد ما للأفكار و المعتقدات الموجودة في تعاليم الصوفية. ولكن في أواخر سبعينيات القرن الماضي قام ويجنر بالتراجع عن أفكاره ورفض ارتباط الوعي البشري بميكانيكا الكم. [1]

الوعي الكمي أحد خرافات الميكانيكا الكمية!

في وقتنا الحاضر تتعرض نظرية الوعي الكمي للكثير من الانتقادات في أروقة أقسام الفيزياء في جميع الأقطاب العلمية في العالم. حيث يرفض العلماء فكرة لعب الميكانيكا الكمية التي وضعت من قبل مجموعة من العلماء المرموقين و هم آينشتاين وبور وبلانك وباولي وهايزنبيرغ دوراً في الصوفية والروحانيات. ولكن لنعود قليلاً إلى الوراء، إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي حيث بدأت ثقافة صوفية العصر الجديد بالظهور.

بدأ بعض العلماء الذين اعتنقوا التصوّف الشرقي بتحليل الظواهر التخاطبية المزعومة بواسطة ميكانيكا الكم. حيث ظهرت كتب لعلماء وكُتّاب مثل آرثر كوستلر ولورانس لي شان وآخرون اقترحوا فيها إمكانية تفسير ظواهر التخاطر باستخدام ميكانيكا الكم. وفي نفس العقد ظهرت مجموعة فايزكس الأساسية، وهي مجموعة تتكون من عدد من علماء الفيزياء الذين تمسكوا بالوعي الكمي بعد انخراطهم في أمور التخاطر، والروحانيات، والتأمل، وتمارين مختلفة من العصر الجديد للصوفية الشرقية. وقد كتب أحد منتسبي هذه المجموعة وهو فريتجوف كابرا كتاب “استكشاف أوجه التشابه بين الفيزياء الحديثة والتصوّف الشرقي” وذلك عام 1975. تبنى هذا الكتاب العصر الجديد للوعي الكمي، واكتسب شهرة واسعة بين عامة الناس.[2] [3]

ما هو الوعي الكمي؟

حسناً، تكلمنا عن أن الوعي الكمي علم زائف كما يقول الكثير من العلماء. وتكلمنا أيضاً عن علماء آمنوا بالوعي الكمي. ولكن ما هو الوعي الكمي؟

بصورة مبسطة، الوعي الكمي هو علم يفسر الوعي البشري والذكاء وظواهر التخاطر في علوم الروحانيات والصوفيات بميكانيكا الكم وبالتالي فهو يقع بين التصوّف الشرقي وميكانيكا الكم. وفي بداية ظهور هذا العلم آمن به الكثير من الناس، وذلك لأنه دعم ببراهين مقنعة إلى حد ما وقتها. مثل أن ما يتحكم بالوعي البشري هي الفوتونات العصبية أو الحيوية. ويمكن أن يطبق على تلك الفوتونات مبادئ ميكانيكا الكم. وبالتتابع أصبح تفسير الوعي البشري بميكانيكا الكم ممكناً بل أكيداً بوجهة نظر المؤمنين بالوعي الكمي.

وبالرغم من غرابة هذه النظرية، وغرابة التفسيرات التي أوجدتها لربط الوعي بالكم. إلا أن ظهر مجموعة من العلماء الذين دافعوا عنها وقاوموا لربط الإثنين معاً. فقد كان كلا العلمين صعب الفهم، ومعقدين إلى حد ما. وهذا لا يعني بالضرورة أنهما مرتبطان بشكل ما حقًا أو أنهما يفسران بعضهما البعض. ورغم تزايد عدد المعارضين لها منذ ظهورها في النصف الثاني من القرن السابق. إلا أن أول نظرية مفصلة للوعي الكمي ظهرت في التسعينيات على يد الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل من جامعة أكسفورد روجر بنروز، وعالم التخدير ستيوارت هامروف من جامعة أريزونا. والذين قالوا في هذه النظرية ( بشكل شديد الإختصار ) بأن الحسابات الكمومية في الأنابيب الدقيقة (وهي نوع من أنواع الهياكل الخلوية) لها دور وتأثير في إطلاق الخلايا العصبية وبالتبعية الوعي. [3]

اعتقادات بنروز وهاموفر

ذكرنا سابقاً بأن من بين مجتمع العلماء الرافض بأغلبيته الساحقة لهذه النظرية ظهر عدد من العلماء المرموقين المؤيدين لهذه النظرية. ومنهم بنروز الحاصل على جائزة نوبل وعالم التخدير هاموفر. فقد اتفق الاثنان على أن أحد مكونات الدماغ المسؤلة عن إطلاق الخلايا العصبية وهي الأنابيب الدقيقة كما أشرنا سابقاً لها القدرة على إجراء حسابات كمومية عالية الدقة لإطلاق الخلايا العصبية ( وهذا يعني بأن أدمغتنا عبارة عن حواسيب كمومية ). و الخلايا العصبية لها دور كبير في عملية الوعي والإدراك وبالتالي يكون الوعي نتيجة عدد من الحسابات الكمومية. ويدعي العالمان بأن هذه الأنابيب الدقيقة تتمتع بسلوك كمي، وذلك يتجلى في خصائصها المتمثلة في الموصلية الفائقة والميوعة الفائقة ( وذلك في درجات الحرارة المنخفضة فقط ). وذلك ما جعل هذين العالمين يؤمنان بنظرية الوعي الكمي.[2][3]

لماذا رفضت الأغلبية الساحقة من العلماء نظرية الوعي الكمي؟

لاقت نظرية الوعي الكمي رفضاً كبيراً منذ ظهورها في ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. فقد رفضها في بداية ظهورها عدد من العلماء منهم اينشتاين رغم اتهامه بالتصوف وماكس بلانك وغيرهم. ولكن لماذا رفض العلماء هذه النظرية؟

يدعي المتصوفون والمؤمنون بهذه النظرية بأن ميكانيكا الكم ترتبط بالوعي، والوعي هو المسؤول عن خلق الواقع وبالتالي فإنه يمكننا التحكم بالواقع بواسطة ميكانيكا الكم. ويقر المتصوفون بإمكانية التحكم بالواقع إذا قمنا بتطبيق قوى عقلية كافية.

وقد وصل بعض المؤمنين بهذه النظرية إلى حد تفسير ظواهر نفسية وربما ظواهر خارقة بميكانيكا الكم. مثلما فعل أميت غوسوامي “Amit Goswami” حيث فسر الرؤية عن بعد والخروج من الجسد بالكم. وقد ذكر ذلك حرفياً في كتابه: كيف يخلق الواقع العالم المادي. وغيره من فسر إمكانية شفاء الأمراض بواسطة التفكير وجلسات التأمل بميكانيكا الكم مثلما فعل الطبيب ديباك شوبرا.

وقد رفض العلماء هذه النظرية لعدم وجود أدلة واضحة ومنطقية على صحتها. وقد رفض العلماء فكرة تفسير أمور غير منطقية بتاتاً بميكانيكا الكم. [1]

مصادر

1.Wikipedia
2.phys.org
3.physicsworld.com

وكأنك قرأت كتاب المونادولوجيا لليبنتز

إن بداية الفلسفة هي بداية البحث عن المبدأ الأول الذي يتأسس عليه وجود كل ما هو موجود. هذا المبدأ أخذ عناصر مادية في البداية مثل الماء والهواء والنار أو عناصر مجردة مثل العدد عند فيثاغورس أو الجوهر عند أرسطوطاليس. عدوى البحث عن الأصل انتقلت إلى العلوم أيضًا. أسفرت الجهود العلمية عن نتائج مرضية ولكن غير نهائية، أقصى ما تم الوصول إليه هو الكواركات الضاربة جذورها في بنية البروتونات والنيوترونات. ثمة فرضيات حول وجود الأوتار الفائقة لكن النتائج غير حاسمة بعد. في هذا المقال نستعرض مفهوم المونادة عند ليبنتز ومحاولته للكشف عن المبدأ الأول. يعتمد هذا المقال على ترجمة ألبير نصري نادر الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة.

ماهية المونادة

في فلسفة ليبنتز ظهرت قضية المبدأ الأولي مرة أخرى في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. هذا المبدأ الأولي عند ليبنتز مفارق عن المبدأ المادي ومتعالي عليه بالمعنى الحرفي للتعالي. فالمونادة عند ليبنتز هي جوهر بسيط غير قابل للتحليل ومتأصل في كل الموجودات أي المركبات بتعبير ليبنتز. ما يجعل من هذه المونادة مختلفة عن المادة، فهي:

  • لا تولد ولا تموت.
  • غير حائزة على مكان،
  • هي خارج الزمن وأزلية.
  • لا تؤثر عليها التغيرات الفيزيائية.
  • كل مونادة مغلقة على نفسها.
  • كل مونادة هي كاملة لأن فيها شيء من الكمال.

سيرورة المونادة

المونادة لا تأتي إلى الوجود بالولادة؛ لأنها لا تتكون بشكل مرحلي، عكس الموجودات التي تولد من خلال تركيب في الأجزاء. المونادة توجد بالخلق الكامل. كما أن المونادة لا تموت موتًا طبيعيًا، ذلك أن الموت هو تفكك وتحلل الأجزاء، إنما تنعدم كليًا. لكن مع أنها تأتي بالخلق وتنعدم، فهي أزلية.

أزلية المونادة

نعرف أن الله أزلي، ويؤكد ليبنتز على ذلك، لكن أزلية المونادة تختلف عن أزلية الله. إنها تكون كذلك لعدم خضوعها لسلطان الزمن. فالمونادة أزلية بالنسبة للمركب/الجسم، فهي تكون خارج الزمن بشكل متعالي، بينما الجسم يعيش في صميم الزمن، والزمن يحدد كينونة المركب كخاصة أصيلة له. لكن المونادة رغم كونها لا تتأثر بميتات المركب فهي بدورها لا تكون أزلية بالنسبة لله، لأنها تأتي بقرار الله وتنعدم بقرار منه.

الزمان والمكان

الإنسان عبارة عن مركب أو جسم زماني ومكاني، ليس على مستوى التكوين فحسب، إنما على صعيد الإدراك أيضًا. لا يمكننا أن نخرج من كينونتنا ونتعالى عليها ونتصور وجود ما وراء المكان وما هو اللا زمان. منطقنا بالدرجة الأولى هو منطق نفسي، إذ أن إدراكنا عبارة عن إسقاط لمقولاتنا على العالم.

بالنسبة للمونادة فالأمر مختلف تمامًا، فهي لا تكون زمانية ولا تقع في مكان. وما نطلق عليه المكان هو مجال حركة الأجسام، والزمان هو الرابط الآخر الذي يجمع بين جسم وآخر.

المونادة وهوية المركب

كل مونادة تمثل هوية مختلفة، فهي لا تتشابه وهذا اللا تشابه يعطي هوية للمركبات التي تحل فيها. لو كانت المنوادات تتشابه لكانت كل المركبات متشابهة بدورها، فحتى بالنسبة للمركبات من نفس النوع فيها شيء من اللا تشابه. للمونادات صفات وأعراض وهي التي تحدد هوية المركب.

حركة المونادة

مع أن المونادات عوالم مغلقة ولا نوافذ لها، غير أنها تتواصل وتؤثر بعضها في بعض، وهي نفسها تتغير، وهذا التغير يكون وفقًا لمبدأ أصيل في المونادة وهو النزوع للإدراك وموضوع هذا الإدراك هو العالم أي حقيقة اللا متناهي. المونادة تتطور لتدرك الله، هدف وجودها هو هذا الإدراك للوصول إلى إدراك كامل ونشره. كل المونادات مدركة بدرجات متفاوتة. هنا، يخالف ليبنتز معاصره ديكارت. حيث قال ديكارت بأن الإنسان وحده كائن مدرك ونفى هذه الصفة عن باقي الكائنات وكأنها محض آلات، في حين أن ليبنتز يقول بأن كل الأجسام حائزة على نوع من الإدراك ولو كان إدراكًا ضعيفًا. وهذا الإدراك وبفعل نزوعه الداخلي دائمًا ما يتوق إلى الإنتقال إلى إدراك أكثر وضوحًا.

 هوية الإنسان

مع أن النباتات والحيوانات تدرك لكنها أقل كمالًا من الإنسان، ذلك لأن الذاكرة هي أقوى ملكة لدى الحيوانات، فهي تتذكر صاحبها، وتفعل بقدر ما تتذكر. الحيوانات كائنات تجريبية، فهي إذا ما تعرضت للسوء من شخص ما فهي ستذكره ومن ثم تتجنبه. لا ينفي ليبنتز بأننا تجريبيون في أكثر أفعالنا، بيد أن ما يميز الإنسان هو قدرة التجريد بمعرفة الحقائق النظرية الضرورية والأزلية، لذا فالإنسان نفس عاقلة.

نظرية المعرفة

المعرفة النظرية الخالصة تميزنا عن باقي الكائنات، لأنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة الله. هذه المعرفة تساعدنا أن نعرف “الأنا”ونتأمل فيها ونتأمل في المونادة وتجعلنا مدركين بمحدوديتنا أيضًا.

تفكيرنا قائم على مبدأيين كبيرين، وهما:

  • مبدأ عدم التناقض: نحكم بمقتضى هذا المبدأ أن الخطأ هو ما يتناقض مع نفسه، وما هو مضاد للتناقض هو الصواب.
  • مبدأ السبب الكافي: يستحيل أن يكون أي أمر صادقًا أو موجودًا، أو أن يكون أي تعبير صادقًا دون يوجد سبب كافٍ له، ليكون الأمر على ما هو عليه ولا على خلاف ما هو عليه.

وللحقائق نوعين وفقًا لليبنتز، ثمة حقائق عقلية وأخرى واقعية:

  • الحقائق العقلية: هي حقائق ضرورية وضدها مستحيل، مثل الحقائق الرياضية والميتافيزيقيات. هذه الحقائق نستطيع أن نجد سببها بواسطة التحليل وردها إلى حقائق أبسط إلى أن نصل إلى الحقائق الأولية.
  • الحقائق الواقعية: هي حقائق حادثة وضدها ممكن، وهي عبارة عن حقائق خلقية وطبيعية تحتاج إلى التجربة. هذه الحقائق يمكن ردها دائما إلى حقائق أخرى من دون الوصول إلى حقائق أولية.

الله

الله هو المونادة الأقصى والأكمل، فهو واجب الوجود والعلة الأخيرة. هو واجب الوجود لأنه يستحيل أن نتصور إمكانية عدم وجوده، ذلك لأن عدم وجوده يعني استحالة وجودنا. فهو مطلق الكمال ويصدر عنه الوجود/المونادات. وما يميز بين الله والموجودات هو أن الأخيرة لها حدود بسبب القصور الذاتي فيها.

الله فيه نبع الموجودات ونبع الماهيات الحقيقية، وعقله هو منطقة الحقائق الأزلية. الحقائق الأزلية قائمة في شيء موجود ومتحقق وفيه يكون الممكن متحققًا. ولا نحتاج إلى تجربة لمعرفة الله.

يخالف ليبنتز ديكارت في مسألة حرية الله، فوفقًا لديكارت فإن نظام الأشياء مجرد ضربة من إرادة الله وكان بإمكانه أن يخلق الأشياء بشكل مغاير. بينما ليبنتز يرى أن الله نفسه خاضع للنظام، فهو لا يخلق بعشوائية إنما بقوانين، لذا فإن القوانين التي تحكم كل شيء في الكون هي من الله. وتوجد في الله القدرة التي هي مصدر كل شيء، ثم المعرفة التي تشمل تفاصيل الأفكار، وأخيرًا الإرادة التي تحدث التغيرات حسب مبدأ الأصلح. ويقابل ذلك في المونادة ملكة الإدراك وملكة النزوع ولكن بشكل غير نهائي.

إقرأ أيضًا محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

خلق المونادات

جميع المونادات تصدر من الله وتولد عنه بواسطة بريق بشكل متواصل، وهذا البريق يحدد ماهية المونادات. وتحصل المونادة على الكمال من الله. فالله هو فاعل، بينما المخلوق له بعدين، بُعد الفاعل وبُعد المنفعل، فهو فاعل بما فيه من الكمال وإدراكات واضحة، ومنفعل بقوة مخلوق آخر بقدر ما فيه من نقص. المونادات نفسها لا تنفعل، فهي ترعى من قبل الله، وتنظيم الله لها يجعل من كل واحدة في علاقة وتواصل مع أخرى وتعبر عنها، وهذه المونادات معًا تكون بمثابة مرآة أزلية للكون.

كل هذه المونادات تسير سيرًا غامضًا نحو المطلق. كل المونادات كاملة رغم أنها محدودة، فكمالها يكمن في تأدية دورها، فالمونادات التي في نبتة بسيطة تكون كاملة لأنها تحقق وجودها وتدرك العالم من زاويتها وتشارك في مدينة الله وتساهم في الإدراك الكلي، فالعين تكون كاملة بما هي عين، واليد بما هي يد. كحديقة مملوءة بالنباتات، وكبركة مملوءة بالأسماك، كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من الماء هي أيضًا مثل هذه الحديقة أو هذه البركة. لا شيء قفر أو عقم أو ميت في العالم، ولا سديم إلا ظاهريًا.

النفس والجسم

إن المونادة لا تموت، وبما أن المونادة هي جوهر أو روح الجسم، أي جسم كان فهي لا تموت. وليست هناك ولادة كاملة، فالمونادة في حالة تطور مستمر لأن تدرك، وليس هناك موت كامل، فليست المونادة غير قابلة للزوال بل حتى الحيوان لا يزول زوالًا كاملًا. الجوهر والجسم في تناسق دائم رغم أن لكل منهما قوانينه الخاصة. فالروح تعمل حسب قوانين العمل الغائية، بواسطة النزوع والغايات والوسائل. والأجسام تعمل حسب قوانين الحركات، وكلا النظامين متناسقين.

الميتافيزيقيا؛ فلسفة الماورائيات ما بين القديم والحديث

هذه المقالة هي الجزء 2 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الميتافيزيقيا؛ فلسفة الماورائيات ما بين القديم والحديث

فلسفة ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقيا

تمثل الميتافيزيقيا أو فلسفة الماورائيات القسم من الفلسفة الذي يدرس طبيعة الوجود والحقيقة والمعرفة والعقل والعلاقة بين الجسد والعقل والكثير من المواضيع التي تقبع في عالم ما وراء الطبيعة.

أطلق على هذا النوع من الفلسفة اسم الميتافيزيقيا – Metaphysics منذ البداية. ويعود هذا إلى أيام الإغريق القديمة، حيث تعني كلمة “meta” “بعد”. وقد استخدم هذا المصطلح أحد الفلاسفة الذين جمعوا أعمال أرسطو وحرروها، وأطلق اسم الميتافيزيقيا على مجموعة الكتب التي أُدرجت بعد كتب الفيزياء أو العلوم المادية [1]. حالياً، أصبح استخدام مصطلح الميتافيزيقيا ذو نطاق أوسع ليشمل مجالات الفلسفة التي تدرس بشكل عام ماهية الوجود والكينونة [1].

كيف اختلفت مواضيع الميتافيزيقيا؟

إذا أردنا التوسع في الاختلاف بين مجال دراسة الميتافيزيقيا في الماضي وما يقابله الآن، يمكن تلخيصه بما يلي. كان فلاسفة الإغريق والعصور اللاحقة يعرّفون الميتافيزيقيا بطبيعة المواضيع التي تدرسها، مثلها مثل أي علم آخر كالكيمياء أو علم الفلك. وفقاً لهذا، كانت تُعرف على أنها العلم الذي يدرس الكون وطبيعته، إضافة إلى الأسباب الأساسية للظواهر، وهذا يعني الأشياء التي لا تتغير بل تبقى كما هي أسباباً لأمور أخرى. ولكن عند النظر إلى الفلسفة الآن، لا يمكن تعريف الميتافيزيقيا بهذا.

أولاً، بات الفلاسفة الذين كانوا ينقدون مواضيع الميتافيزيقيا، كالأسباب الأساسية والأمور غير المتغيرة، باتوا يُعتبرون الآن على أنهم يقدمون طرحاً ميتافيزيقياً. ثم إن العديد من المواضيع الفلسفية التي تندرج الآن تحت الأسئلة الميتافيزيقية، أو على الأقل تشكل جزءاً من هذه الأسئلة، لا تمتّ بصلة إلى مواضيع الميتافيزيقيا القديمة كالأسباب الأساسية أو الأمور غير المتغيرة. ومن الأمثلة على ذلك مسألة حرية الإرادة أو العلاقة بين العقل والجسد [2].

يعود هذا الاختلاف أو التحول في معنى الميتافيزيقيا إلى القرن السابع عشر. ويعزى في الغالب إلى تغير دلالات كلمة “فيزياء” التي أصبحت علماً كمياً جديداً، وهو العلم الذي نعرفه الآن. [2].

الفرق بين العلوم الطبيعية وفلسفة الماورائيات

يقبع الفرق بين العلوم الطبيعية وتلك الميتافيزيقية في اختلاف طريقة الإجابة على تساؤلاتها أو البحث فيها. حيث تعتمد العلوم الطبيعية في إجاباتها على الملاحظة والتجربة والقياس والحساب. من جهة أخرى، يبني الميتافيزيقيون إجاباتهم على التفكير والتأمل. أي أن العلوم الطبيعية تدرس العالم التجريبي، في حين تهتم الماورائيات بمظاهر الواقع التي تتجاوز التجربة [1].

أبرز مواضيع الميتافيزيقيا

إذاً، اتسعت مواضيع الميتافيزيقيا أو فلسفة الماورائيات مع الزمن، لكن هذا لا يلغي اهتمامها بالمواضيع القديمة التي نشأت عليها. فما زالت تلك المواضيع من محاور هذه الفلسفة، ولو أنه طرأ عليها بعض التغيرات أو أصبحت تُرى من مناظير مختلفة. يعد موضوع الوجود من المواضيع الأساسية التي تقع في صلب هذه الفلسفة بكل معانيها ومفاهيمها. ويمتد هذا إلى البحث في مواضيع العدم واللاوجود. بالإضافة لذلك، بقيت المواضيع الأصلية في الماورائيات وهي طبيعة الكون والأسباب الأولى والأشياء غير المتغيرة من المواضيع المطروقة حتى بعد أرسطو.

أما حديثاً، فبدأت الميتافيزيقيا تتطرق لمواضيع أخرى، من أبرزها مواضيع الفضاء والوقت. ويعتبر السفر عبر الزمن من النقاط الجدلية التي تثير العديد من التساؤلات حول قضايا الوقت والسببية وقوانين الطبيعة والحرية والهوية الشخصية وغيرها [2].

السفر عبر الزمن

يعد ديفيد لويس (David Lewis) من أبرز من تحدث عن السفر عبر الزمن. حيث يشرح في ورقته البحثية “مفارقات السفر عبر الزمن” التي نُشرت عام 1976 عن منطقية احتمال السفر عبر الزمن في كلا الاتجاهين: للماضي وللمستقبل. طبعاً لم يدّع لويس أن هذا الأمر ممكن في الحقيقية أو في العالم الذي نعيشه أو حتى مع التقنيات المتطورة. لكن ما كان يرمي إليه هو تقديم تعريف ينطوي على تمييز طريقتين لتسجيل الوقت، وهما الوقت الشخصي والوقت الخارجي [3].

يتضمن الوقت الشخصي التغيرات التي تطرأ على الفرد بعبور الوقت، من تغيرات جسدية ووظيفية. أما الوقت الخارجي فهو الزمن الذي يسجل على المستوى الأكبر. أي الزمن الذي يمر إما بالذهاب للماضي أو للمستقبل. على سبيل المثال، يسافر أحد الأشخاص عبر الزمن إلى الماضي، قبل 50 عاماً، واستغرقت الرحلة للوصول إلى الوجهة خمس دقائق. يكون الوقت الشخصي 5 دقائق مرت من عمر الفرد الذي يقوم بالرحلة. في حين أن الوقت الخارجي هو 50 سنة، وهي النقطة المنشودة من الرحلة [3].

في هذه الرحلة كان الوقت الخارجي أطول من الوقت الشخصي، كما أن كلاً منهما سار باتجاه مختلف. فالوقت الشخصي كان يسير للأمام في حين أن الوقت الخارجي كان متجهاً للخلف. عند السفر في الزمن للمستقبل، تبقى الثغرة موجودة بين نوعي الوقت لكن اتجاههما يكون واحداً. فالوقت الشخصي يسير قدماً كما الوقت الخارجي.

وبهذا يشرح لويس أنه في السفر العادي، لا عبر الزمن، ينطبق كل من الوقت الشخصي مع الوقت الخارجي في الرحلة نفسها. في حين ينفصل هذان الوقتان عند السفر عبر الزمن ويحيدان عن بعضهما. ويحاول من خلال هذا الشرح إعطاء تفسير منطقي لفكرة السفر عبر الزمن.

طبعاً، لا تخلو الورقة البحثية من شرح للتناقضات المنطقية المحتملة والتساؤلات الناجمة عنها. لكن بالمجمل، وبالعودة إلى الماورائيات، يعد موضوع الوقت والفضاء، ومنهما السفر عبر الزمن، أحد المواضيع التي باتت تهم الميتافيزيقيا وأبحاثها.

 منهجيات فلسفة الميتافيزيقيا

تعمل الميتافيزيقيا وفق منهجيات معينة تختلف عن العلوم الطبيعية كما ذكرنا. فلا يمكن هنا استخدام التجربة العملية. ولكن يمكن الاعتماد على التفكير والتأمل والتخيل، عندما تكون هنالك القدرة على تخيل الأمور محط التفكير. يمكن أيضاً اللجوء إلى الحدس لتحديد ما هو منطقي وما هو غير ذلك.

ومع هذه الأدوات، تبقي فلسفة الميتافيزيقيا أو الماورائيات الباب مفتوحاً أمام المزيد من الإجابات والتساؤلات.

اقرأ أيضاً: نظرية المعرفة

المراجع

  1. The British Academy – What is Metaphysics
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Metaphysics
  3. Coursera: Alasdair Richmond, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

يعد موضوع حرية الإرادة من المواضيع القديمة في الفلسفة، ومثلها فكرة الحتمية. وقد شكّلت الحرية على مر التاريخ معضلة للكثيرين، طرح فيها العديد من الفلاسفة آراءهم وتحليلاتهم. فالبعض يرى أننا نحن البشر نتمتع بالحرية في تصرفاتنا واختياراتنا. في حين يرى البعض الآخر أننا محكومون بحتمية الكون الذي يسير وفق خطة محددة تشترك فيها جميع العناصر، بما فيها نحن البشر.

لا تكمن المشكلة فقط في الخلاف على مدى حرية البشر في إرادتهم أم حتمية مصيرهم. بل تقود هذه البداية إلى مسألة أشد تعقيداً، وهي المسؤولية الأخلاقية. فما هي درجة المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها البشر تجاه أفعالهم؟ وكيف تتغير هذه الدرجة عند الأخذ بوجهة نظر الحتمية دوناً عن حرية الإرادة؟ [1]

سنستعرض في هذا المقال بعضاً من الأفكار والتحليلات لمسألة حرية الإرادة وعلاقتها (أو عدم علاقتها!) بالحتمية، إضافة إلى ارتباطها بالمسؤولية الأخلاقية.

حرية الإرادة (Free Will)

تنطوي حرية الإرادة على حرية المرء في اتخاذ القرار بالأفعال التي يقوم بها. وفقاً لديفيد هيوم (David Hume) وتوماس هوبز (Thomas Hobbes)، تعني الحرية عدم وجود عوائق خارجية تمنع المرء من القيام بما يريد. ويمكن توسيع هذا إلى افتراض أن الحرية هي عدم إجبار الشخص على القيام بما لا يريد. فامتلاكنا لحرية الإرادة يؤدي إلى حريتنا في اختيار الأفعال التي نقوم أو لا نقوم بها. أي يربط كل من هيوم وهوبز حرية الإرادة بحرية الأفعال [2].

من الاعتراضات التي واجهت هذا الرابط هي أنه يمكن للمرء أن يكون حراً باختيار أفعاله، لكن قد يحدث ما يمنعه من القيام بهذه الأفعال. فالعوائق الخارجية التي قد تمنع الشخص من القيام بنشاط محدد لا تلغي حرية هذا الشخص باختياره للقيام بهذا النشاط أصلاً. فمثلاً، يمكن لأحد ما أن يختار الذهاب في نزهة، ولكن الطقس يمنعه من تنفيذ هذا الفعل. فهذا الشخص كان حر الإرادة باختيار ما سيفعله. أي أنه قرر بكامل إرادته أنه يرغب بالذهاب في نزهة. ولكن عوامل الطقس منعته من تنفيذ هذا العمل. لكن هذه الإشكالية التي يراها البعض في الربط بين حرية الإرادة وحرية الأفعال تتوقف على كيف نعرّف حرية الإرادة بالأصل [2].

الحتمية (Determinism)

الحتمية هي النظرة التي تربط الأمور في الكون بعلاقة سببية. فمن وجهة النظر هذه، لا يحدث شيء ما إلا ويكون وراءه سبب محدد أدى إلى حدوثه، قد يكون هذا السبب مباشراً أو غير مباشر. ولكن العلاقة بين جميع العوامل هي التي تؤدي إلى حدوث هذا الأمر بعينه دوناً عن سواه. وفقاً للحتمية السببية، يتحدد مسار المستقبل بأكمله وفق ما حدث في الماضي وحسب قوانين الطبيعة. فمثلاً إذا وقعت أحداث الماضي بطريقة معينة ورافقتها قوانين الطبيعة بصيغة معينة، سيؤدي اجتماع كل من هاتين القوتين إلى مسار وحيد للمستقبل لا يمكن أن يحيد عنه. وهذه هي حتمية المستقبل التي سببتها عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. ولكن الحتمية لا تنطوي على ضرورة توقع المستقبل. إذ يمكن للمستقبل أن يكون محتوماً بعوامل الماضي وقوانين الطبيعة دون أن يكون باستطاعة أحد أن يتوقعه [2].

لكن النتيجة التي تقودنا إليها الحتمية هي أننا غير قادرين على امتلاك الحرية التي نظن أننا نملكها. ولا يمكننا أن نقوم بأي شيء مغاير للأمور المحتومة الناتجة عن اجتماع عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. وفقاً لهذا، فحتى الأمور التي نقررها، ظناً منّا أنها بمحض إرادتنا “الحرة”، هي نتائج محتومة بناء على ما مضى.

فأين حريتنا إذاً؟ وكيف لنا أن نخرج من عباءة الماضي؟ لا يمكننا، وفقاً للحتمية، فنحن محكومون، وأفعالنا نافذة شئنا أم أبينا ولا تصدر عنا. بالتالي، لا تحمّلنا وجهة النظر هذه مسؤولية أفعالنا. وفيما يلي سنتوسع في هذه النقطة [3].

التوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Compatibilism)

بالعودة إلى حرية الإرادة، يرى البعض أن الحتمية لا تتناقض مع حرية الإرادة. فيمكن للمرء أن يقرر ما يريد حتى وإن كان هذا الأمر محتوماً. يمكن لنا أن نختار الأمر “المحتوم” دون أن تكون حتميته قد أجبرتنا على اتخاذ رأي أو موقف معين منه. تدعى وجهة النظر هذه بالتوافقية [1].

تأتي التوافقية رداً على فكرة الحتمية. وكما ذُكر في الفقرة السابقة، تعزو الحتمية أفعالنا إلى عوامل جرت في الماضي البعيد. أدت هذه العوامل، نتيجة وجودها مع قوانين الطبيعة المعينة، إلى ما نحن عليه الآن وإلى ما سيحدث في المستقبل. فنحن غير مسؤولين عما نختار. ولن يكون لخيارنا أي أثر فيما سيحدث، فما سيحدث هو أمر محتوم [3].

يأتي رد التوافقية على هذا الطرح لا ليناقضه أو ينفيه. بل يرى التوافقيون أن حتمية الأفعال لا تنفي أو تقوّض فكرة الحرية بقيامنا بهذه الأفعال أو اتخاذ القرارات المرتبطة بها. فالمرء يكون أمام خيارات متعددة ليقوم بها، ولديه الحرية في اتخاذ القرار بما سيفعل. إن كان هذا الفعل محتماً لا يعني أن المرء لم يكن لديه خيارات أخرى. لهذا يرى التوافقيون أننا مسؤولون عن أفعالنا لأن حتميتها لا تنفي حرية اختيارنا لها [3].

اللاتوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Incompatibilism)

بالمقابل، يرى مناصرو اللاتوافقية أن الحتمية، إن كانت صحيحة، لا تتوافق مع حرية الإرادة. أي أن حتمية سير الأمور في المستقبل تنفي امتلاكنا للحرية. وهذا يعني أننا، حتى وإن ظننا أننا نملك حرية الاختيار، فإن الخيار الوحيد الذي سنقوم به هو الخيار المحتم. وسبب حدوث هذا الخيار ليس إرادتنا بذلك، بل حتميته بناء على ما مضى [4].

وفق وجهة النظر هذه، يمكن تفسير عدم توافق حرية الإرادة والحتمية بطريقتين مختلفتين. تقول إحداهما أنه بسبب الحتمية، يستحيل علينا أن نكون نحن السبب في أفعالنا، ولا نستطيع التحكم بها. أما وجهة النظر الأخرى فتشرح أن الحتمية تجردنا من القوة أو القدرة على اختيار شيء أو القيام بفعل غير الأمر المحتوم مسبقاً [4].

المسؤولية الأخلاقية بين حرية الإرادة والحتمية (Moral Responsibility)

لنقف قليلاً عند بعض الآراء حول المسؤولية الأخلاقية. فعند الحكم على شخص ما أنه مسؤول من الناحية الأخلاقية، فمعناه أن هذا الشخص يتمتع بقدرة معينة، وأن سلوكه نابع من تطبيقه لهذه القدرة بطريقة ما. عندها، يمكن القول بأن هذا الشخص مسؤول عن أفعاله التي نتجت عن هذه القدرة [5].

لكن يرى بعض الفلاسفة أن افتقارنا لحرية الإرادة – أي في حال كانت الحتمية أمراً حقيقياً – يجعلنا غير مسؤولين من الناحية الأخلاقية [6]. كما ذُكر سابقاً، تعتبر الحتمية أن كل شيء ناتج عن عوامل من الماضي، من ماضٍ لا علاقة لنا به، ومن قوانين الطبيعة. وفق هذا، لا علاقة لنا بكل ما يحدث من حولنا، حتى الأفعال التي نقوم بها. ولذلك، فنحن لا نتحمل مسؤولية تلك الأفعال [5].

من جهة أخرى، يرى البعض أن الحتمية لا تلغي بالضرورة مسؤوليتنا الأخلاقية. فحتى إذا ألغت الحتمية قدرتنا على التحكم بما يجري، فهي لا تلغي قدرتنا على التحكم بكل ما تتطلبه المسؤولية الأخلاقية [2].

يمكننا هنا التوقف عند ما يسمى بمبدأ الإمكانيات المحتملة (The Principle of Alternative Possibilities). وفق هذا المبدأ، نتحمل مسؤولية أفعالنا فقط إذا كان لدينا القدرة على القيام بغير ما قمنا به. أي إذا كان أمامنا فعلان أو أكثر، وكان بمقدورنا الاختيار فيما بينها، وقررنا اختيار فعل ما، نتحمل مسؤولية خيارنا بسبب وجود بدائل عنه. لكن مبدأ الحتمية ينقض هذه المسؤولية لأنه لا يرى أن اختيارنا كان بسبب حرية إرادتنا. بل كان هذا الخيار محتوماً مسبقاً، ولم يكن باستطاعتنا القيام بغير ذلك حتى مع وجود بدائل [6].

تتشعب التحليلات والآراء فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية. وتبقى قضية حرية الإرادة والحتمية من القضايا الأساسية في الفلسفة لأهميتها في فهم مدى تحكمنا نحن البشر بأفعالنا.

اقرأ أيضاً: الفردية بين حرية الفرد والمجتمع

المصادر

  1. Coursera: Mason, Elinor, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Free Will – Internet Encyclopedia of Philosophy
  3. Compatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  4. Incompatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  5. Moral Responsibility – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  6. JOHN FISCHER: FREE WILL AND MORAL RESPONSIBILITY

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العلوم: كيف ترى الفلسفة النظريات العلمية؟

فلسفة العلوم (Philosophy of Science) قد يبدو هذا العنوان غريباً، وقد يثير تساؤلاً حول علاقة العلم بالفلسفة. ولكن في الواقع، تعد فلسفة العلوم إحدى فروع الفلسفة، وتتطرق في دراستها إلى طرائق البحث والنظريات العلمية. تناقش هذه الفلسفة على وجه التحديد ما الذي يمكن اعتماده تحت تسمية “علم” ولماذا، إضافة إلى طرح منهجيات معينة لفهم مدى مصداقية النظريات العلمية [1].

وقد أثبتت الفلسفة فائدتها للعلوم، إذ تعمل على توضيح العديد من المفاهيم من خلال أبحاثها ودراساتها. ويسهم هذا التوضيح المفاهيمي في تحسين دقة المصطلحات العلمية واستخداماتها في الأبحاث ذات الصلة. كما يساعد في إجراء استقصاءات تجريبية جديدة. حيث تختلف كيفية فهم التجارب وإجرائها مع اختلاف الأطر المفاهيمية. وكلما تعرّفت هذه الأطر أكثر، أصبح من الممكن إجراء مزيد من البحوث والدراسات [2].

التوجهات ضمن فلسفة العلوم

إذا أردنا دراسة فلسفة العلوم من منظور واسع نسبياً، يمكننا الذهاب إلى مقاربتين مختلفتين حول طبيعة العلم بحد ذاته. فلا يوجد هنا تركيز على نظرية علمية محددة دون سواها. كما لا تتم دراسة موضوع أو تخصص واحد كعلم الأحياء، أو الفيزياء. بل يكمن الاختلاف بين هاتين المقاربتين في تعريفهما لطبيعة النظريات العلمية التي يمكن أن تُصنف على أنها نظريات جيدة. إضافة لذلك، تملك كل منهما وجهة نظر مختلفة حول ما يجب أن نأمل الحصول عليه من النظريات العلمية، بصفتنا متلقين للعلم. وبدقّة أكبر، يتمثل الاختلاف في الهدف من العلم، والنتيجة التي ينبغي أن تصل إليها النظريات العلمية [1].

أما عن هذين التيارين أو التوجهين ضمن فلسفة العلوم، فهما الواقعية العلمية (Scientific Realism) واللاواقعية العلمية (Scientific Anti-Realism).

الواقعية العلمية

يمكن تعريفها بطرق عدة، وباختصار، تمثل الواقعية العلمية موقفاً تجاه النظريات العلمية ينص على أن هدف هذه النظريات هو إيصالنا إلى الحقيقة. أي أن النظريات العلمية هي تلك التي تنجح، من خلال المصطلحات العلمية النظرية، بتفسير ما يحدث في العالم المرئي (كدراسة علم الفلك للكواكب) وغير المرئي (كدراسة الفيزياء للبروتونات والإلكترونات). ويوجد هنا توجه نحو فكرة الحقيقة التي يجب على النظريات العلمية أن تؤدي إليها. أي أن لهذه النظريات جانباً معرفياً، لأنها تمنحنا مظاهر معرفية مرتبطة بالعالم، بما في ذلك المظاهر غير المرئية منه [3].

وفق الواقعية العلمية، يكمن هدف العلم في إعطاء تفسيرات وتوصيفات صحيحة لما يحدث في العالم. ويمكن في هذا السياق الحديث عن جانبين للنظرية العلمية، هما الجانب المعنوي أو الدلالي (semantic) والجانب المعرفي (epistemic). بالنسبة للجانب المعنوي، يجب أن نفهم لغة النظرية العلمية والمصطلحات المستخدمة فيها. وهذا يعني أن يكون لهذه المصطلحات دلالات في العالم الخارجي يمكننا ربطها بها. على سبيل المثال، عندما تتحدث النظرية عن الكواكب، ينبغي لنا أن نعرف دلالة كلمة “كوكب” ونفهم معناها وما تمثله في العالم الخارجي [1].

أما بالنسبة للجانب المعرفي، يجب أن نصدق النظريات العلمية على أنها صحيحة بالنسبة لما تطرحه من أفكار حول العالم أو الأشياء التي تدل عليها. فنص النظرية العلمية يهدف إلى إعطاء شرح وتفسير لظواهر العالم. لهذا لا بد أن نصدق أنها صحيحة، ولو بشكل تقريبي، بمعنى توافقها مع الحقائق الصحيحة في الطبيعة [1].

اللاواقعية العلمية

تضم اللاواقعية العلمية أفكاراً مختلفة، من أهمها التجريبية البنائية والتي طورها بشكل رئيسي الفيلسوف الأمريكي فراسن (Bas van Fraassen) في ثمانينيات القرن الماضي. وتختلف اللاواقعية عن الواقعية في تحديدها للهدف من النظريات العلمية [1]. وفقاً للتجريبية البنائية، يسعى العلم لإعطاء نظريات دقيقة من الناحية التطبيقية، لكن ليس بالضرورة نظريات صحيحة. فلا يشترط لقبول نظرية ما على أنها نظرية علمية أن تثبت صحتها. بل يكفي أن تكون دقيقة عملياً [4]. وتتفق هذه النظرية مع الواقعية العلمية في الجانب المعنوي أو الدلالي. أي أنها تركز أيضاً على ضرورة فهم المصطلحات العلمية التي تستخدمها النظرية، وربط هذه المصطلحات بالعالم ودلالاتها فيه. لكن يكمن الاختلاف في الجانب المعرفي. فهنا لا يشترط أن نؤمن بصحة النظرية كي نعتبرها نظرية علمية جيدة. بل نلجأ إلى التجربة العملية التي يجب أن تكون دقيقة [1].

يتمحور التركيز هنا حول الجوانب المرئية من العالم، والتي يجب أن تكون دقيقة عملياً. وتنطوي الدقة العملية أو التطبيقية في النظرية على حسن إعطاءها لتفسير صحيح للظواهر المرئية. باختصار، يجب للنظرية أن تكون قادرة على احتواء الظواهر المرئية التي نؤمن بوجودها كي تكون نظرية علمية. أي أنه، بالنسبة للتجريبية البنائية، لا تنطوي صحة تفسير الظواهر المرئية التي نصدقها في النظرية العلمية على صحة تفسير الظواهر غير المرئية، ولا مشكلة بهذا في النظرية العلمية [5].

الفلسفة والعلوم

إذاً تختلف وجهات النظر الفلسفية في طريقة رؤيتها للنظريات العلمية. وفي الواقع، هذا الاختلاف يغني العلوم ويوسع النطاق المعرفي الذي تجري الأبحاث ضمنه – إما بناء على توسيع الإطار المفاهيمي، أو بناء على نقد الافتراضات العلمية. إذ يمكن للفلسفة أن تكون على مستوى من الفعالية في تأثيرها على صياغة نظريات جديدة تكون قابلة للاختبار، وتساهم في وضع مسارات جديدة لأبحاث تطبيقية [2].

اقرأ أيضاً: فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

المصادر

  1. Coursera: Massimi, Michela, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Why Science Needs Philosophy
  3. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Scientific Realism
  4. Constructive Empiricism – Paul Dicken
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Constructive Empiricism

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

يمكن تعريف فلسفة العقل (Philosophy of Mind) على أنها دراسة طبيعة العقل، والظواهر والوظائف والخواص العقلية. كما يبحث هذا الاختصاص من الفلسفة في ماهية العلاقة بين العقل والجسد [1]. ويسعى للإجابة على التساؤلات حول اختلاف العقل عن المادة، وماهية التفكير والإحساس والتجربة والتذكر وغيرها من الوظائف المرتبطة بالعقل دون الجسد [2].

فسر الفلاسفة في هذا الاختصاص طبيعة العقل بطرقٍ عدة. ونتج عن هذه التفسيرات والتحليلات لعلاقة العقل بالجسد أكثر من اتجاه. سنسلط الضوء في هذا المقال على كل من الثنائية (Dualism)، ونظرية هوية العقل (Identity theory)، والوظائفية (Functionalism).

الثنائية في فلسفة العقل – ثنائية العقل والجسد

في تفسيره للعقل واختلافه عن الجسد، يشرح ديكارت (Descartes) أن مكوّنات العقل تختلف اختلافاً كلياً عن مكونات الجسد. فالعقل ذو طبيعة لا مادية، ولكنّ الجسد هو مادة ملموسة [3].

ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على الاختلاف الجذري بين العقل والمادة. ويذهبون إلى رفض اعتبار أن العقل والدماغ هما شيء واحد. بل يصل بعضهم إلى حد رفض فكرة أن العقل هو بكلّيّته منتج من منتجات الدماغ. إذاً، كيف يفسر أنصار الثنائية هذا الاختلاف بين العالمين العقلي والمادي؟

تناقش الثنائية المادية أن العقل والجسد مؤلفان من مادتين مختلفتين. فالعقل هو أداة تفكير لا يتمتع بخواص الأشياء المادية كالحجم والشكل والصلابة. ولا يتبع قوانين الفيزياء التي تتأثر بها الأشياء المحسوسة. ويفسر بعض هؤلاء العلاقة بين الجسد والعقل على أنها علاقة تفاعلية يؤثر فيها كل منهما على الآخر [4]. ولكن هذا يضعهم أمام تساؤل عن كيفية تأثر مادتين مختلفتين ببعضهما. فقد واجه ديكارت هذا الاستفسار حول إمكانية العقل البشري، وهو أداة التفكير غير المادية، بأن يحدد تحركات الجسد المادي [3].

نظرية هوية العقل في الفلسفة

من جهة أخرى، ترى نظرية هوية العقل أن العقل هو شيء مادي. ويشرح هذا الاتجاه أن حالات العقل وعملياته هي متطابقة تماماً مع حالات الدماغ وعملياته. والدماغ هو مادة باعتباره عضواً من الجسم البشري. فمثلاً عندما نشعر بالألم، أو نرى شيئاً، أو نتخيل شيئاً، تفسر نظرية هوية العقل أن هذه التجارب التي نعيشها في عقلنا ليست مرتبطة بالدماغ مجرد ارتباط، بل هي عمليات تحصل في الدماغ فعلاً. وتدعي هذه النظرية أن كل الظواهر العقلية تقابلها حالات جسدية. فالشعور بالألم مثلاً، أو الإحساس بالمحبة لشيء ما أو الكره لشيء آخر، يقابله تحفيز لإحدى الألياف العصبية [5].

لكن تواجه نظرية طبيعة العقل تساؤلات من منظور “التحقيقية المتعددة” (Multiple realisability). حيث تطرح فكرة إمكانية تجسيد الحالات العقلية بأكثر من حالة جسدية. كما أنه يمكن للأحياء الأخرى أن تعيش نفس الحالات الجسدية من دون وجود حالات عقلية تشبه تلك الموجودة لدى البشر. فالأحياء تشعر بالألم مثلاً، ولكن أدمغتها ليست كأدمغة البشر، ولا تعيش الحالات العقلية نفسها التي تسبب لدى البشر تحفيز شعور الألم. أي أن هذا الشعور الممثل لحالة عقلية معينة، يتفسر جسدياً بأكثر من طريقة لدى أكثر من كائن. وهذا يتحدى فكرة ارتباط حالة عقلية بحالة جسدية مقابلة لها كما تطرحها نظرية هوية العقل [3] [6].

الوظائفية

وأخيراً، ترى الوظائفية أن الظواهر العقلية لا تُعرَّف بمادتها ومكوناتها. بل هي عبارة عن الوظائف التي تؤديها والدور الذي تلعبه في المنظومة التي تشكل جزءاً منها. وفق هذا، يفسَّر الألم على أنه الحالة التي تخلق شعوراً بوجود شيء ليس على ما يرام في الجسد. وهذا يؤدي إلى رغبة بالخروج من هذه الحالة. حيث أنه يمكن لكل المخلوقات أن تشعر بالألم وتعيش تلك الحالة العقلية إذا أدت لديها نفس الوظيفة. أي إذا خلقت لديها الرغبة بالخروج من هذه الحالة [7].

مقارنة العقل بجهاز الحاسوب

مهدت الوظائفية الطريق لمقارنة العقل بجهاز الحاسوب من ناحية عمله. فالحاسوب هو جهاز لمعالجة المعلومات. يعمل عن طريق تلقي نوع معين من المعلومات (كدفعة كهربائية ناتجة عن ضغط زر معين)، ثم يحولها إلى معلومة من نوع آخر (ظهور حرف معين على الشاشة). ومثله العقل الذي يأخذ المعلومات من الحواس والحالات العقلية التي نعيشها، ثم يعالجها، ويخرج بسلوكيات أو حالات عقلية أخرى.

ولكن تواجه هذه المقارنة بعض التحديات. إذ تعمل الحواسيب على معالجة رموز محددة تتلقاها. وللرمز جانبان مترابطان، هما الجانب البنيوي (syntactic) والجانب المعنوي (semantic). مثلاً، يمكن ربط رمز معين – ولنقل المربع – ببدء نشاط معين – وليكن الرسم. يتمثل الجانب البنيوي بشكل الرمز (أربعة أضلاع وأربع زوايا قائمة). في حين يمثل بدء الرسم الجانب المعنوي المرتبط بالرمز. عند برمجة جهاز حاسوب على هذا، سيبدأ بالرسم فور إدخال رمز المربع. وبنفس الطريقة، عند تعريف العلاقة بين المربع والرسم للعقل، سيقوم بربطهما وبإعطاء الأوامر لبدء الرسم فور رؤية المربع. ولكن الفرق هنا، والذي يمثل تحدياً أو تساؤلاً لتشبيه الحاسوب بالعقل، هو أن الحاسوب يعمل فقط على الجانب البنيوي للمعلومة أو الرمز الذي يعطى له. فهو مبرمج على إعطاء مخرج معين عند إعطائه مدخلاً ما، ولكنه لا يفهم الجانب المعنوي للرمز. ولا يعمل وفقاً لمعناه. بل يركز فقط على شكله [3].

إذاً، تمثل طبيعة العقل موضوعاً شائكاً في الفلسفة أدى إلى ظهور فلسفة العقل المختصة بهذا السياق. ولا يمكن القول بأنه يوجد اتفاق على طبيعة العقل وعلاقته بالجسد. بل توجد عدة اتجاهات ترى هذا الموضوع من منظار معين لكل منها. وبنفس الوقت، تواجه كل منها تحديات وتساؤلات تؤدي إلى الخروج باتجاهات أخرى.

اقرأ أيضاً: كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

المصادر:

أبرز أفكار القرن العشرين:حركة التنوير

تم إعادة توجيه السياسة الأوروبية والفلسفة والعلوم والاتصالات بشكل جذري خلال “القرن الثامن عشر” (1685-1815) كجزء من حركة أشار إليها المشاركون باسم عصر العقل، أو ببساطة التنوير. فكانت من أبرز أفكار القرن العشرين:حركة التنوير، إذ شكك مفكرو التنوير في بريطانيا وفرنسا وفي جميع أنحاء أوروبا في السلطة التقليدية واعتنقوا فكرة أنه يمكن تحسين الإنسانية من خلال التغيير العقلاني.

حركة التنوير هي حركة فلسفية هيمنت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، تتمحور حول فكرة أن العقل هو المصدر الرئيسي للسلطة والشرعية، ودافعت عن مُثل مثل الحرية  والتقدم والتسامح  والأخوة  والحكومة الدستورية، كما دعت إلى الفصل بين الكنيسة والدولة. فقد تميزت بالتركيز على الطريقة العلمية  والاختزال، إلى جانب زيادة التشكيك في الأرثوذكسية الدينية. قوضت أفكار التنوير سلطة الملكية  والكنيسة، ومهدت الطريق للثورات السياسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. يضع المؤرخون الفرنسيون تقليديا التنوير بين 1715، وهو العام الذي توفي فيه لويس الرابع عشر، و 1789، بداية الثورة الفرنسية. بعض المؤرخين الحديثين أرجعوا عصر التنوير إلى الفترة 1620، مع بداية الثورة العلمية. ومع ذلك، ازدهرت أصناف وطنية مختلفة من الحركة بين العقود الأولى من القرن الثامن عشر والعقود الأولى من القرن التاسع عشر.

العقلانية، لب حركة التنوير

تعرف العقلانية بأنها الاعتقاد بأننا نأتي إلى المعرفة من خلال استخدام المنطق،  وبالتالي بشكل مستقل عن التجربة الحسية، كانت حاسمة لمناقشات فترة التنوير، عندما أشاد معظم الفلاسفة بقوة العقل لكنهم أصروا على أن المعرفة تأتي من التجربة.

فلسفة الحركة التنويرية

دعت فلسفة الحركة التنويرية إلى مجتمع قائم على العقل بدلا من الإيمان والعقيدة الكاثوليكية، من أجل نظام مدني جديد قائم على القانون الطبيعي، وللعلم القائم على التجارب والمراقبة.

في منتصف القرن الثامن عش، شهدت أوروبا انفجارًا في النشاط الفلسفي والعلمي الذي تحدى المذاهب والعقائد التقليدية. قاد الحركة الفلسفية فولتير وجان جاك روسو، أولئك الذين جادلوا من أجل مجتمع قائم على العقل بدلاً من الإيمان والعقيدة الكاثوليكية، لنظام مدني جديد قائم على القانون الطبيعي، وللعلم القائم على التجارب والمراقبة.

وقدم الفيلسوف السياسي مونتيسكيو- Montesquieu فكرة فصل السلطات في الحكومة، وهو مفهوم اعتمده بحماس مؤلفو دستور الولايات المتحدة. في حين أن فلاسفة التنوير الفرنسي لم يكونوا ثوريين، وكان العديد منهم أعضاء في طبقة النبلاء، لعبت أفكارهم دورًا مهمًا في تقويض شرعية النظام القديم وتشكيل الثورة الفرنسية.

كان هناك خطان متميزان لفكر التنوير: التنوير الراديكالي ، المستوحى من فلسفة سبينوزا- Spinoza، والدعوة إلى الديمقراطية، والحرية الفردية، وحرية التعبير، والقضاء على السلطة الدينية. سعى تنوع ثان أكثر اعتدالاً، بدعم من رينيه ديكارت وجون لوك وكريستيان وولف وإسحاق نيوتن وغيرهم، إلى التوفيق بين الإصلاح والأنظمة التقليدية للسلطة والإيمان.

تطور بشكل كبير مضمون المنهج العلمي (طبيعة المعرفة  والأدلة  والخبرة والسببية)، وبعض المواقف الحديثة تجاه العلاقة بين العلم والدين، من قبل ديفيد هيوم-David Hume وآدم سميث. أصبح هيوم شخصية رئيسية في التقاليد الفلسفية والتجريبية المتشككة للفلسفة. كما حاول إيمانويل كانط – Immanuel Kant التوفيق بين العقلانية والمعتقد الديني والحرية الفردية والسلطة السياسية، وكذلك رسم وجهة نظر للمجال العام من خلال العقل الخاص والعام. استمر عمل كانط في تشكيل الفكر الألماني -في الواقع كل الفلسفة الأوروبية- في القرن العشرين. أيضًا كانت ماري وولستونكرافت واحدة من أوائل الفلاسفة النسويين في إنجلترا. وجادلت من أجل مجتمع قائم على العقل، وأن النساء وكذلك الرجال ، يجب أن يعاملوا ككائنات عقلانية.

كما لعبت أفكار التنوير دورًا رئيسيا في إلهام الثورة الفرنسية، التي بدأت في عام 1789 وأكدت على حقوق الناس العاديين، على عكس الحقوق الحصرية للنخب والنبلاء. ومع ذلك، يلاحظ مؤرخو العرق والجنس والطبقة أن المُثل العليا للتنوير لم يتم تصورها في الأصل على أنها عالمية بالمعنى الحالي للكلمة. على الرغم من أنها ألهمت في نهاية المطاف النضال من أجل حقوق الأشخاص الملونين أو النساء أو الجماهير العاملة، إلا أن معظم مفكري التنوير لم يدعوا إلى المساواة للجميع، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الطبقة، بل أصروا على أن الحقوق والحريات ليست وراثية. هاجم هذا المنظور مباشرة الموقف الحصري التقليدي للأرستقراطية الأوروبية، لكنه كان لا يزال يقتصر إلى حد كبير على توسيع الحقوق السياسية والفردية للذكور البيض ذوي المكانة الاجتماعية الخاصة.

العلوم وحركة التنوير

سيطر العلم خلال عصر التنوير من قبل الجمعيات العلمية والأكاديميات, التي حلت إلى حد كبير محل الجامعات كمراكز للبحث العلمي والتنمية. كانت المجتمعات والأكاديميات أيضا العمود الفقري لنضج التطور العلمي. ومن التطورات الهامة الأخرى تعميم العلم بين السكان الذين يعرفون القراءة والكتابة بشكل متزايد. وصلت العديد من النظريات العلمية إلى جمهور واسع ، لا سيما من خلال الموسوعة (موسوعة عامة نشرت في فرنسا بين عامي 1751 و 1772) وتعميم النيوتونية.

وقد شهد القرن الثامن عشر تقدما كبيرًا في ممارسة الطب, الرياضيات, والفيزياء; تطوير التصنيف البيولوجي; فهم جديد للمغناطيسية والكهرباء; ونضوج الكيمياء كنظام, الذي أسس أسس الكيمياء الحديثة.

الدين وخُطى الحركة التنويرية

أتت ىالحركة التنويرية بمثابة الرد على الصراع الديني في أوروبا خلال القرن السابق. سعى مفكرو التنوير إلى الحد من القوة السياسية للدين المنظم، وبالتالي منع عصر آخر من الحرب الدينية غير المتسامحة. تطور عدد من الأفكار الجديدة، بما في ذلك الإلحاد (الإيمان بالله الخالق، دون الإشارة إلى الكتاب المقدس أو أي مصدر آخر). وقد نوقش هذا الأخير كثيرًا ولكن كان هناك عدد قليل من المؤيدين. مثل فولتير، رأوا أنه بدون الإيمان بإله يعاقب الشر، قُوض النظام الأخلاقي للمجتمع.

أما عن ةدور الكنيسة فقد روج التنوير الراديكالي لمفهوم فصل الكنيسة والدولة، وهي فكرة غالبًا ما تنسب إلى لوك. فوفقا لمبدأ لوك للعقد الاجتماعي، تفتقر الحكومة إلى السلطة في مجال الضمير الفردي، إذ لم يستطيع الناس العقلانيون التنازل للحكومة من أجل السيطرة عليها أو غيرها. بالنسبة إلى لوك، خلق هذا حقًا طبيعيًا في حرية الضمير، والذي قال إنه يجب أن يظل محميًا من أي سلطة حكومية. تلك الآراء حول التسامح الديني وأهمية الضمير الفردي, جنبًا إلى جنب مع العقد الاجتماعي، أصبحت مؤثرة بشكل خاص في المستعمرات الأمريكية وصياغة دستور الولايات المتحدة. في حين سيطر الرجال على فلسفة وقضايا و أفكار حركة التنوير، انبثقت مشكلة  دور المرأة . فقد ظهرت مسألة حقوق المرأة كواحدة من أكثر الأفكار إثارة للجدل. ماري وولستونكرافت- Mary Wollstonecraft، واحدة من المفكرين الإناث القلائل في ذلك الوقت، كانت كاتبة وفيلسوفة وداعية لحقوق المرأة. وهي معروفة بدعمها لحقوق المرأة، والتي تجادل فيها بأن المرأة ليست أقل شأنا من الرجل بشكل طبيعي ، ولكنها تبدو فقط لأنها تفتقر إلى التعليم. وتقترح أن يعامل كل من الرجال والنساء ككائنات عقلانية ويتخيل نظاما اجتماعيا قائما على العقل.

أهم ما أنتجه عصر التنوير

كان عصر التنوير عصر غزير الإنتاج، فلعل أبرز ما أنتجه التنوير هو الثورة العلمية، والتي أنتجت العديد من الكتب والمقالات والاختراعات والاكتشافات العلمية كذلك القوانين والحروب والثورات. كانت الثورات الأمريكية والفرنسية مستوحاة بشكل مباشر من المُثل العليا للتنوير وكانت على التوالي ذروة نفوذها وبداية تراجعها. أعطى التنوير في نهاية المطاف الطريق إلى الرومانسية في القرن ال19. كما آلت إلى تطوير نظام لقوانين الطبيعة العالمية، فسرعان ما أصبع العلم نموذجًا لكل المعرفة البشرية.

  • منهج التشكيك، إذ شكك فولتيير في أي شيء خارج نطاق العلم، ودعا إلى التسامح بالنسبة إلى المعتقدات التي تقع خارج حدود العلم، فهي لا تنشأ ولا يمكن دحضها من قبل الألية العلمية، مُصورا مفهوم العقلانية.
  • حرر Denis Diderot-دينيس ديديروت، 28 مجلد موسوعي، العالم الذي اعتقد بأن العلم يبرر المادية، فكانت نظرته للعالم تصفه بأنه يتكون من المادة فقط. فقد كتب أن العالم ماهو إلا كتلة من الجزيئات.
  • جادل بارون بول دي هولباخ- بأن العالم والعلم مبنيان على أسس مادية، كما رسم ملامح الإلحاد ووصفه بعدم وجود الله.
  • إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني في القرن الثامن عشر، كتب مقالا بعنوان ما هو التنوير؟

مشيرًا إلى أن التنوير هو انسلاخ الإنسان من القصور الذي تكبده بنفسه. القصور ذلك هو عدم القدرة على الاستفادة من فهم المرء دون توجيه من آخر. يتم تكبد هذا القصور ذاتيًا لسببين أساسيين هما، التكاسل : تكاسل المرء عن الاعتماد على نفسه في التفكير مما أدى إلى تخلفهم، والجبن: الذي هيأ الفرصة للإخرين كي تقوم باستغلالهم. اختلف العلماء عند هذا المبحث، فبعضهم تجريبي، اعتقد أن كل المعرفة تأتي من التجربة، والبعض الآخر عقلاني، اعتقد أن بعض المعرفة في العالم “بداهة”أو فطري، أي شيء مستقل عن الخبرة

الثورة العلمية: لمحة سريحة

تُفهم الثورة العلمية على أنها فترة تاريخية والتي تضع حتما حدود “المكان والزمان والموضوع” – أي أن فترات زمنية محددة بعناصر جغرافية وزمنية وموضوعية، تشير إلى التطورات أو الحركات الأوروبية التي تمتد على فترات لا تقل عن 75 إلى 185 سنة. وتشمل هذه التطورات تغيير العلاقات المفاهيمية والثقافية والاجتماعية والمؤسسية التي تنطوي على الطبيعة والمعرفة والمعتقد. نمت الثورة العلمية معقدة على نحو متزايد. كما حاولت أن تأخذ في الاعتبار البحوث الجديدة ووجهات النظر البديلة ، تم إجراء إضافات وتعديلات جديدة. من بين الإضافات الأكثر وضوحًا.

يعتبر التنوير أهم جذور المشاكل الفكرية التى ظهرت في القرن العشرين، فظهرت فكرتان واضحتان من التنوير هما:

  • أن العلم يعطينا وصفا كاملا للواقع، تحديدا العلوم الطبيعية، كأساسًا للعلوم التي تستجيب لتساؤلات الإنسان، فما يمكن أن يدرس، يُدرس بالعلم، وما يمكن أن يعرف، يُعرف بالعلم.
  • يمكننا صياغة نظرية شاملة للأخلاقيات و السياسات، لما يجب عليك كفرد فعله، وما يجب علينا كجماعة. يمكننا القيام بذلك، وتطبيقه على النماذج العامة للعلوم.

على ما يبدوا أن ظهرهناك توترًا واضحًا بين الفكرتين!

فالعلم يخبرنا ما الفكرة ولماذا هي، وليس كيف يجب أن تكون. هنا تقبع الفجوة، بين ماهية الفكرة وما يجب، هناك فجوة بين الواقع والقيمة المشكلة هنا مشكلة معيارية، فالعلم لا يصف بل يقيم.

بدأت الثورة العلمية في القرن الخامس عشر، تشير”الثورة العلمية” إلى التغيرات التاريخية في الفكر والمعتقد، كما تشيرإلى التغيرات في التنظيم الاجتماعي والمؤسسي، التي تكشفت في أوروبا بين 1550-1700 تقريبا.

بدءاً من Nicolaus Copernicus-نيكولاس كوبرنيكوس (1473-1543)، الذي أكد على كون مركزية الشمس، وانتهت مع إسحاق نيوتن (1642-1727)، الذي اقترح قوانين عالمية والكون الميكانيكي. في التاريخ الأوروبي يشير مصطلح “الثورة العلمية” إلى الفترة بين كوبرنيكوس ونيوتن. لكن الفترة الزمنية اختلفت بشكل كبير على مدى السنوات ال 50 الماضية. فبعد وفاة نيوتن (1727)، قد اقترحت مقترحات أكثر تطرفا أن الثورة العلمية قد تنطبق على ما يسمى التنوير “النيوتونيين”

يميل مفكرو التنوير إلى افتراض أنه يمكننا معرفة الطبيعة  والقوانين من الطبيعة والبشر والمجتمع والأخلاق والسياسة،

إذا كان العالم ليس سوى كتلة من الجزيئات المتحركة –وفقًا لقوانين الطبيعة الموضوعة- فكيف وبأي أداة يمكننا أن نضع المعايير والقيم؟

ما معنى أن هناك حديثًا يمكن أن يصاغ حول الصواب والخطأ، الخير والشر، العدالة والظلم؟ كيف يمكننا القيام بذلك من خلال النظر في حركات الكواكب والنجوم؟ كيف وقد دعا عصر التنوير إلى فرض العقل والمادية البحتة في قياس وتحديد ماهية أي شيء حولنا؟

المصادر

history

stanford

historyhit

Exit mobile version