نموذج العوالم الثلاثة، ما سر اختفاء العالم الثاني؟

نموذج العوالم الثلاثة، ما سر اختفاء العالم الثاني؟


العالم الثالث مصطلح شائع التداول للإشارة للبلدان النامية، أو البلدان الأقل تطور. بالرغم من أن هذه المفاهيم تندرج تحتها فئة كبيرة من البلدان معظمها غير متجانسة لا من ناحية الثقافة ولا الاقتصاد.

تُعد هذه البلدان متخلفة بالقياس ببلدان العالم الأول. أو البلدان التي تتضمن الدول المتطورة ثقافيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا. وتتمثل في بلدان الغرب عمومًا، ولكن بالإضافة إلى إشكالات حصر عدد هائل من الدول تحت تصنيف واحد، نلاحظ غياب مفهوم “العالم الثاني”، فما سر اختفائه؟

نموذج العوالم الثلاثة:

أول من أشار لمفهوم العالم الثالث هو المؤرخ والديمغرافي الفرنسي “ألفريد سوفيه” في مقالٍ نشره عام 1952، وهي الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية وظهرت فيها الحرب الباردة وهي حرب جيوسياسية نشبت عقب الحرب العالمية الثانية بين القطبين الأقوى وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، أو ما يعرف بالمعسكر الغربي “الرأسمالي”، والمعسكر الشرقي “الاشتراكي“.

وضح سوفيه أن دول العالم يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات كل منها يتميز بخصائص معينة، وهذه المجموعات هي:

– العالم الأول:

وهي الدول الرأسمالية، أو ما يشار إليه بالمعسكر الغربي، وتشمل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وتتضمن دول أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان واستراليا. وتتميز هذه الدول باقتصاد رأسمالي.

 – العالم الثاني:

وتضمن هذا العالم الدول الاشتراكية متمثلة بالاتحاد السوفيتي وحلفائه. وتميزت باقتصاد مسبق التخطيط، وهي القوة الثانية الجبارة في الاقتصاد العالمي في مواجهة دول العالم الأول.

– العالم الثالث:

أشار سوفيه إلى الدول التي لم تنطبق عليها صفات دول العالم الأول أو الثاني اسم دول العالم الثالث. وجمع بذلك جميع الدول التي لم تتحالف مع المعسكر الشرقي أو الغربي وبقيت على الحياد. ووصف حالة هذه الدول بأنها شبيهة بحالة عامة الشعب قبيل الثورة الفرنسية.

بين النموذج والنظرية:

طور ماو زيدونغ نظرية “العوالم الثلاثة” بشكل مخالف لنموذج سوفيه في سبعينيات القرن العشرين. فتصنيفه لم يقسم العالم لدول تتبع المعسكر الغربي أو الشرقي فقط وإنما نظريته اقتصادية-سياسية.

العالم الأول في نظرية العوالم الثلاثة:

تضمنت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، كونها حسب مفهومه الدول الأكثر ثراءً والدول التي تملك السلاح النووي، وهي الدول الإمبريالية، والإمبريالية-الاشتراكية.

العالم الثاني:

ويشمل اليابان، وكندا، وأستراليا، وأوروبا، وهي بلدان لا تملك أسلحة نووية، لكنها تبقى أثرى من دول العالم الثالث، أي هي في الوسط بين الدول الأقوى والأضعف.

العالم الثالث ” الماويّ”:

يتضمن بلدان قارة أفريقيا، وأميركا اللاتينية، ومعظم قارة آسيا، وهي بلدان فقيرة مُستعمرة من قبل البلدان الأكثر قوةً وثراءًا.

انهيار الاتحاد السوفيتي واندثار مفهوم “العالم الثاني”

مع انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة، أخذ مفهوم العالم الثاني بالتلاشي. بالرغم من أن مفهوم العالم الثاني يشير أحيانًا إلى بلدان مستقرة اقتصاديًا مقارنًة ببلدان العالم الثالث شديدة الفقر، وهنا نرى خلطًا في المفاهيم بين نظرية ماو زيدونغ ونموذج سوفيه. وفي الواقع ما زالت مصطلحات العالم الأول والثالث مستخدمة وشائعة جدًا بالرغم من اختفاء العالم الثاني.

ما وراء العالم الثالث:

لم ينتهِ العد عند العالم الثالث، إذ نشأت دول أكثر تخلفًا وشكلت هذه الدول العالم الرابع والخامس. وتشمل هاتين المجموعتين حسب الأمم المتحدة، البلدان الأقل تطورً والأشد فقرًا. وتتضمن المجتمعات البدائية أو القبائل التي تعيش بمعزل عن الحضر. بالإضافة إلى البلدان الأشد فقرًا والتي تتميز بنمو سكاني مرتفع وانخفاض في معدل الدخل القومي وارتفاع شديد في عدد الوفيات.

لنا أن نتساءل الآن، أين عالمنا العربي من هذه التصنيفات؟ في الوقع لا يوجد تصنيف واحد يوضح مجموعة غير متجانسة من البلدان، فكل بلد معين يتميز بخصائص جغرافية وسكانية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وبالرغم من تشابه بلدين في جانب أو آخر إلا أنهما لا يتطابقان تمامًا. ونموذج العوالم أو حتى النظرية الماويّة تعجزان عن توضيح الفروقات بين بلدان العالم عن طريق حجزها في نطاقٍ ضيقٍ من الصفات والخصائص.

المصادر:

mometrix
tandfonline
investopedia
maoistwikia
investopedia
nationsonline
fifthworld

العصر البرونزي الحديث .. كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

لا بد أن اللحظات الأخيرة للسفينة كانت مرعبة. ربما غرقت بعد اصطدامها بشيء مغمور في الماء، أو أنها غرقت بسبب عاصفة قوية أو ربما يكون طاقمها قد أغرقها عن عمد ليتجنب سقوطها بيد القراصنة. لا يمكن الجزم في سبب غرقها، لكن علماء الأثار قد انتشلوا حمولتها، وعلموا أن السفينة كانت مبحرة من منطقة شرق المتوسط إلى منطقة إيجة حاملة معها الدليل الأكبر على العولمة والسبب الأساسي لانهيار الحضارات القديمة. لكن، كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

عام 1982 وأثناء قيام غطاس تركي شاب من صائدي الإسفنج البحري بأولى غطاساته قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتركيا وفي منطقة 《أولوبورون – Uluburun》 تحديدًا، يكتشف عن طريق الصدفة ما يدعوه بقطع البسكويت المعدنية. أدرك قائده مباشرةً أن الشاب كان جائعًا وأنها ليست قطع بسكويت بل سبائك جلد الثور النحاسية التي تعود للعصر البرونزي الحديث. لم يكتشف الشاب مجرد سبائك نحاسية بل حطام سفينة قد غرقت سنة 1200 ق.م. في عصر بدأت فيه العولمة وكانت سببًا في انهيار حضاراته.(1)

استلم عالم الأثار البحرية 《جورج باس- George Bass》 مهمة التنقيب عن السفينة. وأثناء تنقيبه اكتشف زجاجًا خامًا وجرار تخزين مملوءة بالشعير والتوابل وربما الخمر. أما أثمن ما في الحمولة فهوا حوالي طن من القصدير الخام وعشرة أطنان من النحاس الخام الذين كانوا سيمزجون معا لتشكيل معدن البرونز الرائع.(1)

رسم تخيلي لسفينة أولوبورون (مواقع التواصل )

 في الواقع إن اكتشاف باس مدهش. ولكن قيمته حقًا لم تكن في هذه الحمولة الهائلة، بل بأنه أزاح الستار عن عصر أممي تربطه طرق تجارية وعلاقات دبلوماسية واسعة. كان هذا العصر يعتمد على معدن البرونز كما النفط في يومنا هذا.

علاقات دولية

كان عصر البرونز الحديث (1550-1200) عصر أممي بامتياز. قامت فيه امبراطوريات عظيمة سيطرت على العالم القديم وارتبطت ببعضها عبر التجارة والحروب والعلاقات الدبلوماسية. بحيث كان يمكن لشخص من مصر مثلا أن يقوم برحلة إلى اليونان للتسوق مارًا بجزيرة كريت ثم إلى مدن البر اليوناني ثم يعود إلى مصر. (2)

لم تكن سفينة أولوبورون الدليل الأول أو الوحيد على أممية هذا العصر. بل إن عالم الأثار نفسه قد اكتشف سفينة أخرى كانت قد غرقت قبلها بمئة سنة. ولم تكن هذه السفن سوى واحدة من مئات السفن التي كانت تجوب المتوسط عبر طرق بحرية أساسية كانت تربط العالم القديم ببعضه.

العولمة القديمة

وفي قصة مثيرة تعود لبداية هذا العصر حوالي عام 1477 ق.م. في مدينة بيرو نيفر في دلتا النيل والتي تعرف حاليًا بتل الضبعة. يأمر الفرعون المصري تحتمس الثالث ببناء قصر كبير له، بزخارف ورسومات جصية مذهلة لم يكن لها مثيل في مصر.

استأجر الفرعون لهذه المهمة حرفيون من جزيرة كريت البعيدة، والتي تقع في أقصى الغرب في الجانب الأخر من الأبيض المتوسط. رسم هؤلاء الحرفيون صورًا لم يراها أحد في مصر قبلًا، مشاهد غريبة لرجال يثبون فوق ثيران. وكانوا يستعملون الطلاء فوق الجص قبل أن يجف بحيث يمتص الألوان ويصبح جزئًا من الجدار نفسه. وهذا ما يسمى بأسلوب الفريسكو.

كانت هذه المشاهد والتقنية المستخدمة في الرسم المستوحاة من جزيرة كريت، موجودة أيضًا في مناطق كنعانية ساحلية وفي تركيا وقطنة في سوريا. (2) وتشكل هذه الرسوم مثالًا أخر على العولمة التي تعود لأكثر من 3400 سنة من يومنا هذا.

إن العلاقات بين جزيرة كريت والشرق الأدنى كانت أقدم من ذلك. فعلى جزيرة كريت نفسها عُثر عى العديد من الأغراض المصرية والكنعانية وأغراض تعود لبلاد الرافدين.  وكما تقول مؤرخة الفن هيلين كانتور لا تشكل الأدلة التي حفظها لنا مرور الزمن سوى نسبة ضئيلة مما لا بد وأنه كان موجودا يوما ما. كل وعاء استورد يمثل عشرات من الأوعية الأخرى التي اندثرت.

ربما ينبغي أن نفهم أن التجارة بين منطقة إيجة ومصر والشرق الأدنى كانت أكبر بكثير مما نظنه اليوم.

أرشيفات ملكية

عام 1887 ميلاديًا وفيما كانت امرأة قروية من مصر تبحث عن بعض الأخشاب للتدفئة في منطقة تل العمارنة. عثرت على واحد من أهم الأرشيفات التي دونت العلاقات الدبلوماسية والتجارية في العالم القديم. عثرت على أرشيف تل العمارنة.

بنى هذا الأرشيف الفرعون المصري أمنحتب الثالث خلال القرن الرابع عشر ق.م. واحتفظ فيه بجميع المراسلات الدبلوماسية والتجارية التي كانت تجري بين مصر ودول البحر المتوسط. مات أمنحتب الثالث وخلفه ابنه أخناتون أو كما نعرفه اليوم بفرعون النبي يوسف الذي قام بثورة التوحيد في مصر. ربما تخلى أخناتون عن كل موروث والده الديني وأغلق معابد أمون. لكنه فهم أهمية الحفاظ على العلاقات الدولية فاحتفظ بهذا الأرشيف وأضاف عليه.

كان أرشيف تل العمارنة كنزًا دفينًا يعج بالرسائل بين ملوك وحكام مناطق الشرق الأدنى. كان موضوع هذه الرسائل في العادة طلبًا للمساعدة من حكام مناطق تابعة لمصر. لكن رسائل القوى الكبرى كانت على مستوى دبلوماسي أعلى بكثير. (2)

نرشح لك: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

عقوبات تجارية

قصة أخرى مثيرة للاهتمام، عثر المنقبون في مختلف المناطق الحيثية (تركيا حاليًا) على العديد من الأغراض والبضائع من مختلف البلدان في الشرق الأدنى. وأيضا عثروا على بضائع حيثية في جميع تلك البلدان. لكن الاستثناء الوحيد كان في منطقة اليونان فلم يتم إيجاد أي أغراض حيثية في البر الرئيسي لليونان خلال العصر البرونزي الحديث. وكذلك في الأراضي الحيثية لم يجد العلماء أي دلائل على استيراد أي أغراض من المملكة المسينية التي حكمت اليونان خلال الألفية الثانية. (2)

قد يكون الأمر أن أي من الطرفين لم ينتج اغراضًا احتاجها الأخر أو أن الأغراض المتبادلة كانت عرضة للتلف. لكن الأثرين قد عثروا على معاهدة دبلوماسية حيثية تنص عل حظر اقتصادي متعمد على الميسينيين ويبدوا أنه من المرجح أننا نطالع هنا أحد اقدم الأمثلة على ما ندعوه اليوم بالعقوبات اقتصادية.

ربما الدافع لإنشاء هذا الحظر هو قيام الميسينيين بدعم أنشطة معادية للحيثيين في غرب الاناضول. أو ربما هذا الحظر كان نتيجة لاتفاقية معادية للحيثيين وقعت بين مصر وميسينيا أثناء عصر الفرعون أمنتحتب الثالث. خلاصة القول يبدوا أن التجارة والدبلوماسية منذ 3500 عام مضت لم تكن تختلف اختلًافا كبيرًا عن ما يمارس في عالمنا المعولم اليوم من إجراءات حظر اقتصادي  وبعثات دبلوماسية وغيرها.

لقد كان العصر البرونزي الحديث عصرًا ذهبيًا في التاريخ لكن لكل شي نهاية ونهاية هذا العصر كانت مأساوية.

نهاية عصر

انهار العالم في نهاية عصر البرونز الحديث وانهارت معه الحضارة ورغم الكارثة التي أحلها هذا الانهيار إلا أنه لم يحدث فجأة ولا بسبب كارثة نووية بل حدث على مرحلة زمنية طويلة وبسبب عدة أزمات. سنة 1177 ليست السنة التي حدث فيها الانهيار بل السنة التي بدأ فيها كل شيء.  (2)

تشير أخر الأبحاث الأثرية والأدلة النصية المستخرجة من مدينة أوغاريت (رأس شمرا حاليًا على الساحل السوري) أن العلاقات والصلات الدولية بقيت قائمة حتى أخر لحظة من الانهيار، تدمرت أوغاريت نهائيا بين سنة 1190-1192 ق.م. ويورد المنقبون في تقاريرهم أدلة على دمار ونيران في سائر أنحاء المدينة. مع وجود العديد من رؤوس السهام منتشرة في أطلال المدينة. وهذا ما يدل على أن التدمير الذي حصل للمدينة هو نتيجة غزو خارجي.

في ذات الفترة تقريبا دمر عدد من المدن والبلدات في جنوب سوريا وكنعان، المشكلة أنه لم يتمكن العلماء لحد الأن من تحديد سبب الدمار أو هوية الفاعل.

خريطة المواقع المدمرة في نهاية عصر البرونز (مواقع التواصل )

فاعل مجهول

كان سائدًا ولفترة طويلة أن شعوب البحر هي المسؤولة عن الدمار الحاصل في نهاية عصر البرونز في كل المدن. وأن هذه الشعوب قد غزت معظم العالم القديم، ففي هذه الفترة في القرن الثاني عشر تعرضت معظم المدن للدمار مما كان يعزز هذه الفرضية. وذلك يعود بطريقة أو بأخرى للنص الذي كتبه رمسيس الثالث والذي ذكرناه في المقال الأول.

هذا النص يتحدث عن تدمير هذه الشعوب لعواصم الدول الكبرى لكن الأدلة الأثرية اليوم ربما تشير إلى غير ذلك.

يتحدث الكتاب المقدس ومصادر أخرى عن خمس مدن في جنوب كنعان احتلتها شعوب البحر وهي عسقلان وأشدود وعقرون وجت وغزة. التنقيبات الأثرية في مدينة عقرون وأشدود تشير إلى تدمير كبير في المدينتان يعود لنهاية عصر البرونز الحديث. وقد تم استبدال الثقافة المحلية للمدينتين بثقافة أجنبية (أحواض الاستحمام والمواقد والأدوات الفخارية …) وهذا ما يشير إلى تدفق أشخاص جدد في أعقاب انهيار كنعان وانسحاب القوات المصرية من المنطقة.

الأمر نفسه قد حدث في مدينة عسقلان ربما كانت شعوب البحر مسؤولة فعليًا عن دمار هذه المدن لكن ماذا عن باقي الممالك الكبرى؟

حروب محلية

في بلاد الرافدين وجد علماء الأثار أدلة تدمير في مواقع متعددة تشمل بابل، لكن من الواضح الأن أن المتسبب في ذلك كان قوى أخرى غير شعوب البحر فالجيش العيلامي الذي زحف من جنوب غرب إيران كان متسببًا في جزء من هذا الدمار.

وفي الأناضول (تركيا حاليًا) وفي نفس الفترة، نرى تدمير للعديد من المدن الكبرى منها حاتوسا عاصمة الحيثيين التي أظهرت الدراسات الأثرية تدمير القصر والمعبد فيها بنيران كبيرة. لا يمكن الجزم بأن شعوب البحر قد فعلوا ذلك وخصوصًا أن للحيثيين أعداء يسمون بالكاشكا ربما استغلوا فرصة ضعف الإمبراطورية الحيثية وهاجموها.

عمليات التدمير حصلت في ذات الفترة تقريبًا في المملكة الميسينية في اليونان. فمن المتفق عليه بشكل عام أن ميسيناي، عاصمة المملكة الميسينية، وعدة مدن كبيرة أخرى في اليونان قد لحقت بهم عملية التدمير في القرن الثالث والثاني عشر ق.م. ومجددًا لا يمكن تحديد هوية الفاعل لكن هذه المرة ربما كانت الطبيعة مسؤولة عن جزء من هذا الدمار، حيث تظهر بعض الأدلة أن زلزالًا أو سلسلة من الزلازل دمرت ميسيناي ومدن أخرى في اليونان. 

الأم الطبيعة

في الواقع عندما تقرر الطبيعة أن تدمر قطعة منها فيمكنها أن تفعل ذلك بعدة أشكال.

بفضل الأبحاث التي أجراها مؤخرًا علماء الزلازل الأثرية بات من الواضح أن اليونان ومساحة كبيرة من منطقة إيجة وشرق المتوسط كانت قد ضربتها سلسلة من الزلازل بدأت من سنة 1225 ق.م. استمرت طيلة خمسين عامًا يدعوها علماء الأثار اليوم بعاصفة الزلازل وقد ضربت في هذه الفترة الزمنية ميسيناي والعديد من المدن الميسينية الأخرى. ويمكن رؤية ضرر الزلازل في مواقع عديدة أخرى تشمل طروادة في تركيا حاليًا وحاتوسا في الأناضول وأوغاريت ومجدو وعكا وأشدود في المشرق. (3)

تغير مناخي

يعتقد بعض الباحثين اليوم أن المشكلة ليست فقط في الزلازل فالطبيعة تحمل في جعبتها الكثير. نشر فريق دولي من الباحثين يضم 《ديفيد كينوسكي – David Kaniewski》 بحثًا يتضمن عدة أدلة علمية على التغير المناخي والجفاف في إقليم البحر المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر ق.م.

اعتمد الباحثون على بيانات استمدوها من تل تويني في شمال سوريا. وعبر دراسة حبوب لقاح مأخوذة من رواسب طمي بالقرب من الموقع استنتجوا وجود فترة جفاف شديدة في المنطقة (4). استمرت هذه الفترة ما يقارب 300 عام وتسببت في تلف المحاصيل ونقص الغذاء والمجاعة مما سرع الأزمات وفرض نزوحًا بشريًا إقليميًا في شرق المتوسط وغرب آسيا.

لاحقًا نشر براندون دريك من جامعة نيو مكسيكو عدة أدلة اضافية من مناطق في فلسطين وغرب اليونان، تشير إلى حصول جفاف في هذه المناطق وفي ذات الفترة تقريبا.. (2)

أحجار الدومينو

من شأن الجفاف والزلازل أن تحدث أزمات داخل الدول، وربما تؤدي إلى الهجرة. لكن هذه الكوارث قد حصلت في عصور سابقة ولم تؤدي لانهيار حضاري كامل فما هو السبب إذًا؟

هذه العوامل مجتمعة أسهمت في انهيار ممالك وامبراطوريات العصر البرونزي المتأخر وهذا هو الاحتمال المرجح حاليًا. فانهيار الأنظمة على هذا النحو لا يمكن أن يسببه زلزال أو مجاعة أو حرب لكن اجتماعها معًا يمكن أن يسبب أزمة كبيرة. وفي ظل تعقيد العلاقات بين الامبراطوريات واعتمادها على العولمة والأممية يمكن لكل هذا أن يؤدي إلى ما يسميه العلماء بالتأثير المضاعف حيث تتضخم تأثيرات تلك العوامل وتؤدي إلى الانهيار الكامل. (2)

كان معدن البرونز لذلك العصر كما النفط في يومنا وكانت السفن تعود الى ميسينيا محملة بالمواد الأولية لصناعة هذا المعدن . اعتمد الاقتصاد الميسيني بشكل أساسي على هذا المعدن، ومع انهيار التجارة الدولية لم تعد المواد الخام تصل الي ميسينيا الأمر الذي أدى إلى انهيارها. وكأحجار الدومينو تساقطت الحضارات الواحدة تلوى الأخرى مخلفةً عصورًا مظلمة استمرت لمئات السنين اللاحقة وهكذا تصبح العولمة سببًا للانهيار الحضاري الأكبر على الإطلاق.

لكن ماذا لو أن هذا العالم القديم لم ينهار كيف كان سيبدو عالمنا اليوم؟

نرشح لك: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

المصادر:

  1. PULAK C. The Uluburun shipwreck. The oxford handbook of the Bronze Age Aegean. 2012 :1305-1327.
  2. Cline E. 1177 BC. Princeton University Press; 2015.
  3. Nur A, Cline E. Poseidon’s Horses: Plate Tectonics and Earthquake Storms in the Late Bronze Age Aegean and Eastern Mediterranean. Journal of Archaeological Science [Internet]. 2000;27(1):43-63. Available from here.
  4. Kaniewski D, Van Campo E, Weiss H. Drought is a recurring challenge in the Middle East. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2012;109(10):3862-3867.

الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

يرزح الاقتصاد العالمي تحت ضغط كبير، وتجتاح الأزمات دول الشرق الأوسط. انهيار اقتصادي في لبنان وسوريا وحرب في اليمن، تدخلات تركية وإيرانية تأجج نيران الصراع في المنطقة. العراق يعيش حالة من الاضطراب واقتصاد اليونان في حالة يرثى لها. أليس هذا هو الحال في سنة 2021 ميلاديًّا؟ بلى، ولكن الوضع أيضا كان هكذا في سنة 1177 ق.م. منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفي عصر يدعى بالعصر البرونزي، حلَّ الانهيار الحضاري الكبير ، فانهارت حضارات منطقة البحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى. وبانهيارها غيرت مسار ومستقبل العالم إلى الأبد.

استمر العصر البرونزي في منطقة الشرق الأدنى، ومصر وبحر إيجة ما يقرب من ألفَي عام. من سنة 3200 ق.م تقريبًا إلى بُعَيْد سنة 1200 ق.م. قامت في هذه الفترة العديد من الممالك الصغيرة والإمبراطوريات الكبيرة التي سيطرت على منطقة الشرق الأوسط. أسست نظمها وسياساتها الخاصة، وتشابكت العلاقات فيما بينها عبر طرق تجارية دولية واسعة حتى دعيت تلك الفترة بأول فترة أممية. إن أول ظهور للعولمة كما نعرفها اليوم قد بدأ منذ ذلك الحين. لكن وبعد قرون من التطور الثقافي والتكنولوجي، انتهى الحال بغالبية أقاليم البحر المتوسط إلى نهاية مأساوية. فسرعان ما انهارت الامبراطوريات الكبيرة والممالك الصغيرة، وانهار معها النظام العالمي. مخلفًا سنوات من الظلام قبل أن تظهر نهضة ثقافية جديدة في المناطق المتضرِّرة، ممهدة الطريق لتطور المجتمع الغربي على الصورة التي نعرفه عليها في وقتنا الحاضر.(1)

لسنوات عديدة وجهت معظم الأبحاث الأثرية التي درست هذا الانهيار وأسبابه أصابع الاتهام نحو شعوب البحر، اتهموا بأنهم قد اجتاحوا هذا العالم القديم ودمروه، فمن هم هؤلاء الشعوب؟

البداية والنهاية

في العام 1177 ق.م. وفي السنة الثامنة لحكم الفرعون المصري رمسيس الثالث وفي وقت واحد تقريبا بدأت عدة معارك برية وبحرية في دلتا مصر أو بالقرب منها. هاجمت قوات شعوب البحر الجيش المصري الذي كان في انتظارها. يوجد احتمال أن هذه المعارك كانت تمثل كمائن أخذ فيها المصريون أعدائهم على حين غرة أو أنها معركة واحدة طويلة، لكن ما هو مؤكد أن المصريين قد انتصروا فيها.

في معبده الجنائزي في مدينة هابو بالقرب من مدينة الأقصر حاليًا يمثل رمسيس الثالث معركته مع شعوب البحر بعدة جداريات ونقوش، وقد كتب بإيجاز في أحد هذه النصوص:

أعدَّت البلاد الأجنبية مؤامَرةً في جُزرها. وفجأة ودونما إنذار انتزعوا البلدان ودمَّروها في خضمِّ المعارك الحامية الوطيس. ولم يستطع أي بلد أن يَصمد في مواجهة جيوشهم، فاغتُصِبت البلدان بدءًا من خاتي، وكودي، وكركميش، وأرزاوا، وألشية وما بعدها دُفعةً واحدة. [لقد أقاموا] معسكرهم في مكان واحد في عمورو، والتي قتلوا شعبها، وكان حال أرضها كحال أرضٍ خَرِبة لم يكن ثمَّة وجودٌ لبشرٍ عليها من قبل. كانوا آخذين في التقدُّم صوب مصر، بينما كانت النارُ مُعدةً لهم. كان تحالفُهم يتكوَّن من الفلستيين، والتجيكر، والشيكليش، والدانونا، والويشيش، والتي كانت بلدانهم متحدة. لقد احتلوا بلدانًا بقدر ما وصلت إليه أيديهم، وكانت قلوبهم واثقةً وموقنةً بالنصر.(1)

يعطي هذا النقش العديد من المعلومات عن شعوب البحر. وكان يعتبر بالإضافة لباقي النقوش المصرية الدليل الأساسي لاجتياح شعوب البحر للعالم القديم وتدميره في أواخر عصر البرونز.

شعوب البحر

شعوب البحر، هو الاسم الذي أطلقه الباحثون عليهم اليوم، لكن المصريين القدماء لم يستخدموا هذا المصطلح أبدًا. عوضًا عن ذلك ححدوا هويتهم باعتبارهم مجموعات منفصلة تعمل معًا: الفلستيون، والتجيكر، والشيكليش، والشاردانا، والدانونا، والويشيش. وهي أسماء أجنبية الوقع لأناس بملامح أجنبية.

أسماء هؤلاء الشعوب ووجوههم محفورة على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي في مدينة هابو. على هذه الجدران تظهر دروع الغزاة المستديرة، وأسلحتهم، وملابسهم، وقواربهم بوضوح تام، وبتفصيل كبير لدرجة أن الباحثين قد قارنوا بين الدروع والسفن في هذه الرسوم مع ما يشبهها في حضارات العالم القديم بحثًا عن أصل هذه الشعوب.

نقش يمثل معركة رمسيس الثالث مع شعوب البحر (مواقع التواصل )

على رؤوسهم ريش

بالنسبة لأشكالهم يظهرون في الرسوم وهم يرتدون قبعات من ريش على رؤوسهم، أو بأغطية رأس على شكل جماجم أو ذات قرون، كما يظهر بعضهم بلحية قصيرة مدببة وبإيزار قصير، وبعضهم الأخر بملابس طويلة تكاد تشبه التنانير. يشير هذا الاختلاف في الشكل واللباس إلى أن هذه الشعوب كانت من مناطق جغرافية وثقافات مختلفة.

لقد استعمل الغزاة القوارب التي تشبه مقدماتها رؤوس الأحصنة وهذا النمط كان منتشرا في حضارة بحر إيجة، كما استعملوا مركبات تجرها الثيران. قاتلوا بسيوف برونزية حادة واستعملوا رماح برؤوس معدنية وأقواس وسهام. أما دروعهم فكانت دائرية الشكل وهذا النمط كان منتشرًا أيضا في حضارة بحر إيجة. لقد جاء الغزاة في موجات وعلى مدى فترة طويلة من الزمن فهل أتوا من الفراغ؟

نقش يظهر أشكال شعوب البحر (مواقع التواصل )

أراضي خلف البحار

لم تترك المجموعات الست المنفصلة التي كوَّنت شعوب البحر أثناء هذه الموجة من الغزو أي نقوش تدل على أصلها. كان الدانونا معروفين منذ زمن بعيد على أنهم الدانانيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، والذين كانوا يعيشون في منطقة إيجة في العصر البرونزي. أما الشيكليش فقد أتوا من جزيرة صقلية الحالية. والشاردانا أتوا من جزيرة سردينيا، استنادًا إلى أوجه التشابه بين الحروف الساكنة في كلٍّ من الحالتَين. ومع ذلك لا يقبل كل الباحثين هذه الاقتراحات. توجد مدرسة فكرية بكاملها تقترح أن شعبي الشيكليش والشاردانا لم يأتيا من غرب المتوسط، وإنما كانا من مناطق في شرق المتوسط وأنهما فرَّا فحسب إلى منطقتَي صقلية وسردينيا، ومنَحا اسمَيهما لهاتَين المنطقتَين، بعد هزيمتهم على يد المصريين.

ما علاقة فلسطين بكل هذا؟

من بين كل المجموعات الأجنبية النشطة في هذه الساحة في ذلك الوقت، لم يحدد الباحثون على نحو مؤكَّد سوى مجموعة واحدة فقط. اعتبر الباحثون أن الفلستيون من شعوب البحر ليسوا سوى الفِلَسْطِينِيِّينَ، الذين حدِّد الكتاب المقدس أنهم أتوا من جزيرة كريت. يبدو هذا واضحا من تشابه الاسماء وبالإضافة إلى هذا التحديد  نشر فريق من العلماء سنة 2019 ورقة بحثية في مجلة ساينس ادفانس اعتمدوا فيها على تحليلات الحمض النووي لتحديد أصول الفلستيين. اختاروا للبحث أكثر من مئة رفات من مدينة عسقلان تعود للفترة الانتقالية بين عصر البرونز والحديد. 10 عينات فقط أعطت كميات كافية للتحليل. وقد بينت النتائج أنه في أوائل العصر الحديدي أو نهاية العصر البرونزي حصل تغيير في التركيب الجيني لسكان المنطقة في فلسطين مع وجود جينات من أصل أوروبي في رفات بعض العينات، وهذا ما يتناسب مع الوقت الذي كان مقترحًا لوصول الفلستيين إلى الساحل المشرقي.(2)

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

غزو عالمي

يعتقد الباحثون اليوم أن شعوب البحر كانوا يتنقَّلون باستمرار من موقع إلى آخر، آخذين في اجتياح البلاد والممالك أثناء مرورهم بها. وحسب النصوص المصرية، فأنهم أقاموا معسكرًا في سوريا قبل الاستمرار بحذاء ساحل منطقة كنعان (التي تتضمَّن أجزاءً من سوريا الحالية، ولبنان، وفلسطين) وإلى دلتا نيل مصر.

هاجمت هذه الشعوب دول العالم القديم في فترات زمنية مختلفة انتقلوا برًا من يونان إلى تركيا اما بحرًا فقد هاجموا الحضارة الميسينية حوالي سنة 1210-1200 ق.م. ثم انتقلوا إلى جزيرة كريت ومنها هاجموا قبرص ثم السواحل المشرقية سنة 1192-1190 ق.م. ثم انتقلوا إلى ديلتا مصر سنة 1177 ق.م.

في مدينة أوغاريت في سوريا عثر العلماء على لوح طيني منقوش عليه رسالة من ملك أوغاريت في شمال سوريا إلى ملك جزيرة قبرص:

  أبي الأن وصلت سفن العدو. إنهم يضرمون النار في  مدني وألحقوا بالبلد الأذى. ألا يعرف أبي أن كل الرجال المشاة خاصتي ومركباتي الحربية متمركزون في خاتي، وأن كل سفني متمركز في أرض اللكا؟ أنهم لم يعودو بعد، لذا فالبلد ليس له حماية. فليكن أبي لى علم بها الأمر. الأن سفن العدو التي كانت اتية  قد ألحقت بنا الكثير من الضرر. وإذا كانت سفن أخرى ستظهر. فإعلمني بطريقة ما.

لا  نعلم اذا كانت هذه الرسالة قد وصلت  إلى وجهتها او لا لكن أوغاريت قد تدمرت كليا سنة 1190 – 1192 ق.م وهذا ما أظهرته دراسة حديثة.(3)

أما على ساحل المشرق الجنوبي فقد أسست هذه الشعوب ثلاثة مدن هي 《غزة – Gaza》و《 أشدود – Ashdod》و 《عسقلان – Ashkelon》و 《جاث – Gath》و《 عقرون – Ekron》

المناطق التي هاجمها شعوب البحر (مواقع التواصل )

غزاة أم لاجئون؟

نسب الباحثون السابقون كل الدمار الذي وقع في هذه الفترة إلى شعوب البحر. لكن قد يكون من المبالغة أن يلقوا بلائمة نهاية العصر البرونزي برمتها عليهم. فهم بذلك يمنحون تلك الشعوب قدرًا لا تستحقُّه من الأهمية، إذ إننا لا نَملك أدلة واضحة، باستثناء النصوص والنقوش المصرية، التي تُعطي انطباعات متضاربة. هل توجَّهت شعوب البحر إلى منطقة شرق المتوسط على هيئة جيش منظم نسبيًّا؟ هل كانت تلك الشعوب على هيئة مجموعة من المُغيرين المنظَّمين تنظيمًا ضعيفًا، مثل الفايكينج الذين ظهروا في عصر لاحق؟ أم كانوا لاجئين يفرُّون هربًا من كارثة؟

لم يعد هناك يقين أن كل المواقع التي يوجد دليل على تدميرها قد دُمِّرَت على يد شعوب البحر. فيمكن للباحثين مثلا أن يستنتجوا من الأدلة الأثرية أن موقعًا ما قد تعرَّض للتدمير، ولكن لا يستطيعوا دومًا أن يستنتجوا السبب أو الفاعل. علاوة على ذلك، فإن المواقع لم تُدمَّر كلها على نحو مُتزامِن، ولا حتى بالضرورة في خلال نفس العقد من الزمن.

تشير الأدلة المتوفرة حاليًا إلى أنه من المرجح أن شعوب البحر ليسوا الفئة الوحيدة التي تقع عليها اللائمة في ذلك. يبدو مرجحًا الآن أن تلك الشعوب كانت الضحيةَ بقدر ما كانت المُعتدية في مسألة انهيار الحضارات. تقترح إحدى الفرضيات أن تلك الشعوب أُجبِرَت على الخروج من أوطانها جراء سلسلة من الأحداث المأساوية وارتحلت شرقًا حيث صادفت مَمالك وإمبراطوريات كانت بالفعل آخذةً في الانحسار. من المحتمَل جدًّا أيضًا أن السبب تحديدًا في قدرتها على مهاجمة الكثير من ممالك المنطقة والقضاء عليها في نهاية الأمر هو أن تلك الأنظمة الملَكية كانت بالفعل آخذةً في الانحسار وفي حالة ضعف لسبب أو لعدة أسباب أخرى سنتكلم عنها في المقال القادم.

اقرأ أيضًا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

المصادر

  1. https://press.princeton.edu/books/paperback/9780691168388/1177-bc
  2. https://advances.sciencemag.org/content/5/7/eaax0061
  3. https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0020232

الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

على مقربة من سواحل مدينة جبيل اللبنانية، وفي ساعات الصباح الأولى، يقف بحارٌ أسمرُ اللون في سفينته الدائرية بمقدمتها التي تشبه رأس الحصان والمصنوعة من خشب الأرز اللبناني، ينظر بحيرة نحو البحر أمامه، ربما كان يفكر بوجهته أو ربما بتجارته، لكن ابدًا لم يكن ليخطر على باله بأن هويته بعد 2800 سنة من وفاته ستصبح ولسنوات عديدة، محط جدلٍ كبير.(1) الفينيقيون الجدد والحركات السياسية، قضيةٌ تعود لتطفو على السطح مجددًا، هي موضوع مقالنا اليوم.

تقول المؤرخة وعالمة الآثار 《جوزيفين كوين – Josephine Quin》أنه ومن أجل أن تحكم على مجموعة من الناس أنهم شعب واحد يجب أن تتوفر فيهم عدة معايير، أولها اسم مشترك بالإضافة لانتمائهم لأرض وثقافة واحدة ووجود حس التضامن فيما بينهم، وأنا لا اعتقد أن أيا منها قد توفر بالفينيقيين. (2)

إن الشائع بين الناس عن الفينيقيين أنهم بحارة مهرة وتجار أذكياء، استطاعوا أن يصلوا بسفنهم إلى كل مناطق البحر المتوسط، أسسوا فيها محطات ومستوطنات وحملوا اليها تجاراتهم وصباغهم الأرجواني وأبجديتهم، أما ما هو يقين للجميع فإن الفينيقيين قد شكلوا شعبًا واحدًا.

صدر كتاب كوين سنة 2017 بعنوان In Search Of The Phoenicians وقد غير بصدوره نظرة المجتمع العلمي عن الفينيقيين كليًا فما كان يقينًا عن أنهم شعب واحد قد أصبح اليوم غير صحيح. تشير كوين أن معظم الأبحاث المثيرة التي حصلت في العقود الماضية عن الهوية الفينيقية قد أهملت فكرت الهوية نفسها، وفي بحثها تحدت كوين كل ما كان مألوفًا عنهم وقالت إن المفاهيم القومية الحديثة هي من أنشأت الهوية الفينيقية وهذه الهوية قد خُلقت لتخدم أهدافًا سياسية في العصر الحديث. فكيف خدم الفينيقيون هذه السياسات الحديثة؟

الفينيقيون الجدد

البداية في لبنان او كم درج تسميتها لسنوات بأرض فينيقيا الأم، ظهرت فكرة الفينيقيين الجدد لأول مرة في كتابات المؤرخ اللبناني طنوس الشدياق حيث ربط بين فينيقيا ولبنان في كتابه history of the notables of mount Lebanon الصادر سنة 1859، يناقش في فصله الأول حدود لبنان وسكان المدن الفينيقية فيه. بعدها سرعان ما اخذت فكرة القائلة بأن اللبنانيين هم الفينيقيين القدماء ضجة واسعة في بداية القرن العشرين بين المهاجرين اللبنانيين في مصر والولايات المتحدة، وبمساعدة وثائق الحكومة الأمريكية التي هدفت إلى تحويل المهاجرين من الساحل السوري من عرب إلى فينيقيين من أجل رفع رتبتهم.

لم تصبح هذه الفكرة مشهورة في لبنان نفسه إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية، ومع قدوم التأثير الثقافي الأوروبي وما تبعه من انتداب فرنسي لأراضي سوريا ولبنان اعتنق هذه الفكرة بعض رواد الاعمال والسياسيين والنشطاء اللبنانيين، كان الهدف هنا هو تقسيم لبنان وفصله عن سوريا واقناع اللبنانيين أنهم ليسوا عربًا، بل ربطهم ثقافيًا وشكليًا وحتى روحيًا بحضارة أقدم بكثير من العرب بالحضارة الفينيقية.

لا يمكن أن نعلم على وجه الخصوص إذا ما كانت هذه النزعة نحو الماضي هي فعلٌ فطري طبيعي او أنها كانت ستحدث دون تدخل الفرنسيين لتحويرها، لكن الفينيقية لم تكن الحركة الوحيدة في الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين التي تريد العودة إلى جذورها القديمة، هنالك أيضا الفرعونية والاشورية والآرامية في سوريا والكنعانية في فلسطين.

لماذا التاريخ القديم مهم لهذه الحركات السياسية الجديدة؟

يقول المؤرخ البريطاني《 إريك هوبسبام – Eric Hobsbawm》 الدول هي كيانات حديثة تاريخيا تتظاهر بأنها كانت موجودة لفترة طويلة ولتكون دولًا من الأساس يجب ان يكون لها ماض متفق عليه بين جميع مواطنيها وليس ضروريًا أن يكون هذا الماضي حقيقي. إذا كان من الضروري للبنان الخارج حديثا من الانتداب الفرنسي ان يتذكر اجداده الفينيقيين العظماء ويربط هويته بهم ليتحول اللبنانيون اليوم إلى الفينيقيين الجدد.

ساعدت القومية الفينيقية الفرنسين على فصل لبنان عن سوريا لكنها قد وحدت التونسيين ضد الاستعمار الأوروبي وإن كانت هذه القومية حقيقية أم اختراعا حدث في القرن التاسع عشر لا بد من وجود أدلة ملموسة عليها.

نرشح لك: التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

فينيقيون مجهولون

خلال حياتهم لم يطلق الفينيقيون على أنفسهم أي اسم، اليونان هم من اسموهم فينيقيين ولا يمكن الحسم في معنى هذه التسمية بعد، فربما دلت على لون أرجواني او شجرة النخيل أو على طائر الفينيق الخالد… اما الاسم الثاني الشائع عنهم فهو الكنعانيون، ويعتبر معظم الأكاديمييون اليوم أن هذا الاسم من أصل سامي أي أن الشعب المحلي وبلغته الخاصة قد عرف بهذا الاسم عن نفسه، لكن كوين تعود لتؤكد أن هناك القليل جدًا من الأدلة على هذا الاستخدام، وتقترح أن هذه الأدلة القليلة قد اسيء فهمها وتحليلها أيضًا. فالمرة الوحيدة التي وجدت فيها كلمة كنعان (KNʿN) مكتوبة بالفينيقية، كانت على عملات برونزية صكتها مدينة بيروت عام 168 قبل الميلاد، والتي أعطت اسم المدينة باسم أم لاوديكيا في كنعان (LʾDK ʾM BKNʿN).

تُؤخذ هذه العبارة أحيانًا كدليل بحد ذاتها على أن الفينيقيين قد سموا أنفسهم كنعانيين، لكن الواضح أن هذه العبارة تصف المدينة وليس سكانها، وسياقها السياسي يعني أنه لا ينبغي اعتبارها تسمية محايدة أطلقها الفينيقيون على أنفسهم فهي نسخة من اسم ” لاوديكيا في فينيقيا” الاسم الذي فرضه الملوك السلوقيون اليونانيون المقدونيون على بيروت، لتمييز المدينة عن لاوديكيا على البحر في أقصى الشمال.

لم يسموا أنفسهم فينيقيين ولا كنعانيين فكيف عرفوا عن نفسهم إذا؟ تجيب كوين عن هذا السؤال بالعودة إلى نصوص اللغة الفينيقية من المشرق نفسه، ما نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا عن أنفسهم بالرجوع إلى مدنهم أو في كثير من الأحيان إلى عائلاتهم ومن الشائع بالنسبة للنقوش الفينيقية أن تسرد عدة أجيال من الأجداد والاسلاف كنوع من التعريف عن النفس.

موضة عالمية

عند الحديث عن الصناعات الحرفية الفينيقية لا يمكن تجاهل روعتها ودقة تصنيعها، اشتهر الفينيقيون بخزفياتهم وصناعاتهم العاجية المميزة التي صُدرت إلى معظم مناطق الشرق الأدنى والبحر المتوسط، وعادة ما تؤخذ هذه الصناعات كدليل قوي على ثقافة مشتركة لشعب واحد لكن المشكلة أن القليل من هذه القطع قد وجد على أرض فينيقيا الأم.

تقول كوين إن البشر ليسوا قطعا فخارية ودراستنا لمدى انتشار هذه القطع الأثرية لا يمكننا ان نقيس من خلاله حدود شعب ما. كان هنالك نمط دولي سائد في العصر البرونزي الحديث تم انتاج هذا النمط الموحد وشرائه عبر مناطق واسعة فهو ليس محدودا بفينيقيا، والانتاج الواسع لهذه القطع لا يعكس ثقافة شعب واحد بل يعكس موضة عالمية كانت سائدة في ذلك العصر.

عدة لهجات

عادة ما تؤخذ اللغة كدليل قوي على الهوية المشتركة وفي حالة الفينيقيين تقول كوين أنه لا يوجد أي دليل على أنهم تشاركوا لغة واحدة. الفينيقية العبرية المؤابية … كانوا يعتبرون جميعا لغات كنعانية وفي الفترة الحديدية كانت اللغة المستخدمة في المملكة الإسرائيلية قريبة جدا من اللهجة الفينيقية المحكية في المدن المجاورة لها، وفي الوقت نفسه كان هنالك لهجات مميزة داخل اللغة الفينيقية نفسها منها البونيقية المستخدمة في المستعمرات الغربية. على حد تعبير كوين لا يمكننا اعتبار أن الفينيقيين قد امتلكوا لغة مشتركة بل تكلموا عدة لهجات مختلفة كانت تشبه لهجات المحيطين بهم وقد تواصلوا فيما بينهم عبرها.

تفرقوا حتى لا تُحكموا

حتى الان كان النقاش عن الهوية الفينيقية بسلبية، هل كانوا شعبًا واحدا أم لا، لكن إذا نظرنا إلى الأمر بإيجابية فربما تعمد الفينيقيون كما درجت تسميتهم ألا يكونوا شعبا واحدا وألا تكون لديهم هوية مشتركة كشكل من أشكال المقاومة ومحاربة الاستعمار الأجنبي.

جادل《 جيمس سي سكوت – James C. Scott》 مؤخرًا في كتابه The Art of Not Being Governed (2009) بأن الأشخاص الذين يتمتعون بالحكم الذاتي والذين يعيشون على أطراف وحدود الدول التوسعية الكبرى يميلون عادة إلى تبني استراتيجيات لتجنب السيطرة المباشرة عليهم من قبل هذه الدول ولتقليل الضرائب والتجنيد الاجباري وعمل السخرة. (3) وقد ركز سكوت في بحثه على مرتفعات جنوب شرق آسيا، وهي منطقة تُعرف الآن أحيانًا باسم《 زوميا – Zomia》، وعلاقتها بدول المسيطرة على السهول الكبرى في المنطقة مثل الصين وبورما.

يصف سكوت في بحثه سلسلة من التكتيكات التي يستخدمها سكان هذه التلال لتجنب سلطة الدولة، بما في ذلك تشتتهم في التضاريس الوعرة، وتنقلهم، وممارساتهم الزراعية، وهوياتهم العرقية وهيكلهم الاجتماعي المرن. يقول سكوت في وصفه للوضع السياسي في تلك المنطقة أن التحالفات السياسية كانت محدودة وقصيرة العمر في زوميا. في الواقع، تبدو العديد من جوانب تحليل سكوت مألوفة في عالم البحر الأبيض المتوسط القديم، على أطراف الإمبراطوريات الزراعية العظيمة في بلاد ما بين النهرين وإيران وما هو مثير للاهتمام هنا هو الفائدة الكبيرة لمثل هذا الاسلوب في المنطقة الجبلية في شمال المشرق القديم.

بالعودة إلى بحث سكوت يمكن أن نرى بوضوح كيف استخدم سكان المشرق القديم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات للتهرب من سيطرة القوة الإمبريالية عليهم. التشتت في التضاريس الوعرة والانقسام إلى عدة مدن وعقد تحالفات قصيرة الأمد كلها استراتيجيات اعتُمدت في فينيقيا للتهرب من سيطرة الامبراطوريات العظمى عليها. تفرقوا حتى لا تُحكموا، على حد تعبير سكوت.

كان الخيار الآخر المتاح أمام هذه الجماعات هو الذهاب إلى البحر، وهي منطقة مألوفة للفينيقيين حيث يمكن لخبرة ومعرفة البحارة المشرقيين أن تجعلهم وأنشطتهم غير مرئيين وغير خاضعين للمساءلة أمام أسيادهم في الشرق. قدم البحر أيضًا طريقًا للهروب من المزيد من سيطرت الإمبراطوريات المحلية.

مفاهيمنا الحديثة تشوه الماضي

لقد شوهت مفاهيمنا الحديثة عن الهوية والانتماء تاريخنا. لم يرى الفينيقيون يوما أنفسهم كشعب واحد بل ربما قد تعمدوا ذلك، ان تصنيفنا لهم بهذه الطريقة يعد تصنيفًا تعسفيا، لقد اعتمدنا على مفاهيم مصطنعة لتنظيم العالم وأنفسنا ومهما كان اعتقادنا بان هذه المفاهيم صحيحة فهذا لا يجعلها حقيقة علمية أو طبيعية. الحقيقة هي أنه وعلى الرغم من أن المؤرخين يعتقلون الموتى باستمرار من التاريخ ويفحصون جيوبهم بحثًا عن هويتهم، فهم عاجزون عن معرفة كيف كان الناس يفكرون حقًا في أنفسهم في الماضي، وبسبب هذا التركيز الأكاديمي التقليدي على عدد صغير من المجتمعات المتطورة وغير العادية فقد تم تشويه منطقة البحر الأبيض المتوسط القديمة وأهملت حضارات صغيرة أخرى وتم تصنيفها تعسفيا مع حضارات أخرى.

ليس لدينا دليل جيد على أن الناس القدامى الذين نسميهم اليوم فينيقيين قد عرفوا أنفسهم كشعب واحد أو تصرفوا كمجموعة مستقرة. وبدلًا من أن نملأ هذا الفراغ بقصص من خيالنا يجب أن نقبل الفجوات في معرفتنا. بانتظار اكتشافات أثرية حديثة لتملأ هذا الفراغ.

المصادر

  1. Mark Cartwright. The Phoenicians – Master Mariners.: Ancient History Encyclopedia 2016.
  2. QUINN J. IN SEARCH OF THE PHOENICIANS.: PRINCETON UNIV Press; 2019.
  3. Scott J. The art of not being governed. New Haven, Conn.: Yale University Press; 2011.

ما هو العنف السياسي؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

يحيط بنا العنف في كل مكان على اختلاف درجاته وأنواعه، في العائلة والمدرسة والعمل والإعلام والمجتمع. حتى أنه يطال وسائل التسلية والترفيه من أفلام وألعاب فيديو وغيرها. يخلق العنف أزمات عميقة للبشرية، لذلك كان دائمًا مادة دسمة للدراسات. كثرت النظريات المفسرة للعنف في مختلف الحقول العلمية: علوم النفس والاجتماع والسياسة وعلوم الجينات وعلم الإنسان والتاريخ وغيرها. ورغم أننا لم نتوصل حقيقةً إلى الإجابة على السؤال حول ما إذا كان العنف فطريًا أم مكتسبًا! فإننا واثقون أن العوامل الإجتماعية تلعب دورًا جوهريًا في زيادة نسبة العنف أو على العكس، الحد منها. ولعلّ أكثر العوامل تأثيرًا هو الحالة السياسية للمجتمع، والعنف السياسي المُمارس من قبل الأنظمة والمجموعات والأفراد. فما هو العنف السياسي؟ وما هي أنواعه؟ وكيف يؤثر على حياتنا كأفراد، وعلى علاقاتنا مع الآخرين والدولة؟

مفهوم العنف السياسي

يمكن تعريف العنف السياسي بكل استخدام للقوة أو السلطة. قد يمارسه أفراد أو مجموعات أو دول، بهدف تحقيق أغراض سياسية. ويشمل كل أنواع الأذى الجسدي والضغط النفسي الهادفة إلى إخضاع الشعوب.

ويشمل هذا العنف الصراع بين دول مختلفة من جهة، والصراع في الدولة نفسها من جهة أخرى.

ومن الأمثلة على العنف السياسي الحروب (الخارجية أو الأهلية) والاستعمار والتسلح والاغتيالات والإبادات الجماعية والعمليات الإرهابية والثورات والتمرد والشغب والإنقلابات. كما يطال أيضًا القمع و/أو الحرمان الذي يمكن أن يمارسه النظام السياسي بحق الشعب، كحرمانه من حقوقه المدنية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وقمعه لحرية التعبير.

دفعت البشرية على مر التاريخ – وما زالت – أثمانًا باهظة للعنف السياسي، من الضحايا والدم والدمار والأضرار الاقتصادية والاجتماعية والصحية الهائلة، لذلك تُعتبر دراسته ضرورة في محاولة الحد منه وجعل العالم أقرب إلى السلام.

أنواع العنف السياسي

تتعدد تصنيفاته، إما بحسب أطرافها أو حجمها أو مدى خرقها للأنظمة الاجتماعية و لحدود الدولة ومدى قانونيتها و/أو مشروعيتها.

يعتبر بعض العلماء الثورات أو الانقلابات مثلًا جزءًا من التحركات التي تحمل عنفًا سياسيًا شرعيًا. فهي غالبًا تنتج عن قمع النظام السياسي لأي حالة تغييرية ديمقراطية أو سلمية. فيكون سلك طريق الوسائل العنيفة حل وحيد متبقي أمام فئة معينة لتحقيق تغيير سياسي أو لإستعادة حقوقها.

إذا تبنّينا التصنيف المبني على أساس الأطراف المنفذة والمتلقية لها، يمكن اختصاره على الشكل التالي:

– العنف الموجه من دول إلى أخرى أو من مجموعة دول إلى مجموعة أخرى: الحروب والحروب الاستعمارية والاحتلالات.
– العنف القائم بين النظام السياسي لدولة و فئة أخرى غير رسمية: مثل حالات التمرد والشغب والثورات والانتفاضات (فيكون في هذه  الحالة عنفًا متبادل بين الطرفين).
– عنف أحادي الجانب، الموجه من السلطة إلى الشعب عامةً أو مجموعات أو أفراد منه: مثل العنف الانتخابي (تهديد و أذى جسدي و/أو نفسي يطال المرشحين أو الناخبين بهدف ضمان النتيجة لصالح طرف معين)، الاغتيال  (التصفية الجسدية) والإعدام السياسي والقمع من خلال الأجهزة الأمنية والتعذيب والحرمان من الحقوق الأساسية كالأمن والغذاء والسكن والتعليم والعمل والضمانات الاجتماعية.
– العنف الممارس من قبل أفراد أو مجموعات (غير رسمية) باتجاه أفراد آخرين: مثل الإرهاب.
– العنف الممارس بين فئات اجتماعية (غير رسمية): مثل الصراعات الإثنية.

تجدر الإشارة إلى أن أنواع العنف السياسي تتداخل في الكثير من الأحيان فيما بينها، حتى أنها تتداخل مع العنف الاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير.

كيف يؤثر العنف السياسي على الأفراد والمجتمع ككل والدولة؟

من الصعب أن نحصي فعليًا الآثار الضخمة التي تتركها أعمال العنف السياسي، وهي تختلف كثيرًا بحسب نوع الأعمال العنفية المُمارسة وحجمها والإطار الاجتماعي والتاريخي لها.

على الصعيد الفردي، تثبت الدراسات أن العنف السياسي يؤثر مباشرةً على الصحة النفسية. فتزيد في المجتمعات المعنفة سياسيًا نسبة الأشخاص المصابين بأمراض الاكتئاب والقلق و اضطرابات ما بعد الصدمة. كما يؤثر العنف أيضًا على نوعية الخدمات التي يحصل عليها المواطنون، وغالبًا ما يكون ملازمًا للدول النامية، فلنا أن نتخيّل مدى تأثيره مع رداءة الخدمات وعدم استقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على نوعية حياة الأفراد.

أما عن علاقة الأفراد بالدولة والحياة السياسية، فتوضح مجموعة من الدراسات ازدياد نسب العزلة عن المشاركة في أي ،أنشطة سياسية، وفقدان الثقة بالدولة، كما تتعطل قدرة الأفراد على المشاركة في عمل جماعي، فيميل الأشخاص في هذه الحالة إلى الفردية.

على مستوى المجتمع، يساهم العنف السياسي بزيادة العنف الاجتماعي بشكل مباشر، بسبب انعدام الشعور بالأمان، فتزداد حالات الفوضى الاجتماعية وحالات التمييز للفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا. وقد تطفو الأيديولوجيات المتطرفة لتعبّر عن أحاسيس الخوف والترهيب الجماعي. كما تتعاظم الآفات والمآسي الاجتماعية، وعلى رأسها التهجير واللجوء. تضعف قدرة المجتمع على التعاضد لحل الأزمات وعلى التنظيم وتتهشم الشبكات الاجتماعية.

على صعيد الدولة، غالبًا يترافق مع ضعف في المؤسسات العامة، وفقدان المواطنين بهذه المؤسسات. وينتشر الفساد ليصبح جزءًا لا يتجزأ من تسيير أعمال الدولة. إذا كان العنف السياسي موجه من قبل النظام نفسه، غالبًا ما تكون نتائجه المدمرة على الأفراد والمجتمع، أدوات إضافية لفرض سلطته وإعدام محاولات التغيير.

يتوّج العنف السياسي كل أنواع العنف الأخرى وصولًا حتى إلى العنف العائلي، فلا بد أن تبدأ مجابهة العنف من خلال الحد من العنف السياسي أولًا. ولا بد من الاعتراف أن السياسة أقرب لنا مما يُخيّل إلينا، فهي تنحت كل تفاصيل حياتنا الفردية والاجتماعية. أما التخلف، الذي ينسبه البعض إلى شعوب معينة، فالأجدر أن ننسبه إلى الأنظمة السياسية التي تسيطر على هذه الشعوب.

إقرأ أيضًا: ما هو الامتثال الاجتماعي؟

المصادر:

NCBI
Science direct
Wiley

مترجم: كيف سيكون عالم ما بعد كورونا؟ أربعة احتمالات مستقبلية

عالم ما بعد كورونا؟

  • أين سنكون بعد ستة أشهر، سنة، عشر سنوات من الآن؟ 
  • أستلقي مستيقظا في الليل أتساءل ما يخبئه المستقبل أحبائي، وأصدقائي وأقاربي الضعفاء.
  • أتساءل ماذا سيحدث لعملي، على الرغم من أنني محظوظ أكثر من كثيرين: أحصل على أجر مرضي ويمكنني العمل عن بعد. 
  • لكن لا يزال لدي أصدقاء يعملون لحسابهم الخاص ويتوقعون البقاء لأشهر بدون أجر، وأصدقاء فقدوا وظائفهم بالفعل. 
  • أصاب الفيروس التاجي الاقتصاد بشدة موازية لما أصاب البشر، فماذا سنفعل 

هناك عدد من الحلول المستقبلية المحتملة، وكلها تعتمد على كيفية استجابة الحكومات والمجتمع للفيروس التاجي وتداعياته الاقتصادية. نأمل أن نستخدم هذه الأزمة لإعادة البناء، وإنتاج شيء أفضل للإنسانية، لكننا أيضًا قد ننزلق إلى شيء أسوأ.

أعتقد أننا يمكن أن نفهم وضعنا -وما قد يكمن في مستقبلنا- من خلال النظر إلى الاقتصاد السياسي للأزمات الأخرى. يركز بحثي على أساسيات الاقتصاد الحديث: سلاسل التوريد العالمية والأجور والإنتاجية. أنظر إلى الطريقة التي تساهم بها الديناميكيات الاقتصادية في تحديات مثل تغير المناخ وانخفاض مستويات الصحة العقلية والبدنية بين العمال. لقد جادلنا بأننا بحاجة إلى نوع مختلف تمامًا من الاقتصاديات إذا أردنا بناء مستقبل عادل اجتماعيًا وسليم بيئيًا. وفي مواجهة أزمة COVID-19 أصبح هذا أكثر وضوحًا من ذي قبل.

إن الاستجابات لوباء COVID-19 هي ببساطة تضخيم الديناميكية التي تدفع الأزمات الاجتماعية والبيئية الأخرى: إعطاء الأولوية لنوع من القيمة على الأنواع الأخرى. لعبت هذه الديناميكية دورًا كبيرًا في توجيه الاستجابات العالمية لـ COVID-19. لذا مع تطور الاستجابات للفيرو ، كيف يمكن أن يتطور مستقبلنا الاقتصادي؟

عالم ما بعد كورونا؟

من منظور اقتصادي، هناك أربعة حلول مستقبلية محتملة: 

  • الانحدار إلى البربرية والفوضى
  • الرأسمالية القوية
  • الاشتراكية المتطرفة
  • التحول إلى مجتمع مدني متحد مبني على المساعدات المتبادلة. 

نسخ من جميع هذه الأحتمالات المستقبلية ممكنة تمامًا، وإن لم تكن مرغوبة.

التغييرات الصغيرة لم تعد مجدية:

إن الفيروس التاجي مثله مثل تغير المناخ؛ جزء من مشكلة هيكلنا الاقتصادي. على الرغم من أن كلاهما يبدو أنهما مشاكل «بيئية» أو «طبيعية» إلا أنهما مدفوعان اجتماعياً.

نعم، يحدث تغير المناخ بسبب امتصاص غازات معينة للحرارة، لكن هذا تفسير ضحل للغاية لفهم تغير المناخ، نحتاج إلى فهم الأسباب الاجتماعية التي تبقي على انبعاث الغازات الدفيئة، وبالمثل COVID-19 نعم السبب المباشر هو الفيروس، لكن إدارة آثاره تتطلب منا أن نفهم السلوك البشري وسياقه الاقتصادي الأوسع.

معالجة كل من COVID-19 وتغير المناخ أسهل بكثير إذا قمت بتقليل النشاط الاقتصادي غير الضروري، في حالة تغير المناخ إذا أنتجت أشياء أقل  فإنك تستخدم طاقة أقل فتنبعث منها غازات دفيئة أقل، COVID-19 إذا اختلط الناس ببعض تنتشر العدوى؛ يحدث هذا في المنازل وأماكن العمل وفي الرحلات، لذا تقليل ذلك كله قد يقلل الأزمة.

ربما يساعد تقليل الاتصال بين الأشخاص أيضًا في استراتيجيات التحكم الأخرى، تتمثل إحدى إستراتيجيات التحكم الشائعة في تفشي الأمراض المعدية في تتبع الاتصال والعزل، حيث يتم تحديد المخالطين للشخص المصاب، ثم عزلهم لمنع أنتشار المرض، يكون هذا أكثر فاعلية عند تتبع نسبة عالية من جهات الاتصال، كلما قل عدد المخالطين قل عدد الذين يجب تتبعهم والوصول إلىهم.

يمكننا أن نرى من تجربة ووهان أن إجراءات الإبعاد والإغلاق الاجتماعي مثل هذه فعالة. الاقتصاد السياسي مفيد في مساعدتنا على فهم سبب عدم أتباعهم في وقت سابق في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة.

اقتصاد هش

الإغلاق يضغط على الاقتصاد العالمي، نحن نواجه ركودا خطيرا وقد دفع هذا الضغط بعض قادة العالم للدعوة إلى تخفيف إجراءات الإغلاق.

حتى مع إعلان 19 دولة حالة من الإغلاق، دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو إلى التراجع عن تدابير التخفيف. دعا ترامب الاقتصاد الأمريكي إلى العودة إلى طبيعته في غضون ثلاثة أسابيع (لقد قبل الآن أنه يجب الحفاظ على التباعد الاجتماعي لفترة أطول).

 قال بولسونارو: «يجب أن تستمر حياتنا، يجب الحفاظ على الوظائف … يجب علينا -نعم- العودة إلى طبيعتها».

في المملكة المتحدة وفي هذه الأثناء قبل أربعة أيام من الدعوة إلى إغلاق لمدة ثلاثة أسابيع كان رئيس الوزراء بوريس جونسون أقل تفاؤلًا؛ قائلاً إن المملكة المتحدة يمكن أن تحول المد في غضون 12 أسبوعًا. ومع ذلك، حتى لو كان جونسون على صواب يبقى الأمر أننا نعيش مع نظام اقتصادي يهدد بالانهيار عند الوباء التالي.

إن أسباب إنهيار الاقتصاديات واضحة إلى حد ما، توجد الشركات لتحقيق الربح. إذا لم يتمكنوا من الإنتاج لا يمكنهم بيع الأشياء، هذا يعني أنهم لن يحققوا أرباحًا، مما يعني أنهم أقل قدرة على توظيفك. 

يمكن للشركات القيام -على مدى فترات زمنية قصيرة- الاحتفاظ بالعمال الذين لا يحتاجون إليهم على الفور: فهم يريدون أن يكونوا قادرين على تلبية الطلب عندما يعود الاقتصاد إلى الارتفاع مرة أخرى. ولكن إذا بدأت الأمور تبدو سيئة حقًا فهي كذلك. لذا، يفقد المزيد من الناس وظائفهم أو يخشون فقدان وظائفهم. لذلك يشترون أقل وتبدأ الدورة بأكملها مرة أخرى وننطلق نحو الكساد الاقتصادي.

في الأزمات العادية فإن الوصفة الطبية لحل هذا الأمر بسيطة تساهم الحكومة، وتنفق حتى يبدأ الناس في الاستهلاك والعمل مرة أخرى. (هذه الوصفة هي ما يشتهر به الاقتصادي جون ماينارد كينز).

لكن التدخلات العادية لن تنجح هنا لأننا لا نريد أن يتعافى الاقتصاد -على الأقل ليس على الفور- الهدف الأساسي من الإغلاق هو منع الأشخاص من الذهاب إلى العمل حيث ينشرون المرض. اقترحت إحدى الدراسات الحديثة أن رفع إجراءات الإغلاق في ووهان (بما في ذلك إغلاق أماكن العمل) في وقت قريب جدًا قد تشهد الصين ذروة ثانية للحالات في وقت لاحق من عام 2020.

جيمس ميدواي، اقتصاد الحرب أم اقتصاد السلم؟

كما كتب الاقتصادي جيمس ميدواي فإن الآستجابة الصحيحة لـ COVID-19 ليست اقتصاد زمن الحرب «مع زيادة هائلة في الإنتاج» لكن بدلاً من ذلك  نحتاج إلى اقتصاد «ضد الحرب» وخفض الإنتاج بشكل كبير. وإذا أردنا أن نكون أكثر مقاومة للأوبئة في المستقبل (و لتجنب أسوأ التغيرات المناخية) نحن بحاجة إلى نظام قادر على تقليص الإنتاج بطريقة لا تعني فقدان سبل العيش.

لذا ما نحتاجه هو عقلية اقتصادية مختلفة تميل إلى التفكير في الاقتصاد على أنه الطريقة التي نشتري بها ونبيع الأشياء، ولا سيما السلع الاستهلاكية، لكن هذا ليس ما يجب أن يكون عليه الاقتصاد أو يحتاج إليه. إن الاقتصاد في جوهره هو الطريقة التي نأخذ بها مواردنا ونحولها إلى الأشياء التي نحتاجها للعيش، بالنظر إلى هذا  يمكننا أن نبدأ في رؤية المزيد من الفرص للعيش بشكل مختلف تسمح لنا بإنتاج أشياء أقل دون زيادة البؤس.

لطالما اهتمت أنا والاقتصاديون الإيكولوجيون/البيئيون الآخرون بمسألة كيف تنتج أقل بطريقة اجتماعية عادلة، لأن التحدي المتمثل في إنتاج أقل هو أمر أساسي أيضًا في معالجة تغير المناخ،  كلما زاد إنتاجنا للغازات الدفيئة التي تنبعث منها. إذا كيف يمكنك تقليل كمية الأشياء التي تقوم بها مع إبقاء العمال في وظائفهم؟

تتضمن الاقتراحات تقليل مدة أسبوع العمل أو كما ذكرت بعض أعمالي الأخيرة يمكنك السماح للأشخاص بالعمل بشكل أبطأ و بضغط أقل. لا ينطبق أي من هذين مباشرة على COVID-19 حيث يتمثل الهدف في تقليل الاتصال بدلاً من الإنتاج، ولكن جوهر المقترحات هو نفسه، عليك أن تقلل من اعتماد الناس على الأجر/الراتب ليتمكنوا من العيش.

ما هو الاقتصاد؟

المفتاح لفهم الردود على COVID-19 هو السؤال عن الغرض من الاقتصاد، حاليا الهدف الأساسي للاقتصاد العالمي هو تسهيل تبادل الأموال، هذا ما يسميه الاقتصاديون «قيمة التبادل».

الفكرة السائدة للنظام الحالي هو أن قيمة التبادل هي نفس قيمة الاستخدام. على أساس أن الناس سينفقون الأموال على الأشياء التي يريدونها أو يحتاجون إليها وهذا الفعل من إنفاق المال يخبرنا شيئًا عن مدى تقديرهم لـ «استخدامه» هذا هو السبب في أن الأسواق تعتبر أفضل طريقة لإدارة المجتمع، فهي تسمح لك بالتكيف وهي مرنة بما يكفي لمطابقة القدرة الإنتاجية مع قيمة الاستخدام.

ما يوضحه COVID-19 هو مدى كذب معتقداتنا حول الأسواق في جميع أنحاء العالم تخشى الحكومات من تعطل الأنظمة الحيوية أو تحميلها بشكل زائد: سلاسل التوريد، والرعاية الاجتماعية، ولكن بشكل أساسي الرعاية الصحية وهناك الكثير من العوامل المساهمة في ذلك ولكن أول اثنين هم:

أولاً، من الصعب جدًا جني الأموال من العديد من الخدمات المجتمعية الأساسية ويرجع هذا جزئيًا إلى أن نمو إنتاجية العمل هو المحرك الرئيسي للأرباح: القيام بالمزيد بعدد أقل من الموظفين. فهم عامل تكلفة كبير في العديد من الشركات، وخاصة تلك التي تعتمد على التفاعلات الشخصية مثل الرعاية الصحية، ونتيجة لذلك يميل نمو الإنتاجية في قطاع الرعاية الصحية إلى أن يكون أقل من بقية الاقتصاد  وترتفع تكاليفه أسرع من المتوسط.

ثانيًا، الوظائف في العديد من الخدمات المهمة ليست تلك التي تميل إلى أن تكون ذات قيمة عالية في المجتمع. توجد العديد من أفضل الوظائف مدفوعة الأجر فقط لتسهيل التبادل ولكسب المال. إنهم لا يخدمون غرضًا أوسع للمجتمع: فهم ما يسميه عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جرابر «وظائف خادعة/bullshit jobs» ومع ذلك -لأنهم يجنون الكثير من المال- لدينا الكثير من المستشارين وصناع الإعلانات الضخمة والقطاع المالي الضخم. في هذه الأثناء لدينا أزمة في الرعاية الصحية والاجتماعية حيث يضطر الناس غالبًا إلى ترك وظائف مفيدة يستمتعون بها، لأن هذه الوظائف لا تدفع لهم ما يكفي للعيش!.

وظائف لا طائل منها

وظائف لا طائل منها!

حقيقة أن الكثير من الناس يعملون في وظائف لا طائل من ورائها هي جزئياً سبب عدم استعدادنا للرد على COVID-19. يبرز الوباء أن العديد من الوظائف ليست ضرورية ومع ذلك نفتقر إلى عدد كاف من العاملين الرئيسيين للاستجابة عندما تسوء الأمور.

يضطر الناس إلى العمل في وظائف لا طائل من ورائها لأنه في مجتمع حيث تكون قيمة التبادل هي المبدأ الموجه للاقتصاد، فإن السلع الأساسية للحياة متاحة بشكل رئيسي من خلال الأسواق. هذا يعني أن عليك شرائها ولشرائها تحتاج إلى دخل  يأتي من وظيفة.

الجانب الآخر من هذه العملة هو أن الاستجابات الأكثر جذرية (والفعالة) التي نشهدها لتفشي COVID-19 تتحدى هيمنة الأسواق وقيمة التبادل. في جميع أنحاء العالم تتخذ الحكومات إجراءات بدا قبل ثلاثة أشهر أنها مستحيلة. في إسبانيا تم تأميم المستشفيات الخاصة. في المملكة المتحدة أصبح احتمال تأميم وسائل النقل المختلفة حقيقيًا جدًا، وأبدت فرنسا استعدادها لتأميم الشركات الكبرى.

وبالمثل نشهد انهيار أسواق العمل. توفر بلدان مثل الدنمارك والمملكة المتحدة دخلًا للناس لمنعهم من الذهاب إلى العمل. هذا جزء أساسي من الإغلاق الناجح. هذه التدابير أبعد ما تكون عن الكمال. ومع ذلك فإنه التحول من مبدأ أن على الناس العمل من أجل كسب دخلهم والتحرك نحو فكرة أن الناس يستحقون أن يتمكنوا من العيش حتى إذا لم يتمكنوا من العمل.

يعكس الاتجاهات السائدة في الأربعين سنة الماضية. خلال هذا الوقت ، كان يُنظر إلى الأسواق وقيم الصرف على أنها أفضل طريقة لإدارة الاقتصاد ونتيجة لذلك تعرضت الأنظمة العامة لضغوط متزايدة للتسويق، ليتم تشغيلها كما لو كانت شركات تجارية يتعين عليها كسب المال. وبالمثل أصبح العمال أكثر تعرضًا للسوق، فقد أزالت عقود الساعات الصفرية والاقتصاد الكبير طبقة الحماية من تقلبات السوق التي كانت توفرها العمالة الطويلة الأجل والمستقرة.

يبدو أن COVID-19 يعمل عكس هذا الاتجاه، حيث يأخذ الرعاية الصحية وسلع العمل من السوق ويضعها في أيدي الدولة التي تنتجها لأسباب عديدة بعضها جيد والبعض سيئ. ولكن على عكس الأسواق ، لا يتعين عليهم الإنتاج مقابل قيمة التبادل وحدها.

هذه التغييرات تعطيني أمل وتوفر الفرصة لإنقاذ العديد من الأرواح. حتى أنهم يشيرون إلى إمكانية التغيير على المدى الطويل الذي يجعلنا أكثر سعادة ويساعدنا على معالجة تغير المناخ. ولكن لماذا استغرقنا وقتًا طويلاً للوصول إلى هنا؟ لماذا كانت العديد من البلدان غير مهيأة للغاية لإبطاء الإنتاج؟ الجواب يكمن في تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية: لم يكن لديهم «عقلية» الصواب.

خيالنا الاقتصادي

كان هناك إجماع اقتصادي واسع النطاق لمدة 40 عامًا وقد حد هذا من قدرة السياسيين ومستشاريهم على رؤية الشقوق في النظام ، أو تخيل البدائل. هذه العقلية تقودها إلى معتقدان مرتبطان:

  1. السوق هو ما يوفر جودة حياة جيدة، لذلك يجب حمايته
  2. سيعود السوق دائمًا إلى طبيعته بعد فترات قصيرة من الأزمات

هذه الآراء مشتركة بين العديد من الدول الغربية لكنهما أقوى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكلاهما بدا أنهما مستعدان بشدة للرد على COVID-19.

في المملكة المتحدة تم تسريب ملخص ما قيل في اجتماع خاص لكبار مساعدي رئيس الوزراء تجاه COVID-19 على أنه استخدام «مناعة القطيع» حماية الاقتصاد وإذا كان ذلك يعني أن بعض «أصحاب المعاشات قد يموتون للأسف»!. 

أنكرت الحكومة ذلك، ولكن ماذا إذا كانت التلك حقيقية فليس من المستغرب. في مناسبة حكومية في وقت مبكر من الوباء أن يقول لي موظف حكومي كبير: «هل يستحق الأمر الاضطراب الاقتصادي؟ إذا نظرت إلى تقييم جودة للحياة، ربما لا».

هذا النوع من الآراء مستوطن في فئة النخبة ويمثلها بشكل جيد مسؤول تكساس الذي جادل بأن العديد من كبار السن «سيموتون بسرور بدلاً من رؤية الولايات المتحدة تغرق في ركود اقتصادي»!. تعرض وجهة النظر هذه العديد من الأشخاص الضعفاء للخطر (وليس كل الأشخاص الضعفاء من كبار السن) وكما حاولت أن أوضح هنا فهو خيار زائف.

أحد الأشياء التي يمكن أن تفعلها أزمة COVID-19 هو توسيع هذا الخيال الاقتصادي. بينما تتخذ الحكومات والمواطنون خطوات كانت تبدو قبل ثلاثة أشهر مستحيلة، فإن أفكارنا حول كيفية عمل العالم يمكن أن تتغير بسرعة، دعونا نلقي نظرة على المكان الذي يمكن أن يأخذنا إليه هذا التخيل.

احتمالات عالم ما بعد كورونا

لمساعدتنا في رؤية المستقبل سأستخدم تقنية من مجال دراسات المستقبل. تأخذ عاملين تعتقد أنهم مهمين في المستقبل، وتتخيل ما سيحدث في ظل مجموعات مختلفة من تلك العوامل.

العوامل التي أريد أن آخذها في الحسبان هي القيمة والمركزية. تشير القيمة إلى كل ما هو مبدأ موجه لاقتصادنا. هل نستخدم مواردنا لزيادة قيمة التبادلات والأموال، أم نستخدمها لزيادة قيمة الحياة؟ تشير المركزية إلى الطرق التي يتم بها تنظيم الأشياء، إما عن طريق الكثير من الوحدات الصغيرة أو بواسطة قوة قيادة واحدة كبيرة. يمكننا تنظيم هذه العوامل في شبكة والتي يمكن بعد ذلك ملؤها بالسيناريوهات. لذا يمكننا التفكير فيما قد يحدث إذا حاولنا الاستجابة للفيروس التاجي بالمجموعات الأربعة المتطرفة:

  1. رأسمالية الدولة: استجابة مركزية، إعطاء الأولوية لقيمة التبادل
  2. البربرية: استجابة لامركزية تعطي الأولوية لقيمة التبادل
  3. اشتراكية الدولة: استجابة مركزية، وإعطاء الأولوية لحماية الحياة.
  4. المساعدة المتبادلة: الاستجابة اللامركزية إعطاء الأولوية لحماية الحياة.
أربعة أحتمالات مستقبلية

المستقبل الأول: رأسمالية الدولة

رأسمالية الدولة هي الاستجابة المهيمنة التي نراها في جميع أنحاء العالم في الوقت الحالي. ومن الأمثلة النموذجية المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.

يستمر المجتمع الرأسمالي في الدولة في السعي وراء قيمة التبادل باعتبارها الضوء الموجه للاقتصاد. لكنها تعترف بأن الأسواق في أزمة تتطلب الدعم من الدولة. بالنظر إلى أن العديد من العمال لا يستطيعون العمل لأنهم مرضى  أو خائفون على حياتهم، فإن الدولة تتدخل بطريقة دعم بتقديم الائتمان من الخزانة وتسديد الدفعات المباشرة للشركات.

التوقعات هنا هي أن هذا سيكون لفترة قصيرة. الوظيفة الأساسية للخطوات التي يتم اتخاذها هي السماح لأكبر عدد ممكن من الشركات بمواصلة التداول. في المملكة المتحدة على سبيل المثال لا يزال يتم توزيع المواد الغذائية في الأسواق (على الرغم من أن الحكومة خففت قوانين المنافسة). عندما يتم دعم العمال مباشرة يتم ذلك بطرق تسعى إلى تقليل الاضطراب في الأداء الطبيعي لسوق العمل. لذا على سبيل المثال كما هو الحال في المملكة المتحدة يجب على أصحاب العمل التقدم بطلب للحصول على المدفوعات وتوزيعها. ويكون حجم المدفوعات على أساس قيمة التبادل التي عادة ما يخلقها العامل في السوق بدلاً من فائدة عمله!.

هل يمكن أن يكون هذا سيناريو ناجح؟ ممكن، ولكن فقط إذا ثبت أن COVID-19 لا يمكن السيطرة عليه خلال فترة قصيرة. مع تجنب الإغلاق الكامل للحفاظ على أداء السوق لا يزال من المحتمل أن يستمر انتقال العدوى. في المملكة المتحدة لا يزال البناء غير الأساسي مستمرًا، مما يجعل العمال يختلطون في مواقع البناء لكن تدخل الدولة المحدود سيصبح من الصعب الحفاظ عليه إذا ارتفع عدد القتلى. ستؤدي زيادة المرض والموت إلى إثارة الاضطرابات وتعميق الآثار الاقتصادية مما يجبر الدولة على اتخاذ المزيد والمزيد من الإجراءات الجذرية لمحاولة الحفاظ على أداء السوق.

المستقبل الثاني: الهمجية/البربرية

هذا هو السيناريو الأكثر قتامة الهمجية هي المستقبل إذا واصلنا الاعتماد على قيمة التبادل كمبدأ توجيهي ومع ذلك نرفض تقديم الدعم لأولئك الذين يخرجون من الأسواق بسبب المرض أو البطالة فهو يصف حالة لم نرها بعد.

تفشل الشركات ويتضور العمال جوعًا لعدم وجود آليات لحمايتهم من الحقائق القاسية للسوق. لا يتم دعم المستشفيات بتدابير استثنائية، وبالتالي تصبح مرهقة ويموت  الناس. الهمجية هي في نهاية المطاف دولة غير مستقرة تنتهي بالدمار أو الانتقال إلى أحد أقسام الشبكة الأخرى بعد فترة من الدمار السياسي والاجتماعي.

هل يمكن أن يحدث هذا؟ القلق هو أنه يمكن أن يحدث عن طريق الخطأ أثناء الوباء، أو عن طريق القصد بعد ذروة الوباء. الخطأ هو إذا فشلت الحكومة في التدخل بطريقة كبيرة بما يكفي خلال أسوأ وقت للجائحة. قد يتم تقديم الدعم للشركات والأسر ولكن إذا لم يكن ذلك كافيًا لمنع انهيار السوق في مواجهة الأمراض المنتشرة ، فستحدث الفوضى وقد تُرسل المستشفيات أموالاً إضافية وأشخاصًا، ولكن إذا لم يكن ذلك كافيًا فسيتم إبعاد المرضى بأعداد كبيرة.

من المحتمل أن تكون هناك إمكانية للتقشف الشديد بعد أن يكون الوباء قد بلغ ذروته، وتسعى الحكومات إلى العودة إلى الوضع «الطبيعي». وقد تم تهديد هذا في ألمانيا سيكون هذا كارثيا. ليس أقله أن تأجيل تمويل الخدمات الحيوية أثناء التقشف قد أثر على قدرة البلدان على الاستجابة لهذا الوباء.

سيؤدي الفشل اللاحق للاقتصاد والمجتمع إلى اضطرابات سياسية واجتماعية ، مما يؤدي إلى فشل الدولة وانهيار كل من أنظمة رعاية الدولة والمجتمع.

المستقبل الثالث: اشتراكية الدولة

تصف اشتراكية الدولة أول مستقبل يمكن أن نراه مع تحول ثقافي يضع نوعًا مختلفًا من القيمة في قلب الاقتصاد. هذا هو المستقبل الذي نصل إليه بتمديد التدابير التي نراها حاليًا في المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.

المفتاح هنا هو أن تدابير مثل تأميم المستشفيات والمدفوعات للعمال لا تعتبر أدوات لحماية الأسواق ، ولكن طريقة لحماية الحياة نفسها. في مثل هذا السيناريو تتدخل الدولة لحماية أجزاء الاقتصاد الضرورية للحياة: إنتاج الغذاء والطاقة والمأوى على سبيل المثال، بحيث لا تعد الأحكام الأساسية للحياة على أهواء السوق. تقوم الدولة بتأميم المستشفيات، وتوفر السكن مجانًا. وأخيرًا فإنه يوفر لجميع المواطنين وسيلة للوصول إلى سلع مختلفة – سواء الأساسيات أو أي سلع استهلاكية يمكننا إنتاجها بقوة عاملة مخفضة.

لم يعد المواطنون يعتمدون على أصحاب العمل كوسطاء بينهم وبين المواد الأساسية للحياة. تتم المدفوعات لجميع الأشخاص مباشرةً ولا تتعلق بقيمة الصرف  بدلاً من ذلك ، فإن المدفوعات هي نفسها للجميع (على أساس أننا نستحق أن نتمكن من العيش، لمجرد أننا على قيد الحياة) ، أو أنها تستند إلى فائدة العمل. عمال السوبرماركت، وسائقو التوصيل، ومكدسات المستودعات، والممرضات، والمدرسون، والأطباء يصبحون محل الرؤساء التنفيذيون.

من الممكن أن تظهر اشتراكية الدولة كنتيجة لمحاولات رأسمالية الدولة وتأثيرات الوباء المطول. إذا حدث ركود عميق وكان هناك خلل في سلاسل التوريد بحيث لا يمكن إنقاذ الطلب عن طريق نوع السياسات الكينزية القياسية التي نراها الآن (طباعة الأموال، مما يسهل الحصول على القروض وما إلى ذلك) ، فقد تتولى الدولة الإنتاج.

هناك مخاطر على هذا النهج – يجب أن نكون حذرين لتجنب الاستبداد. ولكن حسنًا، قد يكون هذا أفضل أمل لنا ضد تفشي COVID-19 الشديد، دولة قوية قادرة على حشد الموارد لحماية الوظائف الأساسية للاقتصاد والمجتمع.

المستقبل الرابع: المساعدة المتبادلة

المساعدة المتبادلة هي المستقبل الثاني الذي نعتمد فيه حماية الحياة كمبدأ توجيهي لاقتصادنا. لكن في هذا السيناريو، لا تقوم الدولة بدور محدد. وبدلاً من ذلك  يبدأ الأفراد والمجموعات الصغيرة في تنظيم الدعم والرعاية داخل مجتمعاتهم.

تتمثل المخاطر في هذا المستقبل في أن المجموعات الصغيرة غير قادرة على تعبئة نوع الموارد المطلوبة بسرعة لزيادة فعالية الرعاية الصحية مثلاً. ولكن يمكن أن تساعد المساعدة المتبادلة على منع انتقال العدوى بشكل أكثر فاعلية، من خلال بناء شبكات دعم مجتمعية تحمي قواعد العزل الضعيفة والشرطية. يرى الشكل الأكثر طموحا لهذا المستقبل تنشأ هياكل ديمقراطية جديدة. تجمعات المجتمعات القادرة على تعبئة موارد كبيرة بسرعة نسبية. يتحد الأشخاص معًا لتخطيط الاستجابات الإقليمية لوقف انتشار المرض و (إذا كانت لديهم المهارات) لعلاج المرضى.

أمل وخوف

هذه الرؤى هي سيناريوهات متطرفة وخطط عامة، ومن المرجح أن تختلط ببعضها البعض. خوفي هو الانتقال من رأسمالية الدولة إلى البربرية. أملي هو مزيج من اشتراكية الدولة والمساعدة المتبادلة: دولة قوية وديمقراطية تحشد الموارد لبناء نظام صحي أقوى، وتعطي الأولوية لحماية الضعفاء من نزوات السوق وتستجيب وتمكن المواطنين من تكوين مجموعات المساعدة المتبادلة بدلاً من عمل وظائف لا معنى لها.

ما نأمل أن يكون واضحًا هو أن كل هذه السيناريوهات تترك بعض أسباب الخوف، ولكن أيضًا بعض الأمل. يبرز COVID-19 أوجه القصور الخطيرة في نظامنا الحالي. من المرجح أن تتطلب الاستجابة الفعالة لهذا التغيير الاجتماعي الجذري. لقد جادلت بأن ذلك يتطلب تحركًا حادًا بعيدًا عن الأسواق واستخدام الأرباح كطريقة أساسية لتنظيم الاقتصاد، الجانب التصاعدي لهذا هو إمكانية بناء نظام أكثر إنسانية يجعلنا أكثر مرونة في مواجهة الأوبئة المستقبلية والأزمات الوشيكة الأخرى مثل تغير المناخ.

يمكن أن يأتي التغيير الاجتماعي من العديد من الأماكن ومع العديد من التأثيرات، لكن المهمة الرئيسية بالنسبة لنا جميعًا هي المطالبة بأن تأتي الأشكال الاجتماعية الناشئة من أخلاقيات تقدر الرعاية والحياة والديمقراطية. المهمة السياسية المركزية في هذا الوقت من الأزمة هي الحياة (وتكاد تكون منظمة) حول هذه القيم.

المصدر: What will the world be like after coronavirus? Four possible futures

ما هو تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ؟

مع انتشار فيروس كورونا أو مايعرف بالفيروس التاجي، انخفضت أسعار الأسهم. منذ ذروته في فبراير، انخفض مؤشر S&P 500 بنسبة ١٧٪؜  وهو مؤشر سوق الأسهم الذي يتتبع أسهم ٥٠٠ شركة أمريكية ذات رؤوس أموال كبيرة. وهي تمثل أداء سوق الأسهم و يستخدمه المستثمرون كمعيار للسوق ككل، حيث تتم مقارنة جميع الاستثمارات الأخرى. أن خطر فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي أكبر بكثير من المخاطر الصحية. إذا كان الفيروس يؤثر بشكل مباشر على حياتك فمن المرجح أن يكون ذلك من خلال منعك من الذهاب إلى العمل، أو التسبب بطردك من العمل أو إفلاس عملك.

تعتبر تريليونات الدولارات التي تم مسحها من الأسواق المالية هذا الأسبوع مجرد البداية، إذا لم تتدخل حكوماتنا. وإذا استمر الرئيس «ترامب-Trump» في التعثر في تعامله مع الوضع، فقد يؤثر ذلك أيضًا على فرص إعادة انتخابه. وقد حدد «جو بايدن-Joe Biden» على وجه الخصوص فيروس كورونا على أنه ضعف لترامب، واعدًا بقيادة “ثابتة ومطمئنة” خلال ساعة الحاجة الأمريكية.

في جميع أنحاء العالم، تسبب فيروس كورونا بوفاة ٤٣٨٩ مع ٣١ حالة وفاة أمريكية حتى اليوم. لكنها سوف تشل الملايين من الناحية الاقتصادية، خاصة وأن الوباء شكل عاصفة مثالية مع انهيار سوق الأسهم، وحرب نفطية بين روسيا والمملكة العربية السعودية، وانتشار حرب فعلية في سوريا إلى أزمة مهاجرة محتملة أخرى.

يدعونا فيروس كورونا إلى النظر للوراء باعتباره اللحظة التي تعطلت فيها الخيوط التي تربط الاقتصاد العالمي؛ والشركات الناشئة والمتنامية مثل الأعمال التجارية والتي قد تنتهي بدفع الثمن.

بنفس أهمية مكافحة الفيروس إن لم يكن أكثر أهمية هو تطعيم اقتصاداتنا ضد جائحة الذعر القادم. يمكن أن تأتي المعاناة الإنسانية في شكل مرض وموت. ولكن من الممكن أيضًا تجربة عدم القدرة على دفع الفواتير أو خسارة منزلك.
تكافح الشركات الصغيرة على وجه الخصوص مع إيقاف تزويدها بالمؤن، وتركها بدون منتجات أو مواد أساسية. أدى إغلاق المصانع في الصين إلى انخفاض قياسي في مؤشر مدير المشتريات في البلاد والذي يقيس ناتج التصنيع. الصين هي أكبر مصدر في العالم ومسؤولة عن ثلث التصنيع العالمي، لذا فإن مشكلة الصين هي مشكلة الجميع حتى في خضم حرب تجارية بين البيت الأبيض و «بكين-Beijing».

كل هذا يجعل الأمر أكثر مدعاة للقلق من استمرار الحكومات في اعتبارها أزمة صحية وليست اقتصادية. لقد حان الوقت لتولى الاقتصاديون المسؤولية عن الأطباء، قبل أن ينتشر الوباء الحقيقي.

على الرغم من أن الصين تتحمل العبء الأكبر من التكلفة الاقتصادية والبشرية للفيروس، فإن الكثيرين في بكين سيشهدون بريقًا فضيًا في ضعف الاقتصاد الأمريكي، وإلهاءًا عن حروب ترامب التجارية التي بدا أنها تتصاعد دون نهاية في الأفق.

متزامنة تمامًا مع الفيروس التاجي، اندلعت حرب نفط روسية سعودية. على المدى القصير، يمكن لكل من موسكو والرياض تحمل انخفاض أسعار النفط بنسبة ٣٠٪؜ بين عشية وضحاها. لكن أعمال الغاز الصخري في أمريكا لا يمكنها ذلك حيث إن عملية التكسير الأكثر تكلفة تعني أن جزءًا كبيرًا من قطاع النفط الأمريكي لن يكون موجودًا ببساطة إذا بقيت أسعار النفط عند أدنى مستوياتها التاريخية، مما يؤدي إلى عمليات الإغلاق وفقدان الوظائف وربما حتى حالات الركود على مستوى الدولة.

دفع الرئيس ترامب من خلال التخفيضات الضريبية على الرواتب المتأخرة ومساعدة العمال لكل ساعة عمل وهي إجراءات ستساعد أصحاب العمل والموظفين على حد سواء على البقاء. في المملكة المتحدة، كشف المستشار «ريشي سوناك-Rishi Sunak» اليوم عن ميزانية مخصصة لفيروس كورونا. لكن يحتاج الجميع إلى التفكير بشكل أكبر إذا كانوا يريدون التعامل بشكل صحيح مع كيفية تغيير هذا العامل الجديد للوضع الراهن.

الأمر لا يتعلق فقط بالفيروسات التاجية وأسعار النفط أو حتى الاقتصاد العالمي. بل يمثل انعكاس لميزان القوى بين الشرق والغرب. كان مركز هذا، على مدى السنوات ال ١٠ الماضية، سوريا. بعد عقد من الصراع على الأرض، يبدو أن المواجهة تصاعدت الآن من حرب بالوكالة إلى صراع اقتصادي.

شهدت القوى العظمى الناشئة في روسيا والصين ما يعتبره الكثيرون بتدخل أمريكي في سوريا وهم يحاولون الآن تعزيز رؤيتهم لعالم متعدد الأقطاب. وبدلاً من السماح للسعودية حليفة الولايات المتحدة بقيادة أسواق النفط من خلال «كارتل أوبك-OPEC cartel»، تريد روسيا والصين إعادة تشكيل الأسواق العالمية وأرصدة القوى لصالحها.

من أجل البقاء على قيد الحياة خلال هذه التحولات، ستحتاج الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها لحماية مستقبل أعمالهم، كبيرها وصغيرها، والبحث عن فرص للاستفادة من النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وليس إنكاره. إن تجاهل هذه التغييرات التي سببها فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي سيكون أكثر ضررا من أي جائحة مرضية.

إذا استمر تفشي المرض بعد شهر نيسان (أبريل) بكثير سيكون من الصعب تجنب الركود الكامل والأسوأ من ذلك، أن أسعار الفائدة طويلة الأجل قريبة بالفعل من الصفر مما يحد بشدة من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تعزيز الاقتصاد الأمريكي. يمكن أن تساعد السياسة المالية مثل تخفيض ضريبة الرواتب، على الرغم من أن ما يحد من الاستهلاك في هذا الوقت ليس نقص المال بل عدم الرغبة في الإنفاق.
لذا، ما إذا كانت الأسواق تبالغ في رد الفعل يعتمد على احتمال استمرار التفشي. يبدو أن الأسواق تتوقع أن يستمر تأثير الوباء لفترة أطول من شهرين. لكن القدرة على التحمل تعتمد إلى حد كبير على تدابير الاحتواء وصناع السياسات لدينا.

المصادر: Independent

CNN 

اقرأ ايضًا باحثة مصرية تطور اختبار الكورونا المستجد في جونز هوبكينز

 

لماذا نصدق أكاذيب السياسيين ونقبلها كحقيقة؟

حقيقة الوهم وأكاذيب السياسيين

 لماذا نصدق أكاذيب السياسيين ونقبلها كحقيقة؟ الجواب يكمن في كيفية عمل دماغنا البشري. أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حالة الطوارئ الوطنية التي تسمح له بتجاوز الكونغرس وتحرير المزيد من الأموال لبناء الجدار الحدودي العازل بين أمريكا والمكسيك، هذا بعد أكثر من شهر من طرح ترامب الفكرة لأول مرة وبعد تصريحه بأن المكسيك ستمول بناء الجدار ويصدقه أغلبية الأمريكيين، فلماذا نصدق أكاذيب السياسيين بشكل متكرر! هذه هي حقيقة الوهم.

قبل يومين فقط، أخبر ترامب المراسلين أن بناء الجدار الحدودي قد بدأ بالفعل، فكيف يريدك أن تصدق أنه يحتاج إلى إعلان حالة طوارئ وطنية لبناء الجدار الذي قال إنه قد تم بناؤه بالفعل!.

وهناك الآلاف من تلك الأكاذيب يطلقها السياسيين كل يوم فكيف يصدقهم الناس كل مرة؟

«بالقدر الكافي من التكرار وفهم سيكولوجية الأشخاص المستهدفين؛ لن يكون من المستحيل إثبات أن المربع هو في الواقع دائرة. فهي مجرد كلمات والكلمات يمكن تشكيلها إلى أن تكتسح الأفكار وتُصدق». جوزيف جوبلز وزير إعلام هتلر.

يوجد عدة أسباب تجعلنا عُرضة لتصديق السياسيون الكاذبون وللأسف الشديد هم بارعين في استخدام الوسائل والأدوات اللازمة لخداع عقولنا، وهنا نستعرض بعض تلك الوسائل والأدوات علنا نتفاداها مستقبلا:

 محدودية المعرفة

تمتلك أدمغتنا موارد معرفيّة محدودة، وتغير السياسيون المستمر للمعلومات المضللة سرعان ما يثقل قدرتنا على تحليل الحقيقة من الخيال بشكل عملي لكثرة المعلومات المتاحة وتضاربها.

فعند تقييم المعلومات تعتمد أدمغتنا على الاختصارات العقلية لمساعدتنا على تشكيل الأحكام واتخاذ القرارات دون الاضطرار إلى التوقف والتفكير في كل خطوة على طول الطريق.

وبينما تسمح لنا هذه الأساليب البحثية بالمرور خلال التدفق المستمر للمعلومات التي نواجهها في حياتنا اليومية، فإنها أيضًا تجعلنا عرضة التحيزات المعرفية وضعف عملية صنع القرار.

  تأثير الحقيقة الوهمية

عندما يروي سياسي كذبة ما ويكررها -حتى وأن عرفنا أن تلك المعلومات خاطئة- فقد ثبت أن التعرض لنفس العبارة  يزيد من احتمالية قبولها كحقيقة؛ ويرجع ذلك جزئياً إلى ظاهرة تُعرف باسم «تأثير الحقيقة الوهمي-illusory truth effect» حيث يقوم العقل البشري بتصنيف البيانات على أنها أكثر صدقاً وقابلية للتصديق عندما يواجهونها أكثر من مرة فلا تُسجل في المخ على أنها بيانات جديدة بل هي معلومات لديهم من قبل!.

لسوء الحظ فإن نفس التأثير يجعلنا ضعفاء تجاه التكرار من أي نوع، بما في ذلك إعادة صياغة الادعاءات الكاذبة أثناء عملية التحقق منها.

نعم قرأت ذلك بشكل صحيح: كلما تكرر الباطل حتى لو كان الغرض من التكرار هو دحضه، كلما زادت احتمالية قبولها كحقيقة!.

تعدد المصادر

تظهر الأبحاث أيضًا أن الأشخاص يميلون إلى تصديق الرسائل الواردة من مصادر متعددة لتكون أكثر مصداقية من الرسائل الواردة من مصدر واحد.

ونتيجة لذلك فإن الاستماع إلى الخبر نفسه من عدة أشخاص أو مجموعات -الأعلام مثلا- يزيد من احتمال قبولها على أنها صحيحة حتى لو لم يكن الأمر كذلك.

ولك أن تتخيل، ماذا يحدث عندما يمتلك الحاكم كل وسائل الإعلام ويسيطر على الرسائل الواردة خلالها؟

«إن تقنيات الدعاية الأكثر براعة لن تحقق أي نجاح ما لم تتبع مبدأ واحد مستمر؛ يجب أن تقتصر الرسالة الإعلامية على بضع نقاط وتكررها مرارًا وتكرارًا».
– جوزيف جوبلز

تأثير العاطفة

علاوة على ذلك فإن الرسائل التي تخلق إثارة عاطفية -من أي نوع- وخصوصا المشاعر السلبية مثل الخوف أو الاشمئزاز من المرجح أن يتم تمريرها كحقائق.

سواء كانت صحيحة أم لا، وبعبارة أخرى ليس من قبيل الصدفة أن يكون ترويج الخوف من السمات الرئيسية في مسيرات الحكام الدكتاتوريين والطغاة لنصدق الأكاذيب.

«فكر في الصحافة على أنها بيانو رائع، يمكن للحكومات أن تعزف عليه»
– جوزيف جوبلز

المصادر:

Exit mobile version