ما هو الانتشار الثقافي في علم الإنسان؟

الانتشار الثقافي في علم الإنسان، مصطلح برز في أربعينيات القرن الماضي، وقد صاغه عالم الأنثروبولوجيا ألفريد كروبر. ويصف هذا المصطلح انتشار عناصر الثقافة من حضارة إلى أخرى، ويستخدم هذا المفهوم بكثرة في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية، بالإضافة لاستخدامه في مجال الجغرافيا الثقافية. [2]

تعريف الانتشار الثقافي في علم الإنسان

يعرف الانتشار الثقافي Trans-cultural Diffusion بأنه: “العملية التي يتم من خلالها نشر فكرة أو أفكار، خاصة بثقافة معينة؛وانتشارها إلى مناطق أخرى خارج نطاق الثقافة التي نشأت فيها”. [3]
وصف ألفريد كروبر، عالم الأنثروبولوجيا الذي صاغ هذا المفهوم، بأن الانتشار عبر الثقافات يمر بعمليات إعادة صياغة لاحقة. ويصف هذا المفهوم العملية التي من خلالها يتم نقل ونشر العناصر الثقافية، والتي تتمثل بالأفكار، والأديان، والتقنيات، والعادات، بين مجموعة من الأفراد وذلك ضمن ثقافة واحدة، أو ثقافتين مختلفتين. ومصطلح الانتشار الثقافي يستخدم لشرح الطرائق التي تنتشر فيها هذه الأفكار، وتندمج من خلالها الأفكار في ثقافات مختلفة. [1]
والانتشار عبر الثقافات يعد ظاهرة موثقة، وطبيعية تمامًا؛ ويذكر علماء الأنثروبولوجيا أمثلة على هذا، الانتشار الكبير للوجبات السريعة أميريكية الأصل في دول شرق آسيا، بالإضافة لذلك قد انتشرت الوجبات الآسيوية على سبيل المثال في أمريكا بشكل كبير. علاوةً على ذلك، طرح العديد من العلماء فكرة أن الزراعة قد انتشرت من مكان ما في الشرق الأوسط إلى كامل أوراسيا “أي أوروبا وآسيا” وذلك قبل 10000 عام. هناك أمثلة أخرى على ذلك منها انتشار اللباس الغربي في مختلف أنحاء العالم كلباس رسمي عوضًا عن الزي التقليدي للمنطقة. [1]

آليات الانتشار بين الثقافات

يحدث الانتشار بين ثقافات مختلفة عن طريق ثلاثة طرق وهي:

الانتشار المباشر Direct Diffusion

وتحدث هذه الطريقة عند اختلاط ثقافتين تؤثران ببعضهما، وذلك بكامل إرادة كل ثقافة ودون أي فرض. مثال على ذلك التشابه الثقافي بين البلدان المتجاورة، مثل شيوع لعبة الهوكي والبيسبول في الولايات المتحدة الأميريكية وكندا. مثال فردي على هذه الطريقة هو تعرف شخصين من ثقافتين مختلفتين وزواجهما الذي يُحدِث نوعًا من الإندماج الثقافي. [2]

الانتشار القسري Forced Diffusion

هذا النوع من الانتشار يفرض قسرًا من قبل ثقافة على ثقافة ثانية، مثال عن هذه الطريقة هي فرض أي ثقافة من بلد استعماري لبلد آخر محكوم من قبله. [2]

الانتشار غير المباشر Indirect Diffucion

يحدث هذا النوع من الانتشار من خلال جهة ثالثة أو “وسيط”، بحيث يكون هناك ثقافة مؤثرة، وثقافة متأثرة، وبينهما وسيط ينقل العناصر الثقافية. ولا تكون الثقافتين مرتبطتان بأي شكل من الأشكال غير الوسيط. مثال ذلك هو انتشار الطعام المكسيكي في كندا، بالرغم من وجود حاجز هائل بين الثقافتين هو الولايات المتحدة. لكنها هنا تلعب دور الوسيط بين الثقافتين الثانيتين. [2]

أنواع حالات الانتشار الثقافي في علم الإنسان

هناك 6 حالات للإنتشار الثقافي، وهي: [3]

الانتشار الثقافي عبر التنقل

وهذا النوع يتم فيه الانتشار من خلال انتقال الأفراد من نقطة إلى أخرى، والاستوطان في مكان جديد. والذي يؤدي إلى دمج الثقافات عند هجرة مجموعة من السكان إلى نقطة غير مكان توطنهم.

الانتشار الثقافي في علم الإنسان عبر التوسع

هنا يتم انتشار فكرة ثقافية معينة، من حيث نشأت وتمتد إلى مناطق أخرى. وتبقى هذه الفكرة قوية في مكان منشأها، ويتوسع انتشار الفكرة المطروحة بالتدريج.

الانتشار الثقافي المعدي

وهو نوع من أنواع الانتشار التوسعي، يشير إلى انتشار العناصر الثقافية من خلال تفاعل الأفراد مع بعضهم. فعندما يتفاعل الأفراد يتأثرون بثقافة الشخص الآخر، ويؤثرون به بدورهم. وهذا مشابه لفكرة العدوى بأي فيروس، أشهر أمثلة على هذا هي انتشار مقاطع فيديو معينة على الانترنت وتحولها ل”تريند”.

الانتشار الهرمي

وفي هذا النوع يتم الانتشار من خلال أشخاص مشهورين يشاركون فكرة ما، وتنتشر هذه الفكرة مع عامة الشعب. وفي يومنا هذا يتم توظيف المشاهير أو المؤثرين “انفلونسرز” للقيام بنشر اسم علامة تجارية، ومن خلال هذا يتبنى باقي الأفراد رأي الشخص المؤثر ويتم نشر الفكرة المطلوبة.

الانتشار بالتحفيز

يتم هذا الانتشار عندما تتغير الثقافة خلال عملية الانتشار، قد يبقى العنصر الثقافي المنشور في المنطقة التي برز منها نفسه أو قد يتغير. لكن سوف يتغير بالتأكيد كلما زادت شهرته وانتشاره في الأماكن الأخرى. كما يدعي بعض المنظرين بأن للعالم ثقافة واحدة انتشرت، وخلال عملية انتشارها طرأت عليها تغيرات كثيرة أدت لظهور الثقافات الحالية، لكنه رأي غير مؤكد تمامًا.

انتشار مع انعدام القدرة على التكيف

يحدث هذا النوع عند انتشار ثقافة معينة إلى أماكن جديدة، ولا تكون هذه العناصر الثقافية ذات معنى في المناطق التي وصلت لها، بالرغم من ذلك فهي لا تتغير لتتكيف مع البيئة الجديدة. [3]

أهم النظريات في الانتشار الثقافي في علم الإنسان

هناك عدد من النظريات التي تشرح عملية الانتشار الثقافي، نذكر أهمها: [1]

الانتشار شمسيّ المركز Heliocentric diffusionism

تقول هذه النظرية بأن جميع الحضارات قد نشأت من ثقافة معينة، ثم تم تحويرها وتبديلها.

الانتشار بالدوائر الثقافية Kulturkreise

هذه النظرية تقول بأن الثقافات المتعددة في العالم، يعود أصلها لعدد صغير من الثقافات.

الانتشار التطوري Evolutionary diffusionism

تقول النظرية التطورية بأن كل المجتمعات تتأثر ببعضها، والبشر جميعًا يشتركون في سمات نفسية تجعلهم متساويون في احتمالية الابتكار. هذا ما يؤدي إلى حدوث ابتكارات مختلفة في كل منطقة بشكل معزول عن الثقافات الأخرى.

نقد نظرية الانتشار الثقافي في علم الإنسان

يؤخذ على هذه النظرية ما يلي:

  • أولًا، توجه لهذه النظرية انتقاد حاد لأنها تتمحور بشكل أساسي على العرق، وتحاول شرح أنماط الانتشارات من خلال هذا. وهذه العرقية تم التصريح عنها من قبل العديد من المنظرين للانتشار الثقافي، وطرحت فكرة أن الثقافات المستقبلة لن تكون قادرة على الابتكار، إنما تتلقى كل شيء من الثقافة المؤثرة.[4]
  • ثانيًا، من عيوب نظريات الانتشار الثقافي كونها تخمينية، ويصعب إثباتها بشكل تام أو دحضها. ولا يمكن استنتاج بعض الأفكار فيها إلا عندما تتضمن أوجه تشابه بين الثقافات، حتى أن العناصر تكون معقدة نسبيًا ولا يمكن الجزم بصحتها. [2]
  • ثالثًا، يؤخذ على هذه النظرية فشلها في تفسير سبب عدم نقل عناصر ثقافية معينة. [2]

بالرغم من المآخذ والانتقادات التي توجهت لنظرية الانتشار الثقافي في علم الإنسان، إلا أنها بدون أي شك من الأفكار المؤثرة جدًا في هذا العلم. ويجب أخذها بعين الاعتبار عند المقارنة بين مجتمعين أو عدة مجتمعات مدروسة.

المصادر:
1- artandpopularculture
2- helpfulprofessor
3- academia
4- aranthropos

النظرية المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا

النظرية المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا من المدارس المهمة التي برزت في ستينات القرن الماضي، على يد العالم مارفن هاريس الذي أرسى الدعائم الأولية لأفكار هذه النظرية في كتابه صعود النظرية الأنثروبولوجية كنموذج نظري وبحثي في عام 1968. وقد وضح في كتابه عملية تطور وتغير المجتمعات متأثرًا بكتابات كارل ماركس. بالإضافة لتأثره من منظري النظريات التطورية في العلوم الإنسانية مثل هيربرت سبينسر.

نشأة النظرية المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا

نشـأت المادية الثقافية كمدرسة فكرية على يد العالم مارفن هاريس، وذلك في عام 1968. ولكن جذور المادية الثقافية تمتد إلى الأفكار الماركسية، فهي تعد امتدادًا للأفكار المادية الماركسية. وقد نشأت هذه المدرسة كرد فعل على الأفكار البنيوية، والنسبية الثقافية، بالإضافة للأفكار المثالية. تؤكد هذه المدرسة أن العالم المادي يؤثر على سلوك البشر في مجتمعهم. والسلوك البشري جزء من الطبيعة بالتالي يمكن فهم السلوك البشري بنفس منهجية فهم الظواهر الطبيعية؛ أي باستخدام مناهج العلوم الطبيعية. [2]
يعطي أنصار المدرسة المادية الأولوية للعالم المادي على الفكر والإيديولوجيا المحيطة، أي برأيهم الواقع المادي هو ما يحدد الإيديولوجيا المنتشرة وليس العكس. وهذه الأفكار مستمدة من أفكار كارل ماركس وفريدريك إنجلز التي انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر، التي قدما فيها نمذجًا تطوريًا للمجتمعات. لكن قلة من علماء الأنثروبولوجيا قد التفتوا لهذه الآراء حينها ولم تحصل على القبول، لكن هذه الأفكار زاد انتشارها بين علماء الأنثروبولوجيا في عشرينات القرن الماضي وزاد الاعتماد على تفسير العالم المادي لتحليل المجتمع والتطور المجتمعي. [1]

افتراضات المادية الثقافية في الأنثروبولوجيا

يحدد الماديون الثقافيون ثلاثة مستويات من النظم الاجتماعية التي تشكل نموذجًا عالميًا وهذه النظم هي: البنية التحتية infrastructure، البنية structure، والبنية الفوقية superstructure. وجميع هذه البنى مترابطة ببعضها حيث تؤثر كل بنية بالأخرى وتتأثر بها، وتؤدي التغيرات في بنية إلى حدوث تغيرات في البنية الأخرى. كما أن هذه التغيرات لا تكون بالضرورة فورية، ولكنها تظهر على البنية لاحقًا. [3]

البنية التحتية Infrastructure

يحدد أنصار هذه المدرسة البنية التحتية كأساس لجميع المستويات الأخرى، وتضم هذه البنية كيفية تلبية الاحتياجات الأساسية وتفاعلها مع البيئة المحيطة وتتضمن الوضع الاقتصادي والتكنولوجي والعوامل الديموغرافية التي تؤثر في المجتمع.

االهيكل أو البنية Structure

وهي الطبقة الوسطى بين البنية الفوقية والتحتية، تتضمن التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع، والمؤسسات والمنظمات الموجودة في المجتمع

البنية الفوقية Superstructure

وهي البنية المرتبطة بشكل رئيسي بالإيديولوجيا السائدة والرمزية والدين. وقد أكد مارفن هاريس على أن البنية التحتية هي الأكثر أهمية. فهنا يحدث التفاعل الأساسي بين الثقافة والبيئة وهي التي تؤثر حكمًا بالطبقات التي تليها. [5]

المنهجية المتبعة في المدرسة المادية الثقافية

تركز المادية الثقافية على الأحداث القابلة للملاحظة والقياس الكمي، وتماشيًا مع الطريقة العلمية تدرس هذه الأحداث باستخدام الأساليب التجريبية الإمبريقية. يعتمد النهج الذي أسسه هاريس على دراسة الثقافة لإبراز كونها ناتجة عن الوضع المادي المحيط، ويركز على الممارسات المجتمعية التي تساهم في بقاء واستمرار المجتمع، بالإضافة إلى أن التحليل يتضمن عمليات قياس ومقارنة للظواهر في المجتمع المدروس. [1]

أبرز العلماء المؤسسين لهذه المدرسة

ساهم العديد من العلماء في الأنثروبولوجيا في تطوير مدرسة المادية الثقافية، نذكر أهم هؤلاء العلماء:

مارفن هاريس

وهو المؤسس لهذه المدرسة، خريج جامعة كولومبيا وحاصل على شهادة الدكتوراه في علم الإنسان في عام 1953. في كتابه صعود النظرية الأنثروبولوجية حدد المعالم الأساسية لهذه المدرسة الفكرية. درس هاريس التطور الثقافي باستخدام منهجية بحث المادية الثقافية، ومن أهم التحليلات التي قام بها تحليل سبب تحريم أكل لحم البقر وتقديسه عند الهندوس. حيث حاول في عمله توضيح سبب تركيزه على الظروف المادية في تحليله للظاهرة. بالرغم من تعرض هاريس لنقد شديد إلا أنه قد خلف إرثًا هائلًا في الأنثروبولوجيا. [1]

جوليان ستيوارد

طور ستيوارد مبدأ البيئة الثقافية، التي تطرح فكرة أن البيئة هي عامل إضافي مساهم في تشكيل الثقافات. كما حدد مفهوم التطور متعدد الطبقات باعتباره منهجية تهتم بالانتظام في التغيير الاجتماعي، وهدفه تطوير القوانين الثقافية تجريبيًا. كما وضع فكرة أنواع الثقافة التي تمتلك صلاحية إظهار عناصر ثقافية مختارة من أساس مرجعي وتمتلك نفس العناصر الثقافية. [1]

الانتقادات التي وجهت للنظرية

طالت المادية الثقافية العديد من الانتقادات من العديد من المدارس الفكرية في الأنثروبولوجيا، لعل أبرزها كان من الماركسيين المعارضين للمادية الثقافية، والمثاليين البنيويين، وأنصار مدرسة ما بعد الحداثة.

انتقادات الماركسيين

قام الماركسي ج. فريدمان بتسمية المادية الثقافية بالمادية المبتذلة، وذلك لاعتقاده بأن النهج التجريبي الإمبرييقي الخاص بهذه المدرسة ساذج وبسيط للغاية. كما انتقد الماركسيون فكرة الاعتماد الشديد على البنية التحتية وأنها هي الأكثر تأثيرًا في باقي البنى. مشيرين لأهمية النظر للبنية الفوقية بجدلية ديالكتيكية لفهم أهميتها. ويجادلون أن أنصار المادية الثقافية قد اهتموا بالجانب التحتي من المجتمع إلى مرحلة قد أدت بهم لإهمال البنية الفوقية بشكل كامل. [4]

انتقادات منظري المدارس المثالية

جادل المثاليون ومنهم أنصار المدرسة البنيوية مثل ايميل دوركهايم، بأن الثقافة هي نفسها العامل المسيطر في عملية التغير الثقافي في المجتمع. وهذه الثقافة تستند إلى هيكل موجود في دماغ الإنسان. وانتقدوا التركيز المادي على البيئة المحيطة من قبل الماديين الثقافيين بأنه قد يخلق استنتاجات متحيزة. [4]

انتقادات أنصار مدرسة ما بعد الحداثة

انتقد أنصار ما بعد الحداثة المنهج العلمي الصارم الذي استخدمه الماديون التاريخيون، مؤكدين أن العلم في حد ذاته ظاهرة مصممة ثقافيًا تتأثر بالطبقة، والعرق، وعوامل بنيوية أخرى من البنية التحتية. حتى أن بعض أنصار ما بعد الحداثة يقترحون بأن العلم هو أداة تستخدمها الطبقات العليا في المجتمع لقمع والسيطرة على الطبقات الأضعف منها. وهذا يعد هجوم مباشر على المادية الثقافية بدراساتها الموضوعية والمقارنات متعددة الثقافات. [4]

تأثير المرجعية الذاتية، كيف يشكل الدماغ تصوراتنا الذاتية؟

يسجل الدماغ كل التجارب التي نتعرض لها خلال حياتنا ويكوّن من خلالها معرفتنا لأنفسنا؛ وذلك من خلال ربط آلاف الخلايا العصبية مع بعضها. يبدو الأمر داخل أدمغتنا مثل حاسوب دائم التحديث للمعلومات، حيث أنه يحتفظ بصور ذهنية عن ذواتنا في الحاضر. وللذاكرة دور كبير في ثبات هويتنا الأساسية.

لا سيما أننا نستطيع الرجوع للماضي في أدمغتنا من خلال الذكريات، ونسافر إلى المستقبل من خلال تخيلاتنا للغد. كيف يشكل الدماغ تصوراتنا الذاتية؟

ما هي المناطق المسؤولة في الدماغ عن معرفتنا لأنفسنا؟

نشرت مجلة (SCAN) دراسة كشف فيها الباحثون قدرة إحدى المناطق الموجودة في الدماغ على تربيط معرفتنا لأنفسنا في الحاضر والمستقبل. وأن الإصابات في تلك المنطقة تتسبب قصور في تصورنا عن ذواتنا. وتسمى هذه المنطقة قشرة الفص الجبهي البطني (VMPFc). تعد هذه المنطقة هي المسؤولة عن تصوراتنا لأنفسنا وتثبيت الزمن المتعلق بهذه الصورة في دماغنا.

لاحظ اختصاصيو علم النفس أن عقولنا تعالج المعلومات المتعلقة بذواتنا على نحوٍ مختلف عن معالجتها للتفاصيل الأخرى. كما يتم استدعاء الذكريات التي تشير إلى الذات غالبًا بطريقة أسهل من أشكال التذكّر الأخرى في أدمغتنا. حيث تعتمد هذه الذكريات على «تأثير المرجعية الذاتية_SRE» الذي يمنح المعلومات المتعلقة بذواتنا امتيازًا خاصًّا.

كما وجد المختصون أن الذكريات المرتبطة بذواتنا تتميز عن الذكريات المتعلقة بأحداث محددة والذاكرة الدلالية التي ترتبط بمعرفتنا العامة.

وهكذا يصبح تأثير المرجعية الذاتية وسيلة لفهم الدور الذي تؤديه العمليات في الدماغ في صياغة معرفتنا لأنفسنا. حيث استعانت بعض الأبحاث بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). حيث يمكن للباحثين قياس تدفق الدم بوصفه مقياسًا لنشاط الدماغ؛ وذلك لتحديد مناطق الدماغ التي تتنشط بسبب تأثير المرجعية الذاتية. وقد وجدت هذه الدراسات أن قشرة الفص الجبهي البطني مرتبطة بعملية التفكير في الذات.

تنقسم قشرة الفص الجبهي البطني إلى قسم علوي يسمى المنطقة الخارجية، وقسم سفلي يسمى المنطقة البطنية. تساهم المنطقتين في صياغة كافة أشكال التفكير المتعلقة بمعرفتنا بأنفسنا. يساهم كلاهما في صياغة أشكال التفكير المرتبطة بذواتنا؛ تقوم المنطقة الخارجية بوظيفة التمييز بين الذات والآخرين. كما أنها مرتبطة بأداء المهمات المختلفة؛ في حين يساهم القسم البطني في التعامل مع العواطف.

ماذا يحدث لتصوراتنا عن ذواتنا عند إصابة (VMPFc)؟

درس الباحثون في الدراسة السابقة حالات سبعة أشخاص ممن تعرضوا لإصابات في قشرة الفص الجبهي البطني. ومجموعة أخرى من ثمانية أشخاص لديهم إصابات في أجزاء أخرى من الدماغ، بالإضافة إلى 23 شخصًا سليمًا لا يعانون من أي إصابات في الدماغ. كان الهدف من الدراسة معرفة إن كانت المرجعية الذاتية تتأثر بشكل أكبر بإصابة الدماغ بشكل عام أم بإصابة قشرة الفص الجبهي البطني.

وقد خضع جميع المشاركين في الدراسة لاختبار عصبي نفسي شامل لمعرفة مدى قدرتهم على الخضوع لمجموعة من الاختبارات المعرفية. وتتضمن الطلاقة اللغوية والذاكرة المكانية قصيرة المدى. طلب الباحثون من المشاركين تحديد مجموعة من الصفات يرونها في أنفسهم وكذلك مجموعة من الصفات يرون بها أحد المشاهير في كلٍ من الوقت الحاضر وبعد مرور عشرة أعوام. وكان على المشاركين في وقت لاحق استدعاء هذه الصفات كاملة.

اكتشف الباحثون أن الأشخاص المصابين بإصابات أخرى في الدماغ تمكنوا من استدعاء عدد من الصفات المرتبطة بذواتهم في الحاضر والمستقبل أكبر من عدد الصفات المرتبطة بالمشاهير؛ وأن تأثير المرجعية الذاتية يشمل الذات المستقبلية والذات الحالية. إذ كان الأشخاص الذين لديهم إصابات في الدماغ أقل قدرةً من المشاركين الأصحاء على استدعاء التفاصيل المتعلقة بذواتهم المستقبلية.

جاءت نتائج الاختبارات التي أجراها الباحثون على الأشخاص الذين لديهم إصابة في قشرة الفص الجبهي البطني مختلفةً اختلافًا واضحًا. إذ أظهرمن لديهم إصابات في هذه المنطقة قدرة ضئيلة أو معدومة على تذكر صفاتهم وصفات المشاهير في الحاضر والمستقبل بالمقارنة ببقية المشاركين. كما كان هؤلاء الأشخاص أقل إيمانًا بقدرة الفرد على امتلاك سمات معينة بالمقارنة بالمشاركين الآخرين في الدراسة.

يمكن أن تساعدنا إصابات الدماغ على فهم وظيفة تلك المنطقة من الدماغ. كما توضح هذه الدراسة العلاقة بين إصابة قشرة الفص الجبهي البطني وتغير الشخصية وتبلد العواطف والكثير من التحولات في الوظائف العاطفية؛ كما توضح الدراسة أيضًا أن إصابة هذه المنطقة تؤدي إلى حدوث ذكريات كاذبة يسردها الأشخاص على أنها حدثت بالفعل بسبب خلل في آليات استعادة الذكريات وتتبعها. 

كيف تؤثر إصابة الدماغ على حاضرنا ومستقبلنا؟

طلب الباحثون من المشاركين التفكير في ذواتهم في الماضي؛ لكن قشرة أمام الفص الجبهي البطني لم تسجل أي نشاط أكثر من الذي سجلته عند التفكير في شخص آخر. وهكذا، يبدو أن ذواتنا الماضية غريبة على أنفسنا، كما لو كانت تخص أحد آخر. وقد قدم الباحثون تفسيرًا لهذه الحالة حيث أننا عند إدراك أي عيب في سلوكنا أو ذواتنا القديمة يجعلنا نميل إلى وضع مسافة بين الحاضر والماضي.

تضم القشرة الأمامية الجبهية شبكة تساهم في عملية التخطيط للمستقبل. وتتألف هذه الشبكة من الحُصين الذي يؤدي دور مهم في تشكيل الذاكرة العرضية التي تجعلنا نتكر أحداث حياتنا بتتابع زمني صحيح. والتأثير على نشاط الحُصين يؤدي إلى تغيير التخيلات الإبداعية والمستقبلية.

من الواضح أن التفكير المستقبلي قد أدى دورًا مهمًّا في تطور البشر؛ إذ من المحتمل أن تكون تلك القدرة قد أسهمت في تطور اللغة. كما أن لها دورًا رئيسيًّا في تحقيق التواصل بين البشر.

وبفضل هذه الأبحاث الجديدة أصبح لدينا الآن فكرة أفضل من أي وقت مضى عن المكان الذي تتشكل فيه هذه القدرة المحورية داخل الدماغ.

المصادر:

  1. scientific american

ما هو تأثير البيئة على المشاعر؟

يختبر كل شخص على هذا الكوكب العواطف، حيث تمثل العواطف كل المشاعر أو الأفكار التي تنشأ بشكل تلقائي على العكس من التفكير الواعي المنظم، عندما ننظر إلى هذا الأمر من منظور عالمي؛ هناك العديد من الاختلافات في كيفية تفسيرنا للتعبير عن المشاعر عندما تختلف البيئة والثقافة المجتمعية.

قد يعتقد المرء أنه إذا كان الشخص سعيدًا في الصين، فسوف تظهر هذه السعادة على الأمريكي بنفس الطريقة. حيث أنه من منظور عالمي للسلوك التنظيمي تبيّن في الحقيقة الثقافات المختلفة تفسر المشاعر وتعبر عنها وتختبرها بشكل مختلف.
هل هناك علاقة بين المشاعر واللغة؟ وكيف يتصرف البشر بشكل فردي أو اجتماعي؟

ما هي فكرة ريتشارد نيسبت عن المشاعر؟

ورد في كتاب «جغرافية الفكر لريتشارد نيسبت_the geography of thought Richard Nisbett» أنه من المهم فهم كيفية قراءة الفروق الدقيقة بين مشاعر الأشخاص الذين يأتون من بيئات مختلفة؛ لا سيما أنه من المستحيل تقريبًا بناء فريق دولي ناجح من العمال إذا لم يتمكن الأفراد التقاط أو فهم مشاعر أعضاء فريقهم.

حيث أنه مثلًا قد يكون شعور شخص من البرازيل بالعواطف يؤثر على كيفية تفسير أو تلقي شخص آخر من تايوان لمشاعر هذا الشخص. ويأتي هذا التفسير من الإشارات التي قد يرسلها كتعابير الوجه ولغة الجسد التي يلتقطها الآخرون ثم يفسرونها.

قد لا يبدو أن هناك فجوة كبيرة بين ما يشعر به شخص ما في بلد ما وكيف يفسر هذا الشعور الآخر لكن افي الواقع هناك فرق؛ حيث قرر الباحثون في إحدى الدراسات أن يعرضوا صورًا لمجموعة من الأفراد من دول مختلفة لأشخاص أظهروا مشاعر مختلفة، مثل السعادة أو الحزن أو القلق أو المفاجأة.

قام الباحثون ببعض الدراسات على أشخاص من أمريكا وتشيلي والبرازيل والأرجنتين واليابان. المدهش أن الجزء الأكبر منهم خمّنوا المشاعر التي كانوا يشاهدونها بشكل صحيح.

لكن كانت هناك نسبة كبيرة من الأفراد الذين أخطئوا في التعرف على بعض المشاعر. على سبيل المثال، خمن 32٪ من الأرجنتينيين مشاعر الخوف بشكل خاطىء. كما أخطأ 37٪ من المشاركين اليابانيين في تخمين شعور الغضب.

تثبت هذه التجربة البسيطة أنه لا يمكننا تفسير المشاعر عالميًا بنفس الطريقة،إذ يمكن للأشخاص من البلدان الأخرى إساءة تفسير المشاعر التي يمرون بها؛ مما قد يؤدي بهم إلى التفاعل مع المحيط بطريقة خاطئة.

كما أنه من الشائع مثلًا أن يحضر الأفراد جنازة ويظهروا حزنهم. بينما يجب في بعض البلدان أن يكون الشخص رزينًا وألا يُظهر الحزن في الجنازات.[1]

 كيف تؤثر اللغة على فهمنا للمشاعر؟

تبقى اللغة هي أساس الوجود، حيث أنها ليست مجرد تجربة فاللغة تلخص كامل معرفتنا وخبراتنا. كما أنها تشكل كل ما نشعر به وأيًا كان ما نقوم بمعالجته. وفي نفس الوقت، تقوم بوضع علامات على تلك المعلومات وتصنفها عاطفياً. الفكرة هي أن اللغة تشكل المشاعر وفي نفس الوقت تشكل الإدراك.

في القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام الحقيقي بكيفية وصف اللغة لثقافة المجتمعات. وفي القرن العشرين، تم إنشاء فرضية «سابير وورف_sapir-whorf» لوصف كيفة تأثير بنية اللغة على الطريقة التي يرى بها متحدثو هذه اللغة العالم؛ لذلك يمكننا أن نرى ونستطيع فهم تلك اللغة أو إنتاج طرق محددة لمعالجة المشاعر وتنظيم هذه المشاعر والتعبيرات اللغوية بطريقة نحوية.

الحقيقة هي أنه وفقًا لكل الطرق المختلفة للدراسات في الأنثروبولوجيا؛ فإن المشاعر هي دراسات اجتماعية ولغوية وتطورية. تثبت جميع الدراسات الاثنوجرافية أن العواطف هي مجرد تعبير ثقافي واحد للتعامل مع المشاكل المستمرة للعلاقة الاجتماعية. لذا فإن العواطف أيديولوجية، على الرغم من العواطف الجسدية أو الطبيعية الواضحة جدًا قبل الثقافة.

كيف تختلف مشاعر العار والذنب في الثقافات المختلفة؟

تفرض بعض الثقافات على أفرادها أن يشعروا بطريقة معينة خلال حدث ما. على سبيل المثال، تعتبر مشاعر الذنب في الدول الغربية فردية على الرغم من أنواع من العلاقات الاجتماعية والعائلات؛ والحقيقة هي أن الترابط العائلي ومن ثم الترابط الاجتماعي أضعف بكثير من ذلك الموجود بالفعل في المجتمعات الشرقية التي يعتبرونها أكثر ترابطًا. لذلك، في المجتمعات الغربية الناس أكثر عرضة للشعور بالذنب

على العكس من ذلك؛ يميل البشر في البلدان الشرقية إلى الشعور بالعار أكثر نتيجة أفعالهم، وذلك لأنهم أكثر وعيًا بالتفاعل الاجتماعي الذي يتم فيه تقييم أفعالهم. لذا نستطيع القول أن اللغة تشكل الطرق التي نشعر بها وتحدد الاستراتيجيات الاجتماعية والعاطفية.[2]

المصادر

  1. the geography of thought Richard Nisbett
  2. COURSERA

الدفن السماوي، كيف يدفن البوذيون موتاهم؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 8 في سلسلة أغرب طقوس الدفن عبر التاريخ


الدفن السماوي، كيف يدفن البوذيون موتاهم؟

شغلت قضية الموت العقل البشري منذ القدم، وجهد البشر في تفسيرها، وكرموا موتاهم بشتى الطرق. ومع تعدد الثقافات تعددت الطقوس الجنائزية؛ فمنهم من اختار الحرق، ومنهم من اختار دفن الموتى. أما البوذيون فقد اتخذوا اتجاهًا مغايرًا وقدموا موتاهم للنسور كطقس جنائزي لتكريم الموتى.

لمحة عن البوذية:

تعد البوذية فلسفة روحانية قديمة العهد. نشأت في الهند وانتشرت في معظم أنحاء شرق آسيا حتى وصلت لمنطقة التيبت.
يرى البوذيون الموت كتوقف لشيء وبداية لشيء آخر فهو من جهة الفناء التام وتوقف الحياة، ومن جهة أخرى بداية لرحلة روحانية جديدة. وبناءً على هذا التصور تبلورت طقوس الدفن السماوي.

البوذية بين الفلسفة والدين:

البوذية فلسفة في نظر البعض ودين في نظر من يمارسونها، والحقيقة أنها لا تندرج بشكل كلي تحت الفئتين، وقد يعتبرها البعض كطريقة في الحياة.
لا تعرف البوذية الألوهية ولا تتضمن أي عبادة للآلهة. مبدأ الروحانية بالنسبة للبوذية يرتبط ببث اليقظة والصحوة في داخل الفرد وليس بما هو خارجه.
و”البوذا” بالنسبة لأتباعه قديس، أو كائن أعظم روحياً؛ فالقديس في السياق البوذي شخص يقدم مثالاً للحقيقة التي أربكت الكائنات البشرية، وتدعوهم لليقظة أو ” الاستنارة”.

الحياة والموت في نظر البوذية:

تقوم البوذية على مبدأ التناسخ، أي ولادة الروح لعدة مرات في أجساد مختلفة، وتعرف دورة الحياة المتسلسلة هذه باسم “سامسارا” ولا ينظر للموت على أنه تهديد أو شيء محتوم، فهو بداية لحياة جديدة.


مراسم الدفن السماوي:

هو أكثر أنواع الدفن شيوعًا في منطقة التيبت لأتباع البوذية. تحتم هذه الديانة على أتباعها أن يتصفوا بالسخاء لذلك يقومون بتقديم أجساد الموتى للطيور الجارحة.

بعد الوفاة تترك الجثة دون أن تلمس لثلاثة أيام. ينشد الرهبان حول الجثة لتطهيرها من ذنوبها قبل يوم الدفن ثم تنظف الجثة وتُلف بقماش أبيض وتوضع بوضعية الجلوس، يبدأ الطقس قبل الفجر، يتصدر الرهبان الجنازة وينشدون الصلوات لإرشاد الأرواح حتى يصلون لمكان الدفن.

بعد الوصول يبدأ المختصون بتكسير وتقطيع الجثة لتستهلكها النسور، ثم يُحرق نوع من البخور لجذب النسور لأكل الجسد، وإن أكلت الجسد كاملًا فإن ذلك دليل على أن المتوفي طاهر من الذنوب. وإذا لم يؤكل تُجمع البقايا وتحرق مع إنشاد الصلوات للتطهير من الخطايا. و تعد النسور كائنات مقدسة في الديانة البوذية، فهي ترشد الأرواح للسماء حتى تُبعث من جديد.

طقوس دفن أخرى في التيبت

بجانب الدفن السماوي هناك الحرق والدفن النهري والدفن تحت الأرض وبالتسلسل فإن أعلى درجات الدفن قيمة بعد الدفن السماوي هو الحرق، يليه الدفن النهري، والدفن الأرضي.

يصعب على العقل البشري تقبل حقيقة أن الفناء قدره المحتوم، وجاءت الشعائر المختلفة لتبين لنا مدى اهتمام الناس بواقع الموت ورهبتهم منه.
إن التعرف على طقوس الشعوب في كافة المجالات، وخصيصًا طقوس الدفن يطلعنا على جوانب مهمة من حياتهم وفلسفتهم. فمن نظرتهم للموت نفهم منظورهم في الحياة.

اقرأ أيضًا: التحنيط الذاتي

أحد المدافن في منطقة التيبت

المصادر:

1-  bbc
2-   atlasobscura
3-  tibetpedia

Exit mobile version