فلسفة القانون النسوية

فلسفة القانون النسوية

فلسفة القانون النسوية تدرس تأثير الهيمنة الذكورية على الأنظمة القانونية. تجمع بين الأبعاد النسوية في المعرفة والميتافيزيقا العلاقية والنظريات السياسية والأساليب الفلسفية لفهم كيف تفرض المؤسسات القانونية أنماط الجنس. تعتمد فلسفة القانون النسوية المعاصرة أيضًا على نظريات حقوق الإنسان الدولية ونظريات العرق النقدية ووجهات نظر أخرى متخصصة. تهدف هذه الفلسفة إلى تطوير النظريات، وتحليل المفاهيم، وإعادة تعريف أدوار الجنس والمساواة، لتحقيق المساواة بين الجنسين في القانون. تغطي هذه المجال مجموعة متنوعة من المواضيع في منشورات مختلفة، بدءًا من مجلات الفلسفة إلى دراسات النوع ومراجعات القانون. يتناول المقال مواضيع أساسية في نظريات القانون النسوي ويسلط الضوء على الحاجة إلى تغييرات مؤسسية في مجموعة من المجالات مثل المساواة السياسية، والهجرة والجنسية، والزواج، وحقوق اللإنجاب والحماية من العنف، وحقوق الاقتصاد.

مفاهيم رئيسة في فلسفة قانون النسوية:

النسوية القانونية تسلك مناهج متنوعة, راديكالية, ماركسية, ما بعد استعمارية وغيرها وتركز على مسائل مثل الحرية, المساواة, الهيمنة, الاختلاف والتنوع. المساواة في الحقوق والحريات والواجبات بين كلا الجنسين تعتبر ركيزة أساسية في فلسفة قانون النسوية.

مبدأ سيادة القانون:

هذا المبدأ يشير إلى الحياد القضائي وتطبيق القانون على الجميع والتناغم والاستفرار في الخطاب القانوني. تعارض النسوية القانونية هذا المبدأ لكونه يحافظ على الوضع الراهن والهياكل القانونية التقليدية التي وضعتها العقلية الذكورية. تجادل فيلسوفات القانون النسويات أن هذا النهج يجعل التحيز النظامي غير مرئيًا ومتجذرًا، وصعب التعرف عليه ومكافحته. التحيز النظامي هذا لا يؤثر على رأي القانونيين بل الضحايا أيضًا, ذلك لأن الضحية نفسها تفهم القانون بدلالتها التقليدية. طبقًا للنسوية القانونية فأن القوانين أوجدها الرجال, أو العقل الذكوري, بالتالي فأن عدم المساواة متجذر فيه. كما أن القانون يعكس ديناميات السلطة داخل المجتمع. حيث الرجال والنساء في مواقف غير متساوية تاريخيًا, فالمرأة تم تصويرها دائما كتابع.

المساواة والإختلاف:

لا تنكر النسوية القانونية وجود اختلافات بين الذكور والإناث, لكنها بيولوجية وليست أنطولوجية. فالنسوية القانوينة تأخذ على عاتقها تحقيق المساواة بين الجنسين أمام القانون وإلغاء التصورات النمطية التي كونها الذكور عن الإناث. لكن هذه الاختلافات البيولوجية يمكن تفسيرها تفسيرًا انحيازيًا, لهذا فأن التعامل مع هذه الاختلافات يضع النسوية القانونية في معضلة, ذلك أن هذه الاختلافات قد تؤدي بالمساواة. ترى النسوية القانونية أن الفرق/الاختلاف هو تقييم واقعي والمساواة هي معيار سياسي أو أخلاقي. وبالتالي، يجب أن تتطور النقاش بين مفهومي الهوية والاختلاف للتركيز على فهم وتحقيق المساواة.

المعقولية في القانون:

ترى فيلسوفات القانون النسويات أن المعقولية القانونية تتضمن أنماط ذكورية, سواء القانون الجنائي أو قانون العقود والاضرار وغيرها من القوانين. هذه القوانين تقوم على مفهوم “الرجل المعقول السوي” وهذا يعكس المنظور الذكوري في معقولية القانون. وفقًا لفلسفة القانون النسوية فأن معقولية القانون جاءت من فهم وتفسير الذكوريين لـ “المعقول” لهذا فأن الرجل هو المعيار للسوي وغير السوي وبالتالي للمعقول وغير المعقول.

العام والخاص:

فلسفة القانون النسوية تتناول موضوع التمييز بين القطاعين العام والخاص كموضوع مركزي. الليبراليين، بما في ذلك النسويين الليبراليين، يدافعون عن الحفاظ على مجال حياة خاص يجب أن يكون مخصصًا لاختيار الفرد. ومع ذلك، ترى النسويين الراديكاليين أن الهيمنة الذكورية والسيطرة الجنسية تتسللان إلى العلاقات الخاصة، مما يجعل من الصعب تمييز الأفعال التي تؤثر أساسا على الفرد عن الأفعال التي تؤثر على الآخرين بشكل أوسع. إن الهياكل القانونية التي تسمح بالهيمنة أو تعززها داخل العلاقات الحميمة هي مشكلة عميقة ويجب أن يتم تجاوزها. الجدل يمتد إلى قضايا مثل الدعارة، حيث يعتقد بعض الليبراليين أنه يجب تشريع الدعارة الطوعية بالقانون. بينما يجادل آخرون، بما في ذلك النسويين، بأنها قد تمكن لاحقاً عمليات الاتجار بالبشر. نقاشات النسويين تتعمق أيضا في حدود التمييز بين القطاعين العام والخاص في مجالات متنوعة مثل التكاثر والأسرة وأنماط العمل والعلاقات الجنسية والعنف الأسري، مع مناقشة تفاصيل إضافية في الأقسام اللاحقة.

حقوق الإنسان:

إقرأ أيضًا التمييز في الأجور بين الرجال والنساء يمنح كلوديا جولدين جائزة نوبل في الاقتصاد

تقدر الفيلسوفات النسويات التغيرات التي حدثت فيما يخص التعامل مع قضايا المرأة. بيد أنهن يعتبرن بأن التزامات حقوق الانسان في بعض الأماكن سطحية, فبعض القوانين التقليدية ما زالت سارية في بعض الدول. هناك جدل نسوي بشأن دور الحقوق. بعضهن، مثل اللواتي ينتمين إلى حركة الدراسات القانونية النقدية، يرون أن الحقوق يمكن أن تخفي ديناميات القوى المخفية. بينما يُجادل البعض الآخر، مثل نظريات العرق النقدية، بأن بعض النسويات تغفل عن أصوات النساء الأمريكيات من أصل أفريقي وأن الحقوق يمكن أن تكون ضرورية لحماية ضحايا التمييز والقمع. وتدور مناقشات مماثلة حول الحقوق في القانون الدولي، حيث تدعم النسويات الليبراليات الاعتراف الدولي بحقوق الإنسان، بينما ينتقد النظريون النقدية وبعض النسويات من البلدان النامية القانون الدولي والانحياز الهيكلي للحقوق وكذلك قناعة أن الحقوق تخفي القمع.

التعدد المنهجي:

فلسفة القانون النسوية تستند إلى منهجيات متعددة، بما في ذلك النسوية الإبستيمولوجية والميتافيزيقا العلاقية والواقعية القانونية ونظرية التداخل. إنها تتناول قضايا مثل الظلم الشهادي والظلم التأويلي، مسلطة الضوء على كيفية تأثير الصور النمطية للجنس والعرق على الإعتمادية. كما أنها تؤكد على أهمية فهم التجارب الحياتية في السياقات القانونية، وتتحدى الافتراضات الجوهرية حول أدوار النساء، وتنتقد الشكلية في تحليل القانون. بالإضافة إلى ذلك، تبحث في مجال التداخلية، التي تعترف بتداخل معقد بين فئات اجتماعية متعددة (مثل الجنس والعرق والطبقة) في تشكيل تجارب الأفراد وكيفية تفاعلهم مع القانون. هذا النهج يساعد على كشف التفاوتات الخفية ويوفر فهمًا أكثر تعقيدًا لمسائل قانونية متنوعة، مثل العنف في السجون.

المساوة الشكلية والمواطنة المتساوية:

حركة نساء منتصف القرن العشرين، المعروفة بنسوية الموجة الثانية، هدفت إلى تأمين حرية النساء والمواطنة المتساوية لهن. بينما كانت المساواة السياسية للنساء في البداية فكرة جريئة، إلا أنها أصبحت مقبولة على نطاق واسع في العديد من المجتمعات. ومع ذلك، في بعض الثقافات، تواجه النساء لا تزال قيودًا في مجالات مثل التصويت والتعليم والحقوق الإنجابية. تدافع القانونيات النسويات عن مشاركة النساء في الساحة العامة، معتبرات أن عدم المساواة في المواطنة غير عادلة. إطارات حقوق الإنسان الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، كانت حاسمة في تعزيز حقوق النساء على الصعيدين الوطني والعالمي. قامت العلماء القانونيين النسويين بالعمل على مسائل نسائية متنوعة واستخدموا المنصات الدولية لتعزيز الحوار والبحث.

بالإضافة إلى المواطنة المتساوية، تنتقد النسويات الهياكل القانونية والسياسية التي تفرض أعباء زائدة على النساء والأطفال الذين يسعون للمواطنة في بلدان أخرى. جهود العلماء النسويين قامت بتعميم قضايا النساء على الصعيدين الوطني والعالمي، مما أثر على الإصلاحات القانونية في مختلف الدول. ومع ذلك، تبقى تنفيذ القوانين والمعاهدات تحديًا، حيث قد لا يتم تنفيذها أو تتعارض مع العادات المحلية. وبالإضافة إلى ذلك، ما زال معنى المواطنة المتساوية قيد النقاش، مع أسئلة حول ما إذا كان يجب أن يتجاوز المساواة القانونية الشكلية. تلامس هذه النقاشات مسائل مثل تداخل التمييز والاختلافات الثقافية، وعلاقة معايير حقوق الإنسان بالعادات المحلية.

الزواج والإنجاب والعنف:

تسعى النسوية القانونية لتحقيق المساواة داخل المؤسسة الزوجية, وكذلك تطبيع الزواج المثلي ومواجهة التحديات الدينية والثقافية. رغم شرعنة الزواج المثلي, بيد أن هناك مشاكل أخرى يواجهها هذه الفئة, مثل تعامل الآخرين معهم (صاحب الدار مثلا) وهذا يحتاج حماية قانونية. كما أن حق الانجاب والاجهاض من المسائل المهمة في هذه الفلسفة. الرؤية التقليدية ترى في المرأة كشيء يملكه الرجل ويمكنه أن يتصرف بجسدها كما يشاء. لذلك فأن النسوية القانونية تدعو إلى تدخل القانون في هذه المسألة, حيث أن المرأة هي وحدها تمتلك جسدها وهي حرة فيها, حيث أن الحرية غير ممكنة مع اقصاء الجسد.

ترى النسويات بأن النساء ما زلن يعانين كثيرًا, ويواجهن العنف من الشريك والأقارب والأصدقاء, وفي معظم الحروب والأزمات تصبح النساء هدفًا للعنف. ورغم الاصلاحات القانونية الكثيرة في مصلحة النساء, إلا أن المرأة ما زالت هي الضحية, ويقتضي ذلك تفعيل قوانين حماية المرأة بشكل أكبر.

المصدر:

https://plato.stanford.edu/entries/feminism-law/

الموسيقى وتأثيرها على جسم الإنسان

الموسيقى وتأثيرها على جسم الإنسان

تعد الموسيقى من المواضيع الرئيسة في معظم الحقول المعرفية, وذلك بسبب فاعليتها وسلطتها على الوجود الإنساني. ففي الأساطير القديمة, نجد دور الموسيقى في ترويض الطبيعة وفي بناء الشبكات الإجتماعية. دخل سؤال الموسيقى في الفلسفة قبل سؤال الإنسان, وحافظ هذا السؤال على مكانته في مختلف الفلسفات التي أطاحت بالكثير من الأسئلة, ومنها سؤال الله. العلوم الإنسانية وجدت ضالتها في الموسيقى في تفسيرها للظواهر الاجتماعي تارة وفي استخدامها كعالج نفسي تارة أخرى. وفي العلوم الطبيعية, تنشر باستمرار ورقات بحثية حول تأثير الموسيقى على الجهازين العصبي والمناعي, الدماغ ونشاط القلب. في هذا المقال سوف نسلط الضوء على الموسيقى وتأثيرها على جسم الإنسان من مختلف الزوايا. إقرأ أيضًا تاريخ الموسيقى

الموسيقى ونشاط القلب:

زيادة التوتر مرتبطة  مع معدل ضربات القلب وضغط الدم على حد سواء. تشير الدراسات إلى أن الموسيقى (مثل موزارت، السيمفونية رقم 40) يمكن أن تزيد أو تقلل من معدل ضربات القلب وضغط الدم(1). إن الموسيقى تعزز الاسترخاء من خلال التزامن الفسيولوجي و/أو النفسي. التزامن (Entrainment) هو مبدأ في الفيزياء، حيث يميل جسمين يتذبذبان بترددين مماثلين إلى أن يتسببا في اهتزاز متبادل تعاطفي  (mutual sympathetic resonance) وأن يتذبذبا بنفس التردد. يتم تحقيق التزامن باستخدام الموسيقى لاستدعاء الاسترخاء مباشرة. الأثر الموسيقي والعمليات الفسيولوجية (ضربات القلب، معدل التنفس، ضغط الدم، درجة الحرارة، هرمونات الكظر) مكونة من اهتزازات تحدث بشكل منتظم ودوري وتتألف من تذبذبات.

يمكن استخدام الأثر الموسيقي، وبالأخص الإيقاع والسرعة، كمزامن للتأثير على التغييرات في الاستجابات الفسيولوجية (مثل ضربات القلب، والتنفس، وضغط الدم) من خلال التزامن. عند استخدام الموسيقى لإحداث الاسترخاء من خلال التزامن، يجب أن يكون لديها إيقاعًا يساوي أو يقل عن معدل ضربات القلب أثناء الراحة (أقل من 80 نبضة في الدقيقة)، وديناميات قابلة للتنبؤ، وحركة ملحوظة للألحان، وهارمونيات ملائمة، وإيقاع منتظم دون تغييرات مفاجئة، وصفات صوتية تتضمن الأوتار والناي والبيانو أو الأصوات المركبة خصيصًا. يُستخدم هذه الخصائص الموسيقية لإحداث الاسترخاء من خلال جعل إيقاعات الجسم تبطئ أو تتزامن مع إيقاع الموسيقى(2).

ترتبط الموسيقى المسببة للاسترخاء بانخفاض القلق. يُعتقد أن الموسيقى ذات الإيقاع البطيء والثابت والمتكرر تمارس تأثيرًا مغناطيسيًا يسهم في الاسترخاء وتقليل القلق من خلال تهدئة الإدراك وتغيير الحالات الوعيية. نظرًا لأن الاسترخاء الفسيولوجي غير متوافق مع القلق، يمكن للموسيقى تغيير مستويات القلق المُدركة بينما تسهل استجابات فيزيولوجية أكثر استرخاءً. يمكن للموسيقى أن تقلل من القلق من خلال توجيه قنوات الانتباه في الدماغ نحو محتوى معنوي منشغل وملائم للسمع بدلاً من المحتوى البيئي المُجهِد(2).

الموسيقى والجهاز المناعي

يُحدث التوتر تغييرات رئيسية في الجهاز المناعي. حيث أظهرت الدراسات أن أنواعًا معينة من الموسيقى يمكن أن تعدل مستوى بعض العناصر المناعية مثل الإيمونوغلوبولين A (IgA) والخلايا القاتلة الطبيعية.  تشير النتائج إلى وجود علاقة إيجابية بين الموسيقى المريحة وعلامات التوتر المناعي.(3)

الموسيقى الترفيهية تعدل نشاط الخلايا القاتلة الطبيعية ومستوى سيتوكين IL-10، وهي علامات للتوتر، وتحسين المزاج. في الآونة الأخيرة، تبين أن الموسيقى في حالات التوتر قادرة على رفع مستوى سيتوكين IL-6. سيتوكين IL-6 وسيتوكين IL-10 هما “علامات التوتر” المناعية(4).

الموسيقى وهرمون الكورتيزول

على الرغم من أن التوتر من ناحية والموسيقى من ناحية أخرى يمكن أن يسببان العديد من التغييرات الهرمونية، خاصة والأهم  هرمون الكورتيزول. الكورتيزول هو الهرمون الرئيسي للتوتر، والذي يرتفع مستواه في حالات التوتر، ويعدل الجسم ويساعده على التغلب على الوضع الموجود من خلال استجابات “القتال أو الهروب”. التوتر النفسي يثير استجابة عاطفية قوية وزيادة في مستوى الكورتيزول، ولكن التعرض للموسيقى يقلل من ارتفاع مستوى الكورتيزول. المواقف الإجهادية تسبب ارتفاعًا في مستوى الكورتيزول. أظهرت دراسة أن الموسيقى الرئيسية (مثل Allegro con spirito لموزارت، K448، الذي يسبب السعادة) قللت من التوتر ومستوى الكورتيزول أكثر من الموسيقى الصغيرة (مثل للبيتهوفن “فور اليز”، والتي تسبب الحزن). من ناحية أخرى، الموسيقى التقنية “تكنو” تزيد من إفراز العديد من هرمونات التوتر بما في ذلك الكورتيزول، بينما الموسيقى الكلاسيكية (مثل سيمفونية بيتهوفن 6) تقلل من مستوى الكورتيزول(5).

إقرأ أيضًاكيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا؟

الموسيقى وكيمياء الدماغ

الناقل العصبي الرئيسي في نظام المكافأة هو الدوبامين. الموسيقى اللطيفة تحرر الدوبامين في نواة الاكومبنس(6). من ناحية أخرى، الاستماع إلى الموسيقى البطيئة يقلل من مستوى النوريبينفرين (ناقل عصبي ينظم مستوى الاثارة)(7) . ناقل عصبي آخر يستجيب للموسيقى هو السيروتونين. الموسيقى اللطيفة تزيد من إفراز السيروتونين (الذي يسؤول عن المزاج الجيد) في الدماغ، في حين أن الموسيقى غير اللطيفة تقلل من مستوى السيروتونين(8).

جزيء آخر ينشط نظام المكافأة هو الإندورفين. الإندورفين يسبب شعورًا بالرفاهية والاسترخاء. إن الموسيقى اللطيفة ترفع مستوى الإندورفين، وأفاد المشاركون الذين تم معالجتهم بوكيل مستقبل الإندورفين بأنهم شعروا بلذة أقل بكثير عندما استمعوا إلى محفزات موسيقية تتحرك بشكل طبيعي. الموسيقى التقنية “تكنو” تقلل من مستوى الإندورفين، بينما الموسيقى الكلاسيكية ترفع مستوى الإندورفين(9)

الموسيقى تؤثر على موجات الدماغ:

بقدر ما تعكس النشاط الكهربائي حالة الدماغ، فإن هناك نوعين من موجات الدماغ تشير إلى الاسترخاء. الموجة ألفا (6-12 هرتز) تظهر أثناء الاسترخاء، والموجة ثيتا (4-7 هرتز) تظهر أثناء الاسترخاء العميق. أظهرت الدراسات أن موجات الدماغ (EEG) يمكن تغييرها بواسطة الموسيقى(10). تزيد موجات الدماغ ألفا وثيتا سواء بواسطة الموسيقى النوعية للراحة أو بواسطة تقنيات الاسترخاء الأخرى. لوحظ أن الأشخاص الذين يركزون انتباههم على محفز إيقاعي معين لفترة كافية يمكن أن يشعروا بمستوى جديد من الوعي.

يبدو أن موجات الدماغ تتحرك مع الإيقاع وكلما أمضى الشخص وقتًا أطول في التركيز عليه، زاد التزامهم مع الإيقاع. تمت أظهار أن الموسيقى لموزارت (K448) و(Symphony 94) تثير نشاطًا كهربائيًا مختلفًا في الدماغ(11). بينما تم توضيح تأثير الموسيقى المهدئة، فإن السؤال هو ما إذا كان تأثير الموسيقى هذا يتم من خلال تغيير تردد موجات الدماغ. أظهرت الدراسات على تأثير الموسيقى على النوم نتائج متضاربة، حيث أفاد بعضها بالتأثيرات الإيجابية وأخرى نفت ذلك. قضية النوم مهمة لأن مراحل النوم تتميز بترددات مختلفة لموجات الدماغ، وكذلك الموسيقى التي تثير تغييرات في المزاج(12).

الموسيقى والجهاز العصبي:

أحد الأمثلة، من بين العديد من الأمثلة، التي توضح كيف يمكن للموسيقى أن تؤثر في الوظائف العصبية مُقدم في تقرير يُشير إلى أن شدة انقباض عضلة العين الخاصة برد الفعل المفاجئ كانت أكبر وزمن الاستجابة لها أقصر خلال استماع الأشخاص إلى الموسيقى غير الممتعة مقارنة بالموسيقى الممتعة، مما يشير إلى أن النظام العاطفي الدفاعي يتأثر بالموسيقى(13). وتظهر تأثيرات أكثر عمقًا في التقارير التي تُظهر أن التدريب الموسيقي يعزز تنشيط وتطوير بنية الخلايا العصبية المعينة بما في ذلك القشرة الدماغية والأميجدالا والحصين (Hippocampus) وهايبوثالاموس (Hypothalamus) ويعزز قابلية الجهاز العصبي للتشكيل والتجدد الخلاية(14).

كما تؤدي بعض المسارات أيضًا إلى التوسط في الاستجابات العاطفية عند معالجة الموسيقى الممتعة وغير الممتعة على حد سواء, مع تنشيط محدد لمنطقة النواة الفطرية ومنطقة الجزء العرضي التلقائي المسؤولتين عن تنظيم الاستجابات القلبية والفسيولوجية للمحفزات الجائزة والعاطفية. وفي هذا السياق، تستحق منطقتان في الدماغ اهتمامًا خاصًا؛ تحت المهاد (Hypthalamus) بوظيفتها في التحكم في الاستجابة الهرمونية للضغوط النفسية والحصين الذي يعتبر جزءًا من الجهاز الليمبي ويتحكم في العواطف(15).

إقرأ أيضًا هل تؤثّر الموسيقى في نمو النبات؟

المصادر:

  1. Lemmer B. Effects of music composed by Mozart and Ligeti on blood pressure and heart rate circadian rhythms in normotensive and hypertensive rats. Chronobiol Int. 2008 Nov;25(6):971-86. doi: 10.1080/07420520802539415. PMID: 19005899.
  2. Merker BH, Madison GS, Eckerdal P. On the role and origin of isochrony in human rhythmic entrainment. Cortex. 2009 Jan;45(1):4-17. doi: 10.1016/j.cortex.2008.06.011. Epub 2008 Oct 30. PMID: 19046745.
  3. Zakaria Eletreby, M., El-Sayed Abd-El-Fattah, M., Sabry Ali Al-Dawy, H., Abd-El-Hameed Khedr, M., & Abd-El-Fattah El-Salamoni, M. (2018). EFFECTS OF MUSIC AND STRESS ON HEALING OF INDUCED WOUND IN THE SKIN OF ADULT MALE ALBINO RATS. Al-Azhar Medical Journal, 47(3), 493-510. doi: 10.12816/0052812
  4. Wachi M, Koyama M, Utsuyama M, Bittman BB, Kitagawa M, Hirokawa K. Recreational music-making modulates natural killer cell activity, cytokines, and mood states in corporate employees. Med Sci Monit. 2007 Feb;13(2):CR57-70. PMID: 17261984.
  5. Suda M, Morimoto K, Obata A, Koizumi H, Maki A. Emotional responses to music: towards scientific perspectives on music therapy. Neuroreport. 2008 Jan 8;19(1):75-8. doi: 10.1097/WNR.0b013e3282f3476f. PMID: 18281896.
  6. Sutoo D, Akiyama K. Music improves dopaminergic neurotransmission: demonstration based on the effect of music on blood pressure regulation. Brain Res. 2004 Aug 6;1016(2):255-62. doi: 10.1016/j.brainres.2004.05.018. PMID: 15246862.
  7. Yamamoto T, Ohkuwa T, Itoh H, Kitoh M, Terasawa J, Tsuda T, Kitagawa S, Sato Y. Effects of pre-exercise listening to slow and fast rhythm music on supramaximal cycle performance and selected metabolic variables. Arch Physiol Biochem. 2003 Jul;111(3):211-4. doi: 10.1076/apab.111.3.211.23464. PMID: 14972741.
  8. Evers S, Suhr B. Changes of the neurotransmitter serotonin but not of hormones during short time music perception. Eur Arch Psychiatry Clin Neurosci. 2000;250(3):144-7. doi: 10.1007/s004060070031. PMID: 10941989.
  9. Gerra G, Zaimovic A, Franchini D, Palladino M, Giucastro G, Reali N, Maestri D, Caccavari R, Delsignore R, Brambilla F. Neuroendocrine responses of healthy volunteers to ‘techno-music’: relationships with personality traits and emotional state. Int J Psychophysiol. 1998 Jan;28(1):99-111. doi: 10.1016/s0167-8760(97)00071-8. PMID: 9506313.
  10.  Levitin DJ, Tirovolas AK. Current advances in the cognitive neuroscience of music. Ann N Y Acad Sci. 2009 Mar;1156:211-31. doi: 10.1111/j.1749-6632.2009.04417.x. PMID: 19338510.
  11. Jausovec N, Habe K. The influence of Mozart’s sonata K. 448 on brain activity during the performance of spatial rotation and numerical tasks. Brain Topogr. 2005 Summer;17(4):207-18. doi: 10.1007/s10548-005-6030-4. PMID: 16110771.
  12. Chen J, Yuan J, Huang H, Chen C, Li H. Music-induced mood modulates the strength of emotional negativity bias: an ERP study. Neurosci Lett. 2008 Nov 14;445(2):135-9. doi: 10.1016/j.neulet.2008.08.061. Epub 2008 Aug 28. PMID: 18771704.
  13. Roy M, Mailhot JP, Gosselin N, Paquette S, Peretz I. Modulation of the startle reflex by pleasant and unpleasant music. Int J Psychophysiol. 2009 Jan;71(1):37-42. doi: 10.1016/j.ijpsycho.2008.07.010. Epub 2008 Jul 23. PMID: 18725255.
  14. Hyde KL, Lerch J, Norton A, Forgeard M, Winner E, Evans AC, Schlaug G. Musical training shapes structural brain development. J Neurosci. 2009 Mar 11;29(10):3019-25. doi: 10.1523/JNEUROSCI.5118-08.2009. PMID: 19279238; PMCID: PMC2996392.
  15. Baumgartner T, Lutz K, Schmidt CF, Jäncke L. The emotional power of music: how music enhances the feeling of affective pictures. Brain Res. 2006 Feb 23;1075(1):151-64. doi: 10.1016/j.brainres.2005.12.065. Epub 2006 Feb 3. PMID: 16458860.

الهلاوس في اضطراب الكرب التالي للصدمة

الهلاوس في اضطراب الكرب التالي للصدمة

وجود الهلاوس في اضطراب الكرب التالي للصدمة, لا زال محل الجدل في الدراسات العلمية. ففي الدليل التشخيصي المعتمد عالمًا, لا وجود للهلاوس بين المعايير, بيد أن بعض الدراسات تؤكد وجودها. كما أن الهلاوس مرتبطة أكثر بالأضطرايات التي تسمى بالسايكوسس (مثل شيزوفرينيا) كما قد تظهر في الاكتئاب الحاد. في هذا المقال نستعرض بعض من جوانب اضطراب الكرب التالي للصدمة واحتمالية ظهور الهلاوس لدى المرضى. من الجدير بالذكر هو أن الهلاوس تختلف عن فلاش باك المنتشرة بين مرضى PTSD.

ما هو ااضطراب الكرب التالي للصدمة (PTSD)؟

اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) هو اضطراب يتطور في بعض الأفراد الذين عاشوا تجربة مروعة أو مخيفة أو خطيرة. من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالخوف أثناء وبعد موقف مؤلم. الخوف جزء من استجابة “القتال أو الهروب” في الجسم، التي تساعدنا على تجنب الخطر المحتمل أو التصدي له. قد يعاني الأشخاص من مجموعة متنوعة من التفاعلات بعد التعرض للصدمة، ويتعافى معظمهم من الأعراض الأولية مع مرور الوقت. أما الذين يستمرون في تجربة مشكلات قد يتم تشخيصهم بمرض PTSD.(1).

تم التعرف على اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) في البداية كتشخيص في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) في عام 1980. بدأت مجالات علم الطب النفسي في هذا الوقت تفهم أن العديد من المحاربين القدامى في فيتنام قد تعرضوا لأضرار نفسية وكانوا غير قادرين على التكيف مع الحياة المدنية. لقد واجهت فكرة إضافة PTSD إلى الإطار التشخيصي معارضة في البداية، ليس أقلها لأنها تتنافى مع الطبيعة الغير نظرية للDSM بإدراج مرض له طبيعة سببية محددة وواضحة (الصدمة). ومع ذلك، تطورت فهم عام بأن أعراض نفسية تشبه تلك التي شعر بها المحاربون القدامى في فيتنام قد تنجم عن أي حادث مكثف أو مرعب أو مجهد كان يشكل تهديداً للحياة وخارج النطاق الطبيعي للتجربة اليومية. (2)

أعراض الاضطراب:

لهذا الاضطراب أعراض محتلفة, وتم تقسيمها على أربع فئات: (3)

إعادة التجربة: أفكار وذكريات وصور اقتحامية, كوابيس وأحلام مزعجة وفلاش باك.

التجنب: تجنب الأشياء والأشخاص والأماكن المرتبطة بالحدث الصادم, أو تجنب سردها أو التفكير بها.

السلبية في الاعتقاد والمزاج: فقدان الذاكرة, لوم النفس أو الآخرين, المشاعر السلبية كالخزي, الرعب, الذنب والخوف. صعوبة اختبار المشاعر الإيجابية, الشعور بالإنفصال عن الآخرين, فقدان الرغبة في الأنشطة.

فرط اليقظة: زيادة القلق, صعوبة النوم, ضعف التركيز, التهيج, نوبات الغضب والعصبية, سلوكيات تدميرية والاستجابة المفرطة.

أسباب وعوامل الخطر:

الحادث الصادم هو السبب الرئيسي للاضطراب, بيد أن ليس كل من يتعرض لحادث صادم يطور هذا الاضطراب, فثمة عوامل أخرى: (4)

 قبل الصدمة:

تسهم عوامل في تطوير اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) ويمكن تصنيفها إلى عدة فئات. العوامل الطبيعية تشمل المشاكل العاطفية في الطفولة واضطرابات نفسية سابقة. العوامل البيئية تشمل الوضع الاقتصادي المنخفض، والتعليم، والتعرض للصدمة، والمصاعب في الطفولة، والسمات الثقافية، والذكاء المنخفض، والوضعية الأقلياتية، وتاريخ الأمراض النفسية في العائلة. الدعم الاجتماعي قبل تعرض الشخص للصدمة يُعَد واقيًا. العوامل الوراثية والفسيولوجية تشمل الجنس الأنثوي، وسن أصغر عند تعرض البالغين للصدمة، وبعض الصفات الوراثية والفسيولوجية.

أثناء الصدمة:

تلعب العوامل البيئية دورًا كبيرًا في تحديد احتمالية أن يتطور الشخص إلى تطوير اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). شدة الصدمة، بما في ذلك عوامل مثل الشدة، والتهديد المتصور للحياة، والأذى الشخصي، والعنف بين الأفراد، والمشاركة كمُرتكب للعمل، وشهادة فظائع، أو المشاركة في المعارك العسكرية حيث يحدث خسائر بين الأعداء، يزيد من احتمالية حدوث PTSD. علاوة على ذلك، تجربة الانفصال خلال وبعد الحدث المؤلم هي عامل خطر إضافي لتطوير PTSD.

بعد الصدمة:

تشمل العوامل الطبيعية تقديرات غير مواتية للحادث المؤلم، وآليات التكيف الغير كافية، وظهور اضطراب الإجهاد الحاد. من ناحية أخرى، تتضمن التأثيرات البيئية التعامل المتكرر مع تذكيرات بالصدمة، وحدوثات متعاقبة لأحداث حياة سلبية، وتدهور مالي أو تدهورات أخرى مرتبطة بالتجربة المؤلمة. ووجود الدعم الاجتماعي، بما في ذلك استقرار وحدات العائلة بالنسبة للأطفال، قد يعمل كعنصر حماية وربما يخفف من العواقب بعد حدث مؤلم.

انتشار الاضطراب:

في عام 2014, هاجم داعش مدينة سنجار في العراق حيث يسكن الإيزيديين وقام بحملة إبادة جماعية. تم قتل أكثر من خمسة آلاف إيزيدي وتم سبي أكثر من 5000 فتاة وأمرأة ايزيدية. تعرضت هؤلاء النساء إلى الاغتصاب والاتجار وتم عرضهن في الأسوق كسبايا. تحررت بعض من النساء والفتيات وحسب الدراسات فأن أكثر من 95% منهن يعانين من اضطراب الكرب التالي للصدمة. هذه النسبة عالية جدا لكن هناك دراسات كثيرة أثبت ذلك. (5)

بالنسبة لانتشار الاضطراب بين عامة السكان في العالم, فأن الشكل التالي يوضح ذلك. (6)

ماذا يحدث للدماغ:

تشير الدراسات على أن اضطراب الكرب التالي للصدمة يحدث تغيرات على مستوى الدماغ ونشاطه. على سبيل المثل فأن نشاط الجبهة الأمامية المسؤولة عن التفكير النقدي والمنطقي يقل, بينما يزداد نشاط amygdala وهذا الجزء مسؤول عن الإنفعالات, لهذا فأن مرضى هذا الأضطراب أكثر حساسية في الاستجابة للمنبهات لا سيما المتعلقة بالحادث الصادم. كما أن حجم هايبوكامبوس (Hippocampus) أقل في المرضى مقارنة مع غيرهم, لذا فأن الذكريات تظل متشظية في الأميكدالا ولا تدخل في الذاكرة الطبيعية أي هايبوكامبوس. (7)

الهلوسات:

بينما لا يعتبر هذا العرض جزءًا من معايير الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) لاضطراب ما بعد الصدمة، إلا أن الأبحاث المتزايدة تشير إلى أن الهلوسات قد تكون أكثر انتشارًا مما كان معتقدًا في الأصل بين اضطرابات الطيف التي تتعلق بالصدمة.

وفقُا للدراسات فأن 46% من مرضى اضطراب الكرب التالي للصدمة لديهم هلاوس سمعية أو بصرية.  تقليديًا، تُصنَّف الهلوسات والهذيان كأعراض للاضطراب السايكوسس psychosis. وهذا النوع من الاذطرابات يتميز بعدم قدرة دماغك على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. ومع ذلك، ليست التجارب المشابهة ضمن اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) بالضرورة على نحو كلاسيكي. أجريت دراسة في عام 2005 لفحص انتشار أعراض الاضطراب النفسي بين الأشخاص الذين يعيشون مع PTSD أو تعرضوا للصدمة. وقد وجد الباحثون أن مجموعة متنوعة من أعراض الاضطراب النفسي تم ملاحظتها بين المشاركين. كانت شدة الحدث المؤلم مرتبطة بشدة الأعراض التي يعانون منها. وفيما يتعلق بالهلوسات في PTSD، كانت عادة مرتبطة بتجارب الاعتداء الجنسي. (8)

إقرأ أيضًا ما هي الصدمة الثقافية وكيف تتغلب عليها؟

المصادر:

  1. https://www.nimh.nih.gov/health/topics/post-traumatic-stress-disorder-ptsd
  2. Kring, A. M., Johnson, S. L., Davison, G. C., & Neale, J. M. (2016). Abnormal Psychology (13th ed.). United States of America: United States of America.
  3. Kirkpatrick, H. A., & Heller, G. M. (2014). Post-Traumatic Stress Disorder: Theory and Treatment Update. The International Journal of Psychiatry in Medicine, 47(4), 337–346. https://doi.org/10.2190/PM.47.4.h
  4. American Psychiatric Association (Ed.). (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders: DSM-5 (5th ed). Washington, D.C: American Psychiatric Association. P. 278
  5. Kizilhan, J. I., Friedl, N., Neumann, J., & Traub, L. (2020). Potential trauma events and the psychological consequences for Yazidi women after ISIS captivity. BMC Psychiatry, 20(1), 256. https://doi.org/10.1186/s12888-020-02671-4
  6. Koenen, K. C., Ratanatharathorn, A., Ng, L., McLaughlin, K. A., Bromet, E. J., Stein, D. J., … Kessler, R. C. (2017). Posttraumatic stress disorder in the World Mental Health Surveys. Psychological Medicine, 47(13), 2260–2274. https://doi.org/10.1017/S0033291717000708
  7. Mann SK, Marwaha R. Posttraumatic Stress Disorder. [Updated 2023 Jan 30]. In: StatPearls [Internet]. Treasure Island (FL): StatPearls Publishing; 2023 Jan-. Available from: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK559129/
  8. https://www.jwatch.org/na51114/2020/03/26/hearing-voices-patients-with-trauma

وكأنك قرأت: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود لإلزا غودار

وكأنك قرأت: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود لإلزا غودار:

ما يجعل من هذا الكتاب مهمًا هو كونه يقدم فلسفة حية، فلسفة لا تتناول قضايا النخبة الكلاسيكية، إنما تتناول قضايا تخص كل فرد منا. ثمة هناك الكثير من الأدبيات التي توقفت عند قضايا التكنولوجيا وعلاقتها بالمشكلات الفلسفية والنفسية والإجتماعية، لكن هذا الكتاب يختلف. كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود لإلزا غودار الفيلسوفة الفرنسية، يناقش تأثير السيلفي على فهمنا لأنفسنا وللآخر. فهذا التأثير يتعدى مجرد ظهوره في قضايا الإدمان الرقمي أو العلاقات الإجتماعية، تكتشف وتحلل غودار هذا التأثير في عمق كينونتنا. السيلفي، الذي نعتبره مجرد مشاركة لحظة مرئية مع الآخرين بغرض التواصل، له أبعاد أعمق، وله تأثيرات مزعجة على الرابط الإنساني.

الإنسانية 2.0:

الثورة التكنولوجية أحدثت ما يشبه هوة بين عالمنا الحالي والعالم ما قبل التكنولوجي، كأنهما عالمان لا صلة بينهما. سابقًا، كان ثمة هناك وسيط بين الحدث والمتلقي، أما الآن فكل شخص يعد وسيطًا لنقل المعلومة/الخبر/الحدث. كما أن الفرق بين الواقعي والافتراضي قد اختفى، لم يعد الثاني يكون ظلًا/محاكاة للأول، بل الأفتراضي صار متقدما في الأصالة على الواقعي. ظهرت الآن سلطة جديدة، سلطة مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي، صار لهم مريدين يضعون اللايكات ويؤثرون في توجهات الأفراد والجماعات. في الفضاء الافتراضي هذا، توارت الخصوصيات الفردية، فكل ما يخص الفرد ينتقل بين آلاف المتابعين دون حرج. لم يعد بإمكان المرء أن ينظر إلى صوره العائلية كملكية فردية، ولا حتى اخفاقاته وانتصاراته العاطفية والإيروسية. هذا وفضلًا عن ربط كل الأجهزة المنزلية بالوايفاي والتقدم الكبير في حقول صنع الروبوتات والكائنات السيبرانية.

سابقًا، كانت الجلسات العائلية ومواعيدنا مع الأصدقاء تعني حضورًا فيزيائيًا وشعوريًا، كنا ننتبه لأبسط التفاصيل ونعلق عليها. الآن، صار الآخر، مجرد رقمًا وحسابًا في مواقع التواصل، ونحن لا نتواصل مع الأشخاص أنفسهم إنما مع كلمات سطحية. فقد جسدنًا دوره في هذا التواصل، لذا حتى مشاعرنا ومشاعر الآخر فقدت قيمتها، فلم نعد نختبر ذلك الارتباك ونحن نقول للحبيب “أحبك”. ومن مظاهر هذه السطحية، الاختصارات واللغة الرديئة، فسابقًا كانت كتابة رسالة تأخذ منا وقتًا وجهدًا، لنعبر عما في داخلنا، أما الآن نختبر مشاعر مختلفة بشكل مزيف، فنقول لهذا/ه أحبك ونتحدث مع آخر عن السياسة وبين رسالة وأخرى نبحر في معلومات وأخبار مختلفة.

الشبكة الاجتماعية، فقدت دلالاتها القديمة، فهي الآن منصة لنقل الخبر دون تحليل وتؤدي إلى جو مشحون ومنفعل. تطلق غودارد على هذه الشبكة (نوكسس)، ففي القرن الخامس عشر كانت تعني العلاقة بين الله والإنسان، أما الآن حسب ميشال لويس هي خاصية تحريك الحشود وشدها إلى بعضها بعضًا في غياب العقل. نوكسس هذه شكلت رابطًا وهميًا بين الأشخاص، فهي لا تساهم في الإعلاء من الشأن الروابط الإنسانية إنما تمثل يوتوبيا سيبرانية. اليد وفقًا لأرسطو هي الامتداد الطبيعي للعقل والذكاء الإنسانيين. عصا سيلفي قد قضى على دور اليد، فاليد مجرد عضو مخلوق لحمل عصا السيلفي لخلق مسافة بين الذات والصورة.

الشاشة والنافذة:

لم نعد نختبر العالم من خلال النافذة بل عبر الشاشة، وهذه الشاشة قد غيرت علاقتنا مع كل من الزمان والمكان. فالهاتف الذكي، قد وضع المكان والفضاء في نقطة واحدة “هنا والآن” فهو يجعلنا متصلين في كل لحظة. لم يعد الزمن، يعني الماضي والمستقبل والحاضر، ولا المكان يحتفظ بدلالات الحدود والهنات المختلفة، فكل شيء ينبض في نقطة “هنا والآن”. هذه النقطة تشكل بعدًا فوقيًا، نقطة فوق كل اعتبار، تحضن قوة جبارة لا يمكن السيطرة عليها، وماتت فيها ما كنا نسميه بالحداثة. في هذا الانتصار المطلق للحاضر تلاشت كل الآمال الثورية بالمستقبل لصالح لذة وأغواء الحاضر، وبالتالي القلق والخوف.

في نهاية السبعينات، بين فرانسوا ليوتار بأن قضايا التواصل التي تُطرح الآن فلسفيًا لا علاقة لها بالتناول الكلاسيكي لهذه القضية. كما يبين ليوتار بأن التقدم التقني الحالي يستدعي إعادة تعريف علاقاتنا مع المجموعة والعيش المشترك. إن الزمن أنتهى حسب غودار، أما الزمن الحالي هو زمن المباشر المتصل الذي فقد كل صلاته بالزمن المعروف، بل ويختلف حتى عن الزمن النفسي الذي اشار إليه بيرغسون. كما صار الزمن بعدًا واحدًا، فأننا نعيش في مكان ذات بعدين وحسب، ذلك لأنه تلاشى معنى البعيد والقريب والفوق والتحت، هو مكان أفقي وحسب. الوجود الجديد لكل من الزمان والمكان سيغير فهمنا للتاريخ نفسه واللغة نفسها.

كما بين ليوتار دور الثقافة الإثنية بوصفها ذاكرة المعلومة، وكيف أن هذه الثقافات قد أعطت المعنى للمعلومة في سياق المحكيات التاريخية والأساطير. على سبيل المثال، لكل ثقافة تعريف لفكرة الزمن ولظاهرتي الكسوف والخسوف، لكن التكنولوجيا قضت على الثقافات وبالتالي نظم خلق المعنى. أدت نفوذ الآلة إلى همجية جديدة وأمية جديدة وتقليل من شأن اللغة وروح بلا عمق. حلت الصورة مكان الكلمة وبالتالي حل التلقي العاطفي والحسي محل اللوغوس والتفكير المنطقي في تناول المعلومة المنتشرة. بل وأن الصورة قد حلت بديلًا للكائن نفسه، والصور التي تنشر عن الواقع هي صور معدلة تفقد كل صلتها بالواقع.

الكوجيتو الرقمي:

الكوجيتو الديكارتي تعد من أكثر السرديات الفلسفية شهرة. يربط هذا المفهوم بين الفرد والوجود، ومن جهة أخرى هو الجزء الأكثر أصالة في التجربة المعرفية والإدراكية. وحده فرويد قد قام بتقويض هذه السردية ذلك من خلال سحب معظم سلطات ونفوذ الأنا لصالح الخبرات والدوافع اللاواعية. يمكن النظر إلى فينومينولوجيا هوسرل بأنها محاولة لإعادة الإعتبار للأنا في اختبار وتلقي وفهم الموضوعات/الظواهر بعد الرد الترسندنتالي. فضلًا عن كونه شرطًا للمعرفة والإدراك فالأنا إشارة إلى الهوية وسببًأ للأفعال، الأنا يعرف ويعمل. الثورة الرقمية، وفقًا لإلزا غودار، غير من مضمون الأنا، بسبب الإبدالات الجديدة ودور الذي تلعبه الشاشة. الأنا، إذا كانت فيما مضى يُنظر إليه من الداخل، بات الآن يبرز من الخارج في الشاشة.

في قلب الثورة الرقمية، تحول الأنا إلى علامة تجارية ومنتجًا للتداول في السوق في ظاهرة تسميها غودار بالتسويق الذاتي. هذا الأنا الذي ترفعه لنا السمارتفون تحول أيضًا إلى أيقونة يقف أمامها الناس وقفة تقديسية لدرجة أن هذه الصور تظهر وجوهًا وكأنها لا تعود إلى وجه بشري. هذا الأنا الذي تقدمه الأدولون/صورة السيلفي هو أنا غريب، محايث وموازي. الوجوه السيلفوية المنتشرة في الفضاءات السيبرانية كإنستغرام تبدو كأنها هي الوجه الحقيقي والمعياري بينما الواقعي نفسه هو اللاحقيقي. هذا الاحتفاء المفرط بالأنا في السيلفي، حسب تحليل غودار، يساعد في ملء فراغ نرجسي والشعور بالطمأنينة.

إذا كان كوجيتو الديكارتي تؤكد على وجود الأنا بمنأى عن رأي الآخرين، فأن الكوجيتو السيلفوي إشارة إلى الشك في وجوده والحاجة إلى تأكيده من قبل الآخرين. عند جاك لاكان، تتشكل الذات قبل ولادتها الحقيقية في خطاب والدي الطفل، أي أن الذات تتشكل في خطاب الآخر. إن الطفل يصور نفسه استنادًا إلى الصورة المقدمة من قبل الوالدين إلى أن يكتشف نفسه في المرآة ويتعرف على ذاته. الذات في مرحلة السيلفي، متوترة وقلقة، دائما هناك حاجة إلى الوسيط الجديد، أي الشاشة، لتعي نفسها وتطمئن على وجودها من خلال المشاهدات واللايكات.

السيلفي والرابط الإنساني:

وفقًا لليفيناس، فأن اللقاء يتحقق مع الآخر عبر “الوجه” الذي يجسد الوحدة الإنسانية كلها. الآخر الذي يحضر أمامي يتجاوز الفكرة التي كونتها عنه، وفي هذا الحضور نتعلم المبدأ الأكبر في إقامة المجتمع الذي هو عدم الإقصاء، أي لا تقتل. بيد أن الآخر الذي يظهر في الشاشة هو أسيرها ومنغلق على نفسه في موضوعية ثابتة. إن الشاشة تبني جدارًا من اللامرئي والبرودة بيننا وبين الآخر، لدرجة أن الآخر يتحول إلى موضوع في الموضوع. الإندفاع الإنسانوي يتلاشى أمام الشاشة، كما تتلاشى الرغبة في الاستمتاع بحضور الآخر اللحمي خلف الشاشة. حضور الآخر في الشاشة هو شيء يمكن إقصاءه، قتله رمزيًا، فعكس الحضور اللحمي للآخر الذي لا نتجرأ إلغاءه بسهولة، فيمكننا بكبسة زر أن نغلق الشاشة ونلغي حضوره. تقول غودار، بأن الحوار مع الآخر يستدعي التبادل والشعور بالمسؤولية والإعتراف بوجوده، بيد أن الإعتراف بالآخر اليوم يكون من خلال حوار بلا تبادل وهو قائم على التفاعل على صور السيلفي في غياب أي رابط حقيقي.

تستعرض غودار الشهرة غير المسبوقة التي يمكن لأي شخص الحصول عليه، فالصورة التي تُنشر يراها عدد كبير من الناس، ويمكن لأتفه الأمور أن تتحول إلى تريند، ليس هذا هذا وحسب، بل بعض أكثر الممارسات السطحية تجعل من شخص ما نجمًا ويحصل على ثروة ضخمة. تسلط غودار الضوء على انتشار السيلفي بين النخبة، وهذا ما يجعل الجمهور يقول “ها هو أوباما يلتقط سيلفي فهو مثلنا.

جيل Z والإيروس الرقمي:

هذا الجيل هو الذي ولد بعد 1995، لم يعيشوا تجارب القرن العشرين، بل ولدوا في في قلب الثورة السيبرانية. إن السيلفي بالنسبة للمراهقين هو تعبير عن غريزة الحياة، إيروس. كما أن السيلفي تجلي من تجليات المجتمع يبحث من خلال فعل لعبي عن إعادة الإتصال مع قيم المتعة والمشاركة. فالسيلفي هو لعبة أيضًا ووسيلة للتواصل مع الآخرين، فهو إيروس في لحظة الفعل. السيلفي الذي يُنشر، يستهدف الكوكب كله وفيه شيء من الاستعراض والتلصص. حلت الصورة محل المتخيل فهي بلا لغة أو لوغوس، في حين أن المتخيل يستدعي وجود اللوغوس. كما يمكن النظر إلى السيلفي بأنه “نداء” فهو يساعد على الظهور أمام الآخر وكأنه يستدعيه، يمكن للسيلفي أن يكون نداء الحب، أو نقص نطولوجي لكن بما إنه لا يعبر سوى عن جزء من أنواتنا فلا يمكننا أن نتمثل أمام الآخر كاملين. ويعبر السيلفي عن النقص الذي نحس به أن نكون أفرادًا، وعجزنا عن إيجاد معنى للرابط العميق مع الآخر.

المتلقي يلعب دور القاضي، فهو من خلال اللايكات يقرر دعم أو تميش نرجسية الفرد. ما يثير اهتمام المتلقي بالسيلفي هو الدخول إلى الحميمية مع الآخر، هذه الحميمية المستحيلة. تقول غودار بأن الالتذاذ حاضر بقوة في السيلفي، فهو التذاذ نرجسي ولعبي وجمالي والتذاذ استمنائي أيضًا. عدد اللايكات المتزايد يجعل الفرد في نشوة إيروسية، ففعل السيلفي، فعل استمنائي خالص. ما يجعل من هذا الالتذاذ الإيروسي غريبًا، هو أنه يتم بمنأى عن الآخر، هذا ما يجعل جيل z يكفر بكل أشكال الحب. فالآخر في اللحظة الإيروسية مُلغي تماما، فأنا لا أريد أن يراني الآخر، بل أريد أن أرى نفسي من خلاله، عند الآخر أنا بحاجة لأن أرى وأسمع نفسي، فالآخر ملغي انطولوجيًا في هذه التجربة.

الأخلاق، الموت والعزلة:

السيلفيات ليست مجرد صور عادية وعفوية، بل أنها تضع الكثير من القيم الأخلاقية في مأزق تأويلي. كثيرا ما تتلاشى الحدود بين الخير والشر، الجميل والسوقي، واللباقة والوقاحة في فعل السيلفي. نصادف الكثير من السيلفيات قد ألتقطت بجانب جثة، أو بجانب شخص بلا مأوى أو يظهر فيها مريضًا في لحظاته الأخيرة. السيلفي لا يراعي الاعتبارات الأخلاقية لدرجة يضع الشخص في مسافة دقيقة بين الحالة السوية والمرضية، كما يسلب منه ملكة الحكم. من جانب آخر، فأن السيلفي، أحيانًا، ينقص من كرامة الفرد وذلك بجعله مادة للسخرية أمام آلاف المستخدمين في الشبكة العنكبوتبة.

ساعد السيلفي على خلق فردية مرضية فائقة، بحيث أن المرء في فوضى الشبكات يبحث عن تأكيد الذات من خلال تفاعل الآخر، كما يبحث عن نصفه الثاني بين عدد كبير من الأشخاص الافتراضيين. هذه الحالة من “انتظار ما لن يأتي” يضع المرء في عزلة مطلقة نظرًا إلى هشاشة التواصل الافتراضي مع الآخر.

تستحضر غودار، مفهوم الموت في عالم الخلود الرقمي. فالألعاب الرقمية جعلتنا أن نختبر الموت بطريقة قريبة من الواقع، ففي الألعاب نمارس قتل الشخوص الرقمية ونموت أيضا فيها رقميًا.  كما أن هذا القتل والموت الرقمي يظهران في تواصلنا الافتراضي، فكل حالة إلغاء الصداقة بمثابة قتل أو إلغاء أنطولوجي. عندما نفقد صداقة شخص ما في فيسبوك، لا نشعر فقط بأنه لم يعد معنا، بل نشعر بتعطيل التواصل الأنطولوجي بيننا. كما هناك موت هناك نوع من الخلود، فالشخص الذي يموت واقعيًا تظل حساباته في المتناول، يمكننا أن نرسل له “صباح الخير” أو نعلق على منشوراته، فهو بذلك قد تجاوز الموت رقميًا.

السيلفي، والجمال والفن:

تتسائل غودار إذا كان من الممكن أن نعتبر السيلفي فنًا، وأن يمدنا بإنفعال ما كما تفعل قطعة موسيقية أو لوحة فنية. وفقًا لغودار فأن السيلفي يخلو من القيم الفنية، فصورة السيلفي لا تُعرض من رغبة فنية بل من زاوية نفعية وهذا يعارض مفهوم العمل الفني الذي يوجد لذاته. ومن جانب آخر فأن السيلفي يخلو من الإبداع نظرًا لكونه شيئا قابلا للتكرار بواسطة الآلة، بينما العمل الفني يتمسك بفرادته. والمزعج في السيلفي والذي يفصله تمامًا عن الفن هو كونه خدعة، ذلك لأنه يسعى إلى تقديم الذات في مظهر بعينه. السيلفي يخدع المشاهد دون أن يستثير فيه أي انفعال جمالي أو فني.

إقر أيضًا وكأنك قرأت: الأزمنة السائلة لزيجمونت باومان

ميلاد الذات:

الثورات الثقافية والجمالية وغيرها أحدثت تحولات جذرية في مفهوم الأنا، لذا علينا الآن أن نأخذ بعين الإعتبار الثورة الرقمية. فالأنا الرقمية تعني أن كينونتنا أمام تحولات وتحديات جديدة ومختلفة، لذا ثمة هناك حاجة الآن إلى الإستعانة بفلسفة أخلاقية جديدة. الذات الافتراضية تشكل الآن تحديًا للذات الواقعية، فالذات المافوق حداثية تجمع بين أنا واعية ولا شعور وذات رقمية، أي أن الافتراضي لم يعد ينفصل عن الذات. فقد الإنسان عمقه الذي يجسده الرابط الإنساني الواقعي، نشعر دائما بأننا قد فقدنا شيئا لا يمكن تعويضه. علينا أن نقبل الواقع الجديد الذي تغيرنا فيه فيزيقيًا وواجتماعيًا ونفسيًا وثقافيًا، لكن علينا أن نعيد تأسيس الرابط مع الآخر. تقترح غودار، لحل هذه الأزمة:

  • العودة إلى الحكمة القديمة والتنوير لتأسيس عقد اجتماعي جديد.
  • إعادة تعريف الإنسان مع الأخذ بعين الاعتبار التكنولوجيات الجديدة.
  • تحديد قيم جديدة قائمة على دراسة الإنسانية 2.0 وكذلك إعادة تعريف الديمقراطية والسياسة.

المصدر:

إلزا غودار، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، ترجمة سعيد بنغراد، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى 2019.

وكأنك قرأت: الأزمنة السائلة لزيجمونت باومان

وكأنك قرأت: الأزمنة السائلة لزيجمونت باومان

في كتابه الأزمنة السائلة، يقوم زيغمونت باومان بإثارة قضايا جديدة تخص اللايقين الذي يغزو الوجود الإنساني. فوفقًا لباومان فأن حياة الفرد في العالم المتقدم تواجه تحديات كثيرة، ذلك بسبب سلسلة من التحولات الجوهرية والمتداخلة في صلب الحياة نفسها. وهذه التحولات هي:

  • تحول الحداثة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة. حيث أن الأشكال الاجتماعية والمؤسسات غير قادرة على الصمود أمام إرادة الزمن في التغيير.
  • الانفصال بين السلطة والسياسة: فأن الفضاء العولمي قد استحوذ على جزء كبير من سلطة الدولة. أما بالنسبة للسياسة، فهي تخلت عن السرديات العالمية لصالح الحاجة المحلية.
  • أفول معنى المجتمع لصالح شبكات الاتصال والانفصال: ما عادت الدولة تعبر عن هوية اجتماعية، وغابت فيها كل أشكال التعاون الجماعي، وصار الفرد يعاني وحده داخل مصفوفة من تغيرات لا نهائية.
  • انهيار التفكير والتخطيط والفعل طويل الأجل.
  • فردنة المسؤولية الأخلاقية ومسؤولية اتخاذ القرارات وحل المشكلات.

مجتمع مفتوح وبائس:

الفيلسوف النمساوي كارل بوبر كان قد سك مفهوم (المجتمع المفتوح) كنموذح للمجتمع المستقبلي الذي تسود فيه قيم الديمقراطية والتسامح وتقبل المختلف. يقابله (المجتمع المغلق) الذي يتميز بالتخلف والتعصب والعنصرية وعدم تقبل ما هو مغاير. يرى زيجمونت باومان أن المجتمعات صارت مفتوحة ماديًا وفكريًا بفعل العولمة السلبية. بوبر الليبرالي كان ينظر إلى الانفتاح كنوع من التقدم الذاتي للمجتمع من خلال مراجعات نقدية إرادية للموروث الثقافي وأشكال العيش والوجود. بيد أن باومان ينظر إلى الانفتاح الذي صار واقعًا على المجتمعات كانفتاح قسري بسبب الانتقال السريع للمعلومات والانتقال الحر للسلع ورأس المال. فالمجتمعات المختلفة في أفريقيا والعالم الثالث لم تختار انفتاحها، بل وجدت نفسها تحت رحمة قوة السلعة ورأس المال. فهي مجتمعات تعاني من التبعية والبؤس وتواجه قوى لا يمكنها السيطرة عليها ولا حتى فهمها. لذلك، فأن اختراق الع

ولمة السلبية  للحدود الثقافية والسيادية للدول/المجتمعات أدى إلى آثار جانبية خطيرة كالقوموية، والتعصب الديني، والفاشية والإرهاب. فالظلم حسب رأي باومان يأتي من السوق الحر وباقي أفرازات الرأسمالية.

سلعنة القلق الوجودي:

إن القلق هو سمة أصيلة لكينونة الإنسان، فوفقًا لهايدغر فأن هذا القلق يجعل من كينونة الإنسان ذات طابع متميز. أما علم النفس التطوري يؤكد وجود هذا القلق كشعور مكتسب من الأسلاف البعيدين. هذا القلق الوجودي أو التطوري، صار فضاءًا للسلعة وسوقًا مريحًا لرأس المال. فهذا الخوف صار يكتسب طاقته من الداخل وينمو ويتوالد ومن ثم يدفع بالإنسان للقيام بفعل دفاعي حتى يتسرب إلى أنشطته اليومية. فالتقدم الذي كان أملا عظيمًا بالمستقبل صار وحشًا. فمن مظاهر الحياة المتقدمة الآن هي العيش خلف الأسوار، استئجار الحراس، سيارات مصفحة، التدرب على فنون القتال. حيث أن مقاومة الخوف هذه تعد مولدًا للخوف.

لا تكل العولمة السلبية من تصدير مولدات الخوف، سواء من خلال صنع المزيد من الأسلحة ومن خلال خطابات صنع الخوف. فأحداث 11 سبتمبر على سبيل المثال، تم الترويج لها لبناء خطاب محاربة الإرهاب. ويقول باومان بأن الخطابات وكذلك ممارسات الدولة في محاربة الإرهاب تعد المولد الرئيسي لكل من الخوف الداخلي للفرد وتطور الإرهاب نفسه. “كان الساسة قد احتاجوا إلى إعادة إنتاج صدمة الأبراج المتساقطة بالتصوير البطيء لشهور حتى يتمكن الناس من فهم تلك الأخبار ومن تم استغلال قلق الناس الوجودي في خدمة الديباجات السياسية الجديدة”.

الدولة وإدارة الخوف:

وفقًا لفرويد فأن مصدر خوفنا يأتي من الطبيعة العليا التي لا يمكن السيطرة عليها نظرًا لضعفنا. أما الهوس الحالي بالأمن يعطي دلالات جديدة لذلك الشعور الأزلي، فصرنا نخاف من بعضنا البعض. يرجع باومان سبب هذه المخاوف السائلة إلى كل من التقدير المفرط للقيود المفروض من قبل الشبكة الاجتماعية ومن ثم إلى حرماننا من خدمات وحماية تلك الشبكة. الحداثة في مرحلة الصلابة كانت تقدم الأمن بطرق واضحة ومفهومة من خلال مؤسسات الرفاه (التعليم المدرسي، الإسكان، قوانين وواجبات الجميع…إلخ) فكان الخوف لا يأتي إلا من ضربات القدر كالحوادث.

بعد الحرب العالمية الثانية صارت الدولة تهتم بالسلامة والأمن الشخصيين لا أمن الجماعة. ففي عصر الاقطاعيات والملوك لم تكن قواعد الخوف والأمن مفهومة. فكان الملك هو ظل الله وهو من يقرر مسير الفرد دون وجود أسس موضوعية، إذ كان عصر اللايقين. ومن ثم ظهرت الاهتمامات العامة بالحقوق السياسية والملكية، وهذه الحقوق كانت تعطى للنخبة وكانت حجتهم في ذلك بأن الذي ليس له ملكية ليس له الحق في سن القوانين والتشريعات، فمن لا يملك شيئا ليس له الحق في الحريات السياسية.

بعد ذلك جاء نموذج دولة الرفاه ليؤكد على أن الحقوق السياسية هي شرط  شعور الفرد بأمنه الشخصي وأن الحقوق الإجتماعية تعطي المعنى للحقوق السياسية وتفعلها. حدث تحول خطير بعد ذلك، فالديمقراطية الحديثة انتقلت من تكييف المؤسسات والاجراءات السياسية مع الواقع الاجتماعي إلى توظيفها في إصلاح وتعديل الواقع الاجتماعي، ومن حفظ توازن القوى الاجتماعية إلى تغييره. نتيجة لهذا التحول ولدت المخاوف من تحرير السوق وسيرورة النزعة الفردية. وتفككت الروابط التي كانت تبدو ثابتة وأبدية لصالح روابط مصنوعة (كالاتحادات والنقابات والكيانات المؤقتة. في هذا العالم الجديد بدأ اللايقين يسيطر على الإنسان، فبدلا من التضامن الجماعي حل التنافس بين الأفراد. هكذا تحول المجتماعات إلى مجموعة من الأفراد، يتنافسون ويتعاملون مع بعضهم البعض كآخرين لا يربط بينهم أي رابط طبيعي.

المدينة والحضر:

سابقًا كان الحضر يعني مناطق مأهولة، في حين عُرفت المدينة بأنها مناطق ذات كثافة عالية تتميز بالتواصل والتفاعل. بدأت المدينة للفصل بين (نحن) و (الآخرين)، لذا تميزت أولى المدن بوجود أسوار عالية تفصل بين (نحن) و (هم)، بين النظام والفوضى، بين المدني والبربري. بيد أنه في يومنا هذا، صارت المدينة هي قلب الفوضى والأخطار ومكان الغرباء (الآخرين). ففي داخل المدن هناك أسوار جديدة، تفصل بين الطبقتي الدنيا والعليا، تعيش النخبة في مناطق ملائمة بينما باقي الناس يتم حشرهم في أحياء متواضعة وهم يمثلون رعبًا للنخبة. فضاء النخبة ينعم بالاتصال العولمي وبشبكة واسعة من التبادل والتعامل أما الفضاء المقابل فتسكنه شبكات محلية مقطوعة وفق الخلفية العرقية.

الهوية وهندسة الأسوار

كان السكان في المدن القديمة يحملون الهوية نفسها بقطع النظر عن الطبقات المتفاوتة، يقاتلون من أجل مدينتهم ويجدون فيها رمزًا لكرامتهم. المدن الحديثة تقسم بين فضائين، فضاء النخبة وفضاء البؤساء، كما أن لا تفصل بين هوية وأخرى إنما بين الهوية واللاهوية. ففي حين أن الأشخاص من الطبقات الدنيا لديهم حس هووي ومشاعر قوية تجاه الأرض/الوطن. فأن أبناء النخبة يقتصر وجودهم في المدينة في الجانب الفيزيائي وحسب، بالنسبة لهم تعد المدينة مجرد مكان، يمكنهم الانتقال إلى غيره، فكل مكان بالنسبة لهم هو مكان للاستراحة.

حسب باومان قأن فقدان النخبة شعورهم تجاه مدينتهم يعد من أهم سمات تحول المدينة الصلبة إلى السائلة. يشير باومان إلى العقارات المشتركة التي تبنيها النخبة في المدن ويشرح دلالاتها الهندسية. فمقابل أحياء ومناطق تعج بالفقر وشوار يعيش فيها المدمنين والمتسولين، ثمة عقارات مشيدة بالأسوار وأبراج مراقبلة وبوابات ذات حراسة تدقيقية عالية فضلا عن الخدمات الخيالية فيها، فكل ما في تلك العوالم الصغيرة تفصل بين سكانها وبين باقي الناس فيزيائيًا ووجوديًا.

غيبة اليوتوبيا:

في القرن السادس عشر، كتب الإنكليزي توماس مور كتاب يوتوبيا (Utopia) هذا المصطلح يشير ضمنيًا إلى كلمتين يونانيتين (eutopia= المكان السعيد) و (outopia= اللامكان). مع هذا القرن فقد الإنسان ثقته بالعالم بعد أن رأى فيه أشكال الفساد كلها. يأتي باومان بثلاثة أمثلة لتفسير حالة اليقين عند الإنسان في عصور مختلفة. فإنسان قبل القرن السادس عشر كان (حارس السيد). ذلك لأن حارس الصيد يحافظ على الأرض ويثق فيها بإعتبرها هبة من الله أو الطلبيعة. البستاني، يمثل إنسان ما بعد القرن السادس عشر. فهو لا يثق إلا بقدرته وعمله، يعتقد بأنه عليه أن يتدخل في شأن الطبيعة لجعلها أفضل. إنسان اليوم هو مثله مثل الصياد، يبحث هنا عن السمك، لا يهمه إذا ما افسد المكان فهو سيجد غيره

وفقًا لبومان فأن إنسان اليوم، كائن خائف، فريسة أخطار تأتي مثل صاعقة، لا يمكنه أن يتوقع أو حمي نفسه وما عليه إلا أن يعيش الخوف. هذا الإنسان يبحث دومًا عن يوتوبيا في خياله، أي عالم يمكنه الوثوق فيه. لا يتفق باومان مع اوسكار وايلد وآناتول فرانس، فالأول كانا يعتقدان بأن فكرة اليوتوبيا تحفز الإنسان للتقدم. بينما باومان يجد في هذه الفكرة كحيلة دفاعية، كما يربط بين اليوتوبيا والحداثة. كلاهما إشارة إلى أن العالم فيه خطأ ما وأن للإنسان قدرة تصحيحه.

أما إنسان ما بعد الحداثي، يأخذ فكرة يوتوبيا كمجرد طرفة خالية من أي معنى ذلك بسبب عجزه وكونه صياد محض. التحول الآخر الذي حدث في فكرة اليوتوبيا هي أن التقدم الذي يحلم به البشر لم يعد غايته بناء عالم آمن للجماعة، بل مجرد عالم يخدم طموح الفرد في البقاء. فعالم متقدم لا يعني أفضل مكان للعيش بل هو مهرب وحسب. إذا كانت اليوتوبيا تعني نهاية تاريخ الشقاء فالتقدم الرأسمالي هو كمثل الصياد الذي عليه أن يكدح إلى الأبد.

إقرأ أيضًا وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

المصدر:

زيجمونت باومان, الأزمنة السائلة العيش في زمن اللايقين, ترجمة حجاج أبو جبر, الطبعة الثانية, الشبكة العربية للأبحاث, بيروت 2019

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

في كتابه خلاصة القرن، يبدأ بوبر في حوار معه، بطرح مشكلة النظام الشيوعي وفلسفة ماركس التي بدأ بانتقادها في مراهقته. ومن ثم يحلل انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الشيوعية. ويتضمن الكتاب بعض من دراسات كارل بوبر حول دولة القانون ومشكلاتها المتعلقة بالحرية والمراقبة والتدخل. وكأنك قرأت خلاصة القرن لكارل بوبر حلقة من سلسلة وكأنك قرأت لتقديم أهم الكتب الفلسفية.

بوبر الفأر في فخ الشيوعية:

يروي بوبر بأنه كان يحلم دومًا بعالم يسود فيه السلام، خاصة في فترة مراهقته، حيث نظم قصيدة وآمن بأن الحق سينتصر والسلام سيتحقق، بحيث سيعود الجنود المحتلين إلى ديارهم. تأثر بوبر بخطابات تروتسكي بشكل خاص حول بناء عالم بلا عنف. ذات مرة ذهب إلى مقر الحزب الشيوعي وهناك التقى بأبناء الفيلسوف النمساوي رودولف إسلر (هانز، فريتي وجيرهارد) كان لهم مكانة بارزة في الحزب الشيوعي وعاملوه بلطف كما يروي. لم تمر فترة طويلة حتى بدأ بوبر يشك في الخطاب الشيوعي، خاصة بعد حادثة مقتل ستة شبان في مظاهرة للشيوعيين من قبل الشرطة في فيينا، شعر أنه يحمل جزء من مسؤولية قتلهم. قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره وجد أنه من الضروري نقد أطروحة ماركس والشيوعية.

بوبر ينتقد ماركس:

اعتقد ماركس أنه الرأسمالية وصلت إلى مرحلة بحيث هي نفسها صارت أزمة، لا مجال لإصلاحها بل يجب تدميرها. كما وجد ماركس بأنه ظروف العمال تزداد سوءًأ, غير أنه لم يرد تجريم الرأسماليين شخصيًا لطالما هم ضحايا النظام. حذر ماركس من “الشيوعية المبتذلة”. رأى بوبر أن أطروحة ماركس بعيدة عن الواقعين، واقع الرأسمالية وواقع الحزب الشيوعي. فالحزب دعم الشيوعية المبتذلة، حيث أن الرأسماليين شخصيًا يتحملون المسؤولية ويحب القضاء عليهم. ومن جهة اخرى يرفض بوبر كون الرأسمالية غير قابلة للإصلاح، كانت هناك إصلاحات جذرية حتى في زمن ماركس، ويبدو له أن ماركس بالغ في تقدير الرأسمالية وما يجب فعله، فالرأسمالية التي وصفها ماركس لم تكن سوى خيال شيطاني. وفي سياق آخر رأى بوبر أن ماركس بالغ في الاعتماد على الاقتصاد كآلة تفسيرية شاملة، فعناصر أخرى مثل الدين والمؤسسات لها دور كبير في تحديد شكل المجتمعات.

إقرأ أيضًا مفهوم الإنسان عند ماركس

انحطاط الاتحاد السوفيتي:

وفقًا لبوبر فأن حقبة خروشوف كانت هي بداية انحطاط الاتحاد السوفيتي، حيث لم يأخذ قادة السوفييت الماركسية بجدية سوى كاداة لبقاء النظام، أي فكرة تدمير الدول الرأسمالية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. يتحدث بوبر عن خروشوف ومحاولة القضاء على أمريكا من خلال الصواريخ النووية الهائلة التي ارسلها الروس إلى كوبا. كان العالم أمام كارثة عالمية غير أن الصواريخ لم تكن جاهزة كفاية لضرب أميركا، هكذا خسر السوفييت الرهان وأنهار النظام الشيوعي لأسباب عسكرية بحتة.

دولة القانون:

مع أن بوبر كان ليبراليًا، إلا أنه ينتقد بعض المبادئ الرئيسية في الدولة الليبرالية وأهمها السوق الحر وحرية التعبير. فلأجل بناء دولة القانون يجب أن تتدخل الدولة في السوق كما عليها مراقبة وسائل الإعلام. فالسوق الحر، بشكل أو بآخر يشجع السرقة والفساد، فضلًا عن التلاعب بآالية السوق. يرى بوبر أنه يتحتم وجود سوق حر دون تدخل الدولة. يضع بوبر قائمة من الأولويات لبناء دولة القانون:

  • السلام العالمي: أن تكون الأسلحة النووية بيد الشعوب المتحضرة لأجل تحطيمها والإحتفاظ بكمية قليلة فقط.
  • وضع حد للإنفجار السكاني.
  • التربية: يجب أن نربي الأطفال على اللاعنف، فهم غريزيًا ضد العنف، غير أن وسائل اللإعلام هي من تفسدهم لذلك ثمة حاجة للمراقبة من قبل الدولة. وفي حديثه عن الحرية يجد بوبر بأن الحرية المطلقة سخيفة لذلك يدعو إلى ضمان حرية الآخر، ذلك لأن الحرية المطلقة تكون تعسفية غالبًا بحيث تحرم الآخر من حريته. بذلك يتبنى مفهوم كانط للحرية “ما نحن في حاجة إليه هو مجتمع حيث حرية الفرد متعادلة مع حرية الآخرين، حريتي ليست متعادلة معك إلا عندما نرفض معًا استعمال العنف، أنا لا أضربك وأنت لا تضربني”. فالقاعدة في دولة القانون هي حمايتنا من الجريمة والعنف.

وفي حديثه عن دولة القانون، يدعو بوبر إلى التعاون مع الدين والمؤسسات الأخرى وخاصة التيارات غير المتشددة في الديانات المختلفة، ذلك لأنه يؤمن بأن الدين نفسه ليس مع العنف. كما يرى بأن الخطر الحقيقي يأتي اليوم من الوطنية، حيث هوية عرقية تدعي أنها الهوية الحقة، على الدولة حماية الأقليات وضمان حقوقهم لطالما أنه من المستحيل أن يكون لكل شعب دولة.

الكتب والديمقراطية:

في أثينا وابتداءً من عام 530 ق.م وجد أول سوق للكتب في التاريخ لبيع المخطوطات، خاصة الملحمتين الشهيرتين لهوميروس، الإلياذة والأوديسا. الذي أمر بتدوين قصائد هوميروس كان الطاغية بيزيسترات، كما هو من فتح المسارح. تحول الشعب الأثيني إلى شعب يقرأ هوميروس كأنجيل أثيني. بدأ الفلاسفة والكتاب مثل أناكساغوراس وهيرودوت يأتون إلى أثينا لنشر أعمالهم. فوفقًا لبوبر سوق الكتب يفسر الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلادي، هما حدثان مرتبطان. يقارن بوبر بين اختراع جوتنبرغ لآلة الطباعة وبين إنشاء سوق الكتب في أثينا، فسوق الكتب هو عامل مهم في بناء مجتمع يوناني ديمقراطي متطور فكريًا وأدبيا، وأختراع جوتنبرغ أدى إلى ثورة ثقافية وإزدهار في الفنون، وحسب بوبر فأن اختراع آلة الطباعة مرتبط بثورتي الإصلاح في إنكلترا عام 1648 و1688.

الديمقراطية ليست حكم الشعب:

وفقًا لأفلاطون هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسلطة:

الملكية: حكم رجل واحد

الأرستقراطية: حكم مجموعة من الأشخاص

الديمقراطية: حكم الشعب

كان يتسائل أفلاطون، إلى من يجب أن تعود قيادة الدولة؟ الأفضل حسب أفلاطون وحسب ماركس البروليتارية وقال هتلر أنا. يطرح بوبر المشكلة بشكل مختلف، هل توجد أشكال حكومة التي هي لأسباب أخلاقية جديرة بالعقاب؟ هل توجد أشكال حكومية تسمح لنا بالتخلص من الحكومة السيئة؟ هذه الأسئلة هي قاعدة الديمقراطيات.

يرفض بوبر أن تكون الديمقراطية سلطة بيد الشعب، ذلك غير ممكن، فهي بإختصار تساعدنا على التخلص من الدكتاتورية دون إراقة الدماء، سواء عن طريق الانتخابات أو البرلمان.

الحرية ودولة حد أدنى:

إن حماية الحرية مسؤولية مشتركة، نتشارك فيها جميعًأ، بمعنى أن حريتي عندما تبدأ يجب ألا تنهي حريتك, لذلك فأن الإسراف في الحرية يؤدي إلى التعسف والعنف. يعبر بوبر بشكل جميل عن ثنائية الحرية-الدولة بقوله: “نحن بحاجة إلى الحرية لمنع الدولة من التعسف في سلطتها ونحن بحاجة إلى الدولة لمنع تعسف الحرية”. يقترح بوبر وجود محكمة دستورية لمنع التعسف الناتج من الحرية.

كما يناقش بوبر آراء الفلاسفة هوبز، كانط، هامبلدنت وميل حول مفهومي الدولة والحرية. عند هوبز أن الإنسان من دولة سيكون ذئبًا لأخيه الإنسان. عند كانط الدولة عليها أن تضمن أكبر حرية ممكنة للفرد مع ضمان حرية الآخرين بنفس الدرجة. تبنى كل من ميل وهامبلدنت فكرة كانط، أي دولة حد أدنى. هذه الدولة مهمتنا الرئيسية هي الاعتراف بحقنا في الحرية والحياة ومساعدتنا على حماية حقوقنا. كما من مهمات الدولة الاهتمام بالفئات المستضعفة والشباب ومنع وسائل الاعلام من بث الاخبار الكاذبة.

الديمقراطية محكمة الشعب:

الديمقراطية هي النظام الأفضل بين الأشكال الأخرى للنظام، غير أن الديمقراطية ليست واضحة تمامًا. لطالما أن أغلبية الشعب تحدد الحكومة، فمن المحتمل أن تختار الأغلبية حكومة ديكتاتورية كما حدث مع هتلر. وفقًا لسقراط فالذي يحكم هو الذي يعرف نفسه والذي لا يعرف شيئًا، بمعنى أن اختيار الصحيح صعب جدًا. يقول بوبر أن الانتخابات التي يصوت فيها الشعب يجب أن تكون بمثابة معاقبة الحكومة المنتهية حكمها وليس إعطاء شرعية للحكومة الجديدة. فمن السهل جدا أن ينتخب الشعب حكومة دكتاتورية حيث الإنسان يصبح نصف إنسان. يحتار بوبر أمام مفارقة الانتخابات ويعترف بذلك. كما يحذرنا بوبر من الحكومة التي يشكلها اتلاف او كتلة من الاحزاب حيث لا أحد يتحمل المسؤولية، فوجود احزاب أقل يجعل من الحكومة تشعر بمسؤوليتها أكثر.

السلطة والمثقف:

المثقف يستطيع أن يفعل الكثير، فهم الذين يبدعون الأفكار ومن واجبهم أن يأتوا بما هو خير لمواجهة الأفكار الشريرة وخاصة التي تؤمن بها الجماعات المتطرفة. يأخذ بوبر على الفلاسفة الذين يستغلون الثغرات أو لأجل غايات شعبوية ويقومون بشيطنة النظام الغربي، الذي هو أفضل نظام في التاريخ. لا يعني بوبر بأنه نظام كامل، لكمنه يدعو المثقفين إلى قول الحقيقة وتغير ما يجب تغيره بدلًا من التمويه ونشر أفكار لا أصل لها.

ما هو انقراض اللغات وكيف يحدث؟

إن الإنسان يحوز كينونته في شبكة علاقاته مع الآخرين، حيث أن الحديث عن الفرد هو حديث عن التخوم التي تضعه مع الآخرين. بذا، فأن أبرز ما يميز وجود الفرد الإنساني هو كونه يحمل هوية تصونها لغة ما. فكما أنه يستحيل مناقشة الإنسان خارج هويته، فالهوية نفسها لا يمكن اخضاعها للمناقشة في غياب لغة تصونها. ما يجعل من علاقة الفرد-الهوية-اللغة تبدو مقلقة هو أنه لا ضمان مع اللغة، فهي كأي عنصر من العناصر تمتثل لحكم الطبيعة. حيث تكون اللغة قابلة للزوال، التفكك والتحول. وفي هذا المقال سنسلط الضوء على ظاهرة انقراض اللغات.

ماذا نعني بانقراض اللغات؟

يبدو أن سردية الانقراض دخلت الفضاء النقاشي العام من باب التاريخ البيولوجي المادي؛ فالأبواب أمام الانقراضات الثقافية لا تنفتح إلا في سبيل المبالغة الإقصائية. ثمة تصورات عامة عن فناء الديناصورات وغيرها من الكائنات قدمها الإعلام العلمي، بيد أن انقراض لغة ما ليس من السهل تصوره. فهل يمكن أن يستيقظ المرء على خبر انقراض لغة ما؟ يحمل هذا السؤال نوع من التعقيد، فاللغات تموت بطرق مختلفة وبميتات متباينة. ففي عام 2008 توفيت السيدة ماري سميث في آلاسكا كآخر المتحدثين بلغة (إياك –  Eyak) في حين إن لغات أخرى (مثل اللاتينية والإغريقية القديمة) ماتت ميتة مغايرة1.

كما أن انقراض الديناصورات يعني موت آخر ديناصور؛ كذلك فأن انقراض لغة ما تعني موت آخر المتحدثين بها. تنقرض اللغة عندما تكف عن القول من خلال الآخرين، فهي تنسحب من المشهد اللغوي والتواصلي لصالح لغة أخرى2.

يعتقد بعض الناس ومن العلماء أيضًا بأن انقراض لغة ما هو حيقية من واقع الحياة على كوكب دائم التطور، بينما يرى آخرون أن ذلك لا يبرر سكوتنا عن فقداننا للغات، فيجب حمايتها لكونها تجعل منا بشرًا1.

أسباب وكيفية انقراض اللغات

  1. الهجرة:
    عندما تهاجر مجموعة لغوية إلى بلد آخر فثقافتها بالمجمل وتحديدًا لغتها تكون مهددة، ذلك لأن الدول تفرض لغتها أو على الأقل لا تعطي أولوية للغة المجموعة المهاجرة. كما أن إيجاد فرص العمل والدراسة يدفع بالمهاجرين إلى التركيز على لغة البلد الجديد، بالإضافة إلى التعاملات اليومية3.
  2. العولمة:
    إن الأقليات اللغوية لم تعد قادرة على الاعتماد الذاتي في توفير متطلبات الحياة اليومية؛ عليها الانخراط في النشاطات العالمية. الصيغة المعولمة لنظام العالم تفترض هيمنة لغات معينة، وعندما تصبح لغة ما مهيمنة فأن دائرة اهتمامات الأقليات اللغوية تغدو أضيق في إطار لغتها، وعليها بالتالي الاستسلام للغة المهيمنة. اللغة ليست كينونة جامدة، ما أن تكف عن الإنتاج الاصطلاحي يقتضي عليها فتح الباب أمام مفردات لغوية من اللغة المهيمنة. مع مرور الوقت تتعامل الأقلية اللغوية مع لغتها كلغة ثانوية إلى أن تختفي.
  3. الاضطهاد:
    إن الحروب والاضطهادات العرقية لا تشمل الاقصاء الفيزيائي وحسب، بل أنها موجهة بشكل ممنهج ضد الرأسمال الثقافي أيضًا. والعدواة بين المجموعات، لطالما تكون إقصائية، فمحو الهوية الخاصة دائما يصبح الهدف الرئيس، فالناس يعيشون داخل لغاتهم. في القرن العشرين ، تم إرسال العديد من الأطفال الأمريكيين الأصليين في كندا والولايات المتحدة إلى المدارس الداخلية ، حيث يُمنعون غالبًا من التحدث بلغتهم الأصلية. اليوم ، لا يزال العديد من الأمريكيين الناطقين باللغة الإنجليزية معاديين لغير الناطقين بالإنجليزية ، وخاصة الإسبان. لا يزال الاضطهاد الشديد يحدث أيضًا. في أغسطس الماضي ، ألقي القبض على عالم لغوي في الصين لمحاولته فتح مدارس تدرس لغته الأم ، الأويغور. لم يسمع عنه منذ ذلك الحين1.
  4. متوسط العمر:
    إن المورثات الثقافية (Memes) تحافظ على ديمومتها من خلال تمريرها بين الأجيال، واللغة من بين أكثر الميمات التي تحتاج إلى التمرير. عندما يتوقف الأطفال عن التحدث بلغتهم تكون تلك اللغة مهددة، وبعض اللغات في عالمنا الحالي موجودة فقط عند المسنين، ومع موتهم ستموت لغتهم بدورها2.

وتيرة الانقراض:

هناك أكثر من 7000 لغة على الأرض، ومع ذلك فإن نصف سكان العالم البالغ عددهم 7.6 مليار نسمة يتحدثون 24 لغة فقط و 95% يتحدثون 400 لغة فقط. هذا يترك خمسة بالمائة من سكان العالم منتشرين عبر 6600 لغة مختلفة ، المئات منها يتحدثها الآن أقل من عشرة أشخاص. (سيكر). وحسب بعض التقديرات، قد تختفي 80٪ من لغات العالم خلال القرن القادم2.

في فترة 1950-2010 دخلت 230 لغة إلى قائمة اللغات المنقرضة، هذا يعني أن حدث الانقراضات اللغوية شائع بشكل مخيف. والجدير بالذكر هو أن معظم هذه اللغات المنقرضة تعود إلى السكان الأصليين في الأمريكتين وأستراليا، لأسباب كولونيالية على الأغلب. ومن بين اللغات المنقرضة في الولايات المتحدة2:

  • إياك: انقرضت هذه اللغة في عام 2008.
  • يانا: كانت لغة شعب ياهي الأصليين في كاليفورنيا، انقرضت عام 1916.
  • تونيكا: 1930
  • تيلاموك وسويسلاو: انقرضتا في السبعينات القرن الماضي.

هناك موسوعات للغات المنقرضة ويمكن الإطلاع عليها (هنا) و (هنا).

انقراض اللغة العربية

مع أن اللغة العربية هي لغة الدين الإسلامي والدول العربية وهي أيضًا منتشرة في بلدان غير عربية فضلًا عن ثراء المكتبة العربية. بيد أن وجود أكثر من 422 مليون متحدث بالعربية لا يمنع من إحتمالية موت لغة الضاد. يرى بعض الباحثين إن ذلك محتمل جدًا في المستقبل القريب لأسباب مختلفة. فاللغة العربية الفصحى باتت لغة في المتحف الورقي، إذ أن اللهجات العامية هي المستخدمة بين الناس، وثمة هوة كبيرة بين العربية الفصحى واللهجات. وما يؤكد إنسحاب الفصحى من المشهد العربي اليومي هو أن الحديث بالفصحى يوحي بنوع من الاغتراب.

كما أن الذين يؤيدون فرضية انقراض اللغة العربية يأخذون عليها جمودها -حسب زعمهم- فهي لا تقدم إسهامات معرفية وعلمية في وقتنا الحاضر. ومن جهة أخرى، يرى البعض أن الفصحى باتت لغة خارجة عن السيطرة في الأوساط الأكاديمية والإعلامية أيضًا، إذ أن الأخطاء النحوية وغيرها متشرة بشكل رهيب في الكتب والخطابات. إذا ما أخذنا التطورات التكنولوجية والعلمية المتسارعة بعين الإعتبار، فكما أن الكثير من الوظائف والآلات الحالية ستنقرض، فاللغات أيضًا ومنها العربية قد تنقرض في المستقبل القريب، أو قد تموت ميتة هادئة كالأغريقية القديمة واللاتينية4.

ماذا نخسر من خسارة لغة؟

إن اللغات تعدو أن تكون أداة للتواصل ونقل المعارف، فهي أكثر من وسيط. للغات وظائف أخرى يمكن استثمارها كأحفورات ثقافية، حيث يمكنها أن تساعدنا في فهم التطور المعرفي والإدراكي. من جانب آخر فكل لغة هي فضاء معرفي وطريقة معينة في التفكير، فحتى اللغات الفقيرة معجميًا تقدم تأويلات معرفية للعالم. كذلك إن موت لغة ما لا يعني مجرد التوقف عن الحديث بها بل ضياع تراث أدبي وديني وغنائي أيضًا. إن السماح بانقراض اللغات لا يختلف عن الابادات الجماعية، بمجرد أن تموت لغة يموت معها شعبهًا معنويًا5.

حماية اللغات من الانقراض

يجاهد اللغويين لتوثيق وأرشفة اللغات المحتضرة، ذلك من خلال وضع القواميس وتسجيل وأرشفة التقاليد الشعبية كذلك ترجمتها. عملية الأرشفة ستساعد في الشعوب في تنشيط لغاتها مستقبلًا. لغة شيروكي مثلًا كانت مهددة بالانقراض، فقام باحث بإنشاء مدرسة لشعب شيروكي ودرس فيها إلى أن أصبحت لغة تدرس في جامعة محلية6..

اقرأ أيضًا نظرية وظائف اللغة

المصادر

  1. BBC
  2. ils Translations
  3. day translations
  4. hafryat
  5. seeker
  6. linguistic society

وكأنك قرأت كتاب المونادولوجيا لليبنتز

إن بداية الفلسفة هي بداية البحث عن المبدأ الأول الذي يتأسس عليه وجود كل ما هو موجود. هذا المبدأ أخذ عناصر مادية في البداية مثل الماء والهواء والنار أو عناصر مجردة مثل العدد عند فيثاغورس أو الجوهر عند أرسطوطاليس. عدوى البحث عن الأصل انتقلت إلى العلوم أيضًا. أسفرت الجهود العلمية عن نتائج مرضية ولكن غير نهائية، أقصى ما تم الوصول إليه هو الكواركات الضاربة جذورها في بنية البروتونات والنيوترونات. ثمة فرضيات حول وجود الأوتار الفائقة لكن النتائج غير حاسمة بعد. في هذا المقال نستعرض مفهوم المونادة عند ليبنتز ومحاولته للكشف عن المبدأ الأول. يعتمد هذا المقال على ترجمة ألبير نصري نادر الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة.

ماهية المونادة

في فلسفة ليبنتز ظهرت قضية المبدأ الأولي مرة أخرى في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. هذا المبدأ الأولي عند ليبنتز مفارق عن المبدأ المادي ومتعالي عليه بالمعنى الحرفي للتعالي. فالمونادة عند ليبنتز هي جوهر بسيط غير قابل للتحليل ومتأصل في كل الموجودات أي المركبات بتعبير ليبنتز. ما يجعل من هذه المونادة مختلفة عن المادة، فهي:

  • لا تولد ولا تموت.
  • غير حائزة على مكان،
  • هي خارج الزمن وأزلية.
  • لا تؤثر عليها التغيرات الفيزيائية.
  • كل مونادة مغلقة على نفسها.
  • كل مونادة هي كاملة لأن فيها شيء من الكمال.

سيرورة المونادة

المونادة لا تأتي إلى الوجود بالولادة؛ لأنها لا تتكون بشكل مرحلي، عكس الموجودات التي تولد من خلال تركيب في الأجزاء. المونادة توجد بالخلق الكامل. كما أن المونادة لا تموت موتًا طبيعيًا، ذلك أن الموت هو تفكك وتحلل الأجزاء، إنما تنعدم كليًا. لكن مع أنها تأتي بالخلق وتنعدم، فهي أزلية.

أزلية المونادة

نعرف أن الله أزلي، ويؤكد ليبنتز على ذلك، لكن أزلية المونادة تختلف عن أزلية الله. إنها تكون كذلك لعدم خضوعها لسلطان الزمن. فالمونادة أزلية بالنسبة للمركب/الجسم، فهي تكون خارج الزمن بشكل متعالي، بينما الجسم يعيش في صميم الزمن، والزمن يحدد كينونة المركب كخاصة أصيلة له. لكن المونادة رغم كونها لا تتأثر بميتات المركب فهي بدورها لا تكون أزلية بالنسبة لله، لأنها تأتي بقرار الله وتنعدم بقرار منه.

الزمان والمكان

الإنسان عبارة عن مركب أو جسم زماني ومكاني، ليس على مستوى التكوين فحسب، إنما على صعيد الإدراك أيضًا. لا يمكننا أن نخرج من كينونتنا ونتعالى عليها ونتصور وجود ما وراء المكان وما هو اللا زمان. منطقنا بالدرجة الأولى هو منطق نفسي، إذ أن إدراكنا عبارة عن إسقاط لمقولاتنا على العالم.

بالنسبة للمونادة فالأمر مختلف تمامًا، فهي لا تكون زمانية ولا تقع في مكان. وما نطلق عليه المكان هو مجال حركة الأجسام، والزمان هو الرابط الآخر الذي يجمع بين جسم وآخر.

المونادة وهوية المركب

كل مونادة تمثل هوية مختلفة، فهي لا تتشابه وهذا اللا تشابه يعطي هوية للمركبات التي تحل فيها. لو كانت المنوادات تتشابه لكانت كل المركبات متشابهة بدورها، فحتى بالنسبة للمركبات من نفس النوع فيها شيء من اللا تشابه. للمونادات صفات وأعراض وهي التي تحدد هوية المركب.

حركة المونادة

مع أن المونادات عوالم مغلقة ولا نوافذ لها، غير أنها تتواصل وتؤثر بعضها في بعض، وهي نفسها تتغير، وهذا التغير يكون وفقًا لمبدأ أصيل في المونادة وهو النزوع للإدراك وموضوع هذا الإدراك هو العالم أي حقيقة اللا متناهي. المونادة تتطور لتدرك الله، هدف وجودها هو هذا الإدراك للوصول إلى إدراك كامل ونشره. كل المونادات مدركة بدرجات متفاوتة. هنا، يخالف ليبنتز معاصره ديكارت. حيث قال ديكارت بأن الإنسان وحده كائن مدرك ونفى هذه الصفة عن باقي الكائنات وكأنها محض آلات، في حين أن ليبنتز يقول بأن كل الأجسام حائزة على نوع من الإدراك ولو كان إدراكًا ضعيفًا. وهذا الإدراك وبفعل نزوعه الداخلي دائمًا ما يتوق إلى الإنتقال إلى إدراك أكثر وضوحًا.

 هوية الإنسان

مع أن النباتات والحيوانات تدرك لكنها أقل كمالًا من الإنسان، ذلك لأن الذاكرة هي أقوى ملكة لدى الحيوانات، فهي تتذكر صاحبها، وتفعل بقدر ما تتذكر. الحيوانات كائنات تجريبية، فهي إذا ما تعرضت للسوء من شخص ما فهي ستذكره ومن ثم تتجنبه. لا ينفي ليبنتز بأننا تجريبيون في أكثر أفعالنا، بيد أن ما يميز الإنسان هو قدرة التجريد بمعرفة الحقائق النظرية الضرورية والأزلية، لذا فالإنسان نفس عاقلة.

نظرية المعرفة

المعرفة النظرية الخالصة تميزنا عن باقي الكائنات، لأنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة الله. هذه المعرفة تساعدنا أن نعرف “الأنا”ونتأمل فيها ونتأمل في المونادة وتجعلنا مدركين بمحدوديتنا أيضًا.

تفكيرنا قائم على مبدأيين كبيرين، وهما:

  • مبدأ عدم التناقض: نحكم بمقتضى هذا المبدأ أن الخطأ هو ما يتناقض مع نفسه، وما هو مضاد للتناقض هو الصواب.
  • مبدأ السبب الكافي: يستحيل أن يكون أي أمر صادقًا أو موجودًا، أو أن يكون أي تعبير صادقًا دون يوجد سبب كافٍ له، ليكون الأمر على ما هو عليه ولا على خلاف ما هو عليه.

وللحقائق نوعين وفقًا لليبنتز، ثمة حقائق عقلية وأخرى واقعية:

  • الحقائق العقلية: هي حقائق ضرورية وضدها مستحيل، مثل الحقائق الرياضية والميتافيزيقيات. هذه الحقائق نستطيع أن نجد سببها بواسطة التحليل وردها إلى حقائق أبسط إلى أن نصل إلى الحقائق الأولية.
  • الحقائق الواقعية: هي حقائق حادثة وضدها ممكن، وهي عبارة عن حقائق خلقية وطبيعية تحتاج إلى التجربة. هذه الحقائق يمكن ردها دائما إلى حقائق أخرى من دون الوصول إلى حقائق أولية.

الله

الله هو المونادة الأقصى والأكمل، فهو واجب الوجود والعلة الأخيرة. هو واجب الوجود لأنه يستحيل أن نتصور إمكانية عدم وجوده، ذلك لأن عدم وجوده يعني استحالة وجودنا. فهو مطلق الكمال ويصدر عنه الوجود/المونادات. وما يميز بين الله والموجودات هو أن الأخيرة لها حدود بسبب القصور الذاتي فيها.

الله فيه نبع الموجودات ونبع الماهيات الحقيقية، وعقله هو منطقة الحقائق الأزلية. الحقائق الأزلية قائمة في شيء موجود ومتحقق وفيه يكون الممكن متحققًا. ولا نحتاج إلى تجربة لمعرفة الله.

يخالف ليبنتز ديكارت في مسألة حرية الله، فوفقًا لديكارت فإن نظام الأشياء مجرد ضربة من إرادة الله وكان بإمكانه أن يخلق الأشياء بشكل مغاير. بينما ليبنتز يرى أن الله نفسه خاضع للنظام، فهو لا يخلق بعشوائية إنما بقوانين، لذا فإن القوانين التي تحكم كل شيء في الكون هي من الله. وتوجد في الله القدرة التي هي مصدر كل شيء، ثم المعرفة التي تشمل تفاصيل الأفكار، وأخيرًا الإرادة التي تحدث التغيرات حسب مبدأ الأصلح. ويقابل ذلك في المونادة ملكة الإدراك وملكة النزوع ولكن بشكل غير نهائي.

إقرأ أيضًا محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

خلق المونادات

جميع المونادات تصدر من الله وتولد عنه بواسطة بريق بشكل متواصل، وهذا البريق يحدد ماهية المونادات. وتحصل المونادة على الكمال من الله. فالله هو فاعل، بينما المخلوق له بعدين، بُعد الفاعل وبُعد المنفعل، فهو فاعل بما فيه من الكمال وإدراكات واضحة، ومنفعل بقوة مخلوق آخر بقدر ما فيه من نقص. المونادات نفسها لا تنفعل، فهي ترعى من قبل الله، وتنظيم الله لها يجعل من كل واحدة في علاقة وتواصل مع أخرى وتعبر عنها، وهذه المونادات معًا تكون بمثابة مرآة أزلية للكون.

كل هذه المونادات تسير سيرًا غامضًا نحو المطلق. كل المونادات كاملة رغم أنها محدودة، فكمالها يكمن في تأدية دورها، فالمونادات التي في نبتة بسيطة تكون كاملة لأنها تحقق وجودها وتدرك العالم من زاويتها وتشارك في مدينة الله وتساهم في الإدراك الكلي، فالعين تكون كاملة بما هي عين، واليد بما هي يد. كحديقة مملوءة بالنباتات، وكبركة مملوءة بالأسماك، كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من الماء هي أيضًا مثل هذه الحديقة أو هذه البركة. لا شيء قفر أو عقم أو ميت في العالم، ولا سديم إلا ظاهريًا.

النفس والجسم

إن المونادة لا تموت، وبما أن المونادة هي جوهر أو روح الجسم، أي جسم كان فهي لا تموت. وليست هناك ولادة كاملة، فالمونادة في حالة تطور مستمر لأن تدرك، وليس هناك موت كامل، فليست المونادة غير قابلة للزوال بل حتى الحيوان لا يزول زوالًا كاملًا. الجوهر والجسم في تناسق دائم رغم أن لكل منهما قوانينه الخاصة. فالروح تعمل حسب قوانين العمل الغائية، بواسطة النزوع والغايات والوسائل. والأجسام تعمل حسب قوانين الحركات، وكلا النظامين متناسقين.

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

إن الأخلاق هي نظام سلوكياتنا، فكل ما نقوم به يكاد يكون تطبيقًا لما نؤمن به أخلاقيًا ولو بشكل غير واعي. لذلك تعد نظرية الأخلاق نقطة مركزية في كل نسق فلسف. منذ آلاف السنين ويحاول المصلحين والفلاسفة بناء نظرية أخلاقية من شأنها أن تفسر سلوكياتنا وتوجهها أحسن توجيه. نظرية المنفعة أو النفعية حاولت وتحاول بدورها تقديم إجابات لأسئلتنا الكثيرة حول الأخلاق وما زالت تواجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات. هذه النظرية قديمة، دافع عنها بروتوغوراس جزئيًا وتبناها أبيقور واجتهد فيها، كما استمرت الاجتهادات عبر العصور. يعتبر جون ستيوارت ميل من أهم منظري الفلسفة النفعية. ولنتعرف على هذه النظرية نقدم في هذا المقال أهم كتاب في النفعية ألا وهو كتاب المنفعة لجون ستيوارت ميل.

صراع المدارس:

يقسم ميل المدارس الفلسفية الأخلاقية بين الحدسية والاستقرائية وكلاهمها يتفق على أن أخلاقية الفعل الفردي لا تختص بالإدراك المباشر، بل تخص تطبيق القانون على حالة فردية معينة. يأخذ ميل على المدرستين التمسك الحاد بوجود مبادئ عامة للأخلاق. الحدسية تؤكد على وجود مبادئ أخلاقية بديهية بصفة ما قبلية بينما تعول الاستقرائية وجود مبادئ عامة تم كشفها عن طريق التجربة. كلتا المدرستين تقومان على أساس ميتافيزيقي. لذا يرى ميل بأن كل المبادئ العامة بما فيها مبادئ الريضايات فيها نوع من الوهم. بعيدًا عن المبادئ العامة يقول ميل بأن قواعد الفعل الأخلاقي يجب أن تأخذ طابعها ولونها من الغاية التي تكون في خدمة تحقيقها.

ماهية نظرية المنفعة:

منذ بداياتها وتواجه نظرية المنفعة السخرية من منتقديها، إذ يعتقدون أنها تركز على اللذة المحض بأبشع أشكالها الحيوانية. يفند ميل هذا الإعتقاد، فاللذة لا تعني الانغماس في اللذات الجسدية الآنية، بل أن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الخالص، وأن النفعية ترفع من شأن اللذات الذهنية بالمقارنة مع اللذات الجسدية. لذلك فأن نظرية المنفعة لا تتوقف عنذ اللذة بل تجد بأن هدف الإنسان هو السعادة وتخفيف الألم.

السعادة التي تهدف إليها النفعية لا تعني الأنانية، أي سعادة الفرد ولو على حساب سعادة الآخرين. بل هي على عكس ذلك تمامًا. يقول ميل بأن السعادة التي تمثل المقياس النفعي لما هو خير في ما يتعلق بالسلوك ليست متمثلة في السعادة الخاصة للفاعل، بل هي متعلقة بسعادة الجميع. بل تذهب النفعية أبعد من ذلك إذ ترى بأن التضحية بالسعادة الشخصية لأجل سعادة الآخرين تعد أرقى فضيلة.

النفعية كأخلاق عالمية:

يعتقد ميل بأنه يمكن القضاء على أكثر الظواهر العالمية فتكًا مثل المرض والفقر. فمع تطوير العلم والتربية الصحية يمكن تقليض رقعة الأمراض بشكل غير نهائي ومن خلال حكمة المجتمع يمكن القضاء على الفقر نهائي.

النفعية متفائلة بخصوص المستقبل، ذلك لأن طبيعة الإنسان قابلة للتعديل والتصحيح، والتجربة على مدى العصور علمتنا الكثير حول السلوكيات الحسنة. لذا يمكن تحسين طبيعة البشر والبيئة المحيطة عن طريق توجيه سلوكياته نحو غايات فاضلة.ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

السعادة والرضى:

هناك لذات جسدية وأخرى ذهنية، لا شك أن الأخيرة أصعب من الأولى. ذلك لأن صاحب الملكات الأرقى يتطلب الكثير ليصل إلى السعادة المرجوة وعادة ما تكون مرهقة أو صعبة المنال. لذلك قد يلتجأ إلى اللذات الجسدية لتعويض ذلك. لهذا فأن الذي يسعى إلى اللذات الدنيا لديه فرصة أكبر للوصول إلى الرضى المطلوب. فالمشاعر السامية هي في معظم الطبائع، نبتة رقيقة جدًا وسهلة الفناء.

لكن تفضيل لذة على أخرى يعود بالدرجة الأساس إلى التجربةو فالشخص الذي لم يجرب اللذات الفضيلة سيفضل اللذات الآنية، كما أن للبيئة والتربية أثر كبير في تفضيلات الشخص، غير أن الذي يجرب الأثنين سوف يفضل اللذات الذهنية.

النفعية ليست فلسفة زاهدة، فهي لا تنفي حقيقة وجود ميول مختلفة في الفرد، فهو لا يهدف دائما إلى اللذات الراقية، بل له الحق في طلب الأخرى أيضا وذلك جزء من طبيعتنا.

الفعل أم الدافع:

يرى ايمانويل كانط بأن الأخلاقي هو الدافع وليس الفعل، فالكذب مهما كانت نتيجته فهو شر. غير أن ميل ينظر إلى الفعل مباشرة، فحتى السلوكيات غير المرغوبة إذا ما أدت إلى نتيجة خيرة فهي تكون خيرة. فمثلًا إنقاذ شخص من الغرق بدافع الحصول على المال أو الشهرة يعد فعلًا أخلاقيًا، لأن الفرد لا يُحاسب على نيته إنما فعله وأثر الفعل.

النفعية والدين:

إن صدق الأعتقاد القائل بأن الله يرغب فوق كل اعتبار في سعادة مخلوقاته، هو ما كان غرضه في خلقها، فإن النفعية لن تكون نظرية دون إله، بل ستكون نظرية دينية في أعماقها.

عقوبات أخلاق المنفعة:

كل قانون أخلاقي هو قانون يربط بيني وبين الآخرين، أي أن الأخلاق تحدد علاقتنا معهم. ولمحافظة على كل قانون لابد من وجود رادع أو سلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أم بشرية. نظرية المنفعة الأخلاقية تستند إلى سلطتين وهما السلطة الداخلية والسلطة الخارجية:

السلطة الخارجية:

كل القوانين الإلهية والوضعية التي تعاقب وتكافأ الإنسان على سلوكياته. فالبشر يرغبون ويؤمرون بكل ما سيقوم به الآخرون تجاههم وحيث يعتقدون أن سعادتهم ستزداد به.

السلطة الداخية:

لكل فرد حس أخلاقي وهو جوهر الضمير كما يقول ميل، لكن هذا الحس أو الضمير لا يقع خارج الطبيعة الإنسانية إنما حاصل تجربة الإنسان في العالم ومع الآخرين. تجارب الطفولة، الإحساس الديني، حبنا وتعاطفنا وتقديرنا للآخرين ولأنفسنا وكل ما اختبرناه يشكل ما نطلق عليه بالضمير. إذا ما ارتكبنا خطأ ما فهذا الضمير سيدفعنا للشعور بتأنيب الضمير، ذلك لأننا تعلمنا بأن هكذا أخطا تضر بمصلحتنا وسعادتنا وسعادة الآخرين، وترفض النفعية وجود قوة خفية أخرى وراء حسنا الأخلاقي. أما الشخص الذي لم يتلقى تربية حسنة لن يشعر بأي ذنب إذا ما اقترف خطأ ما وهذه الحالة تفرض وجود سلطة خارجية لتهذيب السلوك.

دليل النفعية:

كل نظرية ملزمة لتقديم دليلها على صحة طروحاتها، بالنسبة للنفعية فأنها تفترض أن شيئا ما مرغوب فيه لأن الناس يرغبون فيه بالفعل، فدليلنا على أن شيئا ما يمكن رؤيته هو أن الناس يمكنهم بالفعل رؤيته. وفقًا لميل فأن السعادة هي كل ما يرغب به الإنسان ولا شيء سواها، فالسعادة هي غاية الفعل ومقياس الأخلاق أيضًا.

بالنسبة النظريات التي قالت بأن الفضيلة هي الغاية، تقر النفعية بأن الفضيلة هي جزء من السعادة، وهي تساعدنا للحصول على سعادة أكبر وألم أقل. كما أن بعض الأمور الأخرى قد تتحول إلى غايات بعد أن كانت وسائل، فالمال، الشهرة والسلطة على سبيل المثال، في البداية كانت وسيلة للوصول إلى الغايات تحولت إلى غايات في حد ذاتها.

لفهم هذه الجزئية يجدر بنا تفسيرها وفقًا لنظرية الاشتراطية التقليدية (Classical Conditioning)، فالمال مثلًا لا قيمة له، لكنه عندما يساعدنا في تحقيق غاياتنا، يتحول بذاته إلى غاية لكونه ينتج نفس المشاعر التي انتجتها غاياتنا، ولكن إذا ما فشل المال في تحقيق سعاتدنا سيخسر المال قيمته، وتسمى هذه الحالة بالإنطفاء.

النفعية والعدل:

يذهب ميل إلى شرح مفهوم العدل لغةً، وفقًا فأن لفظة عدل في البداية كانت تعني طريقة القيام بالأشياء ومن ثم صارت تعني الطريقة التي يؤمر بها يعني على السلطات القيام بتطبيقها. يقول ميل على ذلك: “أن الفكرة الأصيلة في تكوين مفهوم العدل كانت تتمثل في مطابقة القانون”.

الشعور بالعدل:

يتسائل ميل إذا كان الشعور بالعدل يعد شعورًا خالصًا كما الشعور بالألوان وغيرها من المشاعر الخالصة أو أنه نعمة من نعم الطبيعة، أي شعور طبيعي. يرى ميل أن العنصرين المكونين الأساسيين للشعور بالعدل هما الرغبة في عقاب الشخص المتسبب للضرر، والاعتقاد بأن هناك شخصًا معينًا أوأشخاصًا معينين ألحق بهم الضرر، الرغبة في الانتقام رد فعل تلقائي نابع من نوعين من المشاعر الطبيعية وهما الدفاع عن النفس والتعاطف. التعاطف مع الآخرين والذكاء المتطور يساعدان الإنسان لتحقيق المصالح المشتركة. يقول ميل عن ذلك بأن الشعور بالعدل هو الرغبة الحيوانية بالإنتقام بسبب الإساءة الملحقة بالنفس أو الملحقة بمن تعاطف معهم.

الإرادة الحرة:

الإنسان هو نتيجة بيئته الخارجية والداخلية، التربية السيئة ستخلق المجرمين على سبيل المثال، وبالنسبة للبيئة الداخلية، فوجود أمراض قد يدفع بالمرء ارتكاب الجرائم، لذا العقاب القاسي لا يكون مبررًا لطالما أن الشخص غير مسؤول عن تكوينه الأخلاقي، فالعدل إذن عليه ألا يكون إجراميًا بدوره بل عليه أن يكون تصحيحيًا.

العدالة الإجتماعية:

رغم أنه تم ربط النفعية بأبشع أشكال الرأسماية إلا أننا نجد عند ميل ميوله الإشتراكية، لا يُقصد هنا الإشتراكية العلمية (الشيوعية) بل الإشتراكية بمعنى عام، هذا الميل هو الذي تسبب له بمشاكل عائلية أيضًا، لطالما كان والده يكره الإشتراكية. فهو يرى بأن العدالة تقتضي أن تدفع الأثرياء وفقًا لدخلهم.

فهو يتحدث عن العدل بوصفه ضمانًا قانونيًا لحقوق الجميع دون أي إستثناء. فالقانون العادل هو الذي يحمي مصلحة الجميع. فنحن على صلة طبيعية بكل الكائنات البشرية، وهذه الصلة تعد بمثابة وثيقة أخلاقية ومخلفتها أعظم الشرور. والقانون يجب أن يتمتع بالحياد والمساواة وعلى المجتمع كله أن يعامل كل الأفراد معاملة حسنة بشكل مطلق.

اقرأ أيضافلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

يجادل أفلاطون على لسان سقراط الحركة السفسطائية والخطباء حول موضوعات مختلفة، نجد دائما أنه يبين عكس ما يقوله أولئك السفسطائيين بالضبط، كأن الحقيقة هي الضفة المقابلة للحركة السفسطائية. في محاورة جورجياس يضع أفلاطون الفلسفة في مواجهة البيان، لا يناقشهما مع جورجياس وبولوس وكاليكليس وحسب بل يحارب بالفلسفة. لذا فأن المحاورة لا تكشف عن مفهوم البيان عند أفلاطون إنما يركز على نوع معين من البيان، دليلنا على ذلك هو أنه يأتي بأفكار متضادة في محاوراته الأخرى حول البيان، فيدورس على سبيل المثال. اقرأ أيضا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

تعريف البيان:

يبين الطرفان أن البيان من الفعاليات أو الفنون الكلامية الصرفة، فالبيان هو فن القول كما يرى جورجياس. غير أن سقراط يشك في قيمة هذ الفن المدعي، فحتى الفنون الكلامية مثل الفلك والحساب لديها من المواضيع. فالبيان لا يعني بموضوع معين، لذلك يقول بولوس وجورجياس بأن البيان قادر على الإجابة أو طرح أي سؤال كان، وهذا ما يستوقف سقراط لفحص البيان وحججه.

البيان والإقناع:

يرى جورجياس أن البيان هو أسمى الفنون لأن الحائز على هذا الفن يجعله البيان حرًا بالنسبة لنفسه وسيدًا على الآخرين. ذلك لأن قوة البيان تكمن في قدرته على الإقناع، إقناع الجمهور بأي أمر من الأمور. يثبت سقراط لمتحاوره أن الإقناع لا يكون عن العلم إنما عن العقيدة، فالخطيب لا يقدم علمًا إنما عقيدة ويستغل جهل الناس، خطيب جاهل يحاضر جمهورًا من الجهلة.

كل فن فيه جانب من الإقناع، مثلًا فن الطب يقنعنا بما يخص الأمراض والأدوية، الموسيقى تقنعنا بما يتعلق بتأليف الألحان، إلا أن البيان ليس من الواضح بما يقنعنا. حسب جورجياس أننا نستفيد من البيان في المحاكم والجمعيات العامة. الجذير بالذكر هنا هو أن السفسطائيين كانوا بمثابة المحاميين في عصرئذ. ذلك أن الخطباء يؤثرون في الانتخابات وقرارات المحاكم

البيان كتجربة:

وفقًا لأفلاطون بأن الفن يختلف عن التجربة، الأول ينتج المعرفة من خلال العقل والحجة المنطقية في حين أن التجربة تأتي من الممارسة والتدريب. فالبيان لا يتأسس على العقل إنما لا يعدو كونه ممارسة بلاغية. ومن الأعمال التي يطلق عليها أفلاطون تسمية التجربة، الطهي، التزيين، البيان والسفسطة. وهذه التجربات رديئة حسب تعبير أفلاطون، فهي تحرف وتموه حقيقة الأمور. فالطهي يقابل الطب، التزيين يقابل الرياضة البدنية والبيان يقابل العدالة. فالبيان كتجربة يهدف إلى احداث نوع من اللذة والانشراح الزائف، فهو لا يقول حقيقة الأمور.

الخطيب والمكانة الاجتماعية:

يزعم جورجياس أن الخطباء يحتلون أرقى مكانة في المجتمع ولهم السلطان في الدولة. هنا يريد سقراط أن يبين أن جورجياس لا يفهم معنى السلطان، فالخطيب لا يقوم بما يريد بل بما يبدو له الأفضل طالما لا يقومون بما يملي عليهم العقل. فالإرادة تكون موجهة نحو الغاية الحقة، فالمريض يأخذ الدواء المر لأجل الصحة في حين أن البيان يهمل الغاية الحقة. هذا ما يدفع بأفلاطون ليقول بأن الخطباء لا يستحقون أي نوع من الاحترام.

البيان والأخلاق:

الموضوع المركزي في فلسفة أفلاون هو العدل، لذلك فهو يربط كل المواضيع بعلاقاته مع العدل والعدالة. فالبيان رغم أن بولوس وجورجياس قالا بأنه يخدم العدالة لا يكون العقل البنيانه لذلك فهو لا يهدف الخير. من طبيعة البيان هو أن يستخدم كافة الوسائل السيئة للوصول إلى إقناع الناس ولو بإستخدام شهود الزور.

يناقش أفلاطون مسألة في غاية الأهمية من الناحية الأخلاقية. وفقًا له فأن ارتكاب الظلم افضع من تحمله، وعدم التكفير عن الظلم هو افدح الشرور بالإطلاق. يستسلم لحجته جورجياس بعد جدال طويل.

قانون الطبيعة:

إن قانون الطبيعة الذي أخذ به الكثير من الفلاسفة ومن بينهم نيتشه، ربما كان كاليكليس هو من الأوائل الذين طرحوا الموضوع. حسب كاليكليس فأن قانون الطبيعة يعارض قانون الناس أي العدالة البشرية. القوي هو دائما الأفضل، وله الحق في اكتساح الضعفاء، وللدول القوية الحق في غزو الدول الضعيفة، وهو يرفض كل الأخلاقيات البشرية، فهي حجة ماكرة لإخداع الأقوياء كما آمن نيتشه أيضًا. بعد مناقشة طويلة يتبين أن كاليكليس لا يعرف ماذا يعني بالقوي والأفضل والحكيم والذي له السلطان، وفي الأخير يبين أفلاطون أن القانون الطبيعي لا يعارض القانون الإنساني. فالقانون الإنساني أصله إلهي حاله حال الطبيعي.

الفلسفة في مواجهة البيان:

يعتبر كاليكليس أن الفلسفة تافهة جدًا، فهي مفيدة في الصغر لأنها لا تخلو من سحر الطفولة، لكن إذا ما استمر في مزاولة الفلسفة يصبح مغتربًا عن الواقع ولا يعرف شيئًا عن الواقع المفهوم. كما يقول أن الفيلسوف لا يمكنه أن يحوز على أية ثروة أو مكانة اجتماعية لائقة وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه لطالما ليس لديه قدرة الإقناع. فهو يعيب على سقراط تفكيره الفلسفة وحججه التي تبدو غريبة وتغريبية لكاليكليس.

في حين أن أفلاطون وعلى لسان سقراط، يبين أن الفلسفة تقوم على العقل بإستخدام أدوات وحجج علمية ومنطقية. بينما هدف البيان الوحيد هو غرس بعض المعتقدات الزائفة بأية وسيلة كانت.

مفهوم الصداقة عند أفلاطون

في محاورة ليسيس (Lysis) يضع أفلاطون مسألة الصداقة في مرمى الجدل الفلسفي. تعودنا أن نفهم الصداقة على أنها الألفة التي تربط الكينونات الإنسانية ببعضها لأسباب وأهداف تبدو واضحة رغم تعدديتها وتبايناتها. غير أن أفلاطون وعلى لسان سقراط يفلسف الصداقة لدرجة أننا نبدأ في الشك بمعرفتنا حول أقدم أشكال التعارف والمصالحة بين إنسان وآخر.

يدعو هيبوثايلس سقراط إلى المناقشة  حينما كان الأخير في طريقه إلى قاعة المناقشات العامة. تبدأ المحاورة في اللحظة التي يسأل فيها سقراط هيبوثايلس عن الشخص المفضل لديه. في اللحظة الحرجة تلك يكشف كتاسيبوس عن علاقة هيبوثايلس وليسيس الفتى ويجد سقراط فرصته في البحث عن ماهية الصداقة.

فن الصداقة

يظهر في بداية المحاورة أن هيبوثايلس يكن الكثير من الحب لليسيس بينما الأخير ينفر منه. يبين سقراط أن حب هيبوثايلس ما هو إلا حبه لنفسه وأغانيه في تمجيد الحبيب ما هي إلا تكريمًا لنفسه. إن الصديق لا يمكن أن يكون مصدرًا للنفور لصديقه، وقد يشكل ذلك التعلق والثناء صدعًا بين الاثنين، الأول يمدح من تواضعه والأخير يزداد كبرياءًا.

يقترح سقراط لقاء ليسيس والحوار معه, فيلتقي به في معهد ساحة المصارعة في مهرجان هيرمايا.

المشترك بين الأصدقاء

قبل أن يبدأ حواره مع ليسيس يناقش مينيكسينوس في ما هو مشترك وغير مشترك بين الأصدقاء. يرى سقراط أن التباين بين الأصدقاء يكون في السن والمكانة الإجتماعية والجمال وأشياء أخرى كثيرة. في حين أنه لا يمكن أن يكون أحد الصديقين أغنى من الآخر؛ يمتلك الأصدقاء كل شيء مشتركًا.

ثالوث المعرفة والحرية والسعادة

يرى سقراط أن حب الوالدين لا يمكن أن يكون حقيقيًا إذا كان حبًا مشروطًا، فإذا كان الوالد يحب ولده من المفترض ألا يمنعه من القيام بما يحب. يبين ليسيس أن والديه يمنعانه من فعل الكثير من الأشياء. طالما أن الحب لا يمكن أن يتحقق في حالة العبد، يمضي سقراط إلى التحقيق من سبب عدم ثقة الوالدين بالأبناء فيما يخص القيام ببعض الأمور، يتحاجج ليسيس بأنه يُمنع من ركوب العربة والأمور التي يحبها لأنه لم يصل بعد إلى السن المناسب للقيام بهكذا أعمال. إلا أن سقراط يبين له بأن السبب وراء ذلك هو قلة المعرفة وليس صغر السن. إذ أن المعرفة هي أساس كل ألفة بين كينونة وأخرى.

الصداقة من طرف واحد

عندما نحب شخصًا ما, من منا يكون صديق الآخر, يبدو أن هذا الإشكال هو لغوي بالأساس غير أن سقراط يلقيه في الحقل المعرفي والأخلاقي. في البداية يعتقد كتاسيوس أن كلاهما صديقين, المحب والمحبوب, فيباغته سقراط بسؤال آخر, في حال كان المحبوب لا يحب المحب بل وقد يكرهه هل يمكنهما أن يكونا صديقين؟ يتنازل كتاسيوس عن رأيه بالنفي. ويبين سقراط أنه يتحتم أن يكون المحبوب صديقًا ذلك أنه في هذه الحالة سيكون العدو هو الصديق والصديق هو العدو.

الشبيه يجذب الشبيه

في البداية يقول سقراط بأن هذه السردية قد لا تكون صائبة، لأن الصداقة يمكنها أن تربط بين شخصين صالحين، لكنها لا تستطيع أن تجمع بين المؤدي والمؤدى. إذن فإن الأخيار يتشابهون ويجذبون بعضهم بعضًا في حين أن الأشرار لا يمكنهم أن ينسجموا في أي ظرف كان.

يستمر سقراط في التساؤل, هل يمكن أن يكون الأخيار هم الأصدقاء حقًا؟ يوافق ليسيس على ذلك. يبين سقراط أن الخير يكون كافيًا بنفسه، لأن الخير كلي، وبالتالي فالشخص الخيّر لا يحتاج إلى شخص آخر وبالتالي فالصداقة غير ممكنة في غياب الحاجة والمودة بين الطرفين.

الشبيه يجذب اللا شبيه

يقتبس سقراط من هيزيود أن الخزافين يتشاجرون مع الخزافين، الشعراء مع الشعراء والمتسولين مع المتسولين. وأن الفقراء يحتاجون الأغنياء والضعيف يحتاج مساعدة القوي وهكذا. فالصداقة إذن تكون بين الأنداد. يفحص سقراط هذا الدليل لينفي حدوث الصداقة بين الأضداد، ذلك أن العدو لا يكون صديق الصديق ولا العادل والظالم صديقين.

الذين يقفون في الوسط

استنتج سقراط أن الخيّر لا يمكنه أن يكون صديقًا للخيّر ذلك لأن الشخص الخيّر كافي بذاته, كذلك أن الخيّر لا يصادق الشرير ولا بإمكان شريرين أن يكونا صديقين. هل يعني ذلك أن الذي لا هو خيّر ولا شرير يمكنه أن يكون للخيّر صديقًا؟

يتقدم سقراط بمثال، الشخص السليم لا يمكن أن يحب أو يحتاج فن الطب، فذلك الشخص يكون خيرًا والطب بدوره يكون خيرًا، ووفقًا للقاعدة أعلاه لا يجتمع الخير مع الخير. المريض يحب/يحتاج الطب، المرض يكون شرًا والطب يكون خيرًا، والقاعدة تقول لا شيء يصادق الشرير أيضًا، ما المعضلة إذن؟

الجسم الإنساني لا يكون خيرًا ولا شريرًا، فهو يصادق الطبيب بحضور المرض/الشر فيه. إذن الصداقة ممكنة بين المحايد والخير بحضور ما هو أو يظهر أنه شر. غير أن سقراط يبدأ بالشك من جديد بخصوص هذه الصداقة.

الصداقة كمنفعة

يقدم سقراط طرحًا آخر ليخرج من المأزق. يتسائل سقراط إذا كانت الصداقة هي محض وسيلة لأجل الوصول إلى هدف ما. للصداقة سبب وهدف، فالمريض يصادق الطبيب بسبب المرض (الشر) ولأجل الصحة (الخير). كما يبين سقراط أن حتى الأشياء الخيرة كالصحة مثلًا هي بدورها لا تعد هدفًا نهائيًا، فهي لا تعدو أن تكون أوهامًا لأجل غايات أخرى حتى نصل إلى الهدف الذي لا هدف وراءه. بالتالي لا يمكن أن نطلق تسمية الصداقة على علاقة تنتهي مع الوصول إلى الهدف المرجو.

الصداقة والتجانس

يطرح سقراط هنا أن الصديقين يجب أن يمتلكا طبائع متشابهة، سوى في الروح أو الأخلاق أو الشكل. يوافق كل من ليسيس ومينيكسينوس على ذلك. فالتجانس يكون بين الخير والخير وكذلك بين الشرير والشرير. هنا يريد سقراط أن يجد فرقًا بين المتجانس والشبيه، فيصعب عليه ذلك، لأنه وفقًا لقاعدة التجانس، سيتجانس الشرير مع الشرير، وقلنا بأن الظالم لا يمكنه أن يكون صديقًا للظالم.

الصداقة غير ممكنة

ما وصل إليه أفلاطون في نهاية المحاورة غير واضح, فهو يقول لم نكتشف بعد من هو الصديق. لا الخيّر يكون صديقًأ للخيّر لأن الخيّر كافي بذاته، ولا الشرير يستيطع أن يصادق الشرير ولا الخير، كما تبين أن المحايد بدوره لا يستطيع أن يكون صديقًا للخير. بالتالي ترك سقراط السؤال مفتوحًا دون أن أية إجابة.

اقرأ أيضًا نظرية الشعر عند أفلاطون

نظرية الشعر عند أفلاطون

نظرية الشعر عند أفلاطون

إننا نفهم الشعر الآن على أنه جنس أدبي وقد نذهب أبعد ونعده طريقة للتفلسف، بيد أن الشعر في الأفق الإغريقي كان أكثر من ذلك بكثير. كان الشعر يمثل الحلقة التي تربط الإنسان بالإله، العالم بالسماء ذلك لأن الشعر لم يكن نوعًا من الخطاب العقلاني بل فُهم على أساس أنه وحي من الله. فهزيود مثلًا كان مصدرًا رئيسًا لمعرفة الإغريق بآلهتهم والقصص التي رواها هومر وجدت طريقها في تقليد الإغريق الديني.  حتى عند أفلاطون ورغم علاقته المتوترة مع المسألة الشعرية نجده يصف الشعر في سياق الوحي والكلام الإلهي. في هذا المقال سوف نبين نظرية الشعر عند أفلاطون من خلال أعماله ومحاوراته المختلفة.

ماهية الشعر:

 المسألة الشعرية في نسق أفلاطون الفلسفي تفتقر إلى التماسك ظاهريًا، فهي تختلف من محاورة لأخرى. نجده أحيانًا يأخذ على الشعر طابعه البياني وفي حين آخر يركز عليه بوصفه قصصًا مروية شعرًا، وفي حين آخر يعتبره وحيًا إلهيًا. فهم أفلاطون الشعر وعرفه على أنه محاكاة  لكنه اخذ مواقف مختلفة منه.

الشعر والحقيقة:

البحث عن الحقيقة هو الهدف الأفلاطوني الأسمى، فكثيرًا ما يؤكد على ذلك على لسان سقراط، يقول سقراط لآيون: “أما أنا فواحد من سواد الناس يتكلم الحقيقة وحسب”(1). ويقول لجلوكون: “من الواجب ألا تحترم إنسانًا أكثر مما تحترم الحقيقة“(2). فالشاعر، وفقًا له، لا يقول الحقيقة. العالم الحق عند أفلاطون هو عالم الكينونة الذي لا يتغير، ووحده الفيلسوف قادر على إدراك ذلك العالم، والعالم الظاهر والذي يماثل أمام حواسنا هو عالم الصيرورة والفناء، فالفني، النجار على سبيل المثال، حين يصنع سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثانية لكونها جزء من العالم المحسوس، أمام الفنان، الرسام مثلًا، حينما يرسم سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثالثة بالمقارنة مع السرير الحق الموجود في عالم المثل. فالشاعر أيضًا يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة للطبيعة الحقة فهو مقلد (3).

 وفي حواره مع جورجياس حول البيان (Rhetoric) يبين أفلاطون على أن البيان لا يهدف إلى الحقيقة إنما إلى الإقناع. والشعر أيضأ نوع من البيان، فيقول: “الشعر يكون نوعًا من البيان موجه إلى الشعب…في الواقع أن الشاعر يقوم على المسرح بمهنة الخطيب“(4).

الشعراء والعقل:

طالما أن الفيلسوف وحده يحتك بالحقيقة من خلال العقل فأن الأداة الشعرية لا يمكن أن تكون هي العقل. حسب زعم أفلاطون أن الله هو من سلب العقل من الشعراء لذلك فأن الشاعر لا يميل بطبيعته إلى المبدأ العاقل في النفس إنما يكون أميل إلى المنفعل المتقلب التي يسهل محاكاته(5). لذا فأن الشعر يركز على ذلك الجزء الذي يتعطش إلى الدموع ويهفو إلى التنهيد ويصبو إلى الذنب(6).

نفس الشاعر:

يقول أفلاطون في الجمهوية إن هناك بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد، سبب ذلك يعود إلى نفس الشعر. وفقًا لكل أفلاطون لكل شخص نفس تحدد ماهيته. فالنفس ذات الرؤية الشاملة فتستقر في رجل قد تهيأ ليكون فيلسوفًا(7). للنفس درجات ويرتبها أفلاطون على النحو التالي:

الدرجة الأولى: فيلسوف.

الثانية: ملك يحكم بالقانون أو محارب ماهر

الثالثة: سياسي أو رجل أعمال.

الرابعة: رجل محب للتمارين الرياضية.

الخامسة: الرجل العارف والقيادي

السادسة: الشاعر والفنان.

السابعة: صانع أو مزارع

الثامنة: محترفو السفسطة.

التاسعة: طاغية

الإلهام الشعري أو المس الإلهي:

يرى أفلاطون أن الشعراء يؤلفون قصائدهم الجميلة لا بواسطة الفن بل لأنهم ملهمون وممسوسون(8). ومن يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنًا منه أن مهاراته الإنسانية كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرًا فلا شك أن مصيره هو الفشل(9).

ويفرق أفلاطون بين الهوس الذي يرجع إلى الأمراض الإنسانية [النفسية والعقلية] والهوس الراجع إلى حالة إلهية تخرجنا عن القواعد المعتادة. الهوس الإلهي ينقسم إلى أربع أقسام:

هوس النبوءة مصدره أبولون.

هوس الكشف الصوفي مصدره ديونيزوس.

الإلهام الشعري مصدره ربات الشعر.

هوس الحب مصدره أفروديت (10).

الشعر والله:

كثير من الشعراء والفلاسفة تعاملوا مع المسألة الشعرية في أبعادها الدينية، يقول نوفاليس إن الشعر هو دين عملي. كما أن ابن العربي في خطبة ديوان المعارف الإلهية يقول بأن الله جعل الوجود كبيت الشعر في التركيب والنظم. فأفلاطون أيضًا يقول بأن الشعراء ينطقون بلسان الوحي الإلهي(11).  وفي محاورة آيون يقول بأن الله قد سلب الشعراء عقولهم واتخذهم وكلاء له وإن الله نفسه هو المتكلم وإنه يخاطبنا من خلال الشعراء. ويستمر قائلًا بأن قصائدهم الجميلة ليست بشرية أو من صنع الإنسان بل إلهية ومن صنع الله(8).

اقرأ أيضًا نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

أفلاطون وطرد الشعراء:

إذا كان يعتبر أفلاطون الشعر إلهامًا إلهيًا فما الذي يجعله ألا يترحب بوجود الشعراء في جمهوريته الفاضلة؟ يقول في الجمهوية إنه إذا ظهر في دولتنا رجل بارع في محاكاة كل شيء وأراد أن يقدم عرضًا لأشعاره على الناس فسوف ننحي له تبجيلًا كأنه كائن مقدس ومن ثم سنرحله إلى دولة أخرى(12). لنفهم هذا الإشكال علينا أن نعيد السياق الذي طرد فيه أفلاطون الشعراء من الدولة. يقول سقراط لأديامانتوس: “إننا لسنا الآن شعراء يا أديامانتوس، إنما نحن ننشئ دولة، ومهمة منشئ الدولة هي أن يصوغ القوالب العامة التي يجب أن يصب فيها الشعراء أقاصيصهم ونضع لهم الحدود التي ينبغي أن يلتزموا بها” (13). هذا القرار الإفلاطوني يأتي في سياق بناء دولة وخاصة جزئية تعليم الحراس وتطويرهم، ولهذا القرار ثلاث مبررات:

المبرر البيداغوغي:

الفلسفة الكلاسيكية جعلت التربية من مهماتها الأصيلة، على ذلك نجد بأن الفلاسفة كانوا يلعبون دور المربي في الكثير من الأحيان. ولأن الشعراء كانوا يقصون قصصًا كاذبة ويؤثرون بذلك على بناء الفرد الأخلاقي والمعرفي كما يقول أفلاطون فأنه حذر من تأثيرهم السلبي. يقول على ذلك: “لأن الطفل لا يستطيع أن يميز الأسطوري من الواقعي فلا شك أن كل ما يتلقاه ذهنه في هذه السن ينطبع فيه بعمق(14). ويزعم أيضًا بأن الشعر يؤذي الأذهان(15). وكذلك أن عيب الشعر الأكبر هو قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم(16).

ولأن تصور هوميروس بأن الآلهة تحارب بعضها وتثير المشاكل فيما بينها دعى أفلاطون إلى حظر هذا النوع من الشعر لأنه يدفع بالناس إلى الجريمة. كما ادرك أفلاطون أن الشعراء كما لا يتأثرون بالعقل فهم لا يؤثرون فيه لذلك فأن الشعر لا يمكن أن يحقق الهدف الأسمى، السعادة. يقول عن ذلك بأن الشعر يغذي الانفعال بدلًا من أمن يضعفه ويجعل له الغلبة مع أن الواجب هو قهره [الجانب المنفعل] إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة.

المبرر اللاهوتي:

المصدر الأهم للحياة الروحية الإغريقية ومعرفتهم بآلهتهم كان قصائد هومر وهزيود وأسخيليوس. تمرد أفلاطون على ذلك جاء من الطريقة التي تناولوا بها الشعراء المسائل الإلهية. على ذلك يضع أفلاطون أمام الشعراء قانونين يجب الإلتزام بهما:

القانون الأول: الله هو مصدر الخير وحده. جاء هذا القانون ردًا على هومر الذي يقول:

على باب زيوس يوجد وعاءان ممتلئان، أحدهما للمصائر السعيدة والآخر للمصائر التعسة

فيرد أفلاطون بقوله: “أما القول بأن الإله الخير هو علة أي شر يلحق بأي فرد فذلك ما ينبغي أن نحاربه بكل قوانا(17).

القانون الثاني: الله ثابت لا يتغير. جاء ذلك بعد أن قال أسخيليوس:

”إن الآلهة يجوسون خلال المدن متنكرين في صورة غرباء من بلاد أخرى ومتخذين كل صورة ممكنة

لذلك يقول أفلاطون بأنه لا مكان للأكاذيب الشعرية عند الله(18).

المبرر البراغماتي:

عند الحديث عن أهمية الأدب بصورة عامة نكون في موقف ضعيف عندما يُقصد بالأهمية النتائج المترتبة عن العمل الأدبي وتقيمها نفعيًا. فهل الأدب يشفي بالمعنى الطبي؟ هل هناك حاجة للأدب في الميدان العلمي والمعرفي؟ يطرح أفلاطون سؤالًا على جلوكون حول هومر وأهمية شعره إذ يقول: “هل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته [هومر] ونجح هو في قيادتها بنفسه أو بنصائحه أو هل نسب إليه اختراع بارع في الفنون أو خبرة علمية (19). فأفلاطون هنا يفكر بوصفه منشئ دولة وحسب كما اقر هو نفسه، لطالما أن الشعر لا يمكن أن يلعب دورًا عمليًا في الدولة. هذه الحجة الأفلاطونية ضد الشعر ما زالت قائمة بل يتم استخدامها في مواجهة الفلسفة أيضًا ذلك لأنها لا تلعب أي دور علمي حاليًا في العالم.

المصادر:

1 –  عادل مصطفى، فهم الفهم (محاورة آيون)، مؤسسة هنداوي، ص283.

2- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء 2004، ص504.

3 – نفس المصدر، ص507.

4 – أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية 1970، ص118.

5- الجمهورية، ص517.

6- الجمهورية، ص518.

7- أفلاطون، محاورة فايدروس، ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب 2000، ص66.

8- محاورة آيون، ص285.

9- فايدورس، ص60.

10- فايدورس، ص93.

11- الجمهورية، ص222.

12- الجمهورية، ص262.

13- الجمهورية، ص239.

14- الجمهورية، ص238.

15- الجمهورية،ص 504.

16- الجمهورية، ص517.

17- الجمهورية، ص240.

18- الجمهورية، ص244.

19- الجمهورية، ص510.

فيثاغورس بين التصوف والعلم والفلسفة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

يمثل فيثاغورس المثلث الإشكالي في الفلسفة الإغريقية، لكونه يجمع الأنداد في صيغة موحدة، لا في طرحه إنما في شخصه أيضًا. بدأت الفلسفة وهي ترسم تخوم العداء والصراع مع النظرة الدينية في آغورا التي ترى العالم كهبة إلهية. والعلم أيضًا وهو في طوره الجيني اختار لنفسه طريقًا غريبًا عن المقترب الديني في التفسير. بيد أن فيثاغورس يشق طريقه في الجهة الجامعة بين التصوف والعلم والفلسفة، إذ أن الاضداد تقول بعضها على النغم الكوني. في هذا المقال سنسلط الضوء على فيثاغورس الشخص والفيلسوف والعالم.

سيرة فيثاغورس

ولد فيثاغورس حوالي عام 570 ق.م. في صيدا (فينيقيا)، يُقال أنه منذ البداية اقتنع الناس بأنه ابن الإله لجماله ولذكاءه. بعد ظهور الطاغية بوليقراط ترك البلاد نحو الملطية حيث هناك طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمانس. اعجب به طاليس وحثه على الإبحار إلى مصر للاختلاط مع الكهنة  حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيمًا في عيون أكثرية البشر(1). وفقًا لـيميلخا تواصل فياغورس في مصر مع الكهنة واختلط مع الأنبياء هناك.

بعد مضي اثنين وعشرين عامًا يحتل الملك الفارسي قمبيز مصر فيرحل فيثاغورس نحو بلاد ما بين النهرين ويسكن في بابل اثني عشر عامًا، وهناك يتعرف على العلوم الدينية ويخالط المجوس كما يستوعب قضايا الحساب والموسيقى.

يعود إلى ساموس وهو في السادسة والخمسين غير أنه لا يجد من يفهمه سوى فتى يتخذه فيثاغورس في البداية خادمًا. بسبب الموقف الاحتقاري من أهل ساموس يرحل إلى إيطاليا، أي اليونان الكبرى.

قام فيثاغورس بتأسيس أخوية صوفية في مدينة كروتون وهناك يبدأ الناس في التعرف على هذا المعلم الجديد الذي سيعلمهم كيفية الوصول إلى السعادة. مجده الناس كثيرًا وادرجوه في عداد الآلهة وبصفته نصف إله يحب البشر(2).

بعد سنوات تتعرض الأخوية إلى القمع والاضطهاد من قبل السلطات، فتمت إبادة الفيثاغوريين جميعًا ولم يسلم منهم إلا عدد قليل ليموتوا في النهاية من القهر والأسى.

مفهوم الفلسفة عند فيثاغورس

إن مفهوم الفلسفة في زمن الفلاسفة الأوائل كان مفهومًا وظيفيًا على الأكثر، إذ أن القصد من التفلسف كان بلوغ السعادة الإنسانية بمعناها الواسع. يُعتقد أن فيثاغورس هو أول من أطلق على نفسه لقب الفيلسوف، والفيلسوف هو من يتأمل في كل ما هو جميل. ومعنى “الجميل” عند فيثاغورس لا يقتصر على الجانب الظاهر والمحسوس من الموجود، بل يشمل السبب الذي أوجده أي الله وجوهره وتناسقه مع باقي الموجودات في الحدود الكونية. (3)

كما أن التربية تدخل في الاهتمام الفلسفي عند فيثاغورس؛ ذلك لأن التربية هي التي تحدد الطبيعة الإنسانية وتصقلها بروح نقية. إن الفلسفة إذن هي التأمل في الجميل وتقويم طبيعة البشر.

الأخلاق عند فيثاغورس

كانت الأخلاقيات الفيثاغورية متأثرة بالعقلية الأورفية؛ لم يفلسف فيثاغورس الأخلاق نفسها بل وضع قائمة من النصائح والمحرمات. لهذا يمكن القول بأنه فضلًا عن التأثير الأورفي كان قد تأثر بالروحانيات الشرقية، فهو أقرب إلى نبي في هذه المسألة. من المبادئ المهمة عند فيثاغورس:

  1. عند الأصدقاء كل شيء مشترك.
  2. تهذيب الجسد والابتعاد عن الشهوات.
  3. الفكر الحر.
  4. تعلم الصمت.
  5. احترام الكبار والخالدين لأن رأيهم هو الأصلح.

تصور فيثاغورس الكون على أنه كائن حي يتنفس وأن الكائنات قد انفصلت من هذا الكون/الكل وتلوثت بالوجود المجزأ. فهدف فيثاغورس إذن هو أن يقرب الكائن الإنساني من هذا الكل، طالما وجوده يمثل اغترابًا، من خلال الممارسة الروحانية (4).

التربية عند فيثاغورس

وفقًا لفيثاغورس، لا يختلف البشر عن الحيوانات، والإغريق عن البرابرة، والمولودون أحرارًا عن العبيد والفلاسفة عن المجدفين إلا في شيء واحد وهو التربية(5). إن عملية التربية هي ممارسة عقلانية للوصول إلى الرحم الأولي حيث التناسق. والتربية الجيدة لا تتحقق من خلال نظام الفرض والعقوبة إنما التعزيز المستمر. كما أن فيثاغورس أشار إلى البيئة المناسبة لنجاح العملية التربوية. ومن الجدير بالإشارة هو أن الأخوية الفيثاغورية كانت تخضع الشخص لاختبارات تستمر للسنوات ليتأكدوا بأنه يستحق العضوية(4).

الموسيقى وفق الفيثاغورسية

إن فكرة التناغم أو التناسق تعد فكرة رئيسة في فلسفة فيثاغورس، فهذا التناغم هو الذي يبقي الكون في حالة وجود. قال فيثاغورس بوجود الانسجام الشامل والغناء المتناغم للمجالات السماوية والكواكب المتحركة فوقها، وأن أغانيها لها دوي أقوى ونقاء أجلى من أي أغنية أبدعها البشر. (6).

لذلك أدخل الموسيقى في المجال الأخلاقي، حيث يمكن بواسطة أنغام وألحان وإيقاعات جميلة شفاء الأخلاق والطباع والشهوات البشرية واستعادة حالة التوازن الأولى. (7).

الهندسة الكونية

بينما ذهب فلاسفة الميليت (ملطية) إلى تحديد العنصر الأولي الذي منه جاء كل شيء، قام فيثاغورس بمقاربة مختلفة كل الاخلاف. اعتقد بأن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء وأن العالم عدد، لكن الأعداد كهندسة لا حساب. فالعالم في الحقيقة وفي جوهره إنما هو أشكال هندسية، وهذه الطبيعة الهندسية أهم من الماء والهواء…إلخ ( (8

المصادر:

  1. يمليخا، فيثاغورس حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، ص18.
  2. نفس المصدر، ص30.
  3. https://plato.stanford.edu/entries/pythagoras/
  4. https://apeironcentre.org/the-pythagorean-way-of-life/
  5. يلميخا، مصدر سابق، ص41.
  6. نفس المصدر، ص58-59.
  7. https://courses.lumenlearning.com/musicappreciation_with_theory/chapter/pythagoras/
  8. عزت قرني، الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، ص31.

مفهوم الإنسان عند ماركس

مفهوم الإنسان عند ماركس:

تمتلك الماركسية، كأي أيدولوجيا، ترسانة معرفية هائلة، غير أنها تعدو أن تكون تراكمات مفاهيمية في الكتب. في فترات طويلة جدًا سيطرت أنظمة قمعية على مساحات شاسعة من العالم تحت غطاء الماركسية وصور ماركس. لم يكن ماركس محظوظًا رغم كل هذا الاهتمام به، فتحول عند البعض إلى تجسيد شيطاني، وتم تفسير فلسفته من قبل البعض على أنها فلسفة مثالية وآخرون حملوه مسؤولية كل ما قامت به السلطات الشيوعية الاستبدادية. يقدم إريك فروم في كتابه “مفهوم الإنسان عند ماركس” تفسيرًا مغايرًا وموضوعيًا لأكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه في فلسفة ماركس.

أسباب تزييف مفاهيم ماركس:

يتساءل فروم عن الأسباب التي دفعت المجتمع الغربي لتكوين صورة مزيفة لفلسفة ماركس رغم تظاهره بالموضوعية والصدق في البحث. مفهوم “المادية” على سبيل المثال من أكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه. حيث يُعتقد بأن ماركس كان يؤمن أن الدافع السايكولوجي الأعظم في الإنسان هو ميله للكسب المالي دون إعطاء أي اعتبار للحاجات الروحية.

كما تم تفسير نقده للدين بوصفه نوعًا من العدمية الأخلاقية. راح هذا التفسير ليبين أن الماركسية هي فردوس من الأشخاص الذين تنازلوا عن فرديتهم وحريتهم ليعملوا مثل الروبوتات. يشير فروم إلى وجود بعض التناقض في هذه الرؤية الرأسمالية؛ حيث أن الرأسمالية تتهم تارة الماركسية بأنها مادية وتارة أخرى بأنها مثالية/غير واقعية.

يعرض فروم بعض الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة المعرفية دون ترتيب. أحدها الجهل وعدم العودة إلى كتابات ماركس وعدم ترجمة بعض من أعماله، خاصة (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية). وسبب آخر هو أن الشيوعيين الروس قد طبقوا رؤيتهم المحتقرة للفردية والقيم الإنسانية تحت غطاء مفاهيم ماركس. تصور الروس –على حد قول فروم- أن الاشتراكية ليست مجتمعًا مختلفًا إنسانيًا عن الرأسمالية، بل شكلًا من الرأسمالية الذي تحصل فيه الطبقة العاملة على مكانة اجتماعية أرقى. كما كانت هناك أسباب غير عقلانية وراء ذلك التحريف، مثل العداء الثقافي المتجذر في العلاقة الروسية-الغربية.

مفهوم المادية:

إن المادية ببساطة هي المنهج الذي اعتمد عليه ماركس في تحليله للوجود الإنساني. جاءت مادية ماركس لمواجهة المثالية الألمانية والمادية البرجوازية الميكانيكية. فالمثالية المتمثلة بهيجل تفترض مقدمًا روحًا مطلقة أو مجردة، تتطور بحيث لا يكون الإنسان فيها سوى كتلة لحم تحمل هذه الروح. أما المادية البرجوازية فهي مادية استاتيكية جامدة، ترجع كل مظاهر الحياة الإنسانية الروحية والعاطفية إلى عمليات فسيولوجية في الجسم. حسنًا، ما هي مادية ماركس؟

مادية ماركس تتميز بطابع الصيرورة والديناميكية، بحيث تركز على علاقة الإنسان بالطبيعة. لفهم ذلك، يجب أن نفهم أنه لدى الإنسان غرائز ثابتة وأخرى نسبية، الأخيرة نابعة من تنظيم اجتماعي معين. أما الغرائز الثابتة هي التي تحتاج التركيز. يحتاج الإنسان إلى المأوى والطعام والجنس… إلخ، فيستدعي ذلك أن يقوم الإنسان بعملية الإنتاج، لإنتاج ما يحتاجه. وليس الإنتاج نفسه هو المهم، إنما إسلوب الإنتاج، لأنه يحدد كينونة الإنسان وأفكاره.

يقول ماركس: إن شروطًا اقتصادية محددة، كتلك الموجودة في الرأسمالية، تخلق كحافز رئيسي الرغبة في المال والملكية. بينما نجد أن أوضاعًا اقتصادية أخرى تولد رغبات معاكسة تمامًا، كالزهد واحتقار الثروة الدنيوية كما هو ملاحظ في كثير من الثقافات الشرقية.

مفهوم الوعي:

يعد مفهوم الوعي من المفاهيم المتشظية في تاريخ الفلسفة، وغالبًا ما يُنظر إلى الوعي ككيان مستقل ومتعال. لكن ماركس يضعه في سياق العملية الإنتاجية. فالوعي الإنساني الجمالي والقانوني والسياسي والأخلاقي يحدده أسلوب الإنتاج الذي يتبعه. إن إنتاج الأفكار متمازج بشكل مباشر مع الفعالية المادية ومع علاقات البشر المادية. لكن يجب أن نفهم أن الوجود الإنساني ليس بوجود سلبي، فالإنسان في علاقة إيجابية مع الطبيعة؛ أي الظروف الخارجية. يقول ماركس أن الإنسان هو من يصنع وجوده من خلال العمل، أي فعالية علاقتنا مع الطبيعة. إن توافق عملية تغيير الظروف مع الفعالية الإنسانية أو التغيير الذاتي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه ممارسة ثورية.

اقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

مفهوم الاغتراب:

يؤكد ماركس دومًا على أصالة علاقة الإنسان بالطبيعة؛ أن الإنسان يحوز كينونته الفعالة من خلال تفاعله الإيجابي مع الطبيعة. إن الإنسان يصنع نفسه في تلك العلاقة في سياق التاريخ. إلا أن مفهوم الإنسان لا يمكن فهمه بمعزل عن إشكالية الاغتراب.

يقوم فروم بمقاربة مثيرة بين مفهوم الاغتراب عند ماركس ومفهوم الوثنية. تعني الوثنية عبادة الإنسان وخضوعه لشيء أو كيان قام هو نفسه بصنعه، عبادة التماثيل على سبيل الذكر. الإنسان حين يخلق شيئًا ما، فبدلًا من أن يمارس ذاته كفرد خالق، فإنه يكون في حالة تواصل مع ذاته عبر عبادة ذلك الشيء، أي الوثن.

وتمثل اللغة شكلًا من أشكال الاغتراب المعقدة عند ماركس. إن اللغة تحول الكلمة من علامة لغوية دالة إلى شيء قائم بذاته، فعندما أقول (أحبك) فهذه الكلمة تمتلك حياتها الخاصة، فحينئذ نهتم بفكرة الحب التي انبثقت من اللغة بدلًا من الاهتمام بحدث الحب نفسه. رغم الاعتبار العظيم للغة في فلسفة ماركس إلا أنه يحذرنا من خطر أن تكون بديلًا عن التجربة الحية.

كما أن الاغتراب قد يتجلى في مواضيع فنية وأدبية وفكرية، فيمكن أن نذعن لنص شعري أو لوحة فنية أومفهوم إلى حد الاغتراب عن ذواتنا.

لنفهم مفهوم الاغتراب علينا البحث في مسألة العمل، فتجربة العمل هي التجربة الأهم بالنسبة لماركس في تحقيق الانسان لذاته الفردية أو لذاته الكونية، أي تمثيله للنوع الإنساني. بيد أن تجربة العمل باتت تجربة مغرَّبة في عصر الرأسمالية. تحت شروط الإنتاج الرأسمالي يُقصى الإنسان عن قواه المبدعة كما أن الأشياء التي انتجها هي التي تتعالى عليه وتتحكم به.

ثمة سوء فهم شائع حتى بين الاشتراكيين، فلم يدعو ماركس إلى التساوي في الدخل أو أن يحصل العامل على أجر أعلى بل دعا إلى تحرير الإنسان من ذاك النوع من العمل الذي يدمر فرديته، والذي يحوله إلى شيء ويجعله عبدًا للأشياء.

العمل المغرِّب هو الذي ينزل بالإنسان إلى مستوى الآلة أو أقل، حيث يفقد الفرد رغبته في العمل ويشعره بالبؤس. ولأن العلاقة الانتاجية هي محرك تاريخ تحقيق الإنسان لذاته، فالاغتراب لا يكون واقعة طارئة في زمن العمل ومكانه بل يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وأخيه الإنسان وعن الطبيعة.

الاشتراكية والحرية:

الصورة الرسمية للاشتراكية في الفضاء العمومي العالمي هي صورة لمجموعة كبيرة من الأشخاص البائسين يعملون تحت مراقبة شديدة. ساهم الاعلام الرأسمالي في تقديم تلك الصورة، كما عملت سلطة ستالين على ترسيخها في مخيلة الناس. بيد أن الاشتراكية التي دعا ماركس إليها مختلفة عن تلك الصورة والتأويلات الشائعة. إذن ما هي الاشتراكية؟

الاشتراكية هي المجتمع الذي يعمل فيه الأفراد بطريقة مشتركة، لا تنافسية، بطريقة عقلانية وغير مغرَّبة. يقول الفيلسوف باول تيليش بأن الاشتراكية هي حركة احتجاج ضد تدمير الحب في الواقع الاجتماعي.

الحاجات في المجتمع الاشتراكي:

إن الاشتراكية وفقًا لماركس هي المجتمع الذي يلبي حاجات الفرد الإنسانية، لكن مفهومه للحاجات فيه بعض التحديد. ثمة حاجات زائفة وأخرى حقيقية، الحاجات الزائفة تؤدي إلى الاغتراب في حين الحاجات الحقيقية تؤدي إلى تحقيق الفرد لجوهره. ما يميز حقيقة الحاجة عن زيفها هو طبيعة الإنسان، بعكس المجتمع الرأسمالي الذي يخلق كمية هائلة من الحاجات الزائفة، فإن الاشتراكية هي تحقيق حاجات حقيقية وأصيلة.

هدف الاشتراكية:

إن هدف الإشتراكية هو الإنسان، إنها تهدف إلى خلق نمطًا من الإنتاج، ونظامًا للمجتمع، يصبح فيه بإمكان الإنسان قهر الاغتراب عن نتاجه، وعن عمله، وعن أخيه الإنسان، وعن ذاته وعن الطبيعة. والاشتراكية ترفع شعار التصالح والانسجام مع الطبيعة وليس السيطرة عليها واستغلالها لأجل فائدة أكبر كما هي حال الرأسمالية.

الحرية:

يتخيل الناس –ولهم مبرراتهم- المملكة الاشتراكية على أنها الجانب المقابل للحرية، أي استحالة الحرية. في حين أن الاشتراكية تهدف إلى مجتمع حر وإنسان حر. الحرية هنا هي أن يبني الأفراد علاقة عقلانية مع الطبيعة، وأن يتعاملوا مع ثرواتها بشكل مشترك، بدلًا من أن يكونوا محكومين بها كقوة عمياء. كتب ماركس في (رأس المال): “عهد مملكة الحرية لا يبدأ، حتى تنقضي المرحلة التي يكون فيها العمل القائم على قسر الضرورة والمنفعة الخارجية متطلبًا”.

الفيلسوف أناكساغوراس ومفهوم ناوس

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكساغوراس ومفهوم ناوس

اعتدنا أن ننسب المغامرات الفلسفية الأولى إلى أثينا. بالكاد نعرف شيئا عن المدن الإغريقية الأخرى التي أعطت للتفلسف حيزًا. حسب التاريخ المتفق عليه، لم تعرف أثينا الفلسفة قط قبل أن يدخلها معه أناكساغوراس بدعوة من حاكم أثينا بيريكليز. لا تتميز فلسفة أناكساغوراس بوجود نسق أصيل كما هي الحال مع هيراكليتس ولا هي بفيض شعري كما هي عند أمبادوكليس. ما يمنح فلسفت أناكساغوراس بعض الجاذبية هو مفهوم ناوس (Nous) التي حاول من خلالها أن يسد الصدع الموجودة في الأنطولوجيا القديمة. في هذا المقال سنلقي الضوء على مفهوم ناوس عند أناكساغوراس.

حياة أناكساغوراس

ولد أناكساغوراس في كلازومينيا حوالي عام 500.ق.م. كان من أسرة نبيلة ويملك ثروة طائلة، إلا أنه تخلى عن الثروة سعيًا نحو العلم والفلسفة [1]. كان له علاقة مع الوسط الأثني السياسي والأدبي، فدعاه القيادي والسياسي الأثني بريكليس إلى أثينا لتتحول إلى مركز التفلسف العالمي. ظل في أثينا ثلاثة عقود، لكن الصراع السياسي عصرئذ لم يكن لصالحه، فتم اتهامه بالإلحاد لقوله بأن الشمس والنجوم صخور ملتهبة وأن القمر كوكب. بسبب تلك التهم دخل السجن، وكان سيكون مصيره مصير سقراط لولا تدخل بريكليس الذي ساعده ليهرب من السجن. بعد النفي استقر في لامباسكوس ومات هناك وهو في الثانية والسبعين من العمر[2].

نشر أناكساغوراس كتابه (حول الطبيعة) في سن متأخر، كما أسس مدرسة فلسفية في أواخر حياته.

البداية

كما كانت الحال مع الفلاسفة الذين سبقوه، قال أناكساغوراس بعالم قديم، لكنه اختلف معهم في تفاصيل جوهرية. العالم الذي يراه أناكساغوراس عالم ميكانيكي آلي، فهو لا يؤمن بصراع الأضداد مثل هيراكليتس ولا حركة الأبيرون كما أناكسيماندر. في البدء كل أنواع المادة كانت مختلطة في كتلة سديمية، وهذه الكتلة تمتد إلى ما لا نهاية عبر المكان والأنواع المختلفة للمادة، تختلط وتنفذ كل منها في أخرى [3].

هذه البادية كانت هلامية، حيث لم تكن هناك هوية للموجود، كل الأشياء كانت موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. يصف تلك البداية بقوله: “كانت جميع الأشياء معًا لا نهاية لها في العدد والصغر، لأن الصغر أيضًا لا نهائي، لما كانت جميع الأشياء معًا فلم يكن ممكنًا لصغرها تمييز أي شيء منها[4].الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

العقل عند أناكساغوراس

مفهوم العقل-ناوس فيه الكثير من اللبس، ذلك لأنه يوحي بأكثر من معنى، يأتي العقل أحيانًا بمعنى لاهوتي وأحيان أخرى بمعنى طبيعي. في الفلسفة الإغريقية بشكل عام لم يتم تحديد المقصد من العقل بدقة. عند أناكساغوراس، وضع العقل في موقع حرج من الأنطولوجيا الكونية، ما أدى إلى اختلافات تأويلية قديمًا وحديثًا حول جوهرة فلسفته –ناوس.

دور العقل

يبدو أن الكون كان حائرًا قبل أن يكون هناك عقل، كان يتخبط في نفسه دون دليل أو منظم إلى أن جاء العقل. العقل هو العامل المسؤول عن دوران وفصل الخليط البدائي [السديم]، وهو الذي أحدث الحركة البدائية (أنس). حول دور العقل لأناكساغوراس رأيين مختلفين، فتارة يختزل دوره في الحركة الأولى. فيقول، “في البداية كان هناك خليط سديمي من الأنواع المختلفة للمادة، والعقل ادخل دوامة في نقطة وسط هذه الكتلة”[5]. وتارة أخرى يبين أن العقل يذهب في ترتيب تفاصيل العالم.

طبيعة العقل

هذه الطبيعة غير محددة تمامًا وإن وصف أناكساغوراس لا يخلو من اللبس، غير أن ثمة سمات عامة للعقل في فلسفته[6] وهي:

  • العقل بسيط وغير مركب.
  • متميز عن المادة.
  • لا نهائي وأبدي.

البذور واستحالة الموت والولادة وفق أناكساغوراس

يجد أناكساغوراس في مسألتي الولادة والموت مشكلة فلسفية حقيقية. عندما نقول بالولادة فأننا نشير إلى أن شيء ما دخل إلينا من اللاوجود وفكرة الموت تعني المرور إلى اللاوجود. لأنه لا وجود للاوجود فالولادة غير ممكنة وليس ثمة أفق في اللاوجود ليكون هناك فناء أو موت لينتقل الموجودات إليه. يعلق على المسألة قائلًا: “يخطئ الإغريق بقولهم أن الأشياء تظهر إلى الوجود ثم تختفي. لا شيء يظهر أو يختفي عن الوجود، هناك إنفصال وامتزاج لما هو موجود وحسب”[3].

البذور

إذن، من أين تأتي هذه الأشياء الموجودة كلها؟ هل تأتي من العدم أم أنها نتجت من أشياء أخرى؟ للإجابة عن هذا السؤال يقتضي علينا العودة إلى السديم أو الحساء الأولي. هناك مبدأ رئيس في فلسفة أناكساغوراس، كل شيء موجود في كل شيء، يدل المبدأ هذا أن الأشياء موجدة منذ الأزل. لكن كيف كانت تلك الكينونة؟

الوجود –وفقًا لأناكساغوراس – لا يأتي من اللا وجود، بل كل ما هو موجود كائن منذ الأزل على صورة بذور. هذه البذور لا نهائية من حيث الكمية، لكنها تختلف في أشكالها وألوانها ومذاقها وبالتالي فهي لا تتشابه. كل الأشياء كانت توجود في الكل معًا ممتزجةً[6].

وفقًا للمبدأ المذكور فإن الأشياء غير نقية تمامًا، لا توجد مجاميع منفصلة للبذور، بل هي تتجاور، وتتجاوز تخومها المفترضة أيضا لتكون مضمرة في غيرها. يستقل الشيء عن السديم من خلال انفصال عناصره عن الكتلة السديمية بواسطة الوامة الموجودة للأبد.

الحجة الغائية عند أناكساغوراس

هنا نتساءل، لماذا احتاج أناكساغوراس إلى إدخال العقل في معادلة الخلق؟ لماذا لم يكتفي مثل سابقيه بفكرة البذور والسديم؟ هنا تبرز الثنائية التي ستكتسح الفلسفة بلا هوادة، ثنائية المادة والعقل. ما دفعه إلى هذا القول هو أنه رفض قدرة المادة وحدها على خلق عالم متسق ومتماسك وجميل. لم يجد في المادة ما يساعدها على أن تتحرر من المادة نفسها لتكوين كيان متسق وجميل؛ فجاء بالعقل كعنصر متميز ومفكر يمكنه أن يقود إلى خلق حسن.

مكانة أناكساغوراس في الفلسفة

الفيلسوف الذي وهب الفلسفة لأثينا، يعيد ترتيب حسابات الفلسفة الكونية والأنطولوجية والمعرفية. جاءت فلسفته ردًا على النزعة المادية في الفلسفة، ركز سابقوه على العنصر أو العناصر القصوى التي يتشكل منها العالم. بيد أن أناكساغوراس لم يرد أن يتمسك بعنصر ما لتفسير الكثرة الماثلة في العالم. مضى قدمًا نحو تخوم أكثر حرية ورعبًا، العقل-ناوس، هذا المفهوم هو الحجر الأساس في فلسفته. العقل هو الذي حرر الأشياء من الكتلة السديمية البدائية واعطاها هوية.

المصادر:

  1. ولتر ستيس, تاريخ الفلسفة اليونانية, ترجمة مجاهد عبدالمنعم, دار الثقافة, ص87.
  2. https://www.britannica.com/biography/Anaxagoras
  3. https://plato.stanford.edu/entries/anaxagoras/
  4. عزت قرني, الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون, ص71.
  5. ولتر ستيس, مصدر سابق, ص93.
  6. https://iep.utm.edu/anaxagor/
Exit mobile version