السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

يمثل تاريخ اليونان القديم خصوبة معرفية مميزة في مسيرة الإنسان المعرفية. قليلًا ما نجد من حديث أو حوار ثقافي إلا ويسجل الإغريق القدماء حضورهم. كأن كل بداية فعلية هي إغريقية بالضرورة بغض النظر عما قدمته الحضارات الشرقية من إسهامات ومشاركات في الثقافة البشرية. فالفلسفة وإن لم نتفق مع التطرف الغربي بشأن أصلها اليوناني فهي تألقت في سماء تلك البلاد أكثر من غيرها. وربما لولا الإغريق لما دخلت الفلسفة في الفضاء العمومي بهذا الثقل ولما دار كل هذا الجدل حولها. لكن ثمة هناك مفارقة في البحث المعرفي ألا وهي تهميش التراث السفسطائي بشكل واضح ومزعج، وكأن السفسطائية هي شجرة الفلسفة المحرمة. بالكاد نجد له حضورًا في الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة رغم طابع هذا التراث من حيث حداثته وفرادته عن كل تداول فلسفي آخر. فسنخصص هذا المقال لمناقشة آراء السفسطائية حول مواضيع محددة لفتح حوار مختلف مع تاريخ الفلسفة ولإعادة النظر في ملف السفسطائيين.

معنى السفسطائية

لغةً، تعني لفظة السفسطائي الشخص الحكيم، وهي تقابل لفظة الفيلسوف والتي يعنى بها الشخص الذي يحب الحكمة. السفسطائي يدعي أنه الحكيم، وكان بروتوعوراس هو أول من تجرأ ليطلق على نفسه الحكيم رغم التحديات الكثيرة. فالحكيم في التراث الإغريقي كان يطلق على هوميروس وهزيود والحكماء السبعة والانبياء(1)، فالسفسطائي يردم الهوة بين الإنسان والحكمة، عكس الفيلسوف الذي يجد في نفسه محبًا للحكمة وحسب وكأنها محرمة عليه أو يستحيل الوصول إليها. وذلك لكون الآلهة ومن يتواصلون معها مباشرة يحملون شعلة الحكمة، والفيلسوف هو الذي يتوق إليها.

مفهوم السفسطائي والسفسطة واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات من قبل الفلاسفة لا سيما أفلاطون. حتى تحول هذا المفهوم إلى نوع من الاستخفاف في يومنا هذا، فيُطلق على كل ما هو بديء سفسطة، فيصنفهم هيغل في الخانة المضادة للفلسفة أو اللا فلسفة(2). غير أن السفسطائية تمثل حركة تنويرية بطروحها الجريئة ومواقفها الإنسانية المدافعة عن الحقوق الكونية للإنسان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، فهي الأصل الحقيقي للحداثة وتشعباتها.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

السفسطائيون ونتاجاتهم

فقدنا الكثير من الكتب القيمة من جميع الحضارات نتيجة تدمير المكتبات لأسباب سياسية والتغيرات البيئية التي تسببت بتلف الكثير من المخطوطات والكتابات، وكانت لكتابات السفسطائيين حصة الأسد من التدمير، فهم كانوا منبوذين ومطاردين حتى من قبل الإغريق نفسهم وتعرضت معظم كتاباتهم للحرق. بجانب عدد بسيط جدا مما وصل إلينا من كتاباتهم الخاصة، لمحاورات أفلاطون دور مهم في الكشف عن افكارهم، وسوف نستعرض بعضًا من الاعمال المنسوبة إليهم وفقًا لمتبقيات تاريخية:

  • بروتوغوراس: في الحقيقة، حول الآلهة، حول بنية المجتمع الأصيلة، حول العالم الآخر، حول الفضائل وحول الدستور.
  • جورجياس: هيلين، بالاميد،الخطبة الأولمبية، الخطبة الجنائزية وحول اللا وجود.
  • بروديكوس: حول الوجود وطبيعة الإنسان.
  • أنتيفون: الحقيقة، السياسة وتفسير الاحلام.
  • هيبياس: الطروادة، نصائح، اسماء الشعوب وسجل ابطال الأولمبياد.
  • ثراسيماخوس: النص العظيم، الخطابة، الدستور والشفقة.

ثورة السفسطائية ضد التراث الإغريقي القديم

 الاساطير الأغريقية حول نشأة الكون والحقيقة وطبيعة الإنسان وكذلك قصائد هوميروس وهزيود تمثل التراث الإغريقي الأصيل الذي لم يتجرأ أحد المساس بها أو الخروج عن ظلها. فهذا التراث يؤكد بعض الحقائق المدعية، كالأصل الإلهي للعالم، والأصل الإلهي للقوانين والتشريعات. في حين، يزعم السفسطائيون بأن العالم ما هو إلا مادة لا دخل للآلهة والأرواح بها, وأن القوانين شأن بشري. فيقول السفسطائي كريتياس بأن البشر هم من اخترعوا الآلهة لترهيب الناس عند الخروج عن التقليد(2). وحول أصل القوانين، يدعي بروتوغوراس بأن القوانين تُخترع وتُعدل من قبل البشر بما يناسب منفعتهم. ويقول أيضًا بأن حياة الإنسان البدائية كانت وحشة ولا تخضع لأي قانون مما دفع بالبشر إلى سن القوانين لوقف العدوان المتبادل بينهم. ونظرًا لأن القوانين بحد ذاتها لم تكن فعالة إلا بعد الكشف عن الجريمة فقالوا بوجود آلهة ترى كل شيء وتعاقب المجرم (3).

كما كان للسفسطائيين رأي مخالف لرؤية هزيود وهومر والأساطير الإغريقية حول مجرى التاريخ والزمن. فكان الإيمان الراسخ هو أن التاريخ عبارة عن دورات، من الأفضل إلى الاسوأ. فكان يُعتقد بأن الدورة الأولى كانت تمثل سلالة ذهبية، بحيث لم تكن هناك حروب وسلوكيات شريرة ومؤذية. ومن ثم جاءت الدورة الفضية والتي كانت اسوأ من الذهبية وأفضل من البرونزية التي تلتها وهي بدورها كانت أحسن من الدورة الحديدية. فيقول هيزيود: “ليتني لم أكن من بشر الجيل الخامس بل متتُ قبله فالسلالة التي توجود الآن هي سلالة حديدية”. رفض السفسطائيون هذا التفسير، وقالوا بأن الماضي يمثل حالة وحشية وأن الإنسان يتقدم نحو الأفضل دوما، وأن الحاضر لا يخضع للماضي وأن المستقبل مفتوح.

ثورة السفسطائية ضد الفلسفة الطبيعية

يُقال بأن ديمقريطس قد فقأ عينيه ليبرهن بأن الحواس غير ضرورية لمعرفة الصدق والحقيقة. كما كان بارمنيدس و هيراكليتس وانكسيمانس وانكسيماندرس يرفضون دور الحواس في الوصول إلى الحقائق. وكان العقل هو الوسيط الوحيد بين الإنسان والحقيقة. بينما يؤكد السفسطائيون بأنه فقط من خلال الحواس المعرفة ممكنة. فيقول جورجياس بأن العقل الخالص من حيث هو مختلف عن الادراك الحسي او حتى كمعيار صحيح كالادارك الحسي محض خرافة(4). وبالنسبة للجوهر، كان فلاسفة ما قبل سقراط يزعمون بأن الظاهر لا يعبر عن حقيقة الأشياء إنما الجوهر أو الباطن، إلا أن السفسطائيون تمسكوا بالظاهر على أنه موضوع البحث، كما رفضوا إمكانية وجود حقائق ثابتة.

منهج البحث عند السفسطائية

قال أمبادوقليس أن الشبيه يدرك الشبيه، وزعمت المدرسة الذرية بأن الموضوع يأتي أولًا في المعرفة. وبعضهم قال بأن للأشياء حقيقة وكيفية ثابتة ومستقلة عن الذات. لكن السفسطائي بروتوغوراس يجد بأن المعرفة شأن إنساني وللذات الإنسانية الدور الأهم في الموقف الإدراكي. وله قول شهير في ذلك: “الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا، مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها(3). ويرى السفسطائيون بأن المعرفة لا تتعلق بالموضوع المعروف وحده بل بالذات العارفة أيضًا(5). إذن، فالإنسان هو نقطة الانطلاق في الوصول إلى المعرفة. لكن هذا لا يعني بأنهم من دعاة الذاتية الذين رفضوا وجود عالم مستقل عن ادراكنا.

طبيعة وإمكانية المعرفة

لم تكن السفسطائية مذهبًا لتروج لحكمة معينة، لذا، ثمة خلاف بين السفسطائيين حول الأبستومولوجيا. فقال جورجياس باستحالة المعرفة، إذ أكد بأنه “لا يوجد شيء على الإطلاق، وإن وجد لا يمكن فهمه، وإن فُهم لا يمكن نقله للآخرين”. لكن بروتوغوراس كان يؤمن بإمكانية المعرفة. بيد أن المعرفة عند بروتوغوراس لا تشمل الميتافيزيقيا بل تقتصر على العالم المادي الموضوعي من حيث ظهوره لنا. وهذا الظهور ليس بظهور ثابت. فالعالم يظهر لي بشكل ويظهر لغيري بشكل مختلف. فيقول بروتوغوراس بأن الأشياء تكون بالنسبة لي كما تبدو لي إنما تكون لغيري كما تبدا لهم”(3).

والنبسية كما فهمها السفسطائيون -على الأقل بعضهم-  تختلف عن النسبية التي شاعت بين الاوساط العدمية. فما يجعل من معرفة العالم نسبية هو كون العالم في حالة حركة وصيرورة مستمرة والإنسان نفسه جزء من عالم الصيرورة. فكلا من العالم والإنسان يصيران. وبهذا الصدد يقول بروتغوراس: “لا شيء يوجد بذاته أو يكون في ذاته وأنك لا تستطيع بأي حال من الاحوال أن تعبر عن شيء ما تعبيرًا صحيحًا، فما أن نفسر شيء ما يتحول إلى شيء آخر من حيث الكيفية” (6).

كان الفيلسوف هيراكليتس يقول بأنه لا يمكن أن تنزل في النهر نفسه مرتين وذلك لأن النهر قد تغير في المرة الثانية. لكن السفسطائي كاريتليوس تجاوز هيراكليتس بقوله “لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر حتى مرة واحدة طالما أن الصيرورة تجرف كل شيء”( 7). السفسطائية ترى في كل رأي بأنه صادق لأن الرأي لا يحتمل الكذب كيفما كان. فالكذب هو التعبير عن اللا وجود بالتالي فهو بدوره غير موجود وأن كل رأي يعبرعن الوجود فهو صادق بالضرورة. لكن كيف يكون لرأي ونقيضه نفس الدرجة من الصدق؟ هنا، تأتي السفسطائية بمفهوم التلاؤم. العالم يصير والإنسان يصير وهناك لقاءات مستمرة بين الإنسان والعالم وفي كل لحظة لقاء هناك تلاؤم ويظهر العالم بكيفية معينة للمدرك. وليس هناك رأي اصدق بل هناك الرأي الأحسن الذي يكون في خدمة الإنسان والمجتمع البشري أكثر.

وجود ومعرفة الآلهة

بالنسبة للآلهة يقول بروتوغوراس من المستحيل أن نعرف إذا كان هناك إله أم لا نظرًا لما يكتنفه الموضوع من الغموض ولقصر العمر. هذا الرأي اللاأدري لم يمر مرور الكرام فتم إحراق كتبه وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، فهرب منهم ومات غرقًا(6). ويجد أمبريكوس بأنه لو شاءت الصدفة لشخص ما أن يعرف حقيقة الآلهة بشكل تام فسيظل هو نفسه على غير علم بصواب رأيه(8). وعن شكل وتجسيد الآلهة. يقول كسينوفون بأن كل شعب تصور آلهة على الشكل الذي يريده ولو تمكنت الخيول أن تصف الآلهة لوصفتها على شكلها(3). ويقول بروديكوس بأن البشر استنتجوا وجود الآلهة من أشياء ذات معنى في حياتهم مثل الشمس والانهار والنار، فديونيزوس ليس بإله الخمر إنما هو الخمر نفسه(3). تأرجحت السفسطائية بين الإلحاد واللاادرية في هذه القضية. ولهذه الآراء بصمة واضحة في الفلسفات المعاصرة.

الحرية والفضيلة

كان للإغريق نظرة دونية تجاه الآخرين ويسمون كل من هو غير أغريقي بالبربري، ورأوا في أنفسهم نوع مميز من البشر. كما كان التراث الإغريقي الروحي والفلسفي يؤمن بأن الإنسان يولد حرًا أو عبدًا وبالتالي المساوة بين جميع البشر والطبقات غير ممكنة كان هوميروس يعتبر بأن الاقدار السماوية شاءت أن يكون هناك عبيد واحرار ولا يمكن لأحد أن يتجاوز تلك الاقدار، وديمقريطس نفسه دعم هذا الرأي. غير أن السفسطائية انزلت القوانين من السماء إلى الأرض وقوضت فرضية التراث حول الاحرار والعبيد. فيقول هيباس أننا نحن والبرارة أخوة في الطبيعة. ورفض أنتيفون التمييز بين الإغريقي والبربري وقال قوله الشهير”خلقنا الخالق احرارًا وليس هناك من هو عبد بالطبيعة”(4).

وبالنسبة للفضيلة، لم تكن السفسطائية تؤمن بوجود فضيلة ثابتة، بل نظرت في المسألة نظرة منفعية براغماتية. أي ما يقع في حدود الفضيلة هو ما يخدم المجتمع الإنساني وهاجم السفسطائيون الأخلاق التقليدية اليونانية لكونها قائمة على أسس متناقضة مع الطبيعة.

مكانة الثورة السفسطائية في التاريخ الفلسفي

الرأي الشائع عن السفسطائية هو أنها كانت حركة من الدجالين الذين يلعبون بالكلمات والحجج لإقناع الناس بأمور لا قيمة لها. وحين نقرأ محاورات أفلاطون نجد بأنهم كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر أمام سقراط لضعف حججهم. في حين السفسطائية يمكن أن تعتبر فلسفة تنويرية لجرأتهم على تقويض الكثير من الأفكار الفلسفية والدينية آنذاك، دفعوا ارواحهم ثمن آرائهم الإنسانية. كما أن التراث السفساطئي كان غنيًا لدرجة أن الفلسفات الحديثة مثل الوجودية والبراغماتية والهرمونوطيقية قد تشربت منه. فهذه الشجرة المحرمة تستحق أن نجازف بعض الشيء للوصول إلى ثمارها

اقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

المصادر:

  1. https://iep.utm.edu/sophists/
  2. https://www.britannica.com/topic/Sophist-philosophy/Humanistic-issues
  3. https://plato.stanford.edu/entries/sophists/
  4. محمد حسين النجم، السوفسطائية في الفكر اليوناني، منشورات الحكمة 2008 ص119
  5. http://etheses.dur.ac.uk/4023/
  6. https://plato.stanford.edu/entries/protagoras/#MythProt
  7. https://aeon.co/ideas/can-you-step-in-the-same-river-twice-wittgenstein-v-heraclitus
  8. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، ص76.
  9. حامد خليل، الإنسان عند السفسطائيين، المجلة العربية للعلوم،ص32.

ملخص كتاب: علم المنطق، لمحمد مهران

لا شك أن كتب التعريف بعلم المنطق كثيرة ومتنوعة، ولعل كتاب علم المنطق للدكتور محمد مهران من أبسطها وأكثرها اختصارًا، وارتأينا لهذا السبب أن نقدم لكم ملخصًا يوضح أهم ما جاء في هذا الكتاب، ليكون مدخلًا يعرف القارئ بعلم المنطق في دقائق قليلة.

ما هو علم المنطق؟

يرجع أصل كلمة المنطق إلى النطق، ولا يعني هذا أن المنطق يُعنى باللفظ نفسه، إنما يهتم بالمعنى الذي يكون في أذهاننا عند النطق، وكيفية عصم أذهاننا من التفكير-ومن ثم النطق- بشكل غير صحيح ومتسق. بغض النظر عن ماهية الموضوع أو العلم الذي نتناوله في حديثنا.

يعد أرسطو أول من تكلم بعلم المنطق، واستطاع التمييز بين العلوم نفسها والطريقة التي تمكننا من التفكيرفي هذه العلوم والوصول إليها بشكل صحيح. وبناء على هذا صنف المنطق علمًا قائمًا بذاته.
أما العرب فعاملوا المنطق معاملة العلم والأداة في آن واحد. فقد وصف ابن سينا المنطق بالآلة التي تحمي الفكر من الضلال، أما الفارابي فسماه رئيس العلوم.

ماذا نعني بالمنطق الصوري؟

عندما نرى مجموعة من الكراسي المختلفة في اللون ومادة الصنع والحجم لا يمنعنا ذلك من نطلق عليها جميعًا إسم (كرسي). فما الذي اشتركت فيه تلك الكراسي وجعلها جميعًا تستحق هذا الإسم؟ إنها الصورة. صورة الكرسي، أو العلاقة بين أجزائه. والتي تشترك فيها كراسي العالم جميعًا.

وكذلك الجملة، فإن الجمل جميعًا على اختلاف معانيها لها صور وعلاقات بين أجزائها، والمنطق يهتم على وجه الخصوص في الجمل التي تحتمل الصدق والكذب، وتسمى (القضايا).
فجملة: (الأسرة نواة المجتمع)، تعتبر قضية.
وأجزاؤها هي:
-الأسرة: ونسميها موضوع القضية.
-نواة المجتمع: ونسميها محمول القضية.
-ما يربط بينهما: كلمة هي.

وهكذا فإن لهذه لقضية صورة، تشترك فيها مع قضايا أخرى باختلاف المضمون مثل: (الشمس طالعة) و(القوم غاضبون)، وتسمى هذه الصورة بالحملية.

أما صورة الاستدلال، فيمكن توضيحها بمثال:
” إذا رأيت الإشارة الحمراء يجب أن أوقف السيارة. وبما أني أرى الإشارة الحمراء الآن، وجب علي إيقاف السيارة” .

نلاحظ هنا وجود قضية أولى تدل على شرط وقاعدة مرورية معروفة لدينا قد اختبرناها، ولنسمها: (ك)، وقضية ثانية تدل على واقعة أنك ترى الضوء الأحمر في الوقت الحاضر، ولنسمها: (ق)
فما الذي ينقصنا للتأكد من وجوب الوقوف الآن؟ إنه صدق رؤيتك للضوء الأحمر.
فالصورة هنا كالتالي:
إذا كانت (ق) ، كانت (ك).
و(ق) صادقة.
إذًا (ك) صادقة.

وقد تحمل هذه الصورة حجج أخرى تتعلق بأي موضوع آخر غير المرور والسيارات، لذا فالمنطق لا يهمه الموضوع.
كما أن الصور التي تربط بين القضايا كثيرة ولا تقتصر على ما ذكرناه، ومهمة المنطق دراسة الشروط التي ترتبط فيها تلك الصور.
وليس المنطق العلم الوحيد الذي يدرس الصور والأمور المشتركة بين الأشياء، بل إن العلوم كلها تحتوي صورية، ولكن بدرجة أقل، ويمكننا القول، كلما ابتعد العلم عن الماديات كلما زادات عموميته وكان صوريًا، فيكون المنطق على قمة هرم الصورية، يليه الرياضيات. وهكذا إلى آخره.

هل المنطق علمٌ أم فن؟

من جانب، يمكننا اعتبار المنطق علمًا لأنه يضع لنا القواعد لدراسة باقي العلوم، ومن جانب آخر، يمكننا اعتباره فنًا لأنه يشكل أداة وإرشادات في تعاملنا مع أمور الحياة.

وقد نعني بالفن: المهارة في فعل شيء ما، أو: معرفة طريقة فعل شيء ما.
فإذا أخذنا بالمعنى الثان، بإمكاننا اعتبار المنطق فنًا.

لكن أرسطو اعتبر أن على الفنان إحداث التغيير في شيء ما ليكون فنانًا.
وتتضح هذه القضية في مثال الفرق بين العالم والتطبيقي، فالأول يضع القواعد، والثاني يستخدمها في إحداث التغيير.
ولما كان المنطق يضع القواعد ولا يحدث بذاته التغيير، فعله يكون علمًا أكثر منه فنًا.

علاقة المنطق باللغة

إن اللغة ما هي إلا ألفاظ وجمل بينها روابط، ولما كانت الجمل الخبرية هي القابلة للتكذيب والتصديق، فإنها كانت محل اهتمام المنطق.
وإنا نستخدم اللغة في التعبير عما يدور في ذهننا من أفكار. وكما نحتاج قواعد تقينا الخطأ في تركيب اللغة، ونسميها علم النحو، نحتاج إلى قواعد تقينا الخطأ في تركيب الفكر الذي نعبر عنه باللغة، ونسميها علم المنطق.

أما من الناحية التاريخية، فقد ربط السوفسطائيون بين المنطق واللغة ليسهل عليهم استخدام الجدل في إقناع خصومهم بحججهم. ويعتبر البعض أن أرسطو أقام تصنيفاته المنطقية بناء على دراسته للغة اليونانية. وكان لهذا الأثر على موقف العرب من قيمة المنطق، فقد ذهب فريق اللغويين منهم إلى أن المنطق بني على قواعد اللغة اليونانية، فلا قيمة له في لغة أخرى، بينما ذهب فريق المنطقيين إلى أن المنطق يهتم في المقولات ولا شأن له في اللغة، معللين ذلك بمثال أن أربعة زائد أربعة ستساوي ثمانية في جميع اللغات.

كما ذهب المناطقة إلى أن المنطق علم قائم بذاته ولا يحتاج النحو لتحقيق أهدافه، وبدورهم أنكر اللغويون حاجة النحو إلى علم المنطق.
لكن فريقًا توفيقيًا كان له الدور في حل هذا الإشكال إلى حد كبير، وانتشارعلم المنطق من بعدها عند العرب.
إذ أصر هذا الفريق على أن المنطق يهتم بالعقل، بينما النحو مجاله اللغة. وأن لكل منهما دوره الذي لا غنى عنه. وما تزال الدراسات والكتب التي تربط بين المنطق واللغة منتشرة إلى يومنا هذا، وممن ذهبوا إلى التفسير المنطقي للغة الفيلسوف الإنجليزي بيرتراند راسل

علاقة المنطق بعلم النفس

ذهب البعض إلى أن المنطق جزء من علم النفس معللين ذلك أن علم النفس يشمل التفكير كله بينما يعنى علم المنطق بالتفكير السليم. لكن هذا الرأي لم يعد معقولًا نظرًا إلى أن علم المنطق لا يهتم بالموضوعات، إنما يعنى بصورها فقط.

ومما يربط علم النفس بالمنطق أننا وفي حياتنا اليومية عندما نفكر في شتى المسائل، ونصل الى استنتاجاتنا،يكون ذلك أحيانا بفعل عوامل نفسية لا منطقية، كالرغبات والعواطف. محاولين في بعض الأحيان إضفاء الطابع المنطقي إليها؛ لذا فمن المهم التمييز بين النتائج المتوصل إليها عبر عوامل نفسية وبين تلك الخاضعة للمنطق.
وذهب شيخ المناطقة المعاصرين بيرتراند راسل إلى أن عملية الاستدلال، وهي قلب العملية المنطقية، إنما هي عملية سيكولوجية في الأساس.

علاقة المنطق بالرياضيات

تأثر فلاسفة اليونان بالرياضيات أيما تأثر، وطالما وجد ارتباط وثيق بين منطق أرسطو والصورة الرياضية كما سنبين عند حديثنا عن تطور المنطق.

من أشهر الفلاسفة الذين أرجعوا الرياضيات إلى أصول منطقية الإنجليزي (برتراند راسل) والألماني (جوتلوب فريجه)، إذ رأى أصحاب هذا الاتجاه أن المنطق والرياضيات ليسا إلا شيئًا واحد في مراحل مختلفة، فكأنما المنطق هو الرياضيات في شبابه، والرياضيات هو المنطق في شيخوخته.
فنحن نبدأ من مقدمات منطقية ثم نصل بها إلى نتائج تنتمي إلى الرياضيات، دون حد فاصل واضح. كما أن المفاهيم الرياضية-العدد على سبيل المثال- ما هي إلا مفاهيم منطقية في الأصل. وكذلك القوانين الرياضية يمكن إرجاعها إلى بديهيات في علم المنطق.

أما أصحاب الاتجاه الآخر والمسمى بالاتجاه الحدسي، فيرون أن المنطق ما هو إلا تعميم كبير للرياضيات، وأنه بذلك جزء من الرياضيات لا أساسه.

مراحل تطور المنطق

يقسم الكاتب مراحل تطور المنطق إلى ثلاث مراحل:

-المنطق التقليدي.
-المنطق الحديث، او الاستقرائي.
-المنطق الرمزي أو الرياضي.

المنطق التقليدي

يعد الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي يعرف بالمعلم الأول، أول من أقر بوضوح مبادئ المنطق التقليدي، لا يعني هذا أننا لا نستطيع أن نلمس بوادر المنطق عند سابقي أرسطو، كالسوفسطائيين وسقراط وأفلاطون، لكن الأمر أن أرسطو أول من نظر إلى الفكر كموضوع قائم بذاته، مستقل عن فروع المعرفة، بل طريقة للوصول إلى هذه المعارف.
وقد جمع تلامذة وشراح أرسطو دراساته عن المنطق وأطلقوا عليها اسم (الأورجانون) أي الآلة، أو (لوجيكا) أي المنطق.
مثلت هذه الأفكار قمة الفكر اليوناني، وظلت أفكار أرسطو وتلامذته ومن شرحوا منطقه وأضافوا عليه، مستبدة في الحضارة الغربية لقرون طويلة، وكانت الكنيسة قد تبنتها ووافقتها مع أفكارها واستخدمتها في الدفاع عن عقيدتها. وظلت المحاولات لتجاوز هذا المنطق تبوء بالفشل أو تلقى بالهجوم. حتى كانت أول محاولة ناجحة على يد الإنجليزي فرانسيس بيكون صاحب المنطق الاستقرائي، ومن بعده الفرنسي رينيه ديكارت صاحب المنهج الاستنباطي.

ولم يقف منطق أرسطو عند الحضارة الغربية، بل إن فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية انكبوا على ترجمة ودراسة منطق أرسطو وشرحه وتلخيصه، ومنهم ابن سينا وابن رشد والفارابي. أما الفقهاء، فمنهم من تحمس لمنطق أرسطو واستخدمه في وضع الأقيسة الفقهية، وشجع دراسته واستخدامه في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، أي استخدام السلاح ذاته الذي استخدمه ضدها خصومها.
ومنهم من وقف من الفلسفة عمومًا والمنطق خصوصًا موقفًا عدائيًا، ووجهوا إليه انتقادات شديدة، كابن تيمية والغزالي، ويُذكر الكاتب أن الموقف العدائي لأصحاب هذا الاتجاه قد لا يكون من المنطق نفسه، بل من الأبحاث المنطقية التي تكون أشبه في المجادلات السوفسطائية.
ولم تمنع هذه المواقف على أية حال المسلمين من الاستمرار في دراسة المنطق التقليدي وشرحه والإضافة عليه.

موضوعات المنطق التقليدي:

-الحدود: وهو لفظ يمكن أن يصبح طرفًا في قضية، فنخبر عنه، أو نخبر به. وقد يكون عدة ألفاظ، فإذا قلنا: والد أحمد مسنّ. أو: حسين هو والد أحمد.، فإن (والد أحمد) يعد طرفًا في القضية.

-القضايا: وهي استخدام الحدود في تأليف جملة مفيدة قابلة للتكذيب أو التصديق، كقولنا: السيارة أمام المنزل.

الاستدلال: استنتاج قضية من قضية أخرى أو أكثر من قضية، فإذا كان الاستدلال من قضية واحدة نسميه استدلالًا مباشرًاظ

أما الاستدلال على قضية(نتيجة) من قضيتين(مقدمتين)، فنسميه القياس، وهو جوهر المنطق التقليدي. ومثاله الأشهر:
كل إنسان فان
سقراط إنسان
إذًا، سقراط فان.

ويعتمد هذا النوع من المنطق على كون المقدمات صحيحة والتوصل من خلالها إلى نتائج صحيحة، وهذا ما أخذه عليه أصحاب المنطق الحديث، اذ رأوا أنه لا يضيف معلومات جديدة إنما يعتمد في نتائجه ليس إلا على المقدمات.

المنطق الاستقرائي، أو المنطق الحديث

بدأ المنهج الاستقرائي، وهو أساس المنهج العلمي التقليدي، في القرن السادس عشر. على يد الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون ومن بعده الفيلسوف جون ستيورات ميل. ويعتمد هذا المنهج على ملاحظة جزيئات ظاهرة ما ومن ثم الوصول بهذه الملاحظات إلى تفسيرات عامة لهذه الظاهرة. أي أن الانتقال فيه يكون من الجزئي إلى الكلي. فيكون ترتيب الخطوات المتبعة في هذا المنهج:
-الملاحظة
-فرض الفروض
-التجربة
-صياغة القانون

إلا أن هذه الخطوات لا يمكن تطبيقها في جميع العلوم، فالعلوم التي يتعذر فيها إجراء التجارب يكتفى عندها بالملاحظة.
كما أن المنهج العلمي الاستقرائي التقليدي، لم يعد يلبي احتياجات العلم الحديث، مما تطلب إضافة بعض جوانب المنهج الاستنباطي، ليصبح المنهج العلمي المعاصر مزيجًا بين الاستقراء والاستنباط، فرغم أننا ما زلنا نستخدم الملاحظة والافتراض والتجارب، إلا أن الترتيب قد اختلف، فقد لا نبدأ بملاحظة الظواهر، وإنما نبدأ بالافتراض، ثم نحاول تحقيق افتراضنا بالملاحظة والتجربة، كما أن الافتراض في المنهج العلمي المعاصر قد لا يكون بناء على ما شاهدناه بأنفسنا، وإنما استنباط من قوانين علمية سابقة.

المنطق الرياضي أو الرمزي

ليس لمنطق الرياضي أو الرمزي، في حقيقة الأمر مناقضًا للمنطق الأرسطي التقليدي،إنما هو مكمل ومطور له.
إذ يعنى المنطق الرياضي بالصور والرموز، الشبيهة منها برموز الحساب والجبر، ذلك أنه يرى أن اللغة الطبيعية التي نستخدمها يعتريها الالتباس والغموض، فذهب إلى استخدام لغة الرموز باعتبارها أكثر دقة. فهو يعبر باستخدتم رموز مثل: (س، ص،..) للتعبير عن الحدود، لتصبح القضايا أكثر وضوحًا وعمومية. ومن وأهم خصائص المنطق الرياضي:

-أنه يستخدم الأسلوب الاستنباطي، فهو يذهب إلى استنباط القوانين من المبادئ المنطقية البديهية.

-اتسامه بالصورية الخالصة، فهو يستخدم الرموز ليركز على الصور دون الاهتمام بالموضوع أو المادة.

وكان الفيلسوف الألماني (لايبنتز) قد بشر في المنطق الرياضي في القرن السابع عشر، لكن واضعه الحقيقي هو مخترع الرياضيات البحتة (جورج بول) في القرن التاسع عشر.
أما الإنجاز الأكبر في المنطق الرياضي فهو كتاب العالمين (راسل) و(وايتهيد) المسمى:(principia mathmatica) أي المبادئ الرياضية. الذي يعتبر اليوم من معالم علم المنطق.

فوائد دراسة علم المنطق

يناقش الكاتب في هذا الفصل الفوائد التي تعود على دارس المنطق من دراسته. نلخصها في النقاط التالية:

-باعتبار المنطق علمًا، فإنه يعلمنا المبادئ التي يقوم عليها الاستدلال. وباعتباره فنًا، فإنه يساعدنا في حياتنا اليومية على البرهنة على الادعاءات التي نقدمها بصورة سليمة، بالإضافة إلى تمييز مدى اتساق وكفاية الأدلة التي نواجهها عند سماع أو قراءة أي رأي أو زعم أو معتقد.

-التفرقة بين النتائج المبنية على أسباب نفسية وعاطفية، والأخرى المبنية على حجج عقلية ومنطقية.

-الوعي بمدى غموض وتركيب اللغة، وبالتالي محاولة تجنب الأخطاء اللغوية بهدف تجنب الخطأ في التفكير.

-المعرفة بالمنطق تقود إلى معرفة المبادئ العملية مناهج البحث العلمي.

Exit mobile version