خمسة أفكار فلسفية في أنمي هجوم العمالقة، فما هي؟

هذا المقال خالي من حرق أي أحداث في القصة، فلا تقلق من قراءته إن لم تشاهد الأنمي بعد. إن هجوم العمالقة هو مسلسل أنمي خيالي سوداوي ياباني، يستكشف مجموعة متنوعة من الأحداث والأفكار الفلسفية المتضمنة. وقد حاز على تقييم 9 من 10 على موقع imdb حتى لحظة نشر هذا المقال وهو ما يجعله ضمن أعلى 10 مسلسلات في تاريخ الموقع.

نشرت حلقته الأخيرة في 4 نوفمبر 2023، أي بعد حوالي 10 سنوات من أولى حلقاته. ونستعرض في هذه المقالة خمسة أفكار فلسفية رئيسية استعرضها هجوم العمالقة، فما هي؟

1. طبيعة الحرية

تصارعت الشخصيات في أنمي هجوم العمالقة “Attack on Titan” باستمرار مع مسألة ما إذا كانوا أحرارًا حقًا. رغم أنهم محاصرون داخل جدران تحميهم من العمالقة، لكن هذه الجدران تحِد أيضًا من حريتهم. وعندما عرفوا المزيد عن العالم خارج الجدران، بدأوا في التساؤل عما إذا كانوا أفضل حالًا حقًا في الداخل. ذلك التناقض عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو في مقولته:

“يولد الانسان حرًا، ولكنه مكبل بالاغلال في كل مكان”

جان جاك روسو

يسلط هذا الاقتباس لجان جاك روسو الضوء على التناقض المتأصل بين الطبيعة البشرية وقيود المجتمع. تمامًا كما تكون الشخصيات في هجوم العمالقة محصورة جسديًا داخل الجدران، فهي أيضًا مقيدة نفسيًا بمخاوفهم وأحكامهم المسبقة.

تبدو تلك الرغبة والتساؤلات مشابهة لما يدور ببال الكثيرين منا، ممن يظنون أن الانعزال حلًا يضمن حريتهم. فيختارون ترك محيطهم ويبنون الأسوار حول أفكارهم ومعتقداتهم ظنًا منهم أنها تحمي حريتهم، لكنها في حقيقة الأمر تحبسهم داخلها. لكن ما يفاجئنا به الأنمي أن أبطاله لم يجدوا الحرية بمفهومها المطلق لا خارج الأسوار ولا داخلها لتبدو نسبية المفهوم أكثر واقعية. وكأن الحرية مثلها مثل السعادة، شعور مؤقت لن يلبث أن يزول مع أول تهديد.

2. دورة العنف

عالم هجوم العمالقة “attack on titans” مليء بالعنف، وتسقط الشخصيات باستمرار في دائرة من الانتقام لا تنتهي. هم يرون العنف شرًا ضروريًا لحماية أنفسهم من العمالقة، ولكنه يؤدي أيضًا إلى المزيد من العنف. إنهم يكافحون من أجل كسر هذه الحلقة وإيجاد طريقة للعيش في سلام. حتى تصل أفكار العنف إلى قمتها في الموسم الأخير وتتصاعد إلى منتهاها بكم هائل من الضحايا فيفقد السعي إلى السلام معناه.

“من يعرف سببا يعيش لأجله، يستطيع تحمل العيش بأي طريقة.”

الفيلسوف فريدريك نيتشه

يشير هذا الاقتباس لفريدريك نيتشه إلى أن إيجاد الهدف في الحياة يمكن أن يوفر القوة لتحمل حتى أصعب الظروف. الشخصيات في هجوم العمالقة، مدفوعين برغبتهم في حماية أحبائهم والتحرر من الاضطهاد، يجدون العزاء في النضال من أجل البقاء. وقد تحملوا في سبيل ذلك الدخول في دائرة العنف رغم مشاركة بعضهم في بدئها من جديد بمجرد كسرها. من الهجوم الأول وحتى الحلقة الأخيرة، تتكر دوامات العنف، فيمارس العنف من يُمارس عليه العنف ويقحم آخرين في دائرة جديدة من الانتقام وهكذا.

لكن العنف المؤدي للسلام بالكاد يسمى سلامًا حتى، وهذه الدائرة نراها يوميًا في صراعات الشعوب والحضارات وعلى شاشات الأخبار. تحارب القبائل الأفريقية بعضها البعض سعيًا إلى سلام لن يتحقق إلا بإبادة إحداها للأخرى، فهل هذا سلام حقًا؟ سعى المستعمرون الأوروبيون إلى إبادة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية من أجل السلام، فهل ما حققوه هو السلام بالفعل؟ ألم يختر من أبادوا السكان الأصليين، إبادة قريتي هيروشيما ونجازاكي في سياق آخر وبعد قرون من الحالة الأولى؟ هل ينسى القاتل جريمته؟ وهل سينساها العالم؟ وكيف سيتعايش معها؟ أسئلة صعبة يعجز عقل من يدخل دائرة العنف في إيجاد إجابة لها، لكن ربما وجدها إيرين ييغر في نهاية القصة.

3. طبيعة الحقيقة

الشخصيات في هجوم العمالقة يتم الكذب عليهم والتلاعب بهم باستمرار. إنهم غير متأكدين أبدًا مما هو صحيح وما هو خطأ، وهذا يصّعب عليهم اتخاذ قرارات مستنيرة. فيتعلمون بمرور الحلقات أن الحقيقة نسبية وأن لكل شخص وجهة نظره الخاصة. قد تبدو مواقف كل شخص أخلاقية وسليمة تمامًا، وقد تبدو غير أخلاقية وكارثية للطرف الآخر.

“أنا أفكر، إذن أنا موجود”

الفيلسوف رينيه ديكارت

تشير هذه العبارة الشهيرة لرينيه ديكارت إلى مركزية الوعي في فهمنا للواقع. وكما تشكك الشخصيات في هجوم العمالقة في تصوراتهم للعالم، فقد تحدى ديكارت فكرة الحقيقة الموضوعية، مشيرًا إلى أن أفكارنا وتجاربنا هي أساس معرفتنا.

تسير كمشاهد مع شخصيات القصة وفي كل جزء تكتشف عالم أوسع ويزيد وعيك مع كل حلقة وشعورك بمدى تعقد الحقيقة. هذا تحديدًا ما قصده ديكارت بمركزية العقل، فما تراه وتسمعه تعتقد أنه الحقيقة، ولن تعرف الحقيقة إلا بمعرفة المزيد والمزيد. وستظل الحقيقة نسبية وغير مكتملة طالما لم تعرف كل جوانب القصة. وقد ظلت حقيقة أغلب أبطال القصة تقريبًا غير واضحة حتى الحلقة الأخيرة.

4. أهمية التعاطف

غالبًا ما كانت الشخصيات في هجوم العمالقة مدفوعة بالكراهية والانحياز. إنهم يرون العمالقة على أنهم وحوش، والناس خارج الجدران كأعداء، ويرون أنفسهم كمظلومين. ومع ذلك، فقد تعلموا أيضًا أن العمالقة ليسوا جميعًا أشرار، وأن الأشخاص خارج الجدران مثلهم تمامًا. ذلك التدرج جعلهم يبدأون في فهم أهمية التعاطف مع الآخر. أن تضع نفسك مكان خصمك وتعرف كيف يفكر وكيف يشعر هو أمر لا غنى عنه للبشرية.

“الطريقة الوحيدة لفهم شخص آخر هي أن ترتدي جلده وترى العالم من خلال عينيه.”

الكاتبة هاربر لي

يؤكد هذا الاقتباس لهاربر لي عن روايتها “أن تقتل عصفورا محاكيًا” على أهمية التعاطف في تعزيز الروابط الهادفة. في هجوم العمالقة، تتعلم الشخصيات تدريجيًا كيفية التغلب على انحيازاتها والتعرف على إنسانية الآخرين. حتى أولئك الذين اعتبرونهم أعداء في البداية، تدور الأحداث ويكتشفون كيفية فهمهم والتعاطف معهم.

لا تخلو القصة من تناقضات التعاطف أيضًا، فقد تعاطف الضحايا مع جلاديهم أحيانًا فيما يعرف باسم متلازمة ستوكهولم. كان هذا التناقض أحد محاور القلق والخلط للمشاهد في بعض الأحيان، لكن لم يعيق ذلك الشخصيات فيما بعد عن إدراك حقيقتهم.

5. البحث عن معنى الحياة

غالبًا ما تواجه الشخصيات في هجوم العمالقة الموت واليأس. إنهم يتساءلون عن معنى الحياة في عالم قاسٍ للغاية ولا يرحم. ومع ذلك، فإنهم يجدون أيضًا القوة في علاقاتهم مع بعضهم البعض وفي كفاحهم من أجل البقاء. يتعلمون أن الحياة ثمينة وأنها تستحق القتال من أجلها.

“بحث الإنسان عن المعنى هو الدافع الأساسي في حياته.”

عالم النفس فيكتور فرانكل

نجا فيكتور فرانكل، من أهوال معسكرات الاعتقال، فسلط الضوء في هذا الاقتباس على الدافع البشري لإيجاد المعنى في الوجود. الشخصيات في هجوم العمالقة، على الرغم من مواجهة اليأس والخسارة، تكتشف الهدف في كفاحها باستمرار، وتجد القوة في روابطها مع الآخرين وتصميمها على خلق مستقبل أفضل. حتى من خلال التدمير، سواء مارسوه هم أو مورس عليهم، في كل الأحوال يبحثون عن المعنى كآلية دفاعية تضمن سلامتهم النفسية وبقاءهم.

إليكم ملخص كتاب بحث الإنسان عن معنى (الجزء الأول)

ما ستشاهده في هجوم العمالقة سيدفعك للتفكير كثيرًا في كيف بدأت كل شخصية في ذلك المسار المظلم الذي سلكته. ستتعجب في النهاية وستتساءل عمن كانوا الأخيار في البداية ومن كانوا الأشرار. وستجد أن الجميع امتلك المعنى ولكن ذلك المعنى ظل يتغير بتغير الأحداث والمواقف ودفعه لمسارات متشابكة مع الآخرين.

تلك كانت مجرد أمثلة من بعض الأفكار الفلسفية المقدمة في هجوم العمالقة. إن المسلسل عمل معقد ومثير للتفكير وسيبقى معك لفترة طويلة بعد الانتهاء من مشاهدته.

فلسفة القانون النسوية

فلسفة القانون النسوية

فلسفة القانون النسوية تدرس تأثير الهيمنة الذكورية على الأنظمة القانونية. تجمع بين الأبعاد النسوية في المعرفة والميتافيزيقا العلاقية والنظريات السياسية والأساليب الفلسفية لفهم كيف تفرض المؤسسات القانونية أنماط الجنس. تعتمد فلسفة القانون النسوية المعاصرة أيضًا على نظريات حقوق الإنسان الدولية ونظريات العرق النقدية ووجهات نظر أخرى متخصصة. تهدف هذه الفلسفة إلى تطوير النظريات، وتحليل المفاهيم، وإعادة تعريف أدوار الجنس والمساواة، لتحقيق المساواة بين الجنسين في القانون. تغطي هذه المجال مجموعة متنوعة من المواضيع في منشورات مختلفة، بدءًا من مجلات الفلسفة إلى دراسات النوع ومراجعات القانون. يتناول المقال مواضيع أساسية في نظريات القانون النسوي ويسلط الضوء على الحاجة إلى تغييرات مؤسسية في مجموعة من المجالات مثل المساواة السياسية، والهجرة والجنسية، والزواج، وحقوق اللإنجاب والحماية من العنف، وحقوق الاقتصاد.

مفاهيم رئيسة في فلسفة قانون النسوية:

النسوية القانونية تسلك مناهج متنوعة, راديكالية, ماركسية, ما بعد استعمارية وغيرها وتركز على مسائل مثل الحرية, المساواة, الهيمنة, الاختلاف والتنوع. المساواة في الحقوق والحريات والواجبات بين كلا الجنسين تعتبر ركيزة أساسية في فلسفة قانون النسوية.

مبدأ سيادة القانون:

هذا المبدأ يشير إلى الحياد القضائي وتطبيق القانون على الجميع والتناغم والاستفرار في الخطاب القانوني. تعارض النسوية القانونية هذا المبدأ لكونه يحافظ على الوضع الراهن والهياكل القانونية التقليدية التي وضعتها العقلية الذكورية. تجادل فيلسوفات القانون النسويات أن هذا النهج يجعل التحيز النظامي غير مرئيًا ومتجذرًا، وصعب التعرف عليه ومكافحته. التحيز النظامي هذا لا يؤثر على رأي القانونيين بل الضحايا أيضًا, ذلك لأن الضحية نفسها تفهم القانون بدلالتها التقليدية. طبقًا للنسوية القانونية فأن القوانين أوجدها الرجال, أو العقل الذكوري, بالتالي فأن عدم المساواة متجذر فيه. كما أن القانون يعكس ديناميات السلطة داخل المجتمع. حيث الرجال والنساء في مواقف غير متساوية تاريخيًا, فالمرأة تم تصويرها دائما كتابع.

المساواة والإختلاف:

لا تنكر النسوية القانونية وجود اختلافات بين الذكور والإناث, لكنها بيولوجية وليست أنطولوجية. فالنسوية القانوينة تأخذ على عاتقها تحقيق المساواة بين الجنسين أمام القانون وإلغاء التصورات النمطية التي كونها الذكور عن الإناث. لكن هذه الاختلافات البيولوجية يمكن تفسيرها تفسيرًا انحيازيًا, لهذا فأن التعامل مع هذه الاختلافات يضع النسوية القانونية في معضلة, ذلك أن هذه الاختلافات قد تؤدي بالمساواة. ترى النسوية القانونية أن الفرق/الاختلاف هو تقييم واقعي والمساواة هي معيار سياسي أو أخلاقي. وبالتالي، يجب أن تتطور النقاش بين مفهومي الهوية والاختلاف للتركيز على فهم وتحقيق المساواة.

المعقولية في القانون:

ترى فيلسوفات القانون النسويات أن المعقولية القانونية تتضمن أنماط ذكورية, سواء القانون الجنائي أو قانون العقود والاضرار وغيرها من القوانين. هذه القوانين تقوم على مفهوم “الرجل المعقول السوي” وهذا يعكس المنظور الذكوري في معقولية القانون. وفقًا لفلسفة القانون النسوية فأن معقولية القانون جاءت من فهم وتفسير الذكوريين لـ “المعقول” لهذا فأن الرجل هو المعيار للسوي وغير السوي وبالتالي للمعقول وغير المعقول.

العام والخاص:

فلسفة القانون النسوية تتناول موضوع التمييز بين القطاعين العام والخاص كموضوع مركزي. الليبراليين، بما في ذلك النسويين الليبراليين، يدافعون عن الحفاظ على مجال حياة خاص يجب أن يكون مخصصًا لاختيار الفرد. ومع ذلك، ترى النسويين الراديكاليين أن الهيمنة الذكورية والسيطرة الجنسية تتسللان إلى العلاقات الخاصة، مما يجعل من الصعب تمييز الأفعال التي تؤثر أساسا على الفرد عن الأفعال التي تؤثر على الآخرين بشكل أوسع. إن الهياكل القانونية التي تسمح بالهيمنة أو تعززها داخل العلاقات الحميمة هي مشكلة عميقة ويجب أن يتم تجاوزها. الجدل يمتد إلى قضايا مثل الدعارة، حيث يعتقد بعض الليبراليين أنه يجب تشريع الدعارة الطوعية بالقانون. بينما يجادل آخرون، بما في ذلك النسويين، بأنها قد تمكن لاحقاً عمليات الاتجار بالبشر. نقاشات النسويين تتعمق أيضا في حدود التمييز بين القطاعين العام والخاص في مجالات متنوعة مثل التكاثر والأسرة وأنماط العمل والعلاقات الجنسية والعنف الأسري، مع مناقشة تفاصيل إضافية في الأقسام اللاحقة.

حقوق الإنسان:

إقرأ أيضًا التمييز في الأجور بين الرجال والنساء يمنح كلوديا جولدين جائزة نوبل في الاقتصاد

تقدر الفيلسوفات النسويات التغيرات التي حدثت فيما يخص التعامل مع قضايا المرأة. بيد أنهن يعتبرن بأن التزامات حقوق الانسان في بعض الأماكن سطحية, فبعض القوانين التقليدية ما زالت سارية في بعض الدول. هناك جدل نسوي بشأن دور الحقوق. بعضهن، مثل اللواتي ينتمين إلى حركة الدراسات القانونية النقدية، يرون أن الحقوق يمكن أن تخفي ديناميات القوى المخفية. بينما يُجادل البعض الآخر، مثل نظريات العرق النقدية، بأن بعض النسويات تغفل عن أصوات النساء الأمريكيات من أصل أفريقي وأن الحقوق يمكن أن تكون ضرورية لحماية ضحايا التمييز والقمع. وتدور مناقشات مماثلة حول الحقوق في القانون الدولي، حيث تدعم النسويات الليبراليات الاعتراف الدولي بحقوق الإنسان، بينما ينتقد النظريون النقدية وبعض النسويات من البلدان النامية القانون الدولي والانحياز الهيكلي للحقوق وكذلك قناعة أن الحقوق تخفي القمع.

التعدد المنهجي:

فلسفة القانون النسوية تستند إلى منهجيات متعددة، بما في ذلك النسوية الإبستيمولوجية والميتافيزيقا العلاقية والواقعية القانونية ونظرية التداخل. إنها تتناول قضايا مثل الظلم الشهادي والظلم التأويلي، مسلطة الضوء على كيفية تأثير الصور النمطية للجنس والعرق على الإعتمادية. كما أنها تؤكد على أهمية فهم التجارب الحياتية في السياقات القانونية، وتتحدى الافتراضات الجوهرية حول أدوار النساء، وتنتقد الشكلية في تحليل القانون. بالإضافة إلى ذلك، تبحث في مجال التداخلية، التي تعترف بتداخل معقد بين فئات اجتماعية متعددة (مثل الجنس والعرق والطبقة) في تشكيل تجارب الأفراد وكيفية تفاعلهم مع القانون. هذا النهج يساعد على كشف التفاوتات الخفية ويوفر فهمًا أكثر تعقيدًا لمسائل قانونية متنوعة، مثل العنف في السجون.

المساوة الشكلية والمواطنة المتساوية:

حركة نساء منتصف القرن العشرين، المعروفة بنسوية الموجة الثانية، هدفت إلى تأمين حرية النساء والمواطنة المتساوية لهن. بينما كانت المساواة السياسية للنساء في البداية فكرة جريئة، إلا أنها أصبحت مقبولة على نطاق واسع في العديد من المجتمعات. ومع ذلك، في بعض الثقافات، تواجه النساء لا تزال قيودًا في مجالات مثل التصويت والتعليم والحقوق الإنجابية. تدافع القانونيات النسويات عن مشاركة النساء في الساحة العامة، معتبرات أن عدم المساواة في المواطنة غير عادلة. إطارات حقوق الإنسان الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، كانت حاسمة في تعزيز حقوق النساء على الصعيدين الوطني والعالمي. قامت العلماء القانونيين النسويين بالعمل على مسائل نسائية متنوعة واستخدموا المنصات الدولية لتعزيز الحوار والبحث.

بالإضافة إلى المواطنة المتساوية، تنتقد النسويات الهياكل القانونية والسياسية التي تفرض أعباء زائدة على النساء والأطفال الذين يسعون للمواطنة في بلدان أخرى. جهود العلماء النسويين قامت بتعميم قضايا النساء على الصعيدين الوطني والعالمي، مما أثر على الإصلاحات القانونية في مختلف الدول. ومع ذلك، تبقى تنفيذ القوانين والمعاهدات تحديًا، حيث قد لا يتم تنفيذها أو تتعارض مع العادات المحلية. وبالإضافة إلى ذلك، ما زال معنى المواطنة المتساوية قيد النقاش، مع أسئلة حول ما إذا كان يجب أن يتجاوز المساواة القانونية الشكلية. تلامس هذه النقاشات مسائل مثل تداخل التمييز والاختلافات الثقافية، وعلاقة معايير حقوق الإنسان بالعادات المحلية.

الزواج والإنجاب والعنف:

تسعى النسوية القانونية لتحقيق المساواة داخل المؤسسة الزوجية, وكذلك تطبيع الزواج المثلي ومواجهة التحديات الدينية والثقافية. رغم شرعنة الزواج المثلي, بيد أن هناك مشاكل أخرى يواجهها هذه الفئة, مثل تعامل الآخرين معهم (صاحب الدار مثلا) وهذا يحتاج حماية قانونية. كما أن حق الانجاب والاجهاض من المسائل المهمة في هذه الفلسفة. الرؤية التقليدية ترى في المرأة كشيء يملكه الرجل ويمكنه أن يتصرف بجسدها كما يشاء. لذلك فأن النسوية القانونية تدعو إلى تدخل القانون في هذه المسألة, حيث أن المرأة هي وحدها تمتلك جسدها وهي حرة فيها, حيث أن الحرية غير ممكنة مع اقصاء الجسد.

ترى النسويات بأن النساء ما زلن يعانين كثيرًا, ويواجهن العنف من الشريك والأقارب والأصدقاء, وفي معظم الحروب والأزمات تصبح النساء هدفًا للعنف. ورغم الاصلاحات القانونية الكثيرة في مصلحة النساء, إلا أن المرأة ما زالت هي الضحية, ويقتضي ذلك تفعيل قوانين حماية المرأة بشكل أكبر.

المصدر:

https://plato.stanford.edu/entries/feminism-law/

متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟

تعتبر الفوتوغرافيا حضورًا للنفس بوصفها آخر ،أي هي انفصال مراوغ للوعي بالهوية[1]. ويعد فعل أن أرى نفسي -غير النظر في المرآة- فعلا حديثًا بالمقياس التاريخي. ففي الماضي كان رؤية الشخص لجسده أمامه شيء من الهلوسة، وهذا الانزعاج ناتج من رؤية المرء نفسه على ورقة. ويفسر الفيلسوف رولان بارت* ذلك باختلال الملكية، إذ حولت الفوتوغرافيا الذات إلى موضوع[2]. وفي هذه المقالة سنجيب عن عدة أسئلة حول صورة السلفي، من أهمها متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟ وكيف يتم تسويق الذات من خلالها؟

مفهوم السلفي


ذكر قاموس Oxford أن كلمة “سلفي” تعني الصورة التي يلتقطها الفرد لنفسه، بهاتف ذكي أو بواسطة كاميرا النت ويتم نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي[3]. ومع انتشار الهواتف الذكية، أصبحت الصورة الذاتية الرقمية selfie ذات تأثيرات تواصلية اجتماعية. ويعتبر توجيه الكاميرا إلى الذات والتقاط صورة شخصية، نوعا من أنواع أنشطة التواصل الاجتماعي وأكثرها بروزًا. وعلى عكس البورتريه الذي يستغرق وقتًا لرسمه بإتقان، فصورة السلفي لا تتطلب تقنيات معقدة ولا روحًا فنية.


وقد انتشرت صور السلفي بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي بسرعة، مما جعلها ظاهرة منتشرة في العالم فعالمنا اليوم مليء بالسلفي. وتعد الصورة الذاتية وسيلة لجذب انتباه شخص ما بصريًا، ومحاكاة للتفاعل وجهًا لوجه. وليكون الفرد موجودًا وجب عليه إنتاج هذه الصورة بشكل مستمر، وعرضها من خلال الشبكة. والحصول على الإعجاب والشعبية هي المكافأة النهائية، وبالتالي هي وسيلة لإسقاط آراء الآخرين على الذات.
تعتبر صورة السلفي وسيلة للتواصل والرؤيا والعرض بوصفها منتجًا. ومن الممكن أن تكون إضاعة للوقت، أو عمل عشوائي يتمحور حول الذات من خلال بعض التأملات اللحظية لها. وأخيرًا وسيلة ليرى الآخرون الفرد داخل الشبكات الاجتماعية، وبالتالي الحصول على المصادقة منهم.

الوجه بورنوغرافيًا


في عالمنا السريع اليوم وتحت تأثير الاستهلاك المتزايد، لا شيء يدوم،” إنه زمن الاستهلاك الذي لا يشبع أبدا”[4] . وغدت الصورة الأكثر استهلاكا على الإطلاق، مجتمعاتنا تستهلك صورا أكثر من الأفكار. و ربما يكون مجتمع اليوم أكثر تحررًا وأقل تعصبًا، ولكن بذات الوقت هو أقل أصالة. وهذا “ترجمة للوعي السائد بالاعتراف بتأثير الضجر المثير للغثيان، كما لو أن الصورة بتعميمها، أنتجت عالما بلا اختلافات”[5].
وضمن ذلك اسُتحدثت قيمة جديدة وهي انبثاق الخاص داخل العام؛ أي الإعلان عن الخاص. فيصبح الخاص مستهلكا ضمن قيمة العرض بوصفه سلعة. ويستعير الفيلسوف بيونغ شول هان لفظة بورنوغرافيا ليصف فيها أي عميلة عرض أو انكشاف للمجال الخاص داخل المجال العام. أي كونها وسيلة للغوص في أعماق الذات البشرية ووضعها في أشكال علنية[6].
وتصبح الصور شفافة عندما تتحرر من كل نزعة تربطها بالمشهد المسرحي أو الرقص أو التصوير، عندما تتحرر من أي عمل تأويلي، ومن أي معنى على الإطلاق تغدو أكثر التصقًا بالبورنوغرافيا، التي هي عبارة عن اتصال سطحي بين الصورة والعين”[7].

السرية والتعرية في صورة السلفي


متى يصبح الوجه بورنوغرافيًا؟ قد يتساءل القارئ عن الرابط بين البورنوغرافيا (الإباحية) وصورة السلفي. ويجيب الفيلسوف جان بودريار على ذلك، فيقول: “الصورة عن قرب للوجه هي نوع من الفحش كما لو أنك قد نظرة إلى أحد الأعضاء الجنسية من مسافة قريبة. إنه يغدو عضوًا جنسيا. أي صورة أي شكل، أي جزء من الجسم يُحدق فيه من مسافة قريبة يتحول إلى عضو جنسي”[8].
ولا يوجد أكثر من تجانس الصور الإباحية، هي دائمًا صورة ساذجة، لا مقصد لها ولا حسابات. مثل واجهة زجاجية لا تعرض ولا تكشف سوى جوهرة وحيدة واجهة مخصصة بالكاملة لشيء وحيد، الجنس ولا يوجد موضوع آخر[9]. أليست صورة السلفي وسيلة عرض للوجه الإنساني فقط عبر الشاشة واجهة مخصصة للتحديق بها من مسافة قريبة؟
الجسم اليوم غدا مجموعة بيانات، وفي الوقت نفسه يتم تفكيكه لأشياء جزئية تشبه الأعضاء التناسلية، تشغله الشبكة الرقمية. يقول هان:” في عالم اليوم الجسم في أزمة. حيث لا ينحل فقط إلى مجرد أعضاء بورنوغرافية، ولكن إلى مجموعة من البيانات الرقمية”[10].
ويضيف آغامبين: “الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفصح عنه الوجه الجميل، وهو يكشف عن عريه مبتسما. هو هل تريد أن تشاهد سري؟ هل ترغب بالكشف عن ما هو مستور؟ فلتنظر جيدا إذا ما دام ذلك في استطاعتك”[11]. فالوجه المعروض ليغازل المستهلك يفتقر إلى قيمة السمو. الوجه يعرض دون أي سر لا يخفي شيء ولا يعبر عن شيء، ولا يظهر شيء غير عرض ذاته. ومن هنا اختزال الوجه بقيمة العرض تمنحه صفة بورنوغرافية، “فالوجه الذي يتم تعبئته بقيمة العرض لكي يصل إلى نقطة الانفجار هو وجه بورنوغرافي”[12].
ولا يتضمن الوجود العاري للذات أي قيمة إذا ظل على الهيئة التي هو عليها. بقد ما يكون له قيمة وشأن داخل قيمة العرض، أي توجيه الانتباه إلى ما يتم إنتاجه. وهنا السلفي هي إعادة إنتاج للذات داخل قيمة العرض. وفي عصر تطورت فيه آليات التقاط الصور وتعديلها وفلترتها، لتكون واجهة الذات أمام الآخر.

صورة السلفي كانعكاس للذات عند بيونغ شول هان


يطرح الفيلسوف بيونغ تشول هان في كتابه “خلاص الجمال” موضوع صورة السلفي تحت عنوان الجسد الناعم، فيعتقد أن الصورة المقربة للوجه تعكس مجتمعا غدا منغلقا على نفسه. فالوجه أصبح محاصرا داخل نفسه ويغدو مرجعًا ذاتيًا لها وبذلك لم يعد معبرًا ويفتقد للعمق والجوهر والنظرة الذاتية.
ويشير أن التقاط صورة السلفي ناتج عن الفراغ الداخلي للأنا المعاصرة. فيراها فقيرة للغاية، فصورة السلفي “هي على وجه الدقة وجه فارغ بلا تعبير” [13]. كما ويؤكد أن إدمان التقاط الصور ناتج عن فكرة ” اليوم لا شيء يدوم”، وهذا يؤثر على الأنا ويزعزع استقرارها في مواجهة الفراغ الداخلي للأنا المعاصرة، ويضعها في حالة عدم الأمان. وبالتالي النفس تصبح مشتتة ولا تستقر ولا تشعر بالراحة. وهذا الفراغ الداخلي يدفع الذات إلى إعادة إنتاج نفسها من خلال صورة السلفي. وبالتالي صورة السلفي صورة فارغة للنفس ، أي استنساخ للفراغ.

وظيفة الصورة


من منا يستطيع إحصاء عدد صور السلفي التي نراها، ونحن نتنقل بين صفحات التواصل الاجتماعي. ومن منا لا يملك تصنيفًا ونظرة خاصة لها، نظرتنا للجمال، ذوقنا الخاص، اندهاش، افتتان، إعجاب، اشتهاء أو حتى نفور ولامبالاة. صورة السلفي صورة هشة هامدة، ملساء لا تقع إلا في مجال الحقل الرحب للرغبة الفاترة. كما أنها تثير الإعجاب أو الانجذاب، لكن لا يمكنها النفاذ إلى المتلقي لتثير شغفه. اهتمام المتلقي بها كالاهتمام بعروض، وملابس، وكتب، قد يجدهم جيدين.
ما الغاية من الصورة؟ قد يطرح المتلقي هذا السؤال بوصفه مستهلكا، تسمح الصورة لمتلقيها بمعرفة مقاصد ملتقطها، وتخلق حالة من التوفيق بين المجتمع والصورة عن طرق تخصيص وظائف لها، يقول بارت: ” الصورة خطرة” فوظيفتها تمثل عذرا للمصور. ومن هذه الوظائف: الإبلاغ، التمثيل، المفاجأة، التدليل، إثارة الرغبة[14]، كل ذلك دون إحداث أثر عميق بالنفس.
الصورة دائما عرض لشيء ما، وصورة السلفي تقدم عرضًا حصريًا للوجه. وقد يلاحظ المتلقي شكل الأسنان العينين، الشفتين، شكل الأنف، نظرة واحدة تكفي لكل ذلك، بل تكفي لمعرفة الفلاتر الموضوعة للصور، أو التغيرات التجميلية على الوجه، وبذلك تثير الصورة الاهتمام السطحي، ولا تتجاوز نفسها ولا تفصح عن شيء.

السلفي كصورة متوحدة


و تدخل صورة السلفي ضمن ما سماه بارت الصورة الفوتوغرافية المتوحدة. ويعد هذا النوع من الصور الأكثر انتشارًا في العالم الصورة العادية، فيقول بارت: “تكون الصورة متوحدة عندما تحول توكيدًا الواقع دون انشطاره، ودون زعزعته، التوكيد هو قوة تماسك لا ازدواجية ولا التفاف ولا تشويش. الصورة المتوحدة لديها كل ما يجعلها عادية”[15].
تضيف إلزا غودار أننا اليوم انتقلنا من عالم كانت الصورة فيه تسجل ما هو موجود. إلى عالم تتكاثر فيه الصور بلا جدوى، ويتعلق الامر بصورة هشة وعائمة صورة ملتقطة بسرعة، إنها صور لن تكون أبدا حقيقية. فبرمجيات التحسين والتصحيح وإضافة اللمسات مودعة في الآلة الفوتوغرافية نفسها، فلم تعد الصورة تنقل واقعا ، بل تغيره باستمرار. وهي صور هشة، لحظات عابرة، ومضات ليس لديها الوقت لتفكر في الواقع أو تقوم باستعادته[16]، وبذلك تكون خارجة من المعنى.

تسويق الوجه


تعتبر صورة السلفي إعلانًا فعالًا عن الذات (أيّ تسويق ذاتي- selfbranding). يستطيع الفرد من خلالها تقديم ذاته كموضوع للعرض والتداول في مجتمع الاستهلاك. كلما زاد الإعجاب زاد تقدير الذات وتضخم، وزادت الثقة بالنفس واحترام الذات. ومن هذه الزاوية يمكن النظر إلى فعل السلفي بوصف الشخص الذي يلتقط الكثير من السلفيات يفتقر إلى الثقة بالنفس.
ويعمل على طمأنة نفسه بالتقاط صورة سلفي جميلة كمرجع مصور لذاته يعيد إليه شيئًا من احترام الذات. من خلال ما يحصده من إعجاب. وبما أن الذات ليست مطمئنة في وجودها الخاص، فإنها ستظل تنتظر تأكيدها من خلال البحث عن أكبر قدر من التقدير لنفسها في تكاثر اللايكات[17]. يؤكد عصر الفيس بوك والفوتوشوب أن الوجه البشري أصبح مساويًا فقط لقيمة العرض، الوجه مجرد عرض على الشاشة منزوع من هالته، سلعة على شكل وجه إنسان[18].

الصورة بوصفها موتًا


كل من يلتقط صورة اليوم يكافح بكل الأساليب لتصبح الصورة موتا. ألا يشعر من يلتقط صورة لنفسه أن ذاته تصبح موضوعًا، في لحظة واحدة تتحنط ويقف الزمن وتغدو صورة. ناهيك عن ما يلحق بها من تبعات لتغدو أجمل، خاصة الفلاتر لتغدو الصورة محنطة بشكل مثالي. ولا يتوقف الأمر هنا، بل وينتظر صاحب الصورة رأي المجتمع بها، متناسيًا أنه لم يصبح إلا صورة(منتج). ماذا يفعل المجتمع بالصور؟ ما يقرأ منها؟ كيف يقرأون الوجوه؟ خاصة بعد انتشار السلفي كظاهرة. يقول بارت: “ولكن حين أظهر على منتج العملية – يقصد عملية التصوير- ما أراه أنني لم أصبح إلا صورة. بما يعني الموت نفسه، الآخرون يجردونني من نفسي، يشيِّئونني بضراوة، يبقونني تحت رحمتهم، رهن إشارتهم. يصفونني في مدونتهم استعدادًا لجميع الخدع الغامضة”[19].
يشير بارت أن الصورة لا يمكن تحويلها إلا إلى نفاية، حتى لوكان على مواد صلبة (كالشاشة مثلًا). فما أن يتخذ المرء وضعية السلفي ويلتقط صورة للعامة، تصبح على الشاشة مستهلكة. يشبه بارت الصورة بالكائن الحي تولد تتفتح ثمّ تشيخ[20]، والصورة التي لا تملك أثرا تكون أبعد ما يكون عن الديمومة.

عليك أن تحدث نفسك باستمرار أو بتعبير آخر إعادة إنتاج مستمرة للذات. واحد هذه الطرق تقديم صورة تجعلك موضوعا حاضرا على الشاشة، وإعادة الفعل نفسه مرارًا. وحتى لو كانت الصورة على الشاشة فهي قابلة للزوال حينما تصبح مستهلة.
وفي الختام “لم يعد للكلمات أي شأن، إن العالم يُكتب بالصور” [21]. الذي يتكلم اليوم هو الآنية في هذه اللحظة الثابتة حول ملايين البكسيلات، الملتقطة بنظرة واحدة، إنها تتكلم عن الحياة والموت والأحاسيس والانفعالات، لقد حُصر قياس حجم العواطف في تأويل جاهز للرؤية. وبالتالي حل مجتمع الصورة الهشة محل الخطاب العقلاني.

المراجع


*- رولان بارت: فيلسوف فرنسي وناقد أدبي، ومنظر اجتماعي، غطت أعماله عدة مجالات فكرية عديدة، وأثر في تطور مدارس عديدة كالبنيوية والماركسية والوجودية.
1- بارت، رولان، الغرفة المضيئة (تأملات في الفوتوغرافيا)، ترجمة: هالة نمر، ط1، المركز القومي للترجمة، 2020م، ص16.
2- المرجع السابق، ص 17.
3- أحمد، رحاب يحيى(2019)،سلوك نشر صورة السلفي على مواقع التواصل وعلاقته ببعض اضطرابات الشخصية، دراسات تربوية ونفسية، ع(104)، ج2، ص ٨٦.

https://sec.journals.ekb.eg/article_81169.html


4- غودار، إلزا، أنا أوسلفي إذن أنا موجود، ترجمة: سعيد بنكراد، ط1، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2019م، ص83.
5- بارت، ص108.
6- هان، بيونغ شول، خلاص الجمال، ترجمة: بدر الديم مصطفى، ط1، دار معنى للنشر والتوزيع، 2020م، ص20.
7- هان، بيونغ شول، مجتمع الشفافية، ترجمة: بدر الديم مصطفى، ط1، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، 2019، ص15.
8- هان، خلاص الجمال، ص21.
9- بارت، ص42.
10- هان، مجتمع الشفافية
11- هان، مجتمع الشفافية، ص51.
12- المرجع السابق
13- هان، خلاص الجمال، ص22.
14- بارت، ص12.
15- المرجع السابق، ص41.
16- غودار، ص63.
17- المرجع السابق، ص80/86.
18- هان، مجتمع الشفافية، ص31.
19- بارت، ص 18.
20- بارت، ص86.
21- غودار، ص60.

وكأنك قرأت: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود لإلزا غودار

وكأنك قرأت: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود لإلزا غودار:

ما يجعل من هذا الكتاب مهمًا هو كونه يقدم فلسفة حية، فلسفة لا تتناول قضايا النخبة الكلاسيكية، إنما تتناول قضايا تخص كل فرد منا. ثمة هناك الكثير من الأدبيات التي توقفت عند قضايا التكنولوجيا وعلاقتها بالمشكلات الفلسفية والنفسية والإجتماعية، لكن هذا الكتاب يختلف. كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود لإلزا غودار الفيلسوفة الفرنسية، يناقش تأثير السيلفي على فهمنا لأنفسنا وللآخر. فهذا التأثير يتعدى مجرد ظهوره في قضايا الإدمان الرقمي أو العلاقات الإجتماعية، تكتشف وتحلل غودار هذا التأثير في عمق كينونتنا. السيلفي، الذي نعتبره مجرد مشاركة لحظة مرئية مع الآخرين بغرض التواصل، له أبعاد أعمق، وله تأثيرات مزعجة على الرابط الإنساني.

الإنسانية 2.0:

الثورة التكنولوجية أحدثت ما يشبه هوة بين عالمنا الحالي والعالم ما قبل التكنولوجي، كأنهما عالمان لا صلة بينهما. سابقًا، كان ثمة هناك وسيط بين الحدث والمتلقي، أما الآن فكل شخص يعد وسيطًا لنقل المعلومة/الخبر/الحدث. كما أن الفرق بين الواقعي والافتراضي قد اختفى، لم يعد الثاني يكون ظلًا/محاكاة للأول، بل الأفتراضي صار متقدما في الأصالة على الواقعي. ظهرت الآن سلطة جديدة، سلطة مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي، صار لهم مريدين يضعون اللايكات ويؤثرون في توجهات الأفراد والجماعات. في الفضاء الافتراضي هذا، توارت الخصوصيات الفردية، فكل ما يخص الفرد ينتقل بين آلاف المتابعين دون حرج. لم يعد بإمكان المرء أن ينظر إلى صوره العائلية كملكية فردية، ولا حتى اخفاقاته وانتصاراته العاطفية والإيروسية. هذا وفضلًا عن ربط كل الأجهزة المنزلية بالوايفاي والتقدم الكبير في حقول صنع الروبوتات والكائنات السيبرانية.

سابقًا، كانت الجلسات العائلية ومواعيدنا مع الأصدقاء تعني حضورًا فيزيائيًا وشعوريًا، كنا ننتبه لأبسط التفاصيل ونعلق عليها. الآن، صار الآخر، مجرد رقمًا وحسابًا في مواقع التواصل، ونحن لا نتواصل مع الأشخاص أنفسهم إنما مع كلمات سطحية. فقد جسدنًا دوره في هذا التواصل، لذا حتى مشاعرنا ومشاعر الآخر فقدت قيمتها، فلم نعد نختبر ذلك الارتباك ونحن نقول للحبيب “أحبك”. ومن مظاهر هذه السطحية، الاختصارات واللغة الرديئة، فسابقًا كانت كتابة رسالة تأخذ منا وقتًا وجهدًا، لنعبر عما في داخلنا، أما الآن نختبر مشاعر مختلفة بشكل مزيف، فنقول لهذا/ه أحبك ونتحدث مع آخر عن السياسة وبين رسالة وأخرى نبحر في معلومات وأخبار مختلفة.

الشبكة الاجتماعية، فقدت دلالاتها القديمة، فهي الآن منصة لنقل الخبر دون تحليل وتؤدي إلى جو مشحون ومنفعل. تطلق غودارد على هذه الشبكة (نوكسس)، ففي القرن الخامس عشر كانت تعني العلاقة بين الله والإنسان، أما الآن حسب ميشال لويس هي خاصية تحريك الحشود وشدها إلى بعضها بعضًا في غياب العقل. نوكسس هذه شكلت رابطًا وهميًا بين الأشخاص، فهي لا تساهم في الإعلاء من الشأن الروابط الإنسانية إنما تمثل يوتوبيا سيبرانية. اليد وفقًا لأرسطو هي الامتداد الطبيعي للعقل والذكاء الإنسانيين. عصا سيلفي قد قضى على دور اليد، فاليد مجرد عضو مخلوق لحمل عصا السيلفي لخلق مسافة بين الذات والصورة.

الشاشة والنافذة:

لم نعد نختبر العالم من خلال النافذة بل عبر الشاشة، وهذه الشاشة قد غيرت علاقتنا مع كل من الزمان والمكان. فالهاتف الذكي، قد وضع المكان والفضاء في نقطة واحدة “هنا والآن” فهو يجعلنا متصلين في كل لحظة. لم يعد الزمن، يعني الماضي والمستقبل والحاضر، ولا المكان يحتفظ بدلالات الحدود والهنات المختلفة، فكل شيء ينبض في نقطة “هنا والآن”. هذه النقطة تشكل بعدًا فوقيًا، نقطة فوق كل اعتبار، تحضن قوة جبارة لا يمكن السيطرة عليها، وماتت فيها ما كنا نسميه بالحداثة. في هذا الانتصار المطلق للحاضر تلاشت كل الآمال الثورية بالمستقبل لصالح لذة وأغواء الحاضر، وبالتالي القلق والخوف.

في نهاية السبعينات، بين فرانسوا ليوتار بأن قضايا التواصل التي تُطرح الآن فلسفيًا لا علاقة لها بالتناول الكلاسيكي لهذه القضية. كما يبين ليوتار بأن التقدم التقني الحالي يستدعي إعادة تعريف علاقاتنا مع المجموعة والعيش المشترك. إن الزمن أنتهى حسب غودار، أما الزمن الحالي هو زمن المباشر المتصل الذي فقد كل صلاته بالزمن المعروف، بل ويختلف حتى عن الزمن النفسي الذي اشار إليه بيرغسون. كما صار الزمن بعدًا واحدًا، فأننا نعيش في مكان ذات بعدين وحسب، ذلك لأنه تلاشى معنى البعيد والقريب والفوق والتحت، هو مكان أفقي وحسب. الوجود الجديد لكل من الزمان والمكان سيغير فهمنا للتاريخ نفسه واللغة نفسها.

كما بين ليوتار دور الثقافة الإثنية بوصفها ذاكرة المعلومة، وكيف أن هذه الثقافات قد أعطت المعنى للمعلومة في سياق المحكيات التاريخية والأساطير. على سبيل المثال، لكل ثقافة تعريف لفكرة الزمن ولظاهرتي الكسوف والخسوف، لكن التكنولوجيا قضت على الثقافات وبالتالي نظم خلق المعنى. أدت نفوذ الآلة إلى همجية جديدة وأمية جديدة وتقليل من شأن اللغة وروح بلا عمق. حلت الصورة مكان الكلمة وبالتالي حل التلقي العاطفي والحسي محل اللوغوس والتفكير المنطقي في تناول المعلومة المنتشرة. بل وأن الصورة قد حلت بديلًا للكائن نفسه، والصور التي تنشر عن الواقع هي صور معدلة تفقد كل صلتها بالواقع.

الكوجيتو الرقمي:

الكوجيتو الديكارتي تعد من أكثر السرديات الفلسفية شهرة. يربط هذا المفهوم بين الفرد والوجود، ومن جهة أخرى هو الجزء الأكثر أصالة في التجربة المعرفية والإدراكية. وحده فرويد قد قام بتقويض هذه السردية ذلك من خلال سحب معظم سلطات ونفوذ الأنا لصالح الخبرات والدوافع اللاواعية. يمكن النظر إلى فينومينولوجيا هوسرل بأنها محاولة لإعادة الإعتبار للأنا في اختبار وتلقي وفهم الموضوعات/الظواهر بعد الرد الترسندنتالي. فضلًا عن كونه شرطًا للمعرفة والإدراك فالأنا إشارة إلى الهوية وسببًأ للأفعال، الأنا يعرف ويعمل. الثورة الرقمية، وفقًا لإلزا غودار، غير من مضمون الأنا، بسبب الإبدالات الجديدة ودور الذي تلعبه الشاشة. الأنا، إذا كانت فيما مضى يُنظر إليه من الداخل، بات الآن يبرز من الخارج في الشاشة.

في قلب الثورة الرقمية، تحول الأنا إلى علامة تجارية ومنتجًا للتداول في السوق في ظاهرة تسميها غودار بالتسويق الذاتي. هذا الأنا الذي ترفعه لنا السمارتفون تحول أيضًا إلى أيقونة يقف أمامها الناس وقفة تقديسية لدرجة أن هذه الصور تظهر وجوهًا وكأنها لا تعود إلى وجه بشري. هذا الأنا الذي تقدمه الأدولون/صورة السيلفي هو أنا غريب، محايث وموازي. الوجوه السيلفوية المنتشرة في الفضاءات السيبرانية كإنستغرام تبدو كأنها هي الوجه الحقيقي والمعياري بينما الواقعي نفسه هو اللاحقيقي. هذا الاحتفاء المفرط بالأنا في السيلفي، حسب تحليل غودار، يساعد في ملء فراغ نرجسي والشعور بالطمأنينة.

إذا كان كوجيتو الديكارتي تؤكد على وجود الأنا بمنأى عن رأي الآخرين، فأن الكوجيتو السيلفوي إشارة إلى الشك في وجوده والحاجة إلى تأكيده من قبل الآخرين. عند جاك لاكان، تتشكل الذات قبل ولادتها الحقيقية في خطاب والدي الطفل، أي أن الذات تتشكل في خطاب الآخر. إن الطفل يصور نفسه استنادًا إلى الصورة المقدمة من قبل الوالدين إلى أن يكتشف نفسه في المرآة ويتعرف على ذاته. الذات في مرحلة السيلفي، متوترة وقلقة، دائما هناك حاجة إلى الوسيط الجديد، أي الشاشة، لتعي نفسها وتطمئن على وجودها من خلال المشاهدات واللايكات.

السيلفي والرابط الإنساني:

وفقًا لليفيناس، فأن اللقاء يتحقق مع الآخر عبر “الوجه” الذي يجسد الوحدة الإنسانية كلها. الآخر الذي يحضر أمامي يتجاوز الفكرة التي كونتها عنه، وفي هذا الحضور نتعلم المبدأ الأكبر في إقامة المجتمع الذي هو عدم الإقصاء، أي لا تقتل. بيد أن الآخر الذي يظهر في الشاشة هو أسيرها ومنغلق على نفسه في موضوعية ثابتة. إن الشاشة تبني جدارًا من اللامرئي والبرودة بيننا وبين الآخر، لدرجة أن الآخر يتحول إلى موضوع في الموضوع. الإندفاع الإنسانوي يتلاشى أمام الشاشة، كما تتلاشى الرغبة في الاستمتاع بحضور الآخر اللحمي خلف الشاشة. حضور الآخر في الشاشة هو شيء يمكن إقصاءه، قتله رمزيًا، فعكس الحضور اللحمي للآخر الذي لا نتجرأ إلغاءه بسهولة، فيمكننا بكبسة زر أن نغلق الشاشة ونلغي حضوره. تقول غودار، بأن الحوار مع الآخر يستدعي التبادل والشعور بالمسؤولية والإعتراف بوجوده، بيد أن الإعتراف بالآخر اليوم يكون من خلال حوار بلا تبادل وهو قائم على التفاعل على صور السيلفي في غياب أي رابط حقيقي.

تستعرض غودار الشهرة غير المسبوقة التي يمكن لأي شخص الحصول عليه، فالصورة التي تُنشر يراها عدد كبير من الناس، ويمكن لأتفه الأمور أن تتحول إلى تريند، ليس هذا هذا وحسب، بل بعض أكثر الممارسات السطحية تجعل من شخص ما نجمًا ويحصل على ثروة ضخمة. تسلط غودار الضوء على انتشار السيلفي بين النخبة، وهذا ما يجعل الجمهور يقول “ها هو أوباما يلتقط سيلفي فهو مثلنا.

جيل Z والإيروس الرقمي:

هذا الجيل هو الذي ولد بعد 1995، لم يعيشوا تجارب القرن العشرين، بل ولدوا في في قلب الثورة السيبرانية. إن السيلفي بالنسبة للمراهقين هو تعبير عن غريزة الحياة، إيروس. كما أن السيلفي تجلي من تجليات المجتمع يبحث من خلال فعل لعبي عن إعادة الإتصال مع قيم المتعة والمشاركة. فالسيلفي هو لعبة أيضًا ووسيلة للتواصل مع الآخرين، فهو إيروس في لحظة الفعل. السيلفي الذي يُنشر، يستهدف الكوكب كله وفيه شيء من الاستعراض والتلصص. حلت الصورة محل المتخيل فهي بلا لغة أو لوغوس، في حين أن المتخيل يستدعي وجود اللوغوس. كما يمكن النظر إلى السيلفي بأنه “نداء” فهو يساعد على الظهور أمام الآخر وكأنه يستدعيه، يمكن للسيلفي أن يكون نداء الحب، أو نقص نطولوجي لكن بما إنه لا يعبر سوى عن جزء من أنواتنا فلا يمكننا أن نتمثل أمام الآخر كاملين. ويعبر السيلفي عن النقص الذي نحس به أن نكون أفرادًا، وعجزنا عن إيجاد معنى للرابط العميق مع الآخر.

المتلقي يلعب دور القاضي، فهو من خلال اللايكات يقرر دعم أو تميش نرجسية الفرد. ما يثير اهتمام المتلقي بالسيلفي هو الدخول إلى الحميمية مع الآخر، هذه الحميمية المستحيلة. تقول غودار بأن الالتذاذ حاضر بقوة في السيلفي، فهو التذاذ نرجسي ولعبي وجمالي والتذاذ استمنائي أيضًا. عدد اللايكات المتزايد يجعل الفرد في نشوة إيروسية، ففعل السيلفي، فعل استمنائي خالص. ما يجعل من هذا الالتذاذ الإيروسي غريبًا، هو أنه يتم بمنأى عن الآخر، هذا ما يجعل جيل z يكفر بكل أشكال الحب. فالآخر في اللحظة الإيروسية مُلغي تماما، فأنا لا أريد أن يراني الآخر، بل أريد أن أرى نفسي من خلاله، عند الآخر أنا بحاجة لأن أرى وأسمع نفسي، فالآخر ملغي انطولوجيًا في هذه التجربة.

الأخلاق، الموت والعزلة:

السيلفيات ليست مجرد صور عادية وعفوية، بل أنها تضع الكثير من القيم الأخلاقية في مأزق تأويلي. كثيرا ما تتلاشى الحدود بين الخير والشر، الجميل والسوقي، واللباقة والوقاحة في فعل السيلفي. نصادف الكثير من السيلفيات قد ألتقطت بجانب جثة، أو بجانب شخص بلا مأوى أو يظهر فيها مريضًا في لحظاته الأخيرة. السيلفي لا يراعي الاعتبارات الأخلاقية لدرجة يضع الشخص في مسافة دقيقة بين الحالة السوية والمرضية، كما يسلب منه ملكة الحكم. من جانب آخر، فأن السيلفي، أحيانًا، ينقص من كرامة الفرد وذلك بجعله مادة للسخرية أمام آلاف المستخدمين في الشبكة العنكبوتبة.

ساعد السيلفي على خلق فردية مرضية فائقة، بحيث أن المرء في فوضى الشبكات يبحث عن تأكيد الذات من خلال تفاعل الآخر، كما يبحث عن نصفه الثاني بين عدد كبير من الأشخاص الافتراضيين. هذه الحالة من “انتظار ما لن يأتي” يضع المرء في عزلة مطلقة نظرًا إلى هشاشة التواصل الافتراضي مع الآخر.

تستحضر غودار، مفهوم الموت في عالم الخلود الرقمي. فالألعاب الرقمية جعلتنا أن نختبر الموت بطريقة قريبة من الواقع، ففي الألعاب نمارس قتل الشخوص الرقمية ونموت أيضا فيها رقميًا.  كما أن هذا القتل والموت الرقمي يظهران في تواصلنا الافتراضي، فكل حالة إلغاء الصداقة بمثابة قتل أو إلغاء أنطولوجي. عندما نفقد صداقة شخص ما في فيسبوك، لا نشعر فقط بأنه لم يعد معنا، بل نشعر بتعطيل التواصل الأنطولوجي بيننا. كما هناك موت هناك نوع من الخلود، فالشخص الذي يموت واقعيًا تظل حساباته في المتناول، يمكننا أن نرسل له “صباح الخير” أو نعلق على منشوراته، فهو بذلك قد تجاوز الموت رقميًا.

السيلفي، والجمال والفن:

تتسائل غودار إذا كان من الممكن أن نعتبر السيلفي فنًا، وأن يمدنا بإنفعال ما كما تفعل قطعة موسيقية أو لوحة فنية. وفقًا لغودار فأن السيلفي يخلو من القيم الفنية، فصورة السيلفي لا تُعرض من رغبة فنية بل من زاوية نفعية وهذا يعارض مفهوم العمل الفني الذي يوجد لذاته. ومن جانب آخر فأن السيلفي يخلو من الإبداع نظرًا لكونه شيئا قابلا للتكرار بواسطة الآلة، بينما العمل الفني يتمسك بفرادته. والمزعج في السيلفي والذي يفصله تمامًا عن الفن هو كونه خدعة، ذلك لأنه يسعى إلى تقديم الذات في مظهر بعينه. السيلفي يخدع المشاهد دون أن يستثير فيه أي انفعال جمالي أو فني.

إقر أيضًا وكأنك قرأت: الأزمنة السائلة لزيجمونت باومان

ميلاد الذات:

الثورات الثقافية والجمالية وغيرها أحدثت تحولات جذرية في مفهوم الأنا، لذا علينا الآن أن نأخذ بعين الإعتبار الثورة الرقمية. فالأنا الرقمية تعني أن كينونتنا أمام تحولات وتحديات جديدة ومختلفة، لذا ثمة هناك حاجة الآن إلى الإستعانة بفلسفة أخلاقية جديدة. الذات الافتراضية تشكل الآن تحديًا للذات الواقعية، فالذات المافوق حداثية تجمع بين أنا واعية ولا شعور وذات رقمية، أي أن الافتراضي لم يعد ينفصل عن الذات. فقد الإنسان عمقه الذي يجسده الرابط الإنساني الواقعي، نشعر دائما بأننا قد فقدنا شيئا لا يمكن تعويضه. علينا أن نقبل الواقع الجديد الذي تغيرنا فيه فيزيقيًا وواجتماعيًا ونفسيًا وثقافيًا، لكن علينا أن نعيد تأسيس الرابط مع الآخر. تقترح غودار، لحل هذه الأزمة:

  • العودة إلى الحكمة القديمة والتنوير لتأسيس عقد اجتماعي جديد.
  • إعادة تعريف الإنسان مع الأخذ بعين الاعتبار التكنولوجيات الجديدة.
  • تحديد قيم جديدة قائمة على دراسة الإنسانية 2.0 وكذلك إعادة تعريف الديمقراطية والسياسة.

المصدر:

إلزا غودار، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، ترجمة سعيد بنغراد، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى 2019.

وكأنك قرأت: الأزمنة السائلة لزيجمونت باومان

وكأنك قرأت: الأزمنة السائلة لزيجمونت باومان

في كتابه الأزمنة السائلة، يقوم زيغمونت باومان بإثارة قضايا جديدة تخص اللايقين الذي يغزو الوجود الإنساني. فوفقًا لباومان فأن حياة الفرد في العالم المتقدم تواجه تحديات كثيرة، ذلك بسبب سلسلة من التحولات الجوهرية والمتداخلة في صلب الحياة نفسها. وهذه التحولات هي:

  • تحول الحداثة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة. حيث أن الأشكال الاجتماعية والمؤسسات غير قادرة على الصمود أمام إرادة الزمن في التغيير.
  • الانفصال بين السلطة والسياسة: فأن الفضاء العولمي قد استحوذ على جزء كبير من سلطة الدولة. أما بالنسبة للسياسة، فهي تخلت عن السرديات العالمية لصالح الحاجة المحلية.
  • أفول معنى المجتمع لصالح شبكات الاتصال والانفصال: ما عادت الدولة تعبر عن هوية اجتماعية، وغابت فيها كل أشكال التعاون الجماعي، وصار الفرد يعاني وحده داخل مصفوفة من تغيرات لا نهائية.
  • انهيار التفكير والتخطيط والفعل طويل الأجل.
  • فردنة المسؤولية الأخلاقية ومسؤولية اتخاذ القرارات وحل المشكلات.

مجتمع مفتوح وبائس:

الفيلسوف النمساوي كارل بوبر كان قد سك مفهوم (المجتمع المفتوح) كنموذح للمجتمع المستقبلي الذي تسود فيه قيم الديمقراطية والتسامح وتقبل المختلف. يقابله (المجتمع المغلق) الذي يتميز بالتخلف والتعصب والعنصرية وعدم تقبل ما هو مغاير. يرى زيجمونت باومان أن المجتمعات صارت مفتوحة ماديًا وفكريًا بفعل العولمة السلبية. بوبر الليبرالي كان ينظر إلى الانفتاح كنوع من التقدم الذاتي للمجتمع من خلال مراجعات نقدية إرادية للموروث الثقافي وأشكال العيش والوجود. بيد أن باومان ينظر إلى الانفتاح الذي صار واقعًا على المجتمعات كانفتاح قسري بسبب الانتقال السريع للمعلومات والانتقال الحر للسلع ورأس المال. فالمجتمعات المختلفة في أفريقيا والعالم الثالث لم تختار انفتاحها، بل وجدت نفسها تحت رحمة قوة السلعة ورأس المال. فهي مجتمعات تعاني من التبعية والبؤس وتواجه قوى لا يمكنها السيطرة عليها ولا حتى فهمها. لذلك، فأن اختراق الع

ولمة السلبية  للحدود الثقافية والسيادية للدول/المجتمعات أدى إلى آثار جانبية خطيرة كالقوموية، والتعصب الديني، والفاشية والإرهاب. فالظلم حسب رأي باومان يأتي من السوق الحر وباقي أفرازات الرأسمالية.

سلعنة القلق الوجودي:

إن القلق هو سمة أصيلة لكينونة الإنسان، فوفقًا لهايدغر فأن هذا القلق يجعل من كينونة الإنسان ذات طابع متميز. أما علم النفس التطوري يؤكد وجود هذا القلق كشعور مكتسب من الأسلاف البعيدين. هذا القلق الوجودي أو التطوري، صار فضاءًا للسلعة وسوقًا مريحًا لرأس المال. فهذا الخوف صار يكتسب طاقته من الداخل وينمو ويتوالد ومن ثم يدفع بالإنسان للقيام بفعل دفاعي حتى يتسرب إلى أنشطته اليومية. فالتقدم الذي كان أملا عظيمًا بالمستقبل صار وحشًا. فمن مظاهر الحياة المتقدمة الآن هي العيش خلف الأسوار، استئجار الحراس، سيارات مصفحة، التدرب على فنون القتال. حيث أن مقاومة الخوف هذه تعد مولدًا للخوف.

لا تكل العولمة السلبية من تصدير مولدات الخوف، سواء من خلال صنع المزيد من الأسلحة ومن خلال خطابات صنع الخوف. فأحداث 11 سبتمبر على سبيل المثال، تم الترويج لها لبناء خطاب محاربة الإرهاب. ويقول باومان بأن الخطابات وكذلك ممارسات الدولة في محاربة الإرهاب تعد المولد الرئيسي لكل من الخوف الداخلي للفرد وتطور الإرهاب نفسه. “كان الساسة قد احتاجوا إلى إعادة إنتاج صدمة الأبراج المتساقطة بالتصوير البطيء لشهور حتى يتمكن الناس من فهم تلك الأخبار ومن تم استغلال قلق الناس الوجودي في خدمة الديباجات السياسية الجديدة”.

الدولة وإدارة الخوف:

وفقًا لفرويد فأن مصدر خوفنا يأتي من الطبيعة العليا التي لا يمكن السيطرة عليها نظرًا لضعفنا. أما الهوس الحالي بالأمن يعطي دلالات جديدة لذلك الشعور الأزلي، فصرنا نخاف من بعضنا البعض. يرجع باومان سبب هذه المخاوف السائلة إلى كل من التقدير المفرط للقيود المفروض من قبل الشبكة الاجتماعية ومن ثم إلى حرماننا من خدمات وحماية تلك الشبكة. الحداثة في مرحلة الصلابة كانت تقدم الأمن بطرق واضحة ومفهومة من خلال مؤسسات الرفاه (التعليم المدرسي، الإسكان، قوانين وواجبات الجميع…إلخ) فكان الخوف لا يأتي إلا من ضربات القدر كالحوادث.

بعد الحرب العالمية الثانية صارت الدولة تهتم بالسلامة والأمن الشخصيين لا أمن الجماعة. ففي عصر الاقطاعيات والملوك لم تكن قواعد الخوف والأمن مفهومة. فكان الملك هو ظل الله وهو من يقرر مسير الفرد دون وجود أسس موضوعية، إذ كان عصر اللايقين. ومن ثم ظهرت الاهتمامات العامة بالحقوق السياسية والملكية، وهذه الحقوق كانت تعطى للنخبة وكانت حجتهم في ذلك بأن الذي ليس له ملكية ليس له الحق في سن القوانين والتشريعات، فمن لا يملك شيئا ليس له الحق في الحريات السياسية.

بعد ذلك جاء نموذج دولة الرفاه ليؤكد على أن الحقوق السياسية هي شرط  شعور الفرد بأمنه الشخصي وأن الحقوق الإجتماعية تعطي المعنى للحقوق السياسية وتفعلها. حدث تحول خطير بعد ذلك، فالديمقراطية الحديثة انتقلت من تكييف المؤسسات والاجراءات السياسية مع الواقع الاجتماعي إلى توظيفها في إصلاح وتعديل الواقع الاجتماعي، ومن حفظ توازن القوى الاجتماعية إلى تغييره. نتيجة لهذا التحول ولدت المخاوف من تحرير السوق وسيرورة النزعة الفردية. وتفككت الروابط التي كانت تبدو ثابتة وأبدية لصالح روابط مصنوعة (كالاتحادات والنقابات والكيانات المؤقتة. في هذا العالم الجديد بدأ اللايقين يسيطر على الإنسان، فبدلا من التضامن الجماعي حل التنافس بين الأفراد. هكذا تحول المجتماعات إلى مجموعة من الأفراد، يتنافسون ويتعاملون مع بعضهم البعض كآخرين لا يربط بينهم أي رابط طبيعي.

المدينة والحضر:

سابقًا كان الحضر يعني مناطق مأهولة، في حين عُرفت المدينة بأنها مناطق ذات كثافة عالية تتميز بالتواصل والتفاعل. بدأت المدينة للفصل بين (نحن) و (الآخرين)، لذا تميزت أولى المدن بوجود أسوار عالية تفصل بين (نحن) و (هم)، بين النظام والفوضى، بين المدني والبربري. بيد أنه في يومنا هذا، صارت المدينة هي قلب الفوضى والأخطار ومكان الغرباء (الآخرين). ففي داخل المدن هناك أسوار جديدة، تفصل بين الطبقتي الدنيا والعليا، تعيش النخبة في مناطق ملائمة بينما باقي الناس يتم حشرهم في أحياء متواضعة وهم يمثلون رعبًا للنخبة. فضاء النخبة ينعم بالاتصال العولمي وبشبكة واسعة من التبادل والتعامل أما الفضاء المقابل فتسكنه شبكات محلية مقطوعة وفق الخلفية العرقية.

الهوية وهندسة الأسوار

كان السكان في المدن القديمة يحملون الهوية نفسها بقطع النظر عن الطبقات المتفاوتة، يقاتلون من أجل مدينتهم ويجدون فيها رمزًا لكرامتهم. المدن الحديثة تقسم بين فضائين، فضاء النخبة وفضاء البؤساء، كما أن لا تفصل بين هوية وأخرى إنما بين الهوية واللاهوية. ففي حين أن الأشخاص من الطبقات الدنيا لديهم حس هووي ومشاعر قوية تجاه الأرض/الوطن. فأن أبناء النخبة يقتصر وجودهم في المدينة في الجانب الفيزيائي وحسب، بالنسبة لهم تعد المدينة مجرد مكان، يمكنهم الانتقال إلى غيره، فكل مكان بالنسبة لهم هو مكان للاستراحة.

حسب باومان قأن فقدان النخبة شعورهم تجاه مدينتهم يعد من أهم سمات تحول المدينة الصلبة إلى السائلة. يشير باومان إلى العقارات المشتركة التي تبنيها النخبة في المدن ويشرح دلالاتها الهندسية. فمقابل أحياء ومناطق تعج بالفقر وشوار يعيش فيها المدمنين والمتسولين، ثمة عقارات مشيدة بالأسوار وأبراج مراقبلة وبوابات ذات حراسة تدقيقية عالية فضلا عن الخدمات الخيالية فيها، فكل ما في تلك العوالم الصغيرة تفصل بين سكانها وبين باقي الناس فيزيائيًا ووجوديًا.

غيبة اليوتوبيا:

في القرن السادس عشر، كتب الإنكليزي توماس مور كتاب يوتوبيا (Utopia) هذا المصطلح يشير ضمنيًا إلى كلمتين يونانيتين (eutopia= المكان السعيد) و (outopia= اللامكان). مع هذا القرن فقد الإنسان ثقته بالعالم بعد أن رأى فيه أشكال الفساد كلها. يأتي باومان بثلاثة أمثلة لتفسير حالة اليقين عند الإنسان في عصور مختلفة. فإنسان قبل القرن السادس عشر كان (حارس السيد). ذلك لأن حارس الصيد يحافظ على الأرض ويثق فيها بإعتبرها هبة من الله أو الطلبيعة. البستاني، يمثل إنسان ما بعد القرن السادس عشر. فهو لا يثق إلا بقدرته وعمله، يعتقد بأنه عليه أن يتدخل في شأن الطبيعة لجعلها أفضل. إنسان اليوم هو مثله مثل الصياد، يبحث هنا عن السمك، لا يهمه إذا ما افسد المكان فهو سيجد غيره

وفقًا لبومان فأن إنسان اليوم، كائن خائف، فريسة أخطار تأتي مثل صاعقة، لا يمكنه أن يتوقع أو حمي نفسه وما عليه إلا أن يعيش الخوف. هذا الإنسان يبحث دومًا عن يوتوبيا في خياله، أي عالم يمكنه الوثوق فيه. لا يتفق باومان مع اوسكار وايلد وآناتول فرانس، فالأول كانا يعتقدان بأن فكرة اليوتوبيا تحفز الإنسان للتقدم. بينما باومان يجد في هذه الفكرة كحيلة دفاعية، كما يربط بين اليوتوبيا والحداثة. كلاهما إشارة إلى أن العالم فيه خطأ ما وأن للإنسان قدرة تصحيحه.

أما إنسان ما بعد الحداثي، يأخذ فكرة يوتوبيا كمجرد طرفة خالية من أي معنى ذلك بسبب عجزه وكونه صياد محض. التحول الآخر الذي حدث في فكرة اليوتوبيا هي أن التقدم الذي يحلم به البشر لم يعد غايته بناء عالم آمن للجماعة، بل مجرد عالم يخدم طموح الفرد في البقاء. فعالم متقدم لا يعني أفضل مكان للعيش بل هو مهرب وحسب. إذا كانت اليوتوبيا تعني نهاية تاريخ الشقاء فالتقدم الرأسمالي هو كمثل الصياد الذي عليه أن يكدح إلى الأبد.

إقرأ أيضًا وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

المصدر:

زيجمونت باومان, الأزمنة السائلة العيش في زمن اللايقين, ترجمة حجاج أبو جبر, الطبعة الثانية, الشبكة العربية للأبحاث, بيروت 2019

مشكلات أخلاقية تنغص مستقبل تطبيقات المدن الذكية

هذه المقالة هي الجزء 16 من 18 في سلسلة كيف ستغير المدن الذكية من شكل عالمنا؟

تبذل الجهات الفاعلة في المدن الذكية جهودًا لتحسين جودة حياة السكان، وتقدّم نماذج وحلول مبتكرة باستمرار. لكن لا ترتبط أعداد هذه الحلول ارتباطًا قويًا بالمسائل الأخلاقية المتعلقة بتطبيقات المدن الذكية. فمن أين نشأت المشكلات الأخلاقية في المدن الذكية؟

نشأة المشكلات الأخلاقية في تطبيقات المدن الذكية

تتطوّر «المدن الذكية-smart cities» سريعًا وتتضمّن اليوم أجهزة استشعار وبرمجيات وروبوتات وشبكات وغيرها الكثير. وتعتمد على الذكاء الاصطناعي AI وتطبيق انترنت الأشياء IoT في مختلف مجالاتها. وأدى الاستخدام الواسع لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ICT إلى توليد البيانات وجمعها بسرعة، فأصبح جمع البيانات جزءًا لا يتجزأ من حياتنا. وتأتي هذه البيانات من مصادر مختلفة، وقد تحمل أحيانًا معلومات حساسةً وسريةً حول المواطنين. [1]

وإذا افترضنا وجود عالم مثالي يعمل كل شيء فيه على النحو الصحيح، فإن جمع واستخدام هذه البيانات لا يشكل تهديدًا لأي شخص. وبالطبع تفوق الفوائد المخاطر إلى حد كبير في هذا السيناريو المثالي. لكن مع الأسف يوجد دائمًا في العالم الواقعي قضايا ومشاكل يتعيّن التصدي لها أثناء التعامل مع هذه البيانات.

توجهات مختلفة

يهتم الباحثون والمطورون بالتقنيات التي يقدمونها وبتقييم مدى صحتها وفائدتها لمستخدميها. بينما يهتم رجال الأعمال بشكل أكبر بما يحقق لهم المزيد من الأرباح. على الطرف الثالث، يرغب السياسيون في جعل حياتهم أسهل باستخدام التقنيات المختلفة لدعم عمليات صنع القرار بشكل أدق. كل ذلك يقودنا بشكل عام إلى هدف موحد يجتمع عليه الكل وهو تحسين خدمة السكان، والذين يهتمون بدورهم بجودة حياتهم واستقرارها. في نهاية المطاف، يظل الطرف الفاعل الرئيسي المعني بالأخلاقيات والمعضلات الأخلاقية في المدن الذكية والمتضرر منها هو “السكان”. ومع ذلك، يتمتع السكان في الحالة الحالية بأقل قدر من السيطرة على من يقوم بجمع البيانات وكيفية استخدامها.

يستطيع الباحثون تقديم وجهة نظر عامة عن المسائل الأخلاقية في المدن الذكية من خلال دراسة المشاريع المطورة أو المشاريع قيد التصميم والبحث. وذلك من أجل تحديد أين وكيف قد تنشأ المشكلات الأخلاقية في المدن الذكية. ولكن كل ذلك لم يعبر إلا عن مشكلة خصوصية البيانات، فهل من نماذج على تلك المشكلات الأخلاقية المزعومة؟

الهند ومعضلتها الأخلاقية في المدن الذكية

بدأ التحالف الوطني الديمقراطي منذ وصوله إلى السلطة في الهند عام 2014 بمبادرة لإنشاء 100مدينة ذكية في جميع أنحاء الهند. وتهدف المبادرة إلى تحسين جودة الحياة والبنية التحتية وتطوير النقل الجماعي والصناعات الذكية في البلاد. وأعيد توجيه الموارد لتحقيق هذه المبادرة، وهو ما أدى إلى نقص في الموارد في مجالات أخرى. ويبدو أن إدخال المدن الذكية في البلد يعمل على النهوض بمدن الطبقة العليا ويتجاهل المدن الفقيرة مثّل معضلة أخلاقية حقيقية. إذ يجري الآن التخلي عن تطوير المدن التي لا تستوفي المعايير المطلوبة. نتيجةً لذلك، يواجه المجتمع الهندي فصلًا أكثر وضوحًا بين الطبقات الاجتماعية مقارنةً بما كان عليه الوضع سابقًا. ويمثّل هذا التقدّم غير المتوازن بين الطبقات في الهند مشكلة أخلاقية في المدن الذكية تنتظر المناقشة الجادة والحلول.[2]

نظام قياس الأداء في أوروبا

ازدادت مبادرات المدن الذكية في أوروبا مع مرور الوقت، وقد ظهرت بشكل مستقل في كل مدينة. بسبب ذلك، احتاجت المدن إلى شكل من أشكال معايير القياس لمعرفة تطبيقات المدن الذكية الناجحة. ويهدف مشروع CITYKeys البحثي إلى إنشاء نظام لقياس أداء للمدن الذكية في أوروبا. ويحتاج النظام إلى قاعدة واسعة من البيانات لإجراء الحسابات، ويتطلّب كذلك وجود ممارسات موحّدة وقياسية لتبادل البيانات ونشرها.

تتمثّل هنا المشكلة الأخلاقية في المدن الذكية في كيفية مشاركة البيانات أو نشرها. ربما تتضمّن هذه البيانات معلومات شخصيةً وخاصةً عن سكان المدينة، بالتالي تتشكل مخاوف مختلفة بشأن ضمان الوصول الأخلاقي للبيانات واستخدامها. علاوةً على ذلك، لابد من بذل جهود تعاونية قوية بين مختلف الجهات، لكي يعمل هذا النظام بنجاح. ويطرح هذا المشروع سؤالًا مهمًا، ألا وهو كيف يمكن لهذه الجهات الوثوق ببعضها البعض؟ [3]

نظام مراقبة المياه في كوريا الجنوبية

صمّمت كوريا الجنوبية نظام إمدادات للمياه في مدينة U-city، ويوفر النظام معلومات آنية عن الخصائص الصحية والتشغيلية للبنية التحتية الرئيسية لإمدادات المياه في المدينة. ويشمل الكثير من أجهزة الاستشعار والبرمجيات المتقدمة والمرتبطة بالعديد من الشركات الخاصة. تجمع الشركات هذه المعلومات وتقدمها إلى موقع مركزي للرصد والتقييم. وعندما يتعطل جهاز استشعار ما يتعيّن على المركز الاتصال بالشركة المالكة ومطالبتهم بإصلاحه. بما يستوجب على الشركة المالكة إغلاق الجهاز أو التفاعل مع أنظمة أخرى قد يقوم بصيانتها موردون آخرون، مما يؤدي إلى تأخير مفرط في الوقت.

لكي ينجح هذا النظام، يتعين على جميع الموردين -سواءً كانوا من القطاع الخاص أو العام- تحديد خطوات قياسية لتشخيص وإصلاح المشاكل التي قد تحدث. وإلا فإنها ستسبّب تأخير في الوقت وهدر الموارد. حتى الآن، لا تحكم هذه الآلية قوانين ولوائح، بل إنها تتعلّق أكثر بالتعاون والاتفاق بين الموردين. وفي حال فرض بعض الموردين قواعدهم الخاصة التي تخدم مصالحهم، فقد تنشأ مشكلات أخلاقية تستعصي على الحل في المدينة الذكية. [4]

التنبؤ بالجرائم

تهدف برمجيات التنبؤ بالجرائم إلى تحديد المخاطر المحتملة للأنشطة الإجرامية أو الأنشطة غير المشروعة داخل المدن. وتعمل عن طريق تجميع البيانات من الهواتف المحمولة والبيانات الجغرافية والديموغرافية. والبيانات الديموغرافية هي البيانات التي تجمع عن السكان وفقًا لسمات معينة، مثل العمر والجنس ومكان الإقامة. وتستخدم هذه البيانات فيما بعد للتنبؤ بمكان النقاط الساخنة، من ثم يمكن للسلطات التوجّه نحوها أو تكثيف مراقبتها.

تصنع هذه البرمجيات العديد من المسائل الأخلاقية في المدن الذكية، مثل التمييز المحتمل بين المناطق، وحماية البيانات وتأمينها. على سبيل المثال؛ ستعمل البرمجيات على نحو أفضل في المناطق التي يتوفّر فيها المزيد من الهواتف المحمولة، والتي عادةً ما تكثر في المناطق الأفضل اقتصاديًا. بالتالي ستؤدي إلى توفير حماية أعلى لهذه المناطق على حساب الأحياء الأفقر التي لا تحتوي على نفس العدد من الهواتف المحمولة. [5] وبذلك، يتفاوت مقدار الأمن المتوفر بين الأغنياء والفقراء، وهو نظام يسهل إلقاء اللوم عليه إذا حدثت أي مشكلة. أليس كذلك؟

الشبكات الذكية في طاقة المدن الذكية

تسمح الشبكات الذكية برصد ومراقبة استخدام الطاقة، وتهدف عمومًا لتحقيق الاستدامة. على الرغم من ذلك، قد يسبب استعمال الشبكات الذكية انتهاكًا لخصوصية المستهلك. خاصةً عندما تكشف المعلومات عن أنواع الأجهزة الكهربائية المستخدمة وعدد مرات الاستخدام. كما قد تكشف كذلك عن الوقت الذي يقضيه المستهلكون خارج المنزل وفترات سفرهم.

قد يسبب أي تسريب أمني لهذه البيانات مخاطر أمنية كبيرة، بالإضافة إلى أنه قد يحقّق مالكو الشبكات الذكية منافع أكبر من الإعلانات المستهدفة أو التسويق المتخصّص. فيمكن بسهولة معرفة أصحاب المنازل ذات استهلاك الطاقة الأعلى بل وتحديد نوع الأجهزة. كما يفتح تكامل الشبكات الذكية مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ICT إمكانية التعرض لهجمات إلكترونية، والتي يمكن أن تحرم الأفراد أو حتى المدينة بأكملها من الطاقة. [6]

كشف الإشغال

يحدد كشف الإشغال إذا ما كانت المساحة مشغولةً أم خاليةً، ويستهدف عادةً المساحات الخاصة مثل مباني المكاتب. يقدر هذا النوع من رصد الإشغال التحكم في الأنظمة داخل المبنى كأنظمة الإضاءة والتدفئة والتكييف والتهوية. بالتالي يستطيع خفض فواتير الطاقة بشكل كبير، ويقلّل أيضًا من تلوث الهواء الناتج عن عمل الأجهزة المختلفة لساعات أطول. من جهة أخرى، قد يسبب مشكلات متعلقةً بالسلامة في حال استغل لأهداف إجرامية أو هجمات إرهابية، مثل الاستفادة من البرنامج لسرقة مكتب أو مبنىً تجاري. [7]

عد الإشغال

يركز عد الإشغال على العدد الفعلي للأشخاص في المبنى ويعد مفيدًا مثلًا في انتهاكات قوانين السلامة كحرائق المباني. ويتطلب العد استعمال الهواتف المحمولة والكاميرات، لكنه يعتمد أكثر على الكاميرات، إذ لا يمكن ضمان أن يملك الجميع هواتف محمولة. وتُجهّز معظم المباني بأنظمة مراقبة تعمل بأشكال مختلفة. وتتبع بعض النظم عدد الأشخاص عن طريق استخراج السمات التي تصف شكل الجسم. يعني هذا تحديد الأفراد وتصنيفهم وتحديد مواقعهم في أي وقت من الأوقات، وينتهك هذا النوع من المراقبة كل الحقوق المتعلقة بالسرية والكشف عن الهوية، وهو ما يلزم اتخاذ تدابير أمنية دقيقة. فاستغلال تلك الخاصية ضد المدينة قد يحيل حياة أهلها إلى جحيم. [7]

التعرّف على الحدث

يدرس التعرّف على الحدث سلوك وأنشطة الأشخاص المتواجدون داخل الموقع المرصود. ويهدف إلى إنتاج أجهزة تحكّم أكثر ذكاءً وتحديد السلوكيات المرتبطة بالجرائم. يمكن استخدامه في المباني التي تحتوي على حشود كبيرة مثل الساحات الرياضية والمسارح. بغض النظر عن قضايا انتهاك الخصوصية الواضحة الناتجة عن هذا الرصد، قد تكبت هذه التقنية الطبيعة والتفاعلات البشرية بسبب معرفة الشخص بأنه مراقب. فمن المرجح أن يتغيّر سلوكك عندما تكون مراقبًا لتجنب وصمك بالشكوك، كما قد تفعل شيئًا ما عن طريق الخطأ، بما يؤدي إلى إطلاق إنذار داخل النظام. وترتبط هذه القضايا بالمواقف الغريبة الشائعة مثل مغادرة المتجر دون شراء غرض. فعلى الرغم من أنك لم تسرق شيئًا لكنك تشعر بأن الجميع يراقبك أو يشك بك فتضطر للشراء مثلًا.

قد لا تحدّد مثل هذه الأنظمة هوية الأفراد، لكنها تجمع ما يكفي من البيانات التي تستخدم بسهولة للقيام بذلك لاحقًا. يمكن استخدام البيانات لأنشطة غير ضارة مثل الإعلان المستهدف، بينما قد تسبب ضررًا متعمّدًا مثل خلق مواقف خطيرة لبعض الأفراد أو اتهام شخص ما زورًا. [7]

نظام تحديد المواقع GPS

تعتمد العديد من تطبيقات المدن الذكية على قراءة إحداثيات نظام تحديد المواقع GPS. على سبيل المثال؛ تستفيد المدن من الGPS بجمع البيانات من المركبات في مناطق معينة، ثم تتحكّم بالإشارات الضوئية لتجنّب الحوادث والازدحامات المرورية. وفي حالات أخرى تستفيد السلطات منه بتحديد موقع السكان المتضررين من حادث ما لتقديم الدعم اللازم لهم في الطوارئ.

يعد GPS مصدر قلق أخلاقي لأنه يحتاج القليل من الموارد عند مقارنته بتطبيقات أخرى. إضافةً إلى أنه يوفّر بيانات دقيقةً ومخصّصةً للتتبّع. بسبب ذلك، تتّخذ بعض الدول إجراءاتٍ قانونيةً صارمة تجاهه، فتلتزم أمريكا بحجب بيانات الGPS قانونيًا، وأصدرت المحكمة العليا أحكامًا تحظر بها منفذي القانون استخدامه، ما لم يكن لديها سبب جاد للقيام بذلك. ومع ذلك، يشكو العديد من الحقوقيين من أن تعريف “السبب المعقول” يظل غامضًا بما يكفي لتبرير انتهاكات مدنية وحقوقية. [8]

القيادة الذاتية في المدن الذكية

تتقدّم البحوث في مجال القيادة بدون سائق بشكل سريع، وتعمل عليها بعض الشركات مثل Google وUber ومعظم شركات السيارات. وتشير الصحافة ذات الصلة إلى أن حوالي 94% من الحوادث الحالية سببها خطأ بشري. نتيجةً لذلك، قد تصبح السيارات ذاتية القيادة بديلًا مرغوبًا فيه للنقل قريبًا، إلا أنها تثير قلاقل أخلاقية في المدن الذكية. إذ سبق أن صدمت سيارة أوبر ذاتية القيادة امرأة تعبر الشارع في أريزونا. وأشار الرئيس التنفيذي لأوبر في الماضي أن السيارات ذاتية القيادة تتميز بخوارزمية تتعلّم أثناء القيادة. يعني ذلك أن السيارات ذاتية القيادة هي الأكثر خطورةً عند بدء عملها، ولكنها تطور من نفسها حتى تتمكّن الخوارزمية من التعلّم. يطرح الحادث السابق سؤالًا حول ماهية المسؤول عن الحادث، هل هي الشركة المالكة للسيارة أم السائق الاحتياطي في السيارة أم المبرمج الذي صنع برنامج القيادة الذاتية؟ هذا السؤال غير مجاب عليه حاليًا. وفي سيناريو آخر، تتّخذ السيارة ذاتية القيادة قرارًا بالتسبّب في أقل ضرر إذا لم يكن بإمكانها تجنب الأضرار. ولأن الخوارزمية تتعلّم باستمرار فقد تلتقط استجابات متحيّزة تؤثّر سلبًا على قراراتها المستقبلية.[9][10][11]

الطائرات بدون طيار

تستعمل المدن الطائرات بدون طيار للرصد البيئي ومراقبة الأمن المدني ودعم السياحة وخدمات الطوارئ الصحية وإيصال البضائع. إذ تساعد الطائرات بدون طيار في تخفض التكاليف وتدعم السلامة والأمن وتساعد في إدارة الكوارث على نطاق واسع، وبذلك تساهم في خلق مدن ذكية أكثر أمانًا للسكان والزوار.[12][13] على الرغم من ذلك لا يخلو الأمر من الآثار السلبية والمسائل الأخلاقية في المدن الذكية. إذ مثلًا قد تستخدم لأغراض التجسّس على المواطنين والمنظمات.[14]

التركيز على المسائل الأخلاقية في المدن الذكية

تقلب المدن الذكية أسلوب حياتنا رأسًا على عقب، وتجلب معها نتائجَ إيجابيةً وسلبيةً في نفس الوقت، فأضحى التغيير واقعًا لا مفر منه. وباعتبار حياة الفرد منطلق المدن الذكية وغايتها، ينبغي علينا كأفراد مناقشة المسائل الأخلاقية الناتجة عن تطبيقات المدن الذكية. ونسعى لتطبيق سياسات أمنيةً وأحكامًا قانونيةً لكي نقلل من المخاطر قدر الإمكان.

المصادر

  1. ResearchGate
  2. ProQuest
  3. ResearchGate
  4. Semanticsholar
  5. ResearchGate
  6. ACM
  7. ResearchGate
  8. Science direct
  9. USNews
  10. Bloomberg
  11. Bloomberg
  12. IEEE
  13. ResearchGate
  14. Science direct

ملخص رواية حي بن يقظان، كرحلة للبحث عن المعنى

حي بن يقظان، رواية فلسفية كتبها ابن طفيل في القرن الثاني عشر. تروي قصة شاب يدعى حي نشأ في جزيرة مهجورة دون أي تفاعل بشري. تتبع الرواية رحلة حي وهو يتعلم عن العالم من حوله من خلال الملاحظة والعقل، مما يؤدي به في النهاية إلى اكتشاف وجود الله. حي بن يقظان رواية وقصة فلسفية عميقة كان لها تأثير عميق في الفلسفة في العصور اللاحقة. وتعد مثالًا حيًّا عن تأثير انتقال الأفكار عبر الحدود والعصور والاختلافات الدينية والطبقية. سنتعرف في مقالنا هذا بشكل موسع عن رحلة حي بن يقظان المميزة للبحث عن المعنى.

حي بن يقظان الحي الذي أيقظه الموت

وبحسب القصة، عُثر على حي بن يقظان في جزيرة عندما كان رضيعًا وربته الغزلان وفي رواية أخرى نفخت فيه الروح من صلصال من طين على تلك الجزيرة النائية التي لا يسكنها بشر. عندما كبر، اكتشف أنه مرتبط بالحيوانات الأخرى ولكنه يختلف عنها. كان يراقب البيئة الطبيعية ويبدأ في اكتشاف المبادئ التي من خلالها تحافظ الأشياء على وجودها. فبدأ باكتشاف الأشياء من حوله بدءًا بمقارنة نفسه بالحيوانات المحيطة به. فأدرك بذلك اختلافه الجسماني والعقلاني عنها. بدءًا باعتقاده بضعفه مقارنة بها ووصولًا لاكتشافه تفوقه الذهني عليها باستخدام عقله.

لكن الصدمة التي دفعته للبحث عن كينونة الأشياء هو وفاة الغزالة التي ربته. حيث اكتشف حينها أنّ الدافع لتحريك الأشياء وبث الطاقة فيها خارجي عنها. حيث شرّح جسد الغزالة ليكتشف سر توقفها عن الحركة والتنفس. دفعه اصطدامه بهذه التجربة التي تفوق استيعابه إلى البحث عن معنى الحياة بصورة مختلفة. حيث ارتقى ببحثه من ملاحظة الأشياء الملموسة والمحسوسة إلى ما لا يمكنه لمسه بل يمكن إدراكه بطرائق وسبل مختلفة كالتأمل ومراقبة السماء وحركة النجوم والأجرام السماوية.

عندما أدرك أن الله مصدر كل الوجود والمعرفة، اكتسب فهماً أعمق للعالم الذي يعيش فيه والمبادئ الطبيعية والأخلاقية التي تحكمه. اكتشافه الذاتي وضعه بالفعل بعيدًا عن الكائنات الحية الأخرى من حوله.

أبرز ابن طفيل رؤيته الفلسفية العميقة التي دمجت بين مذاهب العقل والنقل. وهي أنّ ما وردنا بالنقل لسنا بعاجزين عن اكتشافه بالعقل بعيدًا عن تأثير المجتمع أو البيئة المحيطة.[1]

الاحتكاك الأول بإنسان آخر

في أحد الأيام، وبعد مرور سنوات طويلة، ظهر رجل يدعى أبسال من جزيرة مجاورة في جزيرة حي. كان قد زار الجزيرة مدفوعًا برغبته التعبد منفردًا وبعيدًا عن الناس. فعلّم حي الكلام، وبدأ الاثنان في الحديث عن الطبيعة والأخلاق والله. ومندهشًا، أدرك أبسال أن حي قد اكتشف بنفسه كل الحقائق التي علمها دينه الموحى. وبدى أنّ حي يتمتع بإدراك مفاهيمي مذهل، وبالتالي فهو متفوق على المعتقدات المرهقة والمربكة لشعب أبسال. مما دفع أبسال إلى جلبه إلى جزيرته ليشارك فهمه العقلاني للأشياء إلى الناس في جزيرة أبسال. لكنها كانت بادرة حسن النية انتهت بالفشل.

في الجزيرة، يدرك حي أن معظم الناس مدفوعون بالأنانية والجشع والعواطف ولا يستجيبون لنداء العقل والإيمان. فمع وجود عيوبهم وميولاتهم المدمرة، لا يمكن ترك الناس العاديين يعيشون على سجيتهم. لذا هم بحاجة إلى الدين لتزويدهم بمجموعة من القواعد والأنظمة حتى يتمكنوا من إدارة شؤونهم بطريقة هادفة وسلمية. بعد هذا الدرس التأديبي عن الحالة الإنسانية، يعود حي أدراجه إلى جزيرته مع أبسال كتلميذ له بجانبه.[1]

اقرأ أيضًا على موقعنا:

حي بن يقظان أحد أكثر كتب الفكر الإسلامي انتشارًا

مع ترجمة الرواية في القرن السابع عشر الميلادي على يد إدوارد بوكوك. ووضعها تحت اسم “الفيلسوف الذاتي” انتشرت قصة حي بن يقظان لعدة قرون ولاقت رواجًا واسعًا في الأوساط الثقافية الأدبية في أوروبا.

كان لفكرة نظرية المعرفة الفردية أو التنوير الفردي هذه تأثير كبير على الفلسفة الحديثة، لا سيّما في أعمال الفلاسفة مثل إيمانويل كانط وجون لوك. كان كانط، على سبيل المثال، يعتقد أن المعرفة لا تُكتسب ببساطة من خلال التجربة، بل تتشكل أيضًا من خلال الهياكل الفطرية للعقل. وبالمثل، جادل لوك بأن العقل هو لوحة بيضاء فارغة عند الولادة، وأن كل المعرفة يتم اكتسابها من خلال التجربة.

كما قدمت رواية حي بن يقظان منظورًا فريدًا لطبيعة الواقع. حيث دفعته ملاحظاته للعالم من حوله إلى استنتاج أنه يجب أن يكون هناك سبب أساسي واحد مسؤول عن جميع الظواهر في العالم. يشير إلى هذا السبب على أنه “الوجود الضروري”، وقد يكون هذا هو فهمه لطبيعة الإله.

كما يقدم حي بن يقظان أيضًا منظورًا فريدًا للعلاقة بين الدين والعقل. وطوال الرواية، قادت ملاحظات حي واستدلاله إلى استنتاج أن وجود الله هو حقيقة ضرورية. ومع ذلك، فهو يدرك أيضًا محدودية العقل في فهم الطبيعة الإلهية. ويخلص في النهاية إلى أنه في حين أن العقل يمكن أن يقودنا إلى مستوى معين من الفهم عن الله، إلا أنه محدود في النهاية في قدرته على ذلك.[2]

في الختام، حي بن يقظان رواية فلسفية كان لها تأثير كبير على الفلسفة الحديثة. تم استكشاف منظورها الفريد حول طبيعة المعرفة والواقع والعلاقة بين الدين والعقل من قبل الفلاسفة على مر القرون. بالإضافة إلى ذلك، كان للرواية آثار مهمة على تاريخ الأدب، لا سيما في تطور الرواية الفلسفية كنوع أدبي. بشكل عام، مازال حي بن يقظان عملاً هامًا لا يزال يلهم الاستكشاف الفلسفي والأدبي.

مصادر

1- حي بن يقظان by Ibn Tufail | Goodreads
2- www.dailysabah.com

كيف حدث انفصال العلوم عن الفلسفة؟

لم ينفصل العلم عن الفلسفة طوال أكثر من 22 قرنا، امتدت ما بين القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن السابع عشر الميلادي. حيث ميز نيوتن بين النتائج العلمية التي تقوم على الملاحظة المباشرة، وبين الافتراضات الميتافيزيقية التي اعتبرها مقحمة في مجال عمله. وكما يقول البعض، على يدي نيوتن، تم الفصل بين الفلسفة والعلم. فكيف تم انفصال العلوم عن الفلسفة؟

انفصال العلوم عن الفلسفة

شهدت الفلسفة انفصالات لأجزاء منها لتصبح فروعًا معرفية مستقلة بذاتها، كونت هذه الانفصالات تاريخ العلم. فقد فصلت أعمال إقليدس الهندسية علم المكان عن الفلسفة في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد كان الفلاسفة يدرسونها في أكاديمية أفلاطون. كما أثمرت جهود جاليلو وكبلر ونيوتن عن انفصال الفيزياء في القرن السابع عشر لتصبح علمًا منفصلًا عن الميتافيزيقيا. ثم انفصلت الكيمياء في القرن الثامن عشر، وأعقبتها البيولوجيا في القرن التاسع عشر نتيجة لكتاب “أصل الأنواع” لدارون. بعد ذلك، استقلت العلوم الإنسانية، التي تهتم بدراسة الإنسان على مستوى الفرد والجماعة، بالتدريج. وكان أولها علم النفس الذي انفصل عن الفلسفة بداية القرن العشرين.

ما الذي يجعل المعرفة علما؟

لا يمكن إيجاد تعريف جامع مانع يصدق على كل العلوم، لكن يمكن تحديد بعض الخصائص التي يجب أن تتواجد في كل علم، وهي كالتالي:

يسعى العلم إلى التعميم

يجب على القوانين أو النتائج التي يتم التوصل إليها أن تفسر جميع الحالات المشابهة لها، وألا تقتصر على تفسير حالة جزئية معينة.

يهدف العلم إلى صياغة نتائجه صياغة كمية قدر الإمكان

ويعني ذلك صياغة النتائج بعبارات دقيقة محددة المعنى مثل “درجة الحرارة اليوم هي خمسة مئوية”. وكلما زاد توفر هذه الخاصية في علم ما، كلما تقدم وزادت دقة مفاهيمه ونتائجه.

يتصف العلم بالموضوعية

ويقصد بذلك معالجة الظواهر دون تدخل لذات الباحث في البحث. ويوضح برتراند راسل هذا من خلال مثال المسرح، إذ يفترض أن هناك فرقة تمثل في مسرح تحيط بها آلات التصوير التي تلتقط الكثير من الصور. بالعودة إلى تلك الصور وملاحظتها يمكن اعتبار القواسم المشتركة لكل الصور هي الجانب الموضوعي للبحث، وتعتبر الأشياء الأخرى المختلفة وغير المتشابهة هي الجانب الذاتي.

يمكن وصف العلم بإمكانية اختبار صحة نتائجه وتعميماته

يمكن التحقق من صدق النظرية العلمية من خلال مراجعة طريقة استنباطها في حال كانت مستنبطة، كما يمكن التحقق من صدق تطبيقها على الواقع بتكرارها والتأكد من نتائجها وقدرتها على التنبؤ.

يتصف العلم بثبات قضاياه

يجب أن تكون القضية العلمية صادقة في جميع الظروف والمناسبات المشابهة.

اتصال البحث العلمي

يبدأ العالم عادة من حيث انتهى زميله، فالبحث العلمي درجات، كل درجة تمهد للدرجة التالية.

نسقية العلوم وتكاملها

تتدرج العلوم من الأعم إلى الأخص، فالعلوم التجريبية مثلا تتضمن العلوم الطبيعية وعلم الحياة والعلوم السيكوفيزيائية والعلوم الاجتماعية، وكل واحدة من هذه العلوم تتضمن علومًا أخرى. إذ أن العلوم الطبيعية تتضمن علم الفيزياء وعلم الكيمياء، والعلوم الاجتماعية تتضمن علم الاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم.

يتضمن العلم الإيمان بمبادئ معينة

وهذه المبادئ لا يمكن أن توضع موضع شك، إنما يمكن تعديلها من حين لآخر حتى يستمر تقدم العلم. ومن أهم هذه المبادئ مبدأ الحتمية الذي عرفه كلود برنار بأنه يسلم العالم بديهيًا بأن “شروط كل ظاهرة سواء أكان ذلك في الأجسام الحية أم في الأجسام الجامدة، محددًا تحديدًا مطلقًا”. ويعني ذلك أنه لا بد من حدوث الظاهرة تُعرف شروطها ويتم تهييئ هذه الشروط.

ما هو المنهج العلمي؟

يمكن تعريف المنهج العلمي بأنه الإجراءات العقلية التي تؤدي إلى نتائج معينة. وتعتمد العلوم – أيا كانت طبيعتها – على مناهج تخدمها. وقد انقسمت إلى منهجين:

  • المنهج الصوري الذي يستخدم في علوم المنطق والرياضيات.
  • المنهج التجريبي الذي يستخدم في الفيزياء والكيمياء والعلوم الإنسانية. ونظرًا لكون هذه الأخيرة تدرس الإنسان وما يتعلق به فقد أنتجت مناهج مختلفة خاصة بها تراعي خصوصية الظاهرة الإنسانية وتعقيدها، وتسمى بالمناهج السياقية.

ماذا يقصد بالمناهج السياقية؟

تهتم هذه المناهج بظروف نشأة الظاهرة المدروسة وسياقاتها الخارجية، سواء كانت اجتماعية أو تاريخية أو نفسية بغية فهم موضوع البحث من كل جوانبه. وهذه المناهج هي المنهج التاريخي الذي يصبو إلى الإحاطة بزمن الموضوع والبيئة التي نشأ فيها. والمنهج الاجتماعي الذي يبحث في المحيط الاجتماعي لموضوع الدراسة. والمنهج النفسي الذي يهتم بشخصية موضوع الدراسة وانعكاس أحداث حياته عليه. وتتميز هذه المناهج في سياق النقد الأدبي بالتركيز على أسباب ولادة الإبداع.

تطرقنا في هذا المقال التقديمي إلى انفصال العلوم عن الفلسفة بما فيها العلوم الإنسانية، كما تعرفنا على العلم وشروطه والمنهج العلمي. وأشرنا إلى المناهج السياقية، التي سنتناول الحديث عنها بشكل مفصل في المقالات القادمة.

المصادر

مفهوم المنهج العلمي، يمنى طريف الخولي.
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول-الحصاد-الآفاق المستقبلية، يمنى طريف الخولي.
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، يمنى طريف الخولي.
فلسفة العلم، أليكس روزنبرج.
ما هي الفلسفة؟ حسين علي.
فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيليز.
الفلسفة العلمية وإشكالياتها، علي رشيد مشيك، أوراق ثقافية.
مناهج النقد المعاصر، صلاح فضل.

ما هي الحداثة وماذا نعني بالحركة الحداثية؟

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت حركة فنية وأدبية انفصلت عما سبقها من الأشكال التقليدية في كافة الفنون. وخلقت توجهاتُها الجديدة تغييراتٍ جذرية في كيفية تصوير الحياة. طالت هذه التغييرات جوانب الموسيقى والفن والهندسة المعمارية وغيرها من المجالات الفكرية. وتميزت هذه الحركة برفضها لكل ما سبقها من حركات لأنها لم تعد تستطيع التعبير عن المجتمع المعاصر بدقّة وصدق من منظور مؤسسيها. وأصبحت هذه الحركة تعرف بالحداثة أو الحداثية (modernism). وأعطت اسمها للعصر الذي تطورت فيه، إذ سادت أكثر الأمر في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وتقريباً حتى منتصف القرن العشرين [1].

ولدى العودة إلى أصل التسمية modernism، نجد أنها مشتقة من الكلمة اللاتينية modo والتي تعني “الآن”. وتمثل هذه الحركة ثورة على ما رسّخه القرن التاسع عشر من مبادئ الوطنية والحكمة الثقافية المطلقة. وكانت تلك المبادئ، خاصة في عصر الملكية فيكتوريا في إنكلترا، مبنية على أسس تقليدية، وانعكست على الفن والهندسة المعمارية والأدب والإيمان الديني والتنظيم الاجتماعي والحياة اليومية. لكن كل ذلك بات قديمًا باليًا في عصر الحداثة الصناعي [2].

الوصول إلى عصر الحداثة

الحركات السابقة

كان تأثير الحرب العالمية الأولى كبيراً في تمايز عصر الحداثة وتبلور أفكاره. فقد أثرت نتائج الحرب المدمرة وأهوالها على المفكرين وجعلتهم يعيدون النظر في الوجود الذي كانوا يظنون أنه مستقرٌ وهادف. وكان لهذه النظرة الجديدة بذور خصبة وضعها مفكرو نهاية القرن التاسع عشر كداروين وماركس ونيتشه وفرويد. ويمثل هؤلاء أعلاماً في مجالاتهم المختلفة بأفكارهم الثورية التي هزت مبادئ سابقة كانت ثابتة في أذهان الناس [3].

عند العودة بالزمن إلى الوراء قليلًا، بدت المرحلة المبكرة من عصر التنوير (Enlightenment) في القرن السابع عشر وإلى الثورة الفرنسية والصناعية في القرن الثامن عشر فترة سيادة للمنطق في العلوم المختلفة، واكتشاف العوالم الجديدة، وتسخير الطبيعة ومواردها لخدمة البشر ومتطلباتهم. واستطاعت النخبة من المفكرين والفنانين – عموماً – إيجاد توازن بين الإيمان بالله من المنظور الديني، وما توصلت إليه العلوم المختلفة من نظريات جديدة [3].

ثم أتى العصر الرومانسي (Romanticism) الذي تلى الثورة الفرنسية وسيطر على جزء كبير من القرن التاسع عشر ليولي اهتماماً أكبر للعواطف على حساب المنطق، وليقدّس الفرد على حساب الجماعة. وكان هذا نتيجة للتغيرات السياسية التي أعطت للشعب قوة أكبر في اختيار قادتهم [3].

ثم كان للمذهبين الواقعي والطبيعي بعض الأفكار المختلفة التي رفضت مثاليات الرومانسية وتفضيلها للفرد. فركزت الواقعية (Realism) على تمثيل الواقع في الفنون كما هو فعلاً، بعيداً عن المثاليات في نقل التجارب وتصوير الشخصيات البشرية. في حين لجأت الطبيعانية (Naturalism) إلى مراقبة أثر العوامل البيئية والاجتماعية والوراثية على الأفراد، ودراسة الطبيعة البشرية دراسة موضوعية بمبادئ علمية [3].

الأسس الفكرية للحداثة

عندما أتى عصر الحداثة، كان التركيز الأكبر على الغوص في أعماق التجارب والشخصيات البشرية بعد إدراك أن ما تم تصويره سابقاً لم يتجاوز السطح الظاهر للحقيقة. ويعود الفضل في هذا لدراسات سيغموند فرويد (1856-1939) في التحليل النفسي. إذ تحدث فرويد عن اللاوعي البشري وما يخبئه من مكنونات قد تظهر في الأحلام على سبيل المثال. ثم لا ننسى نظرية التطور التي فجرها تشارلز داروين (1809-1882) وما قدمه من أفكار الاصطفاء الطبيعي. فقد تحدى بها المعتقدات الدينية السائدة آنذاك، والتي كانت تنص على تفوق البشر على غيرهم من المخلوقات. أما بالنسبة لفريدريك نيتشه (1844-1900) فقد عبر بفلسفته عن شكوكه ورفضه للتعاليم الدينية المسيحية التي كانت راسخة عند الناس. إذ رأى أنها تستغل الضعفاء والمتواضعين بحجة النعيم المنشود. وهذا ما نجده أيضاً لدى كارل ماركس (1818-1883) ولكن في سياق مختلف قليلاً. فقد عبر عن رفضه لهيمنة الرأسمالية، ورفع راية الطبقة العاملة على أنها الطبقة المسحوقة التي يستغلها الأغنياء لتلبية خدماتهم [3].

كل هذه الأفكار التي غزت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العرشين شكّلت أساساً قوياً لثورة المفكرين على ما كان يُعتقد أنه مبادئ ثابتة فيما مضى. وزاد على ذلك حالة الاضطراب والفوضى التي خلقتها الحرب العالمية الأولى في المجتمعات عموماً وفي الأرواح الثكلى التي خلفتها. فقد قوضت الحرب ما كان قد بقي من آثار للأفكار السابقة لها [3].

الإطار الزمني لعصر الحداثة

إذاً، انبثقت حركة الحداثة في زمن اضطرابات مجتمعية شديدة نتجت بشكل أساسي عن التحول الصناعي والتحديث والحرب العالمية الأولى (1914-1918) [1]. وأدت الحرب إلى تحطيم مبدأ التقدم لدى العديد من معاصريها، فكيف ذلك؟

نتج عن هذه تفكيك المُثل التي سادت في عصر التنوير، والتي كانت تتنبأ أن التكنولوجيا الحديثة ستحقق التقدم للبشرية بما تنطوي عليه من تطور يحسّن المجتمع والحياة. إلا أن الحرب العالمية الأولى حطمت هذا المبدئ لأنها استخدمت التكنولوجيا الحديثة في إحداث الدمار الشامل للبشرية. وكانت نتيجة الحرب إحباطاً وخيبة أمل على مستوى المجتمعات، مع تشاؤم عميق من الطبيعة البشرية. وهذا ما خلق لدى تيارات الفنون والأدب نزعة ثورية انفصلت عن المثاليات التي سبقتها، ونادت – كما ذُكر سابقاً – بالتأكيد على تمثيل التجربة الشخصية للواقع دوناً عن الواقعية الموضوعية. وتجسد خيبة الأمل هذه بقصيدة “الأرض اليباب – The Waste Land” للشاعر الأمريكي تي. إس. إليوت (T. S. Eliot) التي نشرها عام في 1922 [1].

أما من ناحية التطوير الصناعي، كان العالم الغربي يحصد ثمار الثورة الصناعية كالسيارات والطائرات والمذياع ويسخّرها في الحياة اليومية. ومثلت هذه الابتكارات تحديات لما هو ممكن في المجتمع، إذ شهد الناس آنذاك أن الآلة قادرة على تحويل المجتمع بكليّته. إلا أن هذا التحول الصناعي وما نتج عنه من توسع حضري أدى إلى خلق فوارق اقتصادية واجتماعية بين الناس، وتعزيز ما كان موجوداً منها بالأصل. وهذا ما ولّد شعوراً بالضياع والخيبة لدى كثيرين. وانعكس هذا الشعور في مجالات فنية مختلفة وأدى إلى ظهور جوانب جديدة في الدراسات الفكرية [1].

سمات الحداثة

كانت حركة الحداثة تنادي بإعادة النظر في جوانب الوجود كافة، بدءاً من الجوانب التجارية ووصولاً إلى الفلسفية. حيث كان الهدف اكتشاف العوامل التي كانت تعيق التقدم وتبديلها بأخرى جديدة وتقدمية تؤدي إلى النتيجة نفسها. وكان مناصرو هذه الحركة يؤمنون بأن رفضهم للتقاليد سيمكّنهم من اكتشاف طرق جديدة بالكامل لصناعة الفنون. وفي الوقت نفسه سعوا إلى إجبار الجمهور على التشكيك بمبادئهم ومفاهيمهم التي كانوا يؤمنون بها. وكان التأكيد حينها على التعبير والتجريب والراديكالية في الممارسات المطبقة في مختلف الميادين، بطريقة تباغت الجمهور وتشعرهم بالاغتراب عما يشاهدوه أو يسمعوه. ومن الأمثلة على هذا، الميول السريالية في الفن (surrealism)، واللالحنية في الموسيقى (atonality)، وتيار الوعي في الأدب (stream of consciousness) [2].

إذاً، تضم حركة الحداثة تحت مظلتها طيفاً واسعاً من المجالات الفكرية. كما تتمثل سماتها الكثيرة في العديد من الأعمال في تلك المجالات، ولو بنسب متفاوتة. مثلاً، نذكر من هذه السمات الإدراك الواعي للانفصال القاطع عن التقاليد، واتباع التجريب في أساليب جديدة، وإدخال محتويات كانت سابقاً مهمشة أو محرمة. ونتج عن هذا التبني لأفكار التغيير هوسٌ بكل ما هو جديد، وتأكيدٌ على أهمية التجربة الشخصية وأن الفهم الحقيقي للتجارب يتفوق على تصويرها بشكل موضوعي. ويضاف إلى تلك السمات البحث في أشكال جديدة للذاتية بهدف التعبير عنها وتمثيلها في الفنون.

تحدّت أفكار الحداثة ما سبقها من أساليب متبعة في البحث في العلم والدين والفلسفة. وكان كل هذا يتم بروح ناقدة تسعى لنسف الحضارة الغربية وإعادة خلقها. ولكن تنوع الأعمال التي تصنف أنها من عصر الحداثة وتشعب مجالاتها يجعل من الصعب ذكر مثال واحد كتجسيد لكافة مبادئها [4]. وبهذا كانت حركة الحداثة نقلة نوعية في التاريخ البشري، وحركت عجلة الفكر بطرق جديدة واتجاهات لم يسبق لها مثيل.

المصادر

  1. Modernism: Definition, Examples & Movement | StudySmarter
  2. Modernism – By Movement / School – The Basics of Philosophy (philosophybasics.com)
  3. Backgrounds to Modernism (utexas.edu)
  4. Modernism – Routledge Encyclopedia of Philosophy

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

في كتابه خلاصة القرن، يبدأ بوبر في حوار معه، بطرح مشكلة النظام الشيوعي وفلسفة ماركس التي بدأ بانتقادها في مراهقته. ومن ثم يحلل انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الشيوعية. ويتضمن الكتاب بعض من دراسات كارل بوبر حول دولة القانون ومشكلاتها المتعلقة بالحرية والمراقبة والتدخل. وكأنك قرأت خلاصة القرن لكارل بوبر حلقة من سلسلة وكأنك قرأت لتقديم أهم الكتب الفلسفية.

بوبر الفأر في فخ الشيوعية:

يروي بوبر بأنه كان يحلم دومًا بعالم يسود فيه السلام، خاصة في فترة مراهقته، حيث نظم قصيدة وآمن بأن الحق سينتصر والسلام سيتحقق، بحيث سيعود الجنود المحتلين إلى ديارهم. تأثر بوبر بخطابات تروتسكي بشكل خاص حول بناء عالم بلا عنف. ذات مرة ذهب إلى مقر الحزب الشيوعي وهناك التقى بأبناء الفيلسوف النمساوي رودولف إسلر (هانز، فريتي وجيرهارد) كان لهم مكانة بارزة في الحزب الشيوعي وعاملوه بلطف كما يروي. لم تمر فترة طويلة حتى بدأ بوبر يشك في الخطاب الشيوعي، خاصة بعد حادثة مقتل ستة شبان في مظاهرة للشيوعيين من قبل الشرطة في فيينا، شعر أنه يحمل جزء من مسؤولية قتلهم. قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره وجد أنه من الضروري نقد أطروحة ماركس والشيوعية.

بوبر ينتقد ماركس:

اعتقد ماركس أنه الرأسمالية وصلت إلى مرحلة بحيث هي نفسها صارت أزمة، لا مجال لإصلاحها بل يجب تدميرها. كما وجد ماركس بأنه ظروف العمال تزداد سوءًأ, غير أنه لم يرد تجريم الرأسماليين شخصيًا لطالما هم ضحايا النظام. حذر ماركس من “الشيوعية المبتذلة”. رأى بوبر أن أطروحة ماركس بعيدة عن الواقعين، واقع الرأسمالية وواقع الحزب الشيوعي. فالحزب دعم الشيوعية المبتذلة، حيث أن الرأسماليين شخصيًا يتحملون المسؤولية ويحب القضاء عليهم. ومن جهة اخرى يرفض بوبر كون الرأسمالية غير قابلة للإصلاح، كانت هناك إصلاحات جذرية حتى في زمن ماركس، ويبدو له أن ماركس بالغ في تقدير الرأسمالية وما يجب فعله، فالرأسمالية التي وصفها ماركس لم تكن سوى خيال شيطاني. وفي سياق آخر رأى بوبر أن ماركس بالغ في الاعتماد على الاقتصاد كآلة تفسيرية شاملة، فعناصر أخرى مثل الدين والمؤسسات لها دور كبير في تحديد شكل المجتمعات.

إقرأ أيضًا مفهوم الإنسان عند ماركس

انحطاط الاتحاد السوفيتي:

وفقًا لبوبر فأن حقبة خروشوف كانت هي بداية انحطاط الاتحاد السوفيتي، حيث لم يأخذ قادة السوفييت الماركسية بجدية سوى كاداة لبقاء النظام، أي فكرة تدمير الدول الرأسمالية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. يتحدث بوبر عن خروشوف ومحاولة القضاء على أمريكا من خلال الصواريخ النووية الهائلة التي ارسلها الروس إلى كوبا. كان العالم أمام كارثة عالمية غير أن الصواريخ لم تكن جاهزة كفاية لضرب أميركا، هكذا خسر السوفييت الرهان وأنهار النظام الشيوعي لأسباب عسكرية بحتة.

دولة القانون:

مع أن بوبر كان ليبراليًا، إلا أنه ينتقد بعض المبادئ الرئيسية في الدولة الليبرالية وأهمها السوق الحر وحرية التعبير. فلأجل بناء دولة القانون يجب أن تتدخل الدولة في السوق كما عليها مراقبة وسائل الإعلام. فالسوق الحر، بشكل أو بآخر يشجع السرقة والفساد، فضلًا عن التلاعب بآالية السوق. يرى بوبر أنه يتحتم وجود سوق حر دون تدخل الدولة. يضع بوبر قائمة من الأولويات لبناء دولة القانون:

  • السلام العالمي: أن تكون الأسلحة النووية بيد الشعوب المتحضرة لأجل تحطيمها والإحتفاظ بكمية قليلة فقط.
  • وضع حد للإنفجار السكاني.
  • التربية: يجب أن نربي الأطفال على اللاعنف، فهم غريزيًا ضد العنف، غير أن وسائل اللإعلام هي من تفسدهم لذلك ثمة حاجة للمراقبة من قبل الدولة. وفي حديثه عن الحرية يجد بوبر بأن الحرية المطلقة سخيفة لذلك يدعو إلى ضمان حرية الآخر، ذلك لأن الحرية المطلقة تكون تعسفية غالبًا بحيث تحرم الآخر من حريته. بذلك يتبنى مفهوم كانط للحرية “ما نحن في حاجة إليه هو مجتمع حيث حرية الفرد متعادلة مع حرية الآخرين، حريتي ليست متعادلة معك إلا عندما نرفض معًا استعمال العنف، أنا لا أضربك وأنت لا تضربني”. فالقاعدة في دولة القانون هي حمايتنا من الجريمة والعنف.

وفي حديثه عن دولة القانون، يدعو بوبر إلى التعاون مع الدين والمؤسسات الأخرى وخاصة التيارات غير المتشددة في الديانات المختلفة، ذلك لأنه يؤمن بأن الدين نفسه ليس مع العنف. كما يرى بأن الخطر الحقيقي يأتي اليوم من الوطنية، حيث هوية عرقية تدعي أنها الهوية الحقة، على الدولة حماية الأقليات وضمان حقوقهم لطالما أنه من المستحيل أن يكون لكل شعب دولة.

الكتب والديمقراطية:

في أثينا وابتداءً من عام 530 ق.م وجد أول سوق للكتب في التاريخ لبيع المخطوطات، خاصة الملحمتين الشهيرتين لهوميروس، الإلياذة والأوديسا. الذي أمر بتدوين قصائد هوميروس كان الطاغية بيزيسترات، كما هو من فتح المسارح. تحول الشعب الأثيني إلى شعب يقرأ هوميروس كأنجيل أثيني. بدأ الفلاسفة والكتاب مثل أناكساغوراس وهيرودوت يأتون إلى أثينا لنشر أعمالهم. فوفقًا لبوبر سوق الكتب يفسر الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلادي، هما حدثان مرتبطان. يقارن بوبر بين اختراع جوتنبرغ لآلة الطباعة وبين إنشاء سوق الكتب في أثينا، فسوق الكتب هو عامل مهم في بناء مجتمع يوناني ديمقراطي متطور فكريًا وأدبيا، وأختراع جوتنبرغ أدى إلى ثورة ثقافية وإزدهار في الفنون، وحسب بوبر فأن اختراع آلة الطباعة مرتبط بثورتي الإصلاح في إنكلترا عام 1648 و1688.

الديمقراطية ليست حكم الشعب:

وفقًا لأفلاطون هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسلطة:

الملكية: حكم رجل واحد

الأرستقراطية: حكم مجموعة من الأشخاص

الديمقراطية: حكم الشعب

كان يتسائل أفلاطون، إلى من يجب أن تعود قيادة الدولة؟ الأفضل حسب أفلاطون وحسب ماركس البروليتارية وقال هتلر أنا. يطرح بوبر المشكلة بشكل مختلف، هل توجد أشكال حكومة التي هي لأسباب أخلاقية جديرة بالعقاب؟ هل توجد أشكال حكومية تسمح لنا بالتخلص من الحكومة السيئة؟ هذه الأسئلة هي قاعدة الديمقراطيات.

يرفض بوبر أن تكون الديمقراطية سلطة بيد الشعب، ذلك غير ممكن، فهي بإختصار تساعدنا على التخلص من الدكتاتورية دون إراقة الدماء، سواء عن طريق الانتخابات أو البرلمان.

الحرية ودولة حد أدنى:

إن حماية الحرية مسؤولية مشتركة، نتشارك فيها جميعًأ، بمعنى أن حريتي عندما تبدأ يجب ألا تنهي حريتك, لذلك فأن الإسراف في الحرية يؤدي إلى التعسف والعنف. يعبر بوبر بشكل جميل عن ثنائية الحرية-الدولة بقوله: “نحن بحاجة إلى الحرية لمنع الدولة من التعسف في سلطتها ونحن بحاجة إلى الدولة لمنع تعسف الحرية”. يقترح بوبر وجود محكمة دستورية لمنع التعسف الناتج من الحرية.

كما يناقش بوبر آراء الفلاسفة هوبز، كانط، هامبلدنت وميل حول مفهومي الدولة والحرية. عند هوبز أن الإنسان من دولة سيكون ذئبًا لأخيه الإنسان. عند كانط الدولة عليها أن تضمن أكبر حرية ممكنة للفرد مع ضمان حرية الآخرين بنفس الدرجة. تبنى كل من ميل وهامبلدنت فكرة كانط، أي دولة حد أدنى. هذه الدولة مهمتنا الرئيسية هي الاعتراف بحقنا في الحرية والحياة ومساعدتنا على حماية حقوقنا. كما من مهمات الدولة الاهتمام بالفئات المستضعفة والشباب ومنع وسائل الاعلام من بث الاخبار الكاذبة.

الديمقراطية محكمة الشعب:

الديمقراطية هي النظام الأفضل بين الأشكال الأخرى للنظام، غير أن الديمقراطية ليست واضحة تمامًا. لطالما أن أغلبية الشعب تحدد الحكومة، فمن المحتمل أن تختار الأغلبية حكومة ديكتاتورية كما حدث مع هتلر. وفقًا لسقراط فالذي يحكم هو الذي يعرف نفسه والذي لا يعرف شيئًا، بمعنى أن اختيار الصحيح صعب جدًا. يقول بوبر أن الانتخابات التي يصوت فيها الشعب يجب أن تكون بمثابة معاقبة الحكومة المنتهية حكمها وليس إعطاء شرعية للحكومة الجديدة. فمن السهل جدا أن ينتخب الشعب حكومة دكتاتورية حيث الإنسان يصبح نصف إنسان. يحتار بوبر أمام مفارقة الانتخابات ويعترف بذلك. كما يحذرنا بوبر من الحكومة التي يشكلها اتلاف او كتلة من الاحزاب حيث لا أحد يتحمل المسؤولية، فوجود احزاب أقل يجعل من الحكومة تشعر بمسؤوليتها أكثر.

السلطة والمثقف:

المثقف يستطيع أن يفعل الكثير، فهم الذين يبدعون الأفكار ومن واجبهم أن يأتوا بما هو خير لمواجهة الأفكار الشريرة وخاصة التي تؤمن بها الجماعات المتطرفة. يأخذ بوبر على الفلاسفة الذين يستغلون الثغرات أو لأجل غايات شعبوية ويقومون بشيطنة النظام الغربي، الذي هو أفضل نظام في التاريخ. لا يعني بوبر بأنه نظام كامل، لكمنه يدعو المثقفين إلى قول الحقيقة وتغير ما يجب تغيره بدلًا من التمويه ونشر أفكار لا أصل لها.

من هم المعتزلة وما هي مبادئهم؟

خلال القرن الثامن الميلادي، ناقش علماء الدين المسلمون العديد من المسائل. كالتساؤل حول ما إذا كان القرآن مخلوقًا أم أبديًا. وما إذا كان الله قد خلق الشر، ومسألة الأقدار مقابل الإرادة الحرة. وما إذا كانت صفات الله في القرآن يجب أن تفسّر مجازياً أم حرفيًا. كما تعامل الإسلام أيضًا مع عدد من المذاهب التي اعتبرت فيما بعد بٍدعة مثل المعتزلة. وقد حاول فكر المعتزلة بدرجة كبيرة من المنطق والتفكير معالجة كل هذه القضايا.[1] وهذا ما سنتعرف عليهم في مقالنا هذا.

من هم المعتزلة؟

المعتزلة هي مدرسة فكرية في الإسلام نشأت في القرن الثامن الميلادي وازدهرت في بغداد والبصرة. ويُعتقد أن اسم المعتزلة يأتي من الجذر العربي اعتزل بمعنى “المغادرة”، أو “التخلي”، أو “الهجر”[1]

ونظر العديد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى عقلانية المعتزلة ومبادئهم على أنها محاولة لإعطاء حياة متجددة للفكر الإسلامي. سعيًا منهم لتجهيزه لمواجهة التحديات التاريخية.[2]

مفكروا المعتزلة هم أول من استخدم مقولات وأساليب الفلسفة الهلنستية لاستنباط أفكارهم العقائدية.[3] وغلبت عليهم النزعة العقلانية واعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل.[4]

أسباب وظروف نشأتهم

ظهرت تسمية “المعتزلة” لأول مرة سياسيًا في التاريخ الإسلامي المبكر في الخلاف حول قيادة علي بن أبي طالب للأمة الإسلامية بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان. واصفة أولئك الذين لم يُدينوا أو يعاقبوا علي أو يناصروا خصومه واتخذوا موقفًا وسطيًا.[3]

ولكن يرجع التأسيس الفعلي لهذه المدرسة فكريًا إلى واصل بن العطاء (699-749)، تلميذ الحسن البصري.

فقد اختلف واصل ابن عطاء مع أستاذه في الحكم على مرتكب الكبيرة والمقصود بذلك مَن يتعمّد ارتكاب الذنب الذي جاء فيه حدٌّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة، كالشرك بالله مثلاً، أو قتل النفس ظلماً أو ترك الصلاة.

قائلًا أنّه في (منزلة بين المنزلتين)؛ أي ليس بكافر ولا مؤمن. وانسحب من دائرة معلمه، وكوّن لنفسه حلقة دراسية منفصلة، فقال عنه معلمه (اعتزلنا واصل). ومن هنا جاءت التسمية حسب ما رواه الشهرستاني وآخرون بـ “المعتزلة”. [2]

ويعتقد أنّ دوافع سياسية مهيمنة أدت إلى ولادة هذا الفكر. لذا لا يمكن إنكار أن المعتزلة ظهرت كحركة سياسية.

ومن المؤكد أنه ولأسباب سياسية، حدث نوع من التقارب الطبيعي بين المعتزلة والمصالح السياسية العباسية. سواء تلاقت المصلحة في كون المعتزلة هم الوعاظ الجدد للخليفة، أم أنّ العباسيين وجدوا في آرائهم ما يناسب سياساتهم.[2]

لكنّ رغم ذلك يجب أن تنطوي أي دراسة علمية للمعتزلة على تحليل مقارن للمصادر، بسبب قلّة المراجع والمصادر التي وصلت من أعمال مفكريها الأوائل. لذا فأسباب نشأتهم لا تزال قيد الدراسة فيما عدا النزعة السياسية التي أدت إلى هيمنة فكرهم في العصر العباسي المتفق عليها. وما زال أثر فكرهم على العصر الذهبي الإسلامي غير مدروس بدقة ولم نعرف ما إذا كان وجودهم سبب في العصر الذهبي أم العكس.

لم يكن لفكر المعتزلة مركز أو مؤسس أو زعيم واحد. ففي الواقع، كانت أفكار المفكرين المعتزلة متباينة بشكل كبير في كلٍ من المسائل التفصيلية والمركزية الأكثر أهمية.[2] يرجع ذلك التباين لإعلائهم لقيمة التفكير واستخدام المنطق، إلّا أنهم اتفقوا على خمس مبادئ أساسية لفكرهم.

مبادئ المعتزلة:

التوحيد:

أيّ التمييز الوجودي بين الله وخلقه. بناءً على هذا المبدأ لا توجد مقارنة يمكن إجراؤها بين الاثنين. وقالوا: “أنّ صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته قادر بذاته، لا بصفات زائدة عن الذات”.

يميز المعتزلة بين صفات الجوهر وصفات الفعل. الأولى هي تلك التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من جوهر الله (الحياة، والقوة، والمعرفة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر). وهذه الأخيرة هي صفات قد يفعلها الله أو لا يفعلها، مثل كونه خالقًا أو حاكمًا، بمعنى أنه يستطيع أن يخلق أو لا يخلق، وفقًا لإرادته.[2]

فأسماء الله الحسنى ال99 الموجودة في القرآن، ليست أجزاء مميزة من الله، ولا يمكن تمييزها عن الله نفسه.[1]

كما رفض المعتزلة فكرة أن عدالة الله عدالة منفصلة عنه، تمامًا كما أن أطراف جسد الإنسان ليست منفصلة عن الجسد ذاته.[1] ورفض المعتزلة، بشكل جذري صفة القِدم، حيث يقولون إن الله أزلي وأن القِدم هو الطبيعة الخاصة لجوهره. وذلك لأنه إذا كانت الصفات جزءًا من القِدم مع الله، فستكون أيضًا جزءًا من ألوهيته.

[2] فنفوا بذلك كل الصفات عن الخالق فيما عدا صفة الوجود.

العدل:

قالوا: “إنّ العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيرًا أو شرًا، وإن  جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عزّ وجل”

فالبشر أحرار تمامًا في أفعالهم وقادرون على الاختيار بين الخير والشر. والخير والشر مفاهيم مجردة لا تعتمد على الوحي، وهي وجهة نظر تتعارض مع الجزء الأكبر من العقيدة الإسلامية التقليدية.[2]

وقالوا: “إنّ الله لا يفعل إلّا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد.”

الوعد والوعيد:

المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة ولا يُخرج أحداً منهم من النار. واتفق المعتزلة أنّ المؤمن التائب يستحق الثواب والعوض. ومن لم يتب عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار.

أي اشتملت هذه المسألة على يوم القيامة، حيث يجازي الله من أطاعه بما وعد به، ويعاقب من عصى بالنار.[1]

 المنزلة بين المنزلتين:

حيث يوصف مرتكبوا الكبيرة بأنهم يقفون في منتصف الطريق بين الإيمان والمعصية. حيث لا يمكن اعتبارهم مؤمنين تمام الإيمان ولا كافرين.

بقبولهم هذا المبدأ، كان المعتزلة يعلقون العدالة بشكل أساسي على من كان مخطئًا بين علي ومعاوية.

وبالتالي يتخذون موقفًا مشابهًا في آثاره لموقف المرجئين الذين تركوا مثل هذه الأمور ليقررها الله في الآخرة. وهذا الموقف الهادئ المحتمل لم يضر بشرعية خلافة الأمويين بعد الخلفاء الراشدين، ولا بادعاءات العلويين والعباسيين من ورائهم.[2]

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

حيث قالوا: “وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان والسيف كيف قدروا على ذلك”

وهو مبدأ أخلاقي يتضمن السماح بالتمرد على الحكام الظالمين كوسيلة لتحريم الشر.

وتأثرت هذه الفكرة بالثورة العباسية، التي اعتبروها بمثابة إسقاط عادل للسلالة الأموية الظالمة.[1]

وهو المبدأ المشهور الذي اتفق عليه جميع المسلمين على اختلاف تطبيقهم له فيما بعد بأبعاده السياسية وقصره على البعد الاجتماعي [2].

وكان للمعتزلة أثر كبير في الحياة السياسية والدينية

أثر المعتزلة في الحياة السياسية والدينية

ومن أهم نتائج التوحيد ونفي الصفات إنكار خلود القرآن. على الرغم من أنه كلام الله المباشر، إلا أنه وفقًا للمعتزلة، فإن القرآن مخلوق. وبالتالي يمكن تفسيره وفقًا لقواعد علم الكلام.

وتتجلى الأهمية المركزية للمعتزلة وبلوغهم أوج السلطة من خلال عقيدة خلق القرآن. ظهر ذلك بإعلان الخليفة المأمون، في عام 827، أنّ القرآن مخلوق هي العقيدة الرسمية للدولة الإسلامية.

فإذا كان القرآن مخلوقًا بالفعل، فيمكن أن يخضع للتفسير، وتعديل تفسيراته من قبل المفسر. لكن أساء المأمون استخدام هذه العقيدة وسعى لفرض سلطته ليس فقط على المستوى السياسي ولكن أيضًا على المستوى الديني.

لم يتفق المأمون في جميع معتقداته مع المعتزلة لكنه قرّب منظريها منه ودعاهم إلى بلاطه. وبطش بجميع من خالفه بفكرة خلق القرآن فيما يسمى تاريخيًا بالمحنة.

محنة خلق القرآن

حصلت المحنة عام 833، خلال العام الأخير من حياة المأمون وحكمه. إذ أصدر أوامرًا باستجواب العلماء المسلمين فيما يتعلق بطبيعة القرآن على أنه أزلي ومخلوق أو غير مخلوق. طلب المأمون من العلماء اعتناق موقف المعتزلة، وأولئك الذين رفضوا تعرضوا للتعذيب أو السجن.

وعلى الرغم من أنّ الأمر تم بهدوء وسلاسة في البداية واستجاب أغلب العلماء، إلا أن رفض الإمام أحمد بن حنبل (توفي عام 855)، الاعتراف بهذا الموقف. وأطلق سراح بن حنبل في عهد الخليفة الواثق، فبدا ذلك بمثابة انتصار للمدارس التي أيدت الطبيعة غير المخلوقة للقرآن. وبذلك أصبح موقف السنة منهم واضحًا، إلّا أنّ موقف الشيعة كان متباينًا.[1]

موقف الشيعة من المعتزلة

على الرغم من نقاط الالتقاء بينهما، إلّا أن العديد من المعتزلة الأوائل كانوا معاديين للشيعة بشكل واضح. أو على الأقل معارضين لعقيدة الإمامة الشيعية الأساسية، والتي بموجبها علي ونسله يجب أن يخلفوا النبي محمد كأئمّة أو “مرشدين”.[2]

لاحقَا تبنت بعض الطوائف الشيعية، ولا سيما الاثنا عشرية، مبادئ معينة من معتقدات المعتزلة، ودمجتها في عقيدتهم الدينية. قد يُعزى ذلك إلى حقيقة أن الطائفة الشيعية في جزء كبير منها لم تتأثر بالمحنة. وربما كان ذلك بسبب أن المذهب الشيعي سمح بمرونة أيديولوجية أكثر من الموقف الأشعري الذي تبناه لاحقًا الإسلام السني.[2]

وفي أيامها الأخيرة، استمرت بعض معتقدات المعتزلة بالوجود على ألسنة الأئمة الشيعة (كالإمام المفيد، الذي توفي عام 1022 وأيد العدالة الإلهية والإرادة البشرية الحرة، والزيديين مثل أولئك الموجودين في اليمن). ولكن كانت عوامل اضمحلالها وزوالها عديدة.

أسباب اضمحلال الفرقة

  • كانت عقلانية المعتزلة جذابة لبعض الطبقات الأكثر تحررًا وتعلمًا في ذلك الوقت. كموقفها من الإرادة الحرة، ومعارضتها المتأصلة للتجسيد الإلهي. ومع ذلك، نظرًا لكونها نخبوية بطبيعتها العقلانية، فلم تكتسب مكانة بين الجماهير.
  • قيام الخليفة المأمون بتأسيس المحاكمة في القرن التاسع، وعلاقاته الواضحة بمذهب المعتزلة، وما تلاه من اضطهاد للعلماء، جعل المعتزلة أقل شعبية بين الناس. ونتج عن المحنة وتداعياتها انتقال السلطة الدينية إلى مجتمع العلماء.[1]
  • أظهرت المحنة بوضوح عدم استدامة التفسير الرومانسي للمعتزلة كمدافعين عن الفكر الحر، أو أنهم “متحررين مثقفين” يحاربون ظلامية العقيدة. بل كان المعتزلة رجال دين صارمين، وغير متسامحين بما يكفي. وبمجرد وصولهم إلى السلطة، لم يترددوا في اضطهاد خصومهم الأكثر خطورة.[2]
  • كان فكر المعتزلة هو عقيدة الدولة، مدعومًا من السلطة العليا ودون مشاركة وثيقة مع الجزء الأكبر من المؤمنين. لذا كان من السهل عليها أن تتراجع خلف أبواب المدارس وتدير ظهرها للطموح السياسي.

نهاية الفرقة

كانت هيمنة أفكار المعتزلة قصيرة الأمد، ولكنها عاصرت العصر الذهبي الإسلامي. ثم انخفضت بالتوازي مع أزمة السلطة العباسية. وفي وقت مبكر من فترة المعتصم (833-842)، الذي أحاط نفسه بالمرتزقة الأتراك، وظهور العلامات الأولى لكيفية بدء القوى الفاسدة في التأثير بقوة على قرارات الخليفة، واحتجاز الأسياد كرهائن.

وعندما وصل المتوكل إلى السلطة عام 847، شرع في كسر القبضة التركية الخانقة. وفي محاولة لتعزيز هذه السياسة، قرر الوقوف إلى جانب العلماء المتدينين والمدنيين. في المقابل، كان عليه أن يفرض تحولاً في سياسات الخلافة الدينية. فألغى المحنة واضطهد المعتزلة والعلويين.

ورغم انتهاء عصر المعتزلة إلّا أن الأفكار لا تموت، وبدا وكأن الأحداث السياسية واستغلال الحكام لأفكارهم قد ظلمهم بعض الشيء. كما أنّ متطلبات العصر الحديث اقتضت العودة إلى أفكارهم الأكثر مرونة من سواها. و بُذلت بعض المحاولات الحديثة لإحياء الفكر المعتزلي، لمواجهة المدارس السلفية والوهابية التقليدية. ومن الأمثلة البارزة للمفكرين المعاصرين الداعمين للمذهب المعتزلي هم هارون ناسوتيون ونصر حامد أبو زيد. ومع ذلك، لم تتكلل هذه الجهود بالنجاح ولكن يمكن وصفها كمحاولات. ومن المهم مستقبلًا للثقافة الإسلامية أن تناقش فكر المعتزلة وألا يقتصر ذلك على الدوائر الفكرية الضيقة والأروقة البحثية. وهو هدف يبدو أنّه غير قابل للتحقيق في الوقت الحاضر .

المصادر:
1- newworldencyclopedia
2- compass
3- britannica
4- wikipedia

ما هو الموت؟

يصف الأطباء الموت في بعض الأفلام قائلين: «للأسف، توقفت جميع وظائفه الحيوية». فسواء كان ضمور الرئتين أو سكتة قلبية مفاجئة أو مرضًا عضالًا فتك بجسد الميت. فالعامل المشترك هو قصور أجهزة الجسم عن أداء وظيفتها. إن موت الجسد إيذانٌ للطبيب بإبلاغ أهل الميت وإشارة للعائلة بفعل ما يجب. الموت إذن هلاك جسدي يُفضي إلى عادات ومراسم معينة. ولكن ماذا يعني الموت فلسفيًا؟ هل ننعي الميت أم نزف تحرر فقيدنا من الأغلال الدنيوية؟ وهل يمكن النجاة منه؟

هل يمكن النجاة من الموت؟

لنعرف إمكانية النجاة من الموت يجب أن نفهم ماهيته، ولنطرح سؤالًا: ماذا يعني أن شخصًا ما قد مات؟ أن حياته انتهت؟  وكأننا نقول بالضبط: هل يمكن أن يكون هناك حياة عقب انتهاء الحياة؟ والإجابة قطعًا لا. وعلى نفس المنوال: هل إذا أكلت كل الطعام سيتبقى شيء؟ أو ماذا يحدث في الفيلم بعد نهايته؟ كلها أسئلة بلا إجابة فالمفترض أنه لا حياة بعد الموت.

لنفهم معنى النجاة تخيل معي أن طائرة تحطمت على الخط الفاصل بين كندا والولايات المتحدة وكان شغل المحققين الشاغل وقتها «أين سندفن الناجين؟»، نعم الناجين وليس المتوفين!

اعتاد الناس التفكير في البلد الأقرب بالضبط، ليكتشفوا حينها أن الإجابة كانت ببساطة «نحن لا ندفن الناجين». إذًا فالدفن للأموات والحياة للناجين وعليه فالنجاة عكس الموت. يصبح سؤال هل أكون ميتًا إن لم أكن من الناجين بديهيًا فالرُكاب إما ناجٍ أو ميت. لكن ماذا إذا مثلنا مراحل حياة الإنسان على النحو الآتي:

B1B2B3→…→ Bn

لترمز B  إلى الموت الجسدي. حينها تُمحى الأسئلة السابقة ويصبح السؤال: هل أظل على قيد الحياة بعد موت جسدي؟ أو هل يمكن أن أنجو أنا بعد موت الجسد؟ وهل أنا منفصل عن جسدي؟ للإجابة أو للاقتراب منها يجب أن نعرف من هو «أنت».

هل ينفصل الإنسان عن جسده عند الموت؟

إذا أردت أن تعرف مصيرك بعد الموت فلتبدأ بسؤال ميتافيزيقي: ما الذي يمثله شخص ما؟ أو ما أجزاء الإنسان؟ انقسم الفلاسفة والتفوا حول مذهبين أولهما (الثنائية Duality) وهي أن يتكون الإنسان من جسد ونفس، وثانيهما (الأحادية Monism) التي تنشق عنها (وحدة الجسد Physicalism) و(وحدة النفس Idealism). فما هي هذه المذاهب؟

الثنائية

تنص الثنائية على كون الإنسان جسدًا وشيئًا آخر لا نعرف ماهيته، على أن يكون هذا الشيء غير مادي وهو الكيان الذي يسمى العقل أو النفس. والعلاقة بين المكونين متبادلة؛ فالعقل يتحكم في الجسد، كأن تنوي الوقوف فتشرع قدماك إلى لمس الأرض. كما أن الجسد يؤثر في العقل، كأن تلدغ جسدك نحلة فتشعر بالألم الذي يعد بدوره معنويًا حسيًا. فاللدغة أصابت الجسد ولكن الألم تمثل في النفس أو العقل.

احتدم الجدل القائم بين الثنائيين والأحاديين وتسلح كل منهما بحجة ومنطق. دعونا نسمع جدالهما في حوار تخيلي بين كل من مولر (اسم ذو مقطع واحد أي يدعم وحدة الجسد) أن الجسد لا يحتاج نفسًا وأنها فرضية بلا داعٍ، بينما يرى فريدريك (اسم ذو مقطعين ويدعم الثنائيين) أن هنالك كيانًا غير مادي بجانب أجسادنا.

فريدريك: أزعم أن النفس موجودة وهي غير مادية. إذ تبقى بعد فناء الجسد وتكفل للإنسان الخلود.

مولر: أفهم وجهة نظرك، لكن إذا تكون الشخص من جسد ونفس مجتمعين كما تدعي، فإنه زوج مترابط ومستقل في ذات الوقت. فإن تفككت مكوناته بموت الجسد، تدمر الشخص لتدمر الزوج المترابط فلا يمكن لنفس كانت جزءًا من الزوج أن تقف بمفردها، وعليه لا توجد نفس.

فريدريك: فهمتني بشكل خاطئ، إذ لا تتضرر النفس بموت الجسد، من قال أنهما ملتصقان بغراء؟ العلاقة بين النفس والجسد مجرد ترابط وثيق قائم على التفاعل المتبادل وليس التصاقًا. وعليه لا يعني موت الجسد أن الشخص سيموت، فيمكن لروحه أن تتحرر ببساطة. إن فرضنا أن الجسد هو المنزل الذي نعيش فيه، فقد يعيش الشخص في منزل ويرتبط به ولكن احتراق المنزل لا يحتم موت الشخص، فقد يجد طريقه للخارج.

مولر: أنت تقول تفاعلًا متبادلًا، أليس كذلك؟ لكن إذا كانا يتصرفان بنفس الطريقة تمامًا، فلم لا نفترض أن هناك تفاعلًا موازيًا لموت الجسد، وهو موت النفس التابعة له؟ كما رمزت لعملية موت الجسد (Bodily Death) كالاتي:

B1 B2 B3→…→ Bn

نستطيع أن نفترض عملية مصاحبة وهي موت النفس (Soul Death):

S1 S2 S3→…→ Sn

فريدريك: لكن النفس كيان غير مادي، ولا يتأثر بعملية مادية كالموت على خلاف الجسد. وعليه لا يجدر بنا توقع موت النفس بتدمير الجسد.

يبدو أننا وصلنا في الحوار لنقطة جوهرية وهي وجود النفس. دعونا نستكمل الحوار بينهما لاحقًا.

كيف نثبت وجود شيء لا نراه كالنفس؟

الطريقة المعتادة هي افتراض وجود شيء لا نراه لتفسير أشياء نعلم يقينًا أنها موجودة فيما يعرف بالاستدلال على أفضل تفسير. وتصبح الفرضيات مدعومة بالملاحظات المادية التي وضعنا الفرضية لتفسيرها من الأساس [3]. فلم نصدق وجود الذرات مثلا رغم أننا لا نراها؟ ببساطة لأن النظرية الذرية (Atomic Theory) تفسر الانشطار النووي وإطلاق كمية كبيرة من الطاقة وهو أمر شهدناه جميعًا وله فيديوهات كثيرة على الانترنت. هل يوجد جراثيم؟ نعم، فهناك أمراض تتسبب بها الجراثيم ونرى أثر تلك الأمراض علينا. إذن، كي نستنتج وجود النفس، بقي لنا تحديد المشاهدة المادية التي سيكون وجود النفس مفسرًا لها.

لنعد إلى حوار فريدريك ومولر أو حوار الثنائية ووحدة الجسد.

فريدريك: تنطلق حجتي من مسلّمات ثلاث، الأولى أن لدينا إرادة حرة بصفتنا بشرًا. وثانيهما أن لا شيء خاضع للحتمية لديه إرادة حرة. وثالثهما وجوب أن تخضع جميع الأنظمة الفيزيائية البحتة للحتمية. فكل حدث في الكون خاضع لتسلسل منطقي سببي مُحدد سلفًا، ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة وثابتة. أؤمن بأنه لا يستقيم وجود الإرادة الحرة والحتمية معًا، وأن أجسادنا تحوي كيانًا غير مادي تنتج عنه إرادتنا الحرة وأفعالنا الواعية. 

مولر: وإذا ثبت الرأي القائل أن الإرادة الحرة مجرد وهم وأننا مُسيرون بالكامل، فهل ضربت حجتك في مقتل؟

فريدريك: ممم، ماذا عن خضوع كل المواد للحتمية؟ إذا ثبت ذلك وثبتت إرادة الإنسان الحرة، فلا يمكن أن يمتلك كيان مادي كالجسد وحده إرادة حرة، لأن تفاعلات المواد تتبع الحتمية. وهكذا النفس -باعتبارها كيانًا غير مادي- وهي المسبب بالتأكيد.

«لم يعد الكون حتميًا كما كان في الفيزياء الكلاسيكية».

ماكس بورن

لاحتمية المواد

مولر: إذن كل ما علي فعله هو نفي صفة الحتمية عن المواد وتوضيح أن المادة تمتلك إرادة حرة وأنها قد تتبرأ من حتميتها، أليس كذلك؟ حسنًا، أستطيع أن أجادل أن الأنظمة الفيزيائية تكون احتمالية في بعض الأحيان وهذا ما يدين به الرياضيّ والفيزيائي الألماني ماكس بورن. اتخذ بورن من ميكانيكا الكم مرجعيته فأي جسم كمي يبدو كنقطة ويتلاشى حينها أي وصف مكاني يعرّفه. وتتمتع الإلكترونات والأجسام الكمومية الأخرى بنوع من الوجود الاحتمالي. لذا يمكن للإلكترون أن يتواجد في أي مكان طالما دخل في حيز دالته الموجية.

يمكن وصف ذلك أيضًا من منظور هايزنبيرج ومبدأ عدم اليقين. فوفقًا لهذا المبدأ، كلما حددنا موقع الجسم الكمي بدقة أكبر قلت قدرتنا على تحديد سرعته على نحو دقيق، والعكس صحيح. لذا ما تقوله ميكانيكا الكم هو أن الجسيم الكمي لا يمكن أن يكون في مكان واحد فقط ولا أن يتحرك بسرعة واحدة فقط [4]. 

أرى أن الحتمية ليست فرضًا على المادة، فهناك مواد تتصرف على نحو عشوائي. وكنتيجة موازية، فالإرادة الحرة ليست حِكرًا على الكيانات غير المادية، فهناك مواد لا تخضع لقانون معين وتنتهج الاحتمالية وعليه يمكننا نسب صفة الإرادة الحرة لها. وأخيرًا أعتقد أنني أسقطت حجتك.

كما رأينا في حوار الثنائيين وممثلهم فريدريك، قامت الحجة على مسلّمات قابلة للنقد وثبت خطؤها. وحتى الآن لا مبرر للاعتقاد بأن الإنسان يتكون من جسد ونفس. وتوافقت الثنائية مع فلسفة رينيه ديكارت، الذي كان يرى أن العقل غير مادي. إذ ميّزه عن الدماغ بأنه موضع الذكاء وهو أول من صاغ مسألة العقل والجسد في صيغتها المعروفة اليوم. بينما كان إيمانويل كانط مؤمنًا بوحدة النفس. أما في نظر أرسطو، فالنفس لا تستقل عن المادة؛ وبذلك فإن النفس توجد بوجود الجسد وتفنى وتنتهي بموته وفنائه. والآن، إلى أي فئة تميل عزيزنا القارئ؟

المصادر

1-Stanford Encyclopedia of Philosophy

2-Encyclopedia.com

3-Yale University

4-Wondrium Daily

ما هي الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها؟

الفلسفة اللا إنجابية ومبرراتها

يمكن تعريف الفلسفة اللا إنجابية على أنها الفكرة التي تنادي بوجوب عدم ولادة الكائنات البشرية والكائنات الحية. وهذا المذهب الفلسفي يقوم على أسسٍ ومبادئ وأفكار تبرر الدعوة إلى عدم إنجاب الأطفال وتصنيفه على أنه فعل لا أخلاقي. وتختلف عن عدم الإنجاب الطوعي لأنه عبارة نمط حياة يختاره المرء لأسباب تكون في غالب الأحيان شخصية، وليس دعوة عامة [1].

تعود أفكار رفض الولادة إلى زمن بعيد، ويمكن إيجاد بذورها عند الإغريق القدماء. كما أثرت تلك الأفكار على الأدب والفلسفة الأوروبية حتى يومنا هذا. سنستعرض في هذا المقال الأسباب المختلفة لدعاة اللا إنجابية ومبادئهم، كما سنطرح وجهات نظر جدلية لهذه الفلسفة [pdf].

مبررات اللا إنجابية

يمكن تصنيف مبررات مناهضي الإنجاب حسب موقفين اثنين، أولهما خيري للبشر والثاني كاره للبشر [2].

الموقف الخيري للبشر

يؤكد الموقف الخيري للبشر (Philanthropic) على محبة البشر والثقة بهم، ويركز على فكرة الأذى الواقع على أولئك الذين يأتون إلى الوجود. وينادي هؤلاء بأن الإنجاب يجب أن يكون غير مسموح في كل الحالات ومع كل الاعتبارات. يستند هذا الموقف على أكثر من حجة وجدلية طرحها عدد من الفلاسفة [2].

عدم التماثل

تحدث الفيلسوف ديفيد بيناتار (David Benatar) حول فكرة عدم التماثل (asymmetry) بين المتعة والألم، والتي شرحها في كتابه من الأفضل ألا تكون موجودًا: ضرر الوجود (Better Never to Have Been: The Harm of Coming into Existence) (2006). في هذا الكتاب، يؤكد بيناتار أن عملية الإنجاب دائماً ما تنطوي على ضرر أو أذى يلحق بمن يأتي إلى الوجود. ويوسّع نقاشه إلى أبعد من دائرة البشر، فيرى أن كافة المخلوقات التي تشعر أو تدرك بما حولها تعيش حالة من الأذى عندما تأتي إلى الوجود. وبما أن هذا الأذى أمر محتم، من الأفضل ألا يأتي أحد إلى هذا الوجود منعاً للضرر، خاصة وأن عدم إنجابهم لن يتسبب بضرر لأيّ كان. وقد دعم بيناتار طرحه هذا بحجة عدم التماثل بين فكرتي الوجود وعدم الوجود، وكل من الألم والمتعة المنطويان عليهما.

ويمكن تلخيص فكرته بأن غياب الألم هو أمر جيد، حتى وإن لم يشعر أحدٌ بهذا الأمر الجيد، ولكن غياب المتعة هو ليس أمراً سيئاً طالما أنها لا تُسلب من أحد. ويشرح بيناتار هذه الفكرة وفق الجدولين التاليين:

العلاقة الأولى تمثل فكرة الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

سيناريو الإنجاب

العلاقة الثانية تمثل فكرة عدم الوجود وتبعاتها من ألم ومتعة:

سيناريو اللا إنجاب

وما يصل إليه بيناتار هنا أن فكرة حصول الإنسان على المتعة من حياته لا تعني أن الوجود هو أفضل من عدمه. وعند عدم قدوم الإنسان إلى الوجود، لن يكون هنالك من يفتقد هذه المتعة، وبالتالي فإن غيابها ليس أمراً سيئاً. كما يعتبر بيناتار أن من يرى نفسه سعيداً في الوجود ولا يعتبر نفسه ضحية أذى أو ضرر هو واهم. ويفسر تقييم الناس الإيجابي لحياتهم على أنه ناتج عن مظاهر نفسية معينة لا عن نوعية الحياة الحقيقية [2].

فرض الوجود على البشر

من الطروحات الأخرى التي قدمها اللا إنجابيون المؤمنون بخيرية البشر أنه يستحيل الحصول على موافقة أحد على خلقه. وبالتالي فإن الإنجاب ينطوي بالضرورة على خلق ضحايا واستغلال الأطفال الرضع للحصول في النهاية على أشخاص بالغين راشدين. أي أن الأذى الواقع على الفرد القادم إلى الوجود هو أذى كبير ولم تتم الموافقة عليه، وبالتالي من يود الإنجاب لن يكون قد حصل على موافقة مفترضة من صاحب الشأن في هذا الفعل. بالمقابل، عند عدم إحضار شخص إلى الوجود، لن يكون هناك من يتعرض للأذى؛ لن يكون هناك أي شيء [2].

والخلاصة أن الجدلية التي تحمل راية خير البشر تقوم على مبدأ أنه بسبب الأذى الواقع على الفرد عند إحضاره للوجود، يعتبر الأنجاب تصرفاً خاطئاً بكل الأحوال وفي كل الظروف.

الموقف الكاره للبشر

يتمثل الموقف الثاني المناصر للإنجابية بجدلية كارهة للبشر (Misanthropic). وعلى عكس الآراء الخيرة للبشر، تركز هذه الفكرة على الأذى الذي يسببه البشر عند خلقهم. وترى أنه من غير المسموح، في أغلب الحالات، إنجاب البشر. أو على الأقل يجب أن يكون هذا غير مسموح في ظل الوضع الحالي الذي يتم فيه الإنجاب. مجدداً، يظهر اسم الفيلسوف ديفيد بيناتار في هذا النقاش. ويطرح فكرته في إطار النقاش التالي:

الجدلية الكارهة للبشر

ويعدد هذا المبدأ أنواع الأذى الذي يتسبب به البشر بعد إنجابهم. فمنه ما يتمثل بأذى للبشر الآخرين، ويأتي بالمرتبة الأولى بقتل البشر لبعضهم. كما يمكن أن يأتي على هيئة اغتصاب واعتداء واستعباد وتعذيب. ولا يتوقف على هذا، بل يمتد ليشمل الكذب والسرقة والغش والخيانة، وغير ذلك. ومن النادر تحقيق العدالة حتى عند السعي وراءها، والأمثلة على هذا كثيرة [2].

يتسبب البشر أيضاً بأذى للحيوانات بأنواع وأشكال متعددة ولا يمكن حصرها. فمعظم البشر ليسوا بنباتيين (vegetarian) أو خضريين (vegan)، وهذا ما يجعلهم شركاء ضمنيين للعذاب الذي يقع على الحيوانات بسبب البشر. يضاف إلى هذا التجارب التي تقع على الحيوانات لأغراض العلم، والأذى المتعمد لمجرد التسلية، وغير ذلك. وبنفس السياق، لا يمكن تجاهل الأذى الذي يحدثه البشر للبيئة، والأمثلة عديدة من التلوث والمشاكل المناخية التي تتسبب بها المصانع والنشاطات البشرية. ومع التضخم السكاني على مستوى العالم، من المستحيل خفض حدة الأثر السلبي الناتج على البيئة.

وبهذا يتلخص نقاش كارهي البشر حول عدم الإنجاب بأهميته لتفادي الضرر الذي يسببه البشر عند وجودهم على عدة أصعدة.

وجهات نظر مختلفة عن الفلسفة اللا إنجابية

تختلف الآراء من هذه الفلسفة باختلاف العقائد والمبادئ. وقد تكون المجموعات المتدينة من أكثر الرافضين لها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالديانات التوحيدية. حيث يحمل المؤمنون بها فكرة أن الوجود بطبيعته هو أمر جيد. ولا يخلو رد اللا إنجابيين هنا من الإشارة إلى العذاب الذي تنطوي عليه حياة البشر بالمجمل. كما يطرحون التساؤل التالي: إذا كان الوجود أمراً جيداً بحد ذاته، لماذا لا يسعى من يؤمن بهذه الفكرة إلى إنجاب أكبر عدد من الأطفال إذاً؟ [2]

بالطبع لا تخلو الفلسفة من الجدل والنقاش، وأحياناً تنبع التساؤلات من قلب الفكرة الأساسية. فهنا مثلاً، إذا تبنى البشر فلسفة اللا إنجابية، ستكون النتيجة انقراض الجنس البشري طوعاً. وهذا يعني أن البشر الموجودون حالياً – أي من يفترض أنهم سيطبقون عدم الإنجاب – سيكونون الجيل الأخير. سيتناقص عدد من تبقى موجوداً بالتدريج، وتزداد الصعوبة على القلة التي ستبقى حتى النهاية. وتتمثل المشكلة هنا في النظر إلى الأذى الذي سيقع على آخر أفراد الجنس البشري – في حال تطبيق اللا إنجابية – وهل هذا الأذى هو فعلاً أقل من الأذى الناتج عن الوجود؟ بالنسبة للفيلسوف بيناتار ومن يتفق معه، يبدو أنهم يؤمنون بأن عذاب الوجود يفوق بشدة العذاب الذي سيتحمله آخر البشر في مسيرة اللا إنجاب. وعليه، يتمسكون بتوصياتهم بالانقراض الطوعي للجنس البشري [2].

المصادر

What is anti-natalism

Anit-Natalism – Internet Encyclopedia of Philosophy

مدخل إلى الأخلاقيات في العمل

ما هي الأخلاقيات؟

تشكّل الأخلاقيات أساساً لعمليات اتّخاذ القرار سواءاً في الحياة اليومية أو في الأعمال. فسيرة الإنسان تحددها مجموعة قراراته، الصغير منها والكبير. وتأخذ عملية اتخاذ القرار شكل السلسلة -كما في لعبة كانسة الألغام-، حيث يفتح كل قرار الباب لمجموعة أخرى من القرارات، وهذا يعني أن قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات الصحيحة بشأن ما هو صائب وما هو خاطئ هي الحد الفاصل بين حياة ناجحة وحياة أقل نجاحاً.

وتوفّر الأخلاق مجموعة من معايير السلوك التي تساعدنا على تحديد التصرّف المناسب للمواقف وأبعاد تصرّفاتنا على حيوات الآخرين. فالأخلاق على اختلاف مناهجها هي الأساس الذي نأخذ به في عملية صنع القرار، وهي التي توفّر لنا الأسباب والحجّة لاتّخاذ أحد القرارات دون غيره [1].

يتقاطع هدف الأخلاق مع هدف القانون، وأيضاً مع هدف الدين بشكل جزئي في أن الثلاثة يوفّرون إجابات عن أسئلة كيفية العيش مع الآخرين. لكن بالرغم من أن العديد من الأديان تشجّع اتخاذ القرارات الأخلاقية إلا أنها لا تعالج النطاق الكامل للخيارات الأخلاقية التي نواجهها. وقد يخيّل لنا أن القانون بدوره أيضاً يوفّر أرضية مرجعية للأخلاق إلا أن القانون يُبنى بمبادئ توجيهية عالمية، وغير قادر على الاستجابة للسياقات الفردية -جميع المواقف التي نجد أنفسنا إزائها في حياتنا الفردية-. فضلاً عن أن القانون بطيء في معالجة المشاكل. ويواجه صعوبة في تصميم وتطبيق المعايير الأخلاقية في بعض المجالات الهامة [1].

كما أن الإنسان في سياق حياته اليومية قد يقع في فخ اعتبار أن الأخلاق واحدة. فيخلط الأخلاق بعضها ببعض، كما قد يخلط بين الطرق والأساليب لتنفيذ القرارات الأخلاقية والقرارات الأخلاقية ذاتها. ويمكن أن يفيد الوعي بالمغالطات المنطقية في الحد من هذا الخلط. حيث يعتمد القرار الأخلاقي على قيم معينة تتعلق بالجدارة والثقة، والاحترام، والمسؤولية، والإنصاف، والرعاية والمواطنة الصالحة. وتولّد القرارات الأخلاقية سلوكيات أخلاقية بدورها، وتوفّر أساساً نظرياً للأخلاقيات في العمل [2].

أهمية أخلاقيات العمل

تأتي أهمية الأخلاق في العمل على أساس المسؤولية المشتركة للعاملين، وذلك في ثلاثة مواضيع [2]:

  • الحفاظ على ثقة الجمهور.
  • إنفاق واستخدام الموارد بالطريقة المُثلى.
  • المسؤولية أمام أصحاب المصلحة من مانحين ووكالات تمويل وطلاب وأولياء أمور.. الخ.

ومن الممكن توزيع القيم الأخلاقية الأساسية في عالم الأعمال إلى مجموعة القيم التالية [2]:

  1. الجدارة بالثقة: افعل ماستقول أنك ستفعله. تصرّف بنزاهة، واوف بالوعود، واجعل أفعالك تتسق مع أقوالك. كن مخلصاً لمن لم يكن حاضراً، وحافظ على السمعة الطيّبة.
  2. الاحترام: معاملة الآخرين بأفضل مما يعاملوك. كُن منفتحاً ومتسامحاً مع الخلافات، وراعِ الآخرين وهذّب تدخّلاتك، وتعامل بسلام، وعامل الآخرين بالطريقة التي يريدون أن يُعاملوا بها.
  3. المسؤولية والإنصاف: افعل ما هو متوقّع منك فعله وتحرّى العدالة في سلوكك وأحكامك. وحافظ على الانضباط الذاتي، وفكر مليّاً قبل الفعل، وتحمّل مسؤولية أفعالك، ولا تتحيّز، واسمع للآخرين.
  4. الرعاية: أظهر اهتمامك وعبّر عن امتنانك، واغفر للآخرين، وساعد من يحتاجك.
  5. المواطنة: لتكن عضواً فاعلاً، تعاون مع زملائك في العمل، وشارك معلوماتك، وابق على اطلاع، وأحسن للجوار. التزم بالقانون، واسعى للصالح العام.

وتقوم الكثير من المؤسسات والشركات بصناعة مدوّنة سلوك يوقّع عليها الموظف حال التحاقه بالوظيفة. ومدونة السلوك هي إحدى طرق التحدث بوضوح ومشاركة الأخلاقيات المهنية. تشمل أيضاً مشاركة العواقب التأديبية التي تلزم خرق مدوّنة السلوك هذه، غير أنه ثمة مدوّنات أخلاقية أخرى تتعلّق بحساسية وطبيعة مهن معيّنة مثل قسم أبقراط في المجال الطبّي. والمدوّنة الأخلاقية أو ما تسمّى بمدوّنة السلوك تهدف بشكل عام إلى منع الفساد، والحفاظ على أداء صحيح، ومشرّف، ولائق ويمنع تضارب المصالح [3].

بحث في أساس أخلاقيات العمل

إذا ما وضعنا الأخلاق تحت المجهر سنجد أنه لا وجود لنهج أخلاقي واحد مثالي وكافي. وإنما هناك مناهج أخلاقية متنوّعة قد تشترك في نواحي وتتباين من نواحي أخرى. وهي تعمل إلى جانب بعضها البعض بحسب إملاءات سياق اتخاذ القرار، وبحسب ميولات المشاركين في عملية صنع القرار. ومعرفتنا لهذه الأنواع الأخلاقية تزيد من قدرتنا -كصنّاع قرار- على الحوار مع الآخر، و تحسّن من القدرة على تفّهم منطلقاته النظرية. مما يجعلنا نهتدي إلى القرارات الصائبة دون إلحاق الضرر بعملية التواصل والحفاظ على بيئة عمل تعاونية.

أولاً) منهج الصالح العام وتاريخه

من الممكن أن يكون الكذب فعل أخلاقي عند التركيز على العواقب.

أصل هذه النهج الفيلسوف اليوناني أبيقور «270-347 D.C» مؤسس الفلسفة الأبيقورية. والتي ذهبت إلى أن المتعة هي القيمة الجوهرية للإنسان، أما باقي الأمور هي مجرد طرق لتأمين هذه المتعة.

خضعت هذه الأخلاق إلى تطوير على يد الفيلسوف البريطاني جيريمي بينثام «1748-1832». حيث صنّف في نظامه الأخلاقي الأفعال الجيدة تبعاً لمقدار ما تجلبه من متعة، وتحجبه من ألم، وذلك لمجموعات من الناس وليس للفرد الواحد نفسه. وذهب بعدها جون ستيورات ميل «1806-1873» إلى أن الأمر ليس حكراً على المتعة المادية فقط، بل بمقدار ما يجلب سلوكنا من سعادة للكم الأكبر من الناس. ومنهج “الصالح العام في الأخلاق” مستمد من هذا النوع، وتبلور بشكل خاص مع أفلاطون «347-427 ق.م» وأرسطو «322-384 ق.م». ودعمه فلسفة جان جاك روسو «1712-1778»، حيث يتحدد الفعل الجيد بحسب هؤلاء الفلاسفة بقدر ما يساهم في الحياة المجتمعية الأخلاقية، ويؤكد هذا النهج على الاحترام والتعاطف مع الآخرين ويأخذ ويسترشد بالإرادة العامة. [2]

ثانياً) منهج الواجب وتاريخه: التركيز على الواجبات والالتزامات

الكذب غير أخلاقي، بغض النظر عن العواقب.

يعود أصل المنهج الفعلي إلى كانط «1724-1804»، إلا أن بعض الفلسفات الدينية تعرّضت له بشكل غير مباشر، مثل أعمال القديس أوغسطين «350-430». ويشدد هذا النهج على أهمية الإرادة الشخصية والنية في اتخاذ القرار الأخلاقي. وعند كانط لا يتعلق فعل الصواب بعواقب أفعالنا، فهي أشياء لا سيطرة لنا عليها في النهاية. بل الصواب متعلق بالنوايا السليمة، والنابعة من حتمية الواجب الإنساني الذي يتلخّص بالتالي: “تصرف بطريقة تعامل الإنسانية، سواء في شخصك، أو في شخص آخر. ودائما كغاية لا كوسيلة حتى النهاية”.

ويندرج قانون حامورابي الذي ينص على وجوب معاملة الأحرار على حد سواء، والعبيد على حد سواء، وبدون الاهتمام بالعواقب ضمن هذا النهج. كما تندرج الأخلاقيات الدينية المستمدة من الأمر الإلهي ضمن هذا النهج أيضاً. فالمعيار الأخلاقي بحسب الأخلاقيات الدينية هو ما يقرّه الله في شرعه وما يلزم أتباعه به، دون أن يلزَم الله بمعيار معين للصواب والخطأ [2].

ثالثاً) منهج الفضيلة وتاريخه: التركيز على الشخصية التي يجب أن نكونها

من يكذب، يمكن أن يقوم بأي فعل آخر غير أخلاقي، وهذا الشخص ليس فاضلاً.

ليس لهذا المنهج أصل معيّن إلا أن له شعبية في حضارات شرق آسيا، ويظهر في تعاليم كونفوشيوس «551-479 ق.م». حيث يؤكد كونفوشيوس على أن الخلوق هو الذي يتصرف بذكاء وبطريقة مناسبة في مجموعة متنوعة من المواقف. والأخلاق حسب منهج الفضيلة لا ترتبط بسلوك معين يقوم به الشخص في موقف معين، بل هي سمت لهذا الشخص. ويجب أن تتجسّد الفضائل الإنسانية المُثلى في حياته ككل، ووفق هذا الإطار يعمل منهج الفضيلة. وحسب أفكار كونفوشيوس؛ فإن أخلاق الفضيلة تُعلّم بالقدوة، وعملية التدريب والتعليم الأخلاقي هي أمر جاد وملزَم [2].

ثلاثة أطر لأخلاقيات العمل

تتطلب عملية اتخاذ قرارات أخلاقية جيّدة حساسية مدرّبة، وطريقة في موازنة الاعتبارات التي يجب أن تؤثر على اختيارنا لمسار العمل. حيث تشكّل عملية اتخاذ القرار بطريقة أخلاقية منتظمة “حدساً أخلاقياً”. هذا الحدس سيمكّننا من التقرير الأخلاقي التلقائي. ويشبه هذا الأمر العزف على البيانو و قيادة السيّارة. وبما أنه لا يوجد نظرية أخلاقية مثالية تصح في كافة السياقات، فمن الضروري التفكير وفق ثلاثة أطر:

مصدر: https://www.brown.edu/academics/science-and-technology-studies/framework-making-ethical-decisions

والملاحظ أن الأسئلة الأخلاقية في كل إطار غير متعارضة، إلا أنه يمكن استخدام كل إطار بهدف تحقيق بعض التقدم في تقديم إجابات لأنفسنا وللآخرين. ففي كثير من الحالات، قد تؤدي الأطر الثلاثة إلى استنتاجات متشابهة حول ما يجب فعله. إلا أن الأطر المختلفة قد تعطي أسباب مختلفة للوصول إلى هذه الاستنتاجات.
ومن الخطوات التي تمر بها عملية التقرير هي [1]:

  • تحديد الجوانب الأخلاقية للمسألة المطروحة.
  • الأخذ بالاعتبار جميع مصالح الأطراف المعنية.
  • جمع كل المعلومات ذات الصلة.
  • صياغة الإجراءات والنظر في البدائل عن طريق الأسئلة التالية:
    • نفعي أوّلي: ما الإجراء الذي سينتج أكثر فائدة وأقل ضرراً؟
    • واجبي حقوقي: ما الإجراء الذي يحترم حقوق كل من له مصلحة؟
    • واجبي تحرّي العدالة: ما الإجراء الذي يعامل الناس على قدم المساواة؟
    • نفعي ثانوي: ما الإجراء الذي يخدم المجتمع ككل، لا بعض الأعضاء فقط؟
    • فضائلي: ما الإجراء الذي يقودني إلى التصرف كنوع الشخص الذي يجب أن أكونه؟
  • بعد صياغة الإجراءات يتم اتخاذ القرار.
  • معاينة النتائج وتقييمها والتفكّر فيما إذا كان من الممكن تغيير شيء ما لتحسين النتيجة.

الأخلاقيات الشخصية في مقابل الأدوار في العمل

ترتكز مرجعياتنا الأخلاقية على أحد المناهج الأخلاقية السابقة (منهج النفعية والصالح العام، أو منهج الواجب، أو منهج الفضيلة). إلا أننا قد نشهد تعارضاً بين أدوارنا في العمل وبين ما تمليه عليه أخلاقياتنا الشخصية. فكل مهنة تلعب دوراً في المجتمع وتتطلب ممارسات متخصصة للوصول إلى الأهداف المهنية. لكن في الوقت ذاته، قد نكون أمام مواقف مثيرة للجدل، وإليكم مثالاً عن هذه المواقف [3].

توصيف الحالة: لدى منظّمة خيريّة هدف الحصول على طعام لمنطقة تعاني من مجاعة، وتعيّن عليها اختيار أشخاص لتلبية أدوار مختلفة في توصيل الطعام. من هؤلاء المختارين موظّف لديه شاحنات لنقل الطعام من المخزن إلى الأشخاص المحتاجين. ويتّضح أن هذا الشخص منخرط في أنواع غير قانونية من الأنشطة مثل الابتزاز. وله سوابق في استخدام المال الذي يوفّره له صاحب المصلحة (المنظمة في حالتنا هذه)، وذلك في أغراض غير قانونية. وهذه الممارسات تتسبب في حصول تهديدات وأضرار فعلية لأشخاص آخرين. غير أن ثمة حاجة لهذه الشاحنات ولا توجد وسيلة نقل أخرى متاحة.

التعارض الأخلاقي: إعطاء الأعمال إلى مجرم هو دعم غير مباشر للأنشطة الإجرامية.
كيفية الحل: يمكن للموظف حل المأزق عن طريق استراتيجية لوبان المؤلفة من أربع خطوات [4]:

  1. أن يكون الفرد قادراً على تبرير المؤسسة الاجتماعية ذات الصلة بناء على الصالح الأخلاقي الذي تقوم به.
  2. تبرير دوره المهني بناءاً على هيكل المؤسسة.
  3. تبرير الالتزام بدور خاص -والذي يعتبر قيد البحث- من خلال توضيح أن السلوك المطلوب ضروري لذلك الدور.
  4. تبرير الفعل الذي يتطلّبه الدور من خلال توضيح أن الالتزامات بالدور تتطلّب هذا الفعل.

وإذ كان هناك ترابطاً في الإجابات؛ يكون من الواجب القيام بالفعل، وإن تعارض مع الأخلاقيات الشخصية. وهذه الخطوات عبارة عن إطار إرشادي فقط يوفر مساءلة نقدية لدورنا المهني. وعليه؛ قد يجد الموظّف المسؤول عن التعاقد مع موظف الشاحنات؛ أنه لا ينبغي أداء المتطلّب المهني هذا.

مثلاً: إذا توفّرت شاحنات أخرى لكن الحصول عليها يستلزم جهد إضافي، فلا يوجد حينها خطأ في اتباع الخطوتين 1و 3. لكن الخطوة 4 ستكون غير ممكنة حيث التزامات الدور تفترض هذه المهمة. وهنا نجد أن التعارض بين الأخلاقيات المهنية والشخصية تعارض وهمي.

مغالطات أخلاقية

تؤدي اللامبالاة بعملية اتخاذ القرار، أو عدم توافر الوعي الأخلاقي عند من يقوم باتخاذ القرار إلى مجموعة من المغالطات، نذكر منها [2]:

  1. هذا ضروري إذن هو أخلاقي: حيث ليس كل ما هو ضروري هو أخلاقي.
  2. فخ الضرورة الزائف: قد نبالغ في تقدير تكلفة القيام بالشيء الصحيح، ونصوّب تفكيرنا تجاه تنفيذ الأمر بأي وسيلة ممكنة. وعلينا أن نستحضر هنا أن الضرورة تفسير وليست حقيقة.
  3. إذا كان الأمر قانونياً وجائزاً، إذن هو مناسب: ليس كل ما هو قانوني أخلاقي بالضرورة. حيث أن ما هو متاح فعله حسب اللوائح القانونية، لا يعفينا من مهمة أن تكون لنا أخلاق شخصية.
  4. إنها مجرد جزء من الوظيفة: كون الفعل جزء من الوظيفة لا يعني أن الفعل أخلاقي بالضرورة أو يصح في كافة السياقات. فالأشخاص الواعون يشعرون أنهم مبررون للقيام بأشياء في العمل يعرفون أنها خاطئة في سياقات أخرى.
  5. كنت أفعل ذلك من أجلك فقط: هذا التبرير يضع قيمتي الصدق والاحترام مقابل قيمة الاهتمام. كما يبالغ في تقدير رغبة الآخرين في الحماية من الحقيقة، وهو التبرير الأساسي للكذبة البيضاء.
  6. الجميع يفعل ذلك: لا يمكن أن نأمن لأرقام الجموع التي تفعل أمر ما للتدليل على صحّته أخلاقيًا. وتنطوي هذه المغالطة على خلط بين السلوكيات، والعادات الثقافية، والتنظيمية، والمهنية والمعايير الأخلاقية.
  7. حان الوقت: حيث يشعر من هو مرهق أو يتقاضى راتب منخفض أن الوقت حان لبعض الامتيازات البسيطة. ويعتبرها تعويض عادل لقاء خدماته المقدّمة. ومنها قبول الإكراميات، واساءة استخدام الإجازة المرضية، والاستخدام الشخصي للوازم المكتبية، إلخ.
  8. أنا فقط أحارب النار بالنار: وهذا افتراض خاطئ. يُبنى على أساس ردة الفعل، فلا أخلاقية الشخص الآخر معي يعني أن سلوكي غير الأخلاقي معه مبرر بدوره. وهذا الأمر يعرّض نزاهتك للخطر.

في الوقت الذي نلعن به الظلام، لابد أن نشعل شمعة. وكما تعج أعمالنا اليومية بمواقف تتطلّب منا اتخاذ قرارات صائبة، من المفيد أن نشعل الشموع عوضاً عن تحطيم ما تبّقى منها. ومن المهم التفكير بإنسانية ومسؤولية حول مواقفنا وأفعالنا، وآثار هذه الأفعال ليس فقط على الآخرين، بل على أنفسنا أيضاًَ كأثر رجعي. لعلّ هذا التفكير يكون معدياً ويمكّننا من العيش السعيد.

المصادر

[1] Brown University
[2] UC SanDiego
[3] UNODC
[4] .Lawyers and Justice: An Ethical Study, Luban David

مبدأ عدم الضرر في التدخّلات الإنسانية

مبدأ «عدم الضرر – Do Not Harm»

اشتهر في الأوساط الطبية قَسَم سمّي «قسم أبقراط – Hippocratic Oath». ويعتمد هذا القسم على نص أصلي تم تكييفه بحسب الثقافات، إلا أنه حافظ على قوامه المعنوي وأصل فكرته. وتدور فكرة القَسَم حول القول الأشهر المنسوب إلى أبقراط بترجمة لاتينية ” primum non nocere”  ومعناها بالعربية “أولاً، لا تؤذي” وذلك كأساس للتدخّلات الطبّية [1].

وقد ورد في السياق نفسه لدى أبقراط في أعماله عن الأوبئة؛ عبارة يونانية ترجمت إلى التالي:

“في حالة المرض، يجب على المرء أن يضع في اعتباره شيئين، ليكون مفيدًا لا يسبب ضررًا” [1].

أبقراط

ولا تنحصر الإشارة إلى تجنب الضرر عند أبقراط، فالمفهوم بدوره تناوله التراث الإنساني العقائدي والديني. حيث عرّجت بعض الديانات والأيديولوجيات على أهمية عدم الضرر بالآخر كناموس أخلاقي. فنجد في الإسلام -نموذجاً- حديث نبوي مروي عن أبي سعيد الخدري: “لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضارّه الله، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه” [3]. ومعنى هذا أن الإنسان لا يجوز أن يضر بنفسه ولا بغيره، وفي هذا توسعة لمفهوم الضرر يشمل الضرر بالذات أيضاً.

تعريف الضرر

يرتبط مفهوم الضرر بالحرية وحدودها في القول المشهور الذي نُسب لأكثر من قائل: “ينتهي الحق في تأرجح ذراعي في أي اتجاه حيث يبدأ أنفك” [4]. ويشيع في الأوساط الشعبية قول مجهول المصدر “أنت حر ما لم تضر”. كما نجد فيما كتب «ستيورات ميل – John Stuart Mill» في كتابه “الحرية” عن دور السلطة في منع الضرر يقول:

“أن الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة بشكل صحيح على أي فرد من أفراد المجتمع المتحضر، رغماً عنه، هو منع إلحاق الأذى بالآخرين” [5]

جون ستيوارت ميل

ويشمل الضرر أي إصابة جسدية أو عقلية، وهو شيء يتسبب في إصابة شخص أو شيء ما أو كسره أو جعله أقل قيمة أو نجاحًا. كما يمكن إطلاقه على كل فعل يشوّه أمراً أو يسبّب له التدهور والنقصان. ” [6] [7].

قد يبدو للوهلة الأولى أن التفريق بين الممارسات المضرّة وغير المضرّة بالآخر سهل، إلا أنه إذا أمعنا النظر في السلوكيات التي تصب في مصالحنا بعمومها، نجد أنها قد تتعارض مع مصالح الآخرين [8]. لذلك من اللازم أن نقوم بتحديد معنى الضرر الذي يجب تجنّبه كي لا يختلط الأمر علينا، أو نقع في فخ الأسئلة الخاطئة في مواجهة أنفسنا ومحاسبتها. مثلاً: إذا استفدنا من الفوز بترقية في العمل بينما يخسر المتقدمون الآخرون، فهل يعد ذلك ضاراً بهم؟

في الحقيقة سيناريوهات من هذا النوع قد تبدو مضللة، إلا أن الضرر الذي يجب تجنّبه هو ما يُعرف بوصفه؛ انتكاسة لمصالح مهمة تعود بالنفع على الآخرين. وفي السيناريو السابق ليس الترقي حكر على شخص معين، فالفوز هنا ما دام على أساس الجدارة فهو عادل. كما يروج في أحاديثنا اليومية إلقاء اللوم على الآخرين تحت تأثير من مغالطة السيناريو، كما في المثال التالي:

لو أن صاحب سيارة تركها في مكان عمومي مفتوحة الأبواب، فقادها اللص. وأثناء رؤيته لرجال الشرطة غير الاتجاه فجأة، وضاعف سرعته، الأمر الذي تسبب في وقوع حادثة سير؟ هل صاحب السيارة له دور في الضرر؟

الجواب هو لا. لأن السببية المباشرة هنا هي التي يتعين أخذها بعين الاعتبار في حدوث الضرر.

أهمية مبدأ عدم الضرر في العمل الإنساني والإنمائي

العمل الإنساني والإنمائي هو عمل ممنهج، وله ضوابط وقواعد تهدف إلى حشد القدرات والمعارف وتوجييها بطريقة واعية. وهذا من أجل تحقيق أثر إيجابي في المجتمع، وهذا النوع من الأعمال ينطوي على مخاطر مخفيّة يعايشها عاملو الميدان بشكل مباشر. حيث يوجد خيط رفيع بين إيذاء المجتمع وإفادته. وأساس التخطيط للتدخلات الناجحة المفيدة هي أن نسأل:

من؟ أين؟ ماذا؟ متى؟ لماذا؟ كيف؟ [9]

6 أسئلة رئيسية

ولهذا وجد نهج عدم الضرر DNH والذي يقوم على عدة خطوات [9]. وهي:

  1. تحليل السياق؛ وتحديد المنطقة، والسكان المعنيين، وأطراف النزاع (حكومة، ومجموعات عرقية، ومجموعات دينية). وتحديد الأسباب الجذرية للنزاع، والتدخلات المعمولة من قبل الفاعلين المجتمعيين الآخرين، وأيضاً من قبل الجهة نفسها.
  2. ما هي الأمور التي تساهم في تكريس النزاع وتعميقه (Dividers)؟ وما هو أكثرها تأثيراً؟ أيضاً ما هي الأمور التي تربط بين الناس (Connectors)، وما هو أكثرها تأثيراً؟ ومراعاة هذه العوامل أثناء العمل.
  3. قياس آثار التدخلات على عوامل الارتباط والانفصال (Dividers and connectors).
  4. كيف أثر تدّخلنا على المجتمع المضيف، وما هي خياراتنا الأخرى المتوافرة وكيف تؤثر على عوامل الارتباط والانفصال.

يشجع نهج عدم الضرر إلى اتخاذ خطوة إلى الوراء، والتفكير مليّاً قبل التصرف. والهدف هو تعزيز تصميم المشروع وإدارته. أيضاً يفيد في منهجة طريقة عمل تسمح بفهم أفضل للآثار السلبية على المشاريع أو البرامج المستقبلية. وتعتبر الرغبة في علاقات جيدة مع المستفيدين هي جزء لا يتجزأ من التفكير بنهج عدم الإضرار [10].

والعمل على مبدأ عدم الإضرار في العمل الإنساني أساسي للعاملين الإنسانيين في مناطق النزاع. حيث يساعد على تحديد الأثار السلبية غير المقصودة للتدخلات الإنسانية والإنمائية في مناطق الصراع. ويمكن اعتماد هذا النهج في عملية التخطيط والمراقبة والتقييم للتأكد أن التدخل المعمول لا يؤدي إلى تفاقم الصراع بل يحسّنه [11].

محاذير العمل الإنساني والإنمائي

تفيد المنظمة السويدية “Swedish mission council” بأن هناك عدة أخطاء تتكرر بشكل كبير داخل العمل الإنساني وجب الإنتباه إليها وإلى أضرارها. فمن غير المعقول أن نساعد أحداً من ناحية ونضرّه من ناحية أخرى. وهي [12]:

  1. التناقض بين الأسلوب والفعل.

2. الإضرار بمصالح الناس.

3. التحيز في استهداف التوزيع لمجموعة من المجموعات المتنازعة دون الأطراف الآخرين.

4. التدخّل القاصر، الذي يقدم خدمة تساهم في تدمير نظام الخدمات الأخرى في المنطقة، ويؤثر على ما يربط الناس ويزيد من حدة العنف.

5. إعطاء أهلية وإضفاء صبغة شرعية للزعماء الذين نعمل معهم لتسهيل تقديم الخدمات الإنسانية.

وتفيد نتائج الاستطلاعات بأن اتّباع نهج عدم الإضرار في الأعمال الإنسانية يحسّن المساءلة تجاه المستفيدين، والعلاقات مع المستفيدين. كما يعزز فهم سياقات وديناميكيات المجتمع التي تتم فيها المشاريع. ويزيد أيضًا من درجة الثقة بالتدخّل المعمول من قبل الجهة في منطقة التدخل [10].

المصادر
[1] BMJ
[2] الطب ورائداته المسلمات، عبد الله عبد الرزاق مسعود السعيد.
[3] كنز العمال، الملتقي الهندي.
[4] Quoteinvestigator
[5] Stanford Encyclopedia of Philosophy Archive
[6] Britannica
[7] Merriam-Webster
[8] Ethics
[9] Oxfam
[10] Jean Charancle, Elena Lucchi, Incorporating the principle of “Do No Harm” How to take action without causing harm reflection on a review oh Humanity & inclusion’s practices.
[11] INEE
[12] Swedish mission council

Exit mobile version