نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

هذه المقالة هي الجزء 6 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

تعد الأبستمولوجيا (نظرية المعرفة) قديمة قدم الفلسفة، وكانت موضوعاً للعديد من التحليلات والفرضيات. فقد طرح العديد من الفلاسفة وجهات نظرهم وحاولوا تعريف “المعرفة”.

نظرية المعرفة – الأبستمولوجيا

في الفلسفة، تعرف نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا (Epistemology) على أنها الدراسة الفلسفية لطبيعة المعرفة البشرية وأصلها وحدودها. ويعود أصل كلمة أبستمولوجيا إلى الكلمتين اليونانيتين epistēmē  وتعني المعرفة، و logos وتعني المنطق [1]. يرجع تاريخ دراسة نظرية الفلسفة إلى أيام اليونان القديمة. فعند أفلاطون، كانت نظرية المعرفة تتمثل بمحاولة فهم ما معنى أن نعرف، وكيف تكون المعرفة جيدةً للعارف، ثم عند لوك (Locke) فكانت محاولة فهمٍ للعمليات التي يجريها الفهم البشري. في حين يرى كانت (Kant) أن نظرية المعرفة هي محاولة لفهم الظروف والشروط المحيطة بإمكانية الفهم البشري، وأما راسل (Russell) فيعتبر أنها محاولة فهم كيف يمكن تفسير العلم الحديث باللجوء إلى التجربة الحسية [2].

وتمثل كل هذه المحاولات التطور الذي طرأ على مفهوم المعرفة من وجهة نظر الفلسفة خلال تاريخها الطويل، والذي كانت المعرفة فيه تأخذ شكل نظريات وأطروحات، إضافة إلى أسئلة ومفاهيم وتصنيفات، وغير ذلك. يمكن تلخيص مواقف فلاسفة الأبستمولوجيا أو نظرية المعرفة عبر هذا التاريخ بأن بعضهم وضع أفكاراً عن ماهية المعرفة وماذا يمكن أن تكون، في حين أخذ بعضهم موقفاً رافضاً لإمكانية وجودها [3].

أنواع المعرفة

يتحدث د. دنكان بريتشارد من جامعة إدنبرة في كتابه ما المعرفة؟ عن نوعين من المعرفة وهما المعرفة الافتراضية (propositional knowledge) ومعرفة القدرة (ability knowledge) [4]. تتعلق المعرفة الافتراضية بافتراض معين (proposition)، تُخبرنا عنه جملة محددة تكون عادة جملة توضيحية (declarative) تفترض وجود حالة ما. مثلاً، تخبرنا جملة “تجلس القطة على السجادة” بالافتراض المتمثل بأن القطة موجودة على السجادة. يمكن القول أنّ هذه جملة توضيحية لأنها تصف حالة ما، وهذه الحالة قد تكون صحيحة أو خاطئة. فإذا كانت القطة فعلاً موجودة على السجادة، فالعبارة صحيحة، أما إذا كانت القطة موجودة على الكرسي، أو على الطاولة، فالعبارة خاطئة. كي نفهم المعرفة الافتراضية بطريقة أفضل، سنأخذ مثالاً على جملة ليست توضيحية وبالتالي لا تمثل افتراضاً. عندما نقول لأحد ما “أغلق الباب!” لا نكون قد أعطينا افتراضاً أو طرحاً معيناً لأن هذه الجملة لا تقبل أن تكون صحيحة أو خاطئة. فهي لا تفترض وجود حالة معينة [5].

أما النوع الثاني فهو معرفة القدرة ويسمى أيضاً الدراية العملية (know-how). وهي معرفة الطريقة التي تتم بها ممارسة نشاط معين. من الأمثلة على ذلك معرفة ركوب الدراجة أو معرفة السباحة. ومن المهم للإنسان أن يمتلك هذا النمط من المعرفة [4].

يكمن الفرق بين هذين النوعين بأن المعرفة الافتراضية تقتصر على كائنات متطورة نسبياً من الناحية العقلية، كالبشر، في حين أن معرفة القدرة هي شائعة بين الكائنات. على سبيل المثال، تعرف النملة الاتجاهات التي تسلكها أثناء السير في محيطها، ولكن هذا لا يعني أن النملة تمتلك معرفة افتراضية وحقائق معينة [4].

من الجدير بالذكر أنه ليس بالضرورة أن تكون المعرفة الافتراضية معصومة (infallible). فالمعرفة الافتراضية تعني وجود افتراضٍ معينٍ يصف حالة ما، ولكن هذا لا يعني أنها تشمل ما إذا كان الافتراض صحيحاً أم لا [5].

المكونات الأساسية للمعرفة

وفق تحليل المعرفة التقليدي، توجد ثلاث مكونات أو شروط رئيسية تعبّر عن المعرفة، وهي شرط الحقيقة (truth) وشرط الاعتقاد (belief) وشرط المبرر (justification). يسمى هذا بتحليل JTB للمعرفة [6]. ويتفق على هذا التحليل عددٌ من الفلاسفة، من بينهم أفلاطون وكانت وآخرون، وبناء عليه، إذا كان لدى أحد ما “اعتقاد حقيقي مُبَرّر” بأن افتراضاً ما هو صحيح، فهذا الشخص يعرف بأن الافتراض صحيح [7]. فما هي هذه الشروط؟

أولاً، وكي نقول أنّنا نعرف شيئاً ما، يجب أن يكون هذا الشيء حقيقياً، لأن الشيء غير الحقيقي أو غير الموجود لا يمكن أن يشكّل معرفة [5]. حتى تكون الجملة “تجلس القطة على السجادة” معرفة، يجب أن تكون القطة موجودة على السجادة، وإلا، فهذه ليست معرفة.

ثانياً، حتى تتحقق المعرفة، يجب أن يكون هناك اعتقاد وإيمان بالافتراض المطروح. بالعودة إلى مثال القطة، إذا لم أكن أؤمن أو أعتقد بأن القطة على السجادة، فلا أستطيع أن أقول بأنني أمتلك المعرفة الكامنة وراء هذا الافتراض [5]. في سياق تحليل JTB للمعرفة، يتمثل الاعتقاد باعتقاد كامل أو قوي وليس مجرد ثقة من شيء ما [6]. مثلاً، إذا كنت أعتقد بأن القطة موجودة على السجادة، ولكن لم يكن هذا الاعتقاد يقيناً، أي إذا لم يكن كاملاً، فلن يرقى لمستوى المعرفة. ويجب تأكيد الاعتقاد بشكل قطعي كي ندعوه معرفة [6].

ثالثاً، من الضروري وجود مبرر كي تتحقق المعرفة. فمثلاً إذا رمينا قطعة نقود وقلنا بأنها ستقع على جهة “النقش” وبالفعل حدث هذا، لا يمكن القول بأننا كنا “نعرف” أنها ستقع على جهة “النقش”. بل هذا تخمين وليس معرفة، ويعود السبب إلى أن الاعتقاد بأن القطعة النقدية ستقع على جهة دون سواها ليس اعتقاداً مثبتاً أو مبرراً، وعليه، فهو لا يمثل معرفة [6].

مسألة غيتييه (Gettier Problem)

في عام 1963، نشر الفيلسوف الأمريكي إدموند غيتييه (Edmund Gettier) مقالاً يتحدى فيه التحليل التقليدي للمعرفة ذو المكونات الثلاثة. ويضم هذا المقال عدداً من المسائل الحقيقية أو المحتملة يكون فيها لدى الشخص “اعتقاد حقيقي مُبَرّر” ولكنه لا يمثل معرفة. وقد كان لمقاله هذا أثر عميق في الأبستمولوجيا، حيث بدأ الباحثون في هذا المجال بإعادة النظر في طبيعة المعرفة، واتفق أغلبهم أن غيتييه نجح فعلاً في نقض تعريفها التقليدي. وفي الحالات المبنية على مسألة غيتييه، يوجد عنصران أساسيان، هما الخطأ في التبرير والحظ [8].

من الحالات التي عرضها غيتييه في مقاله الحالة التالية. كان لدى سميث وجونز مقابلة عمل، وقام رئيس الشركة بإخبار سميث أنّ جونز هو من سيحصل على الوظيفة. وكان سميث يعرف أن لدى جونز عشر قطع نقدية، فقد عدّها بنفسه. وبناءً على كلام رئيس الشركة وملاحظته لعدد القطع النقدية، خرج سميث بالاعتقاد المبرر التالي: من سيحصل على الوظيفة لديه عشر قطع نقدية. هنا لا يُعتبر افتراض سميث تخميناً، فلديه اعتقاد حقيقي وتبرير ليصنف افتراضه على أنه معرفة [8].

ولكن في نهاية الأمر، يحصل سميث على الوظيفة، وسميث نفسه لديه عشر قطع نقدية، وبهذا تكون فرضية سميث صحيحة ولكنها ليست معرفة. في واقع الأمر، توجد حقيقتان في هذه الحالة  – سميث حصل على الوظيفة، وهو يملك عشر قطع نقدية – وهاتان الحقيقتان تجعلان من افتراض سميث صحيحاً. ولكن لم تكن أي منهما معروفتين لسميث، وحسب رأي غيتييه، يمكن القول أنّ افتراض سميث لا يمثل معرفة. بعبارة أخرى، يرى غيتييه أن سميث فشل في معرفة أن الشخص الذي سيحصل على الوظيفة لديه عشر قطع نقدية [8].

تساؤلات لنظرية المعرفة: هل حقاً لدينا “معرفة”؟

ترى بعض أشكال الشكوكية الفلسفية (Philosophical Scepticism) أننا لا نعرف الافتراضات التي نظن أننا نعرفها [9]. ولأن الشك يمثل موضوعاً مثيراً للاهتمام في الفلسفة، فهو يستحق حيزاً مستقلاً للحديث عنه.

اقرأ أيضاً: ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

المصادر:

  1. Britannica – Epistemology
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemology
  3. Internet Encyclopedia of Philosophy – Knowledge
  4. كتاب ما المعرفة؟ تأليف دنكان بريتشارد  – ترجمة مصطفى ناصر
  5. Pritchard, Duncan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera
  6. Stanford Encyclopedia of Philosophy – The Analysis of Knowledge
  7. Paul K. Moser. Propositional Knowledge
  8. Internet Encyclopedia of Philosophy – Gettier Problem
  9. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Skepticism

ملخص رواية “الغريب” للكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو

ملخص رواية “الغريب” للكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو

“في ذلك الليل الذي يفيض بالنجوم، أحسست للمرة الأولى برقة وعذوبة اللامبالاة، وأحسست أنني كنت سعيدًا في يوم من الأيام ولا زلت حتى الآن” ألبير كامو، رواية الغريب

رواية “الغريب” للكاتب الفرنسي ألبير كامو

تعتبر رواية الغريب أولى روايات الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو والتي نال على إثرها شهرة واسعة، تجلت فيها فلسفته الخاصة ومحاولاته لاكتشاف الإنسان وتجريده من كل ما هو لا إنساني، فجاء ميرسو بطل رواية الغريب ليمثل حقيقة البشر عندما يتخلصوا من كل الأقنعة الزائفة وينزعوا قشور المجتمع الباهتة، وظهر بهيئة المظلوم المتوحش الذي لا يبالي بأحد ويجهل تمامًا ماهية الكثير من المشاعر، بعدما ضاع من ضميره الإنساني، وفقد إنسانيته المتمثلة في مجموعة من المشاعر الإنسانية المعتادة، واتبع مبادئه الخاصة التي أوصلته بدورها إلى خشبة الإعدام.

الخطاب:

تبدأ حكاية ميرسو عندما تلقى خطابًا من دار المسنين التي أودع فيها والدته مسبقًا بعدما أصبح غير قادر على إعالتها، لإعلامه بوفاتها ووجوب حضوره لإتمام مراسم الدفن اللائقة، لذلك طلب إجازة من عمله واستعد للسفر، وكان يوم سفره شديد الحرارة وبسبب إرهاقه الشديد وحرارة الجو المرتفعة غفى ميرسو طوال الطريق حتى وصل إلى الدار، وفور وصوله اتجه إلى غرفة المدير ليسمح له برؤية الفقيدة، ولكن عندما أصبح أمام التابوت شعر فجأة بعدم رغبته في رؤيتها ورفض أن ينزع الحارس المسامير من غطاء التابوت.

جلس ميرسو أمام جثمانها وشعر برغبة شديدة في التدخين ولكنه كان مترددًا أن يدخن أمام والدته ثم أدرك أن ذلك ليس مهمًا على الإطلاق من وجهة نظره فقدم للحارس سيجارة ودخنا معًا، وبعدها عرض عليه الحارس قهوة باللبن فقبلها دون تردد وبعدما أنهى قهوته شعر برغبة في النوم فغفى على كرسيه، واستيقظ ميرسو ليجد أن أصدقاء والدته قد حضروا ليسهروا بجانب الجثمان حتى تتم مراسم الدفن، فسهر معهم في صمت.

أخبره الحارس أن كل أصدقاء والدته قد حضروا ما عدا السيد بريز أكثرهم قربًا منها والذي سمح له مدير الدار أن يحضر مراسم الدفن شرط ألا يسهر معهم حتى لا يصيبه مكروه بسبب المجهود الزائد، في الصباح انطلق الجميع لدفن السيدة وسار معهم في صمت يراقب العجوز بريز من بعيد وعندما سأله الحارس عن سن والدته فأجابه أنه لا يعلم، وبعد إتمام مراسم الدفن في هذا اليوم الكائظ رحل ميرسو على عجل دون أن يجثو على قبر والدته أو يبدو عليه أي حزن فقط كان صامتًا حتى أنه لم يبك.

عند استيقاظه في اليوم التالي قرر الذهاب للاستحمام في حمامات الميناء، وهناك رأى ماري زميلته السابقة في العمل فتجددت العلاقة بينهما وقررا الذهاب إلى السينما معًا في مساء ذلك اليوم، وعندما إرتديا ثيابهما ورأته ماري في ملابس الحداد سألته عن السبب فأجابها أن والدته دفنت في أمس ذلك اليوم، ففزعت ماري ورجعت إلى الخلف ولكنها وافقت على الذهاب معه إلى السينما على أية حال، وبعدما انتهى الفيلم الكوميدي الذي حضراه رجعت معه ماري إلى البيت.

وفي اليوم التالي بعد رجوعه من عمله قابل جاره العجوز سالامانو وكلبه الذي لم يفارقه منذ ثماني سنوات رغم خلافاتهما المتكررة، كما التقى بجاره ريمون على السلم وكان يقال عن ريمون أنه يكسب قوته من النساء وكان منبوذ من الجميع إلا أن ميرسو كان يتقبله فلم يجد سببًا يكرهه لأجله ولم يكن يهتم.

قتل بمحض الصدفة:

دعاه ريمون للعشاء فقبل ميرسو وأثناء تناول الطعام أخبره ريمون عن عشيقته السابقة التي خدعته وعن رغبته الملحة في الانتقام، وطلب منه أن يكتب خطابًا باسم ريمون ليستطيع أن يستدرجها إلى شقته وينفذ انتقامه، وقبل ميرسو كتابة ذلك الخطاب فلم يكن يرى مانعًا من ذلك ولم يشعر بأهمية ما يقوم به على الإطلاق، وفي نهاية الأسبوع حضرت ماري لتقضي العطلة مع ميرسو وفجأة سمعا أصوات مشاحنات من غرفة ريمون وصوت امرأة تصرخ بشدة جعلت الطابق يعج بالبشر، ثم حضر رجل الشرطة الذي أمر ريمون بالذهاب إلى قسم الشرطة في وقت لاحق ليدلي بأقواله، وطلب ريمون من ميرسو الذهاب معه ليشهد على خداع عشيقته فلم يمانع.

عند عودتهما وجدا سالامانو العجوز يبحث عن كلبه بلهفة واضحة بعدما ضاع منه، فشرعا يخففان عنه وأخبره ميرسو أن يذهب إلى مستودع الكلاب ويسأل هناك عن كلبه العزيز، وبعد فترة من صعود شقته تبعه العجوز وجلس معه لبعض الوقت يحكي له عن كلبه ويأمل أن يطمئنه ميرسو، وبرغم ضيق ميرسو بالعجوز الجالس في غرفته إلا أنه استمع له بسبب إشفاقه عليه وأنه لا يرغب في النوم.

في اليوم التالي دعاه ريمون لقضاء العطلة معه هو وصديقه ماسو على الشاطئ وأن يحضر ماري معه حتى لا تظل زوجة صديقه بمفردها، وفي يوم الأحد استعد كل من ماري وميرسو وانتظرا ريمون أسفل البناية، وعندما نزل أشار لميرسو أن ينظر باتجاه مجموعة من العرب يقفون في الزاوية وأخبره أن أحدهم هو شقيق عشيقته التي ضربها وأنه يضمر له الشر بكل تأكيد.

انطلق الجمع ووصلوا إلى الشاطئ حيث قابلوا صديق ريمون وزوجته، وبعد وجبة الغداء قرر الرجال الثلاثة التنزه على الشاطئ، وأثناء تلك النزهة وجدوا اثنين من هؤلاء العرب السابق ذكرهم وكان أحدهما هو غريم ريمون، اشتبكوا معًا في معركة أصيب فيها ريمون بجروح سطحية وهرب العربيان، ذهب ماسو مع ريمون للطبيب وضمدت جراحه ولكنه لم يهدأ.

قرر ريمون الخروج مرة أخرى ومعه مسدسه ينوي على شر فتبعه ميرسو وأقنعه ألا يفعل ذلك وأخذ منه المسدس ورجع معه إلى بيت صديقه، ولم يرغب ميرسو أن يدخل إلى البيت على الرغم من حرارة الجو المرتفعة وفضل أن يمشي على البحر، وأثناء سيره بغير هدى وجد نفسه أمام غريم ريمون الذي انتفض من مكانه وأظهر سكينه التي التمع نصلها في الشمس، فاهتاج ميرسو بسبب التماع نصل السكين والشمس الملتهبة فوق رأسه فلم يشعر بنفسه إلا بعد أن انطلقت رصاصة من المسدس واخترقت جسد العربي وحطمت هدوء الشاطئ وأتبعها بأربعة طلقات أخرى.

المحاكمة:

بعد إلقاء القبض على ميرسو عينت له المحكمة محام للدفاع عنه، استجوب عدة مرات حاول خلالها قاضي التحقيقات معرفة شخصيته ومعتقداته ولكن خاب أمله عندما أظهر الصليب لميرسو وأخبره الأخير بعدم إيمانه بالرب وأن هذا لا يهمه على أية حال، بعدها انهار القاضي أمام صلادة ميرسو وقرر إكمال التحقيق بعيدًا عن تلك النقطة الشائكة، واستمرت الاستجوابات فترة طويلة ثبت فيها ميرسو على أقواله وأصر أنه لم يبيت نية القتل وأن كل ذلك حدث بمحض الصدفة.

لم يكن ميرسو في البداية يعتبر نفسه مسجونًا فقد كان ينتظر ليعرف ماذا سيحدث له، ولكنه بدأ الإحساس بوحشة الزنزانة عندما تلقى خطابًا من ماري تخبره فيه أنهم لن يسمحوا لها بزيارته مرة أخرى لأنها ليست زوجته، وكانت ماري قد طلبت منه الزواج قبل الحادثة فوافقها معلقًا أن لا فرق لديه في ذلك وأنه لا يحبها لأنه لا يعرف ماهية الحب ولكنه مستعد من الزواج منها على أية حال ولكن لم تساعدهم الأحداث، لذلك أصبح السجن بالنسبة له عذابًا يمضي جل وقته في مشاهدة السماء ومعايشة خيالاته.

جاء يوم المحاكمة واقتادوا ميرسو إلى المحكمة ليحددوا مصيره، وبدأ الاستجواب وراح رئيس المحكمة يسأله في هدوء ووقار عن شخصيته ويعدد أمامه الوقائع والتهم الواقعة عليه وفي كل مرة كان ميرسو يجيب “نعم سيدي الرئيس” طبقًا لتعليمات المحامي، ثم حضر الشهود وكانوا من عرفهم ميرسو أو تعامل معهم قبل الحادثة بوقت قصير ومنهم مدير وحارس دار المسنين.

وعند استجواب الشهود تباينت الآراء حول ميرسو، وأوضح رئيس دار المسنين ثباته وجحوده يوم وفاة والدته وأنه لم يبك أبدا ولم يعرف سن أمه الحقيقي وأنه دخن مع الحارس وشرب قهوة باللبن أمام جثمان والدته، وتوالت الاتهامات لميرسو وهو في القفص يستمع وعندها فقط شعر برغبة شديدة في البكاء لأنه أحس لأول مرة كم أنه ممقوت من كل هؤلاء الناس، وحاول المحامي السيطرة على الوضع ولكن لا جدوى فقد أدان النائب العام ميرسو معتمدًا على قسوته مع والدته وأنه دفنها بقلب مجرم، وأن من يودع والدته في دار مسنين فقد قتلها معنويًا لذلك فهو قاتل له تاريخ في الإجرام.

لم يكن يعرف ميرسو هل هو يحاسب لأنه قتل رجلًا أم أنه لم يحزن لوفاة أمه، بعد الكثير من المناقشات أخذوا ميرسو إلى حجرة مجاورة حتى تتشاور اللجنة فيما بينها، ولكن كان قرار المحكمة أن يطيحوا رأسه في أحد الميادين العامة.

رفض ميرسو استقبال القس عدة مرات وتقوقع على نفسه في زنزانته تزوره الكثير من نوبات الهلع ويعتريه الشعور بالبرد في داخله يجعله يرتجف، ينتظر الفجر طوال الليل بقلب قلق وعين لا يزورها النوم لأنهم ينفذوا تلك العمليات في وقت الفجر دائمًا، وعندما لا يحدث شيء ولا يأتون لاصطحابه يكون قد فاز بيوم جديد على الأرض، وحينها أدرك أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة ولكن ذلك لم يمنع خوفه واصطكاك أسنانه الدائم دون أن يمكنه إيقافها.

كان يراوده الأمل في كثير من الأحيان في قبول الالتماس ويعيش خيالات سعيدة ولكنه سرعان ما يعود إلى ظلمة الزنزانة والخوف من لحظات الفجر وصوت وقع الأقدام، وفي يوم استيقظ فوجد القس أمامه ودارت بينهما مناقشة كان مفادها أن أمسك القس من ياقته بكل قوته ولعنه وصب عليه كل ما سكن أعماق قلبه، أخذ يصرخ بكل ما كان يشعر به ويتساءل ما الذي يجب أن يهمه في موت الآخرين أو في حب الأم، ما الذي يهمه في الإيمان بالرب أو الحياة التي تختارها طالما هناك قدر واحد فقط قد اختاره، وظل على صراخه حتى أوشك على الاختناق.

وأخيرًا استطاعوا انتزاع القس من يديه، وعندها ألقى بجسده على السرير واستيقظ كانت النجوم هناك في السماء تلتمع فوق رأسه، وعندها انطلقت الصفارات إيذانًا برحيله عن هذا العالم الذي لم يعد يهمه في شيء، وللمرة الأولى منذ زمن طويل تذكر والدته وأحس أنه مستعد لأن يبدأ الحياة من جديد، وكانت تلك الغصة الكبرى التي خلصته من الشر وأفرغته من الأمل، وشعر بعدها برقة وعذوبة اللامبالاة وأنه كان سعيدًا في يوم من الأيام ولا زال حتى الآن.

للمزيد من ملخصات الكتب

اقرأ أيضًأ ملخص رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

يمثل تاريخ اليونان القديم خصوبة معرفية مميزة في مسيرة الإنسان المعرفية. قليلًا ما نجد من حديث أو حوار ثقافي إلا ويسجل الإغريق القدماء حضورهم. كأن كل بداية فعلية هي إغريقية بالضرورة بغض النظر عما قدمته الحضارات الشرقية من إسهامات ومشاركات في الثقافة البشرية. فالفلسفة وإن لم نتفق مع التطرف الغربي بشأن أصلها اليوناني فهي تألقت في سماء تلك البلاد أكثر من غيرها. وربما لولا الإغريق لما دخلت الفلسفة في الفضاء العمومي بهذا الثقل ولما دار كل هذا الجدل حولها. لكن ثمة هناك مفارقة في البحث المعرفي ألا وهي تهميش التراث السفسطائي بشكل واضح ومزعج، وكأن السفسطائية هي شجرة الفلسفة المحرمة. بالكاد نجد له حضورًا في الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة رغم طابع هذا التراث من حيث حداثته وفرادته عن كل تداول فلسفي آخر. فسنخصص هذا المقال لمناقشة آراء السفسطائية حول مواضيع محددة لفتح حوار مختلف مع تاريخ الفلسفة ولإعادة النظر في ملف السفسطائيين.

معنى السفسطائية

لغةً، تعني لفظة السفسطائي الشخص الحكيم، وهي تقابل لفظة الفيلسوف والتي يعنى بها الشخص الذي يحب الحكمة. السفسطائي يدعي أنه الحكيم، وكان بروتوعوراس هو أول من تجرأ ليطلق على نفسه الحكيم رغم التحديات الكثيرة. فالحكيم في التراث الإغريقي كان يطلق على هوميروس وهزيود والحكماء السبعة والانبياء(1)، فالسفسطائي يردم الهوة بين الإنسان والحكمة، عكس الفيلسوف الذي يجد في نفسه محبًا للحكمة وحسب وكأنها محرمة عليه أو يستحيل الوصول إليها. وذلك لكون الآلهة ومن يتواصلون معها مباشرة يحملون شعلة الحكمة، والفيلسوف هو الذي يتوق إليها.

مفهوم السفسطائي والسفسطة واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات من قبل الفلاسفة لا سيما أفلاطون. حتى تحول هذا المفهوم إلى نوع من الاستخفاف في يومنا هذا، فيُطلق على كل ما هو بديء سفسطة، فيصنفهم هيغل في الخانة المضادة للفلسفة أو اللا فلسفة(2). غير أن السفسطائية تمثل حركة تنويرية بطروحها الجريئة ومواقفها الإنسانية المدافعة عن الحقوق الكونية للإنسان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، فهي الأصل الحقيقي للحداثة وتشعباتها.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

السفسطائيون ونتاجاتهم

فقدنا الكثير من الكتب القيمة من جميع الحضارات نتيجة تدمير المكتبات لأسباب سياسية والتغيرات البيئية التي تسببت بتلف الكثير من المخطوطات والكتابات، وكانت لكتابات السفسطائيين حصة الأسد من التدمير، فهم كانوا منبوذين ومطاردين حتى من قبل الإغريق نفسهم وتعرضت معظم كتاباتهم للحرق. بجانب عدد بسيط جدا مما وصل إلينا من كتاباتهم الخاصة، لمحاورات أفلاطون دور مهم في الكشف عن افكارهم، وسوف نستعرض بعضًا من الاعمال المنسوبة إليهم وفقًا لمتبقيات تاريخية:

  • بروتوغوراس: في الحقيقة، حول الآلهة، حول بنية المجتمع الأصيلة، حول العالم الآخر، حول الفضائل وحول الدستور.
  • جورجياس: هيلين، بالاميد،الخطبة الأولمبية، الخطبة الجنائزية وحول اللا وجود.
  • بروديكوس: حول الوجود وطبيعة الإنسان.
  • أنتيفون: الحقيقة، السياسة وتفسير الاحلام.
  • هيبياس: الطروادة، نصائح، اسماء الشعوب وسجل ابطال الأولمبياد.
  • ثراسيماخوس: النص العظيم، الخطابة، الدستور والشفقة.

ثورة السفسطائية ضد التراث الإغريقي القديم

 الاساطير الأغريقية حول نشأة الكون والحقيقة وطبيعة الإنسان وكذلك قصائد هوميروس وهزيود تمثل التراث الإغريقي الأصيل الذي لم يتجرأ أحد المساس بها أو الخروج عن ظلها. فهذا التراث يؤكد بعض الحقائق المدعية، كالأصل الإلهي للعالم، والأصل الإلهي للقوانين والتشريعات. في حين، يزعم السفسطائيون بأن العالم ما هو إلا مادة لا دخل للآلهة والأرواح بها, وأن القوانين شأن بشري. فيقول السفسطائي كريتياس بأن البشر هم من اخترعوا الآلهة لترهيب الناس عند الخروج عن التقليد(2). وحول أصل القوانين، يدعي بروتوغوراس بأن القوانين تُخترع وتُعدل من قبل البشر بما يناسب منفعتهم. ويقول أيضًا بأن حياة الإنسان البدائية كانت وحشة ولا تخضع لأي قانون مما دفع بالبشر إلى سن القوانين لوقف العدوان المتبادل بينهم. ونظرًا لأن القوانين بحد ذاتها لم تكن فعالة إلا بعد الكشف عن الجريمة فقالوا بوجود آلهة ترى كل شيء وتعاقب المجرم (3).

كما كان للسفسطائيين رأي مخالف لرؤية هزيود وهومر والأساطير الإغريقية حول مجرى التاريخ والزمن. فكان الإيمان الراسخ هو أن التاريخ عبارة عن دورات، من الأفضل إلى الاسوأ. فكان يُعتقد بأن الدورة الأولى كانت تمثل سلالة ذهبية، بحيث لم تكن هناك حروب وسلوكيات شريرة ومؤذية. ومن ثم جاءت الدورة الفضية والتي كانت اسوأ من الذهبية وأفضل من البرونزية التي تلتها وهي بدورها كانت أحسن من الدورة الحديدية. فيقول هيزيود: “ليتني لم أكن من بشر الجيل الخامس بل متتُ قبله فالسلالة التي توجود الآن هي سلالة حديدية”. رفض السفسطائيون هذا التفسير، وقالوا بأن الماضي يمثل حالة وحشية وأن الإنسان يتقدم نحو الأفضل دوما، وأن الحاضر لا يخضع للماضي وأن المستقبل مفتوح.

ثورة السفسطائية ضد الفلسفة الطبيعية

يُقال بأن ديمقريطس قد فقأ عينيه ليبرهن بأن الحواس غير ضرورية لمعرفة الصدق والحقيقة. كما كان بارمنيدس و هيراكليتس وانكسيمانس وانكسيماندرس يرفضون دور الحواس في الوصول إلى الحقائق. وكان العقل هو الوسيط الوحيد بين الإنسان والحقيقة. بينما يؤكد السفسطائيون بأنه فقط من خلال الحواس المعرفة ممكنة. فيقول جورجياس بأن العقل الخالص من حيث هو مختلف عن الادراك الحسي او حتى كمعيار صحيح كالادارك الحسي محض خرافة(4). وبالنسبة للجوهر، كان فلاسفة ما قبل سقراط يزعمون بأن الظاهر لا يعبر عن حقيقة الأشياء إنما الجوهر أو الباطن، إلا أن السفسطائيون تمسكوا بالظاهر على أنه موضوع البحث، كما رفضوا إمكانية وجود حقائق ثابتة.

منهج البحث عند السفسطائية

قال أمبادوقليس أن الشبيه يدرك الشبيه، وزعمت المدرسة الذرية بأن الموضوع يأتي أولًا في المعرفة. وبعضهم قال بأن للأشياء حقيقة وكيفية ثابتة ومستقلة عن الذات. لكن السفسطائي بروتوغوراس يجد بأن المعرفة شأن إنساني وللذات الإنسانية الدور الأهم في الموقف الإدراكي. وله قول شهير في ذلك: “الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا، مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها(3). ويرى السفسطائيون بأن المعرفة لا تتعلق بالموضوع المعروف وحده بل بالذات العارفة أيضًا(5). إذن، فالإنسان هو نقطة الانطلاق في الوصول إلى المعرفة. لكن هذا لا يعني بأنهم من دعاة الذاتية الذين رفضوا وجود عالم مستقل عن ادراكنا.

طبيعة وإمكانية المعرفة

لم تكن السفسطائية مذهبًا لتروج لحكمة معينة، لذا، ثمة خلاف بين السفسطائيين حول الأبستومولوجيا. فقال جورجياس باستحالة المعرفة، إذ أكد بأنه “لا يوجد شيء على الإطلاق، وإن وجد لا يمكن فهمه، وإن فُهم لا يمكن نقله للآخرين”. لكن بروتوغوراس كان يؤمن بإمكانية المعرفة. بيد أن المعرفة عند بروتوغوراس لا تشمل الميتافيزيقيا بل تقتصر على العالم المادي الموضوعي من حيث ظهوره لنا. وهذا الظهور ليس بظهور ثابت. فالعالم يظهر لي بشكل ويظهر لغيري بشكل مختلف. فيقول بروتوغوراس بأن الأشياء تكون بالنسبة لي كما تبدو لي إنما تكون لغيري كما تبدا لهم”(3).

والنبسية كما فهمها السفسطائيون -على الأقل بعضهم-  تختلف عن النسبية التي شاعت بين الاوساط العدمية. فما يجعل من معرفة العالم نسبية هو كون العالم في حالة حركة وصيرورة مستمرة والإنسان نفسه جزء من عالم الصيرورة. فكلا من العالم والإنسان يصيران. وبهذا الصدد يقول بروتغوراس: “لا شيء يوجد بذاته أو يكون في ذاته وأنك لا تستطيع بأي حال من الاحوال أن تعبر عن شيء ما تعبيرًا صحيحًا، فما أن نفسر شيء ما يتحول إلى شيء آخر من حيث الكيفية” (6).

كان الفيلسوف هيراكليتس يقول بأنه لا يمكن أن تنزل في النهر نفسه مرتين وذلك لأن النهر قد تغير في المرة الثانية. لكن السفسطائي كاريتليوس تجاوز هيراكليتس بقوله “لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر حتى مرة واحدة طالما أن الصيرورة تجرف كل شيء”( 7). السفسطائية ترى في كل رأي بأنه صادق لأن الرأي لا يحتمل الكذب كيفما كان. فالكذب هو التعبير عن اللا وجود بالتالي فهو بدوره غير موجود وأن كل رأي يعبرعن الوجود فهو صادق بالضرورة. لكن كيف يكون لرأي ونقيضه نفس الدرجة من الصدق؟ هنا، تأتي السفسطائية بمفهوم التلاؤم. العالم يصير والإنسان يصير وهناك لقاءات مستمرة بين الإنسان والعالم وفي كل لحظة لقاء هناك تلاؤم ويظهر العالم بكيفية معينة للمدرك. وليس هناك رأي اصدق بل هناك الرأي الأحسن الذي يكون في خدمة الإنسان والمجتمع البشري أكثر.

وجود ومعرفة الآلهة

بالنسبة للآلهة يقول بروتوغوراس من المستحيل أن نعرف إذا كان هناك إله أم لا نظرًا لما يكتنفه الموضوع من الغموض ولقصر العمر. هذا الرأي اللاأدري لم يمر مرور الكرام فتم إحراق كتبه وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، فهرب منهم ومات غرقًا(6). ويجد أمبريكوس بأنه لو شاءت الصدفة لشخص ما أن يعرف حقيقة الآلهة بشكل تام فسيظل هو نفسه على غير علم بصواب رأيه(8). وعن شكل وتجسيد الآلهة. يقول كسينوفون بأن كل شعب تصور آلهة على الشكل الذي يريده ولو تمكنت الخيول أن تصف الآلهة لوصفتها على شكلها(3). ويقول بروديكوس بأن البشر استنتجوا وجود الآلهة من أشياء ذات معنى في حياتهم مثل الشمس والانهار والنار، فديونيزوس ليس بإله الخمر إنما هو الخمر نفسه(3). تأرجحت السفسطائية بين الإلحاد واللاادرية في هذه القضية. ولهذه الآراء بصمة واضحة في الفلسفات المعاصرة.

الحرية والفضيلة

كان للإغريق نظرة دونية تجاه الآخرين ويسمون كل من هو غير أغريقي بالبربري، ورأوا في أنفسهم نوع مميز من البشر. كما كان التراث الإغريقي الروحي والفلسفي يؤمن بأن الإنسان يولد حرًا أو عبدًا وبالتالي المساوة بين جميع البشر والطبقات غير ممكنة كان هوميروس يعتبر بأن الاقدار السماوية شاءت أن يكون هناك عبيد واحرار ولا يمكن لأحد أن يتجاوز تلك الاقدار، وديمقريطس نفسه دعم هذا الرأي. غير أن السفسطائية انزلت القوانين من السماء إلى الأرض وقوضت فرضية التراث حول الاحرار والعبيد. فيقول هيباس أننا نحن والبرارة أخوة في الطبيعة. ورفض أنتيفون التمييز بين الإغريقي والبربري وقال قوله الشهير”خلقنا الخالق احرارًا وليس هناك من هو عبد بالطبيعة”(4).

وبالنسبة للفضيلة، لم تكن السفسطائية تؤمن بوجود فضيلة ثابتة، بل نظرت في المسألة نظرة منفعية براغماتية. أي ما يقع في حدود الفضيلة هو ما يخدم المجتمع الإنساني وهاجم السفسطائيون الأخلاق التقليدية اليونانية لكونها قائمة على أسس متناقضة مع الطبيعة.

مكانة الثورة السفسطائية في التاريخ الفلسفي

الرأي الشائع عن السفسطائية هو أنها كانت حركة من الدجالين الذين يلعبون بالكلمات والحجج لإقناع الناس بأمور لا قيمة لها. وحين نقرأ محاورات أفلاطون نجد بأنهم كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر أمام سقراط لضعف حججهم. في حين السفسطائية يمكن أن تعتبر فلسفة تنويرية لجرأتهم على تقويض الكثير من الأفكار الفلسفية والدينية آنذاك، دفعوا ارواحهم ثمن آرائهم الإنسانية. كما أن التراث السفساطئي كان غنيًا لدرجة أن الفلسفات الحديثة مثل الوجودية والبراغماتية والهرمونوطيقية قد تشربت منه. فهذه الشجرة المحرمة تستحق أن نجازف بعض الشيء للوصول إلى ثمارها

اقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

المصادر:

  1. https://iep.utm.edu/sophists/
  2. https://www.britannica.com/topic/Sophist-philosophy/Humanistic-issues
  3. https://plato.stanford.edu/entries/sophists/
  4. محمد حسين النجم، السوفسطائية في الفكر اليوناني، منشورات الحكمة 2008 ص119
  5. http://etheses.dur.ac.uk/4023/
  6. https://plato.stanford.edu/entries/protagoras/#MythProt
  7. https://aeon.co/ideas/can-you-step-in-the-same-river-twice-wittgenstein-v-heraclitus
  8. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، ص76.
  9. حامد خليل، الإنسان عند السفسطائيين، المجلة العربية للعلوم،ص32.
Exit mobile version