هل أساليب التعلم حقيقة أم خرافة؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 18 في سلسلة مقدمة في التدريس للبالغين

تناولنا سابقًا أساليب التعلم المعرفية الحسية، كما تناولنا نموذج نولز لأساليب التعلم الشخصية. ويبقى السؤال، كم نموذج تعرف من نماذج أساليب التعلم؟ اثنين؟ ثلاثة؟ عشرة؟ يفاجئنا تطور نظرية أساليب التعلم بتقديم ما يتعدى أكثر من سبعين نموذجًا يفسر نظريات أساليب التعلم المعرفية منها والشخصية. وكمعلمين، نتساءل دائمًا: إلى أي مدى يشكل هذا فارقًا في الدرس؟ وبالطبع نتطرق إلى أن الموضوع نسبي تمامًا، فالفيزياء والكيمياء تجرّب تطبيقيًا، واللغات تحاضر نظريًا. وهو بالضبط ما يشكل الفارق. ولذلك نسأل، هل أساليب التعلم حقيقة أم خرافة؟ نقدم في هذا المقال 5 أسباب دليلًا على أنها خرافة.

1. نقص الأدلة

بالرغم من تعدد الأبحاث والدراسات المنشورة في هذا الصدد، إلا أن هناك العديد منها كذلك يدحض هذه النظرية. مثل الدراسة التجريبية التي أجراها لورا ماسا ووريتشارد مايور، أساتذة بقسم علم النفس بجامعة كاليفورنيا. وتكونت التجربة من ثلاث مجموعات، دُرّست مجموعتين بنفس أسلوب التعلم، والثالثة تنوعت في تدريسها أساليب التعلم؛ ووجد أن كلتا المجموعتين ذوات أسلوب التعلم المنفرد حققتا أداءً أفضل من تلك المجموعة التي تنوعت فيها أساليب التعلم [1].
وهذا منطقي تمامًا، لأن كل منا فريد في ذاته؛ ولا تعتمد الطريقة المثلى لتعلمنا على تفضيلاتنا الفردية، بل على طبيعة ما نتعلم. فقط تخيل تعلم النحو بالصور لأنك متعلم بصري! أو الكيمياء بالمحاضرة الكلامية لأنك متعلم سمعي!

2. هناك العديد من الطرق لوصف أساليب التعلم

في مراجعة لنظريات أساليب التعلم نشرت في مجلة علم النفس التربوي (بالإنجليزية: Educational Psychology) في مقال بعنوان «أساليب التعلم: نظريات، ونماذج، وطرق القياس»، ذكر سيمون كاسيدي، أستاذ بجامعة سالفورد بالمملكة المتحدة، 71 نموذجًا لأساليب التعلم [2]. وقد شرح كل من بول كريشنر وجيروين مرينبوير، أساتذة التعليم والتطوير التربوي بجامعة ماسترخيت بهولندا المشكلة المشتركة بين كل نماذج أساليب التعلم في مقالة بعنوان «هل المتعلم فعلًا أدرى؟ –أساطير الحضر في التعليم»[3]. وقد وضحا قائلين أنه إذا نظرنا إلى كل أسلوب تعلم على أنه ثنائي متناظر (مثل البصري مقابل السمعي، أو الحركي مقابل القرائي والكتابي) فهذا يعني أن هناك 2  أس 71 (271) مجموعة من أساليب التعلم المحددة – وهو ما يساوي 23,6118324143,4822606848، أي أكثر من عدد الناس على وجه الأرض!

وحتى إذا قبلنا مخططًا معينًا لقياس أساليب التعلم مثل الـVARK، فإن الأدلة تظهر أن الأسئلة الموجودة في الاستبيانات المستخدمة غير موثوقة أصلًا، وأن تفضيلات الأشخاص التي صنفوا بها أنفسهم ذاتيًا لا ترتبط بالضرورة ارتباطًا وثيقًا بأدائهم الفعلي. فيعتقد المتعلم أنه متعلم سمعي مثلًا، ويبين أداؤه أنه متعلم بصري!

وحقيقة، طريقة تعلم الشخص الرياضيات مثلًا وأداؤه فيها لا يرتبط بمدى توافق أسلوب تعلمه مع تدريس المعلم، وإنما يرتبط بأدائه في اختبارات الرياضيات السابقة.

3. ليس الأمر حقًا بهذه الدقة والتحديد

بالحديث عن قطبية مجموعات النماذج هذه –في معظم النماذج- وتقابلها، عادةً ما تكون النماذج كيانات ثنائية القطب (تأملية مقابل اندفاعية، أو عشوائية مقابل تسلسلية) كما ذكرنا، وكما هو الحال في نموذج كولب وغيره. فيشرح دورني هذه المعضلة في كتابه «سيكولوجية متعلم اللغة» قائلًا أن هذه الكيانات تمثل طرفي نقيض لسلسلة واسعة. يتأرجح المتعلم في السلسلة المتصلة بين الطرفين؛ لأن لكل طرف مزايا وعيوب محتملة [4]. وبالرغم من أنه قد يكوّن الأشخاص بعض التفضيلات والميول الجلية في أسلوب التعلم، إلا أن أساليب التعلم ليست أنماطًا ثابتة للسلوك. وبناءً على المواقف والمهام المختلفة، يمكن تعديل هذه التفضيلات والأنماط. ومع ذلك، فإن المدى الذي يمكن للأفراد أن يعدلوا أو يغيروا فيه أساليبهم لتلائم وضعًا معينًا يختلف من شخص لآخر. [5]

4. أحقًا تحفز مهاراته الموجودة أم تقضي على تطوره؟

يعتقد العديد من الخبراء أن هذه النظرية ليس فقط بالمفهوم المغلوط، بل يعتقدون كذلك أن هذا المفهوم يشكل ضررًا أكثر منه نفعًا. يشرح مقال لليلنفيد وزملاؤه بعنوان «50 خرافة في علم النفس الشعبي» أن اتباع هذا النهج يدفع المعلمين لاستخدام نقاط القوة العقلية -حصرًا- في التدريس، عوضًا عن المفروض وهو معالجة نقاط الضعف. ويلقون بجزء من المسؤولية على الطلاب ويقولون إنه «على الطلاب تعويض نواقصهم ونقاط ضعفهم ومعالجتها بدلًا من محاولة تجنبها» [6].

5. تكلفة خرافة أساليب التعلم عالية

تمثّل العديد من استبيانات أساليب التعلم والبرامج التدريبية تكلفة كبيرة جدًا. فيكتب روهرر وباشلر في مقالهم بعنوان «أساليب التعلم: أين الدليل؟» أنه بالنظر إلى تكاليف قياس أساليب التعلم –المزعومة- للطلاب، وطرق التدريس التي سيتم تصميمها بما يلائم هذه الأساليب، سيتفاجئ معلمو جميع المراحل بعدم كفاية الأدلة المقدمة لدعم نظرية أساليب التعلم [التي يستهلكون فيها وقتًا وجهدًا] [7].

عزيزي المعلم، قد يشكل هذا المقال منطقًا مقنعًا، وإن كان لديك ما تجيب به عن هذه النقاط؛ فستسعدنا المناقشة في التعليقات. ولكن وقبل إنهاء هذا المقال، فعلينا أن نتفق سويًا على ثلاث نقاط:

  1. أننا بشر مختلفين في ميولنا وثقافاتنا واهتماماتنا؛ وبالتالي تختلف طرق فهمنا وتفكيرنا. وبالقياس على الصف الدراسي، فهذا الاختلاف صحي جدًا، والحل الأمثل هو توظيفك لذلك الاختلاف فيما بين الطلاب بما يخدم جميع الكيانات بالموارد المتاحة.
  2. كما علينا أن نتفق على أن المهم بعد كل شيء هو وصول المعلومة للطالب بالشكل الأكثر فاعلية، وأن على المعلم تطوير الطالب واستخدام نقاط قوته في معالجة نقاط ضعفه.
  3. وأخيرًا، الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير، وجميعنا نخضع لقاعدة التغير الفكري والمعرفي والشخصي. كذلك ميولنا وأنماطنا؛ قد تتغير بسبب كل التجارب التي مرت علينا حياتيًا أو دراسيًا. وليس بالضرورة أن يكون هذا التغيير على أوقات كبيرة، قد يكون الاختلاف من تعلم مادة لأخرى، أو حتى من درس لآخر، وبالتبعية؛ من مرحلة لأخرى.
  1. Testing the ATI hypothesis: Should multimedia instruction accommodate verbalizer-visualizer cognitive style?
  2. Learning styles: An overview of theories, models, and measures
  3. Do Learners Really Know Best? Urban Legends in Education
  4. The Psychology of the Language Learner | Individual Differences in Sec (taylorfrancis.com)
  5. Learning styles by Sarvenaz Hatami
  6. 50 Great Myths of Popular Psychology: Shattering Widespread Misconceptions about Human Behavior | Wiley
  7. Learning styles: where’s the evidence?

عقدة الناجي: عندما تثقل عليك نعمة الحياة!

“أشعر بالذنب لكوني على قيد الحياة.. وهذا شعور ثقيل
كأن تتساقط حوائط المحيط فوق رأسك.. غير عابئة بالسدود”

كُتبت هذه الكلمات بيد بايشنس كارتر ذات العشرين عامًا، التي شهدت حادث إطلاق نيران مريع بولاية فلوريدا. نجت كارتر من هذا الحادث فيما فقد آخرون حياتهم. وعلى عكس المتوقع، لا نجدها ممتنة للنجاة بل شاعرة بالذنب والثقل. فما سبب هذا الشعور؟ هذا ما سنتعرف عليه في حديثنا اليوم عن عقدة الناجي!

ما عقدة الناجي؟

«عقدة الناجي-survivor’s guilt» هو نوع من الشعور بالذنب، يختبره هؤلاء الذين نجوا بحياتهم من مواقف كارثية. عقدة الناجي ظاهرة معقدة للغاية، قد يختبرها الشخص لشعوره بالذنب لأنه مازال على قيد الحياة فيما توفي الآخرون، أو لاعتقاده أنه لم يبذل الجهد الكافي لإنقاذ أحدهم، أو لأن شخصًا ما فقد حياته لمساعدته.

يعد خبراء الصحة النفسية عقدة الناجي عرضًا مهمًا لـ «اضطراب ما بعد الصدمة-PTSD»، إذ يتلازم الشعور بالذنب مع موقف كارثي مهدد للحياة، ينجو منه الشخص فيما يفقد آخرون حيواتهم. وقد تظهر عقدة الناجي وحدها دون أن يكون الشخص مصابًا باضطراب ما بعد الصدمة.

اُستخدم مصطلح عقدة الناجي للمرة الأولى مع الناجين من المحرقة الجماعية (الهولوكوست)، لوصف شعورهم بالذنب بعد تعرضهم لتلك الجريمة البشعة. والآن تختبر فئات أخرى هذا الشعور مثل:

  • المحاربون القدامى.
  • مرضى السرطان.
  • ضحايا الحوادث العنيفة.
  • الناجون من الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل.
  • المراسلون الصحفيون في مناطق الحروب والكوارث.
  • من شهد انتحار أحد أفراد عائلته.
  • من فقد عزيز خلال جائحة كورونا.

أعراض عقدة الناجي

عقدة الناجي تجربة معقدة للغاية، فكما ذكرنا سابقًا يختلف سبب الشعور بالذنب من شخص لآخر، إما لأنه نجا فيما توفي آخرون، أو لاعتقاده أنه لم يبذل الجهد الكافي للمساعدة، أو لأن شخصًا ما فقد حياته لإنقاذه. 

نجد العرض المشترك والأكثر وضوحًا هو الشعور بالذنب. وهناك عدد من الأعراض الأخرى التي تختلف في حدتها باختلاف حالة كل مريض. مثل: 

  • شعور بالضعف وقلة الحيلة.
  • استرجاع ذكريات الموقف الكارثي.
  • شعور بالغضب والانفعال.
  • شعور بالخوف والحيرة.
  • تقلبات مزاجية ونوبات غضب.
  • فقدان الحماس.
  • أفكار انتحارية.

    هذه هي الأعراض النفسية التي تتطابق تقريبًا مع أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. وهناك عدد من الأعراض الجسدية منها:
  • اضطرابات الشهية.
  • اضطرابات النوم.
  • صداع.
  • غثيان وآلام في المعدة.
  • تسارع ضربات القلب.

عوامل الخطر

جميعنا معرضون لشدائد الحياة، وشئنا أم أبينا، نتأثر بتبعاتها. عقدة الناجي ليست استثناءًا من هذه القاعدة، إلا أنه هناك عدد من العوامل التي تزيد من احتمالية إصابة الشخص بها. وهذه العوامل هي:

  • تعرض الشخص لصدمات الطفولة مثل: الاعتداء أو التحرش.
  • وجود أمراض نفسية أخرى مثل: القلق أو الاكتئاب.
  • غياب الدعم النفسي من العائلة أو الأصدقاء.
  • تعاطي المخدرات أو الكحوليات.

أثبتت الدراسات وجود بعض العوامل الأخرى التي قد تزيد من صعوبة الموقف على الناجي. أهمها: الندم. يتقاطع الشعور بالذنب مع الندم في أغلب الأحيان، إذ ينظر الشخص إلى الوراء متسائلًا عما كان يمكن تقديمه لإنقاذ حياة هذا أو مساعدة ذاك. 

يقع الشخص فريسة لهذا الشعور متأثرًا بما يعرف بتحيز «الإدراك المتأخر-Hindsight Bias» إذ ينظر الشخص إلى الحدث الصادم معتقدًا أنه كان واضحًا للغاية، وكان ينبغي عليه توقع حدوثه. فيما يخبرنا الواقع بالطبع أنه بعض الأمور تحدث فقط، ولا يمكننا التحكم بها لأنها خارج نطاق إرادتنا.

كيف نتعامل معها؟

يتطلب وجود عقدة الناجي، وحدها أو مرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة، تدخلًا عاجلًا. لا لتقليل الشعور بالذنب وتحسين جودة الحياة فقط، ولكن لارتباط هذه العقدة بأعراض خطيرة قد تودي بحياة الشخص. 

أثبتت الدراسات أن العلاج النفسي، خاصة العلاج السلوكي المعرفي، فعال للغاية في عكس الآثار السلبية للصدمة وعقدة الناجي.

قد يستفيد الشخص من عدد من الوسائل العلاجية الأخرى مثل: العلاج النفسي الجماعي، أو مجموعات الدعم، أو بعض الأدوية لتخفيف حدة الأعراض.

لا تقتصر رحلة العلاج على زيارة المعالج فقط والالتزام بالأدوية. الألم والحزن والذنب والندم مشاعر قوية تترك بصمتها على الجميع، ينبغي علينا معرفة كيفية التعامل معها. وهاك بعض النصائح المقترحة لذلك:

  • اسمح لقلبك أن يحزن.
    أن تشهد بشرًا مثلك يفقدون أرواحهم ،أمام عينيك، دون أن تستطيع المساعدة، أمر قاتل. اسمح لقلبك أن يحزن، وامنحه هدية الوقت حتى يكتمل شفائه. 
  • أنت فقط بشر، لا يمكنك التحكم بكل شيء.
    أتفهم رغبتك في عتاب نفسك، وإصرارك أنه كان من الممكن فعل شيء لتغيير ما حدث. لكن الحقيقة أن ما حدث قد حدث، هناك بعض الأمور الخارجة عن نطاق سيطرتك ولا يمكنك التحكم بها.
  • اغفر لنفسك.
    لا يسهل على أحد تحمل عواقب أفعاله، خاصة إن تسببت النتائج بالأذى. لكن الأخطاء تحدث، وجميعنا معرضون لارتكابها. اغفر لنفسك وامنح نفسك ما تحتاج من الوقت لذلك.

اقرأ أيضًا: تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

المصادر

متلازمة الطفل الأوسط : 5 سماتٍ مميزة للطفل الأقل حظًا!


الطفل الأكبر دومًا مسؤول، والأصغر مدللٌ ويحبه الجميع، بينما الأوسط هو الأقل حظًا دائمًا. هذه هي الصور النمطية التي نعرفها جميعًا عن ترتيب الأطفال داخل الأسرة. سنهتم اليوم بالطفل الأقل حظًا، ومتلازمة الطفل الأوسط التي سُميت باسمه. فما هي متلازمة الطفل الأوسط؟ وما مدى صحتها؟
 

تعريف متلازمة الطفل الأوسط

متلازمة الطفل الأوسط هي الاعتقاد السائد أن هذا الطفل لا يحظى بالاهتمام والرعاية الكافية من أبويه، فهو طفل مُهمل ومشتت بين ظلال أخويه الأكبر والأصغر. نتيجة لذلك يطور هذا الطفل سمات شخصية معينة تنبع بشكل أساسي من ترتيبه في العائلة.

ظهرت هذه المتلازمة كجزء من نظرية شهيرة وضعها عالم النفس ألفريد أدلر. حاول أدلر في نظريته تفسير الاختلافات بين شخصيات البشر تبعًا لموقعهم في العائلة. على سبيل المثال: 

  • الطفل الوحيد: يحب أن يكون مركز الانتباه، ويفضل صحبة البالغين، كما يجد صعوبةً في مشاركة أقرانه في الأنشطة المختلفة.
  • الطفل الأكبر: صارم ومسؤول وأكثر التزامًا بالقواعد من باقي الأخوة.
  • الطفل الأصغر: مدلل يحتاج للعناية، ويضع خططًا كبيرة لكنه يخفق في تنفيذها.
  • الطفل الشبح: الطفل الذي يُولد بعد وفاة آخر. عادةً يكون هذا الطفل معارضًا رافضًا مقارنته بذكرى الطفل الراحل.

سمات الطفل الأوسط

لم يُغفِل أدلر في نظريته الطفل الأوسط، فهو طفل يقع بين الطفل الأكبر والأكثر قدرةً وإنجازًا، والطفل الأصغر الذي يبهر الجميع بابتسامة ويحظى بكل الانتباه والرعاية. نتيجة لذلك يطور هذا الطفل عددًا من السمات الشخصية. منها:

  • التنافسية
    الطفل الأوسط طفلٌ تنافسي، فهو ينافس الأَخَوان الأكبر والأصغر ليحظى بالانتباه والرعاية. وقد يصل به هذا الأمر إلى ارتكاب أخطاء، أو المعارضة والثورة بلا سبب فقط لجذب الانتباه.
  • تزعزع الثقة بالنفس
    ينظر الطفل إلى إنجازات أخيه الأكبر الأكثر نضجًا -عقلًا وجسمًا- فلا يشعر بتميز إنجازاته.

    وهناك بعض السمات الإيجابية مثل:
  • القدرة على التعلم
    يراقب الطفل الأوسط أخاه الأكبر دائمًا، في محاولة للتعلم منه والتفوق عليه لإثارة إعجاب أبويه.
  • التعاون وتحمل المسؤولية
    يساعد الطفل الأوسط أخاه الأصغر، حيث يقوم بمراقبته والاعتناء به أو تعليمه مهارات لم يتعلمها بعد.
  • التفاوض
    مهارة التفاوض من أهم السمات التي يكتسبها الطفل الأوسط، فوجوده داخل مجموعة ينمي مهاراته الاجتماعية بشكل كبير.

أسباب متلازمة الطفل الأوسط

السبب الأساسي لظهور متلازمة الطفل الأوسط هو شعور الطفل بنقص الاهتمام والغربة بين عائلته. ما بين اهتمام الأبوين بالطفلين الأصغر والأكبر، يشعر الأوسط بقلة تميزه مقارنةً بهما، وقد ينتهي به الأمر منخرطًا في المشاعر والسلوكيات السلبية التي ترتبط بهذه المتلازمة.

بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض العوامل المحفزة التي تساهم في ظهور المتلازمة بشكل أوضح:

  • غياب الدعم
    هو شعور الطفل بالإهمال والوحدة، وعدم قدرته على التحدث بحرية مع أبويه.
  • اضطراب الهوية
    يشعر هذا الطفل بالحيرة والاضطراب، مشتتًا بين ظلال أخويه الأكبر والأصغر.

حقيقة متلازمة الطفل الأوسط

يدور حول هذه المتلازمة الكثير من الجدل، وهناك الكثير من النتائج المتناقضة فيما يخص حقيقة وجودها.

الدراسات المؤيدة

استطلعت الدراسات علاقة الطفل الأوسط بأبويه وصحته النفسية، فوجدت أن النسبة الأكبر من المشاركين ذوي الترتيب الأوسط (مقارنةً بالأول والأخير):

  •  ليسوا مقربين من أمهاتهم.
  • لا يلجأون للأبوين وقت الحاجة.
  •  أكثر ميلًا للمثالية والالتزام.

الدراسات المعارضة

  • دحضت الدراسات المعارضة تأثير متلازمة الطفل الأوسط على إصابة الطفل بأمراض نفسية مثل: الاكتئاب.
  • أشارت دراسة حديثة واسعة إلى: عدم وجود أي تأثير دائم لترتيب المولود على السمات الشخصية له مثل: الانفتاح والقبول والاستقرار العاطفي.

نلاحظ هنا تعارض النتائج بشكل واضح بين مؤيد ومعارض. لكن ما لا يمكننا الاختلاف عليه، سواء أثبت العلم صحة هذه النظرية أو خطأها، أن طفلك -مهما كان ترتيبه- يستحق العناية والاهتمام. وأن أسوأ ما قد يحدث له هو غياب الدعم والملاحظة، لا ترتيبه الأوسط!

اقرأ أيضا: متلازمة توريت | 7 مُضاعفات ولا أحد يعرف السبب!

المصادر

علم نفس التسويق | تعرف على أشهر 3 حيل تسويقية!

علم نفس التسويق مجال شيق وواسع. وهناك عدد من الأحداث في التاريخ التي أخفقت فيها طرق التسويق المعتادة، وأفلح فقط استخدام علم النفس لمعرفة ما يريده المستهلك حقًا. ربما تتساءل الآن، إذًا كيف بدأ الأمر؟

والإجابة هي: صندوق خليط الكعك الجاهز!

قصة خليط الكعك الجاهز

هل تساءلت يومًا عن تاريخ «خليط الكعك الجاهز-cake mix»؟ يبدو أن هذا الصندوق الصغير مر بالكثير من الأحداث المشوقة قبل أن يصل إلينا.

ظهرت فكرة خليط الكعك الجاهز خلال فترة الكساد الكبير في الولايات المتحدة. حيث توقف الناس عن خبز كعكاتهم لكثرة المكونات والخطوات، ولقلة الموارد بالطبع. نتيجة لنقص الطلب زادت كميات الطحين وفاضت، مما دفع أصحاب المطاحن إلى التفكير في وسيلة مبتكرة لبيعه. وهنا ظهرت فكرة خليط الكعك الجاهز.

ابتكر المصنعون وصفة من الطحين والدبس المجفف والبيض المجفف، وما على ربة المنزل سوى إضافة بعض الماء والاستمتاع بكعكة لذيذة. توقع المصنعون نجاحًا باهرًا، لأن الخطوات بسيطة وغير مكلفة أبدًا. زادت المبيعات بالفعل واشترى الناس خليط الكعك الجاهز، لكن استقرت الأرقام بعد فترة ولم يصل المنتج لأي شخص جديد.

قرر أصحاب المصانع تقصي الأمر، لما لم تحب المزيد من ربات البيوت هذا المنتج؟ ما العائق؟ وكيف نتخطاه؟

حل عبقري

هنا جاء دور علم النفس. ظهر عالم النفس النمساوي «إرنست ديكتر-ernest dichter» لينقذ خليط الكعك الجاهز. توصل ديكتر إلى العائق الذي منع ربات البيوت من استخدام الخليط الجاهز، وهو “الشعور بالذنب”. توقفت السيدات عن استخدام الخليط الجاهز لأنهن شعرن بالذنب، لقلة المجهود الذي يتطلبه الأمر. فلم يشعرن أنه خَبزٌ حقيقي من أجل العائلة، ولم يشعرن باستحقاق المديح.

هنا جاء ديكتر بفكرة عبقرية وهي: إضافة البيض!

كان الشعور بالذنب هو العائق الذي يقف في طريق هذا المنتج، لذا استخدم ديكتر حيلة نفسية بارعة. تسمح للسيدات بالشعور بالمزيد من المشاركة الحقيقية، على عكس خليط الكعك الأصلي، شعرت ربات البيوت أنهن يقمن بطهو حقيقي عند كسر البيض وصنع الخليط وبالتالي قل شعورهن بالذنب.

تضاعفت المبيعات بعد هذا التعديل البسيط، ومثّل نقطة الانطلاق في تاريخ خليط الكعك الجاهز. حتى صار منتجًا معتادًا في أغلب بيوت العالم اليوم.

شهرة علم نفس التسويق

لماذا أقص هذه القصة؟

أقص هذه القصة لأن تعديل ديكتر البسيط لم يؤثر على مبيعات المنتج وحسب، وإنما فتح بابًا جديدًا يُوظَف فيه علم النفس في استراتيجيات التسويق، توظيفًا يلعب على تحيزاتنا ومشاعرنا وأفكارنا لتحقيق أعلى المبيعات. لذا إن كنت صاحب مشروع أو متسوق متهور توشك بطاقته الائتمانية على الإفلاس، دعنا نتعرف على بعض مفاهيم علم النفس المستخدمة في عالم التسويق اليوم.

تأثير الشَرّك

التسويق علم واسع وكبير، ولا داعي لذكر الهدف الأهم المرجو منه وهو تحقيق أعلى المبيعات. لا يمكن تحقيق هذه المبيعات المرتفعة دون التلاعب بالأسعار، ودفع المشترين بشتى الطرق إلى شراء المنتج المستهدف.

«تأثير الشرك-Decoy Effect» أحد الوسائل التي يستخدمها المسوقون للتلاعب بالأسعار. ويحدث عندما يُعرِض المستهلك عن اختيار ما ويختار الآخر، ذلك عند مقارنتهما باختيار ثالث مختلف. هذا الاختيار الثالث هو “الفخ” أو الشرك الذي يضعه خبراء التسويق ليدفع المستهلكون في اتجاه المنتج المستهدف.

مثال: عرضت إحدى الصحف خيارين لباقات الاشتراك الشهرية بها.

  1. اشتراك إلكتروني: 59$
  2. اشتراك إلكتروني ومطبوع: 125$

أسفرت النتائج عن اختيار النسبة الأكبر من المشاركين الخيار الالكتروني الأقل تكلفة. أما عند القيام بتعديل بسيط ومنح المشاركين ثلاثة خيارت:

  1. اشترك إلكتروني: 59$
  2. اشتراك مطبوع: 125$
  3. اشتراك إلكتروني ومطبوع: 125$

اختارت النسبة الأكبر من المشاركين الخيار الثالث الأعلى تكلفة. ونلاحظ أنه كان الخيار المستهدف منذ البداية لأنه يعود بالفائدة الأعلى على الصحيفة.

يمثل الخيار الأوسط هنا الفخ أو الشرك، الذي يجعل الخيار الثالث يبدو أكثر فائدة ومنطقية. ويجعل المستهلك يتساءل لماذا يختار الخيار الثاني بينما يمكنه دفع نفس السعر والحصول على نسخة مطبوعة؟

يلعب هذا التأثير بشكل أساسي على مشاعر المستهلك. يشعر المستهلك بالقلق وعدم القدرة على اتخاذ القرار عند عرض عدة خيارات (الظاهرة التي عرفها علماء النفس بإشكالية اتخاذ القرار). ويلجأ إلى تبسيط خياراته وعقد مقارنة بينها تبعًا لعوامل أساسية مثل السعر والجودة على سبيل المثال.

هنا يأتي دور تأثير الشرك، حيث يستخدمه المسوق الماهر لدفع المستهلك في اتجاه المنتج المستهدف (المنتج الذي يبدو للمستهلك أنه الأجود والأفضل سعرًا).

كره الخسارة

يخبرنا علم النفس أن مشاعر الخسارة السلبية أشد بأضعاف من مشاعر الكسب الإيجابية. من هنا يأتي مفهوم «كره الخسارة-Loss Aversion» وهو تحيز معرفي يشير إلى تفضيل البشر الخيار الآمن، فيفضلون تجنب الخسارة على احتمالية الكسب.

مثال: المشاعر السلبية المرتبطة بخسارة 20$ أشد من المشاعر الإيجابية المرتبطة بكسب 20$!

يعد هذا المفهوم إحدى حيل علم النفس المنتشرة في عالم التسويق. ويستغله المسوقون عن طريق عرض منتجاتهم بالشكل الذي يدفع المستهلك لشرائها، الشكل الذي يُشعر المستهلك أنه يخسر/يضيع فرصة ما إذا أعرض عن الشراء. ذلك باستخدام عبارات مثل:

  • اشترِ الآن
  • اشترك الآن
  • جرب الآن
  • احصل عليه الآن

يرتبط بتلك الوسيلة التسويقية مبدأ آخر، هو مبدأ النُدرة الذي يغذي شعور كره الخسارة ويساهم في اتخاذ قرارات شراء متسرعة. ويظهر في: الحسومات لفترة محدودة، أو المنتجات محدودة الإصدار.

تأثير الألفة

“البعيد عن العين بعيد عن القلب”

يخفي هذا المثل الشعبي الشهير أحد مفاهيم علم النفس وهو تأثير الألفة. كلما رأيت شيئًا ما مرارًا وتكرارًا، اعتدته وازداد تعلقك به.

يستخدم خبراء التسويق هذا المفهوم لزيادة شعبية منتجاتهم، عن طريق الدعاية المتكررة، واستخدام المنصات الالكترونية المختلفة لخلق حملة ترويج مستمر. يخلق هذا التعرض المنتظم لنفس المنتج نوعًا من الاعتياد والألفة الذي سرعان ما يتحول إلى إعجاب بالمنتج.

مثال: تأتي شركات الملابس أحيانًا بأغرب الصيحات التي ينفر منها الكثير. لكن بمرور الوقت وزيادة الانتشار تجد أغلب الناس يعتادونها ويبدأون بشرائها. هنا يظهر تأثير الألفة.

خاتمة

تعرفنا اليوم على ثلاث من مفاهيم علم النفس التسويق. وبالطبع لا يقتصر الأمر عليهم وحسب، بل يستخدم خبراء التسويق وعلماء النفس عشرات المفاهيم يوميًا لدفعنا بطرق بسيطة وخفية إلى المزيد من الشراء. أنت تقرر إذا كان هذا الأمر نافعًا أم ضارًا. لكن ما لا يمكننا الاختلاف عليه هو أنه ذكي للغاية ومثير للاهتمام!

المصادر

كيف يهدد التنميط جودة حياتنا؟ وكيف يمكننا التصدي له؟

هذه المقالة هي الجزء 19 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تخيل معي أنك وضعت عددًا من الأطفال عشوائيًا في مجموعتين وذهبت بهم في رحلة ميدانية. هؤلا الأطفال لم يتقابلوا قبل مطلقًا لكنهم يتشاركون نفس السن والخلفية الاجتماعية.

بعد مرور يومين اختار الأطفال أسماءًا لمجموعاتهم، وبعد أربعة أيام احتد الصراع بين كلا المجموعتين، وبعد ستة أيام وقع الأطفال في التنميط فوصفوا مجموعاتهم بصفات محببة فيما أهانوا المجموعة الأخرى، وعندما حاولت خلق نوع من التواصل فيما بينهم ازداد الوضع سوءًا.

فما الذي حدث هنا؟

تجربة كهف روبر

ما تخليته الآن هي تجربة شهيرة في علم النفس الاجتماعي تدعى تجربة «كهف روبر-Robber’s cave experiment» قام بها عالم النفس التركي مظفر شريف. استنتج منها ما يلي:

  • عند وضع مجموعة من الغرباء سويًا في مجموعة واحدة وتوحيد أهدافهم، سينشأ نوع من التنظيم وتوزيع الأدوار فيما بينهم.
  • عند خلق تنافس بين المجموعتين حديثتي التكوين، سينشأ نوع من التفضيل بين أفراد المجموعة، والعداء تجاه أفراد المجموعة الأخرى.

نجد هنا أن هؤلاء الأطفال، في غضون أربعة أيام فقط، طوروا حسًا بالانتماء لمجموعة ما ووصفوا جميع أفرادها بالذكاء أو سرعة البديهة او غيرها من الصفات الحميدة فقط لانتماء هؤلاء الأفراد لتلك المجموعة. بينما ذموا جميع أفراد المجموعة الأخرى ووصفوهم بالكسل أو الحماقة فقط لانتماء هؤلاء الأفراد لتلك المجموعة.

ذلك “التنميط” الذي وقع فيه هؤلاء الأطفال شائع ومؤثر ويمكننا رؤيته يوميًا. فلا يقتصر على فريقين في رحلة ميدانية وإنما يمتد ليشمل مجموعات كاملة من البشر. رجال ونساء أو سود وبيض. جميعها ألقاب وفرق لا تأتي وحدها، وإنما ترتبط بها قائمة طويلة من الصفات والأنماط (إيجابية أو سلبية) وتاريخ من العنصرية.

التنميط بين الإيجابيات والسلبيات

مصطلح التنميط أو «الصور النمطية-Stereotypes» له تاريخ طويل. بداية من القرن الخامس عشر حينما كان يستخدم لوصف عملية الطباعة حتى وقتنا الحالي.

مصطلح الصور النمطية حاليًا هو عدد من المعتقدات الثابتة والمعممة على مجموعة أو طبقة من البشر. فعندما نقع في تنميط شخص ما نشير أن هذا الشخص يحمل عددًا من الصفات التي يحملها جميع أفرد مجموعته/طبقته.

لا نحتاج لذكر الوصمة السلبية التي ترتبط بهذا المصطلح، فإذا وقعت في التنميط فقد ارتكبت فعلًا سيئًا. والسؤال هنا هل التنميط بالفعل أمر سيء؟

الإيجابيات

يستخدم علماء النفس مصطلح التنميط على نطاق أوسع. نحن نتعرض لمعلومات ومؤثرات جديدة طوال الوقت، ونحلل هذه المعلومات في ضوء معارفنا المسبقة فنقوم بالتنميط أو التعميم.

إذا رأيت هيكلًا خشبيًا بأربعة أرجل وتعرفت عليه أنه مقعد، بالتأكيد ستصل إلى النتيجة أنه يمكنك الجلوس عليه، وإذا رأيت كلبًا وتعرفت عليه ستصل أيضًا إلى النتيجة أنه بالتأكيد ينبح.

تقع هذه التعميمات (أن جميع المقاعد للجلوس عليها وجميع الكلاب تنبح) ضمن نطاق التنميط.، وتكمن أهميتها في تبسيطها العالم من حولنا، فلا نضطر إلى معالجة كل شذرة من المعلومات الجديدة بل نقفز سريعًا إلى النتائج.

السلبيات

لا يصيب هذا القفز السريع إلى النتائج دائمًا، وهنا تظهر الجوانب السلبية للتنميط. فعندما يمتد الأمر إلى البشر تضعف سلطة التعميمات أمام قوة الاختلافات بين الأفراد.

هذه هي الأسباب وراء عدم صحة الصور النمطية عند البشر غالبًا:

  • التحيز للتوكيد

    هو نوع من التحيز المعرفي يتضمن تفضيلنا للمعلومات التي تتماشى مع معتقداتنا أو تحيزاتنا السابقة وتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. إذا طبقنا هذا المفهوم على الصور النمطية سيتضح لماذا لا ينبغي الوثوق بها.

    مثال: أحد الصور النمطية عن الرجال السود أنهم يميلون للعنف، فإذا رأيت مجرمًا أسودًا سيبرز في عقلك تحيزك المسبق وتزداد اقتناعًا به، وإذا رأيته يدير عملًا ناجحًا فعلى الأرجح ستغفله وتتناساه.

  • عدم مصداقية المعلومات التي تنشأ منها الصور النمطية.

    نحصل على جميع معلوماتنا عن العالم من وسائل الإعلام (التلفاز والصحف والكتب). معلومات هذه الوسائل غير موثوق بها وغالبًا مضللة. لأنها ببساطة لا تمثل جميع الفئات في العالم، وعند تمثيلها بالفعل قد تتبنى صورًا غير واقعية ومضللة.

    مثال: تتعرض السيدات في مجال الموسيقى الكلاسيكة لصورة نمطية مفادها أنهم أقل كفاءة من العازفين الرجال. استطلعت أحد الدراسات ذلك وقامت بما يُعرف بـ «تجارب الأداء المحجوبة-Blind Auditions» وهنا يعزف المشاركون خلف ستار فلا يرى الحكم جنس المشارك. جاءت النتائج بتفوق العازفات الإناث وفوزهم بالوظيفة. يظهر لنا هذا المثال عدم صحة الصورة النمطية بالإضافة إلى أثرها السلبي على حيوات من يتعرضون إليها.

خطر الصور النمطية

لا تتوقف سلبيات الصورة النمطية عند هذا الحد، بل ترتبط بها ظاهرة غاية في الجدية والخطورة، وهي ظاهرة «خطر الصورة النمطية-Stereotype Threat». تحدث عن هذه الظاهرة عالم النفس كلود ستيل في ورقة بحثية استطلع فيها أثر (خطر الصورة النمطية) على أداء المواطنين الأمريكين ذوي الأصول الأفريقية في اختبارات الذكاء.

عرّف ستيل خطر الصورة النمطية أنه: خطورة الوقوع في أو توكيد الصفة/النمط السلبي الذي تشتهر به مجموعة معينة من البشر التي ينتمي إليها الفرد.

في حالة الأمريكين ذوي الأصول الأفريقية، يتعرض هؤلاء الأشخاص لصورة نمطية مفادها أنهم أقل ذكاءًا من المواطنين البيض. لذا عندما ذكرهم ستيل بهويتهم العرقية ثم وضعهم أمام اختبار ذكاء، تدنى أدائهم بشكل كبير.

وهنا دعني أوضح أن ستيل لم يجمع المشاركين ليلقي عليهم محاضرة عن أصولهم الأفريقية وما يشيع عن انخفاض معدل ذكاء المنتمين إليها. بل الحقيقة أن خطر الصورة النمطية يمكن إثارته بأبسط الطرق وأقلها وضوحًا مثل:

  • عندما يكون الشخص (المتعرض لصورة نمطية سلبية) وحيدًا وسط مجوعة من البشر.
    مثال: تواجد رجل أسمر البشرة وحيدًا وسط مجموعة يمكنه إثارة خطر الصورة النمطية.

  • عند التلميح للنمط السلبي الشائع عن مجموعة ما أمام شخص ينتمي إليها.
    مثال: ملأ استبيان يستطلع جنس الشخص أو عرقه قبل اختبار ما كافٍ لإثارة خطر الصورة النمطية.

  • عندما يخضع الشخص (المتعرض لصورة نمطية سلبية) للتقييم، والقائم بالتقييم لا ينتمي لنفس المجموعة المتعرضة للنمط السلبي.
    مثال: تحرز النساء نتائج أفضل في اختبارات الرياضيات عندما يكون المراقبون من الإناث لا الرجال.

  • عندما يخضع الشخص (المتعرض لصورة نمطية سلبية) للتقييم، ويكون موضوع التقييم هو نفسه الصورة النمطية السلبية.
    مثال: إخضاع المواطنين ذوي الأصول الأفريقية لاختبارات ذكاء (الصورة النمطية الشائعة عنهم أنهم أقل ذكاءًا)

كيف نتصدى لسلبيات الصور النمطية؟

قبل التطرق إلى الوسائل التي تمكننا من مجابهة الصور النمطية وتأثيراتها السلبية، أود مناقشة الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك أولًا. لماذا نهتم بالصور النمطية؟ وما السيء حيالها الذي يستدعي المجابهة؟

أحد الدراسات قام بها عالم النفس جاك دوفيدو ليستطلع تأثير الصور النمطية على معدل توظيف الشباب. عندما أتى المتقدمون (سود وبيض) للوظيفة بتوصيات مناسبة كانت معدلات التوظيف متساوية بين العرقين، أما عند غياب التوصيات فاز البيض بمعدلات توظيف أكبر.

المغزى من هذه التجربة ليس ذم الأشخاص وعنصريتهم (من المحتمل أنهم لم يعوا أن اختياراتهم وقعت بشكل أكبر على المشتركين البيض) وإنما الاعتراف أن هذه الصور النمطية موجودة ومؤثرة.

أحد المستويات التي تتواجد بها الصور النمطية هو المستوى الباطني أو اللا شعوري، وهو المستوى الذي لا يعي فيه الشخص وقوعه في التنميط أو العنصرية.

ربما يصرح الشخص على الملأ أنه يشجع السيدات على تولي المناصب القيادية، أو يرى أن السود لا يقلون كفاءة عن البيض (وهذا هو المستوى العام/الواضح للصور النمطية) بينما يثبت تعرضه لموقف أو اختبار ما عكس ذلك (وهذا هو المستوى الباطني للصورة النمطية مثلما حدث في تجربة دوفيدو).

أحد العلماء الذين استكشفوا المستوى اللا شعوري للصور النمطية هي العالمة مهزرين باناجي. التي قامت بواحدة من أضخم الدراسات من حيث عدد المشاركين على مدار تاريخ علم النفس. وهو اختبار على الانترنت يمكنك تجربته من هنا: Project Implicit

يستكشف هذا الاختبار الصور النمطية الباطنية التي قد نحملها جميعًا ولا نعيها. ولا يقتصر هذا الاختبار على السود فقط بل النساء والمثليين جنسيًا وأصحاب الديانات المختلفة أيضًا. وما تثبته نتائج هذا الاختبار هو عدم التوافق بين نسب الصور النمطية الواضحة (التي يتحدث بها الأشخاص علانية) والصور النمطية اللاشعورية.

تدفعنا هذه النتائج للتعامل مع الصور النمطية من منطلق آخر، منطلق أننا ربما نحملها جميعًا لكن ما علينا فعله هو تطوير الوسائل للتعامل معها.

إذًا كيف نتعامل معها؟

  • الخطوة الأولى لتقليل خطر الصور النمطية هي الوعي، الوعي بالصور النمطية وتوعية الآخرين بشأنها.
  • رفض الصور النمطية بشكل واضح وعلني.
  • خلق طرق وأجواء مناسبة للاختبارات أوالوظائف بحيث لا تثير «خطر الصورة النمطية-Stereotype Threat» 
  • تبني صورة مرنة وواقعية عن الذكاء والترويج لها، يتطور الذكاء بها تدريجيًا، لا يسير في خط مستقيم.

خاتمة

هنا ننهي حديثنا عن الصور النمطية، وكيف يفسرها علماء النفس بشكل أوسع وأكثر إيجابية كوسيلة لتبسيط العالم من حولنا، كذلك كيف يمكن لهذا التنميط أن يحمل آثارًا سلبية ونتائج مدمرة على أداء الأفراد والجماعات. وأخيرًا كيف يمكن للوعي والعلم بهذا المفهوم وتفاصيله أن يجنبنا مخاطره الكثيرة.

اقرأ أيضًا: نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود

المصادر

نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود

نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود . هل سمعت يومًا عن أرض السيدات ذوات النهود؟ لا ليست مكانًا خياليًا ابتدعه كاتب في رواية ما، لكنها قرية تقع في جنوب الهند شهدت أحداثًا مريعة وظلمًا جسيمًا اكتسبت بسببه هذا الاسم. فما قصة هذه القرية؟

أرض السيدات ذوات النهود

تقع قرية «مولاتشي بورام-Mulachhipuram» أو أرض السيدات ذوات النهود ضمن مملكة «تراڤنكور-Travancore» قديمًا، ولاية «كيرالا-Kerala» حاليًا. وشهدت هذه القرية كما الحال مع أغلب مناطق جنوب الهند طبقية وظلمًا شديدين، عانى منه الرجال والنساء معًا.

تاريخ النظام الطبقي في الهند

قبل الحديث عن قصة هذه القرية، دعونا نسرد خلفية عن تاريخ النظام الطبقي في الهند، الذي ساهم بشكل مباشر في وقوع الظلم على كثير من الضحايا.
دخل الهنود الأوروبيون الهند في القرن الثاني قبل الميلاد. وجاءت معهم تعاليم «الڤيدا-vedas» وهي أقدم النصوص المقدسة في الهند ومنها نشأت الهندوسية.
حظي رجال الدين في الهند بمكانة مميزة. وبحلول القرن الثامن الميلادي استأثر رجال الدين/الكهنوت الهندوسي بالنفوذ والسلطة، وقضوا على معابد البوذية وتعاليمها ونشروا الهندوسية بدلًا منها.
ومن هنا بدأ النظام الطبقي في البلاد، الذي وصل ذروته في القرن التاسع عشر الميلادي. فنجد الهند تتبع نظامًا هرميًا يقع رجال الدين الذين عرفوا بـ «البراهميين-Brahmins» على قمته، يليهم الحكام والمحاربين، ثم المزارعين والتجار، وأخيرًا العمال والخدم والفلاحين.

ما قبل سيادة رجال الدين

قديمًا قبل سيادة رجال الدين لم يعرف الهند النظام الطبقي. وإنما صنف الأشخاص حسب وظائفهم إلى صيادين ومطربين ومزارعين وعمال وتجار. لكن بحلول القرن الثامن الميلادي وارتقاء البراهميين قمة الهرم الاجتماعي تغير كل شيء. فلم يكتفوا بالسلطة الدينية فحسب وإنما تدخلوا في شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد. وساقوا لذلك الذريعة الأشهر على الإطلاق وهم أنهم مبعوثون من الآله، وأن تميزهم وسلطتهم تنفيذًا لرغباته.

بناءًا على ذلك فرضوا عددًا من القواعد الصارمة منها:

  • “النبذ” بمعنى ألا يقترب منهم أي من أفراد الطبقات الأقل ولا يمسوهم. وكلما تدنت درجة الفرد في الهرم الاجتماعي كلما زادت المسافة التي وجب عليها الالتزام بها بعيدًا عن رجل الدين.
  • كذلك استأثروا بتعلم النصوص المقدسة لأنفسهم ولبعض من أفراد الطبقات العليا فقط.
  • وأيضًا منعوا العوام من دخول المعابد أو مس القرابين باستثناء قلة مميزة منهم.
  • أخيرًا والأكثر غرابة هو منع الرجال من تغطية صدورهم أو رؤوسهم في أي وقت وأي مكان كعلامة احترام لأفراد الطبقات الأعلى.

الشودرا الأقل حظًا

عُرفت الطبقة الأدنى في الهرم الاجتماعي بطبقة «الشودرا-Shudra» وهم كما ذكرنا من يشغلون أعمالًا متواضعة ويقع عليهم ظلمًا كبيرًا من أفراد الطبقات الأعلى.
لم تسلم سيدات هذه الطبقة من نفوذ الطبقات الأعلى، فأُمرت بالخضوع لرجال الدين وتلبية رغباتهم دائمًا. فكان يحق لأي رجل من رجال الدين أن يدخل أي بيت ويمارس الجنس مع أي من سيداته دون اعتراض، بل كان يُعد هذا نوعًا من المباركة التي تقع على العائلة. ومن تجرؤ على الاعتراض يعاقبها الحاكم وتوصم بالعار.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل بُنيت بيوت الطبقة الدنيا بحيث يؤدي السلم الخارجي مباشرة إلى الطابق العلوى حيث تعيش نساء البيت، وهكذا يُمكن لرجال الدين الصعود مباشرة دون الدخول. نتيجة لهذه الممارسات المهينة كان يصعب تحديد هوية والد أي طفل، وساد النظام الأمومي في المجتمع.

ضريبة الثدي

شهد القرن التاسع عشر ظهور قانون مجحف جديد، وهو منع سيدات الطبقات الدنيا من تغطية صدورهن في أي وقت وأي مكان. ومن تجرؤ على ذلك تفرض عليها ضريبة عُرفت بـ «ضريبة الثدي-Breast Tax» تم تحديد هذه الضريبة بناءًا على إجراء مهين، وهو تقييم شكل ثدي كل امرأة وحجمه، وكلما زاد حجمه كلما زادت الضريبة.

مُنعت السيدات من تغطية صدورهن كبادرة احترام وتقديس

أُمرت السيدات بالالتزام بكشف أجسادهن لأنها بادرة احترام وتقديس، كذلك كتذكير بمكانتهن الأدنى من غيرهن. واُستثنى من ذلك بالطبع سيدات الطبقات الأعلى.
يقص أحد المؤرخين أنه عند مرور موكب الملك، يجب على جميع السيدات كشف النصف العلوي من أجسامهم ونثر الورود أمام الملك، يستثنى من ذلك نساء رجال الدين، أما بقية السيدات بما فيهن السيدات في شرفات المنازل فيجب عليهن ذلك.

الاعتراضات على ضريبة الثدي


شهدت هذه الضريبة عددًا من التغيرات على مدار النصف الأول من القرن التاسع عشر. فظهر قانون يمنح الحق للسيدات المسيحيات في وضع رداء علوي يغطي صدروهن، ونتيجة لذلك اعتنقت كثير من سيدات الطبقات الأدنى المسيحية للتمتع بهذا الحق. لكنهن للأسف لم يسلمن من الاعتداءات والظلم، فعمد رجال الطبقات الأعلى إلى إهانة هؤلاء السيدات وتمزيق ألبستهن، مستخدمين عصا طويلة مثبت بطرفها بسكين (ملتزمين بقاعدة النبذ)
وأخيرًا نتيجة لعدم رضا الطبقات الأعلى تم إلغاء هذا القانون. لأنه ينشر “التلوث” في المجتمع فلا يمكن التفريق بين أفراد الطبقات العليا والدنيا.

استمرت اعتراضات السيدات ورفضهن لضريبة الثدي. واستمررن بتغطية صدورهن -مسيحيات كُن أو هندوسيات- حتى بعد إلغاء القانون. أبرز قصص الاعتراض على هذا القانون المجحف هي قصة نانجيلي، فتاة من أرض السيدات ذاوت النهود.

نانجيلي

عام 1859م رفضت «نانجيلي-Nangeli» إحدى فتيات قرية مولاتشي بورام، أرض السيدات ذوات النهود، دفع ضريبة الثدي حينما خرجت برداء يغطي نصف جسدها العلوي.

حينما سمع موظفو الملك ذلك ذهبوا إلى بيتها ليجبروها على دفع الضريبة. ضاقت نانجيلي بالإهانة وتملكها الغضب فأسرعت إلى السكين وقطعت ثدييها لتقدمهما إلى موظفي الملك. فقدت نانجيلي الكثير من الدماء، فضعف جسدها وماتت على الفور.

إحدى أعمال الفنان Murali T يوثق بها قصة نانجيلي

استبد الحزن بزوج نانجيلي ولم يطق فألقى نفسه في المحرقة مع جثتها، ولم يكن للزوجين أي أبناء. نتيجة لتضحية نانجيلي الفريدة، تم إلغاء ضريبة الثدي في اليوم التالي، وانتهت بعدها إلى الأبد.

نانجيلي: تضحية فتاة من أرض السيدات ذوات النهود

حقوق الصورة: @pooja.jayann

الأمر المحزن أن قصة نانجيلي لم تصل إلى التاريخ. ولا يعرفها سوى أهالى قريتها والمناطق المحيطة. أما تضحية تلك السيدة الفريدة فلم توثق تاريخيا، ولم يحتفي بها أحد.
بل قامت الهيئة المركزية للتعليم الثانوي في الهند في قرار مهين، بمحو قصتها وقصص غيرها من ثوار الشودرا من المناهج الدراسية.

اقرأ أيضًا: التنافر المعرفي

المصادر

التنافر المعرفي: عندما تفشل النبوءة وينتصر الوهم على الحقيقة!

هذه المقالة هي الجزء 18 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

يصعب تغيير الإنسان الملتزم بقناعة راسخة، فإذا عارضته سيشيح بوجهه عنك، وإذا واجهته بالحقائق والأرقام سيسألك عن مصادرك، وإذا احتكمت إلى المنطق فلن يفهم وجهة نظرك

هكذا كتب ليون فيستنجر في كتابه «عندما تفشل النبوءة-When Prophecy Fails» الذي يناقش فيه واحدة من أغرب التجارب التي شهدها. وما يرتبط بها من أحد أهم مفاهيم علم النفس الاجتماعي: «التنافر المعرفي-Cognitive Dissonance»

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

تعريف التنافر المعرفي

التنافر المعرفي هو أحد مفاهيم علم النفس الاجتماعي. ويشير إلى حالة التوتر أو قلة الراحة أو انعدام الانسجام التي تنتاب الشخص حينما تتعارض معتقداته أو مواقفه مع سلوكه. ينتج عن هذا التصادم (بين ما يؤمن به الشخص وما يسلكه بالفعل) شعور بالتناقض أو التصارع، يجعله يغير سلوكه أو يحوّر معتقداته للعودة إلى الراحة والانسجام.

درس فيستنجر هذا التأثير، كما درس الآليات المختلفة التي يسلكها البشر للتغلب على الصراع والوصول إلى حالة الانسجام الداخلي. توصل فيستنجر إلى نتائجه من خلال مجموعة من الدراسات، منها تجربته الكلاسيكية عن التنافر المعرفي. وهاك مقطع منها:

تجربة فيستنجر وكارلسميث عن التنافر المعرفي 1954

خطوات التجربة

جعل فيستنجر المشاركين يقومون بعدد من الأنشطة المملة. ثم طلب منهم مساعده أن يخبروا المشارك التالي كذبًا أن التجربة ممتعة مقابل قدر من المال، المجموعة الأولى مقابل 20 دولارًا والمجموعة الثانية مقابل دولار واحد فقط. سألهم فيستنجر في نهاية التجربة عن انطباعهم عنها، هل كانت التجربة ممتعة؟ هل تشارك بها مرة ثانية؟

يأتي الرد البديهي في أذهاننا جميعًا أن من حصلوا على 20 دولارًا سيجيبون بنعم، على عكس من حصلوا على دولار واحد. لكن ما حدث هو العكس تمامًا! تصدمنا الشابة التي حصلت على دولار واحد وقضت كل هذا الوقت في نشاط ممل بجوابها: “نعم لقد استمتعت وإذا اتيحت الفرصة سأود المشاركة مرة ثانية”

النتائج

فسر فيستنجر النتائج كما يلي: اختبرت المجموعة التي حصلت على قدر أكبر من المال تنافرًا أقل. بمعنى أن الدافع للكذب كان واضحًا وهو الحصول على المال، لذا لم يختبر هؤلاء تنافرًا بين ما يعتقدونه (أن النشاط ممل) وما يفعلونه (الكذب والقول أن النشاط ممتع) لأن الدافع موجود.
أما المجموعة التي حصلت على مبلغ تافه اختبرت تنافرًا أشد. لأنهم لم يستطيعوا إقناع أنفسهم أنهم فعلوها من أجل المال، كما لم يستطيعوا مواجهة حقيقة الموقف (إهدار وقتهم في نشاط ممل والكذب بشأنه) لذا يلجأ العقل إلى الخداع! فيخبر المرء نفسه أن النشاط كان ممتعًا وليس بهذا السوء وربما يفعله مرة ثانية.
ألا يبدو هذا السلوك مألوفًا إليك؟

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

عندما تفشل النبوءة

لم تقتصر دراسات فيستنجر على التجربة السابقة فقط، بل نشر في كتابه عندما تفشل النبوءة أحد الأمثلة الحية المدهشة لمفهوم التنافر المعرفي.

عندما تفشل النبوءة

صاحب فيستنجر عدد من الأفراد المنتمين لطائفة دينية تؤمن بالتواصل مع الكائنات الفضائية. ادّعت زعيمة هذه الطائفة أنها تلقت رسائل سماوية تنبأها بموعد نهاية العالم، لذا قامت هي وعدد من التابعين المخلصين ببيع بيوتهم وجميع ممتلكاتهم استعدادًا لتلك النهاية. وحينما جاء اليوم الموعود ولم يحدث شيء، خرجت لتخبرهم أنهم فعلوا الصواب وأنهم أنقذوا العالم بإيمانهم وإخلاصهم. وبدلًا من أن يندم هؤلاء على فعلهم المتهور ويواجهوا الحقيقة، ازداد حماسهم وانتمائهم!

هذا المثل واقعي للغاية وصادم للغاية عند النظر إليه. لقد هجر هؤلاء الأشخاص عائلاتهم وباعوا جميع ممتلكاتهم سعيًا وراء معتقد. ولك أن تتخيل مقدار التنافر الذي أصاب أحدهم في هذا الموقف، إنها هزة عنيفة وضربة قوية في صميم إيمان راسخ بذل الكثير في سبيله. فيجد نفسه في موقف ممزقًا بين ما يعتقد أنه الحقيقة والحقيقة الفعلية، فيتزعزع انسجامه وتتبدد راحته ويبدأ العقل الخداع!

من الجدير بالذكر أن جميعنا نختبر التنافر المعرفي بنسبة أو بأخرى. لكن ما نحن بصدده الآن هو مثال عنيف لما يمكن أن يؤدي إليه هذا التنافر. فقد تجاهل هؤلاء الأشخاص حقيقة ساطعة حتى لا تتصارع مع معتقدهم المسبق. وهذه الآلية بالتحديد واحدة من آليات ثلاثة شرحها فيستنجر لكيفية تجاوز التنافر المعرفي.

كيف نتجاوز التنافر المعرفي؟

لقد ذكرنا في تعريف التنافر المعرفي أنه حالة من التصارع بين المعتقد والسلوك ينتج عنه التوتر وتبدد الانسجام. لذا لكي يتخلص الشخص من هذا الإزعاج ويستعيد توازنه يلجأ إلى تحوير أحد هذين المتغيرين (إما المعتقد أو السلوك) عن طريق آليات ثلاثة. ولفهم الأمر بشكل أوضح سنطبق كل واحدة من الآليات على شخص مدخن يعلم ضرر التدخين ولا يقلع عنه.

  • تغيير المعتقد أو السلوك المسبب للتنافر كليًا، لكي تستعيد العلاقة بين المتغيرين اتزانها.

في حالتنا هذه يكون تغيير السلوك (الإقلاع عن التدخين) هو الحل لتجاوز التنافر المعرفي. لكن يمكننا توقع أن هذه الآلية بالتحديد صعبة التحقيق، لأنها تتضمن تغييرمعتقد راسخ أو سلوك اعتاد الشخص فعله.

  • تحصيل معلومات جديدة تدحض المعتقد المسبب للتنافر.

يعلم المدخن أن التدخين يسبب سرطان الرئة ويهدد الحياة، لكنه مع ذلك مستمر بسلوك التدخين. ولكي يتغلب على هذا التنافر يبحث على معلومات مثل: لم تؤكد الأبحاث بعد علاقة التدخين بسرطان الرئة.

  • تقليل أهمية المعتقد المسبب للتنافر.

قد يقنع المدخن نفسه أن التدخين ليس بهذا السوء، فحياة قصيرة يتمتع فيها بالتدخين خيرٌ من حياة طويلة خالية من هذه المتعة.

أمثلة من الحياة

لا تقتصر نتائج التنافر المعرفي على الدراسات المعملية فقط، فيمكن للأشخاص التلاعب بالتنافر المعرفي بأشكال مختلفة في حياتنا اليومية. وينتج عن هذا ظواهر جادة وخطيرة للغاية. منها ظاهرة «التشويش-Hazing»

يشير مصطلح التشويش إلى المضايقات التي يتعرض لها المبتديء عند انضمامه لمجموعة جديدة أو التحاقه بعمل جديد. وأحيانًا لا يتوقف الأمر عند المضايقات فقط بل يصل إلى حد الإذلال والإهانة لذا يعد فعلًا غير قانوني.

وما يحدث هو تعرض طالب مستجد يريد الانضمام لمجموعة ما لشتى أنواع الإهانة والتعذيب لفترة من الزمن. وتمامًا كما حدث مع الشابة التي أهدرت وقتها في نشاط ممل مقابل دولار واحد، يقنع هؤلاء الطلاب أنفسهم أنهم خاضوا الكثير المعاناة في سبيل هذه المجموعة، لذا لا بد أنها ممتعة وتستحق هذا العناء.

يظهر التشويش أيضًا عند السياسين، عندما يترشح أحدهم للانتخابات ويطلب تطوع الشباب لمساعدته بدون مقابل. هذا أمر حسن بالنسبة إليه لأنه لن يضطر لدفع المال وهذا بديهي. كذلك سيكون هؤلاء الشباب أكثر ولاءًا وانتماءًا لقضيته. وسبب ذلك هو التنافر المعرفي، فإذا عرض مائة دولار مقابل العمل سيدرك المتطوع أنه يفعله من أجل المال، أما إذا فعله بدون مقابل سيقنع نفسه أن هذا المرشح يستحق الدعم.

مثال آخر أكثر غرابة يظهر عند المعالجين النفسيين. يطلب المعالج المال مقابل العلاج لشتى الأسباب أولها أننا جميعًا نحب المال، ثانيًا أن العلاج المجاني عادة ما يفشل. لا بد أن يبذل المريض شيئًا في سبيل العلاج ليشعر بقيمته، حيث يقوده التنافر المعرفي إلى تقدير العلاج الذي بذل المال من أجله وبالتالي يستفيد منه.

الأمر ليس صراعًا وحسب

والآن لنلقي نظرة أعمق في أسباب حدوث التنافر المعرفي، ليس الأمر صراعًا بين معتقد وسلوك غير متسقين وحسب، ولكن التنافر أكثر دقة من ذلك. فنحن نحوّر أفكارنا أو سلوكنا حتى لا نفقد نظرتنا الأخلاقية المنطقية لأنفسنا. عودة إلى تأثير التشويش، هناك سبب واضح وصريح وراء تقبل الأشخاص الإذلال والإهانة في سبيل القبول بمجموعة، وهو أنهم هذا النوع من الأشخاص الذي يتقبل الإذلال والإهانة. لكن العيش مع هذه الحقيقة أمر مروع وصعب، ومن هنا ينشأ التنافر فيبحثون عن إجابة لا تشوه نظرتهم لأنفسهم مثل: لا بد أنها مجموعة رائعة وتستحق العناء!

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

وبهذا يمكننا إنهاء حديث اليوم، التنافر المعرفي ببساطة هو فكرة أن كل ما تفعله منطقي وأخلاقي، فإذا فعلت شيئًا يُظهرك أحمقًا أو متلاعبًا ستحوّره داخل مخك ليصير منطقيًا في نظرك.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والتحيز للتوكيد

المصادر

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

هذه المقالة هي الجزء 16 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟ وقعت العديد من الأحداث الشنيعة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ولعل أبرزها المحرقة الجماعية (الهولوكوست) لليهود على يد النازيين في معسكرات الإبادة. بعد انتهاء الحرب العالمية وإعلان هزيمة الحزب النازي وانتحار هتلر، عُقدت محاكمة نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب وقادة الحزب ومرتكبي الإبادة الجماعية. حاول هؤلاء الدفاع عن أنفسهم وساقوا عددًا من المبررات ولعل أكثرها إثارة للاهتمام هو الإدعاء أنهم كانوا يطيعون أوامر السلطة وحسب. لك أن تتخيل مدى برودة هذا الإدعاء واستفزازه لمشاعر الضحايا أو ذويهم أو حتى عالِم نفس فضولي!

دراسة ميلغرام

قرر ستانلي ميلجرام عالم النفس في جامعة يال التحقق من إدعاء الألمان بشأن السلطة، فقام بدراسة للإجابة عن السؤال أيهما ينتصر: الطاعة/ الخضوع للسلطة أم الإرادة/ الضمير البشري؟

https://www.youtube.com/watch?v=mOUEC5YXV8U
مقطع مختصر لتجربة ميلغرام

أُجريت الدراسة عام 1961 في جامعة يال، حيث نشر ميلجرام إعلانًا في الجريدة يطلب متطوعين من الرجال للمشاركة في تجربة عن الذاكرة والتعلم. تقدم أربعين مشاركًا ما بين عمر العشرين والخمسين، جُمع كل واحد منهم مع أحد الحلفاء (ممثل يوظفه القائم بالتجربة يدعي أنه مشارك حقيقي) وقاموا بسحب ما. رتب ميلجرام السحب بحيث يحصل المشارك على دور المعلم والممثل على دور المتعلم دائمًا. من الجدير بالذكر أن ميلجرام لم يظهر في مكان التجربة وإنما عين ممثلًا يرتدي معطفًا أبيضًا ليقوم بدوره. يشرح هذا الممثل للمشارك أن عليه طرح الأسئلة على المتعلم وإذا جاءت إجاباته خاطئة يصعقه كهربيًا، بحيث تزداد شدة التيار عند كل إجابة خاطئة، بداية من 15 فولت وانتهاءًا بـ 450 فولت.

هدف التجربة وخطواتها

هدِف ميلجرام من هذه التجربة معرفة مدى تأثير السلطة على الأشخاص العاديين، وتحت أي ظروف يمكن لهؤلاء الأشخاص ارتكاب أفعال سيئة.

تجري خطوات التجربة كما يلي: يذهب الممثل (المتعلم) إلى غرفة أخرى وتُثبت الإلكترودات بذراعه بينما يحصل المشارك الحقيقي (المعلم) على قائمة بالأسئلة. يبدأ المشارك بقراءة الكلمات ويجيب الممثل دائمًا إجابات خاطئة ثم يدعي التألم والصراخ حينما يضغط المشارك على زر الصعق. يزداد توتر المشاركين بمرور الوقت لسماعهم تألم الشخص في الجانب الآخر، وعندما يعترض أحدهم أو يطالب بالتوقف يستخدم الممثل بالمعطف الأبيض نبرة واثقة ويوضح لهم وجوب استمرار التجربة وأنه يتحمل المسئولية كاملة.

نتائج التجربة

قبل بداية التجربة سأل ميلجرام عددًا من الأشخاص وعلماء النفس عن توقعاتهم لنسبة الأشخاص الذين سيصلون إلى أقصى شدة للصعق الكهربي (450 فولت) وجاءت توقعاتهم أن النسبة لن تتعدى 2%. أثبتت النتائج الفعلية عكس ذلك تمامًا، حيث أشارت الدراسة أن 65% من المشاركين وصلوا إلى الحد الأقصى (450 فولت) و 100% من المشاركين تخطوا حاجز 300 فولت وذلك رغم سماعهم صراخ وتألم الشخص على الجانب الآخر.

يقول ميلغرام:

“على الرغم من أهمية الجوانب الأخلاقية والقانونية لمفهوم الطاعة إلا أنها تخبرنا القليل عن سلوك الأشخاص في المواقف الحقيقية. لقد أعددت تجربة بسيطة في جامعة يال لأختبر قدر الألم الذي يسببه شخص إلى آخر فقط لأن عالم بمعطف أبيض أمره بذلك. عندما حرضت السلطة الحازمة المشاركين ضد الوازع الأخلاقي القوي وهو عدم إيذاء الآخرين، وبالرغم من أن صرخات الألم كانت تملأ آذانهم، انتصرت السلطة دائمًا”

الوصفة المثالية للجريمة!

أعاد ميلجرام التجربة ثماني عشرة مرة بتعديلات مختلفة ليختبر العوامل التي تؤدي إلى هذه النتائج، وجاءت ملاحظاته كالتالي:

تقل نسبة الأشخاص الذين يصلون إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية (450 فولت) في عدد من الحالات:

  • عند نزع سلطة جامعة يال من المعادلة، والقيام بالتجربة خارج الجامعة.
  • عندما يكون المعلم والمتعلم في غرفة واحدة بحيث يمكن للمشارك أن يراه ويلمسه.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات هاتفيًا.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات من شخص عادي لا يرتدى المعطف الأبيض.
  • عندما يثور أحدهم ويرفض استكمال التجربة فيتبعه المشاركين الآخرين.
  • عند منح المشاركين اختيار مستوى الصدمة الكهربية، فيختارون الأقل دائمًا.

وبجمع هذه العوامل معًا توصل ميلجرام إلى الوصفة المثالية لجعل شخص ما يرتكب جرمًا شنيعًا:

  1. السلطة (سلطة جامعة يال- سلطة العلم والمعطف الأبيض)
  2. ثقة وثبات القائم بالتجربة (لو أظهر القائم بالتجربة توتره أو خوفه لاختلفت النتيجة)
  3. المسافة بين المعلم والمتعلم.
  4. موقف جديد بلا أي خبرة سابقة عن كيفية التصرف معه.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

القوى المحركة للشر

الآن كيف يمكن لعناصر هذه الوصفة المثالية أن تدفعنا إلى فعل جرم شنيع؟ ما الذي يحدث على مستوى سيكولوجي فردي يقلل من فداحة الشر ويُسهل ارتكابه؟

هناك اثنان من العوامل الرئيسية التي يمكن وصفها بقوى الشر، أولها:

«تجريد الشخص من فردانيته-Deindividuation of self»

ويحدث ذلك بعدد من الوسائل التي تقلل من شعور المرء بنفسه كفرد مستقل وبالتالي تقلل من شعوره بالمسئولية: –

  • استقبال الأوامر من شخص أو سلطة أخرى.

وبالتالي تتغير عقلية الفرد من: أنا أرتكب فعلًا خاطئًا، إلى: أنا فقط مجرد أداة في يد سلطة أخرى تتحمل المسئولية. يعد تحمل المسئولية بالتحديد أحد العوامل المحورية التي فسر بها ميلجرام نتائج دراسته. فأشار أنه عند تواجد سلطة يراها المشاركون قانونية أو أخلاقية (مثل سلطة العلم) يتحول الشخص في تصرفاته من الحالة الفردية إلى «الحالة العاملية-Agentic State» فيقل شعوره بالمسئولية ويسهل ارتكاب الخطأ.

  • وجود الشخص في مجموعة.

عندما يتواجد الفرد في مجموعة يقل شعوره بفرديته ومسئوليته عن أفعاله. وأشهر الأمثلة التي يبرهن بها علم النفس ذلك: «حادثة كيتي چينوفيز-Kitty Genovese Case»

كيتي جينوفيز فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها. تعرضت لاعتداء أثناء عودتها من العمل أدى إلى وفاتها، حدث الاعتداء في مساحة مفتوحة أمام المبنى الذي تسكنه. وأشار تقرير جريدة نيويورك تايمز أن ما يقرب من 38 شخصًا شهد الحادث ولم يبلغ الشرطة أو يقدم المساعدة. (من الجدير بالذكر أن الجريدة أصدرت تقريرًا آخرًا عام 2016 تعتذر عن التقرير القديم وتصف أرقامه بالمبالغ فيها، كما تؤكد تواجد بعض الأشخاص وتقديمهم المساعدة وقت الحادث بالفعل)

فسر علم النفس هذه الظاهرة فيما يعرف بـ «تأثير المارة-Bystander Effect» وهو انخفاض الشعور بالمسئولية عند التواجد في مجموعة، مثلما تشاهد محتاجًا في الشارع، فتحدث نفسك أنني لست مضطرًا لتقديم المساعدة، من المؤكد أن شخصًا آخرًا سيقدمها. ويوضح علماء النفس أن هذا التفكير يخلق حالة من «تفرق الشعور بالمسئولية-Diffusion of responsibility» فتقل احتمالية تقديم المساعدة.

  • إغفال الهوية

مثلما يفعل الجنود في الحروب فيرسمون على وجوههم أو يرتدون الأقنعة، تعد هذه الوسائل نوعًا من إخفاء الهوية، فيتحرر صاحبها من شعوره بفرديته (لست أنا من يرتكب الفعل السيء) وبالتالي يقل شعوره بالمسئولية.

القوة الثانية: استصغار الآخرين

على عكس الدافع الأول، يعتمد هذا الدافع على تجريد الآخر من فرديته. فهذا الشخص الآخر ليس شخصًا بعد الآن، ولن أشعر بالذنب إن آذيته. وهناك عدد من الوسائل التي تجعلنا نستصغر الآخرين أو ننسى أنهم بشر مثلنا. وهي: –

  • المسافة

كما وضحت تجربة ميلجرام، كلما ابتعدت الضحية عن ناظر المعلم فلا يستطيع رؤيته أو لمسه، يقل إدراكه له كفرد. وبالتالي تقل المسئولية فيصل إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية رغم سماعه صرخات الألم. وتنعكس النتائج عندما يكون الشخصان في نفس المكان.

  • حس الدعابة

لا يقتصر حس الدعابة على الضحك والخفة فقط، بل يمكن أن ينطوى على جوانب أكثر قتامة وخطرًا. فعند استخدامه للسخرية من شخص ما، ستراه تدريجيًا أقل إنسانية منك، مما يزيد من احتمالية الأذى ونقص الشعور بالمسئولية.

  • تجاهل الأسماء

ينص أحد بنود تصريح الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: ” كل فرد لديه الحق في اسم ” وربما تظن أن هذا أمر بديهي. لماذا نحتاج إلى بند لتأكيده؟ والحقيقة أن تجاهل اسم شخص ما أو محوه يقلل من أهميته وقيمته كفرد. يقل احتمال أذاك لشخص ما إن كنت تعرف اسمه، أما عند تجاهله تزداد احتمالية الأذى ويقل الشعور بالمسئولية.

  • التقزز

التقزز شعور عالمي يشعر به جميع البشر، وأساسي له تعبير وجهي مميز. تثير العديد من الأشياء شعورنا بالتقزز مثل البراز أو البول أو الدم أو القيء أو اللحم المتعفن. يمكن أن يمتد شعور التقزز للبشر أيضًا. إذا شعرت بالتقزز تجاه شخص ستقل أهميته وإنسانيته في نظرك، وتزداد احتمالية عدوانك عليه دون شعور كبير بالمسئولية.

تشير مقولة الفيلسوفة مارثا نوسباوم:

“دائمًا ما ارتبطت صفات التقزز باليهود والنساء والمثليين جنسيًا والمنبوذين والفقراء على مدار التاريخ، فكان يُنظر إليهم كأنهم أصحاب أجسام مدنسة”

كل شخص ينتمي لهذه الفئات تعرض لنوع من الاعتداء أو الأذى، وساهم شعور التقزز الذي حمله الناس تجاه هذه الفئات في تقليل إنسانيتهم في نظرهم، وبالتالي تسهيل الاعتداء عليهم دون احساس كبير بالمسئولية.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

أود أن أنهي الحديث بأشهر الانتقادات التي وجهت لتجربة ميلجرام. يجدر بالذكر أن هذا النوع من التجارب لا يسمح بتكراره حاليًا ولا يعد أخلاقيًا. فلم يكن من حق القائم بالتجربة تحت أي ظرف من الظروف أن يضع المشاركين تحت هذا الضغط، ليخرج أحدهم من الغرفة وهو يعلم أن بإمكانه إيذاء شخص ما وربما قتله إذا توافرت الظروف لذلك. لكن على الرغم من ذلك تظل أعمال ميلجرام عن الطاعة والسلطة مثيرة للاهتمام وتكشف لنا جوانب مثيرة وغامضة عن النفس البشرية لم نكن نعلم بوجودها!

اقرأ أيضًا: الاستثمار الأبوي كيف نفسر الاختلافات بين الرجال والنساء؟

المصادر

  1. BBC
  2. Simplypsychology
  3. Britannica
  4. Verywellmind

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

هذه المقالة هي الجزء 15 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟ يعد الجنس أحد أكثر الأنشطة التي يستمتع بها البشر، ولذلك يحتل مساحة كبيرة في حياتنا. وعده علماء النفس التطوريون واحدًا من أربعة دوافع أساسية محركة للانسان. وهناك بعض الدراسات المثيرة للاهتمام التي تستطلع حجم الجنس في حياتنا. تشير هذه الدراسات أن ممارسة الجنس هو النشاط الأكثر امتاعًا للشخص الأمريكي العادي. فيضعه في مرتبة أعلى من ممارسة الرياضة والصيد والتقبيل والعناق والحديث مع العائلة ومشاهدة التلفاز والأكل والرحلات والتسوق. وتشير أيضًا أن متوسط الوقت الذي يقضيه الشخص العادي في ممارسة الجنس لا يتعدى الأربع دقائق وثلاث ثوان (مع استبعاد الوقت الذي يمر في المداعبة أو القراءة عن الجنس أو التفكير في الجنس أو تصفح المواقع الإباحية). وهو نفس الوقت الذي يقضيه الشخص الأمريكي العادي في ملأ استمارات الضرائب!

الجنس كدافع للحياة

تجعلنا نتائج الدراسات التي أسلفنا ذكرها نتسائل: من أين تأتي أهمية الجنس إذا كان يحتل نفس المساحة التي يحتلها نشاط ممل مثل ملأ استمارات الضرائب؟ والإجابة هي لا، رغم الوقت الضئيل الذي يحتله الجنس في حياتنا إلا أن له أهمية كبرى، وينشأ عنه كل شيء في الحياة تقريبًا. مثل: الزواج والأطفال والفن وحتى العنف والتنافسية.

يمكننا تعريف الجنس من وجهة نظر تطورية أنه بوابة لعبور الجينات إلى الأجيال اللاحقة وبالتالي تحقيق هدف التكاثر. لكن بالنظر في واقعنا الحالي، نجد صورًا متعددة من الجنس غير التكاثري. مثل: الجنس مع استخدام موانع الحمل والجنس المثلي والجنس الشرجي. وهي صور لا تخدم هدف التكاثر وبالتالي يمكن اعتبارها غير طبيعية، فهل يعني هذا أنها خاطئة؟

الأخلاقية والحتمية

هذا ما أود أن نبدأ به مقال اليوم قبل التطرق إلى موضوعه الأساسي، توضيح اثنين من المفاهيم الهامة التي تناقش أخلاقية بعض أوجه الحياة الجنسية عند البشر. وسأبدأ بمقولة لعالم النفس ستيف بينكر:

“لا تملي الطبيعة علينا ما ينبغي تقبله أو كيفية عيش حياتنا، فأنا لم أنجب أطفالًا في سنوات شبابي واستهلكت مواردي البيولوجية في القراءة والكتابة والبحث ومساعدة الطلبة والأصدقاء، متجاهلًا أولوية نشر جيناتي. وبالتالي فأنا خطأ شنيع بالمعايير الداروينية، لكن حياتي تعجبني بهذه الطريقة، وإذا لم ترض جيناتي عن هذا فيمكنها أن تذهب وتلقي نفسها في البحيرة”

نستنتج من مقولة بينكر أن الطبيعي ليس بالضرورة صحيحًا أو مناسبًا أو حتى أخلاقيًا. فمع أن أجسامنا وأدمغتنا تطورت لتخدم هدف التطور فذلك لا يعني أنه ليس بإمكاننا استخدام هذه الأدمغة لتحديد أقدارنا.

أما عن الحتمية فيقول عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز:

“لو أن طفلًا تلقى تعليمًا فقيرًا للرياضيات، فمن السهل تقبل فكرة أن بذل مجهود أكبر العام اللاحق سيحسن من مستواه. لكن لو اقترحنا أن أداء الطفل السيء جيني الأصل سوف ييأس الجميع من تحسن مستواه، إنه أمر حتمي ويستحيل تغييره لو كان جيني الأصل. وهذا هراء كبير! لا تختلف المسببات الجينية والمسببات البيئية عن بعضها، ولكن يسهل عكس تأثير أحدها بينما يصعب الآخر. ماذا فعلت الجينات لتستحق هذه السمعة الشريرة؟ ولماذا يُعتقد أن تأثيرها ثابت ولا مفر منه مقارنة بتأثير الكتب أو التلفاز؟”

ونستنتج من مقولة دوكينز انفصال مسببات الأمور عما يعكس تأثيرها. فهناك حالات ذات منشأ جيني ويسهل عكس تأثيرها، بينما أخرى ذات منشأ ثقافي ويصعب عكس تأثيرها. مثل: ضعف البصر، وهو أمر جيني المنشأ لكن يمكن عكس تأثيره ببساطة. أما نظرة المجتمع للسمنة أمر ثقافي يختلف من مكان لآخر، لكن يمكننا الاتفاق على صعوبة عكس تأثيره.

كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

تحدثنا عن عملية الجنس وهدفها التطوري وهو التكاثر، لكن هل يمكن تحقيق هذا الهدف بدون طرفي المعادلة، الرجال والنساء؟ لا أعتقد ذلك. وسنتحدث اليوم عن الاختلافات بين ذكور وإناث البشر، انطلاقًا من دور كل منهما في العملية الجنسية وما يليها حتى يحدث التكاثر. فما هي هذه الاختلافات؟

بداية ليس الاختلاف اختلاف أعضاء تناسلية، فلا يمكننا القول القضيب أو المهبل. لأنه ببساطة هناك حيوانات لا تمتلك أيًا منهما. أما التمييز التصحيح فيقوم به علماء الأحياء بناءًا على حجم الخلايا الجنسية. يمتلك الذكور خلايا جنسية صغيرة تحوي الجينات فقط، وتمتلك الإناث خلايا جنسية كبيرة تحوي الجينات والغذاء وغلاف واقي وغيرها. لكننا نجد بالرغم من هذا الاختلاف في حجم الخلايا الجنسية ذكور البشر أكبر حجمًا من الإناث، فما تفسير ذلك؟

الاستثمار الأبوي

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

قام بهذا التفسير العالم «روبرت تريفرز-Robert trivers» الذي وضع نظرية الاستثمار الأبوي. ويمكن تعريفه أنه أي بذل أبوي (في الطاقة أو الوقت أو الموارد) يزيد فرصة نجاة الذُرية الحالية، وذلك على حساب قدرة الآباء في الاستثمار في ذرية أخرى.

مثال: تخيل معي اثنين من الحيوانات أحدهما يتكاثر بطرفة عين، والآخر يتكاثر كل عشر سنوات. الحيوان الأول مثال للاستثمار الفقير، لأن ذريته لا تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده. أما الحيوان الثاني فمثال للاستثمار الضخم لأن ذريته تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده.

أشار تريفرز إلى ارتفاع نسبة الاستثمار الأبوى في إناث أغلب الحيوانات مقارنة بالذكور. وذلك لامتلاكهن الخلايا الجنسية كبيرة الحجم، فيقمن بحضانة/حماية/حمل الذرية لفترة من الزمن. أما الذكور فيمتلكون خلايا جنسية أصغر، ولا يتخطى استثمارهم لحظات الاتصال الجنسي. لكن مازال السؤال مطروحًا، كيف يفسر هذه اختلاف حجم الذكور والإناث؟

ينتج عن الاستثمار الأبوي الضخم عند الإناث مقارنة بالذكور عددًا من الاختلافات النفسية والفسيولوجية:

  • يمكن لذكر واحد أن يخصب عددًا من الإناث، فينتج عن هذا وجود عدد من الذكور بدون إناث فتظهر التنافسية والعنف.
  • لا تقلق الإناث بشأن وجود شريك جنسي لأنها دائمًا ستجده. لكن يظهر نوعًا آخرًا من التنافس لاختيار الذكور المناسبين، الذين تتمتع جيناتهم بفرص نجاة أكبر.
  • تخلق الطبيعة الانتقائية للإناث نوعًا جديدًا من التنافس بين الذكور، ليس لإيجاد الإناث وحسب وإنما إغرائهم أيضًا.

والآن يمكننا باستخدام هذه الاستنتاجات الثلاث للتوصل إلى سر اختلاف حجم الذكور عن الإناث، وذلك لأن التنافسية تضع عليهم ضغطًا أكبر للتصارع مع الذكور الأخرى للفوز بالإناث. كذلك السعي إلى إغراء الإناث ومطابقة مواصفاتهم عن الشريك المثالي ومنها البنية الجسدية الأقوى. وسنتعرف على مزيد من التفاصيل عن هذا الأمر عند مناقشة معايير الانجذاب الجسدي.

ما الأدلة على نظرية الاستثمار الأبوي؟

تتلخص فكرة الاستثمار الأبوي في وجود اختلاف بين حجم الخلايا الجنسية عند الذكور والإناث، فينتج عن هذا تباين الدور الذي يقوم به كل منهما في العملية الجنسية والتكاثر ومن هنا تظهر الاختلافات النفسية والفسيولوجية بين الجنسين. وهناك عدد من الأدلة على ذلك:

  • يكون الاستثمار الأبوي معكوسًا في بعض الحالات مثل: السمكة الأنبوبية. فنجد الذكور تحتفظ بالبيوض بينما تهرب الإناث. وتبعًا للنظرية فلابد أن تكون الإناث أكبر حجمًا وأكثر عنفًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • يتساوى كل من ذكور وإناث البطاريق في الاستثمار الأبوي، فيسير كل منهما مسافة طويلة لحماية الأبناء. وحسب النظرية فلابد أن تتساوى أحجامهم أيضًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • تتمتع ذكور فيلة البحر بقدر عالٍ من التنافسية، فلا تتنافس على أنثى واحدة وإنما جميع الإناث. ونتيجة لذلك نجد الذكور أكبر حجمًا بأربع مرات من الإناث.
  • أما في البشر فنجد -كما أسلفنا- أن الذكور أكبر حجمًا بنسبة 15% من الإناث. وهذا يرجح تواجد صراع ذكوري/ذكوري على مدار تاريخنا التطوري، نتيجة لعدم تساوي الاستثمار الأبوي.
  • ذكور البشر أكثر عنفًا من النساء. بداية من الرحم فنجدهم يركلون أكثر، والطفولة فينخرطون في صراعات وشجارات ومزاح عنيف، حتى البلوغ فنجد عدد السجناء الذكور دائمًا أكبر من النساء. الأمر الذي يمكن تفسيره بالتنافسية الناتجة عن عدم تساوي الاستثمار الأبوي.

الجاذبية الجسدية

لا يقتصر تأثير التنافس الأبوي على اختلاف الذكور والإناث في الحجم والتنافسية فقط، إنما تختلف تفضيلاتهم الجنسية أيضًا.

  • نجد الإناث تنجذب للقوة والمكانة الاجتماعية والاستثمار في تربية الأطفال. الذكور القادرون على تأمين الموارد اللازمة للنجاة وتوفير الملجأ والحماية أكثر جاذبية من غيرهم. وهذا أمر مفهوم تطوريًا.
  • تميل النساء إلى اختيار الذكور الأكبر سنًا، لكن بشكل عام لا يهم العمر كثيًرا طالما كان الذكر قادرًا على التكاثر.
  • هناك بعض الخصائص الجسدية أكثر جاذبية للإناث مثل: البنية الجسدية القوية ودلالاتها مثل: عرض المنكبين والفك القوي وبروز عظمة الحاجب. كذلك تماثل نصفي الجسم الذي يدل على سلامة الجينات وقدرة الذكر على تحمل ضغوطات البيئة.

أما عن الذكور فعامل الانجذاب الأول لديهم هي الأنثى التي يستطيع تخصيبها وبالتالي نشر جيناته. وبناءًا على ذلك تظهر تفضيلاتهم الجنسية:

  • يهتم الذكور بالعمر أكثر من الإناث، فينجذبون للنساء الأصغر سنًا لقدرتهن على التكاثر.
  • ينجذب الذكور للإناث ذوات الخصر الرفيع والنهود الكبيرة، لأنها دلالات على الشباب والخصوبة.
  • ينجذب الذكور لسمات جمالية معينة مثل العيون الواسعة والشفاه الممتلئة والبشرة النضرة. لأنها تمثل أيضًا النضوج الجنسي والشباب.

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

في الختام أود العودة إلى نقطة الأخلاقية والحتمية، إن كل ما هو جيني وطبيعي ليس بالضرورة مناسبًا أو حتميًا لا يمكن تغييره. وهو ما نفسر به الاعتراض الذي لابد أن يكون خطر لك عند قراءة المقال، أنا لست هكذا -ذكرًا كنت أم أنثى- ولا أتصرف أو أنجذب لنفس الصفات التي يفترض يتمتع بها بنو جنسي. لذا لا تنسى أدمغتنا التي تطورت لتخدم هدف التطور، يسعها دومًا التفكير وتحديد أقدارها!

اقرأ أيضًا: لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

مصدر
yalecourses

لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

هذه المقالة هي الجزء 14 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟ هل تسائلت يومًا ما الذي يجمعنا كلنا كبشر؟ جميعنا نختبر نفس المشاعر ونستخدم نفس أدوات التواصل وندرك العالم من حولنا بنفس الطريقة. لكن هل تسائلت يومًا ما الذي يميز بيننا كبشر؟ ما الذي يجعلني في هذه اللحظة تحديدًا سعيدة بينما أنت حزين وآخر لا يشعر شيئًا؟ كيف نفسر هذه الفروقات الفردية؟ والأهم من ذلك كيف نفسر الفروقات الجماعية؟ ما الذي يجعل طائفة من البشر أكثر انفتاحًا أو ذكاءًا أو تطرفًا من غيرها؟ هذا ما سنناقشه في مقال اليوم.

عاملي الاختلاف بين البشر

يمكننا حصر جميع الاختلافات بين البشر في كل أنحاء العالم في عاملين، وهما: الشخصية والذكاء. شخصيتك ومعدل ذكائك هما ما يحددا موقفك من العالم وموقف العالم منك. بمعنى أن الطريقة التي يراك بها الآخرون وكذلك الطريقة التي ترى بها الآخرين تندرج تحت بند الشخصية، وهي سماتك المحددة والثابتة -إلى حد ما- التي تحملها معك طوال الوقت.

أما معدل الذكاء فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بأدائك التعليمي والمهني وحتى الاجتماعي والاقتصادي. وهو أمر نختلف فيه جميعًا كأفراد وجماعات.

والآن بما أننا بتنا نعرف ما الذي نختلف فيه، كيف يمكننا تفسير هذه الاختلافات؟

طبيعي أم مكتسب؟

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

تقتضي العادة عند إجابة أي سؤال يبحث في أصل الظواهر الانسانية تحديد أي جوانب هذه الظاهرة طبيعي/وراثي/جيني وأيها مكتسب/بيئي/تربوي؟

لم يحد العلماء عن هذا المنهج عند تفسيرهم الاختلافات الشخصية واختلافات معدل الذكاء بين البشر، وحصروا أسباب الاختلاف في نقطتين:

  • الجينات/ الوراثة

يجب توضيح نقطة هامة عند الحديث عن الجينات، وهي الفارق بين دور الجينات في تفسير الاختلافات بين البشر وتفسير صفاتهم، بمعنى أننا سنتحدث عن الاختلافات الناتجة من اختلاف الجينات، وليس دور كل جين في تكوين صفة محددة. ويشبه ذلك طرح السؤال: ما هو دور الجينات في اختلاف أطوال البشر؟ وهنا يمكننا قول أن الاختلافات الجينية تجعل طولي مختلفًا عنك وعن قاريء آخر. لكن عندما نقول: ما هو دور الجينات في تحديد طولك؟ هنا نتحدث عن دور الجينات في تكوين صفة محددة.

  • البيئة/ التجربة

ينبغى الفصل بين نوعين من البيئة عند الحديث عن الاختلافات بين البشر، وهما: البيئة المشتركة والبيئة غير المشتركة.

تعني البيئة المشتركة الاختلافات الناتجة عن الظواهر والأحداث التي يتعرض لها/ يتشاركها أفراد العائلة الواحدة.

مثال: تعيش أنت واخوتك في بيت واحد مع أب غير سوي، ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (تشاركك أنت واخوتك نفس ظروف المعيشة جزء من البيئة المشتركة)

أما البيئة غير المشتركة فتشمل كل ما هو ليس وراثيًا، وليس بيئة مشتركة.

مثال: لقد انزلقت ووقعت على رأسك حينما كنت صغيرًا ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (هذا ليس بالضرورة ما حدث لاخوتك وهذه هي البيئة غير المشتركة)

السؤال هنا الآن: حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

حل مبتكر!

حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

والإجابة واقعيًا: يصعب علينا كثيرًا الفصل بين ما هو جيني وغير جيني.

على سبيل المثال: أنا مختلفة عنك، والسبب أنني لا أتشارك معك نفس الجينات، كما أنني ولدت لوالدين مختلفين ونشأت في بيئة مختلفة. ولا نستطيع الفصل أيهما سبب اختلافي عنك.

شكل هذا السؤال عائقًا أمام العلماء، وتوجب عليهم التفكير في حلول مبتكرة للإجابة عنه، أحد هذه الحلول هو استغلال الحقائق الخاصة بالجينات ووضع بعض الفرضيات بناءًا عليها ثم اختبارها. هذه الحقائق هي:

  • التوائم أحادية الزيجوت تتشارك 100% من الجينات.
  • الأخوة العاديين وكذلك التوائم ثنائية الزيجوت تتشارك 50% من الجينات.
  • الأطفال المتبنون واخوتهم يتشاركون 0% من الجينات.

وتتشارك الحالات الثلاثة 100% من البيئة المشتركة، بمعنى أنهم ينشأون في بيت واحد. وجاءت الفرضيات كالتالي:

  • عند ظهور تشابه أكبر في الشخصية ومعدل الذكاء بين التوائم أحادية الزيجوت أكثر من الثنائية، يدلنا على دور أكبر للجينات.
  • عندما يتساوى معدل التشابه بين التوائم أحادية وثنائية الزيجوت، يدلنا أن دور الجينات ليس مهمًا كثيرًا ( لأن 50% الإضافية من التشابه الجيني لم تحدث فرقًا)
  • عند ظهور تشابه بين الأطفال المتبنين واخوانهم، يدل ذلك على أهمية البيئة المشتركة.

لكن المعيار الذهبي الذي وضعه العلماء لاختبار دور الجينات والبيئة في تحديد الاختلافات في الشخصية والذكاء هو: التوائم المتماثلة مختلفة النشأة. يتشارك هؤلاء الأشخاص 100% من جيناتهم و0% من البيئة المشتركة.

دور الجينات والبيئة في تفسير الاختلاف

توصل العلماء باستخدام هذه الفرضيات واختبارها إلى اكتشافين مذهلين في علم الجينات السلوكي.

أولًا: تتمتع أغلب الصفات الشخصية بدرجة عالية من التوريثية.

تأثير الجينات قوي على كل الصفات، ابتداءًا بمعدل الذكاء والشخصية وانتهاءًا بمدى سعادتك أو تدينك أو حتى ميولك السياسية. أقر العلماء هذا الأمر بناءًا على عدد من الاكتشافات المثيرة للاهتمام، أولها ما ذكرناه عن التوائم المتماثلة مختلفة النشأة.

وجد العلماء أن التوائم المتماثلة الذين لم ينشأوا معًا في نفس البيت متشابهين في كثير من الصفات، فوجدوا لديهم نفس الآراء تجاه عقوبة الإعدام والدين والموسيقى الحديثة. كما وجدوا تشابهًا سلوكيًا مثل: معدلات انخراط هؤلاء الأشخاص في الجريمة، أو لعب القمار، أو حتى الطلاق.

وهنا يمكننا القول أن للجينات دور كبير في الاختلافات الفردية بين البشر، لكن ماذا الاختلافات بين المجموعات البشرية، ما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

دعونا نبدأ الإجابة بالإشارة إلى دراسات تثبت وجود اختلافات في معدل الذكاء بين المجموعات العرقية المختلفة. كذلك دراسات تثبت وجود فروق جينية بين هذه المجموعات، فنجد أحدها أكثر عرضة للإصابة بمرض ما مثلًا أكثر من غيرها. والسؤال هنا هل يمكننا بناءًا على هذه الدراسات استنتاج أن الفروق بين الجماعات ذات أصل جيني؟

الإجابة لا. أثبت العلم أن الاختلافات الجينية (بين الأفراد) لا تلعب دورًا في تشكيل الاختلافات بين الجماعات. ولفهم ذلك بشكل أوضح تأمل هذا المثال: ستزرع قطعتين من الأرض بنفس بذور القمح، أحد الحقلين ستعتني به وتخصبه بسماد جيد، والآخر ستهمله. ستجد أن جودة نمو البذور في كلا الحقلين يرتبط بجيناتها (هذه بذرة ذات صفات جيدة فستنمو سواء اهتممت بها أم لا وتلك سيئة لن تنمو بنفس الجودة) لكن الاختلاف بين الحقلين بشكل عام ليس جيني على الإطلاق، وإنما بيئي يرتبط بمدى اهتمامك بكل منهما.

وهذا هو ما اكتشفه العلماء، فوجدوا أن الاختلافات بين المجموعات البشرية تعزى إلى البيئة وليس الجينات، لأن انتمائك لأحد هذه الجماعات قرار اجتماعي لا سلوك جيني. وهاك بعض الأدلة على ذلك:

أدلة على الأصل البيئي للاختلافات بين المجموعات البشرية

  • ترتبط الاختلافات في معدلات الذكاء بشكل أكبر بالمجموعات المصنفة اجتماعيًا (تتشابه في السلوك والآراء وطريقة العيش) وليس المجموعات المصنفة جينيًا (تتشابه في الحمض النووي).
  • يؤكد العلم امكانية تغير معدلات الذكاء بشكل جذري دون أي تغير جيني. (تأثير فلين)

ثانيًا: تلعب البيئة غير المشتركة دورًا أهم مما نعتقد، فيمكننا عزو كل اختلاف غير جيني إليها!

وجد العلماء أن الارتباط بين معدلات الذكاء لأشخاص بالغين غير مرتبطين جينيًا نشأوا في بيئة مشتركة هو صفر. بمعنى أن التشابه بين الطفل المتبني واخوته (المختلفين جينيًا ويتشاركون نفس البيئة) لا يختلف عن التشابه بينه وبين أي طفل من خارج الأسرة.

تطبيقات هذا الاكتشاف تحديدًا مثيرة للجدل لأنها تقدم رؤية جديدة لعلاقة الآباء والأبناء، فمن المتفق عليه أن أي فعل يقوم به الآباء يؤثر على أبنائهم لهذا يبذل الآباء مجهودًا مضاعفًا ليكونوا قدوة حسنة. لكن ربما ليست هذه الحقيقة كاملة.

يتشابه الآباء والأبناء إلى حد كبير، لا ينكر أحد هذه الحقيقة، وربما تتشارك أغلب صفاتك التي تتمتع بها الآن مع والديك. لكن سبب ذلك ليس بالضرورة تأثير آبائك عليك، بل يقدم لنا العلم تفسيرات جديدة:

  • سبب تشابهك أنت ووالديك هو تشارككم نفس الجينات، فأنت تحمل 50% من جيناتهم وبالتالي ترث منهم بعض الصفات
  • ربما الأمر معكوس، الأبناء هم أصحاب التأثير على آبائهم وليس العكس.

هذا التفسير صادم بالفعل ومثير للجدل، لأنه يهدم اعتقادات نفسية راسخة (أنا شخص سعيد لأن والداي أحسنوا تربيتي أو أنا شخص تعس لأن والداي أهملوني). والاستنتاج الذي يقدمه لنا هذا التفسير أنه لا فرق! لن يختلف الأمر كثيرًا إذا نشأت في بيئة صحية أو غير صحية، لأن تأثير البيئة المشتركة في خلق الاختلافات بين البشر ضئيل مقارنة بالبيئة غير المشتركة.

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

وبهذا نصل إلى نهاية الحديث، بعد أن طرحنا أغلب الإجابات والتفسيرات الممكنة لسؤال الاختلافات بين البشر -أفرادًا كانوا أو جماعات- واستعرضنا تفاصيل كل من الجينات والبيئة والدور الذي تلعباه في تكوين هذه الاختلافات. كذلك الجدل والصدام الناتج عن بعض اكتشافات علم الجينات السلوكي، التي لا يسعك -مهما كان موقفك منها- إلا الانبهار بها وبالعلم وتطوره!

اقرأ أيضًا: الشخصية والذكاء أصل اختلافنا نحن البشر!

المصادر

yalecourses

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

هذه المقالة هي الجزء 10 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

لقد استيقظت توًا من النوم، نهضت لتستعد للذهاب إلى عملك، بينما تتسائل هل أذهب مشيًا أم أقود السيارة؟
وفجأة تظهر لك الإجابة، تتذكر أن طريق العمل مسدود منذ يومين لذا تختار الذهاب مشيًا.
ما الذي حدث هنا؟
لقد اتخذت قرارًا وحللت مشكلة بناءًا على تحليل منطقي، وهذه العمليات الثلاثة (اتخاذ القرار وحل المشكلات والتحليل المنطقي) مرتبطة بمهارة «الفكر-Thought» في نظامنا المعرفي. لكن السؤال هنا، هل تقوم بهذه العمليات الثلاثة في كل مرة تتخذ قرارًا في حياتك؟ التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

التحيز المعرفي والاستدلال

الإجابة، قطعًا لا. وهنا يأتي دور الاستدلال.
اعتقد العلماء قديمًا أن البشر مفكرون منطقيون، يستخدمون المنطق والعقلانية لاتخاذ قراراتهم. لكن أثبتت الدراسات أن لدينا نوع من الآليات المجهزة مسبقًا، مخطط للأنواع والمفاهيم التي يمكن أن نصادفها في حياتنا، فنعود إليها وقت الحاجة. فيما يُعرف بـ «الاستدلال-Heuristic»
وصف العلماء الاستدلالات أنها نوع من الاختصارات التي تساعدنا في اتخاذ القرارات بشكل أسرع، لكنها غالبًا ليست دقيقة تمامًا، بل يُمكن القول أنها مضللة في بعض الأحيان. وهناك أربعة أنواع من الاستدلالات التي يُمكن أن تعيق التفكير المنطقي فيما يُعرف بـ «التحيز المعرفي-Cognitive Bias»

التحيز المعرفي وتأثير التشكيل

أولًا. «تأثير التشكيل-Framing Effect»
هو نوع من التحيز المعرفي الذي يؤثر على قرارتنا عند تغير شكله، أو بمعنى آخر اختلاف القرارات باختلاف شكل نفس السؤال أو المشكلة.
مثال: ترى إعلانًا لمطعم بيتزا يخبرك أنها 90٪ خالية من الدهون، وآخرًا يخبرك أنها تحتوي على 10٪ من الدهون. أيهما ستختار؟
ستختار على الأغلب المطعم الأول. رغم أن كلا المطعمين يقدمان نفس نسبة الدهون، لكن طريقة عرض المعلومة أثرت على اختيارك، وهذا هو تأثير التشكيل.

ولا يقتصر تأثير التشكيل على البشر فقط، أجريت أحد الدراسات على قردة الكابوتشين لتختبر تأثير التشكيل عليهم. فكان هناك شخصان يقدمان الطعام للقردة، أحدهم يعرض عليهم موزتين أولًا، ثم يعطيهم الموزتين نصف عدد المرات، ويعطيهم موزة واحدة النصف الآخر. الشخص الثاني يعرض عليهم موزة واحدة في المقام الأول، ثم يفعل مثل زميله، يمنحهم موزتين نصف عدد المرات وموزة واحدة النصف الآخر. وجدت الدراسة أن القردة يفضلون الشخص الثاني على الشخص الأول، رغم حصولهم على نفس كمية الطعام في الحالتين. وذلك بسبب تأثير التشكيل.

التحيز المعرفي ومعدلات الإسناد

ثانيًا. «مغالطة معدلات الإسناد-Base rate Fallacy»
تخيل معي مجموعتين من سبعين مهندسًا وثلاثين محاميًا، من بينهم جون. جون رجل في منتصف الأربعينات، متزوج ولديه طفل، انطوائي، لا يهتم بالسياسة، هواياته الإبحار وحل الألغاز. فإلى أي المجموعتين ينتمي جون؟
ربما تقول مهندسًا، وهكذا يجيب أغلب الناس أيضًا. لكن هل وضعت في اعتبارك حجم المجموعتين عند اتخاذ قرارك؟
هذا هو تأثير معدلات الإسناد. عند جمع معلومتين إحداهما فردية تخص شخصًا ما، والأخرى إحصائية. يميل الناس إلى تجاهل الأعداد (معدلات الإسناد) والتركيز على المعلومة الشخصية.

التحيز للوفرة

ثالثًا. «التحيز للوفرة-Availability Bias»
أيهما تعتقد أكثر خطورة: سمكة القرش أم سلطة البطاطس؟
ربما يبدو هذا السؤال سخيفًا، بالطبع سمكة القرش أكثر خطورة. لكن دعنا نراجع بعض الأرقام أولًا: معدل الإصابة من أسماك القرش هو 1 من كل 6 مليون شخص، ومعدل القتل من أسماك للقرش هو 1 من كل 500 مليون شخص. معدل الإصابة بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 800 ألف شخص، أما معدل الموت بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 55 ألف شخص. إذن سلطة البطاطس أخطر ألف مرة من أسماك القرش!
والسبب في اعتقادنا أن أسماك القرش أكثر خطورة هو التحيز للوفرة. بمعنى أننا نميل إلى المبالغة في تقدير الحدث إذا كان مآساويًا أو رائعًا أو مثيرًا للانتباه فيسهل تذكره. وبالتأكيد موت شخص جراء هجوم سمكة قرش أكثر إثارة من الاختناق بسلطة بطاطس!
مثال آخر: أيهما تعتقد له النسبة الأكبر في اللغة الإنجليزية: الكلمات التي تنتهي بـ ng أم الكلمات التي تنتهي بـ ing؟
يميل أغلب الناس إلى الإجابة الثانية، لأن هذه المجموعة من الكلمات أسهل وأسرع تذكرًا. بينما الحقيقة أن الكلمات التي تنتهي بـ ng تحتوي الكلمات التي تنتهي بـ ing أيضًا وبالتالي لها النسبة الأكبر.

التحيز للتوكيد

رابعًا. «التحيز للتوكيد-Confirmation Bias»
تخيل معي أنك قاضٍ تحكم بين زوجين لتقرر أيهما يستحق حضانة طفلهما. أولهما صاحب دخل متوسط، ومهارات اجتماعية فقيرة، وبصحة جيدة، وعلاقة متوسطة مع الطفل، ولا يتنقل كثيرًا. والثاني له دخل مرتفع، وحياة اجتماعية ممتازة، ويعاني من مشاكل صحية طفيفة، وعلى علاقة مقربة بالطفل، ويسافر كثيرًا لقضاء أعماله. أيهما ستمنحه حضانة الطفل؟
من المرجح أنك ستختار الشخص الثاني، وهذا ما ذهب إليه أغلب الناس أيضًا.
أما عند عرض نفس المواصفات على مجموعة مختلفة من البشر وسؤالهم: أي الزوجين ستحرمه حضانة الطفل؟
تقع النسبة الأكبر على الشخص الثاني أيضًا، فما تفسير ذلك؟
يُمكن تفسير هذه النتائج وفقًا لمفهوم التحيز للتوكيد وهو تفضيل المعلومات التي تتماشي مع معتقداتنا أو تحيزاتنا السابقة وتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. فتجد في السؤال الأول كلمة: منح الحضانة، ويتجه تفكيرك تلقائيًا إلى الصفات الإيجابية التي تستدعي المنح، ونجد أن الشخص الثاني يتمتع بها. أما في السؤال الثاني: حرمان الحضانة، وهنا يتجه تفكيرك إلى الصفات التي تستدعي الحرمان، ونجد هذه واضحة أيضًا في الشخص الثاني.
ونلاحظ أن هذا المثال ينطبق كذلك على تأثير التشكيل، فعندما اختلف شكل السؤال اختلفت الإجابة.

التحيز للتوكيد والأرض المسطحة

وأمثلة التحيز للتوكيد في واقعنا كثيرة، منها: المؤمنون بالأرض المسطحة، أو إنكار هبوط الإنسان على القمر. فنجد هؤلاء الأشخاص يفضلون المعلومات التي تتماشي مع معتقداتهم السابقة، ويرفضون أي معلومات مغايرة. ويمكن أن يؤدي هذا النوع من التحيز إلى حالة من «ترسخ الاعتقاد-Belief perseverance» ورؤية العالم بذهن ثابت يرفض التغيير!

اقرأ أيضًا: كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

المصادر

١. Boycewire
٢. Verywellmind
٣. Verywellmind
٤. Decisionlab

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

الحب، إنه الشعور الأروع على الإطلاق. التجربة التي نتوق لها جميعًا ونحاول فك شفرتها. ونتمنى لو نجد إجابات سهلة عنها. لكن ما هو الحب؟ وهل حقًا استطاع العلماء فك شفرته؟

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟

علم النفس الاجتماعي هو الفرع الذي يهتم بدراسة مشاعر الحب والانجذاب، وقام علمائه بتجارب جمة للتوصل إلى تعريف للحب وتحديد عوامل نجاحه. تطرق عدد من العلماء إلى تعريف الحب، لكن الأشهر بينهم وضعه العالم روبرت ستيرنبرج في ثمانينات القرن الماضي وعُرف نظرية مثلث الحب.

وتُفسِر هذه النظرية الحب أنه شعور يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الحميمية، والشهوة، والالتزام. الحميمية هي شعور القرب والتواصل، أو بمعنى آخر مشاركة الأمور الشخصية التي لا تتشاركها مع أي شخص آخر. والشهوة هي الرغبة أو الانجذاب الجسدي. والالتزام هو وضع عنوان للعلاقة أنها علاقة حب ومن ثم اتخاذ قرار الالتزام -على المدى الطويل- بها. وهكذا رأى ستيرنبرج أن وجود هذه العناصر ثلاث يعني تكامل الحب وتمامه. لكن ماذا يحدث عند وجود عنصر واحد من العناصر الثلاث؟ أو اثنان؟ أو لا عناصر على الإطلاق؟

أنواع الحب

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا من نظرية ستيرنبرج، فيمكن القيام بعمليات تبادلية بين العناصر الثلاث للتوصل إلى الأنواع المختلفة من الحب في أغلب العلاقات البشرية. وسنتطرق أولًا إلى العلاقات ذات العنصر الواحد:

  • الصداقة: عند وجود الحميمية أو شعور القرب والتواصل فقط، وغياب الرغبة والالتزام، نحصل على علاقات الصداقة، أو الإعجاب، التي يمكن أن تتطور إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الافتتان: عند وجود الرغبة فقط، وغياب الحميمية والالتزام نحصل على الافتتان. وهي علاقات تقوم على الانجذاب الجسدي فقط دون معرفة عميقة أو قرار بالالتزام. ويكون تأثيرها عادةً قوي للغاية، ومن المحتمل أن ينمو إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الحب الخاوي: عند وجود الالتزام فقط، وغياب الحميمية والرغبة نحصل على علاقات الحب الخاوي. ويظهر هذا كمرحلة أخيرة في العلاقات التي تسوء بمرور الوقت فيقرر طرفاها الالتزام من أجل الأطفال أو المظهر العام أو أسباب مادية. أو كمرحلة أولى في علاقات الزواج التقليدي التي تتم بدون معرفة مسبقة.

وثانيًا، العلاقات ذات العنصرين:

  • الحب الرومانسي: عند وجود الحميمية والرغبة وغياب قرار الالتزام نحصل على الحب الرومانسي. وهي علاقات تقوم على القرب والتواصل الجسدي دون أي قرار بالالتزام على المدى الطويل.
  • العشرة/الصداقة المقربة: عند وجود الحميمية والالتزام وغياب الرغبة نحصل على علاقات مثل الصداقة المقربة أو الزواج بدون جنس. أي علاقات تقوم على القرب وقرار الالتزام دون أي اتصال جسدي.
  • الحب الوهمي: عند وجود الشهوة والالتزام وغياب الحميمية نحصل على علاقات الحب الوهمي أو الحب الأبله. ونجد هذا في علاقات الزواج المتسرع قصير المدى.
  • أما عند غياب العناصر الثلاث نحصل على علاقات اللاحب، وهي العلاقات التي تربطك بالغريب الذي يمر بجانبك في الشارع. فلا توجد حميمية ولا شهوة ولا قرار بالالتزام.
  • وأخيرًا، الحب المتكامل وهو الحب الذي يتضمن العناصر الثلاث بدرجات متفاوتة خلال مراحل مختلفة من العلاقة. وهو الشكل الأمثل للحب في نظر ستيرنبرج.

كيف يحدث الحب؟

بحث علماء النفس الاجتماعي في الحب، وحاولوا فك شفرته، لكن جميع التجارب والنتائج التي وصلت إلينا تخص الانجذاب وليس الحب. باعتباره الخطوة الأولى التي يمكن أن تتطور لاحقًا إلى علاقات حب. وبهذا توصل علماء النفس إلى سبع عوامل/متغيرات لحدوث الانجذاب، منها ثلاثة عوامل رئيسية واضحة التأثير، وأربعة عوامل أخرى قوية أيضًا لكنها أقل وضوحًا وربما يغفل عنها الكثير.

أولًا، العوامل الثلاث الرئيسية:

  • «التقارب-Proximity»

هل حلمت يومًا بالغريب المثالي الذي ستلتقيه صدفة في ليلة ماطرة، تتبادلان حديثًا رائعًا ثم تقعان في الحب؟ باختلاف بعض التفاصيل -من المحتمل أنه صباح صيفي لا ليلة ماطرة- يمكننا القول أن أغلبنا اختبر هذا الأمر، الذي يمكن أن نصفه بالخرافة الثقافية. فيرى علماء النفس أنه من المرجح أنك ستنجذب لشخص مجاور لك، شخص يقع في حيز مكاني قريب عوضًا عن الغريب الرائع، وهذا هو مبدأ التقارب.

  • «التشابه-Similarity»

هل سمعت عن القاعدة الفيزيائية أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب؟ ربما سمعت بها قبلًا ورأيت من حاولوا تطبيقها على علاقاتهم. لكن علماء النفس الاجتماعي أثبتوا فشلها، ووجدوا أنه كلما زاد التشابه بين شخصين كلما زادت احتمالية انجذابهما لبعضهما. وذلك لعدد من الأسباب أهمها: أنه شعور رائع! تواجدك مع شخص يشبهك في نفس المكان يسهل التواصل بينكما، ويعطي نوع من التوكيد لكل منكما عندما تتبنيان نفس الرأي. فتزيد الثقة فيما تقولان وتتحمسان لقول المزيد.

  • «الألفة-Familiarity»

عرض العلماء مجموعة من الكلمات بلغة غريبة على عدد من الأشخاص لثوان معدودة، ثم عرضوا مجموعة أكبر من الكلمات الغريبة من بينها الكلمات التي رآها المشاركون سابقًا، ثم سألوهم: مع العلم أنكم لا تعرفون معنى أى من هذه الكلمات لكن أيها تفضلون؟ وجاءت إجابات المشاركين أنهم يفضلون الكلمات القديمة التي رأوها في المرة الأولى، حتى وإن لم يتذكروا رؤيتها من قبل!

وهذا هو تأثير الألفة، الذي يمكن تطبيقه على البشر بكل تأكيد. فيجد علماء النفس أننا نميل وننجذب للأشخاص اللذين نألفهم ونشاركهم نفس البيئة.

العوامل الأقل وضوحًا

الأربعة عناصر الأقل وضوحًا وهم:

  • «تأثير السقوط-Pratfall Effect»

من المعروف أننا ننجذب للأشخاص المهرة الأكفاء، الذين يدرون دورهم في الحياة. وهذا أمر طبيعي تمامًا لكنه غير مشوق، فمتى تحدث الإثارة؟

تحدث الإثارة حينما يرتكب الشخص الماهر خطأ أحمق، فيتضاعف إعجابنا به! وهذا ما يُعرف بتأثير السقوط. يشعرنا وقوع الشخص الماهر في الخطأ بشعورًا جيدًا حيال أنفسنا، نراه فجأة أكثر إنسانية وتواضعًا وقربًا، ونشعر أنه يشبهنا في نهاية المطاف، فننجذب له أكثر.

أشهر التجارب التي تفسر تأثير السقوط قام بها العالم إليوت أرنسون وجاءت النتائج مذهلة. أُجريت التجربة على طلاب جامعيين، طُلب منهم الاستماع إلى تسجيل صوتي للمتقدمين إلى تمثيل الجامعة في مسابقة تليفزيونية. التسجيل الأول لطالب مثالي، يحصل على علامات ممتازة ويشترك في كثير من الأنشطة. والتسجيل الآخر لطالب متوسط، علاماته جيدة، وأقل انخراطًا في أنشطة الجامعة. ثم سُأل المشاركون عن الطالب الذي يفضلونه؟

فذهب أغلبهم بالطبع إلى اختيار الطالب المثالي. لكن الأمر لم يتوقف هنا، استمر التسجيل الصوتي وسمع الطلاب قرقعة وضوضاء وبعدها شخص يقول: “اللعنة، لقد سكبت القهوة على بذلتي الجديدة”، سُأل المشاركون مجددًا عن الطالب الذي يفضلونه، فارتفع تقديرهم للطالب المثالي الذي سكب القهوة كثيرًا. ولسوء الحظ، انخفض تقديرهم للطالب المتوسط الذي سكب القهوة أكثر. وبهذا وجد ارنسون أن تأثير السقوط يعمل في كلا الاتجاهين، فيرفع من جاذبية الشخص الماهر، ويقلل من جاذبية الشخص المتوسط.

الجاذبية الجسدية

المظهر هو أحد الأمور المزعجة التي يرفض أغلبنا الاعتراف بأهميتها، فنقول لأنفسنا أنه ليس عادلًا أن الانجذاب الجسدي له أهمية في الحياة، خصوصًا إذا وجدنا أنفسنا خارج تصنيف الجاذبية الجسدية. وإذا سألت مجموعة من طلبة الجامعة عن الصفات التي يبحثون عنها في علاقاتهم، سيقولون لك صفات مثل التفاهم والذكاء وحس الفكاهة والتعاون، أما المظهر فليس هامًا للغاية. أما الحقيقة أنه إذا قابلت شخصًا للمرة الأولى، ولم يعجبك مظهره فمن المرجح أنك لن تراه ثانيةً.

أحد الدراسات التي بحثت أهمية الجاذبية الجسدية تُدعى «تجربة الشعر المستعار المجعد-The frizzy wig experiment». استعان القائمون على هذه التجربة بممثلة يراها أغلب الناس جذابة، وغيروا مظهرها لتصبح أقل جاذبية باستخدام شعر مستعار مجعد. كانت الممثلة تقابل مجموعة من الشباب وتطرح عليهم عددًا من الأسئلة ثم تعطيهم تقييمًا. وعندما كانت الممثلة أقل جاذبية لم يهتم المشاركون بتقييمها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. أما عندما ظهرت الممثلة بهيئتها الجذابة، فرحوا بتقييمهم الإيجابي كثيرًا، واستاء هؤلاء الذين حظوا بتقييم سلبي، بل وطالبوا بإعادة المقابلة!

وهكذا توضح لنا هذه التجربة أننا نتأثر برأي الأشخاص الجذابين، ونعطيه أهمية كبيرة على عكس الأشخاص الأقل جاذبية. وهذا أمر غير عادل وغير منطقي لكنه عمليًا موجود. وتوضح أيضًا التناقض الكلاسيكي بين ما نعتقد أنه تافه وغير هام، وما يُثبت عمليًا أنه أكثر أهمية. لكن لحسن الحظ تثبت هذه الدراسات أيضًا أن الجاذبية الجسدية مهمة في تحديد نجاح المقابلات الأولى فقط، أما نجاح العلاقات على المدى الطويل فيحدده عوامل أقل سطحية من المظهر بالطبع.

«تأثير المكسب والخسارة-Gain loss effect»

هناك صفة تطورية اكتسبها البشر على مر الزمان، وهي حساسيتهم وانتباههم للتغيير. وهذا أمر طبيعي لأن الاستقرار يعني الأمان، أما التغيير فهو مؤشر للخطر أو فرصة جديدة، وقد يساعد التنبه لهذا التغيير على الاستمرار والبقاء. لكن كيف يحدث هذا في حالات الحب والانجذاب؟
هناك شخصان، أحدهما يحبك ويظهر مشاعره لك بصورة مستمرة، والآخر ينمو انجذابه لك مع الوقت. أيهما سيجذب انتباهك أكثر؟
الإجابة هي الشخص الثاني، الذي ينمو تقديره لك مع الوقت، حتى وإن كان متوسط مشاعره أقل من الشخص الأول. وهذا هو تأثير المكسب. التغير المفاجيء والنمو التدريجي للمشاعر يجذب الانتباه أكثر من المشاعر الثابتة.
ويمكن تطبيق ذلك أيضًا على المشاعر السلبية، فلا يقع عليك الأذى بسبب شخص يكرهك ويُظهر لك هذا دائمًا. وإنما يأتي الألم من تقدير الأشخاص المرتفع الذي يتلاشى بمرور الوقت. وهذا هو تأثير الخسارة، أو تحول المشاعر من إيجابية إلى سلبية بمرور الوقت.

«الإسناد الخاطيء لأسباب الإثارة-Misattribution of arousal»

يحدث هذا الأمر عندما تشعر بالإثارة الجنسية لكنك لا تعلم السبب، فتفسره تفسيرًا خاطئًا وتعتقد أنه حب أو انجذاب.
ولفهم هذا العامل ودوره في حدوث الانجذاب قام العلماء بعدد من التجارب، أشهرها «تجربة الجسر المتهالك-Rickety bridge experiment»، أُجريت هذه التجربة على جسر عالٍ ومتهالك يقع في مدينة فانكوفر بكندا، وعلى جسر آخر أكثر استقرارًا وثباتًا يؤدي إلى نفس الوجهة. استعان العلماء بممثلة جذابة، كانت تستوقف الذكور الذين يعبرون كلا الجسرين وتطلب منهم مساعدتها في استبيان ما ثم تعطيهم رقمها وتخبرهم أن يتواصلوا معها إذا أرادوا معرفة النتيجة.

وجد القائمون على التجربة أن هؤلاء الذين عبروا الجسر المتهالك اهتموا بالممثلة وتواصلوا معها بالفعل، على عكس هؤلاء الذين عبروا الجسر الآمن. وفسر العلماء ذلك أن عبور الجسر المرتفع المتهالك مرتبط بزيادة ضربات القلب وسرعة التنفس والتعرق. لذلك أسقط المشاركون هذه الإثارة على الممثلة الجذابة واعتقدوا أنهم منجذبون لها.

قام العلماء بتجربة أخرى طلبوا من المشاركين فيها وضع سماعات رأس تضخم صوت ضربات القلب بينما يتصفحون أحد المجلات الإباحية، ثم اختيار صورتهم المفضلة. جاءت النتائج أن أغلب المشاركين اختاروا الصورة التي زادت ضربات قلبهم عند رؤيتها. لكن الحيلة هنا، أنهم لم يستمعوا إلى نبص قلبهم الحقيقي وإنما إلى تسجيل صوتي لضربات القلب يقوم المسئول بتسريعه عشوائيا عند أي صورة. وبهذا يقع هؤلاء الأشخاص في فخ الإسناد الخاطيء للإثارة، فيعتقدون أن ضربات قلبهم المتسارعة دليل على الانجذاب والحب.

وهنا يجب القول أن هذا المفهوم تحديدًا له آثار أكثر خطورة في الواقع، منها: ضحايا العلاقات المسيئة والعنف المنزلي. ما يحدث أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أنهم في علاقات مسيئة، حيث يسبب لهم الصراخ والشجار والغصب إثارة من نوع ما، تُترجم خطئًا أنها حب. فيرددون عبارات مثل: لم يكن ليصرخ بي لو لم يكن يحبني. وبالطبع هذا خاطيء وغير حقيقي تمامًا.

خاتمة

تعرفنا على نظرية مثلث الحب لستيرنبرج، والعناصر الثلاثة الضرورية التي وضعها لتكامل الحب وتمامه، وهي الحميمية والشهوة والالتزام. بالإضافة إلى أنواع الحب المختلفة التي تنشأ عند وجود عنصر واحد فقط أو اثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما تعرفنا على سبع عوامل تؤثر في حدوث الانجذاب الذي يمكن أن يتطور إلى حب. منها ثلاث ذات تأثير واضح وهي التقارب والتشابه والألفة. وأربع أقل وضوحًا وهي تأثير السقوط والانجذاب الجسدي وتأثير المكسب والخسارة واالإسناد الخاطيء للإثارة. لذا ربما حين تجتمع بأصدقائك المرة القادمة، ناقشوا علاقاتكم في ضوء عناصر الحب الثلاث لستيرنبرج، وربما تصدمك النتائج!

اقرأ أيضًا: متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

المصادر

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

هذه المقالة هي الجزء 8 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

بينما يجلس كلايف ويرنج يعزف البيانو، تدخل عليه زوجته فيقوم ليحييها بحرارة. وبعد قليل عندما تخرج زوجته لتعد كوبًا من الشاي يعود كلايف إلى عزفه. حينما تدخل الزوجة الغرفة حاملة الشاي يحييها كلايف بنفس الحرارة مجددًا كأنه لم يراها منذ دقائق معدودة. فما تفسير هذا التصرف؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مفهوم الذاكرة واسع ومراوغ للغاية. فلا تشمل الذاكرة معرفتك لاسمك وأحداث حياتك فقط، بل تمتد لتشمل أدق أجزاء المعرفة، منها معرفتك للمشي والوقوف والجلوس والمضغ والبلع. لكن ما هي الذاكرة؟ كيف تعمل ومم تتكون؟ هل يسعنا اختيار ما نتذكره؟ وإذا كانت الإجابة نعم، كيف يحدث ذلك؟ وفي ضوء القصة التي ذكرناها، كيف يحدث النسيان؟ وما تفسير تصرف كلايف ويرنج؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

ما هي الذاكرة؟

يشير مصطلح الذاكرة إلى قدرتنا على الحصول على المعلومات، وتخزينها، وحفظها، ولاحقًا استرجاعها. وذلك عن طريق عمليات ثلاثة وهي: الترميز، والتخزين، والاسترجاع.

كل منها يمثل مرحلة مختلفة لتكوين الذكريات. فتمثل عملية الترميز التجربة التي تمر بها، او النشاط الذي تقوم به، والتخزين هو انتقال المعلومات الى الذاكرة، والاسترجاع هو القدرة على استخراج هذه المعلومات وقت الحاجة. لكننا نمر بمئات التجارب يوميًا ويحيط بنا كميات هائلة من المعلومات، فأيها نتذكره؟ وأيها لا؟ وعلى أي أساس يتم الاختيار؟ والإجابة هي الانتباه.

الانتباه

يشير مصطلح الانتباه إلى قدرتنا على معالجة المعلومات في البيئة المحيطة بنا. فهناك العديد من المؤثرات تحيط بنا دائمًا، مثلما تجلس أنت الآن وتقرأ هذا المقال، ويضغط الكرسي الذي تجلس عليه على جسدك، وتسمع أصوات الجيران، وتشعر بدفء ملابسك، وترى مكونات الغرفة التي تجلس بها. كل هذه مؤثرات تحيط بنا طوال الوقت، لكننا لا ننتبه لها ولا نتذكرها جميعًا. لو حدث ذلك، فسنصاب حتمًا بالجنون.

لذا يأتي السؤال، ما الذي يتحكم في دخول المعلومات الذاكرة؟ والإجابة هي الانتباه. يمكن اعتبار الانتباه بمثابة ضوء مسلط على التجربة التي تمر بها الآن، فيختار الحدث الأهم ويركز عليه ليدخل الذاكرة.

وللانتباه عدة خصائص:

١. محدود:

يمكننا الانتباه لعدد محدود من المحفزات ولفترة محدودة فقط. ويعتمد هذا الأمر على عدة متغيرات منها: وجود عوامل تشتت، ومدى الاهتمام بالمحفز المذكور. ولهذا السبب اعتبر العلماء عملية «تعدد المهام-Multitasking» خرافة لا أساس علمي لها. لأنها ستكلف الشخص وقتا أطول كما تقلل من جودة الانتباه إلى جميع المهام.

٢. اختياري:

يمكننا اختيار الأشياء التي نتنبه لها. لكن لا يحدث هذا دائمًا، فهناك بعض الأشياء التي نتنبه لها تلقائيًا، مثل: معاني الكلمات. فيما يُعرف بـ «تأثير ستروب-Stroop Effect». ولفهمه يمكنك إجراء هذا الاختبار الذي يطلب منك نطق لون الكلمة وليست الكلمة نفسها وتسجيل الوقت الذي يستغرقك لفعل هذا. من هنا

يفسر فارق الوقت بأن معرفتك للقراءة تصعب عليك مهمة نطق الألوان، فأنت تنتبه لمعاني الكلمات تلقائيًا رغم إرادتك لمزيد من الانتباه وجد العلماء أن الخاصية الاختيارية للانتباه مرتبطة بظاهرة شيقة أخرى تعرف باسم «عمى التغير-Change Blindness». ولفهم ذلك سأطلب منك مشاهدة هذا المقطع وعد التمريرات التي يقوم بها الفريق بالزي الأبيض.

الإجابة الصحيحة هي ١٥، لكن هل انتبهت للغوريلا؟ حوالي ٥٠٪ من الأشخاص الذين لم يروا هذا المقطع من قبل وقاموا بالعد لا يلاحظوا الغوريلا. أما الأشخاص الذين لم يقوموا بالعد لاحظوها.

تجربة أخرى أجراها العالم دان سايمونز يختار فيها أحد المشاة بشكل عشوائي ويسأله عن الطريق، وبينما يتحدثان يمر بينهما شخصان يحملان باب ويُستبدل السائل الأول بشخص آخر. وجاءت النتائج أن حوالي ٥٠٪ من الأشخاص لم يلاحظوا تغير السائل مطلقًا. فكيف يحدث هذا؟

يمكننا القول أن الانتباه نافذة ضيقة للغاية، فبينما تركز على شيء معين، تغفل عن الكثير من الأشياء من الأخرى. وهذا أمر طبيعي ومقبول، لأن الذاكرة تعمل وفقًا لحقيقة أن معظم الأشياء تظل على حالها طول الوقت، وليس من الضروري حفظ التفاصيل الدقيقة لكل مشهد، فمن غير المتوقع أن يتبدل الغريب الذي التقيته في الشارع إذا أشحت بوجهك عنه لثوان معدودة. والمغزى العام هنا هو أن إدراكنا للواقع ضئيل ومحدود أكثر مما تعتقد.

مم تتكون الذاكرة؟

عندما تشاهد فيلمًا يتحدث عن فقدان الذاكرة، تجد البطل يتجول في الشوارع شاردًا لا يتذكر اسمه أو أحداث حياته. وهذه هي الصورة التقليدية التي يتبناها البشر عن الذاكرة، ذاكرة السيرة الذاتية. لكن الحقيقة كما أسلفنا أن الذاكرة تشمل معرفتك لأصغر الأفعال مثل المشي والأكل والحديث، وهناك أنواع مختلفة لها: الذاكرة الحسية، والذاكرة قصيرة المدى أو الذاكرة العاملة، والذاكرة طويلة المدى.

كل عملية من عمليات تكوين الذاكرة التي أسلفنا ذكرها -الترميز والتخزين والاسترجاع- تختص بنوع من أنواع الذاكرة الثلاث.

أولًا: عملية «الترميز-Encoding»

بعد انتهاء دور الانتباه، واختياره المعلومات التي ستدخل المخ، يبدأ دور الترميز. والترميز هو عملية تحويل الإشارات/المعلومات القادمة من أعضاء الحس إلى صيغة يستطيع المخ التعامل معها وبالتالي تخزينها. وهناك تلاثة أنواع للترميز:

  • ترميز بصري: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة صور.
  • ترميز سمعي: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة أصوات.

وكلاهما يعرف بـ «المعالجة السطحية-Shallow Processing» وتختص بالذاكرة قصيرة المدى.

  • ترميز دلالي: وهُنا تخزن المعلومة على هيئة معاني. فيما يُعرف بـ «المعالجة العميقة-Deep Processing» وتختص بالذاكرة طويلة المدى.

    مثال: عندما تقرأ (ترى) كلمة في كتاب، يخزنها المخ بعد تحويلها إلى صوت أو معنى. الصورة الأولى للكلمة تخزن في الذاكرة الحسية لكنها سرعان ما تتلاشى. أما عند حفظ الكلمة وتكرارها عدة مرات فتخزن كصوت في الذاكرة قصيرة المدى، لكنها أيضًا تتلاشى بعد وقت قصير. وأخيرًا عند معرفة معنى هذه الكلمة فإنها تخزن في الذاكرة طويلة المدى لفترة طويلة جدًا. وهذا يأخذنا إلى المرحلة الثانية من عمل الذاكرة وهي التخزين.

ثانيًا: «التخزين-Storing»

هي عملية تخزين المعلومات لمدة قصيرة تصل إلى ثلاثين ثانية فقط في الذاكرة قصيرة المدى عن طريق التكرار (الاحتفاظ بالصوت أو الصورة). أو لمدة طويلة قد تصل إلى عمر كامل في الذاكرة طويلة المدى عن طريق الترميز الدلالي (الاحتفاظ بالمعنى). وتتأثر عملية التخزين بعوامل أخرى مثل: كمية المعلومات المخزنة ونوعها وكذلك مدة ومكان تخزينها.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مكان التخزين نوعان:
الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى وهناك العديد من الدراسات التي توضح الفرق بينهما:

الذاكرة طويلة المدى

لدى الذاكرة طويلة المدى مساحة تخزين هائلة. فتتضمن مثلًا جميع كلمات اللغة(٦٠-٨٠ كلمة) ،ووجوه وأسماء جميع الأشخاص اللذين تعرفهم، والأماكن التي تتردد عليها، والكتب التي تقرأها، والأغاني التي تسمعها وغيرها الكثير، وهذه كمية معلومات هائلة. حتى الآن لم يستطع العلماء حصر المساحة الكاملة للذاكرة طويلة المدى.

الذاكرة قصيرة المدى

أما عن الذاكرة قصيرة المدى فهي محدودة للغاية مقارنة بنظيرتها. فلا تحمل من يزيد عن تسع قطع أو Chunks. والقطعة هي المصطلح الذي أعطاه عالم النفس جورج ميلر لوحدات التخزين الرئيسية للذاكرة. مثال: l a m a i s o n كل حرف من هذه الحروف يمثل قطعة أو Chunk، وإذا لم تستطع تكوين كلمات منها فستراها كسبع قطع منفردة. أما إذا كنت تعرف الفرنسية فستراها كقطعتين فقط، كلمة la وكلمة maison بمعنى المنزل.

وبالطبع يصبح تذكرها في هذه الحالة أسهل. وهنا يمكننا القول أن مقدار المعرفة يؤثر على مقدار ما نتذكر. لأنه يؤثر على ما يمكن احتسابه كقطعة/وحدة تخزين في الذاكرة، وهذا يظهر في «تأثير الخبراء-Expertise effect».

يظهر تأثير الخبراء في أحد التجارب التي أُجريت على مجموعة من المبتدئين والخبراء في لعبة الشطرنج. عُرضت عليهم اللوحة لعدة ثوان، وقطعها مرتبة بترتيب معين لاستراتيجية معروفة لممارسي اللعبة، ثم طُلب منهم إعادة ترتيبها بأنفسهم. استطاع الخبراء فعل هذا الأمر بسهولة بينما تعثر المبتدئين ووقعوا في بعض الأخطاء. وعند إعادة التجربة بترتيب القطع ترتيبًا عشوائيًا لا يشبه أي استراتيجية مألوفة. تعثر كل من الخبراء والمبتدئين في إعادة الترتيب.

وتؤكد هذه التجربة أن زيادة المعرفة وإضفاء المعنى والمنطق على المعلومة يساهم في تذكرها وسهولة تخزينها. رجوعًا إلى الذاكرة طويلة المدى، كيف تنتقل المعلومات من تذكرها لعدة ثوانٍ فقط (الذاكرة قصيرة المدى) إلى الاحتفاظ بها لعمر كامل (الذاكرة طويلة المدى)؟

ذكرنا أن الممارسة أو تكرار المحفز داخل رأسك مرارًا وتكرارًا يُمكنك من الاحتفاظ به في الذاكرة قصيرة المدى. فيظل الأمر عالقًا داخل رأسك طالما تكرره، لكنه لا يترسخ في الذاكرة طويلة المدى. تحتاج المعلومات إلى التنظيم والمعنى لكي تترسخ فيها. بمعنى أنه كلما فكرت في الأمر بشكل أعمق، كلما أكسبته المعنى والمنطق فيما عرفناه بالمعالجة العميقة، صار تذكره أسهل.

ثالثًا: عملية «الاسترجاع-Retrieval»

وكما يوضح الاسم تختص هذه العملية باسترجاع المعلومات المخزنة.

وتنقسم عملية الاسترجاع إلى مرحلتين:

أولًا «الاستعادة-Recall» وهي استخراج الذكرى فقط.
ثانيًا «الادراك-Recognition» وهو إدراك معنى الذكرى، وما كانت تتناظر معه في الماضي.

ويحدث الاسترجاع بشكل أساسي عن طريق «دلالات الاسترجاع-Retrieval cues» وهي إشارات ترتبط بالأمر الذي تحاول تذكره، فعندما تدعو شخصًا لموعد غداء ثم تراه صدفة، تتذكر هذا الموعد. وهذه الحالة (عندما يتماثل السياق الذي حدث فيه ترميز المعلومة واسترجاعها) تُعرف بمبدأ التوافق.

بمعنى أنك تتذكر الأشياء بشكل أفضل في السياق الذي تعلمته بها. فيما يعرف أيضًا بـ «الذاكرة المعتمدة على السياق-Context dependent memory» و«الذاكرة المعتمدة على الحالة-State dependent memory».

مثال: -من المرجح أنك ستتذكر المعلومات بشكل أفضل في امتحانك النهائي، إذا حضرته في نفس القاعة التي حضرت فيها محاضراته. لأن وجودك في نفس الغرفة سيعيد إليك دلالات الاسترجاع.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء تحت تأثير المخدرات (تأثير منخفض لا يؤثر على النشاطات العقلية الأخرى) يتذكرونها بشكل أفضل وهم تحت تأثير المخدرات مجددًا لا في حالتهم الواعية. هذا الأمر ينطبق أيضًا على شرب الكحوليات.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء وهم في حالة اكتئاب، أكثر قدرة على تذكره وهم في نفس الحالة المزاجية لا في حالتهم الطبيعية. وهنا توضح لنا هذه الأمثلة أن جزء كبير من استرجاع المعلومات يعتمد على استرجاع السياق الذي تم ترميزها به.

عندما تخفق الذاكرة- النسيان

تحدثنا عن العالم من حولنا ودور الانتباه في انتقاء المعلومات البارزة أما إراديًا أو لا إراديًا لكي تدخل المخ. وكيف تتم معالجة المعلومات في المخ من ترميز وتخزين واسترجاع. لكن يبقى مسار آخر لم نتحدث عنه وهو النسيان، ليس كل ما نتذكره نحتفظ به للأبد.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

كيف يحدث النسيان؟

النسيان نوعان:

النسيان الطبيعي

الذي يحدث بمرور الزمن وتغير الأشياء وله أسبابه:

أحد التفسيرات أن المخ شيء مادي، وجميع الأشياء المادية تتلف مع الوقت، كذلك مسارات المخ فيحدث النسيان.

الإجابة الثانية هي التداخل. تزداد صعوبة استرجاع المعلومات عندما يتعلم الشخص معلومات أخرى مشابهة لها. لذا يمكن القول أن قدرة الشخص على التعلم تضعف عندما يتعلم المزيد من الأشياء المتصلة بها، بسبب حدوث التداخل أو ارتباك داخل الذاكرة. بسبب تغير دلالات الاسترجاع: كلما مر الوقت كلما تغير العالم، وبما أن التذكر يعتمد بشكل كبير على دلالات الاسترجاع، فكلما تتغير أو تقل يحدث النسيان.

النسيان الذي يحدث بسبب تلف المخ.

مثل: «فقدان الذاكرة الرجعي-Retrograde amnesia» وهو فقدان جميع ذكريات الماضي، وقد يحدث نتيجة صدمة في الرأس فيفقد الشخص جميع ذكريات ذاكرته العرضية/ذاكرة السيرة الذاتية المختصة بأحداث حياته، وهذه هي الصورة التقليدية لفقدان الذاكرة كما ذكرنا.

«فقدان الذاكرة التقدمي-Anterograde amnesia» وهو فقدان القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة، والمثال الأشهر على ذلك هو كلايف ويرنج الذي ذكرناه في بداية المقال.

ويرنج موسيقي بريطاني أُصيب يومًا بفيروس الزهري، الذي انتقل إلى مخه وأحدث تلفًا في الحصين وهو الجزء المختص بالذاكرة. فقد ويرنج ذاكرته الرجعية باستثناء بعض الأحداث المهمة مثل حبه لزوجته وامتلاكه لأولاد لا يذكر أسمائهم وكيفية لعب البيانو. وفقد ذاكرته التقدمية ففقد القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة وعاش في حاضر دائم. لذا ينسى أنه رأى زوجته منذ دقائق معدودة فيحييها كأنه يراها أول مرة، وينسى أنه استيقظ من النوم فيقضي يومه في الاستيقاظ مجددًا كل بضعة دقائق!

يُفسر عدم نسيان ويرنج لكيفية لعب البيانو إلى أن هذا الفعل يُخزن في «الذاكرة الاجرائية-procedural memory» من الذاكرة طويلة المدى، وهذا الجزء من المخ لم يُصب بأذى. فبينما تتذكر أصابعه كيفية اللعب تغيب عن ذاكرة ويرنج أية ذكرى لتعلمه العزف. واعتبر العلماء حالة كلايف ويرنج من أشد حالات فقدان الذاكرة التي عرفتها البشرية على مر التاريخ.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

والآن إذا نجح هذا المقال في الاستحواذ على انتباهك، واستطاعت بعض معلوماته اجتياز حاجز الترميز والتخزين ووصلت بمساعدة المعنى والمنطق إلى الذاكرة طويلة المدى. فلا تنسى حديثنا عن الانتباه ورؤيته المحدودة للواقع بأفكارنا ومشاعرنا وتفضيلاتنا. كذلك كيفية صنع الذكريات، والعمليات الثلاثة التي تمر بها المعلومات لتصنع ماضينا وحاضرنا. وأخيرًا النسيان كناتج طبيعي لتغير المخ والعالم. وحالة كلايف ويرنج الشهير الذي يعيش في حاضر دائم.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

مصادر ( كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟ ):

1- simplepsychology
2- psychology.wikia.
3– /psychology.wikia

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟ سنتحدث اليوم عن جانب آخر مثير للإهتمام من الحياة العقلية البشرية، وهو الإدراك. ما الإدراك؟ كيف نتعرف على العالم من حولنا؟ وهل كل ما نراه حقيقيًا؟

دعونا نبدأ حديثنا بهذه الجملة: أيًا كان ما تراه أمامك حاليًا وتظنه حقيقيًا، فأنت على الأغلب مخطيء حياله، أو دعنا نقول (واهم)!

ما الإدراك ؟

الإدراك هو قدرة المخ على إيجاد المعنى فيما تختبره الحواس. فيدرك الشخص ماهية الأشياء والأشخاص من حوله. فيمكنه التمييز بين وجه صديقه وغريمه، ويدرك الفرق بين رائحة العطر والحريق! وعملية الإدراك تحدث بشكل لا واعي كما أنها ليست محايدة على الإطلاق. فيتأثر إدراكنا للعالم بالمعرفة والخبرة والمعايير الثقافية وحتى الحالة المزاجية.

عند دراسة الآلات والروبوتات، وُجد أن جميع المحاولات لصنع آلة تستطيع إدراك الأشياء فشلت فشلًا ذريعًا. فلا يوجد آلة على الأرض تستطيع التعرف على الأشخاص والأشياء بمستوى طفل ساذج بعمر السنة الواحدة. فما سبب هذه الصعوبة؟

دعونا نشرح الأمر من البداية، هناك العين، وهناك الشبكية الحساسة للضوء التي تقع في الجزء الأعمق من العين. عندما يصطدم الضوء المنعكس من البيئة حولنا بالشبكية، تستقبل خلاياها الضوء وتحوله إلى إشارات كهربية/نبضات عصبية تنتقل إلى الدماغ. حيث يحدث الإدراك. لكن هنا تظهر مشكلة جديدة. كيف يمكن للشبكية إدراك الأشكال والأجسام من حولنا؟

عبقرية الشبكية

الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، ويرى البشر العالم من حولهم بشكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الأمر (أن تختبر العالم من حولك بشكل ثلاثي الأبعاد مستخدمًا سطحًا ثنائي الأبعاد) مستحيل رياضيًا. إلا أنه حقيقي وحي فينا، فكيف يحدث؟

الحقيقة أن رؤية البعد الثالث: العمق -وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا- خدعة من المخ. حيث ترسل كل عين نسختها -ثنائية الأبعاد- إلى المخ، الذي يستخدم بعض الدلالات أو الافتراضات ليكون نسخته ثلاثية الأبعاد عن العالم. ويستخدم المخ هذه الدلالات بشكل لا واعي، وهي لا تختص بإدراك العمق فقط بل بإدراك الألوان والأجسام أيضًا.

وما يعنيه هذا أن المخ هو المسئول بشكل كامل عن الإدراك وبالتالي تكوين الصورة ثلاثية الأبعاد. أما العينان فهما مصادر خام للبيانات فقط. وهذه البيانات ليست ما نراه فعليًا. ما نراه فعليًا يحكمه المخ (بمعرفته وخبراته وخلفيته الثقافية وحالته المزاجية) وليس العينان.

أولًا: إدراك الألوان

العين البشرية مدهشة في رؤية الألوان. فيمكن للشخص العادي التمييز بين ما يقرب من مليون درجة لون مختلفة. ولا يرتبط تمييزنا لأبيض الثلج وأسود الفحم مثلًا بالمادة التي تكون كل منهما فقط. ولكن بكمية الضوء المنعكس عن كل منهما أيضًا. وهو ما يجعلنا نرى شخص يتحرك من النور إلى الظل دون أن نهلع ونعتقد أنه شخص آخر! بل تدرك عقولنا -وبشكل تلقائي- أنه مازال نفس الشخص.

ثانيًا: إدراك الأجسام

برمجة حاسوب يستطيع التمييز بين عدة أشكال مختلفة أمر صعب للغاية. وأحد الإجابات المقترحة لطريقة تعرف البشر على الأجسام المختلفة هي «التقسيم- Segmentation».

ويحدث التقسيم عن طريق عدة دلالات في الطبيعة ترشد المخ أنه يتعامل مع أشكال مختلفة. وهذه الدلالات تعرف باسم «مباديء الجشطالت-Gestalt principles». كل منها موضح في الصورة التالية:

  • «الإغلاق-Closure» بمعنى أننا نميل إلى ملأ الفراغات، ورؤية العناصر في أشكال كاملة. عوضًا عن أجزاء متفرقة.
  • «التقارب-Proximity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر القريبة من بعضها في مجموعة واحدة.
  • «الاتصالية-Continuity» بمعنى أننا نربط بين العناصر التي تتبع خطًا أو منحنى واحدًا. على عكس العناصر التي لا تتبع نمطًا معينًا.
  • «التشابه-Similarity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر المتشابهة في مجموعة واحدة، كما نعتقد أن لديهم نفس الوظيفة.
  • «الشكل/الخلفية-Figure ground» بمعنى أننا نميل تلقائيًا لتحديد العناصر وفصلها عن عن الخلفية المحيطة بها.

وباستخدام هذه المباديء/الدلالات يحول المخ المعلومات البصرية غير المألوفة إلى صور أكثر منطقية وقابلة للإدراك والفهم. فتتحول الصورة من مجرد عدة مكونات متفرقة لا رابط بينها إلى لوحة متكاملة ذات معنى.

ثالثًا: إدراك العمق

ندرك بواسطة العمق مسافة الأشياء وشكلها الحقيقي. وذكرنا قبل قليل أن الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، وأن إدراك البعد الثالث -العمق- يحدث في المخ. باستخدام عدد من الدلالات المثيرة للاهتمام. وتنقسم هذه الدلالات إلى:

  • «دلالات ثنائية العينين-Binocular Cues» ومنها:

«التفاوت الشبكي-Retinal Disparity». وهي دلالة العمق الوحيدة التي تتطلب استخدام العينين. وما يحدث أنه نتيجة لبعد العينين عن بعضهما بحوالي ٦ سم، تختلف الصورة في كلا الشبكيتين اختلافًا بسيطًا. ويستخدم المخ هذه الدلالة ليحكم على المسافة. فكلما قَرُب الجسم، كلما زاد الاختلاف بين الصورتين والعكس صحيح. ويمكنك رؤية التفاوت الشبكي بوضوح عندما تضع اصبعك مباشرة أمام عينيك. فتراه اثنين وليس واحدًا.

  • «دلالات أحادية العينين-Monocular Cues» وهي الدلالات التي تتطلب استخدام عين واحدة. وتساعد في تحديد مسافات الأجسام البعيدة ومقاسها. ومنها:

– «الحجم النسبي-Relative size» وهنا يستخدم المخ حجم الأجسام لتحديد مسافتها. فعند مقارنة جسمين من نفس الحجم تقريبًا، سيظهر الجسم الأقرب أكبر حجمًا من الجسم الأبعد.
– «المنظور الخطي-Linear Perspective» وهنا يرى المخ أنه كلما اقترب خطان متوازيان من بعضهما. كلما زادت المسافة.
– «التداخل-Interposition» ويحدث هذا عندما يحجب جسم جزءًا من جسم آخر. فيرى المخ الجسم الذي يظهر بشكل كامل (غير المحجوب) أقرب من الجسم المحجوب.
– «تدرج النسيج-Texture gradient» وهو ما يحدث حينما تراقب حقلًا ممتدًا، فتتلاشى تفاصيل شكل العشب بابتعاد المسافة. وتظهر التفاصيل واضحة بالقرب منك.

اقرأ المزيد عن عملية الرؤية وتفسيراتها

لا تثق في كل ما تراه!

رغم دقة عمل هذه الدلالات التي سبق وسردناها. والتفاصيل الصغيرة التي تختص بها كل منها. إلا أنه لا يمكننا الثقة بها دائمًا، فهناك حالات حيث تخدعنا جميعًا. وهنا يظهر مفهوم «الخداع البصري-Optical illusion».

يحدث الخداع البصري عن طريق ترتيب الأشكال أو تغيير الألوان أو الإضاءة بشكل معين، مما يضلل المخ فيرى ما ليس حقيقيًا. وللخداع البصري أمثلة كثيرة منها:

  • «خداع ميولر لاير-Muller lyer illusion» وهو عبارة عن خطين كما بالصورة. فأيهما أطول؟

إذا كنت مثل أغلب الناس ستكون إجابتك ان الخط العلوي أطول. أما الحقيقة أن الخطين متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك عن طريق دلالات العمق: يحتل الخطان نفس المسافة على شبكية عينك. لكن رغم ذلك يظهر أحدهما أطول من الآخر، لأنه هناك خطوط أخرى في الصورة تجعل مخك يصنع تخمينات عن المسافة. فيعطي السهم الذي يشير للخارج إيحاء أنه يقع على مسافة أبعد من السهم الذي يشير للداخل، وبالتالي يستنتج المخ أنه لا بد للخط الأبعد أن يكون أكبر حجمًا من الخط الأقرب.

  • «خداع بونزو-Ponzo illusion»

وهنا يظهر خطان أيضًا، وعلى الأغلب سترى الخط العلوي أطول من الخط السفلي. لكنهما في الحقيقة متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك في إطار دلالة المنظور الخطي التي سبق وشرحناها. فنجد الخطين المتوازيين يقتربان من بعضهما في حالة الخط العلوي مما ينبه المخ أن المسافة هنا أبعد. وبالتالي لا بد أن يكون حجم الخط أكبر.

نسختك المميزة عن العالم

في الختام، يمكننا القول أن عملية الإدراك البشري بالغة التعقيد. وأنه لكي تنظر إلى وجه صديقك وتعرف أنه صديقك -لا مجموعة أشكال غير مترابطة أو مألوفة- يبذل مخك الكثير من المجهود. فتتعاون الشبكية المدهشة مع خلايا المخ لتكوين الصورة الكاملة في جزء من الثانية. صورة تدرك فيها الجسم ولونه وحجمه وبعده وحركته. صورة مميزة يستخدم فيها عقلك البيانات الخام ثم يضفي عليها المعنى والسحر. لترى العالم بطريقة لا يراها أحد غيرك، فتتكون نسختك المميزة عن العالم!

المصادر

  1. britannica
  2. lumenlearning
  3. verywellmind
  4. verywellmind
  5. newworldencyclopedia

ما أصل اللغة البشرية؟ وما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تعد اللغة جانبًا غامضًا من الحياة العقلية البشرية الذي يحتاج للكثير من التفسير. ما اللغة؟ وكيف نحصل عليها؟ ما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟ وكيف تطورت جميعها؟ كل هذه الأسئلة ليست جديدة، بل طرحها كل فيلسوف أو عالم نفس أو عالم أعصاب اهتم يومًا بالطبيعة البشرية وتفسيرها. فاللغة جزء لا يتجزأ منا وتدور حولها الكثير من الأسئلة.

ما هي اللغة؟

تُعرف اللغة بأنها القدرة على إنتاج واستيعاب الكلمات سواء كانت منطوقة أو مُشار بها (في حالة لغة الإشارة). ويُعرف العلم المختص بدراسة اللغة وتركيباتها بـ «علم اللغويات-Linguistics». وهناك حقيقتان يجب معرفتهما عن اللغة:

  • تتشارك جميع اللغات في بعض القواسم العامة، منها قدرة اللغة على التعبير عن أي فكرة مجردة.
  • اختلاف جميع اللغات، فلا توجد لغة مطابقة لأخرى.

لذا تُدرس جميع النظريات عن اللغة من هذا المنظور. منظور وجود بعض القواسم المشتركة وكذلك الاختلافات، وسنتطرق لكليهما لاحقًا.

اللغة البشرية وداروين

قدم داروين نظرية شيقة عن اللغة فقال:

لدى الإنسان ميل خاص للحديث. ونرى ذلك حتى في ثرثرة أطفالنا الصغار. بينما لا نرى طفلًا منهم يميل إلى تعلم الخبز أو الكتابة

وما تعنيه جملة داروين أن اللغة البشرية مميزة وتختلف عن الأنشطة الأخرى، وأنه هناك نوع من الميل الغريزي تجاه تعلم هذه اللغة. وتدعم بعض الحقائق هذا الادعاء، منها:

  • لكل مجتمع بشري لغة خاصة به.
  • على الرغم من الاختلاف الواسع بين الثقافات البشرية إلا أن اللغة (بأشكالها المختلفة) هي وسيلة التواصل المشتركة بينهم جميعًا. وربما يشير هذا إلى وجود ميل غريزي لتعلم اللغة داخلنا
  • هناك الكثير من الحالات عبر التاريخ التي تنشأ فيها اللغة بشكل طبيعي ومذهل. منها: تجارة العبيد قديمًا. عمد القائمون على هذه التجارة على خلط العبيد من خلفيات ثقافية مختلفة لكي يصعب التواصل بينهم فتقل احتمالية الثورة، لكن ما حدث هو تطوير هؤلاء الأشخاص ذوي اللغات المختلفة نظامًا جديدًا. نظام اتصال مؤقت يسمح لهم بالتواصل مع بعضهم فيما يُعرف بـ «اللغة المبسطة-Pidgin» واللغة المبسطة ليست حقيقية وإنما هي خليط من الكلمات المستعارة من لغات مختلفة.
    بمرور الوقت وإنجاب هؤلاء الأشخاص أطفالًا. نجدهم -على عكس المتوقع- لا يتحدثون لغة آبائهم المبسطة. وإنما يطورون لغتهم الخاصة. هذه اللغة كاملة وثرية وتامة التكوين. وتعُرف باسم «اللغة الهجين أو الكريول-Creole».
  • هناك دراسات علم الأعصاب أيضًا التي تدعم نظرية داروين. فكما أشرنا سابقًا في سلسلة علم النفس إلى وجود أجزاء مخصصة من المخ لتعلم اللغة فقط، ويصاب الإنسان عند تلفها بعجز لغوي ما.
  • توجد أيضًا بعض الدراسات التي تبحث في الأصل الجيني للغة.

اكتشف العلماء وجود بعض الجينات المسئولة عن استخدام وتعلم اللغة. ويفقد الشخص القدرة على تعلم اللغة عند إصابتها بأي خلل.

فيم تتشارك جميع اللغات؟

ذكرنا قبل قليل أن أطفال ضحايا تجارة العبيد طوروا لغة آبائهم وحولوها إلى لغة كاملة وثرية. فما المعايير التي يتحدد بها كمال اللغة؟

علم الأصوات

أول خطوة لتعلم اللغة هي تعلم أصواتها. وهنا يأتي دور «علم الأصوات-Phonology»، وهو نظام الأصوات في اللغة. فتستخدم الإنجليزية على سبيل المثال أربعين صوتًا. وتقع جميع الكلمات التي يسمعها المتحدث الأصلي بها في نطاق هذه الأصوات، كما يستطيع تمييزهم جميعًا. فيمكنه التمييز بين صوتي L و R كما في كلمتي Lip و Rip. بينما لا يمكن لبعض غير المتحدثين الأصليين تمييز هذا الفرق.

يمكن أيضًا للمتحدثين الأصليين وضع الحدود بين الكلمات وتحديد بدايتها ونهايتها. وعلى عكس المتوقع هذه الحدود أو «الوقفات-Pauses» بين الكلمات لا تُتعلم، بل هي وهم نفسي. فعندما يتحدث شخص عبر جهاز الذبذبات الذي يقيس ذبذبات الصوت نجد أنه لا توجد وقفات بين الكلمات، وإنما يتعلم العقل متى تبدأ الكلمة ومتى تنتهي ويدرج الوقفة بينهما. ونلاحظ هذا بوضوح عند الاستماع للغة غريبة فلا نسمع سوى ضوضاء متواصلة.

علم الصرف

«علم الصرف أو المورفولوجيا-Morphology»، وهو علم الكلمات. المورفيم هو أصغر وحدة بنائية ذات معنى في اللغة، وهناك فارق بين المورفيم والكلمة. فتتكون جميع الكلمات من مورفيم واحد أو أكثر. بينما توجد مورفيمات مفردة لا تكون كلمات.

مثال: كلمة Dogs. هي كلمة واحدة لكنها تتكون من المورفيم Dog ومورفيم الجمع S. تصل عدد المورفيمات التي يعرفها المتحدث العادي إلى ثمانين أو مائة ألف مورفيم. وتصل إلى مائتي أو ثلاثمائة ألف عند متعددي اللغات. وهذا كم مذهل من الكلمات يحمله العقل البشري. ويستطيع الوصول إليه في جزء من الثانية!

وتظهر خاصية مميزة للغة في إطار المورفولوجيا وهي «اعتباطية الإشارة-Arbitrariness of the sign» بمعنى عدم وجود علاقة بين شكل الكلمة أو الإشارة (في حالة لغة الإشارة) ومعناها، فالرابط بينهما اعتباطي. فنجد كلمة كرسي أو دولة لا تعبر بأي شكل عن الشكل المادي لهما، وإنما تعبر عن فكرتهما فقط. وعن طريق هذه الخرائط الاعتباطية تنشأ كلمات اللغة.

علم بناء الجملة

  • «علم بناء الجملة-Syntax»

وهي مجموعة القواعد التي تساعدنا على تكوين عددًا لا نهائيًا من الجمل المفيدة. وهنا تظهر خاصية مميزة للغة أيضًا. وهي امتلاكها «نظام دمج-Combinatorial System». بمعنى استخدام اللغة لوسائلها المحدودة (أصواتها وكلماتها) بشكل غير محدود (تكوين عدد لا نهائي من الجمل).

تتمتع الموسيقى بهذا النظام أيضًا، فتمتلك عددًا محدودًا من النغمات التي ينطلق منها عددًا لا محدودًا من المقطوعات الموسيقية. وآلية اللامحدودية هي التكرار، بمعنى أن القدرة على تكرار الكلمات (في أُطر نحوية معينة) يضمن لنا عددًا لا نهائيًا ومتجددًا من الجمل.

نمو اللغة البشرية

سنعود مرة أخرى إلى العالم الذي سبق وعرفنا أنه وضع نهاية للسلوكية: نعوم تشومسكي. أتى تشومسكي بادعاء ثوري حول أصل اللغة. فرأى أن تعلم اللغة ليس تعلمًا حقيقيًا، وإنما يجب النظر إليه كشكل من أشكال النمو. فكما تنمو أعضاء الجسم المختلفة، تنمو أيضًا القدرة على فهم اللغة داخل المخ. لكن ما مدى صحة هذا الادعاء؟

  • لا ينكر العلم حقيقة تأثير البيئة المحيطة على تشكيل اللغة. فلا يمكن تعلم أي لغة بشكل كامل دون سماعها والتأثر بها.
  • تثبت دراسات الأعصاب وجود مراكز خاصة بتعلم اللغة في المخ. وعند تلفها يصاب الشخص بأمراض مثل «الحبسة-Aphasia». كذلك توجد بعض الاضطرابات الجينية التي تسبب عدم قدرة الأطفال على تعلم اللغة وتعرف باسم «اعتلالات اللغة الخاصة-Specific language impairments». وهنا يمكن القول أن تعلم اللغة منفصل عن باقي جوانب الحياة العقلية البشرية. فهؤلاء الأطفال ذوي الاضطرابات الجينية لا ينقصهم الذكاء العقلي أو الاجتماعي، لكنهم فقط لا يستطيعون تعلم اللغة.
  • يحدث تعلم اللغة دون أي نوع من التدريب أو التقييم. فبينما تنتشر ثقافة الحديث مع حديثي الولادة لكي يتعلموا اللغة، نجد مجموعات من البشر الذين يجدون هذه الفكرة سخيفة، ولا يتحدثون مع أطفالهم إلا بعد أن يكتسبوا هم القدرة على الحديث. وفي الحالتين، يتعلم الأطفال اللغة. كذلك تثبت دراسة أخرى عدم أهمية التقييم. فلا يصحح الآباء حديث صغارهم عندما يقعوا في أخطاء لغوية أو نحوية (مثل الإشارة إلى المؤنث بالمذكر أو العكس) بل يستقبلونها بعاطفة بحتة ولا يهتمون بتلك الأخطاء. ومع ذلك تتلاشى هذه الأخطاء بمرور الوقت دون أي تدريب أو تصحيح.

وهنا تقترح هذه الأدلة انفصال مراكز تعلم اللغة عن باقي الحياة العقلية. كما أنها تنمو وتتطور دون أي تدريب كما يحدث مع باقي أعضاء الجسم. لذا ربما يحمل ادعاء تشومسكي على الرغم من غرابته بعض الصحة.

نظام لا مثيل له!

دراسة اللغة والنظريات المتعلقة بها حقل واسع للغاية، وربما تظل الأسئلة التي تدور حولها بلا إجابات شافية لوقت طويل. لكننا نعلم حقيقة أن اللغة البشرية لا مثيل لها. فعلى الرغم من وجود لغات وسبل تواصل بين فصائل مختلفة من الكائنات الحية. إلا أن اللغة البشرية بتكويناتها الثلاث من أصوات وكلمات وقواعد، وما يرتبط بهم من خصائص مميزة مثل نظام الدمج واعتباطية الإشارة، لا مثيل لها في أي نظام آخر.

المصادر

  1. languagelog
  2. britannica
  3. britannica
  4. lumenlearning
Exit mobile version