أحد أشهر تطبيقات نظرية الألعاب، لم حازت مساهمات تطوير نظرية المزاد على نوبل للاقتصاد 2020؟

أحد أشهر تطبيقات نظرية الألعاب، لم حازت مساهمات تطوير نظرية المزاد على نوبل للاقتصاد 2020؟

من المشاهد المألوفة لدينا، هي المعارض الانجليزية أو الأوروبية عموماً التي يحضرها رجال أنيقون ونساء ارستقراطيات بقبعات مائلة، لتعرض لوحة لفنان شهير أو أحد مقتنيات المشاهير أو تحف. وتبدأ المزايدة بسعر وتتبعه صيحات بأسعار أعلى حتى يربح العرض صاحب أعلى سعر وذلك بعد أن يختتم المسؤول عن المزاد ب “1، 2، 3” وإن لم يقاطعه أحد بسعر أعلى، يُقفل المزاد.

من جهة ثانية، إن كان في الدولة بعض الفاسدين والمرتشين من أصحاب المهن العليا كالقضاة، فإن الرشاوي يمكن أن تغير مسار العدالة وتتبع صاحب الرشوة الأعلى، فبوجود طرفين في المحكمة، قد يرشي كلاهما القاضي ولكن لا علم لأي منهما بالمبلغ الذي سيدفعه الآخر، وفي النهاية، سينهي القاضي القضية لصاحب الرشوة الأعلى.

كيف يرتبط المشهدان السابقان المألوفان، وكثير من الخطوط العريضة الأخرى في حياتنا اليومية، بنظرية المزادات، التي منح لتحسينها وابتكار أشكال جديدة لها بول ميلجروم وروبرت ويلسون جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2020. لنر معاً أهمية تلك النظرية وأسباب منحهما الجائزة.

نظرية المزاد في سطور

لمعرفة لم حظيت مساهمات ميلجروم وويلسون في نظرية المزاد بجائزة نوبل للاقتصاد 2020، يجب أولاً فهم ما نعني بهذه النظرية وما مدى تأثيرها على حياتنا.

عند عرض مادة/سلعة ما (an object) للمزاد، يكون ناتج هذا المزاد معتمداً على ثلاثة عوامل رئيسية:

الأول هو قوانين المزاد، ونعني بذلك هل عرض المزاد بالظروف المفتوحة (أسعار مكشوفة) أم المغلقة؟ وهل يسمح أن يتقدم المشاركون بأكثر من مرة للمزاد أم مرة واحدة؟ وما السعر الذي يدفعه الفائز – هل يدفع السعر الذي فاز به أم ثاني أعلى سعر؟ يجب هنا ألا يختلط عليك الأمر بين كلمتي “مزاد” و”مناقصة”، إذ أن المناقصة هي أحد أشكال المزاد.

العامل الثاني يتمثل في ما هو المعروض للمزاد، فهل تختلف قيمته بين المزايدين أم أنه ذو قيمة واحدة؟

والعامل الثالث هو عدم اليقين، أو مدى معرفة المزايدين بقيمة الشيء المعروض للمزاد.

إن استيفاء المزاد وتحديده للعوامل الثلاث السابقة تحدده نظرية المزاد، وهذا ما يؤثر على استراتيجية المزايدة وبالتالي على ناتج هذا المزاد. كما تعرض النظرية لنا كيفية تصميم المزاد وتحقيق أثر كبير على قيمة المادة المعروضة للمزاد. ويصبح الموضوع معقداً عندما تتم المزايدة في الوقت ذاته على أكثر من قطعة مرتبطة ببعضها البعض. وهنا يأتي دور الحائزين على الجائزة، إذ طورا أشكالاً لجعل الموضوع أكثر تخصصًا وعملي بدرجة أكبر.

بعض أنواع المزادات التي لا بد من معرفتها

المزاد على الطريقة الانجليزية: تعتمد دور المزادات حول العالم لبيع القطع فرادى على الطريقة الانجليزية في المزايدات، إذ يبدأ المزاد بسعر منخفض ليتم تدريجياً اقتراح أسعار أعلى وأعلى من قبل مقدمي العطاوات الراغبين بالفوز بالقطعة المعروضة، وفي النهاية يفوز مقدّم العطاء صاحب أعلى سعر ويدفع السعر الذي زايد فيه. بينما هذا الموضوع يختلف كلياً في المزاد الهولندي، إذ يبدأ بعرض أعلى سعر ثم تنقص الأسعار تدريجياً إلى أن تباع القطعة المعروضة. 

تحليل بول ميلجروم وبالمشاركة مع روبرت ويبر للشكلين السابقين: سيلاحظ المشاركون في المزاد الانجليزي انسحاب بعض المشاركين الآخرين عن المزايدة عند وصول القطعة إلى سعر معين وهذا يعطيهم معلومات عن تقدير الآخرين لقيمة القطعة، بينما في المزاد الهولندي لن يضفي تقليل قيمة القطعة أي معلومات عن مدى تقييم المشاركين لها. وهذا ما سنرى أثره على “لعنة الفائز” لاحقاً.

من الواضح أن شكل المزاد في الطريقتين الانجليزية والهولندية هو المزاد المكشوف، إذ أن الأسعار مكشوفة للمزايدين، بينما في نطاق الأعمال والتوظيف، فالشكل المتبع هي المزادات المغلقة (المظاريف المغلقة)، إذ يرسل أصحاب العطاءات عروضهم المالية بظروف مغلقة، وغالباً ما يتم الإرساء على العطاء الذي يلتزم بتقديم الخدمة بأقل سعر، بفرض أنه يستوفي شروط الجودة المطلوبة. في بعض المناقصات المغلقة يكون السعر النهائي هو السعر الأعلى (مناقصات السعر الأعلى)، فيما بعضها الآخر يرسي على ثاني أعلى سعر (مناقصات ثاني أعلى سعر).

هل يمكن تحديد أي شكل هو الأفضل؟ كما نرى، إن الأسلوب الأفضل يعتمد على صاحب المزاد، فبينما يهتم البائع الخاص بالبيع لأعلى سعر، يقوم البائعون العامة بالبيع لمن يضمن أكبر فائدة لأطول فترة. لذا فإن مهمة البحث على أفضل شكل مزاد شغلت الاقتصاديين لمدة طويلة. يمكن تخصيص مشكلة تحليل المزادات في تقييم كل من أصحاب العطاءات للمادة المعروضة للمزاد، وهل تعكس العطاءات المختلفة مدى العلم الكافي لمقدمي العطاوات بخصائص المادة المعروضة أو قيمتها؟ وهل يمكن لأصجاب العطاءات التلاعب فيما بينهم والتعاون ليبقى سعر المناقصة النهائي أدنى؟

القيم الخاصة والقيم المشتركة

سنوضح مفاهيم القيمة الخاصة والقيمة المشتركة بمثالين:

لنقل أن جمعية أعلنت عن عشاء خيري باستضافة أحد حائزي جائزة نوبل (أو أي شخصية مرموقة أخرى)، إن المبلغ الذي ستدفعه لقاء حضورك لهذا العشاء هو أمر شخصي، ولا يتأثر بقيمة هذا العشاء لأصحاب العطاءات الآخرين. هنا لا يجب أن تقدم عطاء بأكثر مما يمكن أن يعنيه هذا العشاء لك، ولكن هل ستقدم أقلّ عرض مقابل هذا العشاء؟ هذا ما نعنيه بالقيمة الخاصة، وهي محدودة بحالات معينة.

بينما على الجانب الآخر، معظم المزايدات تكون لديها أيضاً قيم مشتركة، وسنبسط ذلك بالمثال التالي:

لنفرض أنك تاجر للألماس، وتعتزم – مع تجار آخرين- بالتقدم لشراء قطعة ألماس خام في سبيل تقطيعها وبيع القطع الناتجة على حدى. إن جاهزيتك للدفع لقطعة الألماس الخام تعتمد فقط على سعر قطع الألماس التي ستبيعها منها، وهذا السعر يرتبط بدوره بعدد القطع وجودتها. إن لتجار الألماس آراء مختلفة حول هذه القيمة المشتركة لقطعة الألماس، وذلك حسب مهارتهم وخبرتهم والوقت الذي قضوه بفحص الالماس، سيكون من السهل لو علمت تقديرات تقييم باقي التجار لقطعة الألماس ولكنها معلومات سرية يفضلون الاحتفاظ بها.

إن الخطر الذي يقدم عليه مقدم العطاء لمزاد بالقيمة المشتركة محكوم بإن كان مقدمو العطاءات الآخرين ذو معلومات أوفر وأفضل عن السلعة/القطعة المعروضة وبالتالي تحديد قيمتها الصحيحة. فلنفرض أنك في المثال السابق قدمت سعراُ أعلى من الباقي وحصلت على قطعة الألماس، فأنت هنا معرّض لما يعرف بلعنة الفائز، إذ أنك دفعت سعراً كبيراً لم يكن ليدفعه أقرانك وهذه تعد صفقة خاسرة ولكنك ربحت القطعة على أية حال.

يصف روبرت ويلسون، الحائز على نوبل للاقتصاد 2020، الاستراتيجية عروض الأسعار الأمثل (حالة السعر الأعلى) عندما تكون القيمة المشتركة الحقيقية غير يقينة. وسنبين تحليله فيما يلي:

سيعرض المشاركون سعراً أدنى من أفضل سعر يقدرونه للقطعة، لتجنب عقد صفقة خاسرة وتعريض أنفسهم للعنة الفائز،  ومع زيادة عدم اليقين من القيمة الحقيقية للقطعة سوف يزيد حذر مقدمي العروض وتقل عروض الأسعار المحلية. يوضح ويلسون أن المشاكل التي تسببها لعنة الفائز تكون أعظم عندما يكون لدى بعض مقدمي العروض معلومات أفضل من غيرهم. أولئك من هم في وضع غير موات للمعلومات سوف يقدمون عروض أسعار أقل أو يمتنعون عن المشاركة أساساً تجنباً للمخاطر.

لنتفق على أن معظم المزادات تشمل كلا عنصري القيمة الخاصة والقيمة المشتركة، بالعودة إلى تحليل ميلجروم للمزايدات الانكليزية والهولندية، فإن المشاكل المتعلقة بلعنة الفائز في الطريقة الهولندية ذات أثر أكبر لأنها تؤدي إلى انخفاض الأسعار.

إن نتيجة اختلاف جودة شكل المزادات بالتعامل مع لعنة الفائز تعكس مبدأ عاماً: كلما قدم شكل المزاد عائدات أعلى كلما ازداد الرابط بين العطاءات والمعلومات الخاصة لأصحاب العطاءات عن المعروض في المزاد. كما رأينا في طريقتي المزاد الانجليزي والهولندي تماماً، لذا يكون من مصلحة البائع أن  يكون لأصحاب العطاءات أكبر قدر من المعلومات عن قيمة القطعة المعروضة قبل بدء المزاد.

أفضل المزادات المستخدمة عملياً، مساهمات ميلجروم وويلسون المبتكرة

لنستعرض قصة الرابحين بول ميلجروم وروبرت ويلسون بابتكار أشكال مزادات جديدة لمشاكل لم تكن أشكال المزادات المعروفة آنذاك قادرة على حلّها، ولعلّ أشهر قصة لهما هي مساهمتهما في تصميم مزاد لصالح اسلكات الأميركية لبيع ترددات الراديو لمشغلي الاتصالات.

الترددات الراديوية التي تسمح بالاتصالات اللاسلكية (الاتصالات الخلوية ودفوعات الانترنت ولقاءات الفيديو) هي ملك للحكومة، ولكن القطاع الخاص قادر على توظيفها واستعمالها بشكل أكفأ. لذا على الحكومة تخصيص بعض الباقات الترددية لهذه الجهات.

لقد مر سوق الاتصالات بتجارب غير مسرة بالنسبة للمستثمرين وشركات الاتصالات، فقد اعتمدت لجنة الاتصالات الفيدرالية لتوزيع النطاقات الترددية مرة على طريقة جلسات الاستماع أو “beauty contest”  إذ تقوم كل شركة بتقديم حجج لما هي بالتحديد تستحق الرخصة للوصول للنطاقات الترددية.وهذا ما أدى إلى إنفاق أموال الشركات في الضغط للحصول على الرخصة.  ومع توسع قطاع الاتصالات والموبايلات الخلوية في التسعينات، غيرت لجنة الاتصالات الفيدرالية -بعد أن استنزفت أسباب الدفاع عنها- طريقة جلسات الاستماع واتجهت لبطاقات اليانصيب لتخصيص نطاقات التردد لشركات الاتصالات. وبهذا استبدلت جلسات الاستماع بطريقة عشوائية تماماً لتخصيص النطاقات التي كما سابقتها عادت بخسائر كبيرة وأرباح محدودة جداً. 

إلى أن تقرر بسنة 1993 أن تباع النطاقات الترددية عن طريق المزادات، والتحدي هنا يكمن بتصميم مزاد يضمن التخصيص الفعال لرخص الاتصالات وتفيد بنفس الوقت دافعي الضرائب لأعلى حد ممكن. كما أن تعدد المواد المرتبطة (ترددات راديوية في مختلف المناطق) زاد من تعقيد التصميمات لمزادات تناسب هذا الغرض.

حقوق الصورة محفوظة للأكاديمية الملكية السويدية للعلوم
The Royal Swedish Academy of Sciences

هنا نشهد أول تصميم للمزاد المتزامن متعدد الجوالات (SMRA) الذي صممه بول ميلجروم وروبرت ويلسون بمشاركة من بريستون مكافي، يقدم هذا المزاد جميع العروض (وهي هنا نطاقات الترددات الراديوية في مختلف المناطق) في وقت واحد. تمكن هذا المزاد عن طريق البدء بأسعار منخفضة والسماح بعطاءات مكررة، من تقليل المشاكل المرتبطة بعدم اليقين ولعنة الفائز. وعند استخدام لجنة الاتصالات الفيدرالية مزاد SMRA لأول مرة في يوليو 1994،  باعت 10 تراخيص في 47 جولة مزايدات بإجمالي مبيعات بلغ 617 مليون دولار أميركي. هذه العوائد جاءت من مخصصات كانت الحكومة الأميركية توزعها تقريباً بشكل مجاني بطريقة اليانصيب!

لقد اعتبرت التجربة الأميركية لمزاد SMRA لأطياف الراديو ذو نجاح باهر وبدأت دول العالم بتطبيق نفس التصميم لمزادات الطيف الخاصة بها أيضاً. بلغة الأرباح والأموال، فقد عاد هذا التصميم على الحكومة الأميركية خلال عشرين سنة 1994-2014 بما يزيد عن عشرين مليار دولار، وعالمياً عاد بيع الطيف ب 200 مليار كما لم يقتصر استخدامه في سوق الاتصالات فقط بل في نطاق الكهرباء والغاز الطبيعي أيضاً.

وكما يقول جوزيف ستيجليتز، الحائز جائزةَ نوبل، عن البروفيسور ميلجروم: «إن من بين الثورات الحديثة في عالم الاقتصاد إدراك أن الأسواق لا تعمل بشكل ٍجيد من تلقاء نفسها؛ فالتصميم مهم، وتصميم مزاد لجنَة الاتصالات الفيدرالية للطيف الراديوي الذي أبدعه ميلوجروم إنما كان انطلاقاً  لعهد ٍ جديد لتصميم السوق باستخدام النظرية الاقتصادية لجعل الأسواق الحقيقية تعمل بشكل أفضل.» (كتاب قوة الاقتصاد)

خاتمة

يجب اعتبار أعمال ميلجروم وويلسون بمثابة أبحاث أساسية، فهما قاما بتطوير نظرية الألعاب (باعتبار المزادات قسم من نظرية الألعاب) لتحليل كيف تتصرف الجهات المختلفة استراتيجياً عندما كل منعم لديه وصول لمعلومات مختلفة. وشكلت المزادات –مع أدوارها الواضحة في التحكم بالتصرف الاستراتيجي- مساحة طبيعية لأعمالهما. قدمت الرؤى الأساسية من نظرية المزاد الأساس الواجب التطوير عليه أشكال جديدة للتغلب على التحديات الجديدة. وإن جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2020 تذكرنا كيف تؤثر الأبحاث الأساسية بابتكار أفكار تفيد المجتمع، الميزة الفريدة التي تمتع بها ميلجروم وويلسون أنهما عملا على الصعيد النظري والعملي لبحثهما مما عاد بالفائدة على الباعة والشراة والمجتمع ككل.

المصادر:

كتاب قوة الاقتصاد
كتاب نظرية الألعاب
Nobel Prize

اقرأ المزيد: ما هي إنجازات الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020؟

ما هي إنجازات الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020؟

ما هي إنجازات الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020؟

قررت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة «Sveriges Riksbank-البنك الوطني السويدي» في العلوم الاقتصادية لعام 2020 تخليدًا لذكرى ألفريد نوبل إلى كل من بول ر. ميلجروم-Paul R. Milgrom وروبرت ب. ويلسون- Robert B. Wilson لتحسينهما نظرية المزاد واختراعهما أشكالا جديدة للمزادات.

كيف حسنت النظريات التي وضعاها آلية عمل المزادات؟

حقوق الصورة محفوظة للأكاديمية الملكية السويدية للعلوم
The Royal Swedish Academy of sciences


درس فائزا هذا العام بول ميلغروم وروبرت ويلسون آلية عمل المزادات، كما أنهما استخدما رؤيتهما الخاصة لتصميم أشكال جديدة للمزادات فيما يخص السلع والخدمات التي يصعب بيعها بطريقة تقليدية كالترددات اللاسلكية.

كيف أفادت اكتشافاتهما البائعين والمشترين ودافعي الضرائب في جميع أنحاء العالم؟

لقد باع الناس الأشياء دائما لمن يدفع أعلى سعر، أو اشتروها من أي شخص يقدم أرخص عرض.
أما حاليا فتباع أغراض تساوي قيمتها مبالغ خيالية في المزادات يوميا، فليس فقط الأدوات المنزلية والقطع الفنية والأثرية هي التي تباع في تلك المزادات العلنية وإنما يمكن عرض الخدمات الأمنية والمعادن والطاقه وكذلك بضائع تابعة لجهات حكومية فيها.

يحاول الباحثون باستخدام نظرية المزادات فهم النتائج المترتبة على القوانين المختلفه الخاصة بالمزايدة والأسعار النهائية والتي تمثل هيكلية أو شكل المزاد.

إن هذا التحليل لصعب لتصرف المزايدين باستراتيجية مستندة على المعلومات المتوفرة، فهم يأخذون بعين الاعتبار ما يعرفونه هم وما يعتقدون أن المزايدين الاخرين يعلمونه كذلك.

كيف طور روبرت ويلسون المزادات العلنية؟

طور روبرت ويلسون نظرية حول المزادات الخاصة بالأشياء ذات القيمة المشتركة وهي أشياء لم تكن ذات قيمة معروفه مسبقا ولكنها في النهاية ستحمل ذات القيمة للجميع، وكمثال على ذلك القيمة المستقبلية للترددات اللاسلكية أو كمية المعادن في منطقة معينة.

بين ويلسون سبب ميل المزايدين العقلانيين لوضع قيمة أقل من أفضل تقدير لهم عن القيمة المشتركة- يتوقع المزايد أنه سيكون للغرض المعروض قيمة ما ولكنه يعرض سعرا أقل مما توقعه- فذلك بسبب الخوف من لعنة الفائزين أي دفع الكثير من المال والخسارة في النهاية.

ماذا عن الفائز بول ميلغروم؟

صاغ Paul Milgrom نظرية أكثر عمومية للمزادات والتي لا تشمل فقط مزادات الأغراض ذات القيمة المشتركة ، ولكن أيضًا ذات القيمة الخاصة أي التي تختلف من مزاود لأخر.


قام ميلغروم بتحليل استراتيجيات عرض الأسعار في عدد من الأشكال المعروفة للمزادات المختلفة موضحا أن صيغة المزاد يمكن أن تمنح البائع أرباحًا أعلى من المتوقع عند معرفة المزايدين ما يقدره بعضهم البعض من قيمة أثناء المزاد.

مع الوقت، طرحت المجتمعات أغراضا أكثر تعقيدا للتداول بين المستخدمين مثل مدرجات إقلاع الطائرات والترددات الراديوية، وفي هذا المجال ما هي إنجازات الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2020؟

ابتكر ميلغروم وويلسون نماذج جديدة لبيع العديد من الأغراض المترابطة ببعضها في المزادات علنية بوقت واحد، وذلك نيابة عن بائع متحمس للربح الجمعي العام بدلا من الربح الأقصى.

ففي عام 1994 ، استخدمت السلطات الأمريكية لأول مرة أحد نماذجهم الخاصة بالمزادات لبيع الترددات اللاسلكية لمشغلي الاتصالات. منذ ذلك الحين، حذت العديد من الدول الأخرى حذوها.

انطلق الفائزان هذا العام في العلوم الاقتصادية من نظرية أساسية ليوظفا نتائجهما لاحقًا في تطبيقات عملية انتشرت على مستوى العالم.

وحسب بيتر فريدريكسون وهو رئيس لجنة الجائزة فإن “اكتشافاتهما تعود بفائدة كبيرة على المجتمع”.

المصدر:

Nobel Prize press conference

عندما واجهت لندن أزمتين في نفس الوقت

بين عامي 1665 و 1666 شهدت مدينة “لندن” مأساتين متعاقبتين: الطاعون العظيم ويتبعه حريق كبير، كان الطاعون أسوأ ما واجهته لندن منذ أن حل الموت الأسود عام 1348، فقدت لندن حوالي 15-20% من سكانها، أما الحريق فقد إجتاح ربع المدينة وشرد حوالي 100000 شخص.

سبب الطاعون

كان وباء لندن هو آخر انتشار للطاعون الدبلي في بريطانيا، بعد التنقيب واستخراج ثلاثة آلاف ونصف هيكل عضمي من شارع “ليفربول”، أكدت الإختبارات وجود حمض نووي من بكتيريا yersinia pestis التي نسببت في الطاعون الدبلي سابقا.

أعراض الطاعون

وصف الكاتب “دانيال ديفو” (في القرن ال18) الحدث في مجلة عام الطاعون، المصير البشع لسكان لندن، فقد تسبب الطاعون بحمى عنيفة، وقيئ، وصداع شديد، وآلام في الظهر، وآخرون يعاونون من تورمات على مستوى الرقبة والفخذ والإبط ، أما البعض الآخر فقد عانوا في صمت.

انتشار المرض:

تم الإشتباه بإنتشار المرض في شتاء عام 1664 لكنه لم ينتشر بشكل مكثف إلى غاية ربيع عام 1665، ففر الملك “تشارلز الثاني” وحاشيته من لندن في أوائل الصيف ولم يعودوا إلا في “فبراير” التالي.

في ديسمبر 1665 انخفض معدل الوفيات فجأة واستمر في الانخفاض خلال الشتاء إلى غاية بداية عام (1666) مع تسجيل وفيات قليلة نسبيا في ذلك العام فقد انتشر المرض على نطاق واسع في البلاد.

في عام 1667 اختفى الوباء كليا من انجلترا ويرجح أن زواله كان تلقائيا. كانت الفئران والبراغيث هي الناقل لهذا المرض وانتشرت في الشوارع المليئة بالقمامة والنفايات، خاصة في المناطق الأكثر فقرًا.

حريق عام 1666

في ستينيات ذلك القرن، لم يكن الناس على علم بأخطار الحريق على عكس اليوم، كانت المباني مصنوعة من الخشب، والقش، وبعد صيف طويل وجاف عانت المدينة من نقص المياة وجفاف البيوت الخشبية مما سهل حرقها.

بدأ الحريق عن طريق الخطأ في متجر خباز، ورغم أنه إدعى كونه أوقف النار، إلا أنه بعد 3 ساعات، (أي في الواحدة صباحا)، كان منزله قد إتقد بالنار.

في البداية كان الأمر غير مثير للقلق بدرجة كبيرة لأن الحرائق شائعة آنذاك، لكن سرعان ما خرجت النيران عن السيطرة وإنتشرت في أكثر من 13000 منزل آخر. دمر الحريق الهائل معضم مدينة لندن (التي كانت أصغر من لندن حاليا ) لكنه لم يصل لبعض المناطق.

غالبا ما يرغب البشر في العثور على الجانب المشرق في الكارثة، لذا شاعت أسطورة تقول أن الحريق العظيم أنهى الطاعون بطرد الفئران التي كانت تنشر الوباء.لكن حقيقة، تشير البيانات إلى أن الحريق لم يؤثر على الطاعون، ولا توجد أي صلة بينهما، ولم يعلم المؤرخون السبب الحقيقي الذي أدى لتوقف الوباء عن الانتشار.

حتى في القرن ال21، لايزال الطاعون مرضا خطيرا، في (2017) أدى تفشي الطاعون في مدغشقر إلى (2417) إصابة و(209) وفاة، كان العلاج بالمضادات الحيوية فعالا ضد الوباء لكن في غياب التشخيص والعلاج يمكن أن يكون مميتا.

مصادر:

LONDON FIRE BRIGADE
HISTORY
BRITANNICA

المزيد: الموت الاسود، كيف تتبع علماء الآثار مخلفاته؟

فوز برنامج الغذاء العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة بجائزة نوبل للسلام لعام 2020

فوز برنامج الغذاء العالمي (WFP) بجائزة نوبل للسلام 2020 

«لجهوده في القضاء على الجوع، ومساهمته في تحسين الأوضاع من أجل السلام في مناطق النزاع والدور المُحرّك والفاعل في مكافحة استخدام الجوع كسلاح في الحروب والنزاعات».

يلتزم المجتمع الدولي بالقضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية في العالم بحلول عام 2030، لكن لا يزال هناك واحداً من بين كل تسعة أشخاص في العالم لا يملك ما يكفيه من الغذاء. فيأتي الغذاء وما يتعلق به من مساعدات في صميم الجهود الساعية إلى كسر هذه الحلقة من الجوع والفقر.

ما هو برنامج الغذاء العالمي (WFP)؟

برنامج الغذاء العالمي (برنامج الأغذية العالمي) (WFP) هو فرع المساعدات الغذائية للأمم المتحدة وأكبر منظمة إنسانية في العالم تعالج الجوع وتعزز الأمن الغذائي. 

وفقًا لتصريحات المنظمة فهم يوفرون مساعدات غذائية لما يقارب 91.4 مليون شخص في 83 دولة كل عام. من مقرهم الرئيسي في روما وأكثر من 80 مكتبًا محليًا حول العالم، يعمل برنامج الأغذية العالمي لمساعدة الأشخاص الذين لا يستطيعون إنتاج الطعام أو الحصول على ما يكفي منه لأنفسهم وأسرهم. وهم عضو في مجموعة الأمم المتحدة الإنمائية وجزء من لجنتها التنفيذية. 

مقر برنامج الغذاء العالمي في روما

تاريخ المنظمة

تأسس برنامج الأغذية العالمي عام 1963 بعد مؤتمر منظمة الأغذية والزراعة FAO (الفاو) عام 1960، عندما اقترح «جورج ماكغفرن-George McGovern» مدير برنامج الغذاء من أجل السلام في الولايات المتحدة -وقتها- إنشاء برنامج مساعدات غذائية متعدد الأطراف. 

تم إنشاء برنامج الأغذية العالمي رسميًا عام 1963 من قبل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة على أساس تجريبي لمدة ثلاث سنوات ثم تم تمديد البرنامج بشكل دائم عام 1965.

ما سبب فوز برنامج الغذاء العالمي بالجائزة؟

عام 2015 تم اعتماد القضاء على الجوع كأحد أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لكن عام 2019  عانى 135 مليون شخص من الجوع الحاد وهو أعلى رقم شهده العالم منذ عقود وجاءت معظم الزيادة بسبب الحرب والنزاع المسلح،  فقدم برنامج الأغذية العالمي المساعدة لما يقرب من 100 مليون شخص في 88 دولة.

 كما ساهمت جائحة الفيروس التاجي (كورونا) في زيادة عدد ضحايا الجوع في العالم في بلدان مثل: اليمن وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا وجنوب السودان وبوركينا فاسو، أدى الصراع العنيف والوباء إلى ارتفاع كبير في عدد الأشخاص الذين أصبحوا اليوم يعيشون على شفا المجاعة، وفي مواجهة هذا الوباء أظهر برنامج الأغذية العالمي قدرة رائعة على تكثيف جهوده كما صرحت المنظمة نفسها:

 «حتى يوم اكتشاف لقاح طبي، الغذاء هو أفضل لقاح ضد الفوضى».

جهود المنظمة

يوميًا؛ يقوم البرنامج بأرسال 5600 شاحنة، و20 سفينة، و92 طائرة لإيصال الأغذية وغيرها من المساعدات لمن هم في أمس الحاجة إليها. ويقوم سنويًا بتوزيع ما يقرب من 15 مليار حصة غذائية بتكلفة تقديرية تصل إلى 0.31 دولاراً أمريكياً للحصة الواحدة. وتعكس هذه الأرقام دور البرنامج الحيوي في الاستجابة لحالات الطوارئ، فهو قادر على إنجاز المهمة بسرعة كبيرة حتى في أصعب البيئات.

وقد كان برنامج الأغذية العالمي مشاركًا نشطًا في العملية الدبلوماسية التي بلغت ذروتها في مايو 2018 بتبني مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار رقم 2417  والذي تناول لأول مرة بشكل صريح الصلة بين الصراع المسلح والجوع. كما شدد مجلس الأمن على التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالمساعدة في ضمان وصول المساعدات الغذائية إلى المحتاجين، وأدان استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب.

مؤتمر الإعلان عن فوز برنامج الغذاء العالمي بالجائزة

اليوم في معهد نوبل في أوسلو صرحت رئيسة لجنة نوبل النرويجية  «بيريت ريس أندرسن-Berit Reiss-Andersen» أن الحائز على جائزة عام 2020  هو برنامج الأغذية العالمي لأنها أرادت 

«تحويل أنظار العالم إلى ملايين الأشخاص الذين يعانون من الجوع أو يوشكون أن يواجهوا هذا الخطر … وأن الجوع يستخدم كسلاح حرب ونزاع».

سيعاني الأطفال في اليمن من الجوع والفقر لمدة 20 عامًا بسبب الحرب

وقالت أندرسون:

«إن الجائزة هي دعوة للمجتمع الدولي لتمويل وكالة الأمم المتحدة بشكل كاف لضمان عدم تجويع البشر. وقالت إن برنامج الأغذية العالمي كان من الممكن أن يحصل على الجائزة من دون تفشي جائحة فيروس كورونا. لكن الفيروس عزز أسباب إعطائه لبرنامج الأغذية العالمي، بما في ذلك الحاجة إلى التعاون الدولي في وقت الأزمة العالمية».

من كان المرشحين هذا العام؟

وصُرح سابقًا بأن هناك 318 مرشحًا قيد الدراسة هذا العام، منهم 211 فردًا و 107 منظمة، ومن بين الشخصيات الأخرى التي تم اعتبارها: الناشطة السويدية في مجال المناخ «جريتا شونبرغ-Greta Thunberg» البالغة من العمر 17 عامًا، والمنشق الروسي وزعيم المعارضة «أليكسي نافالني-Alexei Navalny» الذي تعافى من هجوم بغاز الأعصاب ألقى باللوم فيه على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومنظمة الصحة العالمية لدورها في التصدي لوباء فيروس كورونا.

دونالد ترامب مرشح لنوبل للسلام!

على صعيد أخر صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب  إنه كان يجب أن يفوز بجائزة السلام العام الماضي؛ والتي منحت لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بعد أن أبرم اتفاق سلام مع إريتريا، وقال البيت الأبيض إن ترامب رشح لجائزة 2021 عن الوساطة التي أجراها لتطبيع العلاقات بين الإمارات والبحرين مع إسرائيل.

قيمة الجائزة

مُنحت مائة جائزة نوبل للسلام منذ عام 1901 حتى الآن لأفراد و24 جائزة لمنظمات، بينما يتم الإعلان عن الفائزين بجميع جوائز  نوبل في ستوكهولم، تُمنح جائزة السلام في العاصمة النرويجية أوسلو.

إلى جانب المكانة الأدبية الهائلة للجائزة، تبلغ القيمة المادية للجائزة 10 ملايين كرونة أي أكثر من مليون دولار أمريكي وميدالية ذهبية يتم تسليمها في حفل يقام سنويًا في اوسلو في 10 ديسمبر ذكرى وفاة مؤسس الجائزة ألفريد نوبل، لكن سيتم إلغاء حفل هذا العام بسبب الوباء العالمي.

وفي النهاية اختتم بيان نوبل بقول:

«إن عمل برنامج الأغذية العالمي لصالح البشرية هو مسعى ينبغي لجميع دول العالم أن تؤيده وتدعمه».

ملخص كتاب “تنانين عدن: تأملات عن تطور ذكاء الإنسان ” لكارل ساغان

ملخص كتاب “تنانين عدن: تأملات عن تطور ذكاء الإنسان” لكارل ساغان

يقدم كارل ساغان في هذا الكتاب دراسة رائعة عن نظرية التطور والدور الهام الذي لعبته في تقدم علوم البيولوجيا، فيقول الكاتب في مقدمة كتابه أن مدة التطور أو التغيير الوراثي كانت طويلة جدًا في الماضي فتحول نوع إلى نوع آخر يستغرق مئات الألوف من السنين ولكن الآن عملية التطور لا تحتاج فترة طويلة فنحن نعيش في عالم يتغير بسرعة بالغة، وأضاف أنه برغم أننا أحيانًا نصنع هذه التغيرات بأنفسنا إلا أننا يجب أن ننتبه لها وإلا اندثرنا.

كما ناقش الكاتب مبدأ التطور بالانتقاء الطبيعي الذي لاحظه وكتب عنه تشارلز داروين وألفرد راسل في منتصف القرن التاسع عشر، فمن خلال الانتقاء الطبيعي ظهرت كائنات أكثر توافقًا مع البيئة عن طريق نمو أعضاء مركبة تخدم تغيير الحياة من حول هذه الكائنات وتقلل من خطر الفناء، وتابع الكاتب في شرح وجهة نظره في أجزاء مختلفة من نظرية التطور مقسمًا إياها في تسعة فصول.

الفصل الأول: التقويم الكوني

يرى الكاتب أنه بالرغم من أن هناك أزمانًا سبقتنا لا نعرف عنها الكثير لعدم وجود سجلات مكتوبة عنها إلا أننا نستطيع التعامل مع الماضي السحيق عن طريق دراسة الطبقات الجيولوجية مثلًا أو عن طريق دراسة الكواكب البعيدة ومجرة درب التبانة ومعرفة الوقت منذ حدوث الانفجار العظيم الذي قد يكون بداية الكون حقًا أو قد يكون انقطاعًا عن الحياة السابقة.

ثم ذكر الكاتب طريقة للتعبير عن التاريخ الكوني عن طريق ضغط 15 بليون سنة التي تعتبر عمر الكون وتمثيلها في سنة واحدة فقط وعرضها كما في الجداول الآتية.

الفصل الثاني: المخ والجينات

وضح كارل ساغان، أن مع التطور البيولوجي للكائنات الحية ازداد التركيب الجيني تعقيدًا، والكائنات الحية اليوم تحتوي على معلومات جينية مخزونة، أكثر بكثير من تلك الكائنات التي كانت تعيش من مائتي مليون سنة مثلًا، كما أن أبسط الكائنات الموجودة اليوم، لها تاريخًا تطوريًا مثل الكائنات الأكثر تعقيدًا، حتى وإن كانت كمية المعلومات الموجودة في أجسادها لا تزيد كثيرًا عن تلك التي كانت موجودة في أجدادها، ولكنها شاهدت تطورًا كبيرًا غير من تلك المعلومات على مدار سنوات طويلة.

ثم أعطى الكاتب لمحة بسيطة عن المادة الوراثية في الكائنات الحية، وتكونها من أحماض نووية تنقسم إلى نوعين (Deoxyribonucleic acid-DNA) و(Ribonucleic acid-RNA)
وذكر الكثير من التفاصيل للوحدات المكونة الأحماض النووية وتركيبها، ثم أضاف أنه من الممكن الحكم على تعقيد كائن حي بمجرد دراسة سلوكياته وكمية المعلومات الوراثية الموجودة في داخله.

وتطور الكائنات الحية على مدار السنوات السابقة كان بسبب حدوث طفرات في مادتها الوراثية وقد تحدث الطفرات بسبب تعرض الكائن الحي الإشعاع مثلًا أو الأشعة الكونية، وعلى الرغم من أن معظم تلك الطفرات يستطيع الجسم إصلاحها عن طريق نظام معين يدعى (Genetic repair mechanism) وهو عبارة عن مجموعة من الجزيئات هدفها الأساسي إصلاح أي خلل في المادة الوراثية، ولكن هناك طفرات مستعصية لا يستطيع النظام إصلاحها فتغير من الكائنات الحية لتستطيع مواكبة التغيرات الدائمة المحيطة بها.

وتحدث طفرة في كل عشرة أمشاج في الكائنات الحية الكبيرة وتحدث عشوائيًا وتكون بأكملها ضارة وتسبب صفات متنحية لا يظهر تأثيرها في الحال ولكن يظهر على المدى الطويل.

ثم طرح الكاتب تساؤلًا عن كمية المعلومات التي توجد في المخ وناقش فرضيتين مختلفتين واحدة تفترض أن أجزاء المخ متماثلة القدرات حيث يمكن لأي جزء من أجزاء المخ أن يحل محل أي جزء آخر ولا يمكن حصر لمكان الوظيفة، أما الثانية تفترض أن أجزاء المخ محددة الوظائف، أما رأي الكاتب أن الحقيقة تقع بين الفرضيتين فيمكن أن تكون هناك روابط عصبية بين وظائف المخ لضمان الجودة والحماية من الحوادث فعند وجود خلل في مكان ما يمكن أن يقوم جزء آخر بأداء وظيفة المكان التالف.

ثم ناقش العلاقة بين نسبة وزن المخ إلى وزن الجسم ونسبة ذكاء الكائنات الحية، فيولد الطفل البشري ونسبة وزن مخه إلى وزن جسمه حوالي 12% وخلال الثلاث سنوات الأولى من عمره يستمر المخ وخاصة جزء القشرة المخية في النمو، أما في سن السادسة فيكون وزن المخ البشري حوالي 90% من وزنه عند الراشدين، كما وضح أن وزن المخ عند الرجال أكبر من النساء ولكن لا اختلاف في نسبة الذكاء بين الجنسين ونسب ذلك إلى أن كتلة أجساد الرجال أكبر من النساء وبالتالي فإن نسبة وزن مخهم إلى جسدهم لا تختلف كثيرا عن النساء وبالتالي لا تختلف نسبة الذكاء.

ولكن تلك الفرضية لا تنطبق على الحيوانات الصغيرة جدًا لأن أداء بعض الوظائف الحيوية يتطلب حد أدنى من وزن المخ.

الفصل الثالث: المخ والمركبة

يطرح الكاتب في هذا الفصل بعض وجهات النظر فيما يتعلق بقضية تطور المخ والتي تشترك جميعها أن بعد كل خطوة تطورية تبقى الأجزاء القديمة كما هي لأنها مهمة لما تؤديه من وظائف لازمة للحياة أما الطبقات الجديدة المضافة تؤدي وظائف مختلفة لازمة لمواكبة تغيرات الكون.

كان بول ماكلين رئيس معمل تطور المخ والسلوك في المؤسسة الوطنية للصحة النفسية يلعب دورا أساسيا في تأكيد تلك النظرية، فقد كان ماكلين يجري تجاربه على العديد من الحيوانات واستطاع استنتاج ووصف نموذج جذاب لتكوين المخ أطلق عليه اسم المخ الثلاثي وشبهه بثلاث آلات حاسبة بيولوجية متصلة ببعضها البعض ولكن لكل منها ذكاء خاص ووظائف خاصه حتى إحساس خاص بالزمان والمكان، وكل واحد من هذه الأجزاء يمثل مرحلة تطورية معينة ويمتلك خريطة تشريحية خاصة.

وقد اعتبر ماكلين أن أقدم أجزاء المخ يتكون من النخاع الشوكي والبصلة (Medulla oblongata) والجسر الذي يتكون من المخ الخلفي والأوسط، والاتحاد بين النخاع الشوكي وهذين الجزئين يكون ما أسماه ماكلين بالشاسية العصبي الذي يحتوي على الآلية الأساسية للتكاثر وحفظ النوع وتنظيم الدورة الدموية والتنفس، ووصل في نهاية أبحاثه إلى أن مخ الأسماك والبرمائيات يتكون من هذه الأجزاء فقط.

وافترض وجود ثلاثة أنواع من الشاسية العصبي يوجد أقدمها حول المخ الأوسط ويتكون من أجزاء معينة تتشارك فيها الثدييات والزواحف وأغلب الظن أنه ظهر منذ مئات السنين وأسماه ماكلين (Reptile complex) أو (R complex) أو مركب “ز”.

وتتشابه فرضيات ماكلين مع نظرية إرنست هيكل عالم التشريح الألماني في القرن التاسع عشر، والتي وضح فيها أن نمو الجنين يصحبه إعادة تكرار للمراحل التطويرية التي مر بها، واستنتج من هذا أن الانتقاء الطبيعي يعمل على الأفراد البالغين وليس على البويضات والأجنة وأن أغلب التغيرات التطويرية تظهر بعد الولادة وأن التطور بالإضافة والاحتفاظ بالقديم يحدث لأن الوظيفة القديمة ما زال الجسم في حاجة إليها أو أنه ليس هناك طريقة للتخلص من الأجزاء القديمة دون أن يتأثر الجسم.

الفصل الرابع: تطور الإنسان

إن وقوع الحشرات والحيوانات ضئيلة الحجم من مكان مرتفع لا يسبب لها أي أذى أما إذا سقط الإنسان من فوق شجرة مثلا فقد يتسبب ذلك في قتله أو إصابته بعاهة لأن وزنة كبير، لذلك فإن الإنسان القديم ساكن الأشجار كان عليه الانتباه فأي خطأ في الانتقال من شجرة إلى أخرى قد يكون قاتلا.

نرى أن أجدادنا ساكني الأشجار كان لديهم عناصر مهمة اكتسبوها بالانتقاء التطوري فاكتسبوا الرشاقة والخفة وقوة الإبصار وتوافق اليد والبصر، وكل هذه الصفات تتطلب نموا كبيرا للمخ وخاصة القشرة المخية وبالتالي فإن ذكاء الإنسان الحالي يعزى إلى ملايين السنين التي عاشها أجدادنا فوق الشجر، لذلك افترض الكاتب أن خوف الأطفال الدائم من السقوط هو بقايا خوف أجدادنا من السقوط من أعالي الأشجار وحلمنا الليلي بالطيران اشتياق لتلك الأيام.

ثم عرض كارل ساغان بعض أنواع الأحياء التي ظهرت منذ ملايين السنين مثل كائنات الهومو هابيليس (أول إنسان حقيقي) وكان هذا النوع يسير على الأقدام ويصنع الأدوات أما الاسترالوبيثكيس اختلف قليلًا عن جنس الهومو هابيليس فلم يكن يعتمد على قدميه بشكل تام في السير وكان هناك نوعين من الاسترالوبيثكيس أحدهما قوي وأكثر طولًا ووزنًا وله أسنان تتناسب لطحن البقول، والثاني أكثر رشاقة ويمتلك أسنان حادة ويأكل اللحوم.

وفي النهاية أضاف الكاتب أن نمو الثقافة البشرية وتطور الخواص الفسيولوجية للإنسان متصاحبان منذ البداية، فكلما زادت قدرتنا على العدو والاتصال والقدرات اليدوية زادت القدرة على صنع الأدوات وتحسنت استراتيجيات الصيد والقدرة على الحياة، وكما قال عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي شيروود شبورن ” أن من الأرجح اعتبار أن تكويننا ناتج عن ثقافتنا وليست ثقافتنا ناتجة عن تكويننا”.

الفصل الخامس: التجريد عند الحيوانات

كانت فكرة التجريد عند الحيوانات موضع اختلاف كبير بين العلماء، فقد اقتنع العالم جون لوك أن الحيوانات لا تجرد أما المطران بركلي رأى أنه إذا كانت جملة الحيوانات لا تجرد تستعمل لتمييز الحيوانات فإن العديد من الرجال سيصبحون في عداد الحيوانات.

أما الاعتقاد السائد أن الحيوانات ليست على جانب كبير من الذكاء قد تم نفيه بعد الكثير من الدراسات التي أجريت على الحيوانات لبيان مدى ذكائها واكتشفنا بعد هذه الدراسات أننا نخلط بين غياب القدرة على التعبير عن الذكاء وغياب الذكاء نفسه، فكما قال الفيلسوف مونتاني أن النقص الذي يمنع تواصلنا مع الحيوانات قد يكون عندنا وعندهم على حد سواء.

الفصل السادس: قصص من غشاوة عدن

هذا الفصل يطرح تساؤلات حول العلاقة بين الأحلام وتطور الإنسان، فقد رأى الكثير من العلماء والفلاسفة أن القدرة على فهم طبيعة الأحلام وأهميتها واحدة من أهم مميزات تطور الذكاء الإنساني.

ثم ناقش الكاتب فائدة النوم وأهميته للجسم وكيف أن الجسم يبدأ في إفراز كيميائيات عصبية تجبرنا على النوم وذلك في حالة عدم النوم لفترات طويلة، فيعتبر النوم فرصة للجسم لتنظيف وتنظيم المخ بعيدا عن مشاكل الحياة اليومية، واعتبر العلماء النوم خاصية اكتسبت بالتطور.

يتوقع العلماء أنه إذا لم توجد حاجة بيولوجية قوية للنوم فإن الانتقاء الطبيعي سينتج حيوانات لا تنام، فمعظم الحيوانات المعرضة للافتراس تكون في خطر أثناء نومها كمان كان الإنسان القديم في خطر أثناء نومه.

وإن النوم بأحلام أو بدون أحلام يعتمد على أسلوب حياة الحيوان وذلك وفقًا لدراسة أجرتها تروديت أليسون ودومينيك سيشتي في جامعة بيل، وكانت نتائج هذه الدراسة أن الحيوانات المفترسة تحلم أكثر من الفريسة التي عادة ما تنام نوم متقطع بلا أحلام.

الفصل السابع: محبون ومجانين

يقول كارل ساغان أن البشر والحيوانات لديهم قدرات كبيرة على المعرفة تفوق قدراتهم على التحليل، فلا يولد الإنسان وفي مخه أرشيف منظم للوجود وصنف الكاتب نوعين من المعرفة، المعرفة التي لا نعرف مصدرها والتي يطلق عليها باسم معرفة بديهية وهناك النوع الآخر والذي يسمى التفكير العقلاني الذي اكتسبه البشر بالتطور وعمره لا يزيد عن بعض مئات ألوف السنين.

ثم ناقش بعض التجارب التي أجريت عن ذكاء الشمبانزي، وكانت أول تجربه جادة من هذا النوع دراسة قام بها ألفرد راسل والاس في أندونيسيا عندما وضع طفل الأورانجوتان(رجل الغابة) مع طفل إنسان في نفس الظروف ووجده يتصرف مثله تماما.

وكنتيجة للتفكير في تلك التجارب اكتشف عالم النفس بياتريس روبرت جاردنر أن بلعوم الشمبانزي وحنجرتها لا يتناسبان للنطق الإنساني، فيقول جاردنر أن الشمبانزي قد تكون لها قدرات لغوية قادرة على التجريد ولكنها غير قادرة على التعبير عنها بسبب قيود على أدواتها التشريحية.

ثم وضع الكاتب مقارنة شيقة بين شقي المخ والمهام الوظيفية التي يقوم بها كل شق ودعم كلامه ببعض التجارب التي أجريت على أساس تم قطع الجسم الثفني الذي يصل بين شقي المخ، كانت تلك التجارب تجرى على مرضى الصرع لتقليل من النوبات التي يصابون بها، كان قطع الجسم الثفني يقلل عدد النوبات ولكنه يخل بعمل المخ ويكون له آثار جانبية غريبة على المرضى.

الفصل الثامن: تطور المخ في المستقبل

يرى الكاتب أن المجتمعات البشرية غير محبة للإبداع ودائمًا ما تواجه اقتراحات التغيير بالشك، وكانت الثقافات القديمة الحادة رافضة تماما للتغيير، كما أن التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية الضخمة في القرون الأخيرة جعلت العالم يرتبك، فنحن لا نعيش في مجتمعات تقليدية ساكنة ولكن حكوماتنا تقاوم تلك التغيرات فنتصرف كأننا نعيش في هذه المجتمعات.

ثم بدأ الكاتب كالعادة يربط تلك الفكرة بالمخ والعقاقير الحالية المؤثرة في السلوك والمعدلة للمزاج والتي تعمل على مناطق معينة من مركب “ز” والجهاز الطرفي والقشرة المخية.

الفصل التاسع: قدرنا هو المعرفة

في هذا الفصل يتفكر الكاتب في البحث عن الذكاء خارج الكوكب، ويرى أن اقتراحات البعض أن وسيلة الحوار مع من هم خارج الكوكب ستكون التخاطر وهمًا ولا يوجد عليها أي دليل.

ويرى الكاتب أنه بمجرد نشأة حياة في بيئة مناسبة تتيح لها البقاء بلايين السنين فإن الكائنات الحية التي تعيش في تلك البيئة سيكون طريقها للتطور مختلف تمامًا عن طريقنا وذلك لاختلاف الظروف التي ستمر بها عن ظروفنا بالتأكيد، وأن أمخاخهم تختلف تشريحيًا وفسيولوجيًا وكيميائيًا وذلك لأن ماضيهم التطوري يختلف عنا وبالتالي سيتكون للمخلوقات خارج الأرض أجزاء مكتسبة بالتطور كما هو الحال مع الكائنات الأرضية.

ثم يوضح أهمية شغف المعرفة والسعي للوصول للحقائق وإطلاق العنان للتفكير ومحاولة كشف أسرار الطبيعة بالرغم من المعوقات التي سيلقاها المفكر في طريقه، وذكر مقوله برونوسكي في كتابه صعود الإنسان “نحن حضارة العلم وهذا يعني أن حضارتنا تلتحم فيها المعرفة والنزاهة وإن كلمة Science تعني المعرفة والمعرفة هي قدرنا”.

للمزيد من ملخصات الكتب

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

في صفحات هذا الكتاب استطاع الكاتب الكبير زكي نجيب محمود، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والكاتب أحمد أمين أن يأخذوا عقولنا في آلة الزمن؛ ليعودوا بنا آلاف السنين فنقابل أبرز العقول المنتجة للفكر، والحضارة، والتي تجلى فيها إعمال العقل لأول مرة في التاريخ تقريباً.

رصد الكاتبان ما أنتجته أدمغة هؤلاء، وكيف نظروا للوجود وما وراء الوجود والسعادة والشقاء وغيرها، كل ذلك وأكثر في ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية.

فلاسفة يونيا:

في يونيا أو أيونيا الواقعة في الجانب الغربي في آسيا الصغرى كانت بداية كل شئ، فلو دخلنا آلة الزمن لنصل لأول نقطة بدأ عندها التفكير حتماً سنسافر ليونيا؛ حيث التفكير في علل الكون.

من أين جاء الكون؟ وما السر وراء تصرفه على ذلك النحو؟ فهناك ولأول مرة لم تكن إجابات تلك الأسئلة مرتبطة بالأساطير، بل بالتفكير الباحث عن الحقيقة لا الأوهام.

1. طاليس

كانت السؤال الأول الذي دار في أذهان المفكرين الأوائل هو: ما هو أصل الكون؟ هل هناك مادة معينة تشكل منها الكون بأكمله؟ هذا ما حاول طاليس الإجابة عنه ووقع اختياره على الماء؛ فالماء تارة يصبح غازاً، وتارة صلب، وتارة أخرى سائل. لم لا يكون أساس كل المواد هو الماء باعتبار حالات المادة الثلاث؟ فباختلاف كمية الماء وحالته يختلف العنصر المتكون.

افترض طاليس أيضًا أن الأرض ما هي إلا قرص يطفو فوق سطح من الماء غير متناهي الأبعاد. وقد كان طاليس عالماً بالرياضيات؛ فقيل أنه علّم المصريين كيفية قياس ارتفاع الهرم عن طريق ظله. وكان مولعاً بالفلك فاستطاع أن يتنبأ بكسوف الشمس عام 585 قبل الميلاد.

قد ترى أن نظرياته تلك محض خرافة يزدريها العقل ولكن تذكّر أنه أول من حاول أن يفسّر الكون دون الاعتماد على أساطير الشعراء، ويصعب عليه بمقتضيات عصره أن يصل للحقيقة لكن على الأقل بدأ تشييد مفهوم “التفكير لتفسير الطبيعة”.

2.أنكسمندر

نفى تماماً اقتناعه بأن الماء هي الأساس، ولم يضع مادة بديلة واضحة. بالطبع لم يكن عمله الفلسفي مقتصر على نفي رؤية طاليس؛ حيث افترض أنكسمندر أن الأرض في الأساس كانت سائل أخذ يتغير في أحواله بين التجمد والتبخر حتى تكونت طبقات الهواء فالتقى البخار الساخن مع الثلج البارد فكوّنا الكائنات الحية.

اقتصرت الكائنات الحية في بدايتها على الكائنات البحرية فقط ثم أخدت المياه في الانحسار فطورت الأسماك أرجل بدل من الزعانف لاستيطان الأرض، وظلت ترتقى حتى وصلت لأرقى الكائنات وهو الإنسان. يظهر بوضوح التشابه بين نظرية أنكسمندر ونظرية التطور لداروين.

3. أنكسمينس

الجوهر من وجهة نظر أنكسمينس في الهواء؛ فهو يتكاثف ويكوّن السحاب وينزل كقطرات، ويتبخر، ومن الممكن أن يتجمد ويكون مواد الصلبة مثل التربة والصخور وغيرهم. وكذلك الهواء منتشر في كل أجزاء الأرض فهل يوجد على الأرض ما هو فارغ من الهواء؟! إذا -من وجهة نظر أنكسمينمس- الهواء هو الأصل وليس الماء كما رأى طاليس، ولا مادة غامضة كما رأى أنكسمندر.

الفيثاغوريون:

فيثاغورس

كثرت الحكايات والأساطير حول فيثاغورث الذي نُسبَ إليه العديد من المعجزات صعبة التصديق حتى صعب تتبع حياته، ولكن ظلت بعض الحقائق لا شك فيها حيث كان فيثاغورس رجل ينشد للزهد والورع وحياة التقشف هو وجماعته.

كانوا يدعون للإصلاح الديني ولا صلة بينهم وبين أمور السياسة، لكن تعاليمهم المتصوفة الغريبة جعلتهم محط لأنظار حكومة كروتونا -مكان إقامة الجماعة- فاضطهدتهم الحكومة وأحرقت مقرهم، وقتلت بعضهم وشردت البعض، لكن بعد فترة استطاعوا أن يعودوا من جديد.

تُنسب لتلك الجماعة اهتمامهم بالتفكير بشكل ضخم، فمن وجهة نظرهم فالتفكير هو سبيل لتطهير الإنسان. وقد اهتموا بالموسيقى والعلوم الطبيعية من الطب وغيره، وطبعاً معروف اهتمامهم بالعلوم الرياضية أشد اهتمام.

بحث الفيثاغوريون عن علة الأشياء، أو المشترك بينها فوجدوا أنه العدد؛ فجميع الصفات من لون ورائحة وطعم وشكل وغيرهم صفات تتغير ويختلف إدراكها من شخص لآخر، وهذا لا ينطبق على الأعداد؛ فيستطيع الشخص تصور برتقالة ملونة باللون الأحمر أو الأرزق أو حتى شفافة، لكن مستحيل أن يتخيلها بلا عدد.

كان الفيثاغوريون محقين في ذلك، ولكن يُعتقد أنهم غالوا في قيمة الأعداد حتى أنهم لم يميزوا بين عد الأمور الملموسة وبين الأعداد الهندسية؛ فسقط من حساباتهم أن الخط المستقيم يتكون من عدة نقاط وهمية، بل افتراضوا أن تلك النقط الوهمية حقيقية، فاعتبروا أن العدد هو أساس الكون مثله مثل الماء عند طاليس والهواء عند أنكسمينس.

افترض الفيثاغوريون أيضاً أن كل عدد يعبّر عن شئ مثل ستة فهو حياة ونشاط، أما سبعة عقل وصحة، إلا أن ذلك ممكن أن يكون من قبيل الرمز، فقد اشتهرت تلك الجماعة باستخدامهم رموز بلغت من الغموض ما بلغت في صياغة أقوالهم الحكيمة. استطاعت تلك الجماعة أن تجعل الفكر أكثر تجريدا ناظراً للأمور الأساسية للتعرف على ميزات وهوية المادة.

الإيليون:

يُنسب اسمها لإيلية وهي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا.

إكزنوفنس

كان جوالاً يطوف البلاد ناشداً الأشعار تلك الأشعار التي شكلت أساس لأفكار تلك المدرسة. فاقتبسها بارميندس وجعلها عمود الخيمة لمدرسته الفكرية. وكان من أهم ما ورد في إشعاره دعوته للإصلاح الديني حيث ازدرائه لآلهة اليونانيين حيث يُنكر على الشعب تشكيل آلهته في صورة البشر؛ قائلاً أنه لو كان الثور أو القرود حيوانات عاقلة لحسبت آلهتها في شكل ثور وقرد. معناه أن تشكيل اليونانيين لآلهتهم في شكل بشر نابع من قصور في خيالهم ليس إلا. وأنكر على شعرائهم كيف أنهم صوروا الآلهة تمكر وتخدع وتخطأ كما يفعل البشر، فمن وجهة نظره لا يصح أن يشبه الإله البشر بأي شكل من الأشكال لا في الصورة ولا في الفكر. وافترض إكزنوفنس أن الإله والعالم شيئ واحد لا شيئين. ورأى أن الأرض ستغرق في الماء ويفنى كل من عليها ثم تعود من جديد ثم تغرق مرةً أخرى. ورأى أن الشمس لا تدور حول الأرض أو العكس، بل أنها تتحرك في خط مستقيم حتى تفنى في الفراغ ثم تُخلق واحدة جديدة في اليوم التالي وقال هذا الكلام ليثبت فناء الشمس فإذا لا تصح أن تكون إله.

بارمنيدس

لا شيئ ثابت إذا لا شيئ حقيقي عدا الوجود. هذه الجملة تختصر فلسفة بارمنيدس حيث أنه تأمل من حوله فوجد أن كل شيئ نهايته الزوال أو التغير. فكل ما نشاهد متغير إذا لابد من وجود حقيقة مطلقة ثابته لا تتجزأ موجودة منذ الأزل لا تتغير مع الزمن تلك الحقيقة ما هي إلا الوجود. أنكر ما نشاهده من أشياء حولنا فكلها متغيره فانكر إدركنا لها، ولكن اعترف بما سماه الوجود الذي لا يدركه حس ولا حتى عقل. وقد رأي أن حقيقة الكون الوجود هذا فيه تجريد للمادية، لكنه ناقض نفسه حين صور الكون كرويا فكيف يكون الوجود غير مادة ويُصف بأنه كروي ويشغل حيز من المكان؟! أن في هذا لتناقض واضح.

زينو

لم يكن له آرائه المطلقة بل كل ما فعله هو إضافة البراهين على صحة وجهة نظر معلمه بارميندس. فأنكر كلاً من الحركة والكثرة. فمن وجهة نظرهه حقيقة الكون مطلقة مفردة لاحركة فيها جامدة، بمعنى أن كل ما نشاهد من تعدد وكثرة للأنواع في الأشياء في الكون ما هو إلا ظلال تخدعنا بها حواسنا فنحسبها حقيقةً لكنها ليست كذلك. والأمر ذاته ينطبق على الحركة.

الدليل على بطلان الكثرة:

لو افترضنا أن الكون مكون من أجزاء أصغر حجماً فذلك حتماً سيقودنا لتناقض صعب. حيث أن تلك الأجزاء بطبيعة الحال لابد لها من أن تتجزأ إلى ما هو أصغر منها فأصغر منها حتى تصل لأجزاء بالغة الصغر لا حجم لها إذا سيكون الكون كذلك بالغ الصغر لا حجم له؛ لأنه مجموع الأجزاء الصغيرة تلك. وكذلك سيكون الكون كبير جدا غير متناهي في الحجم حيث ستظل تلك الأجزاء الصغيرة تتجمع مع بعضها البعض إلى ما لا نهاية. هذا هو التناقض إذا فالكون لا يتجزأ، مثلما قال بارميندس أن الكون هو الوجود المطلق الغير قابل للتجزئة.

الدليل على بطلان الحركة:

إذا انطلق سهم من الرمح صوب هدف معين لابد له ان يكون ثابت في كل لحظة زمنية في مكان محدد حيث لا يمكن أن يكون في مكانين في الوقت ذاته؟! إذا مجموع اللحظات الزمنية ستكون السكون وليست الحركة. وهذا يعني ان الحركة وهم تختلقه حواسنا.

الغريب في الأمر ان تلك الحجج قد تظهر غريبة أو تافهة إلا أنها خلفت وراءها جدل لايزال قائم، وشارك فيه هيجل وكانت وغيرهم حول حقيقة الزمان والمكان. إذا تتبعنا ما نتج عن تلك المدرسة سنجد انها تؤمن بالوجود المطلق غير المتغيرفي الحركة ولا قابل للتجزئة وأن كل ما هو متغير ومتعدد هو بالضرورة وهم ليس إلا. وبذلك تكون شيدت تلك المدرسة عالمين متخلفين منفصلين أحدهما الوجود الحقيقي والآخر الوهم اللذي نراه فزادت من المشكلة تعقيداً.

هرقليطس

كان هرقليطس شخص أرستقراطي معتز بنفسه بشدة يرى العامة مجرد أنعام تؤثر الكلأ على الذهب، محتقراً قادة الفكر في عصره أمثال فيثاغورس، وإكزنوفنس. أنكر مبدأ الوجود المطلق الذي آمنت به مدرسة الإيليون؛ فهو مؤمن بأن لا شيئ ثابت لحظتين متتابعتين، حتى ذلك الجبل فهو يطرأ عليه التغيرات مع ما يحيطه من بيئة فيظهر أمامنا ثابت لكنه دائم التغيير لا فرق بينه وبين الحشرة الواقفة عليه دائمة الحركة. فهرقليطس اختلف مع تلك المدرسة التي قسمت الدنيا إلى الوجود المطلق الحقيقي والوهم الباطل المتشكل لحواسنا، أما هرقليطس فآمن بأن كل شيئ موجود دائم التغير فهو موجود وغير موجود في آنٍ واحد مثلا الهاتف الذي تقرأ به المقال بين يديك موجود لكنه دائم التغير. هذا ما أسماه بالصيرورة: هي التحول بين الموجود ولا موجود فلا يبقى هاتفك على حاله لحظة واحدة. كما أن هرقليطس بحث هو الآخر عن مادة أصل الكون كما فعل سابقيه وافترض أنها النار فالنار دائمة التغير تحول المواد من حالة لحالة، وما أصل الإنسان سوى النارالتي تتغذى على الهواء والمدركات الحسية ولذلك عقل الإنسان دائم النشاط حتى يتوقف تماماً عندما تنطفأ جذوة تلك النار، وهنا يموت الإنسان. لعلك لاحظت أن اختياره للنار نابع من إيمانه بالتغير الدائم للأشياء (الصيرورة) وهذا يظهر بشدة في النار.

إمبذقليس

لم يكن مبدعاً خالصاً فكان دوره أشبه بالمصلح ليس إلا؛ فقد أراد أن يوفق بين فلسفة هرقليطس والمدرسة الإيليون. فأمامه الأول مؤمن بالصيرورة والتغير الدائم للأشياء، والثاني مؤمن بالوجود المطلق الثابت غير المتجزأ. ليوفق بينهم افترض أن الأشياء جميعاً تتكون من ذرات ثابته تنطبق عليها مواصفات الوجود المطلق التي افترضتها مدرسة الإيليون، ولكن صورتها قد تتغير فتتحول لمادة أخرى ولكن بنفس الذرات فما يتغير هو الصورة والهيئة أما الجوهر من الذرات فهو ثابت. وافترض أمبذقليس أن أصل الكون يتكون من أربع مواد أساسية لا يتحول أحدهم للآخر، وعند اختلاطهم ببعض بنسب مختلفة تتكون مختلف المواد وهم: التراب، والماء، والنار، والهواء. لكن اختلاط تلك المواد يتطلب حركة وأمبذقليس قال أن تلك الذرات ثابته لا تتحرك مطلقاً فكيف يكون ذلك؟! لابد أن تكون طاقة الحركة خارجية في الحقيقة هما طاقتان تعملان ضد بعضهم البعض وهما الحب والبغض. ففي البداية كانت تلك المواد الأربعة مختلطة مع بعض ثم أخذت قوة البغض أو الكراهية تبعدهم عن بعض وأخذت العناصر المتشباهة تتجذاب فتكونت الماء والتراب والهواء والنار مستقلين ثم سيطر الحب مرة أخرى ليحاول أن يجمع بينهم ثم البغض وهكذا دواليك سيطرة تلك القوتين المتضادتين على الكون بين الجمع والانحلال.

المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد

ديموقراطيس

كان الغريب من أمبذقليس أنه لم يعط أي اهتمام لمبدأ الذرة الذي ذكره على الرغم من كونه أساس كلامه. كما أن فرض أن الحب والكره هما أساس الحركة الدائمة بين العناصر كان مبدأ شعري أكثر من كونه مبدأ منطقي فلسفي. فجائت المدرسة الفلسفية الجديدة لمؤسيسيها ديموقراطيس وليوسبس تقول أن المواد جميعاً تتكون من ذرات أولية وليست العناصر الأربعة التي ذكرها أمبذقليس تلك الذرات صغيرة جدا بحيث لا تدركها الحواس مطلقاً وباختلاف طريقة تراكب تلك الذرات تختلف خواص الأشياء وهيئتها. وقالوا أن الذرات تتصف بالصلابة بحيث لا تقبل التقسيم لأجزاء أصغر، ولها وزن وحجم ولها غلاف. وبين تلك الذرات في المادة يوجد الفراغ بمعنى أن المادة تتكون من ذرات وهي الممثلة للوجود وبينها فراغات وهي الممثلة للعدم. فبذلك ضمت المادة عنصري الوجود والعدم في آنٍ واحد. وكان تفسيرهم لمبدأ الحركة معتمد بشكلٍ أساسي على صفة الثقل التي امتازت بها الذرات حيث نتيجة لاكتسباها تلك الصفة فهي إذاً تسقط بشكل لا نهائي في الفراغ، وكلما زاد الثقل زادت سرعة السقوط -هذا ما ظنه الذريين- وعند تصادم تلك الذرات تتكون العوالم وليس عالمنا هو الوحيد الموجود فبناءاً على ذلك هناك عدة عوالم مختلفة. وكان فكر ديموقراطيس ملحد حيث من وجهة نظره الآلهة تولدت من خوف الإنسان من الظواهر الطبيعية المختلفة مثل الزلازل والبراكين وغيرها، وكنتيحة لذلك ظل الإنسان يلوم نفسه أنه هو من أغضب الآلهة أو أن تلك الآلهة يوجد بينها خصومة تضر بعالم البشر المهم أنه يوجد كائنات ضخمة جبارة هي السبب في تلك الظواهر.

أناكسجوراس

تأثر أناكسجوراس بآراء سابقيه أيما تؤثر فرفض بعض مبادئهم وطور من آخرين. فهو ينكر قول الذريين بأن المواد جميعاً على مختلف أشكالها تتكون من ذرات واحدة وأنكر مبدأ العناصر الأربعة مظهراً تعجبه في إعادة أصول المواد المختلفة لمواد أخرى فلماذا لا يكون الذهب ذهباً منذ الأزل؟ لماذا يرجعون تكوينه لعناصر أربعة أو لذرات؟! فوجد أن كل المواد هي نفسها منذ الأزل، وكانت خليطاً ثم أخذت في الانحلال والاتصال مراراً وتكراراَ، فلن تصل لحالة النقاء الخالص حيث لن يكون الذهب ذهباً دون شوائب من مواد أخرى وفي نفس الوقت سيظل ذهباً. والحركة ما هي إلا بحث المادة عن شبيهها، وهي لن تصل أبداً للنقاء الكامل. ولكن ما أصل تلك الحر كة من الأساس ما هي القوة المؤسسة لها؟ هنا يجيب أناكسجوراس أنه عقل رشيد منظم للكون يسيره في نظام، وأنه هو أصل ذلك الجمال الذي يملأ الكون فقد أنكر ظاهرة الحب والبغض التي قصها أمبذقليس وكذلك أنكر السقوط الحر على غير هدى الذي تبناه الذريين.

السوفسطائيون

كانت الأحوال الاجتماعية والسياسية في اليونان مناسبة لظهور تلك المدرسة؛ حيث بلغت الديموقراطية حد قبيح حتى أن بعض المدن التي تتكون من عدد محدود من الأفراد أصبحت تُحكم من قبل الأفراد جميعاً كلٌ يبحث عن مصلحته، ويبحث عن التفرد حتى كان الحكم للغوغاء ليس لإولي العلم. وهذا ما سمح بخروج تلك المدرسة التي تنكر المعرفة وتهتم بالخطابة. فتلك المدرسة ترى أنه يمكن أن تجهل مبادئ ما تتحدث فيه، ويكفيك الاستعانة بمحسنات اللغة من الاستعارة والكناية ومهارات الخطابة حتى تكون محنكاً فيما أنت بصدده رغم جهلك. وقد اتخذوا مبدأ الفترة الزمنية وقتها وهو أن الإنسان هو مقياس كل شئ فلا صح ولا خطأ مطلقين هناك فقط الإنسان. وقد رأوا أنه لا سبيل لمعرفة الحقيقة؛ نتيجة للاختلافات بين الناس في تأويل الأشياء. فمثلا منهم من يرى الجسم مكعب والآخر يراه كورة إذا لا سبيل لمعرفة حقيقة الجسم. بل لا وجود للحقيقة أصلا ذلك الجسم موجود في أذهاننا لا وجود له في الواقع. بمعنى أن إنكار تلك المدرسة لوجود الأشياء نابع من الاختلاف في التأويل بين الناس فهم يرون أنه لا وجود للخطأ بحكم أن كل أنسان هو المقياس إذا فلا خطأ، ولا حقيقة مستقلة، وبالأحرى المعرفة ما هي إلا وهم من وجهة نظرهم؛ فهم نحوا الحكم العقلي جانباً وتركوا الحكم للحواس التي تختلف في إدراكها للأشياء ونتجية لذلك الاختلاف أنكروا وجود الأشياء من الأساس.

سقراط

كان رجل الحوار؛ حيث كان يطوف الأسواق والتجمعات يحاور الناس ويتحدث معهم كاشفاً نقاط قوة وضعف أفكارهم. كان رجلاً محب للحكمة غير معترف بتميزه فدائماَ ما كان يقول: (أنا أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئ) كانت نهايته مأساوية فاتهم بالإلحاد والسفسطة وإفساد الشباب فحُكم عليه بالإعدام بالسُم ومات. لكنه خلف ورائه إرث أعاد إحياء الفلسفة، والتفكير بعدما قتلوا على يد السوفساطئيين. حيث ذهب السوفساطئيين كما عرفنا أن الإدراك الحسي هو أساس كل شيئ وهذا ما نفاه سقراط حيث أن ذلك الإدراك ما هو إلا إدراك جزئي للأشياء لكن إدراك الصفات المميزة للمواد والأشياء، وحصرها تلك الصفات التي تشيع بين أفراد نفس النوع هو بحد ذاته المعرفة. فمثلا تختلف الأحصنة في عدة صفات مثل اللون والحجم وغيرهم وهم يعدون من المدخلات الحسية دورالعقل هنا البحث عن أمور مشتركة مثل الصهيل حتى يحدد تعريف الحصان ويحصل على المعرفة. فبذلك كان طريق سقراط للمعرفة هو التجريد من المتغيرات أو الصفات الجزئية للوصول لوصف كلي يضمن المعرفة القويمة بالشيئ. فبذلك كان الإدراك العقلي للأشياء القائم على التجريد فهو أساس المعرفة. كانت تلك المفاهيم من أهم ما أنتجه سقراط للعقل البشري ليمثل النور بعد غياهب جهل السوفساطئيين، لكنه لم يقتصر على ذلك فأخذ يتسائل ما هي الفضيلة؟ كان عمل سقراط في تعريف المعرفة هادف لمعرفة الفضيلة فبالنسبة له الفضيلة والمعرفة ملتصقين ببعض؛ بحيث أنه عندما يدرك الشخص الخير، ويفهمه ويدرك الشر والفساد ويفهم عواقبهما مؤكد أنه سيسلك طريق الخير ويترك طريق الشر. إذا فالفضيلة قائمة على المعرفة أو الإدراك العقلي. بذلك يكون سقراط وقع في الزلل حيث أنه لم يفهم أن الإنسان أيضاً يحمل العاطفة والشهوة ليس العقل وحده؛ فلا تكفي المعرفة العقلية لأداء الفضيلة بل لابد من وجود إرادة للتغلب على الشهوات. وبذلك كان إرث سقراط متمثل في نظريته المعرفية وفلسفتة في الفضيلة.

أفلاطون

نشأ في ظروف تسودها الفوضى في المجتمع الأثيني حيث الحرب الشديدة مع الفرس وفساد كلاً من الديموقراطية والأرستقراطية. وكان كثير الترحال يتعلم عن مختلف المدارس الفسلفية المختلفة من خلال تلك الرحلات فقد عرف فلسفة هرقليطس، وسقراط فقد كان أفلاطون تلميذاً مخلصاً له، والفيثاغوريين، والمدرسة الإيلية. واستقر في أثينا في المرحلة الأخيرة من حياته وهناك أسس أكاديمية أفلاطون. فقد كان أفلاطون أول فيلسوف تأمل في جميع مناحي الحياة مثل أساسها ومن أين جاء الكون، الأخلاق، السياسة، الفن….إلخ فخلف وراءه منظومة فلسفية متكاملة لها ما لها وعليها ما عليها. وقد امتازت كتبه بأسلوبها الحواري المميز واعتماده في بعض الأحيان على الشعر والأساطير والقصص التي غلفت بعض النقاط في فلسفته بالغموض. وقد كان أفلاطون مكملاً لكلام أستاذه في نظرية المعرفة، وله فلسفته الخاصة المعتمدة على المُثل، كما أنه له طريقته في النظر للإنسان والدولة.

نظرية المعرفة

بدأ أفلاطون يهدم كلام السوفساطئيين من أساسه عن طريق الحجج المناسبة فمثلاً:

1.إذا كان لا وجود للخطأ لأن كل شيئ مقياسه الإنسان فماذا لو قال أحدهم أنه سيصبح وزيراً بعد عام وانتهى العام ولم يصبح شيئاً هل سيكون توقعه بهذا الشكل صحيح؟ّ!

2. ما الفرق إذا بين الإنسان والحيوان إذا كانت المعرفة يتم الحصول عليها من قبل الحواس فقط دون تدخل عقلي؟! وكيف يكون الإدراك لو كان عن طريق الحواس فقط ونحن نعطي الأشياء مسمياتها ونتعرف عليها من خلال الإدراك العقلي؛ فالعين وحدها غير كافية للإدراك؟!

وغيرهم العديد من الحجج التي ساقها أفلاطون ليثبت خطأ نظرة السوفساطئيين ويثبت كلام معلمه حول نظرية المعرفة.

نظرية المُثل

كما اتضح في السطور السابقة أن أفلاطون سار على خطى أستاذه سقراط بأن الحقيقة في المدركات العقلية المجردة. لكن أفلاطون ذهب لأبعد من ذلك حيث رأى أن تلك المدركات المعرفية، أو الحقائق لابد أن يكون لها وجود حقيقي. من وجهة نظره كيف نسمي الحقيقة حقيقةً إن لم يكن لها وجود حقيقي؟! بمعنى أن إدراك العقل للحصان يعتمد على صفات مشتركة مجردة من التغيير، وهي ما تُسمى معرفة إذا فلابد لوجود مثال لتلك المعرفة وفي تلك الحالة سنقول عنه (مثال الحصان). وعندما يصف الإنسان بعض الأشياء بصفة الجمال مثل وصف الوردة أو القمر أو مشهد الغروب… إلخ لابد من وجود مثال للجمال، كذلك مثال للخير والشر والقبح والزريلة وهكذا دواليك. تلك الأمثلة متواجدة في عالمها المستقل متصفة بعدة صفات مثل الأزلية وأنها غير محدودة بزمان ولا مكان وأنها عناصر مستقلة لم يتسبب في وجودها شيئ وغيرها من الصفات التي تدل على التجريد والعموم. وشرح العلاقة بين تلك الأمثلة وأنها ممكن أن يكون بعضها منبثق من الآخر فهناك أمثلة دُنيا منبثقة من أمثلة أخرى أعلى منها وهكذا حتى نصل لقمة البناء الهرمي وهو (مثال الخير) فمنه كل شيئ وإليه كل شيئ.

رأيه في العالم المحسوس

العالم المحسوس ما هو إلا صورة لعالم المُثل، وقد وقع أفلاطون في مأزق حينما وصف المُثل بصفات تجريدية؛ فلا يمكن للمثل أن تخلق عالماً من تلقاء نفسها لأنها بذلك ستتخذ صفات التغيير التي يتصف بها العالم المحسوس. فرأى أفلاطون أن العالم قد انبثق من ثلاثة شركاء الأول هي المُثل والثاني هو المادة -قد استخدام لفظ المادة للتعبير عن العدم فالمادة عنده هي ما ليس لها صفات أو أشكال وقد فسرها البعض أنها الخلاء- أما الثالث فهو الإله الذي طبع المادة على صورة المُثل فالناتج لم يكن عدم مطلق، ولا وجود مطلق إنما خليط بين الإثنين وهنا كان العالم المحسوس. بالطبع رأى الكثيرين أن أفلاطون لم يحل مشكلة تكون الكون، إنما يضيف عالم جديد وهو المُثل الذي يحتاج لتفسيرات هو الآخر وبذلك زاد من المشكلة تعقيداً.

النفس البشرية

اشتهر أفلاطون بنظرته للنفس الإنسانية؛ فقد قسم النفس لثلاثة أقسام أرقاها العقل، والنبيل في اللاعقلاني أو العاطفة الصادرة من القلب مثل الحب والشجاعة وغيرهم، والجزء الوضيع وهو الشهوات البهيمية. وينبغي على الإنسان أن يحتكم لعقله ويضيق الخناق على شهواته البهيمية. وقد أعتقد أيضا بالتناسخ وهي أن النفس بعد الموت لا تفنى بل تسكن كيان آخر محدد بتصرفاتها فلو كان الشخص شهوانيا فستتناسخ النفس بعد ذلك لتسكن حيوناً وهكذا.

رأيه في الأخلاق

لا داعي للذكر أن افلاطون اختلف مع السوفساطئيين في وجهة نظرهم حول الخير والشر والأخلاق؛ فلم يرى أن تلك الأمور محكومة بأحكام شخصية فقط لا مقياس لها. وقد رأى أن اكبر هدف من معرفة الخير وتأديته هو السعادة. والسعادة بالنسبة له متمثلة في أربع نقاط أولها العلم بعالم المُثُل الذي أرسى قواعده ثانيها التأمل في الصلة بين العالم المحسوس والمُثُل عن طريق التأمل في جمال وتناسق العالم من حولنا، ثالثاً التثقف بمختلف العلوم، رابعاً التمتع باللذائذ النقية الطاهرة والترفع عن ما انحط منها. وقد اختلف عن معلمه سقراط حول تعريف الفضيلة فلم يحسب أن الفضيلة هي المعرفة إنما لخصها في أربع نقاط: الأولى هي فضيلة العقل وهي الحكمة، الثانية فضيلة الجزء الشريف من الجزء اللاعقلاني هي الشجاعة، الثالثة هي العفة وضبط الشهوات، رابعاً هي اجتماع تلك الصفات لإنتاج العدل.

رأيه في الدولة

كان له في السياسة وتشييد دولة سعيدة ذاع طويل عبر عنه في “كتاب جمهورية أفلاطون” الذي تضمن معانى العدل والرزيلة ووجهة نظره في الحقيقة والنفس وغيرها. وفي هذا الكتاب أرسى دعائم تنظيم الدول المعتمدة على تقسيم الدول لثلاثة أقسام مشابه لتقسيمه للنفس فقد رأى أن من تميزت عقولهم كانوا الفلاسفة ولهم أمور الحكم، ومن تميز الجزء النبيل اللاعقلي لديهم متمثلاً في الشجاعه وحب الدولة كان الجيش، أما ما عدا ذلك فهم العامة من صناع وتجار وغيرهم. وقد وضع أفلاطون أسس قوية لتربية الأطفال بدنيا، وذهنياً. وكان يرى أنه لابد من حصر المؤلفات والأشعار وتدقيقها لنتخلص من الرزائل فيها، ونتخلص من المؤلفات التي تحط من قدر الآلهة وتصفهم بالغدر والطمع وغيرها من قبيح الأوصاف. فقد يرى أن أحد دعائم الدولة أن يكون أصحابها مؤمنين بالإله وأن يقتنعوا أن غضبه واقع على من يخالف مبادئ الدولة. وقد رفع أفلاطون من قدر الدولة على حساب الفرد؛ فالأفراد بالنسبة له جزء من نسيج المجتمع يعملون لصالحه، وليس لصالح أحلامهم وطموحاتهم. وقد بالغ في تلك النظرة حتى أنه أنهى وجود الأسرة المستقلة في بعض الطبقات فلا زوجة خاصة، ولا حتى أولاد يعرفون من أمهاتهم أو أبائهم؛ لأن الدولة هي من ستتولى تربيتهم منذ الولادة. كل هذا وأكثر شرحه افلاطون في كتاب جمهورية افلاطون الذي لم يسلم من التحليل والنقض من وقتها حتى الآن.

أرسطو

كثيراً ما ينصب الناس أرسطو منصب الخصم لأفلاطون وفي الحقيقة أرسطو كان أحد تلامذة أفلاطون، لكنه كان ذي شخصية مستقلة يزن ما يسمع بعقله ويميز صحيحه من خطأه وهذا ما فعله مع فلسفة أفلاطون؛ فلم يشربها شربا بغير تعليق أو مراجعة، بل على العكس تماماً. نتيجة لذلك استطاع أرسطو بناء منهج خاص به مختلف عن سابقيه.

المنطق

تشهد الفلسفة أنه لا منطق قبل منطق أرسطو؛ فهو من أول من عُني بصحة القول والعبارة ووضع لها المقاييس. والمنطق نوعان إما منطق الصورة وإما منطق المادة وقد اهتم أرسطو بمنطق الصورة مشيداً إياه بأكمله، وكل ما بين أيدينا في منطق الصورة هو من إنتاج أرسطو لم يضاف إليه إلا القليل، أما منطق المادة فلم يُفتح بابه إلا حديثاً.

ما بعد الطبيعة

لم يقتنع أرسطو بفسلفة أفلاطون حول وجود كيان يُسمى المُثل وأن كل حقيقة معرفية لابد لها من تجسيد. فقد رأى أن ألفاظ مثل العدل والظلم والجمال والقبح…إلخ لا حرج في أن تكون مجرد معانٍ عقلية ليس لها كيان مستقل كما إدعى أفلاطون. ورأى أرسطو أن خلق أفلاطون لعالم المُثل لم يحل لغز الوجود بل أضاف ألغاز جديدة غير قابلة للتمحيص والدراسة. وشيد أرسطو وجهة نظره المستقلة فرأى أن كل ما في الوجود هو عبارة عن المادة أو الهيولي والصورة. أما الهيولي فهو العنصر منعدم الصفات فلا لون ولا رائحة ولا شكل ولا أي شيئ فجاءت الصورة فاسبغت عليه تلك الصفات. وعلى عكس ما فعل أفلاطون حيث فصل بين المادة والمُثل أرسطو افترض أن لا هيولي بلا صورة ولا صورة بلا هيولي. والهيولي يُمكن أن يكون أي شيئ بمعنى أن الهيولي قد يكتسب صورة معينة فيكون ذهب ولا يمنع أن يكتسب صورة أخرى فيكون فضة المهم أن كل ما في الوجود ما هو إلا اتحاد بين الصورة والهيولي. وقد رأى أن كل ما في الوجود يتحرك لغاية وقد عرف تلك الغاية على أنها الإله فهو غاية الغايات وإليه يسعى كل موجود. وأمعن أرسطو في الحديث عن الإله ونسب له العديد من الصفات؛ فالإله -كما قولنا- بالنسبة لأرسطو هو غاية الغايات فهو من يجذب العالم في اتجاهه، وهو منتهى الرُقي والرُقي ما هو إلا إمعان في الصورة وتقليل من الهيولي، إذا فالله صورة خالصه مفكرة فهو فكرة الأفكار وأكملها يعيش في سعادة أبدية وفي فكر لا ينتهي.

الطبيعة

على عكس أفلاطون لم يهمل أرسطو الكون المحسوس إنما اهتم به جداً وعُني بتفسيره وتقسيمه؛ فقسم الموجودات في تسلسل هرمي طبقا للنشوء والارتقاء. لكنه لم يرى أن الأرقى تطور للأدنى بمعنى أنه لم يرى أن الإنسان تطور لسابقيه، فمن وجهة نظره الإنسان موجود وجود أزلى مثله مثل الباقي لم يتطور نوع من آخر إنما يتقدم نوع على الآخر حتى نصل لأعلى مراحل التقدم وهو الإنسان. وذلك التسلسل تتحرك فيه الموجودات بين طرفين الأدنى هو الهولي، والأعلى هو الصورة وبينهما يتم التقسيم. ولا يمكن أن نفهم من ذلك التسلسل أن ما هو أدنى من الإنسان يكون الإنسان غايته، ومسخر له. فالإنسان قادر على التحكم فيما هو أدنى منه باستخدام عقله، ويسخره لخدمته ولكن لا يعني ذلك أن ما أدنى له منعدم الغاية، لا بل كلٌ له غايته إليها يسعى في حركة دائمة حتى إن لم يكن سعياً مبنياً على العقل بل الغريزة لكنه في النهاية سعيٌ لغاية. وقد وضح أرسطو أسباب الانحطاط وأسباب الرقي، حيث أن كل الكائنات العضوية أول ما تسعى إليه هو النجاة والحياة عن طرق الغذاء، ثم استمرار نوعها عن طريق التناسل. وما اقتصر من الكائنات على أداء تلك الوظيفتين فقط كان الأدنى مثل النبات، وكان الحيوان أرقى من النبات لقدرته على الحس والاستمتاع باللذة والهروب من الألم، أما الإنسان فقد حقق كل ما سبق وأضاف استمتاعه بالفكر لذلك كان أقرب المخلوقات للإله.

الأخلاق

رأى أرسطو أن أفلاطون بالغ في عداوته لشهوة وغريزة الإنسان، حيث أن تلك الشهوة أوالاحتياجيات الغريزية هي من مكونات الإنسان، واسئصالها بمثابة هدم للإنسان إذا لابد من وجود عقل يتحكم بها لا عقل يقتلها. وقد اختلف أيضاً مع سقراط حين رأى أن الفضيلة هي المعرفة أن بمجرد معرفة الإنسان للفضيلة سيفعلها لا محالة فرأى أرسطو أن هذا الكلام غير دقيق فقد تتغلب الشهوة على العقل وتبتعد عن الفضيلة التي تم إدراكها فلابد من معرفة الفضيلة وتوافر إرادة تحقيقها.

الدولة

اختلف أرسطو هنا أيضا مع أفلاطون؛ فأفلاطون قتل مصلحة الفرد لصالح الجماعه فها هو يجعل طبقة الحكام يعيشون عالة على أموال الناس وفي بيوتٍ بدائية، حتى أنه قتل الأسرة فلا زوجة مستقلى ولا أولاد. رأى أرسطو أن في ذلك خطأ فلابد من وجود أسرة ولابد من أن يحقق الفرد ذاته مع تحقيقه لمجتعمه.

ما بعد أرسطو

لاجديد…انحدرت الفلسفة بشدة بعد أرسطو نتيجة لما تعرض له المجتمع من غزو وتشتت في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فليست الحياة الفكرية بمعزل عن الحياة المادية. وعليه كان اهتمام العقول في الهروب من شرور الحياة بالبحث عن السعادة والأخلاق. مات البحث في الطبيعة، وعلة الوجود، وأصبحت النظرة للإنسان مركزية سطحية وظلت هكذا لفترة طويلة من الزمن كل ما تم فيها هو إعادة إحياء بعض القديم ليس إلا. ومن أشهر تلك المدارس التي جائت بعد أرسطو: الرواقيون والأبيقوريون.

إقرأ المزيد:

ملخص كتاب مغامرة العقل الأولى للكاتب فراس السواح

لوحة مدرسة أثينا

متلازمة الرأس المنفجر : أصوات تحرمك النوم

يشكّل النوم حوالى ثلث حياتنا البشرية، وهو حاجة جسدية أساسية تكاد تفوق في أهميتها المأكل والمشرب. فالنوم لا يلبّي فقط حاجتنا للاسترخاء والراحة، بل هو يؤمن التوازن في وظائف الدماغ وأعضاء الجسم، وأي خلل يصيبه يؤثر على الصحة الجسدية والنفسية. لذلك أبدت العلوم الطبية اهتمامًا أكبر باضطرابات النوم، وواحدة من هذه الاضطرابات هي متلازمة الرأس المنفجر. وهي متلازمة غريبة تعرقل النوم بهلوسات صوتية مرعبة. فما هي أعراض متلازمة الرأس المنفجر؟ ومن يُصاب بها؟

ما هي متلازمة الرأس المنفجر؟

متلازمة الرأس المنفجر، التي تُعرف بالانكليزية ب«Exploding Head Syndrome» أو EHS، هي اضطراب في النوم نتيجة هلوسات سمعية تحدث عند الانتقال من حالة الصحو إلى حالة الغفو أو العكس، وتكون الأصوات المُهَلوسة غالبًا قوية ومزعجة جدًا، ورغم أنها في العادة تكون غير مؤلمة، غير أنها قد تحمل تأثيرًا كبيرًا على حياة الفرد وتتطلّب في هذه الحالة تدخلًا طبيًا.

وُصفت الحالة الأولى من المتلازمة في عام 1920 من قِبل الطبيب البريطاني روبيرت أرمسترونغ – جونز. وتم استخدام كلمة “الرأس المنفجر” لأول مرة في عام 1989 من قبل بيرس الذي وصف حالة 40 شخص يشعرون بالأعراض نفسها.

ما هي أعراض متلازمة الرأس المنفجر؟

بحسب التصنيف الطبي الدولي لاضطرابات النوم (International Classification of Sleep Disorders- 3rd edition)، يتضمّن تشخيص متلازمة الرأس المنفجر ثلاثة أعراض أساسية:

– سماع صوت مفاجئ أو الاحساس بانفجار مصدره الرأس في أول فترات النوم أو عند فترات الاستيقاظ في الليل.
– الاحساس بقلق وخوف شديدين (يكون مصحوبًا عادةً بسرعة في دقات القلب وفي سرعة وقع التنفس).
– عدم الإحساس بالألم.

تختلف الأصوات المُهَلوسة بين الأشخاص المُصابين بالمتلازمة وقد تم تشبيهها من قِبلهم ب: صوت انفجار قوي، أو صوت إطلاق نار، أو دوي الرعد، أو زئير حيوان مفترس، أو صوت إغلاق باب بعنف، أو صوت صرخات بعيدة، أو أصوات أزيز التيار الكهربائي وغيرها من الأصوات. وهي غالبًا تدوم للحظات قليلة.

تكون هذه الأصوات مصحوبة أحيانًا بهلاوس بصرية (كتوهّم وجود ضوء قوي أو ومضات سريعة من الضوء)، وتشنّج في بعض العضلات خصوصًا في عضلات الأطراف.

ويشعر الفرد بعدها بأعراض تشبه نوبة الهلع ك الاحساس بالخوف الشديد وعدم القدرة على التنفس وتسارع ضربات القلب والتعرق وغيرها. وهي بالتالي تعطل النوم في كثير من الأحيان.

متلازمة نادرة أو شائعة؟

لا يوجد دراسات كافية لتأكيد مدى شيوع متلازمة الرأس المنفجر. ففي حين يعتبر البعض أنها متلازمة نادرة، يرى آخرون أنها في كثير من الأحيان تبقى بلا تشخيص، لذلك قد تكون أكثر شيوعًا ممّا نعتقد. وقد أثارت بعض الدراسات الحديثة الصدمة بعد أن بيّنت انتشار متلازمة الرأس المنفجر عند الطلاب الجامعيين.

 وقد يكون السبب في هذا التباين هو اختلاف عدد نوبات المتلازمة بين الأشخاص، بين نوبة واحدة خلال عدة أشهر (في هذه الحالة تبقى بلا تشخيص ولا تتطلّب العلاج)، وبين عدة نوبات في الليلة الواحدة (حينها تحتاج للعلاج).

تُصيب المتلازمة الأشخاص من كل الأعمار، لكنها أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين بلغوا الخمسين عامًا أو أكثر.

ما هي أسباب المتلازمة؟

لا تزال أسباب المتلازمة المجهولة، لكن تمّ طرح عدة نظريات لتفسيرها. أولها تفترض خلل في عمل التشكل الشبكي في الدماغ، وهو مسؤول عن تنظيم ايقاع النوم. فيؤدي هذا الخلل إلى نشاط دماغي زائد في الفترة الانتقالية بين اليقظة والنوم، فيخلق هذه الهلوسات السمعية. نظرية أخرى تفترض وجود نوبات جزئية في الفص الصدغي. هذه النظريات وغيرها تفترض أن المشكلة تكمن في إحدى وظائف الدماغ.

لكن هناك نظريات أخرى تعتبر أن المتلازمة قد تكون ناتجة عن أمراض في الأُذُن، خصوصًا في الأذن الوسطى والداخلية.

تجدر الإشارة إلى أن المتلازمة قد تكون مرتبطة بالتوتر والقلق. وهي أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين يظهرون مشاكل واضطرابات سابقة في النوم.

ما هو علاج متلازمة الرأس المنفجر؟

تختلف حاجة الأشخاص المُصابين بمتلازمة الرأس المنفجر بحسب عدد النوبات التي يشعرون بها.

فإذا كانت النوبات نادرة (مرة واحدة كل عدة أشهر مثلًا)، يكتفي العلاج بمعرفة الفرد بأن الذي يعاني منه هو متلازمة مشخصة، وتصيب أشخاصًا آخرين وهي لا تشير إلى خلل نفسي أو مرض دماغي خطير. ويُنصح إجمالًا بالتخفيف من حدة التوتر والقلق خصوصًأ قبل النوم، ومحاولة تنظيم أوقات النوم.

أما إذا كانت النوبات كثيرة (أكثر من مرة في أسبوع واحد أو في ليلة واحدة)، فهي في هذه الحالة تؤثر بشكل كبير على كمية ونوعية النوم الذي يحصل عليهما الشخص، وبالتالي على إنتاجيته ووظائفه النفسية والجسدية. من هنا، تظهر أهمية التدخل العلاجي الذي يتضمن في العادة أدوية معينة كمضادات الاكتئاب وأدوية الصرع وغيرها، وتكون فعالة غالبًا إلى حد اختفاء الأعراض نهائيًا.

رغم أن متلازمة الرأس المنفجر غير خطيرة، غير أنها لا شك تجربة تثير الخوف والقلق عند من يُصاب بها. وعلى الرغم من أن التقدم الطبي جعلها سهلة العلاج، لكن تبقى التوعية عنها مهمة لتشجيع الأشخاص المُصابين بها لفهم حالتهم وتلقي المساعدة التي تلزمهم لتخطيها.

المصادر:

NCBI
Journal of Clinical Sleep Medicine
Wiley Online Library
Science Direct

ملخص كتاب دروس من التاريخ للمؤرخ ويل ديورانت

ملخص كتاب دروس من التاريخ للمؤرخ ويل ديورانت

بعد الانتهاء من موسوعتهما الضخمة (قصة الحضارة) التي تعد من أهم المراجع في التاريخ على الإطلاق، سجل المؤرخ ويل ديورانت وزوجته أريل ملاحظاتهما عن الأحداث التاريخية، والتعليقات التي يمكنها أن توضح الأوضاع الحالية والاحتمالات المستقبلية وطبيعة الإنسان وسلوك الدول، وحصراها في هذا الكتاب الذي نضع بين يديكم ملخص ما جاء فيه في هذا المقال.

التاريخ والأرض

يبدأ ديورانت الدرس الأول من دروس التاريخ بالتأمل في الأرض والجيولوجيا، وبالإشارة إلى التواضع الذي يجب أن يمنحه تفكر البشر في تاريخ الجنس البشري على هذا الكوكب؛ فرغم أن الإنسان استطاع السيطرة على الكثير من الظواهر الطبيعية واتقاء شرها بل وتطويعها لخدمته أحيانًا، فإن مُذنّبًا يصدم الأرض بإمكانه إنهاء حضارة كاملة. كما أن الجيولوجيا لها الفضل في قيام الحضارات وليس إنهاؤها فحسب؛ فإن حضارات عظيمة لم تكن لتقوم لولا وجود نهر في بقعة ما في الأرض. ومع هذا فإن تطورالتكنولوجيا بمرور الوقت يقلل من أثر البيئة وسطوتها على الحضارات. فالإنسان في النهاية، لا البيئة.. هو من يصنع الحضارة.

التاريخ والبيولوجيا

التاريخ البيولوجي للإنسان، هو الآخر، يحثه على الشعور بالتواضع؛ ويذكره بدوافعه الأساسية في التكاثر والصراع على البقاء. فقد يحاول فردٌ معاندة قانون البقاء، لكن الجماعة والنوع سيخضعون له في النهاية. فالحياة إنما هي منافسة، والتعاون ما هو إلا حالة استثناء.
ويعلمنا تاريخ الكائنات أن البيولوجيا لم تقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ فالبشر لا يولدون أحرارًا ولا متساوين. بل إنهم محكومون بتنوعهم حسب الجينات والعوامل النفسية والجسدية. فالطبيعة تحب الاختلاف لأنه يمكّنها من اختيار من الذي سيبقى. أضف إلى هذا الانتقاء، الطبيعي، الانتقاء الصناعي الذي تفرضه تصورات المجتمع وثقافته.

درسٌ آخر من البيولوجيا والتاريخ هو أن الطبيعة لا تهتم بالنوع والحضارة بقدر ما تهتم بالكم والتكاثر؛ فالمزية الأهم طبيعيًا هي القدرة على التكاثر وتمرير الجينات، لا تمرير الثقافة.

التاريخ والأعراق

يبدأ الكاتب هذا الفصل بعرض بعض الادعاءات بتفوق أعراق معينة كالعرق النازي أو الأبيض، ثم يعارض هذه الادعاءات بذكر حضارات عظيمة نشأت من أعراق أخرى غير هذه، كالحضارة الصينية وحضارة الآزتك أو الحضارة الإسلامية. ويتطرق إلى مسألة داكني البشرة، مشيرًا إلى أن هذا العرق لم تساعده الجغرافيا والمناخ لبناء الحضارات لكنه نبغ في أماكن اخرى عاش بها.

وينوه الكاتب بنقطة أخرى هي أن العرق إنما هو تمهيدي لا خلاّق. فالحضارات الجديدة تنتج عن اختلاط أعراق مختلفة، بدورها تولد عرقًا جديدًا ذا ثقافة جديدة ينتج عنها حضارة. فالثقافة بناء علی ذلك، هي من ينتج الحضارة وليس العكس.

التاريخ والشخصيات

تبنى المجتمعات على طباع البشر. فالدستور قبل أن يُكتب على الورق، إنما يكتبه دستور الإنسان نفسه.

الطبيعة البشرية لها مشاعر وغرائز منها ما هو إيجابي وآخر سلبي.. العمل يقابله الراحة، والإبداع يقابله التقليد. لم يتغير الإنسان في التاريخ المسجل بشكل يذكر على مستوى الغرائز والدوافع، وما تزال أهدافه بالمجمل هي نفسها التي وجدت قبل ألفي عام مثلًا. من رغبة في التزاوج والسلطة وما إلى ذلك.. التغيرات التي تطرأ إنما هي تغيرات اجتماعية حسب الظروف والتحديات التي تتطلب الحلول. وهنا يأتي دور الشخصيات العظيمة، شخصيات الذين يسبقون أزمنتهم وأمكنتهم لتغيير مجرى الأمور، مستغلين في ذلك بعد النظر أو العلم أو الذكاء.

ولا يعمل الإبداع والتقليد كل ضد الآخر كما يبدو للوهلة الأولی، بل إنهما متكاملان تمامًا، فوجود الفئة التابعة المذعنة وجود مهم، والصراع بينها وبين فئة المبدعين صراع مهم كذلك. فهم يساعدوهم على تحقيق أهدافهم الثورية تارة، ويمنعوهم ويثبطوهم تارة أخرى، وهذا ضروري لأن الأفكار الثورية ليست بالضرورة أفكارًا مناسبة، وقد يكون اعتراض العامة في بعض الأوقات مفيدًا ومنقذًا.

التاريخ والأخلاق

الأخلاق هي القواعد التي يحث عن طريقها المجتمع أفراده على ممارسة سلوكيات ما. ويشير الكاتب في بداية الفصل إلى أن الأخلاق تتغير بالزمان والمكان، لكنها تتفق بجوهرها.

فما كان محمودًا في مرحلة الصيد من تاريخ الإنسان، من القدرة على القتل والتحلي بالشراسة والطمع، بهدف توفير الأمان، لم يعد مرغوبًا به في مرحلة الزراعة.. وتعدد الزوجات الذي كان أمرًا جيدًا في مرحلة الصيد؛ بسبب معدل موت الذكور المرتفع..أصبح غير محبذٍ في المرحلة الزراعية. كما أن أسلوب المرحلة الزراعية التي تقدس الأسرة والأطفال وتحبذ الزواج المبكر، لم يعد مناسبًا في المجتمعات الصناعية التي تتسم بالنزعة الفردية، وعدم الرغبة في تكوين الأسرة أو الزواج.
كذلك الأمر بالنسبة إلى النصوص الدينية، التي تتضاءل سلطتها في المجتمعات الصناعية، حيث تهيمن سلطة العلم.

نقطة أخرى ينوه بها الكتاب هي أن الحروب قد تؤدي إلى تراخٍ في الأخلاق، ذلك أن القوي يبدأ في تحديد الصواب، وفرض أخلاقياته. ويختم الكاتب هذا الفصل بالتأكيد على فكرة أن الانحلال الأخلاقي والفساد له نصيب في كل الحضارات والأزمنة، ويضرب له أمثلة في الملكية الإنجليزية وعصر النهضة وغيرها. فلا يتفق مع من يدعون باستمرار أننا نعيش أشد فترات الانحلال.

كما أن كتب التاريخ تركز على الأحداث المثيرة، وهذا قد يبتعد بنظرنا عن أوقات عاشت فيها أفراد وجماعات وأسرٌ بسعادة وإخلاص بعيداً عن كل الشرور والخيانة والفساد الذي تحشده كتب التاريخ.

التاريخ والدين

يبدأ الكاتب هذا الفصل بالتنويه بأهمية الدين في توفير العزاء والراحة النفسية، وإضفاء القدسية للعلاقات والسمو بها. لكنه رغم ذلك يعتبر أن الأخلاق لم تكن أساس الدين، إنما هو الخوف من الطبيعة وظواهرها..وأن الكهنة استغلوا هذا الخوف لفرض قوانينهم وأخلاقياتهم. وقد ظلت الكنيسة تشكل السلطة الأعلى حتى بدأت لاحقًا عصور التشكيك، بالإضافة بزوغ الحركات القومية، الأمران اللذان بدءا يفقدانها مكانتها.

وذكر ديورانت مواضع كانت السلطة الدينية فيها مصدرًا مهمًا للأخلاق الحميدة وأخرى شكلت فيها أدواتٌ للفساد، واعتبر أن حل الإشكال بين الدين والفلسفة لا يكمن إلا في أن تعترف الفلسفة أنها لا تستطيع أن تجد مصدرًا ثابتًا بديلًا للأخلاق مكان الدين، بينما يتوجب علی السلطة الدينية أن تفسح المجال للعقل أن يعتقد أو يفكر كما يشاء.

أما عن سؤال “هل يدعم التاريخ وجود الله” -وهنا يوضح ديورانت أنه يقصد الإله الرحيم المتسامي، وليس مجرد القدرة الخلاقة للطبيعة-..فالجواب عند ديورانت يميل إلى أن يكون بالنفي.. لأن التاريخ بالنهاية يعمل بقانون البقاء والانتقاء الطبيعي، ولا تعنيه الفضيلة. كما أن الكوارث والظواهر الطبيعية المدمرة حسب ديورانت لا تدعم وجود أي قوة رحيمة.

نقطة أخرى يشير إليها ديورانت هي أن أهمية الدين تضاءلت بتضاؤل الإنسان عبر التاريخ، ذلك أن اكتشافات مثل اكتشاف كوبرنيكوس عن عدم مركزية الأرض، تفقد الإنسان شعوره بأهميته في الكون. وهذا طبعا ليس سببًا وحيدًا لتراجع السلطة الدينية، إنما أحد العوامل. إلی جانب عوامل أخرى كحركات الإصلاح البروستانتي والحركات الربوبية في إنجلترا. واستبدال الزراعة (التي تعزز الإيمان بالبعث) بالصناعة التي تعتمد على الماكينات، وخروج المؤسسات التعليمية من التبعية للكنيسة إلى سيطرة رجال الأعمال والعلماء.

في نهاية هذا الفصل يكمل ديورانت بالتأكيد على أن الدين يموت ويبعث من جديد..فعندما يتم التمرد على دين ما، سرعان ما يظهر شكل آخر من أنواع التدين ليأخذ مكانه، ويختم بأن الاستمتاع بالحرية مهم، ومع ذلك فإن الحذر من إهمال الاحتياجات الروحية تمامًا أمر ضروري للأمم.

التاريخ والاقتصاد

يرى كارل ماركس أن التاريخ ما هو إلا استعراض للصراعات الاقتصادية، ويتفق ديورانت جزئيًا مع هذا الرأي، ويعرض بعض الأمثلة عليه، من دور الثورة الصناعية في ظهور الديمقراطية والحركات النسوية، ودور الرغبة في السيطرة على الطرق التجارية في شن الحملات الصليبية، أو دور عائلة ميديتشي ومهاراتها المصرفية في حركة التنوير في فلورنسا.

لكنه يلفت إلى أن دوافع الأحداث التي تغير التاريخ ليست دائمًا دوافعَ اقتصادية، إنما تكون في بعض الأحيان دوافع دينية أو وطنية.
ويصنف ديورانت الناس بالنسبة للاقتصاد إلى ثلاث فئات، أولهم فئة تدير الأشياء، وهذه الفئة تديرها فئة ثانية تستطيع إدارة الناس.. أما الفئة الثالثة ومن يتحكم بكليهما، هي الفئة التي بإمكانها إدارة الأموال ومراقبة السوق.

ويختم ديورانت الفصل بالإشارة إلى أن اختلاف الناس في القدرات يحتم تراكم الثورة في نهاية المطاف في إحدى الطبقات، وأن ازدياد عمق الفجوة بين الطبقات سيزعزع الاستقرار ويؤدي في نهاية الأمر إلى إعادة توزيع الثروات، إما عن طريق الإصلاحات أو الثورات العنيفة.

التاريخ والاشتراكية

الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية قديم ومستمر، فالرأسمالية لن ترضى إلا بحرية التنافس وما يتبعها من حث على الإبداع دون تدخل الدولة، والاشتراكية ستثور دائمًا ضد الفروق الطبقية والتلاعب والاحتكار، ويضرب ديورانت أمثلة كثيرة من التاريخ على دول ذات مظاهر اشتراكية وتدخل للدولة في أدوات الإنتاج قامت قديمًا في حضارات منها سومر وبابل وروما والصين.

يُفشل هذه التجارب عادة حسب رأي ديورانت، الضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري والفساد، فالمؤسسات العامة معرضة هي الأخرى إلی ظهور الفساد كحال نظيرتها الخاصة. وينهي الفصل بالحديث عن كارل ماركس وفريدريك إنجلز وبيانهما الشيوعي، ويعتبر أن ماركس قد خان الفيلسوف “هيجل” الذي كان له الأثر الكبير على فلسفته؛ إذ أن الجدل الهيجلي ينص على أن وجود أطروحتين متناقضتين يجب أن يتمخض عنه أطروحة ثالثة تتفوق على كلتيهما، وهذا ما يراه الكاتب ويل ديورانت الصواب، وهو أن تخشى الرأسمالية بطش الاشتراكية فتنظم نفسها، وأن تخشى الاشتراكية بدورها تفوق الرأسمالية، فتسمح بحد ما من الحرية الاقتصادية.. فينتج مزيجًا معقولًا يحقق نوعًا من العدالة بين البشر.

التاريخ ونظام الحكم

عدّ ديورانت في بداية هذا الفصل نظام الحكم الملكي أكثر طبيعية من باقي الأنظمة، وأكثرهم ديمومة عبر التاريخ، وذكر عدة أمثلة ناجحة عليه، كفترات حكم ماركوس أوريلوس وهدريان وغيرهم من ملوك الرومان، لكنه عاد ونوه بأضراره من جانب أن وراثة الحكم عادة ما تولد انعدام مسؤولية وتبذير وشرور كثيرة.

وبالنسبة للحكم الأرستقراطي، أي الذي يفضل النسب على المال أو المكانة الدينية.. فإن من مزاياه أنه يشكل مستودعًا للثقافة، ويحول دون انتشار الخبل الفني، والتغيرات المفاجئة للكود الأخلاقي، ولكنه مع ذلك لا ينتج الفنون، إنما يلهمها؛ ذلك أن العبقرية تتطلب الكد، الشيء الذي لا يضع الأرستقراطي نفسه تحت وطأته. ومن سلبيات هذا النوع من الحكم، الانشغال في إنفاق مصادر الدولة على المظاهر والحروب غير الضرورية، وقهر الناس في سبيل المحافظة على أسلوب حياة السلف.
يطرح ديورانت بعد ذلك تساؤلًا عما إذا كان التاريخ يبرر الثورة. ويجيب عليه بأنه على الرغم من ضرورة التخلص من الأنظمة القديمة والفاشلة، إلا أن ذلك في كثير من الأحيان لا يتطلب العنف. ويضرب بعض الأمثلة منها تغيرات حققتها أمريكا، أو تحقيق إنجلترا في القرن التاسع عشر تغييرًا مسالمًا كان بإمكان الثورة الفرنسية تحقيقه دون اللجوء إلی العنف.

ثم يختم ديورانت هذا الفصل بالحديث عن الديموقراطية، ويستهل ذلك بطرح رأي أفلاطون بشأن الديمقراطية، بوصفها فوضى وعنف وانحلال، وطريق يؤدي إلى الديكتاتورية في نهاية المطاف، ويطرح ديورانت بعض الأمثلة التي تؤيد هذا التصور، وبعض صور الفساد التي من الممكن أن تسود في حكم ديمقراطي. ثم يعود في النهاية ليعتبر الديمقراطية أقل أنظمة الحكم ضررًا وأكثرها فائدة، بوصفها شكلت صداقة حميمة بين الجنس البشري، وأعطت الفكر المزيد من الحرية، وأزالت الامتيازات التي فرقت بين البشر، وأنها مبررة ومستساغة إذا وفرت فرص تعليم متساوية، معتبرًا هذا ليس حق طبيعي بقدر ما هو امتياز يعود بالنفع الكثير على المجتمع.

التاريخ والحرب

عد ديورانت الحرب من ثوابت التاريخ، وأنها من أشكال التنافس والانتقاء الطبيعي. ويذكر أن كل ما لدينا من تاريخ مسجل لا يخلو من الحروب إلا في فترات قليلة.

وأضاف أن النزعة القومية تغذي نار الحروب وتؤججها، فإن دولة ما عندما تبدأ في معاداة دولة أخرى، سرعان ما تحفز مواطنيها على محاربتها عبر إشاعة الكراهية القومية.

يبدأ ديورانت بعد ذلك حوارًا افتراضيًا بين فيلسوف يعارض الحرب وقائد عسكري يرى أنها أمر لا بد منه. فيحاجج ديورانت على لسان القائد العسكري بأن الناس تموت بكل الأحوال، فما الذي يمنع أن يكون موتهم تجاه أوطانهم وقضاياهم؟ ثم إن الأخطار التي تحدق بالبلدان -كما كانت ترى الولايات المتحدة وإنجلترا تقدُّم الشيوعية في ذلك الوقت- لا بد من وجود من يقف لها بالمرصاد، وأن هذه ضرورة تاريخية لا بد من حدوثها. فيرد الفيلسوف بأن الحرب ربما تكون بالفعل ضرورة تاريخية لتسيير الأمور وتحقيق المنافع، لكنه يظن أن ثمة ما يدفعنا للوقوف بوجه هذه الصيرورة التاريخية، والتخلي حتى عن المنافع والمصالح، ألا وهو الإنسانية، التي توجب مراعاتها حتى لو أدت بالدول إلى الخسارة والتراجع.

التاريخ والنمو

يقول ديورانت أن التاريخ يعيد نفسه في المجمل لا في الجزئيات، فإننا نجد الأمم تنهض وتنهار في كل زمن، والعقلانية ترجع دائمًا لتستبدل الأساطير والمعتقدات القديمة. والدوافع الأساسية للحصول على الجنس والسلطة والغذاء تستمر عبر الأزمنة، مع ملاحظة أن سطوة العقل عبر الزمن تجعل الأفراد يمليون إلى التفرد لا إلا تصرفات القطيع.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى تصورات بعض المفكرين بشأن تقسيم التاريخ، من حيث أنه يحتوي فترات “أساسية” تبنى فيها قيم معينة، وتتسم بالتنظيم والاتفاق. وأخرى “نقدية” هدامة تقوض ما بنيت عليه الفترات الأساسية، وتتسم بالنزاعات. وقد تتجلی الفترة الأولى في الحقبة المسيحية، أما النوع الثاني فأقرب إلى الفلسفة اليونانية في هدمها للأساطير في ذلك الوقت.

وتنشأ الحضارات من وجهة نظر ديورانت لا من العقود الاجتماعية، إنما عبر الاحتلال وهيمنة منتصر ما وفرض ثقافته على الطرف الأضعف. كما أن التحديات بمختلف أشكالها سواء أكانت طبيعية أم اقتصادية أو سياسية أو تغيرات على مستوى الكود الأخلاقي، كل ذلك يحدد ما إذا كانت حضارة ما ستقوى وتستمر، وذلك عبر العقول اللامعة القادرة على إيجاد الحلول لهذه التحديات، وتغيير مجريات الأحداث. أما عن سبب ظهور مثل هذه العقول اللامعة هو ببساطة وجود الأسس البيولوجية والنفسية الكافية.

اضمحلال الأمم كذلك لا يملك سببًا واحدًا محددًا، فإن أي تحدٍ سبق ذكره دون وجود مقومات للتغلب عليه قد يقوض حضارة ما وينهيها.
يختم ديورانت الفصل بفكرة أن الحضارات لا تموت، إنما يندثر إطارها ويتغير مكانها، ويبقى ما أنتجته من أفكار وعلوم وتراث مقروء، ليكمل في أماكن أخرى حيث تستفيد منه حضارات لاحقة وتضفي إليه.

هل التقدم حقيقي؟

يذكرنا الفصل الأخير من هذا الكتاب في البداية بضرورة تعريف التقدم.. فإذا اعتبرنا أن التقدم الحقيقي يكمن في التطور العلمي، فإن ذلك يجعلنا نصطدم بحقيقة أن التقدم العلمي في بعض الأحيان يجلب الكثير من الخراب ويزيد من براعة الشر وتطور الأسلحة وأجهزة الدمار، وإذا نظرنا إلى الجانب الفكري، فبإمكاننا أن نشكك كذلك في أن التغيرات التي طرأت على الفكر والفلسفة استطاعت تقديم كود أخلاقي يتفوق على نظائره في العصور القديمة؛ ذلك أن التغلب على التعصب الديني استبدل في كثير من الأوقات بالتعصب العرقي أو الوطني.

نقطة أخرى يشير إليها ديورانت هي أن حضارة معينة قد تحدد معيار التقدم الخاص بها. فتجد بلاد ما تصب تركيزها على الماديات والإنتاج العلمي، وأخرى على الفنون.. وهكذا دواليك.

وفي نهاية الفصل يعتقد ديورانت أنه في حال اعتبرنا أن التقدم يساوي تحقيق السعادة، فإننا على هذا النحو يمكننا تقريبًا أن ننفي تحقيق أي تقدم، أما إذا كان التقدم يعني المزيد من السيطرة على الطبيعة، فهذا يبدو معقولًا، ورغم المساوئ الجمّة إلا أنه قد ساعدنا في القضاء على كثير من الأمراض والمجاعات والمصاعب.

المصدر: دروس من التاريخ لويل وأريل ديورانت، عصير الكتب للطباعة والنشر-الطبعة الأولى – 2019

يمكنك قراءة ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

.

بين الفلسفة والتفكير النقدي، تعريف التفكير الفلسفي، وكيف نصل إلى المعرفة؟

تهتم الفلسفة بالاستقصاء والبحث العقلاني بهدف المعرفة، فاهتم الفلاسفة ودارسوها منذ فترة طويلة بفهم ماهية المعرفة.بمجرد أن تكون لدينا فكرة واضحة عن ماهية المعرفة، أي تعريف التفكير الفلسفي، وكيف نصل إلى المعرفة؟ حينها سنتمكن من طرح السؤال التالي والذي تسعى البشرية إليه بشغف كبير وهو ما إذا كانت قادرة على الوصول لليقين المعرفي، أي معرفة شيء ما على وجه اليقين والتأكد من أن صحته غير قابلة للشك. ولكن لماذا نشك أصلا؟

يلعب الشك دورًا مهمًا في جعلنا صانعي معرفة دقيقين، لكنه لا يمكّننا أبدًا من الوصول إلى اليقين المعرفي، كما يمكن للشك أن يذهب بنا أبعد مما نتخيل، بداية من الشك في إدراكنا ووعينا، وحتى الشك في العالم وفي وجودنا. الشك بحر عميق بلا أرض نحاول الخروج منه منذ الأزل بعد أن أدركنا أن الكثير مما اعتقدناه معرفة لم يكن كذلك!

تعريف التفكير الفلسفي، وكيف نصل إلى المعرفة؟

تخيل الحوار التالي بين شخصين أ و ب، يبدأ شخص أ الحوار قائلا: “هل تعرف أن السمك الذي تأكله الآن يمكنه الطيران؟”

ب: “لا أظن ذلك. أنت على خطأ”

أ: “بل أنا على صواب”

ب: “ولكن كيف تعرف أنك على صواب؟”

أ: “لأنني أؤمن بأن هذا السمك يطير!”

ب: “ولماذا تؤمن بأن هذا السمك يطير؟”

أ: “لأنني أؤمن بهذا!”

ب: “ولماذا تعتقد بأن إيمانك سيقنعني؟”

أ: “لأنني على صواب!”

ب: “وكيف تعرف بأنك على صواب؟”

أ: “لأنني أعرف أنني على صواب!”

كما يبدو من هذه المناقشة، فما يؤمن به (أ) لا يستوجب من (ب) أن يؤمن به أيضًا، فكيف يمكننا إصلاح تلك المناقشة؟

أ: “هل تعرف أن السمك الذي تأكله الآن يمكنه الطيران؟”

ب: “لا أظن ذلك. أنت على خطأ”

أ: “بل أنا على صواب”

ب: “ولكن كيف تعرف أنك على صواب؟”

أ: “لأنني أمتلك الحُجة”

ب: “وما هي حُجتك؟”

أ: “لأن زعانف تلك السمكة أطول وأخف من بقية الأسماك وتتصل بعضلات أقوى، ولهذه السمكة أيضًا ذيل يضرب الماء بقوة، فتنطلق فوق سطح الماء بسرعة عالية تمكنها من الطيران لأمتار قليلة فوق سطح الماء!”

ب: “تبدو حجتك مقنعة قليلًا!”

قيمة الحُجة في الفلسفة

تحترم الفلسفة الحُجة وتعتبرها ركيزة أساسية من ركائز التفكير المنطقي والعقلاني، فهي كما رأينا قد أصلحت الحوار السابق بسهولة بغض النظر عن مدى صحة الحُجة، لكنها لا بد أن تتواجد في النقاش كي يصل إلى نتيجة بشكل ما. فالحُجة تخاطب العقل بالأسباب، والحجة المقنعة هي الحجة المنطقية. فهي ليست دعوة للشفقة والتعاطف، أو تهديدًا بالقوة، لكنها دعوة للمنطق. يقدر الفلاسفة الحجة لأنها تعني أن طرحك يمكن تفسيره وفهمه وقبوله من الآخرين. لهذا السبب فشل أ في البداية في إقناع ب، لأن حجته افتقرت للسبب. يحتاج أ إلى المزيد من الجهد لإقناع ب بإعتقاده، وعندما حصل ب على أسباب منطقية، بدا أنه أكثر قابلية للقبول باعتقاد أ.

وجود السبب لا يعني صحة الحُجة، ولا يعني قبول الاعتقاد من عدمه، لكنه يعني أن الحُجة أصبحت قابلة للنقاش بالأساس، أي يمكن معرفة صحتها أو خطئها وأن فرص صاحب الحُجة أ على اقناع ب قد زادت بشكل ملحوظ.

يقول رود جيرل: “إن المعرفة موضوعية جدًا، أما الإيمان فهو شخصي جدًا، المعرفة هي شيء يمكن إثبات خطئه، فإذا أخبرك شخص بمعرفته لشيء ما، يمكنك إثبات عدم معرفته به إذا أمكنك إثبات خطئه”

المحاججة

تُستخدم المُحاججة طوال الوقت بين الفلاسفة، مما جعل دراستها ركن رئيسي في المنهج الفلسفي، كما يجب معرفة وتمييز مجموعة من الكلمات عند استخدام المنهج الفلسفي، مثل “الاعتقاد” و”المعرفة” و”التفكير”. لكن لماذا يجب أن نميز تلك الكلمات تحديدًا؟ إليك مثلا بالتفكير، هل أنت تفكر الآن؟ ما دمت تقرأ هذا المقال فيبدو أنك تفكر بالفعل. لكن هل تمارس الفلسفة بمجرد قراءتك لهذا المقال؟ بالتأكيد لا! فهناك نوع محدد من التفكير يُدعى “التفكير الفلسفي”!

تعريف التفكير الفلسفي

التفكير الفلسفي ليس أمر صعب فحسب، وليست الصعوبة هي المميزة في التفكير الفلسفي عمومًا، فعلى سبيل المثال يصعب على أغلبنا ضرب رقمين كل منهما مكون من عددين سريعًا في رأسه، وبالرغم من صعوبة هذا الضرب فهو ليس تفكيرًا فلسفيًا.

ما دام الأمر غير مرتبط بالصعوبة، فبم هو مرتبط؟

يمكننا ربط التفكير الفسلفي بأنه التفكير في التفكير، فنحن نتواصل مع الآخرين لشرح أفكارنا فنحلل أفكارهم عبر حديثهم أو قراءة ما يكتبون. لا يقتصر الأمر على التفكير في التفكير ذاته، ولكن يمتد أيضًا لتقييم عملية التفكير. نحاول تطوير مجموعة من الاختبارات للتأكد من صحة عملية التفكير بأقصى قدر ممكن. والمحاججة هي أحد أعمدة تقييم عملية التفكير.

يقول ستيفين هيثيرينجتون: “ليس كافيًا أن تمتلك مجرد آراءًا، الآراء لا تعني شيء، حتى وإن أخبرت الجميع أنك تشعر بقوة بأن رأيك صحيحًا، فرغم قسوة ما سأقول، لكن رأيك لا يمكن اعتباره معرفة. لدينا نظرية فلسفية مذهلة تخبرنا لماذا لا يعتبر رأيك معرفة.”

ملخص رواية “بطل من هذا الزمان” لميخائيل ليرمنتوف

ملخص رواية “بطل من هذا الزمان” لميخائيل ليرمنتوف

“رب قصة نفس من النفوس مهما تكن صغيرة تكون أشيق وأنفع من قصة شعب بأسره” ميخائيل ليرمنتوف، رواية بطل من هذا الزمان.

اختلف بطل الرواية عن أبطال الروايات الذين نعرفهم فلم يكن شخصًا مثاليًا ولا حالم بل لم يصل لدرجة الإنسان السوي، فقد كان بتشورين صورة تضم رذائل جيل بأكمله يعيش حياة بلا هدف ولا أمنيات، لم يذق يوما طعم السعادة ولا الحب ولا الصداقة، أفنى سنوات حياته في الجمود والكسل.

تدور أحداث الرواية على لسان مسافر مجهول لم يذكر اسمه التقى في طريق سفرة بضابط مسافر يناهز عمره الخمسين يدعى مكسيم مكسميتش، عمل سابقًا كضابط حراسة في إحدى قلاع بلدته، وفي طريقهم حكى له عن مغامرات وقعت أثناء فترة خدمته، ومنها حكاية تبدأ بوصول بتشورين إلى القلعة ليقضي فترة خدمته فيها، كان بتشورين بالنسبة له رجل غامض وغريب يحب الوحدة ولا يتحدث إلا بكلمات مقتضبة تفي بالغرض مغرم بالصيد، قوي البنية يستطيع أن يصيد خنزير بري بمفرده، ومع ذلك توطدت علاقة جيدة بين مكسيم وبتشورين.

كان يقطن بالقرب من القلعة أمير يعرفه مكسيم جيدًا وعلى صلة وثيقة به، كان لديه صبي يدعى عزمت يعشق المال عشقًا كان يتردد على القلعة بين الحين والآخر، وفي يوم أتى الأمير إلى القلعة ليدعوهم إلى حفل زفاف ابنته الكبرى فقبلوا الدعوة مسرورين، وفي الحفل رأي بتشورين بيلا ابنة الأمير الصغرى وفتن بها وبملامحها البريئة وقدها الممشوق وبادلته الإعجاب هي الأخرى وأثنت عليه علنا.

لم يكن بتشورين وحده من أعجب بالأميرة الصغيرة فكان كازبتش قاطع الطريق يتابع الأميرة بعين متلهفة وقلب متقد، كان أهم ما يميز كازبتش حصانه القوي الذي يحسده عليه كل فرسان المنطقة، وأثناء الاحتفال دار حديث بين كازبتش وعزمت سمعه بالصدفة مكسيم مكسميتش، كان عزمت يساوم كازبتش على حصانه ولكن الأخير رفض رفضًا قاطعًا فاكفهر وجه عزمت وشعر بالمرارة تسير في حلقه هو الذي تعود أن ينال كل ما يريد الآن محروم من أكثر شيء أراده يومًا.

بعد انتهاء الحفل قص مكسيم على بتشورين ما سمعه من حديث بين كازبتش وعزمت، وجدها بتشورين فرصة ليظفر بما يريد وبدأ بتنفيذ خطته فكلما تردد عزمت على القلعة حدثه عن جمال حصان كازبتش وعراقته وقوته وأطال الحديث حتى يحمر وجه عزمت وتضرب الدماء في رأسه ويغضب لعدم امتلاكه الحصان.

وفي يوم وعد بتشورين عزمت أن يعطيه حصان كازبتش ولكن على شرط أن يخطف عزمت أخته بيلا ويحضرها إلى القلعة، وافق عزمت على الاتفاق وفي اليوم التالي استغل عزمت سفر والده وأحضر أخته مقيده إلى القلعة وسلمها لبتشورين الذي كان قد جهز كل شيء ودعى كازبتش إلى القلعة وشغله بالحديث حتى استطاع عزمت الفرار بالحصان، وعندما علم كازبتش أخذ يبكي كطفل رضيع وصمم على الانتقام.

ظفر بتشورين ببيلا ومكثت معه في القلعة، بذل جهدًا كبيرًا حتى ترضى عنه فأغدقها بأرق الهدايا وأجمل العبارات حتى تُيمت به، ولكن بعد مرور بعض الوقت سأم بتشورين من وجود بيلا وأصبح كثير الخروج للصيد مهمل لها جاف في معاملتها حتى ذبلت واصغر لونها وأكل قلبها الحزن.

خرج بتشورين للصيد كعادته ولكنه صمم على أخذ مكسيم معه وعند رجوعهما وجدا جلبة عند القلعة وحصان يعدو يحمل رجلًا ومعه إمرأة جريحة كانت هي نفسها بيلا، كان كازبتش استغل غيابهما عن القلعة واختطف بيلا ولكنهم أدركوه فأخذوها أما هو فاستطاع الهرب ولكن بعدما طعنها في ظهرها طعنة أودت بحياتها بعد عدة أيام من المعاناة والألم، وبعد دفن بيلا ذُعر مكسيم عندما رأى بتشورين يجلس على الأرض وينفجر ضاحكًا ثم دخل في مرض شديد ألم به وعندما شفي انتقل من القلعة ولم يراه مكسيم من حينها.

الكاتب ميخائيل ليرمنتوف

بعدما أنهى مكسيم سرد القصة كانا قد وصلا إلى قرية صغيرة ليمكثوا بها بضعة أيام منتظرين ما يسمى بالفرصة وهي مجموعة من البشر مؤمنة تعرف صعوبات الطريق للمدينة القادمة فتذللها، علم مكسيم فور وصولهم بأن بتشورين في نفس المدينة، عانى كثيرًا حتى استطاع الالتقاء به منتظرًا لقاء حار يحمل معاني الشوق والمحبة، ولكن خاب أمله عندما عامله بتشورين ببرود وجفاء حتى لم يلبي طلبه بالمكوث قليلًا ليتسامرا وأسرع في الرحيل، حزن مكسيم كثيرًا وتملكه الغضب فكاد أن يرمي بالمجلدات الخاصة ببتشورين التي تركها في القلعة وحملها هو معه طوال الوقت ليسلمها له فور اللقاء ولكن طلب منه المسافر أن يحتفظ هو بها فقبل بلا اهتمام.

كانت المجلدات هي نفسها يوميات بتشورين التي تضم الكثير من حكاياته المثيرة أثناء سفره من مدينة إلى أخرى، وكان ما لفت انتباهه وقتما سافر بتشورين إلى مدينة تقع بالقرب من سفح جبل ماشوك، كان سكان المدينة والسياح يصعدون إلى الجبل ليصلوا إلى عيون المياه للاستشفاء وكذلك فعل بتشورين فور وصوله وفي أثناء سيره التقى بصديق له يدعى جروشنيتسكي فتعانقا بحرارة، وأثناء حديثهما مرت إمرأة لها نصيب كبير من الوقار ومعها ابنتها الجميلة، أخبره جروشنيتسكي أنها الأميرة ليجوفيسكايا وابنتها ماري وكان يظهر الإعجاب الشديد على وجه جروشنيتسكي عند حديثه عن ماري.

رأى بتشورين صديقه يحاول التودد للأميرة ماري وهي كذلك تسعد بحديثه ومرافقته لها ومزحه الدائم، فتحركت الغيرة في قلب بتشورين وقرر أن يخطف الأميرة ماري من صديقه فهو أقل من أن تعجب به أميرة، حاول بتشورين جذب انتباه الأميرة بخطف الأنظار منها وتجمع الناس حوله لحكاياته الطريفة والمثيرة، كما أظهر عدم الاهتمام الواضح بالأميرة مما أثار غيرة الأميرة كثيرًا وزاد حنقها على بيتشورين وهكذا كانت خطته تسير على أكمل وجه.

وبعد مدة ليست بقصيرة بدأ بالحديث مع الأميرة وإظهار كل الاحترام والتقدير لها وجذبها بالحديث الممتع والشخصية الغامضة والمغامرات المختلقة حتى أعجبت به الأميرة وبدأت تنجذب إليه وتسأم من جروشنيتسكي وحديثه مما مزق قلبه وغضب من بيتشورين كثيرًا وأصبح يتجنبه في كل لحظة بل انضم إليه الكثير من الشباب وجمعهم كره بتشورين المخادع لفوزه بقلب الأميرة، وبعدما تمكن حبه من قلبها شعر بيتشورين بفوزه وتفوقه على كل هؤلاء برغم حزنه الشديد من كرههم له إلا أنه شعر بالنصر، وبعدها صارح الأميرة أنه لم يحبها يومًا، صارحها بمنتهى القسوة أنه لا يريدها في حياته بعد الآن، مرضت الأميرة من صدمتها ولازمت الفراش فترة طويلة جدًا.

في أثناء لعب بتشورين بقلب الأميرة الصغيرة، علم بأن فيرا تلك الفتاة التي عرفها منذ زمن موجودة في المدينة ومتزوجة من قريب الأميرة ماري فأعاد الوصل معها وكان يمضي معها معظم وقته، وفي يوم كان بتشورين يهبط من نافذة فيرا رآه جروشنيسكي ورئيس الضباط ولكنه استطاع الهرب، ولم يسكت جروشنيتسكي بل فضحه أمام الجميع ولكن لا إثبات على ذلك فأنكر بتشورين كل شيء وطالبه بالاعتذار له فرفض جروشنيتسكي رفضًا قاطعًا ودعاه إلى المبارزة وقبل بتشورين بحماس.

عندما حان وقت المبارزة علم بتشورين بالخدعة التي دبرها جروشنيتسكي ورئيس الضباط، فقد اتفقوا على أن يملأوا سلاح جروشنيتسكي فقط بالبارود ويتركوا سلاح بتشورين فارغًا، ولكن بتشورين كان دائمًا له خطة وعندما وصلوا مكان المبارزة أخذ جروشنيتسكي دوره أولًا، شرع بتشورين في الحديث مع جروشنيتسكي يحثه على التراجع والاعتذار وانهاء كل شيء مع ذكر عبارات أنهم كانوا يومًا ما أصدقاء لعلمه أن هذا النوع من الحديث سوف يؤثر في قلب جروشنيتسكي ويهزه ويصعب عليه الحالة، ولكن جروشنيتسكي قرر إطلاق النار فلا مجال للتراجع الآن وبسبب اهتزازه وتوتره لم تصب الطلقة بتشورين إلا بجرح في ركبته.

والآن حان دور بتشورين فنادى مساعده بصوت مسموع وأخبره أنهم نسوا أن يملأوا سلاحه بالبارود وأمره أن يملأه وهنا اصفر وجه جروشنيتسكي وعلم أنها نهايته ولكن لم يستطع الاعتراض، وأطلق بتشورين على جروشنيتسكي طلقة أودت بحياته، وبعدها سافر بتشورين من المدينة ليكمل رحلاته الغريبة.

لم يكن بتشورين سعيدًا بأفعاله وما وصلت إليه نفسه ولكن فات الآن أوان التغيير، كان بتشورين ضحية لسوء المجتمع الذي نشأ فيه وقال عن نفسه:

“إن لي نفسًا أفسدتها حياة المجتمع الراقي، وخيالًا قلقًا، وقلبًا لا يشبع من جوع، لا شيء يرويني، فسرعان ما آلف الألم واللذة كليهما، وإن وجودي ليزداد فراغًا يومًا بعد يوم”

يصف ما وصلت إليه نفسه من نعومة أظافر حتى سن الشباب الحالية التي وصل إليها، فمنذ صغره كان جميع الناس يقرأون في وجهه علامات الشر وهو بريء منها ولكنهم أصروا على افتراضها فنبتت بداخله وتأصلت، ووصفوا خجله بالمكر فأصبح كتومًا لا يفرغ ما في قرة نفسه إلى أحد، ولم يشعر بعطف أحد فأصبح حقودًا يميل إلى الانتقام، ذبلت روحه وحزنت نفسه وتملكت منه مشاعر الحسد والسوء، ولم يفهمه أحد فتعلم أن يكره الجميع.

ملخص “حلم رجل مضحك” للكاتب فيودور دوستويفسكي

للمزيد من ملخصات الكتب

التاريخ الكبير: لماذا يهتم العلماء بدراسة النجوم؟

لم تتوقف السماء عن سحرنا يومًا، حتى أننا نجد القمر، والنجوم مذكورين في كثير من أغانينا، فالسماء بنجومها كانت وما زالت مصدر إلهام لنا نحن البشر، لكن ما هي النجوم وكيف تتكون؟ ولماذا يهتم العلماء بدراسة النجوم؟

أكثر النجوم في كوننا هي نجوم صغيرة ذات كتلة قليلة، بحجم شمسنا أو أصغر، وهي أبرد بكثير من يا النجوم، لذا فلونها أحمر وتُدعى بال «أقزام حمراء-Red dwarfs»، ولكنها ليست مشوقة للحد الكافي، فنحن نتحدث هنا عن النجوم العملاقة، التي هي أكبر من شمسنا على الأقل ب 8 مرات، وقد تسطع أكثر بمليون مرة من سطوع الشمس!

تعيش هذه النجوم حياة مغايرة تمامًا لحياة شمسنا، ففي نهاية حياتها تنفجر في إنفجار خلاب مهيب يدعى بال«سوبرنوفا-Supernova»، تاركة خلفها لوحة جميلة من أجمل وأبهى الألوان، مثل التي نراها في السدم التي يعج كوننا بها، كما لعبت هذه النجوم دورًا حيويًا في تشكيل كوننا بشكله الحالي، فبعد الانفجار العظيم بفترة وجيزة، لم يكن هناك أي مصدر للضوء، كان الظلام والصمت يخيمان على كوننا بأسره، فيما يعرف باسم «العصور الكونية المظلمة-Cosmic dark ages»، ولكن بعد حوالي 100 مليون سنة، تكونت هذه النجوم العملاقة، التي عاشت حياة قصيرة، ثم انفجرت في حدث السوبرنوفا العظيم، وتوالت الأجيال النجمية، جيلًا بعد جيل بمرور الزمن، وأثناء فترة حياة تلك النجوم كان إشعاعها ورياحها النجمي يزيدان من حرارة الغازات من حولهم، مؤديين إلى حدوث عملية «التأين-Ionization»، محدثة ثقوبًا وفقاعات في تلك الغازات من حولها، وعلى مدار الوقت، تقوم تلك النجوم بتغيير شكل المجرات التي تحتويهم، مؤدية إلى شكل كوننا الحالي الذي نعيش فيه.

لماذا يهتم العلماء بدراسة النجوم من الأساس؟

أحد أكثر الأشياء إثارة للدهشة في كوننا هو التنوع الكبير للعناصر، تلك العناصر التي نحن وكل ما حولنا مصنوعون منها، ومن أمثلة هذه العناصر هو عنصر الأوكسجين الذي نتنفسه، وأيضًا عنصر الكربون، الذي هو حجر الأساس لجميع المركبات العضوية، ويلعب دورًا محوريًا في تكوين أنسجتنا وعضلاتنا، كذلك عنصر الكالسيوم، الموجود في أسناننا وعظامنا، وكذلك عنصر الحديد الذي يجري في دمنا.

على الرغم من ذلك التنوع، فالعناصر التي كانت موجودة بعد الانفجار العظيم هي الهيدروجين، والهيليوم، وقليل من الليثيوم، إذا من أين أتت كل تلك العناصر؟

يعتقد المجتمع العلمي أن الفضل في ذلك يرجع إلى النجوم، ولكن كيف ذلك؟

كيف تُشكّل النجوم العناصر؟

يبدأ الأمر بقوة الجاذبية، حيث تضغط الجاذبية الغازات سويًا، مؤدية إلى زيادة حرارتها، حتى تصل درجة الحرارة في المركز إلى ما يزيد عن المليون درجة، هذه الدرجة عالية بما يكفي للسماح بعملية الاندماج النووي، حيث تندمج ذرتان من ذرات الهيدروجين لتكوين ذرة من الهيليوم، ولكن هذا في النجوم التي هي بحجم شمسنا أو أكبر قليلًا، حيث أن النجوم العملاقة لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تستمر بدمج ذرات الهيليوم لتكوين الكربون والأوكسجين.

إذا كان النجم كبيرًا كفاية، فإنه سيستمر في دمج العناصر وصولًا إلى عنصر الحديد، ومن ثم تنفجر تلك النجوم العملاقة، في مشهد مهيب، مطلقة ما بجعبتها من مادة إلى الفضاء الشاسع، مضيفة عناصر جديدة إلى جدولنا الدوري.

يبدو غريبًا أليس كذلك؟ فالأوكسجين الذي تتنفسه بينما تقرأ هذا المقال الآن مصنوع في نواة أحد النجوم كتلك التي تراها في سماء الليل، أضف إلى ذلك أنك أنت نفسك تتكون من ذرات صنعت في نواة أحد النجوم أيضًا!

إنه لشيء مبهر بحق، ولا يسعنا إلا أن نقول أكثر من قول عالم الفيزياء الفلكية الشهير «كارل ساجان-Carl Sagan»: “أنت مصنوع من غبار النجوم”.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

التاريخ الكبير: ما هي القوى التي تحكم الكون؟

كوننا محكوم بأربع قوى فيزيائية، فكل ما نراه في حياتنا من أحداث يمكن الحكم عليه من خلال التفاعل بين هذه القوة الأربعة، إذًا ما هي القوى التي تحكم الكون؟

1- «القوة الكهرومغناطيسية-Electromagnetic force»

القوة الكهرومغناطيسية هي القوة التي تسبب الترابط بين الجسيمات ذات الشحنة الموجبة، ونظيراتها ذات الشحنة السالبة، إذ أنها هي السبب في تجاذب الالكترونات والبروتونات، كما أن لكل قوة من بين هذه القوة الأربعة جسيمًا ليحملها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، الجسيم الذي يحمل القوة الكهرومغناطيسية هو الفوتون، وهو جسيم يسير بسرعة الضوء إذ أنه منعدم الكتلة، لكنه مليء بالطاقة، فتقوم الالكترونات بتبادل الفوتونات بينها وبين البروتونات للحفاظ على ترابطهم في الذرة، يمكنك تصور الأمر على أنه مباراة كرة قدم، فالجزيئات هي اللاعبون، بينما التفاعل بينهم محكوم بحركة الكرة فيما بينهم.

2- «القوة النووية القوية-Strong nuclear force»

وهي القوة التي تسبب الترابط بين البروتونات وبعضها البعض داخل نواة الذرة، لتشكيل العناصر الثقيلة، إذ أن البروتونات ذات شحنة موجبة إلا أنها لا تزال متجاذبة ومتحدة في نواة الذرة، بسبب القوة النووية القوية، كما أنها أيضًا هي السبب في ترابط الكواركات داخل البروتونات، والجسيم الحامل لهذه القوة هو «الجلون-gluon»، فتقوم الكواركات بتبادل الجلونات فيما بينها، لتحافظ على ترابطها داخل البروتونات.

3- «القوة النووية الضعيفة-weak nuclear force»

تتسبب هذه القوة فيما يعرف بالتحلل الإشعاعي، مثل «إشعاع بيتا-Beta radiation»، وهذه القوة ليست ذات جسيم حامل واحد، ولكن ثلاثة جسيمات حاملة لها وهم W plus, W minus, Z boson، وهم يختلفون عن الفوتونات والجلونات في أمر الكتلة، فالفوتونات والجلونات منعدمة الكتلة، لكن هذه الجسيمات لها كتلة.

4- «الجاذبية-Gravity»

ما نتحدث عنه هنا هو ما يعرف ب «النموذج المعياري- Standard model»، وهو ما طوره الفيزيائيون في أوائل ستينيات القرن الماضي، ومن أشهر هؤلاء الفيزيائيون هو «فيلتمان-Veltman»، لكن نموذج فيلتمان حوى بعض الأخطاء القاتلة، إذ نصت نظريته بتنبؤات سخيفة، كما أن نموذج فيلتمان لا يكون صحيحًا إلا إذا كانت الجزيئات منعدمة الكتلة، لكنها إن كانت كذلك لطارت في الفراغ بسرعة الضوء، ولحل هذا الإشكال، صاغ «بيتر هيجز-Peter higgs» معادلاته، لوصف ما سُمّي بعد ذلك ب «حقل هيجز-higgs field»، إذ أخبر هيجز بأن كتلة الجسيمات لا تأتي من داخلها، وإنما هناك حقل غير مرئي، تتفاعل الجسيمات معه أثناء حركتها، فيُبطئ من حركتها، على سبيل المثال، إذا وجدنا جسيمًا ثقيلًا، فهذا يعني أنه يتفاعل بشدة مع حقل هيجز، وليس أن كتلة الجسيم نتيجة لتركز المادة بداخله.

إذًا فالأمر بسيط الآن، علينا فقط أن نجد جسيم هيجز، وعندها سيكون هذا دليلًا على وجود حقل هيجز، وقد حدث بالفعل، فقد وجد الفيزيائيون «بوزون هيجز-Higgs boson» عام 2012، وهذا هو ما يعطي الجسيمات كتلتها.

مما لا يشك فيه عاقل هو وجود الجاذبية وتأثيرها فيما حولنا، فهي التي تسببت بسقوط التفاحة، وهطول الأمطار، وترابط الأرض والقمر، ودوران الأرض حول الشمس، والكثير والكثير من الأشياء الأخرى، لكن الفيزيائيون لا يعرفون جسيمًا ليحمل هذه القوة، إذ أنها قوة كبيرة لتكون محمولة بجسيم واحد، ولكن مما لا شك فيه كذلك أنهم منهمكون في البحث عن هذا الجسيم بحثًا عن فهم أفضل عن ماهية القوى التي تحكم الكون.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

coursera

لقراءة سلسلة التاريخ الكبير ج2 من هنا

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟ سنتحدث اليوم عن جانب آخر مثير للإهتمام من الحياة العقلية البشرية، وهو الإدراك. ما الإدراك؟ كيف نتعرف على العالم من حولنا؟ وهل كل ما نراه حقيقيًا؟

دعونا نبدأ حديثنا بهذه الجملة: أيًا كان ما تراه أمامك حاليًا وتظنه حقيقيًا، فأنت على الأغلب مخطيء حياله، أو دعنا نقول (واهم)!

ما الإدراك ؟

الإدراك هو قدرة المخ على إيجاد المعنى فيما تختبره الحواس. فيدرك الشخص ماهية الأشياء والأشخاص من حوله. فيمكنه التمييز بين وجه صديقه وغريمه، ويدرك الفرق بين رائحة العطر والحريق! وعملية الإدراك تحدث بشكل لا واعي كما أنها ليست محايدة على الإطلاق. فيتأثر إدراكنا للعالم بالمعرفة والخبرة والمعايير الثقافية وحتى الحالة المزاجية.

عند دراسة الآلات والروبوتات، وُجد أن جميع المحاولات لصنع آلة تستطيع إدراك الأشياء فشلت فشلًا ذريعًا. فلا يوجد آلة على الأرض تستطيع التعرف على الأشخاص والأشياء بمستوى طفل ساذج بعمر السنة الواحدة. فما سبب هذه الصعوبة؟

دعونا نشرح الأمر من البداية، هناك العين، وهناك الشبكية الحساسة للضوء التي تقع في الجزء الأعمق من العين. عندما يصطدم الضوء المنعكس من البيئة حولنا بالشبكية، تستقبل خلاياها الضوء وتحوله إلى إشارات كهربية/نبضات عصبية تنتقل إلى الدماغ. حيث يحدث الإدراك. لكن هنا تظهر مشكلة جديدة. كيف يمكن للشبكية إدراك الأشكال والأجسام من حولنا؟

عبقرية الشبكية

الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، ويرى البشر العالم من حولهم بشكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الأمر (أن تختبر العالم من حولك بشكل ثلاثي الأبعاد مستخدمًا سطحًا ثنائي الأبعاد) مستحيل رياضيًا. إلا أنه حقيقي وحي فينا، فكيف يحدث؟

الحقيقة أن رؤية البعد الثالث: العمق -وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا- خدعة من المخ. حيث ترسل كل عين نسختها -ثنائية الأبعاد- إلى المخ، الذي يستخدم بعض الدلالات أو الافتراضات ليكون نسخته ثلاثية الأبعاد عن العالم. ويستخدم المخ هذه الدلالات بشكل لا واعي، وهي لا تختص بإدراك العمق فقط بل بإدراك الألوان والأجسام أيضًا.

وما يعنيه هذا أن المخ هو المسئول بشكل كامل عن الإدراك وبالتالي تكوين الصورة ثلاثية الأبعاد. أما العينان فهما مصادر خام للبيانات فقط. وهذه البيانات ليست ما نراه فعليًا. ما نراه فعليًا يحكمه المخ (بمعرفته وخبراته وخلفيته الثقافية وحالته المزاجية) وليس العينان.

أولًا: إدراك الألوان

العين البشرية مدهشة في رؤية الألوان. فيمكن للشخص العادي التمييز بين ما يقرب من مليون درجة لون مختلفة. ولا يرتبط تمييزنا لأبيض الثلج وأسود الفحم مثلًا بالمادة التي تكون كل منهما فقط. ولكن بكمية الضوء المنعكس عن كل منهما أيضًا. وهو ما يجعلنا نرى شخص يتحرك من النور إلى الظل دون أن نهلع ونعتقد أنه شخص آخر! بل تدرك عقولنا -وبشكل تلقائي- أنه مازال نفس الشخص.

ثانيًا: إدراك الأجسام

برمجة حاسوب يستطيع التمييز بين عدة أشكال مختلفة أمر صعب للغاية. وأحد الإجابات المقترحة لطريقة تعرف البشر على الأجسام المختلفة هي «التقسيم- Segmentation».

ويحدث التقسيم عن طريق عدة دلالات في الطبيعة ترشد المخ أنه يتعامل مع أشكال مختلفة. وهذه الدلالات تعرف باسم «مباديء الجشطالت-Gestalt principles». كل منها موضح في الصورة التالية:

  • «الإغلاق-Closure» بمعنى أننا نميل إلى ملأ الفراغات، ورؤية العناصر في أشكال كاملة. عوضًا عن أجزاء متفرقة.
  • «التقارب-Proximity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر القريبة من بعضها في مجموعة واحدة.
  • «الاتصالية-Continuity» بمعنى أننا نربط بين العناصر التي تتبع خطًا أو منحنى واحدًا. على عكس العناصر التي لا تتبع نمطًا معينًا.
  • «التشابه-Similarity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر المتشابهة في مجموعة واحدة، كما نعتقد أن لديهم نفس الوظيفة.
  • «الشكل/الخلفية-Figure ground» بمعنى أننا نميل تلقائيًا لتحديد العناصر وفصلها عن عن الخلفية المحيطة بها.

وباستخدام هذه المباديء/الدلالات يحول المخ المعلومات البصرية غير المألوفة إلى صور أكثر منطقية وقابلة للإدراك والفهم. فتتحول الصورة من مجرد عدة مكونات متفرقة لا رابط بينها إلى لوحة متكاملة ذات معنى.

ثالثًا: إدراك العمق

ندرك بواسطة العمق مسافة الأشياء وشكلها الحقيقي. وذكرنا قبل قليل أن الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، وأن إدراك البعد الثالث -العمق- يحدث في المخ. باستخدام عدد من الدلالات المثيرة للاهتمام. وتنقسم هذه الدلالات إلى:

  • «دلالات ثنائية العينين-Binocular Cues» ومنها:

«التفاوت الشبكي-Retinal Disparity». وهي دلالة العمق الوحيدة التي تتطلب استخدام العينين. وما يحدث أنه نتيجة لبعد العينين عن بعضهما بحوالي ٦ سم، تختلف الصورة في كلا الشبكيتين اختلافًا بسيطًا. ويستخدم المخ هذه الدلالة ليحكم على المسافة. فكلما قَرُب الجسم، كلما زاد الاختلاف بين الصورتين والعكس صحيح. ويمكنك رؤية التفاوت الشبكي بوضوح عندما تضع اصبعك مباشرة أمام عينيك. فتراه اثنين وليس واحدًا.

  • «دلالات أحادية العينين-Monocular Cues» وهي الدلالات التي تتطلب استخدام عين واحدة. وتساعد في تحديد مسافات الأجسام البعيدة ومقاسها. ومنها:

– «الحجم النسبي-Relative size» وهنا يستخدم المخ حجم الأجسام لتحديد مسافتها. فعند مقارنة جسمين من نفس الحجم تقريبًا، سيظهر الجسم الأقرب أكبر حجمًا من الجسم الأبعد.
– «المنظور الخطي-Linear Perspective» وهنا يرى المخ أنه كلما اقترب خطان متوازيان من بعضهما. كلما زادت المسافة.
– «التداخل-Interposition» ويحدث هذا عندما يحجب جسم جزءًا من جسم آخر. فيرى المخ الجسم الذي يظهر بشكل كامل (غير المحجوب) أقرب من الجسم المحجوب.
– «تدرج النسيج-Texture gradient» وهو ما يحدث حينما تراقب حقلًا ممتدًا، فتتلاشى تفاصيل شكل العشب بابتعاد المسافة. وتظهر التفاصيل واضحة بالقرب منك.

اقرأ المزيد عن عملية الرؤية وتفسيراتها

لا تثق في كل ما تراه!

رغم دقة عمل هذه الدلالات التي سبق وسردناها. والتفاصيل الصغيرة التي تختص بها كل منها. إلا أنه لا يمكننا الثقة بها دائمًا، فهناك حالات حيث تخدعنا جميعًا. وهنا يظهر مفهوم «الخداع البصري-Optical illusion».

يحدث الخداع البصري عن طريق ترتيب الأشكال أو تغيير الألوان أو الإضاءة بشكل معين، مما يضلل المخ فيرى ما ليس حقيقيًا. وللخداع البصري أمثلة كثيرة منها:

  • «خداع ميولر لاير-Muller lyer illusion» وهو عبارة عن خطين كما بالصورة. فأيهما أطول؟

إذا كنت مثل أغلب الناس ستكون إجابتك ان الخط العلوي أطول. أما الحقيقة أن الخطين متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك عن طريق دلالات العمق: يحتل الخطان نفس المسافة على شبكية عينك. لكن رغم ذلك يظهر أحدهما أطول من الآخر، لأنه هناك خطوط أخرى في الصورة تجعل مخك يصنع تخمينات عن المسافة. فيعطي السهم الذي يشير للخارج إيحاء أنه يقع على مسافة أبعد من السهم الذي يشير للداخل، وبالتالي يستنتج المخ أنه لا بد للخط الأبعد أن يكون أكبر حجمًا من الخط الأقرب.

  • «خداع بونزو-Ponzo illusion»

وهنا يظهر خطان أيضًا، وعلى الأغلب سترى الخط العلوي أطول من الخط السفلي. لكنهما في الحقيقة متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك في إطار دلالة المنظور الخطي التي سبق وشرحناها. فنجد الخطين المتوازيين يقتربان من بعضهما في حالة الخط العلوي مما ينبه المخ أن المسافة هنا أبعد. وبالتالي لا بد أن يكون حجم الخط أكبر.

نسختك المميزة عن العالم

في الختام، يمكننا القول أن عملية الإدراك البشري بالغة التعقيد. وأنه لكي تنظر إلى وجه صديقك وتعرف أنه صديقك -لا مجموعة أشكال غير مترابطة أو مألوفة- يبذل مخك الكثير من المجهود. فتتعاون الشبكية المدهشة مع خلايا المخ لتكوين الصورة الكاملة في جزء من الثانية. صورة تدرك فيها الجسم ولونه وحجمه وبعده وحركته. صورة مميزة يستخدم فيها عقلك البيانات الخام ثم يضفي عليها المعنى والسحر. لترى العالم بطريقة لا يراها أحد غيرك، فتتكون نسختك المميزة عن العالم!

المصادر

  1. britannica
  2. lumenlearning
  3. verywellmind
  4. verywellmind
  5. newworldencyclopedia

متلازمة سلامة الهوية الجسدية : أريد أن أبتر ساقي

“لا تكتمل سلامة جسدي إلا من خلال نقصها”.

تختصر هذه الجملة متلازمة سلامة الهوية الجسدية. فما هي هذه المتلازمة؟ وما هي أسبابها؟

ما هي متلازمة سلامة الهوية الجسدية؟

هي متلازمة نفسية نادرة ناتجة عن اختلاف بين صورة الجسد العقلية والجسد المادي، تجعل الشخص المُصاب بها يرغب ببتر أو تعطيل أحد أعضائه أو يرغب بالشلل. تصيب عادةً الأشخاص منذ مرحلة الطفولة، وفي كثير من الأحيان تصل حالتهم إلى مرحلة خطرة تتضمن محاولات لإيذاء النفس أو إجراء عملية جراحية للبتر.

تاريخ المتلازمة

وُصف اضطراب سلامة الهوية الجسدية لأول مرة عام 1977، من قِبل الباحث في علم النفس و علم الجنس «جون نوني-John Money». وقد سُميت وقتئذٍ بال«أبوتيمنوفيليا-Apotemnophilia»، وهي تعني بالإغريقي “حب القطع/ البتر”. وبيّن موني في دراسته أن الأشخاص المُصابين بمتلازمة سلامة الهوية الجسدية ينجذبون جنسيًا الى أشخاص مشلولين أو مبتورين أو حتى إلى أغراض معينة مرتبطة بالإعاقة الجسدية كالكرسي المتحرك والعكاز والأطراف الاصطناعية. لذلك اعتُبرت متلازمة الهوية الجسدية نوع من ال«بارافيليا-Paraphilia» التي كانت تُعرف باسم الانحراف الجنسي.

يقترح أيضًا تسميتها بالxenomelia.

عام 1997، قام الطبيب ريتشارد برونو المتخصص في الأمراض الجسدية-النفسية بدراسة متلازمة سلامة الهوية الجسدية، وصنف الأشخاص المُصابين بها إلى ثلاثة أنواع:

1) الأشخاص الذين يرغبون البتر رغبةً بالإعاقة الجسدية نفسها، وتكون رغبتهم غير مرتبطة بهواماتهم الجنسية.
2) الأشخاص الذين يتظاهرون بالإعاقة الجسدية (من خلال استخدام كرسي متحرك مثلاً) ويقصدون الحصول على الانتباه.
3) الأشخاص الذين يُثارون جنسيًا بالجسد المبتور/المشلول، لذلك يرغبون بالظهور بهذا الشكل الجسدي.

حالياً، يُعتقد أن الأبوتيمنوفيليا هي اضطراب في الهوية، لذلك أصبح الاسم الأكثر شيوعًا لها هو متلازمة “سلامة الهوية الجسدية”.

أعراض المتلازمة

تبدأ عادةً الإشكالية الجسدية بالظهور منذ الطفولة. وقد يقوم الطفل بمحاولات لإيذاء الطرف الذي يرغب ببتره.

العارض الوحيد الذي يظهر هو الرغبة الحقيقية ببتر طرف معين، أو الشلل (من خلال قطع الحبل الشوكي) أو تعطيل عضو معين (مثل العيون مثلًا) بهدف خلق إعاقة جسدية. فيشعر الشخص المُصاب بالمتلازمة أن عضو معين بشع، ومن خلال التخلص منه يحصل على جسد أجمل. وأحيانًا يشعر بخط فاصل (بين العضو الذي يرغب ببتره و باقي جسده) يؤلمه.

وقد يحاول بكل الوسائل تحقيق رغبته من خلال إما إقناع الطاقم الطبي بالقيام بعملية بتر أو يقوم بها بنفسه (مثلًا اطلاق النار على قدمه، نشر يده بالمنشار، وضع مواد كيميائية مؤذية في عيونه،…).

أسباب متلازمة سلامة الهوية الجسدية

تصعب دراسة متلازمة سلامة الهوية الجسدية كونها نادرة في العالم، ولصعوبة تشخيصها كونها غير مصنفة في الدلائل التشخيصية العالمية المُعتمدة من قبل الأطباء النفسيين. لذلك لم تُدرس بشكل كبير الأسباب المؤدية لها.

ترتبط المتلازمة عادةً بأمراض نفسية أخرى: اضطرابات المزاج،  واضطراب القلق، واضطرابات الأكل، وتعاطي المخدرات وغيرها. لكن هذه الأمراض لا تُعتبر مسببة للمتلازمة.

تُظهر صور الرنين المغناطيسي أن الأشخاص المصابين بالمتلازمة يظهرون خللًا في الفص الجداري من الدماغ. فيكون الفص الجداري أقل نشاطًا ويحمل كمية أقل من المادة الرمادية الدماغية. من الجدير بالذكر أن الفص الجداري هو المسؤؤل عن تكوين صورة الجسد العقلية، وبالتالي أي خلل في هذه المنطقة الدماغية يؤدي إلى اضطراب في الهوية الجسدية.

علاج المتلازمة

لم ينجح أي علاج دوائي أو نفسي حتى الآن بمعالجة هذه المتلازمة. ولكن العلاج النفسي يساهم في فهم الشخص المصاب لحالته المرضية.

الطريقة الوحيدة لعلاج الرغبة الحقيقية بالبتر هي بتحقيقها! وقد خلقت هذه الطريقة “العلاجية”  جدلًا كبيرًا في المجال الطبي النفسي، بين اعتبار الشخص المصاب مستقل في قراره ومسؤول عن هذا القرار أو اعتباره مريضًا نفسيًا غير قادر على أخذ قرار يؤدي إلى إعاقته.

ولكن تجارب عدة مع أشخاص مصابين بالمتلازمة المذكورة أثبتت أنهم يرضون تمامًا بعد إجراء عملية البتر، ولا يبدون أي ندم حتى مع الصعوبات التي تنتج عن الإعاقة بعد العملية.

متلازمة سلامة الهوية الجسدية واحدة من أكثر المتلازمات غرابةً، ولا شك أنها تستحق تصنيفًا طبيًا واضحًا، تساهم في تعميق الدراسات حولها، وتبيان أسبابها ووسائل علاجها. ولكنها تثبت أن، في بعض الأحيان، الجسد السليم في الدماغ السليم.

المصادر:

Taylor and Francis Online
NCBI
Independant
Research Gate

كيف أثر الطاعون الأنطوني على الإمبراطورية الرومانية ؟

كيف أثر الطاعون الأنطوني على الإمبراطورية الرومانية ؟

تختبر جائحة كورونا إمكانات وقدرات عالمنا الحالي، لكنه كان واحد من الأوبئة الكثيرة والمختلفة التي سجلها تاريخ الأوبئة، وكان أحد هذه الأوبئة، “الطاعون الأنطوني”، أو “الطاعون الجاليني”(نسبة إلى الطبيب اليوناني جالينوس)، اندلع هذا الطاعون عام 165م في عهد “ماركوس أوريليوس”، واستمر في ظل حكم إبنه “كومودوس”، وكان أول وباء أصاب الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني الميلادي.

أعراض الطاعون الأنطوني

وصف الطبيب اليوناني “جالينوس”أعراض ومسار المرض، ومن الأعراض الأكثر إنتشارا، الحمى والقيئ والعطش وتورم الحلق والطفح الجلدي، وإسهال مسود يدل على وجود نزيف على مستوى الجهاز الهضمي، وسعال ذو رائحة نفس كريهة، عانى المصابون من المرض لمدة تصل إلى أسبوعين، توفي بعضهم، أما الناجون فقد طورت أجسادهم مناعة ضده.

متى ظهر؟

ظهر الوباء غالبا في الصين بقرابة عام 166م، وانتشر غربا عن طريق السفن التجارية المتجهة إلى روما.

قد تم آنذاك تداول أسطورتين تتحدثان عن أصل الطاعون، وتنسبه إلى عقاب إلهي، فالأولى تقول أن الجنرال الروماني قد فتح مقبرة مغلقة في “سلوقية” أثناء نهب المدينة مما آل إلى تفشي المرض، وقد كان المرض عقابا إلهيا لهم، أما الأسطورة الثانية فتقول أن جنديا من الرومان قد فتح النعش الذهبي الخاص بالآلهة “أبولو” في بابل مما سمح للطاعون بالفرار.

أما الطبيب اليوناني الذي شهد الطاعون، “جالينوس” فقد سعى لتشخيص، المرض بغرض تقديم مناهج علاجية له، وعلى الرغم من أن تقارير بعض الحالات السريرية التي عالجها جالينوس تقودنا إلى الإعتقاد بأن الطاعون ناجم عن الجدري، إلا أن التأكيد لازال غير موجود.

ضحايا الطاعون الأنطوني

قدر المؤرخ الروماني “ديو كاسيوس” 2000 حالة وفات يوميا في روما في ذروة تفشي المرض، ثم إرتفع إلى ما يقدر ب5000حالة في اليوم.

عند حلول المرض كان جيش روما يتكون من 28 فيلقا، بها 150000رجل، وتفشي المرض بينهم أدى إلى ضعف في القوة الدفاعية الخاصة بالإمبراطورية.

كان للطاعون دور في تقليل عدد المجندين ودافعي الضرائب والمرشحين للمناصب العامة وكذا رجال الأعمال والمزارعين، في وقت زادت فيه نفقات الحفاظ على الإمبراطورية والجيش اللازم لضمان أمنها.

تناقص عدد الإمدادات الغذائية وانخفضت الإيرادات الضريبية بإنخفاض إنتاج المزارع، وأعيقت الإقتصادات المحلية لتنقص عدد الحرفيين والقوى العاملة عموما، ولكن في المقابل زادت أجور الناجين من الموت، كل هذه الإنكماشات كانت تعني ضرائب أقل على الدولة في فترة مليئة بالضغوط.

تأثير الطاعون على روما

إتفق غالبية المؤرخين على أن التأثير الذي خلفه الطاعون كان شديدا، مما أثر على التجنيد العسكري، والإقتصاد الزراعي والحضري، وإستنزف خزينة الدولة.

قيل أن ضحايا الطاعون تقدر ب60-70 مليون، وهذا العدد يشمل ربع إلى ثلث سكان الإمبراطورية

أثر الطاعون الأنطوني على التقاليد الرومانية القديمة وترك بصمة على التعبير الفني، هذه الفترة إتسمت بأزمات صحية و إجتماعية وإقتصادية مهدت الطريق لدخول إمبراطورية القبائل البربرية المجاورة وتجنيد القوات البربرية في الجيش الروماني.

في الأونة الاخيرة إقترح”كايل هاربر”أن ” مفارقات التطور الإجتماعي وعدم القدر على التنبؤ المتأصل بالطبيعة عملت بشكل منسق لإحداث زوال روما”.

بعبارة أخرى فقد قدم تغير المناخ فرصة لإدخال أمراض أخرى أكثر كارثية بما في ذلك الطاعون الأنتوني، يقول هاربر بأن الطاعون الأنتوني كان الأول من ثلاثة أوبئة مدمرة بما في ذلك طاعون سيبريان (249-262) وطاعون جستنيان(541-542).

مصادر:

ANCIENT
PUBMED

Exit mobile version