نوبل في الطب 2020: ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟

نوبل في الطب 2020: ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟

في صباح اليوم الإثنين الموافق 5-10-2020، أعلنت الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم فوز كلاً هارفي ألتر، وتشارلز رايز، ومايكل هاوتون بجائزة نوبل في الطب لعام 2020 عن اكتشافهم فيروس التهاب الكبد الوبائي سي (HCV). فذلك الفيروس الذي ظل لغزاً مجهولاً لعقودٍ طويلة، ونتيجة للجهل بوجوده استطاع أن ينتشر في أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً مما جعله واحد من أهم أمراض العصر؛ فطبقاً لمنظمة الصحة العالمية (WHO) هناك أكثر من 71 مليون مريض مزمن بفيروس التهاب الكبد الوبائي سي، يموت منهم نسبة كبيرة جداً نتيجة لتليف وسرطان الكبد. إلا أنه مع المعرفة الصحيحة للفيروس، وتطوير العلاجات المتسمر تنحصر تلك النسبة المتوفية بشدة. ولكن ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟ هذا ما ستناوله بالتفصيل في الأسطر القادمة.

ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟

هو أحد أهم الفيروسات التي تصيب الكبد، وسر أهميته يكمن في صمته؛ حيث أنه لا يبدأ في إظهار أي علامات على وجوده إلا بعد فترة طويلة جداً من الزمن يكون الكبد قد تأثر بشكلٍ بالغ. ينتقل الفيروس عن طريق الدم مثله مثل فيروس ب ويتوجه للكبد ليبدأ دورة حياته:

  1. الارتباط : وفيها ترتبط مستقبلات على سطح الفيروس بمستقبلات على سطح خلية الكبد.
  2. دخول: بعد أن يتم الارتباط يتحرك الفيروس بما يحيطه من غلافه على سطح الخلايا مثل الكورة حتى يصل لنقطة معينة، تحديداً نقطة التصاق خليتي كبد متجاورتين، وهنا يدخل الفيروس الخلية مغلفاً بغلاف خلوي مصدره الغشاء الخلوي لخلية الكبد.
  3. التحرر: عند دخول الفيروس مغلفاً لا تلبث المادة الوراثية للفيروس أن تتحرر من الغلاف بفعل من درجة الأس الهيدروجيني للسيتوبلازم. وبذلك تكون المادة الوراثية للفيروس (وهي من النوع RNA) حرة.
  4. الترجمة: يتم ترجة المادة الوراثية للفيروس إلى مركب من البروتينات متلاصقة مع بعضها، يبلغ طولها حوالى 3000 حمض أميني.
  5. هنا يأتي دور إنزيمات من الخلية المضيفة حتى تشترك مع إنزيمات الفيروس في تقطيع ذلك المركب الضخم إلى البروتينات المنفردة التي تكون الفيروس، وعددها عشرة بروتينات.
  6. التكاثر: لاتزال الخلية المضيفة تقدم خدماتها لمراحل حياة الفيروس حيث في تلك المرحلة أيضاً تتعاون مع بعض بروتيات الفيروس حتى تكون ما يشبه بالحويصلة تصلح لتكاثر المادة الوراثية للفيروس، وزيادة أعدادها حتى تنتج أعداد غفيرة من الفيروس.
  7. التجميع: تجتمع البروتينات في ترتيبها الطبيعي محيطةً بالمادة الوراثية للفيروس ويضاف إليها بعض جزيئات من البروتينات الدهنية للخلية حتى يتكون التركيب الطبيعي للفيروس.
  8. الخروج والانتشار: بعد أن يكون الفيروس مكتمل النضج، يتحرر من الغشاء الخلوي لخلية الكبد للبيئة الخارجية للنسيج حتى يصيب المزيد من الخلايا.

تصاحب دورة حياة فيروس الكبد الوبائي سي العديد من الأعراض المرضية تُقسم حسب فترة ظهورها إلى أعراض حادة وأعراض مزمنة. أما عن الأعراض الحادة فتلك التي تظهر خلال ستة أشهر من الإصابة وتكون غير مميزة، ولا تستدعي الذهاب للمستشفى، وقد يستطيع جسم المُصاب أن يقضي على الفيروس في تلك المرحلة في قرابة 20% من الحالات فقط. في حالة نجاة الفيروس من تلك المرحلة يدخل المريض في الإصابة المزمنة التي غالباً ما يفشل جسم المريض فيها في التخلص من الفيروس وتتمثل خطورة تلك المرحلة في أنها قد تؤدي للإصابة بالتليف الكبدى وفشله عن أداء وظيفته بالإضافة للإصابة بسرطان الكبد المرتبط بشدة بالفيروس. وهنا يجب الإشارة أن السبب في كل ذلك هو رد الفعل المناعي تجاه الفيروس وليس الفيروس نفسه؛ فتواجد الفيروس داخل الخلية وتكاثره بها يتسبب في بعض التغيرات على سطح الخلية المضيفة تجعل الخلايا المناعية تتعرف عليها كجسم مريض يجب قتله، وبالفعل يتم قتل عدد كبير من خلايا الكبد المُصابة بسرعة تفوق قدرة الكبد على التعويض، وبالتالي يتم الشفاء عن طريق التليف، وكنتيجة لذلك لا يستطيع الكبد أداء وظيفته بشكلٍ مناسب ويكون معرض بشكل ضخم للفشل. والآن أصبح لدينا صورة كاملة ملخصة عن كيفية تفاعل الفيروس مع الجسم، تبقى لنا أن نعرف كيف استطاع علماؤنا الثلاثة الكشف عن ذلك العدو اللدود في الثلث الأخير من القرن الماضي

هارفي ألتر وفكرة وجود الفيروس:

كان كلاً من فيروس التهاب الكبد الوبائي أ و ب HBV&HAV متعارف عليه في أربعينيات القرن الماضي. وتم تطوير آليات للكشف عنهما في الدم بمرور الوقت؛ لتقليل الإصابة بإلتهاب في الكبد بعد عملية نقل الدم. وبالفعل قلة الإصابة بالاتهابات الكبد بشكل ملحوظ، ولكن ظلت هناك نسبة كبيرة من التهابات الكبد مجهولة المصدر والذي استطاع هارفي ألتر الكشف عنها في العديد من أوراقه البحثية سنتابع منهم ثلاثه أمثلة:

1. الدراسة الأولى:

قام ألتر بجمع عينات دم ل 22 حالة قبل وبعد اسقبالهم للدم وكشف فيها عن: أجسام مضادة للفيروس التهاب الكبد ب و أ، بالأضافة لأنتيجن فيروس ب (الأنتيجن هو مركب مميز على سطح الكائنات الممرضة تتعرف عليها خلايا المناعة)، وكذلك أجسام مضادة لفيروسات EBV و cytomegalovirus وجميعها تُصيب الكبد بالتهاب. وعلى الرغم من أن الحالات جميعاً كانت مصابة بالتهاب في الكبد ألا أن النتائج كانت كما يلي:

  1. فيروس أ: سالب قبل وبعد استقبال الدم.
  2. فيروس ب: سبع حالات كان لديها أجسام مضادة قبل استقبال الدم مما يعني إصابتها به من قبل، و 15 حالة لم تعبر عن أجسام مضادة سواء قبل أو بعد استقبال الدم فقط حالة واحدة ظهر فيها أجسام مضادة بعد عملية نقل الدم، إلا أن جميع الحالات لم يتواجد في عيناتها أنتيجين فيروس ب سواء قبل أو بعد نقل الدم.
  3. EBV: جميعهم تواجدت في أجسامهم الأجسام المضادة لذلك الفيروس قبل عملية نقل الدم، ولم يزداد تركيزها بعده مما يعني عدم الإصابة.
  4. cytomegalovirus: فقط تسع حالات من عبرت عن أجسام مضادة بعد نقل الدم إلا أنه يُستبعد أن يكون ذلك الفيروس السبب لالتهاب الكبد لديهم لعدم توافق أعراضه الإكلينيكية مع أعراض الحالات المُصابة.

2. الدراسة الثانية:

كانت هدف هذا الدراسة بشكل رئيسي تحسين الاختبارات المُستخدمة في عملية نقل الدم. وقد استعان فيها ألتر وفريقه بعينه مكون من 108 شخص استقبلوا الدم، واتضح أن منهم 12 شخصاَ أصيب بالتهاب في الكبد ولكن ما السبب؟! بعد عمل تحاليل الدم المناسبة اتضح أن أربع حالات فقط هي من أصيبت بفيروس التهاب الكبد الوبائي ب، أما الثماني حالات الباقية فلم تظهر تحاليلهم نتائج إيجابية للإصابة بكلٍ من فيروس ب وأ وEBV و cytomegalovirus. فبذلك جائت تلك الدراسة مؤكدة لسابقتها.

3. الدراسة الثالثة:

هنا أكد في تلك الدراسة على وجود فيروس مجهول يُسبب المرض وأكد أنه قبال للانتشار مثله مثل قرينه فيروس ب. في تلك الدراسة استعان فيها بحيوان الشمبانزي، ولكن لماذا الشمبانزي تحديداً؟ لإن الشمبانزي مثله مثل الإنسان يُصاب بفيروس التهاب الكبد الوبائي ب وأ. قام ألتر وزملائة بجمع عينات دم من أربعة مصابين بالتهاب كبد ثبت أنه ليس نتيجة لفيروس ب أو أ وحقنوها في خمسة حيوانات شمبانزي وعزلوهم عن بعضهم العض، وبعد فترة قاموا بمتابعة تحاليل الدم خاصتهم وأخذ عينات من الكبد التي أظهرت إصابة ثلاثة من الشمبانزي بالمرض حيث الارتفاع في إنزيمات الكبد، وكذلك أظهرت العينات تحت الميكرسكوب مظهراً مشابه بشدة لمظهر التهاب فيروس الكبد الوبائي ب مما يؤكد أن ما يتسبب في ذلك الاتهاب هو أيضاً فيروس، والأمر الآخر الذي يؤكد ذلك أنهم استطاعوا تحديد مدى معين لفترة الحضانة.

بذلك لن نكون مخطئين إذا قولنا أن هارفي ألتر نجح في توجيه الأبصر، والمجهودات ناحية فيروس جديد مجهول ممكن أن يكون أكثر خطورة من فيروس التهاب الكبد الوبائي ب.

مايكل هاوتون وعبقرية اكتشاف الفيروس:

إذا أردت أن تعرف أني موجود عليك أن تراني بعينيك، ولكن هل تلك الطريقة الوحيدة التي تتأكد فيها من وجودي؟ في الحقيقة لا فقط تدرك وجودي من آثار أقدامي مثلاً. ونحن أمامنا مثال حي يدعم تلك الإجابة وهو مايكل هاوتون؛ فهاوتون لم يكن تقليدياً في بحثه فلم يضيع وقته في محاولة عزل الفيروس ورؤيته بشكل مباشر. فاتبع افتراض أنه لطالما أن المسبب في ذلك المرض قد يكون بنسبة كبير فيروس فمؤكد سيسبب ذلك الفيروس رد فعل مناعي ويتواجد ضده أجسام مضاده في الدم، فلم لا نستغل النتيجة أو الأثر للوصول للسبب؟ هذا ما فعله هاوتون. حيث أنه قام بحقن عينة من مصابي التهاب كبد مجهول السبب في حيوانات الشمبانزي حتى تكون بمثابة بيئة لتكاثر المادة الوراثية للفيروس، بعدها تم الحصول على عينات من تلك الحيوانات وعزل المادة الوراثية التي تتكون من المادة الوراثية للشمبانزي والفيروس، وقام بتقسيمها وزراعتها في بكتيريا حتى تعبر تلك الأحماض النووية عن نفسها وتصنع بروتيناتها والجدير بالذكر أنه حصل على عدد ضخم جداً من تلك الأحماض النووية تُعد بالملايين. وبعد ذلك عرضها على بلازما مصدرها المرضى من البشر، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن عينة واحدة فقط من الأحماض النووية كانت صحيحة أي ارتبطت بها الأجسام المضادة. تم عزل تلك العينة والإكثار منها للحصول على الترتيب الجيني للفيروس، وقد استغرق ذلك العمل قرابة السبع أعوام ونتج عنه التعرف على الفيروس وتسميته بفيروس سي.

تشارلز رايز وآخر قطع الأحجية:

هل يكفي فيروس سي وحده للتتسبب بالمرض؟ الإجابة كانت من عند تشارلز رايز الذي نجح في مقارنة الأحماض النووية لعينات من فيروس سي. حيث أن المادة الوراثية لفيروس سي هي من النوع RNA، ونتيجة لذلك يزداد معدل الطفرات بشكل قوي عن الطبيعي فبتالي ليست جميع جزيئات فيروس سي تمتلك نسخة مطابقة للمادة الوارثية بل إن الكثير منها قد يمتلك في طيات مادته الوراثية ما يعرقل تكاثره وتسبيبه للمرض وهذا ما اكتشفه تشارلز رايز. وقد اكتشف أيضا تتابع مميز من القواعد النيتروجينة في إحدى نهايات جزيئ ال RNA افتراض أنها مهمة جدا في دورة حياة الفيروس. وعليه قام تشارلز بعزل تلك التتابعات التي اعتقد أنها قد تعرقل تكاثر الفيروس، وحافظ على ذلك التتابع المهم، حتى يتكون لديه الفيروس المثالي ومن ثم قام بحقنه في الشمبانزي الذي تسبب فعلا في المرض والتدمير المزمن للكبد.

النتائج:

استطاعت تلك الأبحاث سالفه الذكر أن تغير من موقف البشرية أمام ذلك الفيروس المخادع؛ فبعد الوصول الدقيق لتركيبه الشكلي والجيني والبروتينات الموجودة على سطحه أصبح من الممكن توفير الإمكانيات المناسبة للتعرف على وجوده في الدم حتى يقل بذلك الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي المرتبط بعمليات نقل الدم، وتتوفر الطرق المناسبة للتشخيص. والأهم أيضاً أن بالمعرفة الدقيقة للفيروس استطعنا تطوير علاجات مناسبه منها ما يمنع تكاثر الفيروس مثل Ribavirin عن طريق منع تصنيع مادته الوراثيه RNA. ومنها من يعمل على قتل واستهداف الفيروس بشكل مباشر. ومنها من يسهتدف خطوة تقطيع مركب البروتين الذي يتم تكوينة بعد خطوة الترجمة وبذلك يمنع تكوين الفيروس وانتشاره. وبالطبع هناك عقار Sovaldi المشهور الذي يمنع تكاثر الفيروس. ولا يزال التطور قائم باكتشاف عقارات جديدة أو بالدمج بين أكثر من عقار.

مصادر (نوبل في الطب 2020: ما هو فيروس التهاب الكبد الوبائي سي؟ وكيف تم اكتشافه؟):

WHO report

HCV life cycle-Hepatitis online

Us san diego health

nobel in medicine

NEJM

Lancet

Hepatology

Lancet

Science

Health line

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

في صفحات هذا الكتاب استطاع الكاتب الكبير زكي نجيب محمود، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والكاتب أحمد أمين أن يأخذوا عقولنا في آلة الزمن؛ ليعودوا بنا آلاف السنين فنقابل أبرز العقول المنتجة للفكر، والحضارة، والتي تجلى فيها إعمال العقل لأول مرة في التاريخ تقريباً.

رصد الكاتبان ما أنتجته أدمغة هؤلاء، وكيف نظروا للوجود وما وراء الوجود والسعادة والشقاء وغيرها، كل ذلك وأكثر في ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية.

فلاسفة يونيا:

في يونيا أو أيونيا الواقعة في الجانب الغربي في آسيا الصغرى كانت بداية كل شئ، فلو دخلنا آلة الزمن لنصل لأول نقطة بدأ عندها التفكير حتماً سنسافر ليونيا؛ حيث التفكير في علل الكون.

من أين جاء الكون؟ وما السر وراء تصرفه على ذلك النحو؟ فهناك ولأول مرة لم تكن إجابات تلك الأسئلة مرتبطة بالأساطير، بل بالتفكير الباحث عن الحقيقة لا الأوهام.

1. طاليس

كانت السؤال الأول الذي دار في أذهان المفكرين الأوائل هو: ما هو أصل الكون؟ هل هناك مادة معينة تشكل منها الكون بأكمله؟ هذا ما حاول طاليس الإجابة عنه ووقع اختياره على الماء؛ فالماء تارة يصبح غازاً، وتارة صلب، وتارة أخرى سائل. لم لا يكون أساس كل المواد هو الماء باعتبار حالات المادة الثلاث؟ فباختلاف كمية الماء وحالته يختلف العنصر المتكون.

افترض طاليس أيضًا أن الأرض ما هي إلا قرص يطفو فوق سطح من الماء غير متناهي الأبعاد. وقد كان طاليس عالماً بالرياضيات؛ فقيل أنه علّم المصريين كيفية قياس ارتفاع الهرم عن طريق ظله. وكان مولعاً بالفلك فاستطاع أن يتنبأ بكسوف الشمس عام 585 قبل الميلاد.

قد ترى أن نظرياته تلك محض خرافة يزدريها العقل ولكن تذكّر أنه أول من حاول أن يفسّر الكون دون الاعتماد على أساطير الشعراء، ويصعب عليه بمقتضيات عصره أن يصل للحقيقة لكن على الأقل بدأ تشييد مفهوم “التفكير لتفسير الطبيعة”.

2.أنكسمندر

نفى تماماً اقتناعه بأن الماء هي الأساس، ولم يضع مادة بديلة واضحة. بالطبع لم يكن عمله الفلسفي مقتصر على نفي رؤية طاليس؛ حيث افترض أنكسمندر أن الأرض في الأساس كانت سائل أخذ يتغير في أحواله بين التجمد والتبخر حتى تكونت طبقات الهواء فالتقى البخار الساخن مع الثلج البارد فكوّنا الكائنات الحية.

اقتصرت الكائنات الحية في بدايتها على الكائنات البحرية فقط ثم أخدت المياه في الانحسار فطورت الأسماك أرجل بدل من الزعانف لاستيطان الأرض، وظلت ترتقى حتى وصلت لأرقى الكائنات وهو الإنسان. يظهر بوضوح التشابه بين نظرية أنكسمندر ونظرية التطور لداروين.

3. أنكسمينس

الجوهر من وجهة نظر أنكسمينس في الهواء؛ فهو يتكاثف ويكوّن السحاب وينزل كقطرات، ويتبخر، ومن الممكن أن يتجمد ويكون مواد الصلبة مثل التربة والصخور وغيرهم. وكذلك الهواء منتشر في كل أجزاء الأرض فهل يوجد على الأرض ما هو فارغ من الهواء؟! إذا -من وجهة نظر أنكسمينمس- الهواء هو الأصل وليس الماء كما رأى طاليس، ولا مادة غامضة كما رأى أنكسمندر.

الفيثاغوريون:

فيثاغورس

كثرت الحكايات والأساطير حول فيثاغورث الذي نُسبَ إليه العديد من المعجزات صعبة التصديق حتى صعب تتبع حياته، ولكن ظلت بعض الحقائق لا شك فيها حيث كان فيثاغورس رجل ينشد للزهد والورع وحياة التقشف هو وجماعته.

كانوا يدعون للإصلاح الديني ولا صلة بينهم وبين أمور السياسة، لكن تعاليمهم المتصوفة الغريبة جعلتهم محط لأنظار حكومة كروتونا -مكان إقامة الجماعة- فاضطهدتهم الحكومة وأحرقت مقرهم، وقتلت بعضهم وشردت البعض، لكن بعد فترة استطاعوا أن يعودوا من جديد.

تُنسب لتلك الجماعة اهتمامهم بالتفكير بشكل ضخم، فمن وجهة نظرهم فالتفكير هو سبيل لتطهير الإنسان. وقد اهتموا بالموسيقى والعلوم الطبيعية من الطب وغيره، وطبعاً معروف اهتمامهم بالعلوم الرياضية أشد اهتمام.

بحث الفيثاغوريون عن علة الأشياء، أو المشترك بينها فوجدوا أنه العدد؛ فجميع الصفات من لون ورائحة وطعم وشكل وغيرهم صفات تتغير ويختلف إدراكها من شخص لآخر، وهذا لا ينطبق على الأعداد؛ فيستطيع الشخص تصور برتقالة ملونة باللون الأحمر أو الأرزق أو حتى شفافة، لكن مستحيل أن يتخيلها بلا عدد.

كان الفيثاغوريون محقين في ذلك، ولكن يُعتقد أنهم غالوا في قيمة الأعداد حتى أنهم لم يميزوا بين عد الأمور الملموسة وبين الأعداد الهندسية؛ فسقط من حساباتهم أن الخط المستقيم يتكون من عدة نقاط وهمية، بل افتراضوا أن تلك النقط الوهمية حقيقية، فاعتبروا أن العدد هو أساس الكون مثله مثل الماء عند طاليس والهواء عند أنكسمينس.

افترض الفيثاغوريون أيضاً أن كل عدد يعبّر عن شئ مثل ستة فهو حياة ونشاط، أما سبعة عقل وصحة، إلا أن ذلك ممكن أن يكون من قبيل الرمز، فقد اشتهرت تلك الجماعة باستخدامهم رموز بلغت من الغموض ما بلغت في صياغة أقوالهم الحكيمة. استطاعت تلك الجماعة أن تجعل الفكر أكثر تجريدا ناظراً للأمور الأساسية للتعرف على ميزات وهوية المادة.

الإيليون:

يُنسب اسمها لإيلية وهي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا.

إكزنوفنس

كان جوالاً يطوف البلاد ناشداً الأشعار تلك الأشعار التي شكلت أساس لأفكار تلك المدرسة. فاقتبسها بارميندس وجعلها عمود الخيمة لمدرسته الفكرية. وكان من أهم ما ورد في إشعاره دعوته للإصلاح الديني حيث ازدرائه لآلهة اليونانيين حيث يُنكر على الشعب تشكيل آلهته في صورة البشر؛ قائلاً أنه لو كان الثور أو القرود حيوانات عاقلة لحسبت آلهتها في شكل ثور وقرد. معناه أن تشكيل اليونانيين لآلهتهم في شكل بشر نابع من قصور في خيالهم ليس إلا. وأنكر على شعرائهم كيف أنهم صوروا الآلهة تمكر وتخدع وتخطأ كما يفعل البشر، فمن وجهة نظره لا يصح أن يشبه الإله البشر بأي شكل من الأشكال لا في الصورة ولا في الفكر. وافترض إكزنوفنس أن الإله والعالم شيئ واحد لا شيئين. ورأى أن الأرض ستغرق في الماء ويفنى كل من عليها ثم تعود من جديد ثم تغرق مرةً أخرى. ورأى أن الشمس لا تدور حول الأرض أو العكس، بل أنها تتحرك في خط مستقيم حتى تفنى في الفراغ ثم تُخلق واحدة جديدة في اليوم التالي وقال هذا الكلام ليثبت فناء الشمس فإذا لا تصح أن تكون إله.

بارمنيدس

لا شيئ ثابت إذا لا شيئ حقيقي عدا الوجود. هذه الجملة تختصر فلسفة بارمنيدس حيث أنه تأمل من حوله فوجد أن كل شيئ نهايته الزوال أو التغير. فكل ما نشاهد متغير إذا لابد من وجود حقيقة مطلقة ثابته لا تتجزأ موجودة منذ الأزل لا تتغير مع الزمن تلك الحقيقة ما هي إلا الوجود. أنكر ما نشاهده من أشياء حولنا فكلها متغيره فانكر إدركنا لها، ولكن اعترف بما سماه الوجود الذي لا يدركه حس ولا حتى عقل. وقد رأي أن حقيقة الكون الوجود هذا فيه تجريد للمادية، لكنه ناقض نفسه حين صور الكون كرويا فكيف يكون الوجود غير مادة ويُصف بأنه كروي ويشغل حيز من المكان؟! أن في هذا لتناقض واضح.

زينو

لم يكن له آرائه المطلقة بل كل ما فعله هو إضافة البراهين على صحة وجهة نظر معلمه بارميندس. فأنكر كلاً من الحركة والكثرة. فمن وجهة نظرهه حقيقة الكون مطلقة مفردة لاحركة فيها جامدة، بمعنى أن كل ما نشاهد من تعدد وكثرة للأنواع في الأشياء في الكون ما هو إلا ظلال تخدعنا بها حواسنا فنحسبها حقيقةً لكنها ليست كذلك. والأمر ذاته ينطبق على الحركة.

الدليل على بطلان الكثرة:

لو افترضنا أن الكون مكون من أجزاء أصغر حجماً فذلك حتماً سيقودنا لتناقض صعب. حيث أن تلك الأجزاء بطبيعة الحال لابد لها من أن تتجزأ إلى ما هو أصغر منها فأصغر منها حتى تصل لأجزاء بالغة الصغر لا حجم لها إذا سيكون الكون كذلك بالغ الصغر لا حجم له؛ لأنه مجموع الأجزاء الصغيرة تلك. وكذلك سيكون الكون كبير جدا غير متناهي في الحجم حيث ستظل تلك الأجزاء الصغيرة تتجمع مع بعضها البعض إلى ما لا نهاية. هذا هو التناقض إذا فالكون لا يتجزأ، مثلما قال بارميندس أن الكون هو الوجود المطلق الغير قابل للتجزئة.

الدليل على بطلان الحركة:

إذا انطلق سهم من الرمح صوب هدف معين لابد له ان يكون ثابت في كل لحظة زمنية في مكان محدد حيث لا يمكن أن يكون في مكانين في الوقت ذاته؟! إذا مجموع اللحظات الزمنية ستكون السكون وليست الحركة. وهذا يعني ان الحركة وهم تختلقه حواسنا.

الغريب في الأمر ان تلك الحجج قد تظهر غريبة أو تافهة إلا أنها خلفت وراءها جدل لايزال قائم، وشارك فيه هيجل وكانت وغيرهم حول حقيقة الزمان والمكان. إذا تتبعنا ما نتج عن تلك المدرسة سنجد انها تؤمن بالوجود المطلق غير المتغيرفي الحركة ولا قابل للتجزئة وأن كل ما هو متغير ومتعدد هو بالضرورة وهم ليس إلا. وبذلك تكون شيدت تلك المدرسة عالمين متخلفين منفصلين أحدهما الوجود الحقيقي والآخر الوهم اللذي نراه فزادت من المشكلة تعقيداً.

هرقليطس

كان هرقليطس شخص أرستقراطي معتز بنفسه بشدة يرى العامة مجرد أنعام تؤثر الكلأ على الذهب، محتقراً قادة الفكر في عصره أمثال فيثاغورس، وإكزنوفنس. أنكر مبدأ الوجود المطلق الذي آمنت به مدرسة الإيليون؛ فهو مؤمن بأن لا شيئ ثابت لحظتين متتابعتين، حتى ذلك الجبل فهو يطرأ عليه التغيرات مع ما يحيطه من بيئة فيظهر أمامنا ثابت لكنه دائم التغيير لا فرق بينه وبين الحشرة الواقفة عليه دائمة الحركة. فهرقليطس اختلف مع تلك المدرسة التي قسمت الدنيا إلى الوجود المطلق الحقيقي والوهم الباطل المتشكل لحواسنا، أما هرقليطس فآمن بأن كل شيئ موجود دائم التغير فهو موجود وغير موجود في آنٍ واحد مثلا الهاتف الذي تقرأ به المقال بين يديك موجود لكنه دائم التغير. هذا ما أسماه بالصيرورة: هي التحول بين الموجود ولا موجود فلا يبقى هاتفك على حاله لحظة واحدة. كما أن هرقليطس بحث هو الآخر عن مادة أصل الكون كما فعل سابقيه وافترض أنها النار فالنار دائمة التغير تحول المواد من حالة لحالة، وما أصل الإنسان سوى النارالتي تتغذى على الهواء والمدركات الحسية ولذلك عقل الإنسان دائم النشاط حتى يتوقف تماماً عندما تنطفأ جذوة تلك النار، وهنا يموت الإنسان. لعلك لاحظت أن اختياره للنار نابع من إيمانه بالتغير الدائم للأشياء (الصيرورة) وهذا يظهر بشدة في النار.

إمبذقليس

لم يكن مبدعاً خالصاً فكان دوره أشبه بالمصلح ليس إلا؛ فقد أراد أن يوفق بين فلسفة هرقليطس والمدرسة الإيليون. فأمامه الأول مؤمن بالصيرورة والتغير الدائم للأشياء، والثاني مؤمن بالوجود المطلق الثابت غير المتجزأ. ليوفق بينهم افترض أن الأشياء جميعاً تتكون من ذرات ثابته تنطبق عليها مواصفات الوجود المطلق التي افترضتها مدرسة الإيليون، ولكن صورتها قد تتغير فتتحول لمادة أخرى ولكن بنفس الذرات فما يتغير هو الصورة والهيئة أما الجوهر من الذرات فهو ثابت. وافترض أمبذقليس أن أصل الكون يتكون من أربع مواد أساسية لا يتحول أحدهم للآخر، وعند اختلاطهم ببعض بنسب مختلفة تتكون مختلف المواد وهم: التراب، والماء، والنار، والهواء. لكن اختلاط تلك المواد يتطلب حركة وأمبذقليس قال أن تلك الذرات ثابته لا تتحرك مطلقاً فكيف يكون ذلك؟! لابد أن تكون طاقة الحركة خارجية في الحقيقة هما طاقتان تعملان ضد بعضهم البعض وهما الحب والبغض. ففي البداية كانت تلك المواد الأربعة مختلطة مع بعض ثم أخذت قوة البغض أو الكراهية تبعدهم عن بعض وأخذت العناصر المتشباهة تتجذاب فتكونت الماء والتراب والهواء والنار مستقلين ثم سيطر الحب مرة أخرى ليحاول أن يجمع بينهم ثم البغض وهكذا دواليك سيطرة تلك القوتين المتضادتين على الكون بين الجمع والانحلال.

المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد

ديموقراطيس

كان الغريب من أمبذقليس أنه لم يعط أي اهتمام لمبدأ الذرة الذي ذكره على الرغم من كونه أساس كلامه. كما أن فرض أن الحب والكره هما أساس الحركة الدائمة بين العناصر كان مبدأ شعري أكثر من كونه مبدأ منطقي فلسفي. فجائت المدرسة الفلسفية الجديدة لمؤسيسيها ديموقراطيس وليوسبس تقول أن المواد جميعاً تتكون من ذرات أولية وليست العناصر الأربعة التي ذكرها أمبذقليس تلك الذرات صغيرة جدا بحيث لا تدركها الحواس مطلقاً وباختلاف طريقة تراكب تلك الذرات تختلف خواص الأشياء وهيئتها. وقالوا أن الذرات تتصف بالصلابة بحيث لا تقبل التقسيم لأجزاء أصغر، ولها وزن وحجم ولها غلاف. وبين تلك الذرات في المادة يوجد الفراغ بمعنى أن المادة تتكون من ذرات وهي الممثلة للوجود وبينها فراغات وهي الممثلة للعدم. فبذلك ضمت المادة عنصري الوجود والعدم في آنٍ واحد. وكان تفسيرهم لمبدأ الحركة معتمد بشكلٍ أساسي على صفة الثقل التي امتازت بها الذرات حيث نتيجة لاكتسباها تلك الصفة فهي إذاً تسقط بشكل لا نهائي في الفراغ، وكلما زاد الثقل زادت سرعة السقوط -هذا ما ظنه الذريين- وعند تصادم تلك الذرات تتكون العوالم وليس عالمنا هو الوحيد الموجود فبناءاً على ذلك هناك عدة عوالم مختلفة. وكان فكر ديموقراطيس ملحد حيث من وجهة نظره الآلهة تولدت من خوف الإنسان من الظواهر الطبيعية المختلفة مثل الزلازل والبراكين وغيرها، وكنتيحة لذلك ظل الإنسان يلوم نفسه أنه هو من أغضب الآلهة أو أن تلك الآلهة يوجد بينها خصومة تضر بعالم البشر المهم أنه يوجد كائنات ضخمة جبارة هي السبب في تلك الظواهر.

أناكسجوراس

تأثر أناكسجوراس بآراء سابقيه أيما تؤثر فرفض بعض مبادئهم وطور من آخرين. فهو ينكر قول الذريين بأن المواد جميعاً على مختلف أشكالها تتكون من ذرات واحدة وأنكر مبدأ العناصر الأربعة مظهراً تعجبه في إعادة أصول المواد المختلفة لمواد أخرى فلماذا لا يكون الذهب ذهباً منذ الأزل؟ لماذا يرجعون تكوينه لعناصر أربعة أو لذرات؟! فوجد أن كل المواد هي نفسها منذ الأزل، وكانت خليطاً ثم أخذت في الانحلال والاتصال مراراً وتكراراَ، فلن تصل لحالة النقاء الخالص حيث لن يكون الذهب ذهباً دون شوائب من مواد أخرى وفي نفس الوقت سيظل ذهباً. والحركة ما هي إلا بحث المادة عن شبيهها، وهي لن تصل أبداً للنقاء الكامل. ولكن ما أصل تلك الحر كة من الأساس ما هي القوة المؤسسة لها؟ هنا يجيب أناكسجوراس أنه عقل رشيد منظم للكون يسيره في نظام، وأنه هو أصل ذلك الجمال الذي يملأ الكون فقد أنكر ظاهرة الحب والبغض التي قصها أمبذقليس وكذلك أنكر السقوط الحر على غير هدى الذي تبناه الذريين.

السوفسطائيون

كانت الأحوال الاجتماعية والسياسية في اليونان مناسبة لظهور تلك المدرسة؛ حيث بلغت الديموقراطية حد قبيح حتى أن بعض المدن التي تتكون من عدد محدود من الأفراد أصبحت تُحكم من قبل الأفراد جميعاً كلٌ يبحث عن مصلحته، ويبحث عن التفرد حتى كان الحكم للغوغاء ليس لإولي العلم. وهذا ما سمح بخروج تلك المدرسة التي تنكر المعرفة وتهتم بالخطابة. فتلك المدرسة ترى أنه يمكن أن تجهل مبادئ ما تتحدث فيه، ويكفيك الاستعانة بمحسنات اللغة من الاستعارة والكناية ومهارات الخطابة حتى تكون محنكاً فيما أنت بصدده رغم جهلك. وقد اتخذوا مبدأ الفترة الزمنية وقتها وهو أن الإنسان هو مقياس كل شئ فلا صح ولا خطأ مطلقين هناك فقط الإنسان. وقد رأوا أنه لا سبيل لمعرفة الحقيقة؛ نتيجة للاختلافات بين الناس في تأويل الأشياء. فمثلا منهم من يرى الجسم مكعب والآخر يراه كورة إذا لا سبيل لمعرفة حقيقة الجسم. بل لا وجود للحقيقة أصلا ذلك الجسم موجود في أذهاننا لا وجود له في الواقع. بمعنى أن إنكار تلك المدرسة لوجود الأشياء نابع من الاختلاف في التأويل بين الناس فهم يرون أنه لا وجود للخطأ بحكم أن كل أنسان هو المقياس إذا فلا خطأ، ولا حقيقة مستقلة، وبالأحرى المعرفة ما هي إلا وهم من وجهة نظرهم؛ فهم نحوا الحكم العقلي جانباً وتركوا الحكم للحواس التي تختلف في إدراكها للأشياء ونتجية لذلك الاختلاف أنكروا وجود الأشياء من الأساس.

سقراط

كان رجل الحوار؛ حيث كان يطوف الأسواق والتجمعات يحاور الناس ويتحدث معهم كاشفاً نقاط قوة وضعف أفكارهم. كان رجلاً محب للحكمة غير معترف بتميزه فدائماَ ما كان يقول: (أنا أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئ) كانت نهايته مأساوية فاتهم بالإلحاد والسفسطة وإفساد الشباب فحُكم عليه بالإعدام بالسُم ومات. لكنه خلف ورائه إرث أعاد إحياء الفلسفة، والتفكير بعدما قتلوا على يد السوفساطئيين. حيث ذهب السوفساطئيين كما عرفنا أن الإدراك الحسي هو أساس كل شيئ وهذا ما نفاه سقراط حيث أن ذلك الإدراك ما هو إلا إدراك جزئي للأشياء لكن إدراك الصفات المميزة للمواد والأشياء، وحصرها تلك الصفات التي تشيع بين أفراد نفس النوع هو بحد ذاته المعرفة. فمثلا تختلف الأحصنة في عدة صفات مثل اللون والحجم وغيرهم وهم يعدون من المدخلات الحسية دورالعقل هنا البحث عن أمور مشتركة مثل الصهيل حتى يحدد تعريف الحصان ويحصل على المعرفة. فبذلك كان طريق سقراط للمعرفة هو التجريد من المتغيرات أو الصفات الجزئية للوصول لوصف كلي يضمن المعرفة القويمة بالشيئ. فبذلك كان الإدراك العقلي للأشياء القائم على التجريد فهو أساس المعرفة. كانت تلك المفاهيم من أهم ما أنتجه سقراط للعقل البشري ليمثل النور بعد غياهب جهل السوفساطئيين، لكنه لم يقتصر على ذلك فأخذ يتسائل ما هي الفضيلة؟ كان عمل سقراط في تعريف المعرفة هادف لمعرفة الفضيلة فبالنسبة له الفضيلة والمعرفة ملتصقين ببعض؛ بحيث أنه عندما يدرك الشخص الخير، ويفهمه ويدرك الشر والفساد ويفهم عواقبهما مؤكد أنه سيسلك طريق الخير ويترك طريق الشر. إذا فالفضيلة قائمة على المعرفة أو الإدراك العقلي. بذلك يكون سقراط وقع في الزلل حيث أنه لم يفهم أن الإنسان أيضاً يحمل العاطفة والشهوة ليس العقل وحده؛ فلا تكفي المعرفة العقلية لأداء الفضيلة بل لابد من وجود إرادة للتغلب على الشهوات. وبذلك كان إرث سقراط متمثل في نظريته المعرفية وفلسفتة في الفضيلة.

أفلاطون

نشأ في ظروف تسودها الفوضى في المجتمع الأثيني حيث الحرب الشديدة مع الفرس وفساد كلاً من الديموقراطية والأرستقراطية. وكان كثير الترحال يتعلم عن مختلف المدارس الفسلفية المختلفة من خلال تلك الرحلات فقد عرف فلسفة هرقليطس، وسقراط فقد كان أفلاطون تلميذاً مخلصاً له، والفيثاغوريين، والمدرسة الإيلية. واستقر في أثينا في المرحلة الأخيرة من حياته وهناك أسس أكاديمية أفلاطون. فقد كان أفلاطون أول فيلسوف تأمل في جميع مناحي الحياة مثل أساسها ومن أين جاء الكون، الأخلاق، السياسة، الفن….إلخ فخلف وراءه منظومة فلسفية متكاملة لها ما لها وعليها ما عليها. وقد امتازت كتبه بأسلوبها الحواري المميز واعتماده في بعض الأحيان على الشعر والأساطير والقصص التي غلفت بعض النقاط في فلسفته بالغموض. وقد كان أفلاطون مكملاً لكلام أستاذه في نظرية المعرفة، وله فلسفته الخاصة المعتمدة على المُثل، كما أنه له طريقته في النظر للإنسان والدولة.

نظرية المعرفة

بدأ أفلاطون يهدم كلام السوفساطئيين من أساسه عن طريق الحجج المناسبة فمثلاً:

1.إذا كان لا وجود للخطأ لأن كل شيئ مقياسه الإنسان فماذا لو قال أحدهم أنه سيصبح وزيراً بعد عام وانتهى العام ولم يصبح شيئاً هل سيكون توقعه بهذا الشكل صحيح؟ّ!

2. ما الفرق إذا بين الإنسان والحيوان إذا كانت المعرفة يتم الحصول عليها من قبل الحواس فقط دون تدخل عقلي؟! وكيف يكون الإدراك لو كان عن طريق الحواس فقط ونحن نعطي الأشياء مسمياتها ونتعرف عليها من خلال الإدراك العقلي؛ فالعين وحدها غير كافية للإدراك؟!

وغيرهم العديد من الحجج التي ساقها أفلاطون ليثبت خطأ نظرة السوفساطئيين ويثبت كلام معلمه حول نظرية المعرفة.

نظرية المُثل

كما اتضح في السطور السابقة أن أفلاطون سار على خطى أستاذه سقراط بأن الحقيقة في المدركات العقلية المجردة. لكن أفلاطون ذهب لأبعد من ذلك حيث رأى أن تلك المدركات المعرفية، أو الحقائق لابد أن يكون لها وجود حقيقي. من وجهة نظره كيف نسمي الحقيقة حقيقةً إن لم يكن لها وجود حقيقي؟! بمعنى أن إدراك العقل للحصان يعتمد على صفات مشتركة مجردة من التغيير، وهي ما تُسمى معرفة إذا فلابد لوجود مثال لتلك المعرفة وفي تلك الحالة سنقول عنه (مثال الحصان). وعندما يصف الإنسان بعض الأشياء بصفة الجمال مثل وصف الوردة أو القمر أو مشهد الغروب… إلخ لابد من وجود مثال للجمال، كذلك مثال للخير والشر والقبح والزريلة وهكذا دواليك. تلك الأمثلة متواجدة في عالمها المستقل متصفة بعدة صفات مثل الأزلية وأنها غير محدودة بزمان ولا مكان وأنها عناصر مستقلة لم يتسبب في وجودها شيئ وغيرها من الصفات التي تدل على التجريد والعموم. وشرح العلاقة بين تلك الأمثلة وأنها ممكن أن يكون بعضها منبثق من الآخر فهناك أمثلة دُنيا منبثقة من أمثلة أخرى أعلى منها وهكذا حتى نصل لقمة البناء الهرمي وهو (مثال الخير) فمنه كل شيئ وإليه كل شيئ.

رأيه في العالم المحسوس

العالم المحسوس ما هو إلا صورة لعالم المُثل، وقد وقع أفلاطون في مأزق حينما وصف المُثل بصفات تجريدية؛ فلا يمكن للمثل أن تخلق عالماً من تلقاء نفسها لأنها بذلك ستتخذ صفات التغيير التي يتصف بها العالم المحسوس. فرأى أفلاطون أن العالم قد انبثق من ثلاثة شركاء الأول هي المُثل والثاني هو المادة -قد استخدام لفظ المادة للتعبير عن العدم فالمادة عنده هي ما ليس لها صفات أو أشكال وقد فسرها البعض أنها الخلاء- أما الثالث فهو الإله الذي طبع المادة على صورة المُثل فالناتج لم يكن عدم مطلق، ولا وجود مطلق إنما خليط بين الإثنين وهنا كان العالم المحسوس. بالطبع رأى الكثيرين أن أفلاطون لم يحل مشكلة تكون الكون، إنما يضيف عالم جديد وهو المُثل الذي يحتاج لتفسيرات هو الآخر وبذلك زاد من المشكلة تعقيداً.

النفس البشرية

اشتهر أفلاطون بنظرته للنفس الإنسانية؛ فقد قسم النفس لثلاثة أقسام أرقاها العقل، والنبيل في اللاعقلاني أو العاطفة الصادرة من القلب مثل الحب والشجاعة وغيرهم، والجزء الوضيع وهو الشهوات البهيمية. وينبغي على الإنسان أن يحتكم لعقله ويضيق الخناق على شهواته البهيمية. وقد أعتقد أيضا بالتناسخ وهي أن النفس بعد الموت لا تفنى بل تسكن كيان آخر محدد بتصرفاتها فلو كان الشخص شهوانيا فستتناسخ النفس بعد ذلك لتسكن حيوناً وهكذا.

رأيه في الأخلاق

لا داعي للذكر أن افلاطون اختلف مع السوفساطئيين في وجهة نظرهم حول الخير والشر والأخلاق؛ فلم يرى أن تلك الأمور محكومة بأحكام شخصية فقط لا مقياس لها. وقد رأى أن اكبر هدف من معرفة الخير وتأديته هو السعادة. والسعادة بالنسبة له متمثلة في أربع نقاط أولها العلم بعالم المُثُل الذي أرسى قواعده ثانيها التأمل في الصلة بين العالم المحسوس والمُثُل عن طريق التأمل في جمال وتناسق العالم من حولنا، ثالثاً التثقف بمختلف العلوم، رابعاً التمتع باللذائذ النقية الطاهرة والترفع عن ما انحط منها. وقد اختلف عن معلمه سقراط حول تعريف الفضيلة فلم يحسب أن الفضيلة هي المعرفة إنما لخصها في أربع نقاط: الأولى هي فضيلة العقل وهي الحكمة، الثانية فضيلة الجزء الشريف من الجزء اللاعقلاني هي الشجاعة، الثالثة هي العفة وضبط الشهوات، رابعاً هي اجتماع تلك الصفات لإنتاج العدل.

رأيه في الدولة

كان له في السياسة وتشييد دولة سعيدة ذاع طويل عبر عنه في “كتاب جمهورية أفلاطون” الذي تضمن معانى العدل والرزيلة ووجهة نظره في الحقيقة والنفس وغيرها. وفي هذا الكتاب أرسى دعائم تنظيم الدول المعتمدة على تقسيم الدول لثلاثة أقسام مشابه لتقسيمه للنفس فقد رأى أن من تميزت عقولهم كانوا الفلاسفة ولهم أمور الحكم، ومن تميز الجزء النبيل اللاعقلي لديهم متمثلاً في الشجاعه وحب الدولة كان الجيش، أما ما عدا ذلك فهم العامة من صناع وتجار وغيرهم. وقد وضع أفلاطون أسس قوية لتربية الأطفال بدنيا، وذهنياً. وكان يرى أنه لابد من حصر المؤلفات والأشعار وتدقيقها لنتخلص من الرزائل فيها، ونتخلص من المؤلفات التي تحط من قدر الآلهة وتصفهم بالغدر والطمع وغيرها من قبيح الأوصاف. فقد يرى أن أحد دعائم الدولة أن يكون أصحابها مؤمنين بالإله وأن يقتنعوا أن غضبه واقع على من يخالف مبادئ الدولة. وقد رفع أفلاطون من قدر الدولة على حساب الفرد؛ فالأفراد بالنسبة له جزء من نسيج المجتمع يعملون لصالحه، وليس لصالح أحلامهم وطموحاتهم. وقد بالغ في تلك النظرة حتى أنه أنهى وجود الأسرة المستقلة في بعض الطبقات فلا زوجة خاصة، ولا حتى أولاد يعرفون من أمهاتهم أو أبائهم؛ لأن الدولة هي من ستتولى تربيتهم منذ الولادة. كل هذا وأكثر شرحه افلاطون في كتاب جمهورية افلاطون الذي لم يسلم من التحليل والنقض من وقتها حتى الآن.

أرسطو

كثيراً ما ينصب الناس أرسطو منصب الخصم لأفلاطون وفي الحقيقة أرسطو كان أحد تلامذة أفلاطون، لكنه كان ذي شخصية مستقلة يزن ما يسمع بعقله ويميز صحيحه من خطأه وهذا ما فعله مع فلسفة أفلاطون؛ فلم يشربها شربا بغير تعليق أو مراجعة، بل على العكس تماماً. نتيجة لذلك استطاع أرسطو بناء منهج خاص به مختلف عن سابقيه.

المنطق

تشهد الفلسفة أنه لا منطق قبل منطق أرسطو؛ فهو من أول من عُني بصحة القول والعبارة ووضع لها المقاييس. والمنطق نوعان إما منطق الصورة وإما منطق المادة وقد اهتم أرسطو بمنطق الصورة مشيداً إياه بأكمله، وكل ما بين أيدينا في منطق الصورة هو من إنتاج أرسطو لم يضاف إليه إلا القليل، أما منطق المادة فلم يُفتح بابه إلا حديثاً.

ما بعد الطبيعة

لم يقتنع أرسطو بفسلفة أفلاطون حول وجود كيان يُسمى المُثل وأن كل حقيقة معرفية لابد لها من تجسيد. فقد رأى أن ألفاظ مثل العدل والظلم والجمال والقبح…إلخ لا حرج في أن تكون مجرد معانٍ عقلية ليس لها كيان مستقل كما إدعى أفلاطون. ورأى أرسطو أن خلق أفلاطون لعالم المُثل لم يحل لغز الوجود بل أضاف ألغاز جديدة غير قابلة للتمحيص والدراسة. وشيد أرسطو وجهة نظره المستقلة فرأى أن كل ما في الوجود هو عبارة عن المادة أو الهيولي والصورة. أما الهيولي فهو العنصر منعدم الصفات فلا لون ولا رائحة ولا شكل ولا أي شيئ فجاءت الصورة فاسبغت عليه تلك الصفات. وعلى عكس ما فعل أفلاطون حيث فصل بين المادة والمُثل أرسطو افترض أن لا هيولي بلا صورة ولا صورة بلا هيولي. والهيولي يُمكن أن يكون أي شيئ بمعنى أن الهيولي قد يكتسب صورة معينة فيكون ذهب ولا يمنع أن يكتسب صورة أخرى فيكون فضة المهم أن كل ما في الوجود ما هو إلا اتحاد بين الصورة والهيولي. وقد رأى أن كل ما في الوجود يتحرك لغاية وقد عرف تلك الغاية على أنها الإله فهو غاية الغايات وإليه يسعى كل موجود. وأمعن أرسطو في الحديث عن الإله ونسب له العديد من الصفات؛ فالإله -كما قولنا- بالنسبة لأرسطو هو غاية الغايات فهو من يجذب العالم في اتجاهه، وهو منتهى الرُقي والرُقي ما هو إلا إمعان في الصورة وتقليل من الهيولي، إذا فالله صورة خالصه مفكرة فهو فكرة الأفكار وأكملها يعيش في سعادة أبدية وفي فكر لا ينتهي.

الطبيعة

على عكس أفلاطون لم يهمل أرسطو الكون المحسوس إنما اهتم به جداً وعُني بتفسيره وتقسيمه؛ فقسم الموجودات في تسلسل هرمي طبقا للنشوء والارتقاء. لكنه لم يرى أن الأرقى تطور للأدنى بمعنى أنه لم يرى أن الإنسان تطور لسابقيه، فمن وجهة نظره الإنسان موجود وجود أزلى مثله مثل الباقي لم يتطور نوع من آخر إنما يتقدم نوع على الآخر حتى نصل لأعلى مراحل التقدم وهو الإنسان. وذلك التسلسل تتحرك فيه الموجودات بين طرفين الأدنى هو الهولي، والأعلى هو الصورة وبينهما يتم التقسيم. ولا يمكن أن نفهم من ذلك التسلسل أن ما هو أدنى من الإنسان يكون الإنسان غايته، ومسخر له. فالإنسان قادر على التحكم فيما هو أدنى منه باستخدام عقله، ويسخره لخدمته ولكن لا يعني ذلك أن ما أدنى له منعدم الغاية، لا بل كلٌ له غايته إليها يسعى في حركة دائمة حتى إن لم يكن سعياً مبنياً على العقل بل الغريزة لكنه في النهاية سعيٌ لغاية. وقد وضح أرسطو أسباب الانحطاط وأسباب الرقي، حيث أن كل الكائنات العضوية أول ما تسعى إليه هو النجاة والحياة عن طرق الغذاء، ثم استمرار نوعها عن طريق التناسل. وما اقتصر من الكائنات على أداء تلك الوظيفتين فقط كان الأدنى مثل النبات، وكان الحيوان أرقى من النبات لقدرته على الحس والاستمتاع باللذة والهروب من الألم، أما الإنسان فقد حقق كل ما سبق وأضاف استمتاعه بالفكر لذلك كان أقرب المخلوقات للإله.

الأخلاق

رأى أرسطو أن أفلاطون بالغ في عداوته لشهوة وغريزة الإنسان، حيث أن تلك الشهوة أوالاحتياجيات الغريزية هي من مكونات الإنسان، واسئصالها بمثابة هدم للإنسان إذا لابد من وجود عقل يتحكم بها لا عقل يقتلها. وقد اختلف أيضاً مع سقراط حين رأى أن الفضيلة هي المعرفة أن بمجرد معرفة الإنسان للفضيلة سيفعلها لا محالة فرأى أرسطو أن هذا الكلام غير دقيق فقد تتغلب الشهوة على العقل وتبتعد عن الفضيلة التي تم إدراكها فلابد من معرفة الفضيلة وتوافر إرادة تحقيقها.

الدولة

اختلف أرسطو هنا أيضا مع أفلاطون؛ فأفلاطون قتل مصلحة الفرد لصالح الجماعه فها هو يجعل طبقة الحكام يعيشون عالة على أموال الناس وفي بيوتٍ بدائية، حتى أنه قتل الأسرة فلا زوجة مستقلى ولا أولاد. رأى أرسطو أن في ذلك خطأ فلابد من وجود أسرة ولابد من أن يحقق الفرد ذاته مع تحقيقه لمجتعمه.

ما بعد أرسطو

لاجديد…انحدرت الفلسفة بشدة بعد أرسطو نتيجة لما تعرض له المجتمع من غزو وتشتت في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فليست الحياة الفكرية بمعزل عن الحياة المادية. وعليه كان اهتمام العقول في الهروب من شرور الحياة بالبحث عن السعادة والأخلاق. مات البحث في الطبيعة، وعلة الوجود، وأصبحت النظرة للإنسان مركزية سطحية وظلت هكذا لفترة طويلة من الزمن كل ما تم فيها هو إعادة إحياء بعض القديم ليس إلا. ومن أشهر تلك المدارس التي جائت بعد أرسطو: الرواقيون والأبيقوريون.

إقرأ المزيد:

ملخص كتاب مغامرة العقل الأولى للكاتب فراس السواح

لوحة مدرسة أثينا

ملخص مسرحية “هاملت”

ملخص مسرحية “هاملت”

أطول مسرحية كتبها شكسبير وكانت بين عام 1599 و 1601. تدور أحداثها في مملكة الدنمارك حول الأمير هاملت وحيرته ورغبته في الانتقام من قاتل والده وهو عمه كلاوديوس الشرير1 صور فيها شكسبير العديد من المعاني الإنسانية من الحيرة والانتقام والطمع والغضب وحتى الحب وموقف الإنسان من الحياة والموت.

القصة:

تبدأ مسرحية شكسبير بمشهد لحراس القصر الملكي، وهم يتبادلون نوبات الحراسة حتى يستلمها كلاً من هوراشيو ومرسيلوس وبرناردو. في خلال نوبات حراسة هؤلاء الثلاثة ظهر شبح للملك هاملت الأكبر -الذي تُوفي من فترة بسيطة- يمشي أمامهم مرتدياً كامل زيه العسكري.

ظهر مرتين في تلك النوبة دون أن ينطق بكلمة للحراس رغم صراخهم عليه وحتى تهديدهم له. فتعاهد ثلاثتهم على الإفضاء بما شاهدوه لصديقهم هاملت ابن الملك الراحل.

كان هامت ابن الملك في حالٍ يرثى لها ليس فقط لوفاة والده الذي يحبه كل الحب، بل السبب الأكبر أنه لم يأخذ وقته الكافي لبث الحزن على وفاة أبيه الحبيب الذي كان رمزاً للشجاعة والإقدام في مملكة الدنمارك كلها.

لم يستطع هاملت أن يأخذ وقته لرثاء أبيه نتيجة لزواج أمه من عمه بعد الوفاة بشهرٍ فقط!! الأمر الذي آثر في نفس هاملت وجرحها لمعرفته بمدى قوة أواصر الحب، والعشق بين أبيه وأمه فكيف تسلاه بتلك السرعة الغريبة! بل يقيمون الاحتفالات والمراسيم بتلك السرعة كأن اللحم الذي تم تقديمه في العزاء ساخناً تم تقديمه هو نفسه في مراسيم الزواج بارداً.

وفي أثناء تعجب هاملت من هذا الأمر، وزيادة لهيب الشكوك اتقاداً تجاه عمه، إذ بهوراشيو ومن معه من الحراس يدخلون عليه يقصون ما حدث ورؤيتهم لشبح أبيه الملك بكامل زيه العسكري، فيخرج معهم هاملت للمشاركة في الحراسة مساءاً حتى رأي بنفسه شبح أبيه يطل عليهم بعد منتصف الليل،

يجري خلفه مسرعاً للحديث معه رغماً من رفض هوراشيو ومن معه. وعندما التقي هاملت بشبح أبيه إذ بذلك الشبح يفضي إليه بخبر يقلب كيانه رأساً على عقب: أن والده لم يمت نتيجة عضة ثعبان كما قيل، لكنه مات مسموماً على يد أخيه ليفوز ليس فقط بالحكم بل وبالزوجة أيضاً. فأراد الشبح من هاملت أن ينتقم له، ويسترد حقه المسلوب دون المساس بأمه قيد أنملة.

هاملت يرى شبح والده

من تلك اللحظة تغير حال هاملت وتعاهد أن يوقع بعمه، وقرر أن يمثل الجنون والاضطراب على كل الناس، ولم يدرك أحد في القصر ما السبب وراء اضطراب هاملت الغريبة وتغير أحواله.

كان مستشار الملك بولونيوس له بنت بارعة الجمال تُسمى أوفيليا أحبها هاملت بشدة، فأعطاها الهدايا القيمة المصحوبة بالأشعار المعبرة عما شغل قلبه من عشقٍ تجاه تلك الحسناء. وكان قد أمرها بولونيوس أن تعرض عنه حتى لا يصيبها مكروه، فهو في النهاية أمير قد يكون لا يكن إليها الحب كما يزعم وإنما الهوى العابر ليس إلا.

بعدها، بدأ الاضطراب يظهر على هاملت ففكر بولونيوس ودبر في سبب ذلك الجنون إذا هو الحب ولوعة الاشتياق لابنته الجميلة هما السبب الكامن وراء ما يقبع هاملت فيه من اضطراب، وإذا به يفضي للملك -عم هاملت- والملكة بما استنتج، وقد اقتنعوا بالفعل بعد ظهور البراهين، لكن بالطبع لم يكن للحب علاقة فالأمر كله من صنيع هاملت ليداري على ما أصابه من حيرة بعد لقائه بالشبح.

في أثناء تلك الحيرة المصحوبة بالجنون المزعوم الذي أصاب صديقنا هاملت، إذ بمجموعة من الممثلين ينزلون بالقصر. فكر هاملت أن يستخدمهم ليتأكد من كلام الشبح خوفاً أن يكون ما هو إلا شيطان تنكر في صورة أبيه لخداعه ليس إلا.

نتيجة لذلك أعدد لهؤلاء الممثلين مسرحية مبنية على ما عرفه من الشبح فإذا ظهر الاضطراب على عمه كان الشبح ينطق بلسان الصدق، ولم يكن شيطاناً. وبالفعل تم تنفيذ المسرحية التي تعكس مشهد مقتل أبيه بالسم كما قص الشبح بالضبط فإذا بعمه يغضب، ويفارق مجلسهم منزعجاً مضطرباً، وهنا تحديداً أزيحت الغشاوة من على وجه هاملت ليرى حقيقة الجريمة النكراء.

استدعت الملكة ابنها لتعاتبه عما بدر منه في الفترة السابقة، فتوجه هاملت إليها يلومها على ما ارتكبت من معاصي، وذنوب. كيف أنها تزوجت من قاتل زوجها، وزاد سخطه في الجدال حتى صرخت الأم طلباً للنجدة، وكان المستشار بولونيوس مختبأً وراء الستارة على علمٍ من الملكة؛ لتحري جنون هاملت. فإذا به يسمع ألفاظ النجدة تلك حتى أصدر هو الآخر أصواتاً فأسرع هاملت بغير علمٍ منه بمن وراء الستارة يضربها بسيفه بقوة، فإذا بالمستشار يسقط صريعاً بعد ضربةٍ واحدةٍ لا غير.

في أثناء رجاء هاملت من أمه أن تبتعد عن عمه المجرم، وألا تظهر له الود والمحبة ظهر الشبح ولم تراه الأم فظنت أن ابنها مجنون لا محال عندما تحدث لشخصٍ غير موجود. فتوجهت الملكة للملك بسرعة تقص عليه ما حدث من قتل، وجنون فارتعدت فرائس العم الشرير من هاملت، وأمر بأن يتم إرساله لأنجلترا زاعماً لزوجته أن هذا لمصلحة هاملت كما هو لمصلحة الجميع.

لكن في قرارة نفسه كان يريد الخلاص منه كما خلص من أبيه فأعد رسالة لملك إنجلترا يطلب منه أنه فور قراءة الرسالة عليه أن يقتل هاملت. وبالفعل تم إرسال هاملت مع رسولين -كانا من أصحابه في السابق لكن الآن يعملان في خدمة الملك ضد هاملت- في رحلة بحرية لإنجلترا.

إلا أن شكوك هاملت التي لا تنام جعلته يفتش غرفه وحقائب من معه من الرسل في أثناء نومهم فوجد الرسالة، وعرف ما يضمره عمه من خيانة، فقام بكتابة رسالة جديدة تطلب من ملك إنجلترا أن يقتل الرُسل فور قراءته لها، وختمها هاملت بالختم الملكي الذي هو ملكٌ لأبيه. هرب صديقنا هاملت على ظهر سفينة للقراصنة عائداَ لوطنه.

في تلك الأثناء كان لايرتس ابن بولنيوس قد عاد من فرنسا للدنمارك على إثر خبر وفاة أبيه الذي شابته الشوائب؛ فلا سرادق للعزاء، ولا غيره. فعلم أن في الأمر سرٌ خطير جعل عقله يغلي من الغضب، وتوجه للملك في جمعٍ غفير غاضب من الناس يريد تفسيراً لموت أبيه. فاجتمع به الملك وهدأ من روعه وأخبره بحقيقة ما فعله هاملت واتفق معه على تدبير خطير للتخلص منه.

في أثناء حوارهما وصل خبر غرق أوفيليا في الماء تلك الحسناء المسكينة التي فقدت عقلها عقب وفاة أبيها الذي تحب وتهوى، وأصبحت تطوف بين الناس تتحدث، وتغني بكلامٍ غير مفهوم، وتوزع عليهم أكاليل الورود حتى ذهبت لتُعلق إكليل من الزهود على غصن شجرة قد تدلى فوق النهر فإذا بها تهوي في الماء، وترسل أنفاسها الأخيرة وهي تغرق وفارقت الحياة في حزن وشجنٍ اختلط بالجنون ليزيد من كآبة الوضع، والمنظر ويزيد من غضب أخيها وعزمه على الانتقام الذي أعمى بصره.

وبعد أن دُفنت أوفيليا في غير زحام ولا جموع غفيرة ولا مراسيم دينية كاملة لأن موتها كان مشكوكاً فيه أنه عن عمد وهذا ما تبغضه الكنيسة لكنها دفنت في الأراضي الطاهرة بأمرٍ من الملك. عزم الملك ولايرتس على إعداد خطة تودي بحياة هاملت.

دبر الملك أن يدعو هاملت لمبارزة مع لايرتس، وكان قد نُزع غلاف الأمان من سيف لايرتس وسُمم آخره فإذا خدش هاملت سينتشر السم في جسمه، ويموت. فيظهر الأمر أمام الجميع أنه حادثة لا أكثر، ولن تثور أمه ولا الناس الذين يحبونه أشد الحب. وقام الملك أيضاً حرصاً منه على التخلص من هاملت بوضع السم في كأس هاملت فإذا لم يستطع لايريتس التخلص منه كان الخلاص على يد كأس الشراب المسمومة.

وجاءت ساعة المبارزة، فتغلب هاملت على غريمه جولتين حتى استطاع لايرتس أن يصيب هاملت بجرح في الجولة الثالثه، فغضب هاملت بشدة؛ لاكتشافه أن سيف الخصم منزوع الأمان. فاشتد القتال بينهم حتى سقطت السيوف وتبدلت فإذا بهاملت يجرح لايرتس، فيعترف لايرتس أن السيف مسمومة ولا دواء لداء ذلك السم، وأن كلاهما سيموت لا محالة، وأن هذا كله كان من تدبير عمه.

نظر هاملت لأمه فوجدها تسقط على الأرض فقد شربت من كأس هاملت المسمومة فسقطت صريعة وهي تقول: لقد سمموا الكأس يا هاملت. فإذا بهاملت وفي يده السيف المسممومة يطعن الملك جزاءاً على ما فعل فيموت الملك الشرير، وتموت زوجته الجميلة غير المخلصة، ويلفظ لايرتس آخر أنفاسه، ويسقط هاملت عاجزاً ليلقى مصير الموت وقد عهد إليه هوراشيو أنه سيصحح للناس صورته ويخبرهم الحقيقة.

كان المنظر كأنه مشهد من حربٍ دموية بلا أجانب ولا جنود بل كانت أدواتها الطمع الذي أصاب العم والحيرة التي أخرت ابن أخيه عن اتخاذ قراره، والانتقام لأبيه. فكان كلاً من الطمع والحيرة سلاحين فتكوا بأصحابهم ومن حولهم.

كي لا نظلم المسرحية

لم تكن مسرحية هاملت للمبدع شكسبير مجرد قصة جميلة فقط؛ حيث كان الحوار بين أصحابها مرآة تعكس أسئلة وجودية وفلسفية حول العديد من القضايا مثل: ما هو الموت؟ هل هو رقاد وصمت كما كان يتمنى هاملت، أم هو رقاد امتلأ بالأحلام المزعجة والمشاعر الصعبة؟

هل يمكن أن يكون خوف الناس من المجهول بعد الموت أو من احتمالية وجود تلك الأحلام هو الدافع وراء تمسكهم بالحياة بما يشاهدونه فيها من هوان وألم ؟ كذلك عكس شكسبير ألم الحيرة على أكمل وجه في شخصية هاملت شخصية أكون أو لا أكون؛ فهو أراد الانتقام لأبيه يدفعه لذلك الغضب والحب، وفي نفس الوقت تردد مراراً وتكراراً بسبب طبيعته الطيبة البيضاء.

لكن تلك الحيرة كانت سبب في فقد من أحب بعدها وحتى في فقد نفسه. واستطاع صديقنا شكسبير أن يعكس الأوضاع في الحضارة الأروبية آن ذاك في مجالات المسرح، والتمثيل والصراع بين القائمين على تلك الأعمال، وكيف أن الجودة الخلاقة للعمل الفني وبخاصة المسرحي قد تعود عليه بالضرر إذا كانت أعلى من مستوى تفكير العامة، فيعجزوا عن حب العمل فيقصر عمره بين الأنام.

لم تخلو المسرحية كذلك من الحديث عن عيوب المجتمع الأروبي وقتها مثل الإسراف في شرب الخمر التي تعود على صاحبها بعلة العقل والجسد، وتعود على شعوبها بالهوان. وكذلك حديثه عن الطبقية التي تُحلل دفن المنتحر في الأراضي المطهرة إذا كان من أولاد الأعيان، وأولي السلطة وإن لم يكن كان مصيره خارج تلك الأراضي. كل هذا وأكثر استطاع شكسبير أن يعكسه فيما بين أيدينا من قطعة أدبية رفيعة المستوى.

ويليام شكسبير

المزيد: ملخص رواية “يوتوبيا” للكاتب أحمد خالد توفيق

مصادر (ملخص مسرحية “هاملت”): 1.Brittannica

نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري

نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري

مع بداية الألفية الجديدة احتفل المجتمع العلمي بتسليم جائزة نوبل لثلاثة علماء بدأوا في فك أُحجية طريقة عمل الجهاز العصبي عن طريق الفهم الكامل للآليات الجزيئية الموجودة في الكواليس، والمسؤولة عن عبقرية وإبداع عقولنا بالغة التعقيد؛ فاستطاعوا أن يقدموا فهماً أولياً لكيفية تحكم المخ في الحركة، وكيف تنشأ الأمراض النفسية كالفصام، وكذلك قدموا خطوة قوية في بداية طريقنا لفهم كيف نتعلم، وكيف تتحول المعلومات والأحداث من حولنا لذكريات نحتفظ بها لفترات طويلة قد تصل لعمرنا بأكمله.

انتقال المعلومات خلال الخلايا العصبية:

الوحدة الأساسية في الجهاز العصبي هي الخلية العصبية. وهي تتكون من جسم الخلية الذي يحتوي على النواة وما يحاطيها من سيتوبلازم يحتوي على عضيات الخلية المختلفة، فهو بمثابة العقل المسيطر على الخلية العصبية. في معظم الأحوال يستقبل جسم الخلية المعلومات عن طريق «الزوائد الشجيرية-Dendrites» ويرسلها للخلايا الأخرى عن طريق «المحور العصبي-Axon».

تركيب الخلية العصبية

في كل المراحل السابقة يكون تحرك المعلومات بطول الخلية على هيئة تغير في الحالة الكهربائية بها، وحتى نكون أكثر وضوحاً الخلية العصبية لا تختلف كثيرً عن الموصلات في الدائرة الكهربية؛ حيث في الموصلات تنتقل الإشارات عن طريق اختلاف الجهد وهذا ما يحدث في حالتنا تلك؛ حيث أن الأيونات على جانبي الغشاء الخلوي في الخلية العصبية مختلفة التركيز والشحنات بحيث يكون الخارج موجب والبيئة الداخلية للخلية تكون سالبة فيكون فرق الجهد من داخل الخلية لخارجها سالب، وعند وصول مؤثر عن طريق المستقبلات العصبية مثلاً تتحرك الأيونات خلال قنوات في الغشاء الخلوي حتى تنعكس الشحنة فيكون خارج الخلية سالب الشحنة وداخلها موجب، وبذلك تنعكس شحنة فرق الجهد من السالب للموجب. يحدث ذلك التغيير في جزء معين من الغشاء الخلوي الذي بدوره يؤثر على الجزء المجاور وينتشر التأثير تباعاً على طول الغشاء الخلوي، وهذا ما يسمي بالسيال العصبي. ولكن بعد أن انتقل ذلك التأثير على طول المحور العصبي ستأتي نهاية المحور، وهي عبارة عن مجموعة من التفريعات غالباً ما تكون متصلة بالزوائد الشجيرية لخلايا عصبية أخري لكن بالطبع يوجد بين نهايات المحور العصبي وبدايات الزوائد الشجيرية فراغ صغير جداً. يُسمى ذلك التركيب ككل باسم «التشابك العصبي- synapse» فعند وصول السيال العصبي لنهاية المحور العصبي تفتح قنوات الكالسيوم -الموجودة في التفرعات النهائية للمحور العصبي- حتى ينتقل لداخل الخلية محفزاً تحرر النواقل العصبية، وهي عبارة عن مركبات كيميائية تنتقل خلال الفراغ الموجود في التشابك العصبي حتى ترتبط بمستقبلات محددة موجودة على سطح الزوائد الشجيرية، لتقوم باستثراتها هي الأخرى وبداية سيال عصبي جديد.

«التشابك العصبي-synapse»

في الحقيقة التفاصيل التي تحدث في تلك المنطقة تم الكشف عنها من قبل ثلاثة علماء حازوا جائزة نوبل في الطب عام 2000 وهم «Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون»، و«بول جرينجارد-Paul Greengard» و«إريك كاندل-Eric Kandel» سنستعرضها سوياً في السطور القادمة.

ماهية الناقل العصبي:

«Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون»

هناك العديد من المركبات تقع تحت عنوان النواقل العصبية مثل السيروتونين، والأدرينالين، والأستيل كولين وغيرهم الكثير. لكن حتى خمسينيات القرن الماضي لم يكن الدوبامين معروف كناقل عصبي إنما كان يُعتقد أنه فقط أصل كيميائي لبعض النواقل العصبية الأخرى لكن أرفيد كارلسون غير كل ذلك عن طريق ابتكاره لطرق فحص جديدة استطاع عن طريقها رصد الدوبامين في بعض مناطق المخ وأهمها منطقة «النوى القاعدية-Basal Ganglia» وهي منطقة بالغة الأهمية في وظائف الحركة، وتشارك أيضاً في عمليات خاصة بالمشاعر والتصرفات. يوجد في تلك المنطقة ناقل عصبي يُسمى أستيل كولين في حالة توازن مع الدوبامين. وعند حدوث خلل في التوازن بينهم ينتج اضطرابات عنيفة في الحركة. فمثلا عند وجود نقص شديد في الدوبامين نتجية تآكل الخلايا المفرزة له ينتج عن ذلك مرض البركنسون أو الشلل الرعاش. فيعاني الشخص من حركات لا إرادية مع خشونة أو تصلب كبير في العضلات وتؤثر بالطبع على القدرة على الكلام وعلى جميع نواحي الحركة. ويتم علاج ذلك المرض بزيادة نسبة الدوبامين في المخ عن طريق دواء يُسمى L-dopa، وغيره من الطرق التي تخلق توازن بين الأستيل كولين والدوبامين في منطقة «النوى القاعدية-Basal Ganglia». استطاع كارلسون أيضاً أن يضع نظرية توضح دور الدوبامين في بعض الأمراض النفسية الأخرى مثل الشيزوفرينيا أو الفصام حيث قد تمتاز تلك الأمراض بنشاط زائد للدوبامين في بعض مناطق المخ فيعاني الشخص من هلاوس أفكار مغلوطة والخلط بين الواقع والخيال. فتعتمد الكثير من الأدوية على منع تأثير الدوبامين بإغلاق مستقبلاته في تلك المناطق، ولكن تذكر عزيزي القارئ أن التوازن بين الدوبامين والأستيل كولين مهم جداً في «النوى القاعدية-Basal Ganglia» للحفاظ على الحركة بشكلٍ مناسب، وعليه قد يعاني مريض الشيزوفرينيا الذي يتعاطى بعض الأدوية المضادة لحالته من خلل في الحركة قد يكون مشابه للخلل الحادث في مرض الشلل الرعاش عندما يكون الدوبامين أقل من الأستيل كولين في النوى القاعدية. وقد يعاني بعدها من حركات مشابهة لحركات الرقص أو أداء حركات غريبة بغير إرادته وهذا ما يُسمى Chorea عندما يزداد نشاط الدوبامين عن الأستيل كولين. كل ذلك وأكثر أبهرنا به الدكتور «Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون» واستحق عليه نوبل في الطب عام 2000 بجدارة. لكن كيف يعمل الناقل العصبي على مستقبلات في الزوائد الشيجرية من الأساس؟ كانت إجابة ذلك السؤال من نصيب الدكتور «بول جرينجارد-Paul Greengard».

التفاعل على الضفة الأخرى:

«بول جرينجارد-Paul Greengard»

بعد أن تحرر الناقل العصبي من النهايات العصبية وسبح في الفراغ الموجود بين المحور العصبي والزوائد الشجيرية وصل أخيراً للضفة الأخرى حيث يوجد مستقبِله المخصص له ليتفاعل معه. وتم تقسيم التفاعل حسب السرعة إلى سريع، وبطيئ. ما يهمنا هنا هو التفاعل البطيء لتأثيراته الحيوية القوية حتى على النوع الآخر-السريع- ولأنه الطريقة التي يعمل بيها الدوبامين الذي اهتم به بول جرينجارد وفريقه؛ نظراً لدوره المهم في العديد من الأمراض كما وضحنا، وكذلك لأن كلا من خصائصه الكيميائية والأماكن التي يتواجد بها في المخ تجعلان ملاحظته أسهل كثيراً من النواقل العصبية الأخرى ذلك بحسب ما وضح جريناجرد في دراسته. ولفهم طريقة تفاعل النواقل العصبية تخيل معي مجموعة من الأطفال يلعبون لعبة يجري فيها أحدهم بعد أن يلمسه آخر الذي بدوره يلمس طفل آخر فيجري بعدما كان واقفاً ثابتاً بلا حراك، إذا نستطيع القول أن اللمسة هي بمثابة إشارة تنشيط ينقلها الأطفال بين بعضهم البعض لينتقلوا من حالة الثبات إلى الجري. في الحقيقة بروتينات أو إنزيمات الخلية لا يختلفون كثيراً عن هؤلاء الأطفال فبدل من أن تكون (اللمسة) إشارة النشاط ستؤدي (مجموعة الفوسافت) ذلك الدور حيث إضافة فوسفات إلى إنزيم معين قد يؤدي لتنشيطة وحركته أو إيقافه عن العمل. ففي البداية يسبح صديقنا الناقل العصبي عبر الفراغ المتواجد في تركيب التشابك العصبي ثم يتربط بالمستقبل الخاص به الذي بدوره يتسبب في تواجد برويتن آخر يسمى «الرسول الثاني-second messenger» في الحقيقة ذلك الرسول له عدة أنواع لكن أشرهم هو مركب يُسمى cAMP الذي بدوره يقوم بتنشيط مجموعة من الإنزيمات تُسمى اختصاراً PKA التي تقوم بإضافة مجموعة الفوسفات لبروتينات مختلفة في الخلية، تلك البروتينات مقسمه لأربعة أنواع: 1) قنوات الأيونات التي تتحكم بمرور الأيونات من خلالها فبالتالي تتحكم في النشاط الكهربي للغشاء الخلوي كما وضحنا في بداية المقال. 2) مضخات الأيونات التي تستعيد تركيز الأيونات أو الشحنات الطبيعي على جانبي الغشاء الخلوي؛ حيث لابد بعد عكس الشحنات السالبة والموجبة أثناء السيال العصبي أن تستعيد تلك الشحنات تركيزها ومكانها الطبيعي من جديد، وهذا ما تفعله مضخات الأيونات. 3) مستقبلات النواقل العصبية حيث أنها بذلك تؤثر على استقبال الخلية للمزيد من النواقل العصبية وبالتالي تؤثر على نشاطها العصبي. 4) تؤثر مجموعة ال PKA كذلك على مجموعة من البروتينات تتواصل مع الحمض النووي في النواة حتى تغير من ترجمة الجينات المختلفة لمختلف البروتينات تبعاً لنشاط الخلية العصبية، فبذلك تحدث مزامنة بين متطلبات الخلية وبين الجينات التي يتم ترجمتها. تلك هي الأربعة أنواع الأساسية لكن لا يمنع ذلك وجود غيرهم.

لم تكن تلك اكتشافات بول وفريقه الوحيدة فقد اكتشف مركباً غاية في الأهمية يُسمى اختصاراً DARPP-32 وهو بروتين مهم جداً في بعض الخلايا العصبية. يتم التأثير على نشاطه بنفس الطريقة التي تم إيضاحها مسبقاً حيث يتم تنشيطه بفعل بورتينات PKA فيقوم بدوره هو الآخر بالتأثير على الكثير من البروتينات مثل الأربع أقسام سابقين الذكر، فهو بمثابة قلب الحدث وإحدى المحطات الرئيسية للتحكم في نشاط الخلوى كرد فعل للارتبط بالناقل العصبي الدوبامين. والآن تعرفنا على اكتشافات ثلاثة من العلماء الحائزين على نوبل في الطب عام 2000 تبقى الثالث الذي صنع ثورة في عالم الذاكرة وتخزين المعلومات في المخ.

المخ ما هو إلا صلصال!

«إريك كاندل-Eric Kandel»

في حقيقة المرأ لا يموت المرأ بنفس المخ الذي وُلِد به فكل المتغيرات المحيطة بنا، أو بالأحرى المعلومات التي يكتسبها الفرد تغير من تركيب المخ. فمخ الإنسان ليس إلا صلصال يشكله بنفسه عن طريق ما يزرعه فيه من معلومات. وذلك عن طريق إحداث تغيرات في «التشابكات العصبية-Synapses». حيث تعرض الإنسان لمؤثر قوي ينتج عنه تغيرات موازية في المخ. حسب قوة وتكرار المؤثر حسب قوة التغيرات التي تصيب التشابكات العصبية وبدورها تتحكم في قوة احتفاظ الإنسان بذكرياته الجديدة. هذا ما اكتشفه الدكتور «إريك كاندل-Eric Kandel» عن طريق الاختبارات التي قام بها على أحد أنواع الرخويات البحرية يُسمى «سبيكة معرفة-sea slug» تتميز باحتوائها على عدد محدود من الخلايا العصبية؛ 2000 تقريباً وبالتالي أي تغيير سيكون ملحوظ. بتعريض ذلك الكائن لمختلف المؤثرات بمختلف الدرجات ينتج رد فعل مختلف في القوة، ويظل ذلك الرد ملازم لسبيكة البحر لفترة زمنية تختلف باختلاف تغيرات التشابك العصبي. حيث أن الذاكرة نوعان -كما وضح إريك- فهي إما قصيرة المدى أو طويلة المدى. لو كانت قصيرة فهي غالباً ما تنتج عن تحرير كمية كبيرة من النواقل العصبية دفعة واحدة ظلت تؤثر على الأعصاب المعنية لفترة من الزمن، وكذلك حدوث بعض التغيرات في تلك الأعصاب أدت لحساسية أكبر للنواقل العصبية، وفترة نشاط أكبر مثل زيادة كمية مركبات cAMP و PKA. ويمكن زيادة حجم التشابك العصبي، وكلما زاد تعقيد تلك التغيرات أدت لزيادة التمسك بالذاكرة حتى تتحول لطويلة المدى، بالطبع الوضع في العقل البشري أكثر تعقيداً بكثير لكنه يتبع نفس المبدأ حيث التغييرات التي تصيب مناطق التشابك العصبي بزيادة عددها، أو بزيادة حساسيتها للنواقل العصبية وفترة نشاطها وغيرها من الأمور التي تخدم الذاكرة والتعلم موجودة بين معظم الكائنات على اختلاف درجة التعقيد.

بذلك بدأت الألفية الجديدة بتكريم لإنجاز جديد في للبشرية في رحلة اكتشافها لنفسها.

مصادر (نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري):

Nobel 2000

NCBI: Arvid Carlsson, and the story of dopamine

Science: The Neurobiology of Slow Synaptic Transmission ,Paul Greengard

المزيد:

زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب

زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب

زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب

لا يخفى على أحدٍ مدى أهمية عمليات نقل ورزاعة الأعضاء كحل أخير للكثير من الحالات الميؤوس منها التي عصف المرض بأحد أعضائها فلا حل سوا التخلص منه واستبداله. في الحقيقة الوصول للأعداد الضخمة من عمليات نقل الأعضاء التى يتم إجرائها اليوم، كان طريق غاية في الصعوبة ومحفوف بالمخاطر ومات في سبيله أعداد كبيرة من المرضى نتيجة للتجارب الغير موفقة. لكن بدايةً من مننتصف القرن الماضي بدأت الأمور في التغير، وفرصة نجاح تلك العمليات أصبحت في تزايد مستمر، وقد جذب البحث في ذلك المجال انتباه جائزة نوبل أكثر من مرة كان من أعظمهم نوبل 1990 من نصيب كلاً من «جوزيف موراي-Joseph Murray» و«دونال توماس-Donnall Thomas»؛ فقد أحدث كلاً منهما ثورة في عالم الطب ونقل الأعضاء. قبل الحديث عنهما وجب التعرف على مزيد من التفاصيل حول عملية نقل الأعضاء.

زراعة الأعضاء على المستوى الجزيئي:

كل فرد في الدولة يمتلك ما يثبت هويته المتمثل في بطاقة أو رخصة قيادة، وفي أثناء مرورك بنقطة تفتيش مثلاً تتفحصها الشرطة حتى تسمح لك بالمرور دون غرامات أو عقوبات. الأمر مشابه لخلايا جسمك بالضبط؛ فخلايا الجسم تمتلك على سطحها مركبات معينة يتعرف عليها جهاز المناعة حتى لا يقوم بمهاجمة خلايا الجسم. تلك المركبات تختلف بشكل كبير للغاية من شخصٍ لآخر؛ حيث أن الجين المسؤول عن ذلك البروتين يعبر عن أحماض أمينية متباينه من فردٍ لآخر. ويطلق على ذلك المركب اسم «MHC». في حالة نقل الأعضاء بين شخصين مختلفين جينياً تتعرف خلايا المناعة، والأجسام المضادة على تلك المركبات فتجدها غريبة عن الجسم، فتبدأ بالهجوم على العضو بقوة بشتى الطرق مثل قطع وصول الدم إليه، أو مواجهة الخلايا بشكلٍ مباشر. وبعد فترة يتسبب جهاز المناعة في تليف العضو الجديد وموته، تختلف تلك الفترة بحسب نشاط جهاز المناعة للشخص المستقبل للعضو ومدى الاختلاف الجيني بينه وبين المتبرع؛ فكلما اقتربا من بعضهما جينياً كلما كان الوضع أفضل، ويقل نشاط الجهاز المناعي حتى يصل للتسامح التام مع العضو الجديد كما هو الحال في التوأم المتطابق. فلو أردنا حل تلك المشكلة سنهتم بأمرين: الأول أن يكون كلاً من المتبرع والمستقبل متقاربين جينياً بالتالي متقاربين في تركيب مركب «MHC»، الثاني أن يتم تثبيط المناعة حتى لا ترفض العضو الجديد.

اجتهد عدد كبير من الأطباء لحل تلك المتطلبات بدايةً من «الكسيس كاريل-Alexis Karel» الحائز على نوبل في الطب عام 1912؛ نتجية لاسهاماته الكبيرة في وضع طُرق لتخييط الأوعية الدموية الأمر البالغ الأهمية في عالم الجراحة، وكذلك ساهم في معرفة العديد من المبادئ الهامة الخاصة بعملية نقل الأعضاء؛ فقد اكتشف وجود قوة رد فعل تحارب الأعضاء الجديدة وتتسبب في موتها، وأطلق عليها اسم «القوة الحيوية-biological force». تلك القوة التي عمل كلاً من جوزيف موراي ودونال توماس على التغلب عليها.

«الكسيس كاريل-Alexis Karel»

رحلة الخمسة وعشرون عام في زراعة الكلية:

من عام 1951 حتى عام 1976، قام جوزيف موراي وفريقه بدراسة زراعة الكلية حيث قاموا بزراعة كلى ل589 مريض ترواحت أعمارهم من 8 سنوات إلى 82 سنة. كانت أكثرهم نجاحاً ما تمت على سبع أزواج من التوائم المتماثلة حيث كانت صاحبة أكبر معدل نجاة فمنهم من عاش عشرات السنين، وأنجب أطفالاً. مما يدل أن رفض الأعضاء يكون أقل ما يمكن بين التوائم نتيجة لتقاربهم الجيني. وقد درس موراي الطرق المختلفة لتثبيط المناعة حتى لا تتسبب في قتل العضو. ذلك عن طريق تعريض المرضى لكمية كبيرة من أشعة X، ولكن ذلك الأسلوب لم يكن نجاحه كافٍ، فتعاون مع فريق من الباحثين لمعرفة دواء فعال مثبط للمناعة، وذلك من خلال تجاربهم على الكلاب. بناءاً عليه توصولوا لدواء «6-ميركابتوبورين-6-mercaptopurine» وهو دواء يستخدم في محاربة السرطان؛ لقدرته على تعطيل تصنيع بعض القواعد النيتروجينية التي تدخل في تركيب الحمض النووي للخلية بشكلٍ أساسي. أما في حالة تثبيط المناعة فذلك الدواء يسبب قتل «الخلايا المناعية التائية-T cells» -خلايا أساسية للغاية في رد الفعل المناعي- وقد تم تطوير نوع أقل سُمية منه في تلك الأثناء يسمى «الآزوثيوبرين-azathioprine» الذي كان فعال بشكلٍ كبير عند استخدامه في حالة نقل الأعضاء. ويصادف في تلك الفترة تطوير عقار الكورتيزون المثبط للمناعة، والذي تفائل به موراي وفريقه لاتسخدامه في نقل الأعضاء. وقد كشفت أبحاثه أيضاً على العديد من المشاكل المترتبة على نقل الأعضاء، وكذلك العديد من التحذيرات يستنير بها المتخصصون، حيث أنه نتجية لتثبيط المناعة ستزداد في المقابل فرصة الإصابة بالسرطان. هذا ما حدث في أكثر من حالة خاصةً إذا كان مصدر العضو شخص ميت بالسرطان حتى لو لم ينتقل السرطان إلى ذلك العضو، لذلك يظل المصدر المصاب بالسرطان غير مفضل على الإطلاق. وكذلك تزداد نسبة إصابة الشخص بالعدوى فتتحول بعض الفطريات والفيروسات والبكتيريا من حالة الضعف في الأشخاص الطبيعين إلى حالة أكثر قوة بكثير في حالة نقل الأعضاء.

دونالد توماس وزراعة نخاع العظم:

قام دونالد توماس بعدد من عمليات زراعة نخاع العظام -العضو المسؤوول عن تصنيع جميع أنواع خلايا الدم- وكان الكثير منها ناجح، ولكن الأهم أنه ترك منهجاً كاملاً للمتخصصين في كيفية تجهيز مستقبلين نخاع العظام عن طريق الإشعاع، أوباستخدام الأدوية المناسبة وكيفية التعامل معهم طبياً بعد زراعة نخاع العظام. وكانت المشكلة الكبرى والمميزة في زراعة نخاع العظام هي إمكانية مهاجمة خلايا المستقبل من قِبل خلايا نخاع العظام، يحدث ذلك في حالة احتواء نخاع العظام الذي تم زراعته على خلايا مناعية ناضجة خاصةً من نوع الخلايا التائية، وتكون مناعة الشخص المتسقبِل لنخاع العظام ضعيفة بحيث لا يستطيع قتل تلك الخلايا، فعند تعرض الخلايا التائية للمتبرع لخلايا المضيف سيتم تنشيطها وزيادة عددها للقضاء على خلايا المُضيف وإصابته بالمرض. وقد وضع توماس في أبحاثه خريطة لتشخيص تلك الحالة، وكيفية تفاديها باستخدام عقار «methotrexate-ميثوتريكسات» وهو عقار غالباً ما يتم استخدامه في مكافحة السرطان حيث أنه يمنع عمل الكثير من الإنزيمات المسؤولة عن تصنيع الحمض النووي. بذلك يمنع انقسام الخلايا الأمر المهم لتقدم السرطان كما هو مهم لزيادة عدد الخلايا المناعية أثناء الالتهابات بذلك هو سبيل للتعامل مع الحالة الماثلة أمامنا. وفي السنين الأخيرة يعتمد تفادي ذلك المرض على القضاء على الخلايا التائية في نخاع العظام باستخدام الأجسام المضادة.

وبذلك وعلى مدار عقودٍ طويلة تم تطوير طُرق قوية وفعالة لنقل الأعضاء والحفاظ عليها سليمة حتى أصبحت منتشرة في أرجاء المعمورة.

مصادر(زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب):

Nobel 1912

Nobel 1990

NCBI

azathioprine drug bank

the new England Journal of medicine

Methotrexate drug bank

NCBI graft versus host disease

أقرأ المزيد:

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

برمجة الخلايا ورحلة الخمسين عام لنوبل في الطب

برمجة الخلايا ورحلة الخمسين عام لنوبل في الطب

لطالما لفتت الخلايا الجذعية الأنظار لها باعتبار كونها حل قوي للكثير من الأمراض، لكن في الوقت نفسه لا يمكن استغلال الخلايا الجذعية الموجوة في الأجنة نتيجة لقضايا متعلقة بأخلاقيات مهنة الطب، وكذلك خشيةً من تفاعلات رفض الأنسجة الغريبة التي يقودها جهاز مناعة الجسم. لكن ما بين أيدينا اليوم قد يمثل حل لتلك المشاكل حيث بإعادة برمجة الخلايا الجسمية المتمايزة للشخص وتحويلها لخلايا جذعية قد يوفر علينا الكثير من العناء. هذا ما تفائل به المجتمع العلمي بعد جائزة نوبل سنة 2012 التي حازها كلاً من «جون جوردون-John Gurdon» و «شينيا ياماناكا-Shinya Yamanaka».

أساسيات لفهم طبيعة الخلايا الجذعية :

مبدأياً الخلايا الجذعية ليست نوعاً واحداً إنما هي عدة أنواع مقسمة حسب قدرتها على إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا والأنسجة. ولفهم الخلايا الجذعية بشكلٍ جيد لابد من أن ترجع معي بالزمن للوراء قليلاً حتى نصل لبداية حياتك. في البداية كانت هناك بويضة تحتوي على 23 كروموسوم تم تخصيبها عن طريق حيوان منوي يحتوي أيضاً على 23 كروموسوم، لينتج زيجوت ويحتوي على 46 كروموسوم. يقوم الزيجوت بالانقسام لتتضاعف الخلايا في العدد في تلك المرحلة لم تكن أنت سوى مجموعة من الخلايا الجذعية. أو بالأحرى كنت مجموعة من أقوى الخلايا الجذعية وهي ما تُعرف باسم «Totipotent» دعنا نتأمل قليلاً في تلك الكلمة لغوياً فكلمة «toti» أصلها لاتيني، وهو «totus» وتعني (كل شيئ)، و«potent» تعني قوى؛ فتلك الخلية بالفعل قادرة على إعطاء كل شيء وأي شيء؛ فمنها يأتي الجنين والمشيمة والحبل السري، فهي الأساس لكل ما بعدها لذلك هي الأقوى.والآن بعد أن كون الزيجوت أعداد متضاعفة من الخلايا يتحول تركيب الجنين من كرة مصمتة من الخلايا من النوع «Totipotent» إلى كرة خلوية مجوفة تُسمى «Blastocyst-الكيسة الأريمية» في داخل تلك الكورة يوجد مجموعة من الخلايا التي تُسمى «الخلايا الداخلية-inner cell mass» نوعها يسمى «Pluripotent» وأصل الكلمة كما العادة لاتيني وهو «pluris» وتعني الأكثر. لاحظ أننا قلنا الأكثر وليس الكل؛ لأن ذلك النوع من الخلايا يعطي كل ما يخص جسم الإنسان من أنسجة فيما بعد، ولكنه لا يعطي أي شيء خارج الجسم مثل المشيمة وغيرها.

Blastocyst-الكيسة الأريمية

وبعدها يتوالى نمو الجنين وفي أثناء ذلك تقل قدرة الخلايا على إعطاء عدد متنوع من الأنسجة بحيث تكون أكثر تخصصاً، فيزيد بمرور الوقت الخلايا المتخصصة مثل الجلد، والعضلات ، والأعصاب ….إلخ ويندثر وجود نوعي الخلايا الجذعية المذكورين سابقاً. لكن يظل في بعض أعضاء الجسم البالغ مثل نخاع العظام وبعض الأعضاء الأخرى نوع من الخلايا الجذعية وهو «multipotent»، وكما أصاب توقعك عزيزي القارئ أصلها لاتيني ومعناها «الكثير-many»؛ لإنها تعطي أنواع محدودة من الخلايا ليست جميع الأنواع فهي أقل قدرة من السابق ذكرهم.

بهذا عرفت أهم أنواع الخلايا الجذعية والتي يركز العلم عليها؛ لقدرتها على تعويض المفقود من الأنسجة وشفاء العلل. ولطالما نظر العلم لتلك المراحل التي يتطور فيها الجنين أو بالأحرى التي تتطور فيها الخلايا الجذعية إلى خلايا متخصصة على أنها نهر ذو اتجاه يذهب ولا يعود. لكن تجرتين فارقتين في تاريخ الطب إحداهما عام 1962 والأخرى عام 2006 غيرت وجهة نظر العلم كليتاً، وجعلت من المستحيل ممكن، وعليه كانت نوبل من نصيبهما عام 2012.

إنتاج ضفدعة كاملة من خلية في الأمعاء:

قام الدكتور جون جوردون عام 1962 بتجربة في معمل علم الأجنة بأكسفورد غيرت مسار التاريخ فيما بعد. حيث قام بعزل نوى من خلايا «النسيج الطلائي-Epithelial tissue» الموجود في الأمعاء من ضفدع، وزرعها في عدد من بويضات ضفدع تم تدمير نواتها الأصلية بالإشعاع. ثم راقب نمو وتمايز الخلية بعدها ونتج عن ذلك أكتر من سينارويو:

1. لم يحدث انقسام خلوي تماماً:

كان نسبة المرات الفاشلة في بدأ أي انقسام خلوي 48%، وبعد فحص تلك الخلايا الفاشلة تحت عدسة الميكرسكوب اتضح أن السبب لم يكن في النوى المزروعة إنما كان سبب تقني في زرعهم، ولا دخل للنوى فيه. فيمكن استبعاد تلك النسبة لوجود قدرة محتملة على تفاديها عند الاعتماد على تقنيات أكثر كفاءة في الزراعة.

2. انقسامات خلوية فاشلة:

«انقسامات خلوية فاشلة-Abortive Cleavage»: كان هناك محاولات للانقسام إلا أنها باءت بالفشل وذلك نتيجة حدوث خلل في الكروموسومات، فكان ذلك الخلل مميت بعد فترة؛ حيث تكونت خلايا غير متتظمة الأشكال والأحجام والنوى. ولكن لماذا؟

من وجهة نظر الدراسة كان السبب يتمثل في الاختلاف الكبير الموجود بين الوقت الذي تستغرقة خلايا الأمعاء من النسيج الطلائي بين الانقسامات الخلوية المتتالية والذي تستغرقة الخلايا الجذعية. حسناً لإيصال الفكرة دعنا نستعرض بشكلٍ بسيط دورة حياة الخلايا. تمر كل خلية بدروة الانقسام خلوي، وبعدها تستكين فترة لا تنقسم فيها، وتُسمى تلك الفترة «الطور البيني-Interphase» وفيه تُجهز الخلية نفسها للدخول في انقسام خلوي جديد. ذلك عن طريق بعض التغيرات الكيميائية، وتضاعف المادة الوراثية استعداداً لإنتاج خليتين لهما نفس العدد من الكروموسومات، ويتم أيضاً في تلك المرحلة تصحيح الأخطاء في المادة الوراثية وذلك لتجنب حدوث أي شكلة في الانقسام، وتجنب حدوث طفرات. باختصار للحفاظ على مادة وراثية كاملة صحيحة قابلة لإنتاج خليتين متطابقتين، وعليه هو طور مهم جداً يجب أن يكتمل لنهايته. تختلف فترة ذلك الطور من نوع خلايا إلى آخر ففي خلايا النسيج الطلائي للأمعاء لابد أن يكون أطول من الزيجوت. فما يحدث أن مجموعة من النوى تم زراعتها في فترة مبكرة من هذا الطور، فتم تحفيز عملية الانقسام الخلوي بشكل مبكر قبل إتمام العمل على المادة الوراثية فأدى إلى مجوعة انقسامات فاشلة تنتهى بالموت. فعلى ما سبق يتضح أن السبب هو اختيار النوى في وقت خاطئ في الطور البيني، فيمكن أيضاً استبعاد تلك النسبة إذا توافرت طريقة أكثر فاعلية لاختيار النوى في الوقت المناسب.

3. انقسام جزئي:

ما حدث هو تكوين عدة خلايا بعضها كان طبيعي وناجح في الانقسام، والباقي لم يحالفه الحظ. مما يؤدي إلى تطور الجنين لفترة ولكن لم يكتمل ذلك التطور لتراكم الخلايا الغير طبيعية، لكن لماذا لم تكن كلها طبيعية؟ كان ذلك أصعب سؤال في الدراسة الذي كلف جوردن القيام بتجارب كثيرة، وعليه توصل في دراسته أن السبب كان قلة جودة بعض البويضات التي يتم زراعة النوى فيها، فلم تكن المشكلة في النوى نفسها بل في جودة البويضات؛ حيث أنه عند تكرار عملية الزراعة لجيل بعد جيل قد تزيد نسبة النجاح، والوصول إلى فرد كامل، لكن لم يحدث ذلك كثيراً فاستخلص أن السبب في الفشل كان تباين صفات البويضات فبعضها كان جيد قابل للاستخدام -زاد من نسبة النجاح بشكل بسيط عند إعادة زراعة النوى- والبعض لم يكن كذلك.

4. النجاح في تكوين فرد كامل:

كان نسبة النجاح في تكوين فرد كامل في مجمل التجارب 7%، وذلك عندما نجحت عملية الزراعة من الناحية التقنية مع توفر الوقت المناسب للنوى في الطور البيني وكذلك كانت البويضة مناسبة. وإذا استبعدنا النسب القابلة للاستبعاد وهما نسبتي عدم وجود انقسامات على الإطلاق أو وجود انقسامات فاشلة فستزيد نسبة النجاح من 7% إلى 24%. وبذلك أثبت جوردن أن نوى الخلايا المتمايزة تحمل كامل المادة الوراثية مثلها مثل الخلايا الجذعية في الأجنة وأنه إذا توافرت الظروف المناسبة لها قد تُنتج فرد كامل. وألقى الضوء على كون سبب تمايز تلك الخلايا هو تعطيل بعض الجينات عن العمل والسماح للبعض الآخر، مما يؤدي لممارسة وظيفة محددة، واكتساب صفات شكلية وكيميائية محددة.

لكن هل يمكن إنتاج فرد كامل من خلية متمايزة سلمية؟ هذا ما أجاب عنه «شينيا ياماناكا-Shinya Yamanaka» بعدها بأكثر من أربعين عام تحديداً عام 2006.

هل يمكننا إعادة برمجة الخلايا؟

في دراسة منشورة عام 2006 لليابني شينيا ياماناكا المولود عام 1962 أثبت أنه يمكن إذا توافرت الظروف المناسبة للخلايا المتمايزة سيكون بإمكانها التحول لخلايا جذعية من نوع «Pluripotent». وكانت تجربته قائمة على خلايا «fibroblasts-الخلايا الليفية». في البداية كانت أنظاره مع فريقه واقعه على 24 عامل مميزين للخلايا الجذعية، وعليه افترضوا أن أحد تلك العوامل أو خليط منها قد يؤدي إلى إعادة برمجة الخلايا الليفية لتتحول إلى خلايا جذعية. بالفعل بدأوا باختبارتهم بذلك الصدد. بعد عدة تجارب قائمة على التبديل بين تلك العوامل توصلوا إلى كلمة السر المكونة من 4 عوامل من أصل 24. وبالفعل أنتجوا خلايا جذعية من نوع «Pluripotent» على الرغم من كونها ليست مطابقة للموجودة في الجنين. لكن كيف تأكدوا من قدرتها على إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا؟ قاموا بتحفيز تلك الخلايا لإنتاج نوع من الأورام يسمى «teratome- الورم المسخ» وهو ورم يتكون من أنواع مختلفة من الأنسجة فقد يحمل نسيج غضروفي، وعصبي، عضلي،…….إلخ. وقد نجحت بعض تلك الخلايا في إنتاج الورم المسخ في الفئران، مما يدل على قدرتها على التمايز لأنواع عدة من الأنسجة والخلايا.

بذلك عزيزي القارئ على مدار خمسين عام تم تغيير مفهومنا كاملاً عن الخلايا الجذعية، وتفتحت الآفاق نحو منطقة جديدة للاستكشاف والبحث. فإنتاج خلايا جذعية من خلايا جسدية لهو أمل ضخم لعلاج الكثير من الأمراض الخطيرة التي تقضي على أنسجة الجسم، فبتلك التقنية قد يتوفرالعلاج الآمن السهل.

مصادر (برمجة الخلايا ورحلة الخمسين عام لنوبل في الطب):

science direct

development

Nobel prize 2012

Cell press

Khan academy

أقرأ المزيد:

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب

لطالما كان السرطان في عصرنا الحالي من أكثر الأمراض فتكاً بصاحبها بما يعانيه من أعراضٍ المزعجة والتي قد تسبب موته، والأسوأ ما يعانيه صاحبه في رحلته العلاجية المحفوفة بالمخاطر. وبوصول الأعداد المصابة بذلك المرض المميت إلى 18 مليون في عام 2018 من بينهم 9.6 مليون قتيل، أصبح البحث عن علاجات جديدة أمر بالغ الأهمية لا يمكن التساهل فيه. وقد لفتت المناعة نظر الباحثين كمفتاح محتمل للغز العلاج في العقود الأخيرة إلا أن ما بين أيدينا اليوم استطاع أن يبهر المجتمع العلمي لدرجة حصوله على جائزة نوبل عام 2018.

تفاعل المناعة مع الأجسام الغريبة:

هناك مراحل عديدة لتفاعل الجهاز المناعي مع الجسم الغريب وعند قولنا الجسم الغريب نقصد أي جسم قادر على استثارة جهاز المناعة حتى يتخلص منه قبل أن يضر المضيف، وتتم الاستثارة عن طريق تعرف المناعة على بعض المركبات المميزة لذلك الجسم الغريب تسمى تلك المركبات بالمتسضدات أو الأنتيجن. ونحن نستطيع القول أن الكثير من البكتيريا والفيروسات أجسام غريبة مسببة للمرض، وكذلك الخلايا السرطانية حيث تمتاز تلك الخلايا بعدد ضخم من الطفرات الجينية التي قد تنعكس على سطحها الخارجي، فيكون مستفز للجهاز المناعي. وقد يسبب انقسامها الزائد عن الحد الغير منظم إلى وجود مركبات حُرة مثل الأحماض النووية تتعرف عليها المناعة.

لكن كيف تهاجم المناعة؟ في حالة الخلايا السرطانية تتولى بعض الخلايا الهجوم عليها أو تحفيز خلايا مناعية أخرى للهجوم عليها. وتُعتبر أهم خلية في ذلك السياق هي الخلايا التائية التي تنقسم بدورها إلى «خلايا تائية مساعدة- T helper cells» و «خلايا تائية قاتلة-T cytotoxic cells». تمر الاستجابة المناعية بعدة مراحل؛ في البداية تلتهم بعض الخلايا المناعية البلعمية الخلايا السرطانية، وتحصل على الأنتيجن الذي من شأنه استفزاز الجهاز المناعي، لمهاجمة الخلايا السرطانية. تقوم الخلايا البلعمية بعرض تلك المركبات على سطحها حتى تتعرف عليها الخلايا التائية المساعدة وفي بعض الأحيان الخلايا التائية القاتلة أيضاً. حتى تنشط الخلايا التائية وتدخل في معركة قوية ضد السرطان، وذلك بإفراز بعض المركبات المناعية من الخلايا التائية المساعدة التي تحفز المزيد من الخلايا البلعمية؛ لأداء وظيفتها بقوة، وكذلك تحفز الخلايا التائية القاتلة التي تقتل الخلايا الغريبة بطرق مختلفة كإفراز السموم. وتقوم الخلايا التائية المساعدة بتحفيز خلايا مناعية أخرى مختلفة الأنواع. ولكن هل يتطلب تحفيز الخلايا التائية مجرد التعرف على الأنتيجن؟ في الحقيقة لا؛ فيتطلب أيضا وجود بعض الإشارات المحفزة لمستقبلات على سطح الخلايا التائية بفعل ارتباطها ببعض المركبات الموجودة على سطح الخلايا البلعمية، دعني أضرب لك مثالاً لتوصيل الفكرة:

بروتين B7: يتواجد على سطح بعض أنواع الخلايا البلعمية بروتين يُسمى B7 يرتبط ببروتين آخر يتواجد على سطح الخلية التائية المُراد تحفيزها يُسمى CD28، يساهم ذلك الارتباط في تنشيط الخلية التائية. هناك أكثر من محفز آخر غير B7 إلا أن هذا أكثر ما يهمنا في حديثنا اليوم. تلك الارتباطات ضرورية جدا لنشاط الخلايا التائية وغيابها يعني بالضرورة عدم تنشيط الخلايا التائية.

عزيزي القارئ، هل يمكنك تخيل وجود مركبة سباق بلا فرامل؟ بالطبع لا؛ فالأمر عندما يزيد عن الحد بالضرورة سيؤدي لضرر صاحبه إذا هل يمكن ترك المناعة بلا فرامل؟ بالطبع لا، فلو ظل رد الفعل المناعي زائدا عن الحد في الأوضاع الطبيعية سيؤدي ذلك بالضرورة للإضرار بالجسم، إذا للمناعة فرامل.

ما هي فرامل رد الفعل المناعي؟

هناك العديد من الأمور التي تثبط رد الفعل المناعي بعد فترة من نشاطه؛ من أهمها أحد أنواع الخلايا التائية التي تسمى «الخلايا التائية المنظمة-regulatory T cells»، المفرزة لبعض المواد المثبطة للمناعة عن طريق الحد من النشاط الخلايا التائية الأخرى. بالإضفة لذلك يوجد بعض البروتينات على سطح الخلايا التائية القاتلة خاصةً، وأحياناً الخلايا التائية المساعدة من شأنها الحد من نشاط تلك الخلايا. البروتينات المعنية حديثة الاكتشاف؛ فقد تم اكتشافها في أواخر القرن الماضي ومنهم:

  1. بروتين CTLA-4: يمنع ذلك البروتين التفاعل بين B7 وCD28 بالطبع كما ذكرنا من قبل تلك أحد أهم التفاعلات التي تصب في صالح تنشيط الخلايا التائية، وبغيابها يغيب نشاط تلك الخلايا كُلياً.
  2. بروتين PD-1: يتواجد ذلك البروتين أيضاً على سطح الخلايا التائية المساعدة والقاتلة كذلك، ومن شأنها أن تتسبب في إبطال نشاط تلك الخلايا وتُسبب موتها.

تلك الفرامل غاية في الأهمية لكبح نشاط الخلايا المناعية الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالجسم نفسه، ولكن ماذا لو كنا نحتاج لذلك النشاط في بعض المواقف؟ دعنا نستعرض الصورة سوياً: الجسم لايزال يُعاني من السرطان حيث تتواجد تلك الخلايا السرطانية في نفس الوقت يقل نشاط الخلايا التائية بفعل تلك البروتينات، إذا كيف سيموت السرطان؟ بالطبع لن يموت لأن النشاط المناعي بدأ يقل في الوقت الذي يزداد فيه النشاط السرطاني. الأمر عزيزي القارئ أشبه بالضغط على فرامل مركبة السباق قبل بلوغ خط النهاية بكثير هل ستفوز حينها؟ بلا محالة لا. إذاً فما الحل؟

كيف نتحكم بالفرامل؟

كانت الإجابة على يد كلاً من الأمريكي «جيمس أليسون-james allison»، واليباني «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo» الحائزين على جائزة نوبل بالتقاسم عام 2018. فقد استطاع كلاً منهما التحكم بالفرامل لصالح القضاء على السرطان، وقد نجحا في ذلك نجاحاً مستحقاً لجائزة نوبل، فماذا فعلا؟

الأمريكي «جيمس أليسون-james allison»، واليباني «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo»

1. التحكم ببروتين CTLA-4:

قام جيمس أليسون وفريقه بعمل جسم مضاد لذلك البروتين قادر على منع نشاطه، واختبروا كفاءته على الفئران. قاموا بحقن الفئران ببعض الخلايا السرطانية، وعالجوا بعضهم بمضاد CTLA-4 والبعض الآخر لم يُعَالج تماماً، أو تم علاجه بمضاد CD28. فلاحظوا أن المجموعة المُعَالجة بمضاد CTLA-4 أظهرت تحسناً قوياً بالمقارنة مع باقي المجوعات. ثم تم اختبار الفئران الناجية بحقنهم بالخلايا السرطانية مرةً أخرى، فأظهرت الفئران التي تم علاجها في التجربة السابقة بمضاد CTLA-4 حماية قوية ضد السرطان مقارنة بباقي المجموعات. وبعد ذلك تم اختبار إذا كان رد الفعل ذلك ناجم عن تقديم مضادات CTLA-4 باكراً بعد حقن الخلايا السرطانية أم لا؟ فتم حقن فئران بالخلايا السرطان وتعريض أحد المجموعات لمضادات CTLA-4 في نفس اليوم، وتعريض المجموعة الثانية للمضادات بعدها بسبعة أيام. كانت النتيجة أن كلا المجموعتين كان لهم رد فعل قوي ضد السرطان بل أن تأخر العلاج قد يكون له رد فعل أقوى. بعد نجاح تلك الدراسة وتقديمها لنتائج جيدة للغاية تم تجربة ذلك النوع من العلاج على مرضى سرطان الجلد من نوع «ميلانوما-Melanoma»، وهو نوع خطير من سرطان الجلد إلا أن تقديم ذلك النوع من العلاج كان له أثر إيجابي ملحوظ.

2. التحكم ببروتين PD-1:

أظهرت دراسة منشورة سنة 2004-2005 -شارك فيها «تاسوكو هونجو-Tasuku Honjo»- أن التحكم ببروتين PD-1 باستخدام أجسام مضاده له يُعد طريقة واعدة بقوة في علاج السرطانات التي تنتشر عبر الدم، وأن ذلك النوع من العلاج قد يكون أقوى حتى من مضادات CTLA-4؛ فهو أكثر قدرة منه على محاربة السرطان المنتشر في الدم فقد يكون علاج قوي مستقل بذاته على عكس العلاج بمضادات CTLA-4 المُحتاج إلى علاجات مساندة له. ويعتمد ذلك العلاج على إطالة فترة نشاط الخلايا التائية، وزيادة أعداد الخلايا المناعية النشطة، فيعطي فرصة أكبر لقتل السرطان كما أن السرطانات التي تنتقل في أنحاء الجسم عن طريق الدم قد يسهل القضاء عليها باستخدام الخلايا المناعية؛ لتوافرها في الدم وقتها. وقد أظهرت بعض الدراسات الأخرى أن تقديم هذين النوعين من العلاج سويا قد يكون أقوى من تقديم أحدهم فقط.

في الحقيقة ذلك النوع عن العلاجات ليس بالشهرة الواسعة حتى الآن، ولايزال يحتاج للعديد من الدراسات لتقصي الأضرار الجانبية التي قد تنتج عنه؛ فزيادة النشاط المناعي بشكل مبالغ فيه قد ينجم عنه تدمير للأنسجة الطبيعية بالغة الأهمية. فلذلك ما زال ميدان البحث واسع للوصول للحقيقة الكاملة إلا أن الآمال عالية جداً، وخصوصا بعد جائزة نوبل في الطب عام 2018.

مصادر(علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب):

Cancer research UK

Nobel prize 2018

Oxford academia

Science

أقرأ المزيد:

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

عند سماعك لكلمة ملاريا ستقول: إن مرض الملاريا هو مرض يسببه طفيل يُسمى «بلازميديوم-Plasmodium» ينتقل عن طريق أنثى بعوضة الأنوفليس. تُعتبر تلك المعلومات بديهية بالنسبة للطفل في سنين دراسته الأولى لكنها أخذت آلاف السنين حتى تكون معروفة، وقد سبب ذلك التأخر في المعرفة إلى فقدان الملايين من الأرواح في كل حضارة ومكان تقريباً كما سنرى سوياً.

ولكن قبل البدأ في معرفة تفاصيل مرض الملاريا وجب معرفة بعض الأساسيات عن الأمراض التي تسببها الطفيليات؛ حيث يمر الطفيل بدورة حياة داخل ضيفه/عائله تهدف إلى التكاثر وزيادة أعداده، وفي كل مرحلة من تلك الدورة يكون للطفيل شكل مميز يتناسب مع وظيفته في تلك المرحلة، وأيضاً بالظروف المحيطة به. وترتبط كل مرحلة من دورة حياة الطفيل بأعراض مميزة لها تظهر على العائل. تنطبق كل تلك الأساسيات على مرض الملاريا الذي سنتعرف عليه تاريخياً وطبياً في السطور القادمة.

تأثير الملاريا على ملامح التاريخ:

يُعتبر مرض الملاريا مرض بالغ القِدم فقد تواجد في أغلب الحضرات القديمة وألفوا عنه عدة خرافات وأساطير. في الحضارة الفرعونية تم الكشف عن بعض «المركبات المميزة-Antigens» للطفيل المسبب للمرض في بعض المومياوات. وأطلق عليه الهنود قديماً لقب ملك الأمراض، وأما في الصين فقد كان يُعتقد بوجود علاقة بين أعراض الملاريا مثل تضخم الكبد والطحال بالإضافة لارتفاع درجة الحرارة والصداع والعرق الغزير مع ثلاثة شياطين أحدهم يمسك بدلو ممتلئ بالماء، والثاني يحمل مطرقة، والأخير يحمل عصى. وقد سبب تعداد السكان المرتفع في الهند والصين لتوفر ظروف مناسبة لتواجد المرض بشكلً كبير. وقد تحدث الكثير من فلاسفة اليونان عنه مثل أرسطو، وأفلاطون، وأبقراط وغيرهم. ويُعد انتقال المرض من إفريقيا إلى روما أهمية تاريخية بالغة الخطورة؛ حيث طبقاً لعدد كبير من المؤرخين ذلك المرض ساهم بقوة في سقوط روما حيث انتشرت الملاريا إلى أعالي النيل وانتقلت إلى اليونان ثم روما عن طريق الجنود والتجار وانتشرت في جميع أنحاء أوروربا القديمة لفترة طويلة وتسبب زيادة السكان في روما في ازدهار وانتشار المرض بينهم وساهم في تدمير المزارع حول مدينة روما.

ولم تسلم الحضارات الحديثة من خطر ذلك الوباء القاتل فقد انتشر مع العبيد الأفارقة إلى أوروبا، والجدير بالذكر أن الملاريا لم تكن مؤذية في نسبة ليست بقليلة من هؤلاء الأفارقة؛ حيث أن بعض الأمراض الوراثية التي تصيب كُرات الدم الحمراء مثل «فقر الدم المنجلي- sickle cell anemia» (مرض يحدث نتيجةً لعيب في تصنيع الهيموجلوبين يتسبب في جعل كرات الدم الحراء منجلية الشكل)، أو نقص إنزيم G6PD/الفوال (إنزيم يسبب تخلص كرات الدم الحمراء من المواد المؤكسدة) منتشرة بينهم وتعد واقية من مرض الملاريا. إلا أن تلك الأمراض أقل انتشاراً بين القوقازيين في أمريكا وأوروبا فلذلك كان يمثل الملاريا خطراً أكبر عليهم، وانتشر المرض في المناطق المدارية من أمريكا اللاتينية، ووادي المسيسيبي في أمريكا الشمالية، وكذلك في بريطينيا وكان ذلك بحلول عام 1750. وزاد خطر الملاريا في الولايات المتحدة الأمريكية مع زيادة المهاجرين إليها خاصةً من أوروبا، وأدى إلى زيادة الضعف بين صفوص الجنود في أثناء الحرب الأهلية. وفي الحرب العالمية الثانية كان يمثل خطر كبير على جنود الولايات المتحدة الأمريكية في حملة المحيط الهادئ؛ حيث أصاب الملاريا عدد من الجنود أكبر مما أصابه الأعداء نفسهم.

في حقيقة الأمر مرض الملاريا لم يترك حضارة أو قارة تقريباً دون أن يؤثر عليها بشدة، ولكن كانت أفريقيا أكثر القارات المفضلة بالنسبة له وكما ذكرنا سابقاً أن بعض أمراض الدم الوراثية الموجودة بين الأفارقة تُشكل حمايةً لهم من الملاريا، ولكن ذلك لم يتوفر في جنود الحملات الأوروبية التي فشلت أعداد كبيرة منها في الاستيلاء على أجزاء من وسط وغرب أفريقيا حتى سُميت تلك المناطق بمقبرة الرجل الأبيض.

الملاريا وجائزة نوبل في الطب:

كانت المعلومات المتاحة عن أسباب مرض الملايا بسيطة جداً والمعتقد السائد حينها أنها مرتبطة بالمستنقعات وتنتقل بالهواء!! لكن ذلك كان على وشك التغير على يد التطورات الضخمة التي كانت تحدث وقتها في طب المناطق الحارة الملازم لاتساع رقعة الاحتلال البريطاني والفرنسي. كان الطبيب الفرنسي «تشارلز لافيران-Charles Laveran» من المشاريكن في ذلك التغير؛ فقد افترض أن مرض الملاريا يحدث بسبب ميكروب يدخل جسم الإنسان ويتكاثر فيه ويسبب له الضرر، فبدأ بفحص عينات دم المصابين في الجزائر. فوجد كائن شبه شفاف على شكل هلال مع نقطة ملونة. أكدت فحوصات مشابهة من باحثين آخرين نفس النتائج، وقام هو أيضاً بنفس التجربة أكثر من مرة وكانت نفس النتائج. كان ذلك الاكتشاف في آواخر القرن التاسع عشر واكتشف بعدها العديد من الطفيليات في أمراض المناطق الحارة ونتيجة لتلك الاكتشافات وخاصةً اكتشافاته في الملاريا حاز على جائزة نوبل في الطب وذلك عام 1907.

«تشارلز لافيران-Charles Laveran»

في أثناء تلك الفترة من آواخر القرن التاسع عشر وبعد نتائج لافيران بدأ «رونالد روس-Ronald Ross» يقوم بدراساته على الملاريا بناءاً على تلك النتائج وبناءاً على فرضية باتريك منسون -الأب الروحي لطب المناطق الحارة- حيث كان منسون يفترض وجود طفيل الملاريا في نوع من البعوض ينقله من مكان لآخر، وقد وضح رونالد روس أسباب تبنيه لتلك الفرضية في ورقة بحثية له حيث:

  1. من وجهة نظر المعلومات المتوفرة عن الطفيليات وقتها، وبناءاً على النتائج التي قدمها الدكتور لافيريان؛ فالملاريا يحدث نتيجة طفيل يغزو كرات الدم الحمراء ويتكاثر بها، ومن الملاحظ سابقاً اربتاط مرض الملاريا بالهواء. فهل يُعقل أن ينتقل الطفيل في الهواء بلا حامل؟ فمن منطلق أن الطفيل لا يتواجد إلا في جسمٍ يتغذى عليه إذاً فهو لا ينتقل هكذا في الفراغ دون عائل يوفر له الغذاء.
  2. عند فحص عينة دم سنجد بعض الأشكال الهلالية في بعض أنواع طفيل البلازميديوم غير معلوم دورها بوضوح، ولكن يتضح تلك الأشكال الهلالية تُعطي أشكال أخرى بعد أخذ العينة بفترة، تتميز الأخيرة بقدرتها القوية على الحركة بفعل «الأسواط-flagella» الجدير بالذكر أن تلك الأشكال ذات الأسواط لا تتواجد في دم الإنسان، إذا لماذا ظهرت بعد سحب عينة الدم بفترة؟! إذا لابد أنها تستكمل مهمتها في التكاثر في عائل آخر خارج الإنسان.

رأى رونالد روس أن اتباع نظرية منسون سيقوده في النهاية لنتجية مُرضية وهذا ما حدث. فبعد فترة طويلة جداً من البحث والتجارب استطاع أخيراً رؤية الطفيل في معدة بعوضة الأنوفليس بعد أن عرضها للمصابين بالمرض في الهند، ولاحظ أن كمية الطفيل تزيد في البعوضة كلما تأخر في التشريح مما يعني حدوث تغير في العدد بجانب التغير في شكل الطفيل. وقد استكمل دراساته في مدينة «كالكوتا-Kolkata» على العصافير والغربان حيث لاحظ وجود الطفيل في الغدد اللعابية للبعوض الذي تغذت من دم من العصافير المصابة فعرض عصافير أخرى سليمة لذلك البعوض وبالفعل أُصيب بالملاريا. وبذلك استنتج رونالد روس أن أنثى بعوض الأنوفلس تمتص أطوار من الطفيل أثناء تغذيها على دم المصابين فيتكاثر الطفيل بها، وينتقل عن طريق لُعاب البعوضة للإنسان فيصاب بالملاريا. ونتيجة لتلك الدراسات المضنية حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1902.

دورة حياة الملاريا:

ينتقل الطفيل من لُعاب البعوضة في أثناء تغذيها على دم الشخص، فيتوجه إلى الكبد عن طريق الدم وهناك يتكاثر في خلايا الكبد بكثرة لفترة معينة ثم ينتشر في الدم، حيث يغزو كرات الدم الحمراء ويزداد في العدد بشدة حتى تنفجر كرة الدم الحمراء ويتحرر منها كمية كبيرة جدا من الطفيل وكذلك بعض السموم، فتقوم المجوعة المتحررة بإعادة الكرة مرة تلو أخرى وغزو المزيد من كرات الدم الحمراء، إلا أن البعض منهم يتحول إلى «خلايا مشيجية-gametocytes» التي قد تكون هلايلة الشكل في بعض أنواع البلازميديوم. تأتي أنثي بعوضة الأنوفليس للغذاء فتمتص مع الدم تلك الخلايا المشيجية التي بدورها تُعطي «الأمشاج-gametes» المؤنثة والمذكرة في تجويف معدة البعوضة (توازي الحيوانات المنوية والبيوضات في الحيونات مع اختلاف الشكل) ثم تحدث عملية الإخصاب بين تلك الأمشاج فيتكون طفيل فرد جديد، ينتقل من تجويف الجهاز الهضمي للبعوضة لجداره ثم إلى الغدد الللعابية استعداداً للانتقال لإنسان جديد.

دورة حياة الملاريا

أعراض مرض الملاريا:

يمر الشخص في بداية المرض بالصداع وارتفاع درج الحرار وآلام في الجسم، ثم تبدأ الأعراض المميزة للمرض بالظهور تدريجياً حيث نتجية انفجار كرات الدم الحمراء التي تحتوي على الطفيل يتحرر منها أعداد ضخمة من الطفيل والسموم، يسبب ذلك مرور الشخص المصاب بثلاثة مراحل من الأعراض: تبدأ بالشعور بالبرد والرعشة الشديدة، ثم ارتفاع شديد في درجة الحرارة والشعور بالغثيان والقيئ، ثم المرحلة الأخيرة حيث العرق الشديد والشعور بالإعياء. تتكرر تلك الأعراض بشكل مستمر كل ثلاثة إلى أربعة أيام. يعاني الشخص المصاب من الأنيميا نتيجة لتكسير كرات الدم الحمراء، ويحدث تضخم شديد في الكبد والطحال. وقد يعاني الإنسان من بعض المضاعفات في الكثير من الأعضاء الحيوية مثل المخ والقلب والرئتين وغيرهم.

العلاج:

تحكى الأسطورة أن كونتيسة من «Chinchon- تشينتشون» -مدينة أسبانية- متزوجة من حاكم في دولة بيرو أصابها مرض الملاريا تم عالجها أحد الكهنة باستخدام لحاء أحد انواع الأشجار، فأخذه الناس كعلاج وسُميت الشجرة باسم «Cinchona-سيكونا أو كينا»، تيمماً باسم مدينة الكونتيسة ولكن مع تخفيف الاسم. تلك الشجر يُستخرج منها نوع من الأدوية يسمى «Quinine-كينين» الذي ظل العلاج الأساسي للملاريا حتى الحرب العالمية الأولى. يتعبر ذلك الدواء سام لطفيل البلازميديوم حيث يمنعه من التغذي على الهيموجلوبين مما يسبب موته. وهو مسؤول عن أعراض جانبية شديدة مثل اضطراب في الرؤية والسمع، والإسهال، وبعض المشاكل العصبية مثل التشنجات وفقدان الوعي وغيره من الأعراض؛ لذلك يُعد دواء كثير الأعراض الجانبية وقل استخدامه فيما بعد. حيث في الحرب العالمية الأولى استولى الحلفاء على الجزير الاندونيسية «Java-جافا» التي كانت تنتج ما يزيد عن 80% من الكينين مما أدى إلى نقص شديد في العلاج عند ألمانيا. فقام العلماء بعدة أبحاث واختبارات للوصول للعلاج المناسب الذي ظهر بعد عدة سنوات وكان هو «Chloroquine-الكلوروكين» الذي يعمل بطريقة مشابهة تقريباً للكينين حيث يسبب تعطيل هضم الطفيل للهيموجلوبين، ولكنه أقل في الأعراض الجانبية، وأكثر فاعلية. ويستخدم بحذر نتيجة لتأثيراته السلبية على الجهاز الدوري. وأدى انتشار مقاومة الملاريا لمثل تلك الأدوية فيما بعد إلى انتشار أدوية أخرى قوية مثل «Sulfadoxine-Pyrimethamine» الذي يمنع تصنيع «folic acid-حمض الفوليك» الضروري للكثير من التفاعلات الخاصة بالحمض النووي DNA وغيرها. بالإضافة لأدوية أخرى فما زالت التطورات مستمرة.

مصادر (الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب):

ncbi

Nobel prize

Nobel prize

Ncbi

CDC

Health line

Drugs.com

Drugs.com

ما هو العلاج بالبلازما؟ وهل يفيد مع الكورونا؟

لا يدخر العلم أي جهد في سبيل محاربة فيروس كورونا المستجد- COVID-19 الذي ينتشر في أرجاء المعمورة انتشار النار في الهشيم، فقد وصل عدد الحالات المصابة إلى 7,674,859 والوفيات إلى 426,108 في مقابل 3,886,740 حالة شفاء. وحتى الآن لا يوجد علاج معترف به خاص بالفيروس. في ظل كل تلك الظروف تظهر العديد من الأخبار عن فاعلية، وأمان علاج فيروس كورونا المستجد بالبلازما. وبدأت الكثير من دول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية في جمع تبرعات البلازما من المتعافين وحدث المثل على صعيد عدد من الدول العربية مثل مصر المشاركة في دراسة حول فاعلية وأمان علاج فيروس كورنا باستخدام البلازما. لكن مع الأسف تظهر الكثير الإشاعات والأخبار الغير مدعمة بالأسس البحثية العلمية؛ لذلك دعنا نتعرف سوياً على تاريخ والأساس العلمي حول استخدام العلاج بالبلازما، والحقائق البحثية الموجودة حتى الآن حول ذلك الموضوع وكذلك آراء المنظمات العالمية.

وزيرة الصحة المصرية تتحدث علاج فيروس كورونا باستخدام البلازما.

الأساس العلمي والتاريخ خلف العلاج بالبلازما:

عند تعرض جسم الأنسان لجسمٍ مسبب للمرض سواء كان كائن ممرض مثل البكتيريا والفيروسات، أو كان مادة غير حية مثل السموم. تكافحه المناعة عن طريق المناعة الأولية أو الفطرية Innate immunity المتمثلة في الحواجز الكيميائية والفيزيائية مثل المخاط، وكذلك نشاط بعض الخلايا المناعية. وإذا استطاع الجسم الممرض التغلب على ذلك النوع تلجأ المناعة لتطوير المناعة التكيفية-adaptive immunity والتي من ضمن أساليبها تصنيع الأجسام المضادة عن طريق الخلايا البائية-B cells. تلك الأجسام المضادة ما هي إلا مركبات بروتينية شبيهة لحرف Y تقوم بالارتباط ببعض المركبات على سطح الجسم الممرض تمنعه من اقتحام الخلايا فبذلك تعطل نشاطه، وتساعد في القضاء عليه بالاستعانة بالخلايا المناعية مثل الخلايا البلعمية، وغيرها من الطرق المختلفة. وبعد أن يُقضى على الجسم الممرض قد يستمر تواجد الأجسام المضادة لفترة من الزمن وذلك للقضاء على الجسم المسبب للممرض حال دخوله للجسم فوراً، وتتواجد تلك الأجسام المضادة في الدم تحديداً في بلازما الدم.

بمرور الوقت أراد الطب الانتفاع بتلك الأجسام المضادة في القضاء على الأمراض المستعصية، وتُعد أول محاولة مسجلة في ذلك الصدد منذ أكثر من قرن تقريبا وكانت على يد الألماني « أدولف فون بهرنغ-Emil Adolf von Behring» الذي حصل على البلازما من الحيوانات -خاصة الأحصنة- المتعافية من مرض «الخناق-Diphtheria» لعلاج المرضى واستحق على ذلك جائز نوبل في الطب عام1901، أيضا استُخدم ذلك العلاج في الحرب على الإنفلونزا الأسبانية عام 1918-1920 واستخدامه في علاج « الحمى قرمزية-scarlet fever» -التي تتطور لدى بعض الأطفال المصابين بالتهاب الحلق- في عام 1920. وكان لها دور في علاج إحدى أنواع عدوى الجهاز التنفسي: السعال الديكي- pertussis حتى عام 1970. وفي العصر الحديث تم استخدامها في علاج انفلونزا الطيور، والخنازير، وكذلك الإيبولا، وفي عام 2015 تم الاعتراف به كعلاج لأحد أنواع فيروس كورونا المتواجد في الخليج العربي وهو MERS. وغيره العديد والعديد من الأمراض. ويُعد فيروس SARS-أحد أنواع عائلة كورونا- من أكثر الفيروسات التي تهم المجتمع العلمي في تلك الأيام؛ ذلك للتشابه بينه وبين فيروس كورونا المستجد. فهل ثبت استخدام العلاج بالبلازما معه؟

في دراسة صينية نُشرت في عام 2004 تضمنت 80 مريض في هونج كونج تمت معالجتهم بالبلازما، تحسنت حالة عدد جيد منهم بشكلٍ ملحوظ مقارنةً بغيرهم من الحالات، وكذلك قلت نسبة الوفاة مقارنة بغيرهم، وكان التحسن الأكبر من نصيب المرضي الذين أعطوا العلاج بالبلازما قبل اليوم الرابع عشر من بداية الأعراض مما يلفت النظر للتوقيت الأمثل لذلك النوع من العلاج، ولكن لماذا تحديداً قبل اليوم الرابع عشر؟

حسناً، في دورة حياة الفيروس SARS -نفس الكلام ينطبق على قرينه كورونا المستجد- يقوم الفيروس بالانتشار في الدم (viremia) بشكلٍ كبيرٍ خلال الأسبوع الأول، وتتطور المناعة خلال الأسبوع الثاني ضد الفيروس، وفي الأسبوع الثالث قد يموت المريض؛ ذلك نتيجة لرد الفعل المناعي بالغ العنف الذي يقوم بتدمير نسيج الرئة فتسوأ حالة المريض بشدة ليس بسبب الفيروس إنما بسبب رد فعل المناعة المبالغ فيه. وهذا يسلط الضوء أن زيادة الأجسام المضادة في مرضى SARS زاد من خطورة المرض في الأسبوع الثالث؛ لذلك اختيار التوقيت لهو أمر بالغ الأهمية. والآن عزيزي القارئ بعد أن عرفنا سوياً تاريخ العلاج بالبلازما والأساس العلمي المنوط به، وجب معرفة الوضع الحالي في مواجهة فيروس كورونا المستجد COVID-19.

علاج فيروس كورونا المستجد بالبلازما

ما سنستعرضه الآن سوياً هي مجموعة من الدراسات، أو التجارب السريرية التي تمت حول ذلك الموضوع حتي نستخلص معاً الحقائق في الوقت الحالي.

  1. خمس دراسات في الصين وكوريا: تم عمل خمس دراسات حول استخدام العلاج بالبلازما أربعة منهم في الصين، والخامسة في كوريا الجنوبية. كان إجمالي عدد المشاركين 27 مشارك ما بين 15 ذكر، و12 أنثى. تتراوح أعمارهم ما بين 28 إلى 75 عام يعاني بعضهم من أمراض مزمنة في الجهاز التنفسي وكذلك في القلب والأوعية الدموية بالإضافة لأمراض الكلية. وتفاوتت حالاتهم، إلا أن كلهم تقريباً كانوا في إطار الحالة الحرجة، وخمسة من بينهم كانوا على جهاز تنفس صناعي. تم تعريضهم للعلاج بالبلازما بالإضافة إلى بعض الأدوية المضادة للعدوى البكتيرية والفيروسية ومضادات الاتهابات. كان مصير كل تلك الحالات الشفاء، أو على الأقل تحسن جيد جداً. حيث قل تركيز الفيروس وكذلك زادت نسبة الأجسام المضادة بطريقة ملحوظة في خلال 30 يوم من العلاج، وانخفضت درجة حرارتهم وقلة الاستعانة بجهاز التنفس الصناعي. وكانت الأعراض الجانبية قليلة جدا لا تُذكر. لكن لاحظ معي أن المرضى جميعاً تعاطوا أدوية مساعدة في رحلة العلاج مما يرفع الشكوك لدى الباحثين حول نسبة تلك النتائج للعلاج بالبلازما أم للأدوية أم كلاهما؟! وكذلك قد تلاحظ ما تواجهه تلك الدراسات الخمس من قلة في العدد، وبعض المشاكل في التحيز حيث أن الحالات لم تكن عشوائية، وغيرها من المشاكل. لكن بصفة عامة قد تعتبر عامل لا بأس به نحو عمل دراسات أكبر حول فاعلية استخدام العلاج بالبلازما.
  2. دراسة أمريكية بتكساس: تضمنت 25 مريض في حالة حرجة تتراوح أعمارهم من 19 إلى 77 عام، وكان نسبة 64% منهم يعاني من أمراض مزمنة مختلفة. تم علاجهم باستخدام البلازما بالإضافة لمضادات الفيروسات والاتهابات. تحسن منهم على مدار 14 يوم 19 حالة، وأكدت تلك الدراسة على كونه علاج آمن ومن الممكن أن يكون ذو فاعلية. ولكن تلك الدراسة أيضاً كانت تعاني من بعض العيوب مثل قلة عدد العينة.
  3. دراسة صينية تحذر بشأن توقيت العلاج غير الملائم: في إحدى الدراسات الصينية التي تضمنت 6 مرضى تعرضوا للعلاج بالبلازما بعد ما يقارب متوسط 21.5 يوم من الكشف عن العدوى، تُوفي 5 منهم وظل ناجي وحيد الذي أُعطي العلاج في اليوم الحادي عشر فتقول تلك الدراسة أن العلاج بالبلازما قد يكون جيد، ولكن علينا مراعاة التوقيت فكما ذكرنا عزيزي القارئ سابقاً دورة حياة الفيروس SARS تتشابه معها كثيراً دورة حياة كورونا المستجد حيث يرتفع رد الفعل المناعي لأعلى درجاته في الأسبوع الثالث الذي قد يحمل خطر الهجوم على الرئة، وتدميرها بواسطة الجهاز المناعي وليس الفيروس؛ لذلك نحن في أمس الحاجة لتحديد التوقيت المناسب للعلاج.

ولكن كيف يعمل ذلك العلاج ضد فيروس كورونا المستجد؟ بالطبع ستكون إجابتك: كما تعمل الأجسام المضادة ضد أي جسم ممرض تقريباً مثل ما وضحنا معاً من قبل، حسناً هذا حقيقي. ويزيد على ذلك أمر غاية في الأهمية وهو يعتمد على خصائص فيروس كورونا المستجد المرضية حيث أنه يوجد مركب كيميائي على سطحه يقوم بالارتباط بإحدى المستقبلات على أسطح الخلايا وهو ACE-2 Receptor، وأيضاً يرتبط الجسم المضاد بنفس ذلك المركب على سطح الفيروس فبهذا الشكل يمارس الجسم المضاد نوعاً من المنافسة مع ACE-2 يمنع الفيروس من الارتباط بالمستقبِل، وبداية رحلته المرضية في خلايا الرئة. والآن في ظل كل تلك الدارسات بالغة الأهمية ما موقف المنظمات العالمية منها هل حركت ساكن أم لا ؟

منافسة الأجسام المضادة للمُستقبِل ACE2

ماذا عن رأي المنظمات العالمية؟

  1. منظمة الغذاء والدواء الأمريكية-FDA: في يوم 24 مايو الماضي صرحت منظمة FDA أنه ليس هناك ما يمنع استخدام العلاج بالبلازما في علاج فيروس كورونا ولكنه أيضاً ليس هناك دليل قاطع على أنه ناجح، وعليه صرحت باستخدام ذلك النوع من العلاج مع الحالات الحرجة التي تعاني من فشل في التنفس أو فشل في أكثر من عضو وغيرها من الأعراض الخطيرة، فيقوم الطبيب بالتواصل مع المنظمة لتزويدهم بالمعلومات والحصول على الموافقة في غضون 4 إلى 8 ساعات. ولابد أن يكون المتبرع المعافى من المرض لم يظهر عليه أعراض على الأقل لمدة 14 يوم ونتيجة تحاليله بخصوص الفيروس سلبية.لاحظ معي أن ذلك التصريح بهدف استكشاف العلاج بشكل أكبر.
  2. المعاهد الوطنية للصحة-NIH: لم تختلف كثيراً عن سابقتها فقد أكدت أن المعلومات المملوكة محدودة، ونحن إذاً بحاجة للمزيد من الدراسات لمعرفة مدى فاعليته والتأكد من أنه آمن حيث أنه ما بين أيدينا من دراسات محدود جداً، ويعيبه قلة الأعداد المشاركة، وغياب الكثير من التفاصيل. لكن في الوقت ذاته أكدت أنه هناك احتمالية لفائدته، وقد يساعد في التماثل للشفاء، ويصحح من رد الفعل المناعي.

بعض التحديات والاحتياطات:

بالطبع أكبر تحدي نواجهه هو نقص المعلومات وهذا ما نواجهه منذ بداية الأزمة. فنحن مثلاً لا نعرف الجرعة المثالية على وجه التحديد فكل ما هو موجود نتيجة لتجارب قليلة الأعداد، وكثيرة العيوب. كذلك نجهل عن التوقيت المثالي للتعرض لذلك العلاج، أو ما زال الأطباء محاولة معرفة أفضل توقيت. على الرغم من ارتفاع عدد الحالات التي تماثلت للشفاء إلى أن جمع البلازما منهم ليس بالأمر السهل ويأخذ وقتاً ليس بالقليل على الإطلاق. ويحتاج العلاج كذلك عدداً من التحاليل لتفادي الأعراض الجانبية الناتجة عن اختلاف فصائل الدم، وكذلك إذا ما كان الشخص مصاب ببعض الفيروسات الخطيرة مثل فيروس C مثلاً، مثل تلك التحاليل معتادة وتحدث في أي تبرع بالدم أو بلازما.

الخلاصة:

على الرغم من أن ذلك العلاج متعارف عليه منذ ما يزيد عن المائة عام، إلا أنه دائماً ما يظهر من المواقف الطارئة حيث الأوبئة. فبالتالي رغم عراقته إلا أن معلوماتنا حوله ليست كثيرة بما فيه الكفاية. أما عن صلاحية استخدام علاج فيروس كورونا المستجد بالبلازما فالإجابة تتلخص في كلمة واحدة: (ربما) فنحن نعاني من نقص في المعلومات، ونحتاج لدراسات أقوى أكثر عدداً، وما نملكه الآن ما هو إلا مجرد توجيه لاستخدام العلاج بالبلازما لاستكشافه بشكل أكبر، وقد يدعو للتفاؤل بخصوص كونه علاج آمن. ونأمل جميعاً أن يتم التوصل لطريقة للقضاء على الوباء في أقرب وقت ممكن.

مصادر (علاج فيروس كورونا المستجد بالبلازما):

Worldometer

Medical news today

History of Convalescent Plasma Therapy

The Nobel Prize in Physiology or Medicine 1901

Convalescent plasma therapy in the treatment of COVID-19: Practical considerations: Correspondence

Convalescent plasma transfusion for the treatment of COVID‐19: Systematic review Wiley

Treatment of COVID-19 Patients with Convalescent Plasma

Effect of Convalescent Plasma Therapy on Viral Shedding and Survival in Patients With Coronavirus Disease 2019

FDA Approval

NIH

Battle against COVID-19: Efficacy of Convalescent Plasma as an emergency therapy

Treatment for emerging viruses: Convalescent plasma and COVID-19

Challenges of Convalescent Plasma Therapy on COVID-19

ما هو مرض التليف الكيسي ؟ وما هو التاريخ وراء اكتشافه؟

بعد يومٍ طويل قررت الجلوس ومشاهدة أحد الأفلام وقد وقع الاختيار على الفيلم الرومانسي Five feet apart، ولاحظت المعاناة الحقيقية التي يعيش فيها مصابي مرض التليف الكيسي-Cystic fibrosis منذ نعومة أظافرهم. فبشكلٍ عام يُعتبر المرض جزءاً مؤلماً في الحياة مؤثراً فيها أو بالأحرى عائقاً كبيراً في طريق السعادة. فما بالك لو كان المرض ملازما لصاحبه منذ لحظات ولادته الأولى؟! بالطبع سيكون الأمر شديد القسوة. وهذا هو حال مريض التليف الكيسي-Cystic fibrosis. فذلك المرض يصيب الكثير من غدد الجسم مثل الغدد العرقية، النبكرياس، الغدد المفرزة للمخاط في الجهاز التنفسي وغيرهم. فيغير من طبيعة إفرازاتهم، ويجعلها أكثر لزوجة مما يحمل العديد من العواقب الوخيمة التي يعاني منها مريض التليف الكيسي والتي سنذركها ونشرحها سوياً في السطور القادمة. ولكن أولاً دعنا نستكشف تاريخ ذلك المرض وكيف أنه ارتبط بالفن بطريقةٍ أو بأخرى؟

إعلان فيلم five feet apart

تاريخ مرض التليف الكيسي:

في الحقيقة من أهم الأمور التي تميز ذلك المرض هي ملوحة الجلد أو تحديدا ملوحة العرق الزائدة عن الحد، حتى أن اللأباء يلاحظون ذلك في بداية حياة أبنائهم أثناء التقبيل مثلا، بالإضافة لذلك إصابة البنكرياس بأضرار قوية. وهذا بالضبط ما تصفه بعض الكتابات من القرون الوسطى. وتشير العديد من الأدلة إلى أن الموسيقار البولندي الرائع وعازف البيانو المبدع فريديك شوبان كان أيضا مصاب بالتليف الكيسي حيث أنه حيث كان يعاني من نقص شديد في الوزن مقارنة بطوله، والإصابة بعدوى الجهاز التنفسي بشكلٍ متكرر، وكذلك يُعتقد أنه كان عقيم، في الحقيقة كل ذلك من أعراض التليف الكيسي. وهنا عزيزي القارئ اسمح لي أن ارشح لك الاستماع إلى أحد روائعه في أثناء إكمالك لذلك المقال:

https://elakademiapost.com/wp-content/uploads/2020/06/Ashkenazy-plays-Chopin-Nocturne-in-C-sharp-Minor-No.20.mp3
أحد مقطوعات شوبان الليلية

وكان أول وصف حديث لذلك المرض من نصيب أخصائية علم الأمراض الأمريكية Dorothy Andersen-دوروثي أندرسن وكان ذلك عام 1938 وبعد ذلك بدأ الأطباء في وضع خطط لتشخيص وعلاج ذلك المرض وكان ذلك تحديدا عام 1963حيث وضع بعض الخبراء طريقة تشخيص تعتمد على تركيز الملح في العرق بالإضافة للأعراض المهمة المصاحبة للمرض مثل عدوى الجهاز التنفسي المتكررة ونقص الوزن . و حتى الآن يعتبر ذلك من الأمور المهمة في التشخيص.

Dorothy Andersen-دوروثي أندرسن

ولكن ما هو أساس المرض؟ ما الذي يوجد بالكواليس ولازال مجهولاً؟

حسنا لقد كان ذلك عام 1989حين استطاع الباحثون أخيراً الكشف عن الطفرة الجينية الرئيسية المسببة للمرض. في حقيقة الأمر يصف الدكتور فرنسيس كولينز مراحل اكتشافه هو وزملائة الباحثين لتلك الطفرة في كتابه (لغة الإله-the language of god) فذلك الاكتشاف تطلب عدداً كبيراً جداً من المتطوعين، وكذلك عدد ضخم من المعامل، والباحثين. فقد كان باللأمر الجلل وقد عصف بهم اليأس والاحباط العديد من المرات وكذلك انقطاع تمويل والعديد من المشاكل الضخمة التي كادت تقضي على الاكتشاف كله، حتى حلول عام 1989 الذي فيه استطاع الباحثون والمتطوعون أن يقفوا بقمة الفخر حيث أنهم أخيراً وصلوا للحجر الأول في أحجية التليف الكيسي. وبتلك المناسبة ألف فرنسيس كولينز أغنية حتى يغنيها جمع القائمين على الاكتشاف ويصف شعوره وقد تساقطت الدموع من عينيه في أثناء غنائهم لتلك الأغنية التي تدون ذلك الانتصار. حسناً بعد أن تعرفنا على مرض التليف الكيسي من الناحية التاريخية حان الوقت الآن لنتعرف عليه طبياً.

الدكتور فرنسيس كولينز مدير مشروع الجينوم البشري

مرض التليف الكيسي طبياً:

هو مرض وراثي متنحي أكثر انتشاراً في المجتمعات البيضاء أو القوقازية، ونادر جداً في غيره من الأعراق الزنجية والآسيوية، يصيب ذلك المرض غدد الجسم ويقلل من نسبة الماء في إفرازاتها فتكون أكثر لزوجة. في الواقع لمعرفة أي المرض لابد من معرفة الوضع الطبيعي أولاً. ففي الطبيعي يحتوي الحمض النووي DNA على جين يعبر عن بروتين يسمى CFTR يتم ترجمته إلى mRNA هذا المركب مسؤول عن إيصال الرسالة الجينية من الحمض النووي في النواة إلى خارجها حيث عضي الترجمة وهو الريبوسومات. يتم هنا ترجمة mRNA إلى بروتين CFTR الذي بدوره ينتقل إلى سطح الخلية، وهنا يعمل كقناة ينتقل من خلالها أيونات الكلور السالبة، ويقوم بالتأثير على قنوات أخرى على سطح الخلية وظيفتها تنظيم انتقال أيونات الصوديوم. ونتيجة لتلك السيطرة على حركة الأيونات يتم السيطرة على حركة الماء (حيث تتحرك الماء بين الأوساط المتخلفة تحت تأثير اختلاف تركيز الأملاح بين تلك الأوساط فيما يُعرف بالضغط الأسموزي) وعن طريق تلك الخطوات يتم ضبط مكونات إفرازات الغدد والتحكم في لزوجتها حتى لا تتسبب اللزوجة الزائدة عن الحد مثلاً في سد قنوات الغدد وبالتالي العديد من المشاكل التي تختلف على حسب الغدة المتأثرة. حسنا هذا هو الطبيعي ولكن ماذا عن المرض؟

في مرضي التليف الكيسي ما يحدث هو طفرة جينية أو لنكن أكثر وضوحا هناك أكتر من 1700 طفرة جينية مرتبطة بعملية إنتاج ووظيفة بروتين CFTR مقسمة إلى أكثر من قسم تستهدف تقريباً كل مرحلة من مراحل إنتاج البروتين وانتقاله وأدائه لوظيفته؛ حيث أنه هناك بعض الطفرات تؤدي إلى عدم تصنيع البروتين ككل أو على الأقل يكون أقصر مما ينبغي بكثير. والبعض الآخر يؤدي إلى تصنيعه بشكلٍ خاطئ فلا يكون صالح للاستخدام والانتقال إلى سطح الخلية في الحقيقة تشغل تلك الطفرة الغالبية العظمى من المصابين بمرض التكيس الليفي حيث أن 70% من المرضى مصابين بطفرة في ترجمة الجين بشكل صحيح فينتج عن الترجمة حذف أحد الأحماض الامينية (الأحماض الأمينية هي الوحدة الأساسية المكونة للبروتينات) وتحديداً الفينيل ألانين-phenylalanine مما يؤدي لخلل في شكل البروتين وجعله غير قابل للاستخدام. وقد يتم إنتاج البروتين وبالشكل المناسب لانتقاله لسطح الخلية لكنه لا يعمل أيضاً بمعنى أن القناة تظل مغلقة فلا انتقال يحدث على الإطلاق للكلور أو تنتقل كمية بسيطة جدا. وأخيراً قد يتم إنتاج البروتين ويكون صالح للاستخدام، ولكن مع الأسف تكون كميته بسيطة والعديد من الطفرات الأخرى الضارة. في الحقيقة معرفة نوع الطفرة الجينية أمر مهم جداً لمعرفة أسلوب العلاج المناسب، وكذلك التنبؤ بحالة المريض.

وبعد أن حدث الخطأ الجيني المسؤول عن تعطل القناة CFTR يحدث بالتالي خلل في انتقال الكلور من وإلى الخلية فمثلاً في الغدد العرقية لا يتم إعادة امتصاص الصوديوم، ويخرج الكلور بكميات كبيرة فيكون طعم العرق شديد الملوحة. أما في الجهاز التنفسي يظل الكلور والصوديوم محتجزين داخل الخلية، فبالتالي لا تتحرك الماء وتخرج الإفرازات شديدة اللزوجة مما يؤدي إلى الكثير من المشاكل والتعرض الكبير للعدوى الخطيرة. وفي البنكرياس أيضاً تكون الإفرازات شديدة اللزوجة قادرة على سد القناة التي تفتح في الإثنى عشر مما يؤدي بدوره إلى نقص هضم وامتصاص الكثير من المواد وخاصةً المواد الدهنية الأمر الذي يؤدي إلى نقص شديد في الوزن وتأخر في النمو. فبذلك يعاني مريض التكيس الليفي من أعراض هضمية صعبة وتأخر في النمو وأيضاً التهابات متكررة في البنكرياس. بالإضافة لبعض الأعراض الأخرى مثل العقم لدى الرجال ومشاكل في الأمعاء.

ماذا نفعل لعلاج كل تلك الأمور؟

غالباً لا يعتمد علاج التليف الكيسي على حل نهائي وجذري للمشكلة حيث يتطلب ذلك تصليح العطل الجيني نفسه ولازال أمامنا طريق طويل حتي ننجح في ذلك، وطريق أطول لانتشار ذلك النوع من العلاج في أنحاء المعمورة. فيعتمد العلاج على تقليص الأعراض إلى أقصي درجة ممكنة فمثلاً يتم عمل تحاليل بشكل دوري على عينات من الجهاز التنفسي حتى يتم الكشف عن أنواع البكتيريا الموجودة والتعامل معها بالشكل المناسب والمضادات الحيوية المناسبة. ويتناول المريض باستمرار المقويات الغذائية بخاصة الفيتامنات الدهنية (A D E K ) وتعاطي إنزيمات البنكرياس، والكثير من العلاجات الأخرى التي تهدف لجعل الحياة محتملة وأطول بقدر المستطاع. ويوجد أيضاً أنواع جديدة من العقارات تصحح من شكل البروتين أو تقوي من عمله، المهم أنها تعمل على أساس المشكلة ولكن تلك الأدوية حديثة نسبياً وبعضها ما زال تحت الاختبار. بالإضافة للتدخل الجراحي مثل عملية نقل الرئة التي قد تزيد من فرصة النجاة.

وبذلك تعرفنا على الكثير من النواحي الخاصة بذلك المرض الخطير آملين أن تنجح التجارب العلاجية التي تتم فيه لمستقبل أفضل للمرضى.

مصادر:

Was Frédéric Chopin’s Illness Actually Cystic Fibrosis?

cystic fibrosis history

كتاب لغة الإله لفرنسيس كولينز

CFTR gene

THOMPSON & THOMPSON GENETICS IN MEDICINE chapter

Types of CFTR mutations

Types of CFTR Mutations

Ferri’s Clinical Advisor chapter cystic fibrosis

هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟

هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟

يوم الإثنين الماضي طرأت حادثة ليست الأولى من نوعها في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام ضابط شرطة بقتل مواطن أمريكي إفريقي غير مسلح في أثناء القبض عليه، وذلك عن طريق وضع الضابط لركبته على رقبة المواطن جورج فلويد البالغ من العمر 46 عاماً لعدة دقائق. ومن الأمور المعبرة عن وحشية الموقف أن الضابط لم يرفع ركبته عن رقبة جورج على الرغم من استغاثة جورج المستمرة للشرطي قائلاً: أرجوك أنا لا أستطيع التنفس، أرجوك. وكذلك قام المارة بالتوسل للشرطي تارةً وسبه تارةً أخرى، ولكن بلا أي جدوى حتي أصبح جورج جثة هامدة لا تقوى على الحركة تحمله عربية الإسعاف. وقد أسفر ذلك الحادث عن موجات غضب قوية جدا، ومظاهرات، وأعمال عنف واسعة النطاق وخاصة في مدينة Minneapolis-مينيابوليس التي وقع فيها الحادث، وذلك في ظل المطالبة العالمية للمواطنين بالمكوث في المنازل خوفاً من خطر الوباء العالمي. في ظل كل تلك الفوضى تظهر رغبة ملحة وفضول شديد لتفسير تلك الحادثة لماذا قام ضابط الشرطة من الأساس بتلك الجريمة على الرغم من استسلام المواطن التام؟ بالطبع لا يمكن اعتبار تلك الحادثة أمراً فردياً فمثل تلك الأمور تتكرر مراراً في أنحاء العالم حتي أنها تتشابه مع مقتل المواطن الأمريكي الإفريقي إريك غارنر عام 2014، فيبقي السؤال: هل تحول السلطة البشر إلى وحوش؟ لمعرفة الإجابة لابد من الرجوع لداراسات وتجارب علم النفس بخصوص ذلك الإطار.

فيديو مقتل جورج فلويد خنقاً على يد الشرطة

تجربة سجن ستانفورد:

في عام 1971 قام باحثين في علم النفس في جامعة ستارنفورد بتجربة محاكاة لحياة السجن داخل قسم علم النفس بالجامعة حيث قاموا بطلب متطوعين لتجربة نفسية ستسمر لمدة أسبوع إلى أسبوعين في مقابل 15 دولار يومياً أي ما يعادل 70 دولار تقريباً الآن. تقدم لتلك التجربة 70 طالباً جامعياً تقريباً. تعرضوا لبعض الاختبارات النفسية، والتدقيق في سجلهم الجنائي، وبعض الفحوصات الأخرى. حتى تم اختيار 24 فرد فقط ثم تقسيمهم إلى مجموعتين متساويتين من المساجين والحراس بشكل ٍعشوائي. تم تجهيز قسم علم النفس في الجامعة ليصبح مشابهاً للسجن حيث تم استبدال الأبواب العادية بأبواب أخرى من القضبان، تم تغطية جميع الشبابيك مع عدم وجود ساعات على الحوائط فلا توجد طريقة لمعرفة الوقت، بالإضافة لبعض التجهيزات الأخرى التي تجعل من مبني جامعي عادي سجناً وتم الاستعانة بالمختصين في ذلك الإطار.

تحول قسم الطب النفسي لسجن

والآن بعد تجهيز السجن يجب تجهيز الطلاب المتطوعين عن طريق إدخال مجموعة المساجين حالة من التوتر والواقعية حيث تحركت سيارات شرطة حقيقية تقوم بالقبض على الطلاب المشتكرين في التجربة بشكل مطابق لإلقاء القبض على المجرمين. ثم وضعهم في قسم الشرطة مع تغطية عيونهم. حتي تم استدعاء الطلاب ليتم نقلهم إلى جامعة ستانفورد حيث التجربة، وهناك تم تعمد الإيذاء النفسي، والإهانة حتى يشعروا بالواقعية، حيث تم تفتيشهم، وتعريتهم من ملابسهم، ورش بعض المطهرات عليهم حتى يتم تعقيمهم، ثم تم حلاقة شعر رأسهم بطريقة مماثلة للتي تحدث في السجن الحقيقي وذلك حتى يفقدوا جزء من الإحساس بالتميز عن غيرهم حيث أن الشعر هو أحد الأمور التي تجعل الإنسان يشعر بالتميز. ثم ارتدى المساجين ثوباً موحداً. وكان من الأمور الغريبة في التجربة هو ارتدائهم لسلاسل معدنية ثقيلة حول أرجلهم، وذلك حتي يظل المسجون متذكراً لكونه مسجوناً حتى في نومه وأحلامه. وبالنسبة للحراس تم تزويدهم جميعاً بنفس الرداء وتقسيمهم على مناوبات طوال اليوم، ولكن الأكثرأهمية أن جميع الحراس ارتدوا نظارات سوداء حتي لا يستطيع السجناء رؤية عينوهم ولا يحدث تواصل عاطفي من أي نوع، والآن بعد كل التحضيرات تبدأ اللعبة.

السلاسل المعدنية التي ارتداها المساجين

بدأ الحراس في فرض سيطرتهم على المكان بسرعة عن طريق النداء علي المسجونين بأرقامهم -حيث لم يتم ندائهم بأسمائهم الحقيقية طوال التجربة حتى يفقدوا الإحساس بهويتهم- في الساعة الثانية فجراً، وإيقافهم في صفوف مع معاقبة أي مخالف بأن يقوم بالضغط- push ups، والغريب أن ذلك كان أسلوب عقاب في السجون النازية. كان من المفترض أن يستمر الوضع بشكل طبيعي وتكون تجربة مملة لمدة خمسة عشر يوماً، ولكن هذا لم يحدث ففي اليوم التالي قام المساجين بالتمرد حيث قاموا بتغييرموضع أسرتهم حتى تقابل الباب لمنع الدخول إلى الزنازين. في تلك اللحظة تحديداً بدأت طباع الحراس في التغير، حيث استطاعوا أن يتحدوا في وجه التمرد فقاموا بقمعه جسديًا ونفسياً، حيث استخدموا طفايات الحريق لإبعاد المساجين عن الباب ثم قاموا بتجريدهم من ملابسهم وأخذوا أسرتهم إلى الخارج لينام المساجين على الأرض الباردة، ووضعوا قادة التمرد في الحبس الإنفرادي. وعلي الصعيد النفسي قاموا بعمل غرفة الامتيازات حيث وضعوا في تلك الغرفة أسرة وجعلوها مهيئة ونقلوا فيها المساجين الذي لم يشاركوا في التمرد وأطعموهم بشكل جيد وأعطوهم ملابسهم، ثم بعد فترة أعادوهم إلى أماكنهم اللأصلية مما خلق فتنة بين المسجونين حيث أعتقدوا أن هؤلاء وشاه، فسيطر جو من المشاحنة بينهم، وفرق جمعهم. لم تكن تلك حادثة التجاوز الوحيدة الصادرة من الحراس تجاه المسجونين فقد قاموا بإهانتهم مراراً وتكراراً. والغريب في الأمر أن حتى مراقبين التجربة اختلط عليهم الواقع وظنوا في بعض الأحيان أنهم مشرفين على سجنٍ حقيقي ويريدون الحفاظ على نظامه ونسوا أنهم علماء نفس في الأساس وما تلك إلا تجربة، بل وقد الدخل المسجونين في حالة استسلام المسجونين فعلا وكادوا أن ينسوا أنهم طلبة. ومع استمرار ذلك الوضع لم يتحمل المساجين أكثر من ذلك وقد تمادى الحراس للغاية مما دفع القائمين على التجربة إلى إلغائها. عزيزي القارئ لك أن تتخيل أن المشرف على تلك التجربة دكتور زيمباردو- Zimbardo شبه التجاوزات التي فعلها بعض الحراس في تجربته بالتجاوزات في أسوأ سجون العالم وهو سجن أبو غريب من حيث تحرش بالمسجونين، تجريدهم من ملابسهم، إجبارهم على تنظيف الحمامات بأيدهم العارية، وضعهم في حبس انفرادي لفترات طويلة وغيرها الكثير. كتب الدكتور زيمباردو ذلك في جريدة Boston Globe. تذكر معي أن هؤلاء لم يكونوا حراساً بل كانوا طلبة طبيعيين في مقتبل العمر.

ولكن ما التفسير وراء كل ذلك؟ في الحقيقة تركت تلك التجربة خلفها الكثير من الضجة والتفسيرات. ممكن أن يتم تقسيم التفسيرات إلى مدرستين أحدهم يرى أن الموقف نفسه الذي تعرض له الحراس كافٍ ليتعرضوا لتلك التغيرات الغريبة حيث إعطائهم السلطة كان قادرا ًعلى تحويلهم لوحوش. لم يقتنع العديد بتلك النظرية وبدأوا يبحثوا عن أمور سرية في التجربة تحمل معها التفسير ولكن في دراسة نُشرت عام 2007 تفترض أن الطلاب المتطوعين للتجربة كانوا في الأساس لديهم الاستعداد لتلك الوحشية، حيث قام الباحثون بنشر إعلانين مختلفين لطلب متطوعين أحدهم لدراسة سيكولوجية عادية والآخر لمحاكاة حياة السجن وقد كان مطابقاً لإعلان تجربة ستانفورد مع استبدال رقم 15 دولار بسبيعن. فتقدمت مجموعتين مختلفتين لكل إعلان ثم قام الباحثون باخبتارات نفسية لكلاً منهما لقياس عدة جوانب في نفسية المجموعتين. وكانت المفاجأة أن مجموعة الطلاب الذين تقدموا لتجربة محاكاة السجن كانوا أكثر توجهاً لبعض الاظطرابات النفسية مثل: النرجسية، الغضب، حب السلطة والسيطرة،وحب الطبقية أوالتفرقة الاجاتماعية. وكانوا أقل في نسب التعاطف والإيثار. أي أن الأشخاص الأكثر توجهاً للعنف وما يرتبط به من صفات أرادوا التطوع لتجربة محاكاة حياة السجن. إذا نحن لدينا القدرة على الاختيار وفقاً لصفاتنا الداخلية وعند التعرض للموقف المناسب أو المؤثر بشكلٍ كافٍ تتغير صفاتنا وتصل إلى بعدٍ نفسي لا يمكن توقعه. ولكن هل كانت تجربة ستانفورد التجربة الوحيدة التي حاكت حياة السجن؟ في الحقيقة لا، ففي عام 2001 تم عمل تجربة مشابهة بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.

إعلان التطوع في تجربة ستانفورد

سجن هيئة الإذاعة البريطانية BBC:

لنكن واقعيين لم تكن تجربة الBBC مقياساً لأثر السلطة علي قدر كونها مقياساً لأثر تكوين علاقات اجتماعية بين الأفراد لخدمة نفس الهدف. حيث في تجربة BBC التي تضمنت 15 مشاركاً كان المساجين ممثلين للطبقة قليلة المكانة من حيث الرداء السيئ والطعام القليل. أما الحراس فكانوا على النقيض تماماً. وكان من قواعد التجربة أنه بعد فترة سيتم تقييم المساجين واتخاذ واحد منهم للطبقة الأعلى ليكون من الحراس ففي البداية تصرف المساجين كأفراد مستقلين لخدمة المصلحة الذاتية، ولكن المفاجأة أنه بعد فترة من الزمن اتحد المساجين مع بعضهم واستطاعوا السيطرة علي السجن من الحرس. فلو نظرنا لتلك التجربة وتجربة ستانفورد سنجد أن التماسك الاجتماعي الذي حدث بين الحراس في تجربة ستانفورد جعلهم أكثر قوة وحتي مع وجود حراس لم يتبعوا العنف إلا أن المحصلة النهائية كانت مأساة في حق المساجين. وأيضاً في تجربة BBC لعب التماسك الاجتماعي دوراً مع المساجين الذين استغلوه أفضل استغلال وتحرروا من قيودهم. فنستنتج من خلال ما سبق أن تصرفات الشخص محددة بصفاته الشخصية واختياراته لبعض المواقف بعينها وتفاعله مع الموقف وكذلك تفاعله مع الآخرين.

إذا هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟

حسناً، السلطة ليست بالأمر السيئ ولا بالجيد. السطلة ما هي إلا عدسة مكبرة. تستطيع السلطة أن تجعل صفات الإنسان أكثر قوة ووضوح، فالشخص صاحب السلطة هو بالضرورة أكثر ثقة بنفسه من ذي قبل وأكثر حساسية للعالم حوله، أكثر تركيزاً، ومن الممكن أن يكون أكثر إبداعاً. هل يعقل أن تكون تلك صفات سيئة؟ بالطبع لا، ولكن إذا كان الشخص صاحب اضطراب نفسي مسبق فستصب كل تلك الصفات لصالح الاضطراب ويكون أكثر عنفاً وقسوة. فلو نظرنا للنرجسية مثلا، يمتاز الشخص النرجسي بثقة قوية جداً في نفسه وخوف شديد على احترام ذاته وصورته فلو شعر بأي خطر ولو ضئيل على صورته الذاتية يكون رد فعله قاسٍ جداً حتى وإن لم يكن هناك إساءة حقيقية فهو يعيش في عالم من الأوهام عن صورته الذاتية الخالية من العيوب. تخيل معي أن تعطي لذلك الشخص السلطة بالطبع سيكون أسوأ، أكثر عنفاً، وقسوة. ولم تكن تجربة ستانفورد معاكسه لذلك الكلام فما حدث كان تكبيراً لصفات موجودة بالأساس، جعلت أصحابها يتطوعون لمثل تلك التجربة، وحين تكونت أواصر اجتماعية قوية ذاعت الوحشية حتى وإن لم يتصرف جميهم بوحشية فنحن بطبيعتنا نركز على الأكثر إحداثاً للجلبة والفوضي.

إذا حتى لا تتسبب السلطة في خلق وحوش يجب أن يأخذها أشخاص بالفعل طبيعيين ويتم مراقبة تصرفاتهم ومنع تكون أي تجمع من أصحاب السطلة مشتركين في الصفات السيئة القابلة للوحشية. فهل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟ ليس دائما، فهي تضخم من صفاتهم السابقة فالسلطة ما هي إلا عدسة مكبرة.

أي رجل قادر على تحمل الصعاب، فإن أردت اختبار الشخص حقيقةً فقط أعطه السلطة.

ابراهام لنكون

مصادر هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟:

New York times

Stanford prison experiment

Revisiting the Stanford Prison Experiment: Could Participant Self-Selection Have Led to the Cruelty?

Does Power Corrupt Everyone Equally?

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “جيوتو”

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “جيوتو”

في كل تغيير أياً كان نوعه لابد أن يكون له مؤسسين حتي تتبلور صفاته وملامحه التي سيتطور خلالها فيما بعد، وهذا بالضبط ما حدث في بداية عصر النهضة فقد حاول العديد من الفنانين الخروج من التقليدية والسطحية المصاحبة للفن البيرزنطي نحو مزيد من التجسيد والواقعية، ولكن لم ينجحوا في ذلك كما نجح جيوتو الذي استطاع أن يضيف عمق لأعماله وجعلها ثلاثية الأبعاد بمقاييس ذلك العصر حتى وكأن الواقف أمامها يستطيع أن يتلمسها بأنامله، ويشعر بها. فكان بذلك مؤثرا في عباقرة القرون التالية له مثل مايكل أنجلو وليونارو دافنشي.

نشأته وحياته:

اسمه جيوتو دي بوندوني ولد عام 1266 في بيئة ريفية بجانب فلورنسا حيث كان أبوه فلاحاً، وكان جيوتو يساعده في رعاية المزرعة وبحسب رواية فيرساري فقد تكشفت موهبة جيوتو منذ نعومة أظافرة حيث كان يرسم الخراف والزهور على الأحجر حتى رآه تشيمابويه -أحد أقوى الفنانين في ذلك الوقت- وهو يرسم، فطلب أن يأخذه تلميذاً عنده. إلا أن بعض المصادر تشكك في تلك القصة، وتعتبرها محض أسطورة فتقول أن عائلة جيوتو كانت ميسورة الحال واستطاعت أن تنتقل من الريف للحياة في فلورنسا وهناك تم إرسال جيوتو لتشيمابويه، وقد أظهر جيوتو براعة لا مثيل لها وهو لايزال تلميذاً.

وبعدها بفترة سافر تشيمابوية بصحبة تلميذه النجيب جيوتو إلى ميدنة أسيزي في إيطاليا لتزيين بازيليكا القديس فرنسيس، حيث كان هناك راهب ذائع الصيت اسمه فرنسيس اشتهر بحبه للخير والزهد. بعد وفاته تم جمع أموال التبرعات من الحجاج لتشييد مبني كبير في مدينة أسيزي تخليداً لذكراه، وكان هذا المبني هو البازيليكا المتكون من كنيستين الكبرى أو العليا للحجاج والصغرى أو السفلى للرهبان وشرع الفنانين لتزيين ذلك المبني بالغ الجمال، وبالطبع كان من بينهم تشيمابويه وتلميذه جيوتو، ويُنسب إلي جيوتو مجموعة من اللوح عن حياة القديس فرنسيس، ولكن حتي يومنا هذ لا يمكننا إثبات ذلك النسب بشكل لا يخالطه الشك؛ نتيجة لتضارب الوثائق وكذلك لاختلاف أسلوب تلك اللوح عن غيرها من أعمال جيوتو فيما بعد اختلافاً ملحوظاً. في حقيقة الأمر تلك اللوح كانت مختلفة عن أسلوب العصر وعن ما يجاورها من لوح في البازيلكا فقد امتازت بقدرة كبيرة جدا على التجسيد وإظهار المشاعر، وذلك كان ثورياً وقتها؛ فقد كان الفن اليزنطي المسيطر علي الساحه في ذلك الوقت يتميز بالجمود والرتابة ونقص القدرة التعبيرية وكانت شخوصه مسطحه لا توحي بأي تجسيد. أما ما فعله جيوتو هو أنه أضاف للعمل الفني العمق والجمال والقدرة التعبيرة الخلاقة بإضافته لبعد ثالث في اللوحه فاقتربت أكثر نحو الواقعية، والتأثيرالقوي.

بازيليكا القديس فرنسيس

وظل جيوتو يرسم العديد من الأعمال الإبداعية في مختلف الكنائس، وعمل في روما بين عامي 1297 و 1300 وهناك رسم بعض الأعمال الإبداعية مثل فسيفساء المسيح يمشي على الماء. ولكن منها من تأثر بقوة بعوامل التعرية وتم ترميمه مراراً. وعلي الأرجح أنه في تلك الفترة أيضاً رسم بعض الأعمال لدور العبادة بفلورنسا مثل لوحة صلب المسيح تلك التحفة الفنية المرسومة لكنيسة سانتا ماريا نوفيلا، ويبلغ طول تلك اللوحة خمسة أمتارتقريباً. وتقول بعض المصادر أن تلك التحفة الفنية تم رسمه في عام 1290 أي قبل ذهابه الي روما وكانت من اوائل أعماله بحسب رواية فيرساري.

صلب المسيح

اشتهر جيوتو أكثر وأكثر وطُلب منه العمل في العديد من الكنائس، وكانت من بينهم مصلي سكورفيني في مدينة بادوا padua. حيث كان هناك رجل مرابي اسمه سكورفيني سيئ السمعه لدرجة أن دانتي وضع اسمه في الدرجة السابعه من الجحيم. بعد وفاته أراد ابنه إرينكو أن يحسن صورته فبنى كنيسة باسم والده والتي لم تكن تحفة معمارية، ولكن ما فعله جيوتو بداخلها جعلها من أجمل ما يكون حيث قام جيوتو برسم حياة العذراء والمسيح في 37 لوحة. ورسم لوحة ضخمة جداً تُدعى الحساب الأخير تملأ جداراً كاملاً وحدها. فكانت تلك الكنيسة تحتوي على كنز فني حقيقي يمثل ما امتاز به جيوتو فعلاً وجعله يطلق العنان لإبداع عصر النهضة كما نعرفه. تلك الكنيسة تُسمى أيضا آريانا Arena ومعناها الحلبة لأنه تم تشييدها علي أنقاض حلبة مصارعه رومانية قديمه. وبعدها عام 1306 حتى عام 1311 عاد جيوتو مرةً أخرى إلى أسيزي التي رسم فيها مجموعة من اللوح عن حياة المسيح وغيرها في الكنيسة السفلى أو الصغرى بالبازيليكا. وبعدها انتقل جيوتو الي فلورنسا عام 1311 أو عام 1314 ومكث هناك حتي عام 1320 حيث قام بتزيين بعض المحاريب لأربع عائلات من فلورنسا في كنيسة الصليب المقدس Santa Croce. وتم استدعائه من قبل الملك روبرت ملك نابولي في ذلك الوقت للقيام ببعض الأعمال الفنية بمساعدة تلاميذه، وظل هناك حتي عام 1333 وقد حظى بتقدير كبير من الملك روبرت الذي أعطاه لقباً شرفياً وراتب تقاعد سنوي. وأخيراً ذهب جيوتو إلى فلورنسا وعمل هناك بالمعمار حيث شيد برج الأجراس الذي يعد جزء من مبني كاتدرائية فلورنسا وأيضاً حظى بتكريم كبير في فلورنسا؛ حيث أُطلق عليه لقب معماري المدينة نتيجة لأعماله المتميزة خاصةً في مجال الفن.

برج الأجراس

أبرز أعماله:

في حقيقة الأمر تمتلأ الكنائس الايطالية بجميل أعمال جيوتو وتتجلي فيه عبقريته بشدة، وهناك بعض الأمثلة التي قد تُظهر إبداعه القوي الذي تميز به بقوة.

القديس فرنسيس يخرج عن طوع أبيه:

كان القديس فرنسيس شاباً في مقتبل عمره ووالده كان تاجراً، وفي أثناء مروره بجانب كنيسة سمع صوتاً من السماء يأمره بإصلاح الكنيسة فقام القديس بأخذ بعض البضائع من مخزن أبيه خفيةً ليبيعها لإصلاح الكنيسة، فغضب الوالد بشدة وذهب بابنه للقسيس حتي يطالب الفتي بالبعد عما فيه من نعيم والده. فقام القديس فرنسيس بخلع ملابسه قائلاً لأبيه (أنه متجه لخدمة ربه الذي في السماء) الأمرالذي أثر في القسيس بشدة فخلع عبائته حتي يغطي بها الفتي. وإذا نظرت للوحة ستجد أنه استطاع تمثيل كل تلك التفاصيل ببراعة شديدة مخرجا مشهداً درامياً قمة في الجمال، فيظهر القديس فرنسيس رافعاً يده للسماء شوقا لربه، ويقف أمامه أبوه الذي ارتسمت عليه ملامح القلق وقد أراد أن يزجر ابنه ولكن أحد الواقفين خلفه قد منعه. والملاحظ في تلك اللوحة أن جيوتو قد قسمها إلى جزئين الأمر الذي يدل على الفرق بين التلعق بالدنيا الممثل في الأب وجماعته، والتوجه للدين الممثل في القديس فرنسيس ومن خلفه ليبرز صراعاً قوياً يستحق الإعجاب، وكانت تلك اللوحة إحدى اللوح المنسوبة إليه في بازيليكا القديس فرنسيس بأسيزي.

أعماله في مصلي سكورفيني:

كما ذكرنا من قبل تفصايل حكاية أعماله في مصلي سكورفيني قد بلغت قدراً عالياً جداً من الجمال فمثلاً لوحة الحساب الأخير تحمل تفاصيل غاية في الجمال والبراعه؛ مثل منظر الابن أرينكو في أسفل اللوحة وهو يهدي نموذج الكنيسة لرسل أو ملائكة الرب حيث قد نزل أرينكو علي ركبتيه في خشوع يظهر على وجهه عاكساً أفكاره، وعواطفه وقد حمل نموذج الكنيسة أحد أتباع أرينكو علي كتفه في نفس الوقت الذي يمد فيه أرينكو يده لأحد الملائكة كإشارة أنه تم قبول القربان الأمر الذي كان يرغب فيه أرينكو بشده.

ولا ننسى أيضاً في كنيسة آرينا مجوعة لوح جيوتو عن الفضيلة والرذيلة التي لو اكتفي المشاهد بالنظر إليها لعرف بوضوح ما تتكلم عنه اللوحه، وفيما يدور موضوعها فمثلاً لو نظرت للوحة الممثلة لرذيلة الظلم: يظهر رجل ضخم، وقوي البنيان، وقد ارتسمت عليه ملامح السيطرة والكبر. وأمسك بسيف في يده وفي اليد الأُخرى ذات المخالب الظاهرة أمسك برمح وذلك تعبيراً منه عن القوة والكبر، ويظهر أسفل منه أتباعه من الجنود يجردون أحد المارة من ثيابه ويأخذون منه حصانه في مشهد لا يمكن وصفه بأي كلمة أخرى غير (الظلم).

ولو نظرت إلى تمثيله لفضيلة الإيمان لوجدت الأمر نفسه فتظهر أنثى ممسكة ببردية أو مخطوطة، وفي اليد الثانية تمسك بالصليب فلا حاجة للمشاهد لأي شرح حتي يعرف أن تلك اللوحة تعبرعن “الإيمان”.

وفاة القديس فرنسيس:

كانت إحدى اللوح التي أبدعها جيوتو في كنيسة الصليب المقدس التي تتنوال موضوع وفاة القديس الزاهد فرنسيس، وعلى الرغم ما فعلته عوامل التعرية بتلك اللوحة التي تم ترميمها عدة مرات على مدار أعوام طويلة إلا أنها لازالت تحتفظ بجمالها، وقدرتها التعبيرية حيث يظهر القديس فرنسيس وجميع شخوص اللوحة متوجهة إليه حتي الصليب يميل في اتجاهه والجميع ينظرون لأسفل في شكل يدل على الحزن الشديد وقد حقق الفنان في تلك اللوحة وحدة بين الأشخاص والوحده المعمارية من خلفهم فهم يظهرون كأنهم جزء من الأعمدة في الخلفية، ومع ذلك المشهد الحزين يلتفت نظر المشاهد للشخص الموجود خلف رأس القديس فرنسيس الذي استثناه جيوتو من بين باقي عناصر اللوحة وجعله ينظر إلى أعلى نحو النجم السماوي الصاعد، وقد ارتسمت على وجهه ملامح من الدهشة وهو يشير نحو السماء. فجعل تلك اللوحة تحتوي على تجسيد لعدة مشاعر من الحزن والأسى وحتى الإندهاش من الأمور الروحية الغريبة الملازمة للقديس فرنسيس على مدار حياته حتى لحظة وفاته. وبذلك أرسى جيوتو دعائم نهضة حقيقية استمرت علي مدار قرون فكان حقاً أباً روحياً لعصر النهضة ومؤثراً حقيقياً في مسار التاريخ الفني.

مصادر سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “جيوتو”:

BIOGRAPHY OF GIOTTO DI BONDONE

Britannica

Scrovegni Chapel

web gallery

الفن في عصر النهضة لثروت عكاشة

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “ليوناردو دافنشي”

سلسة أهم الفنانين على مر العصور “ليوناردو دافنشي”

كان رجل العبقرية الغير مكتملة، سابق لعصره بسنين وقرونٍ طويلة، لم يكن فناناً بشكل أساسي؛ فقد كان كل شيئ مخترعاً، ومهندساً، جيولوجي، مهتم بالتشريح، مهتم بالفلسفة….إلخ. كان ليوناردو مهتم بكل شيئ، وأي شيئ. وعلى الرغم من أن الفن لم يكن اهتمامه الأول إلا أنه ساهم فيه بشكل ضخم، وحفر اسمه كفنان قوي، ومؤثر فى عصر النهضة بل حفر اسمه في صفحات التاريخ إلى ما لا نهاية. وسوف نركز في السطور القادمة على الجانب الفني في حياة دافنشي.

نشأته وحياته :

ولد ليوناردو في عام 1452 في منتصف شهر إبريل، وكان ابن غير شرعي لكاتب العدل «ser piero-سير بيرو» تربى في منزل والده كابنٍ شرعي؛ فحصل على تعليمه الأساسي من القراءة، والكتابة، ولكنه لم يتعلم اللاتينية وقتها بشكلٍ كافي، وكذلك بعض العلوم الأخرى من الهندسة، والحساب.

عندما كان ليوناردو في الخامسة عشر من عمره بدأ في دراسة الفن على يد الفنان الفلورنسي «أندريا ديل فيروتشيو- Andrea del verrocchio» حيث تعلم الرسم، النحت، الميكانيكا. وفي عام 1472 تم قبول ليوناردو في نقابة الفنانين بفلورنسا، ولكنه ظل في ورشة فيروتشيو خمسة أعوام أخرى. بعدها ظل يعمل بمفرده في فلورنسا حتى عام 1481 وخلالها اكتسب معرفة واسعة في الميكانيكا، الأسلحة،وغيرها.

في عام 1482 انتقل ليوناردو إلى مدينة ميلان حتي يعمل بشكل أساسي كمهندس للأسلحة. وقد كانت المدينة محكومة بواسطة الدوق لودوفيكو سفورزا، وعلى الرغم من أن ليوناردو أراد العمل بشكل أساسي في صناعة الأسلحة، ولكنه عمل أغلب الوقت في الرسم والنحت، حيث رسم أجمل لوحاته «السيدة والحمل» والعشاء الأخير، وغيرهم من روائعه.

السيدة والحمل

والمشروع الأعظم على الإطلاق الذي لم ينتهي إلى الأبد هو تمثال ضخم من البرونز لوالد الدوق «فرانسيسكو سفورزا» الذى قضى ليوناردو أعواماً طويلة على العمل عليه حتى أنتج نموذج ضخم من الصلصال للحصان عام 1493، ولكن بسبب خطر الحرب مع فرنسا تم توقف العمل علي التمثال لاستغلال المعدن في صناعة الأسلحة، والمدافع، وتم هزيمة الدوق عام 1499، وتدمير نموذج الصلصال مع كل أسف وقد كنا لنشهد تحفة فنية خالدة لولا تلك الأحداث.

ديسمبر عام 1499 أو يناير عام 1500 انتقل ليوناردو دافنشي إلى فلورنسا حيث تم الترحيب به بحفاوة. وعمل خبير في لجنة تحقيقات عن الأضرار التي لحقت بكنيسة سان فرانسيسكو وقتها، ولكن في عام 1502 ترك ليوناردو فلورنسا مرةً أخرى وذهب في خدمة واحد من أسوأ ، وأبغض رجال عصره وهو القيصر بورجيا ابن البابا ألكسندر السادس كان للقيصر طموح في الاستيلاء على مساحات كبيرة من رومانيا؛ لذلك استغل دافنشي كمهندس عسكري،وظل ليوناردو يعمل معه مدة 10 أشهر. وبعدها عاد لفلورنسا حيث عمل على مشاريع لن يتم تنفيذها أو لم يكملها من الأساس، ولكن تلك الفترة رسم فيها واحده من أجمل أعماله وهي الموناليزا، ودرس حركة الطيور ونماذج للطيران ودرس جسم الإنسان تشريحاً ووظيفة، ودرس حركة المياه، والكثير من الأمور الأخرى. وبعدها انتقل إلى ميلان مرة أخرى لفترة شهد فيها نشاط علمي قوي، ولم ينجز فيها الكثير كفنان. وانتقل إلى روما وأقام هناك فترة ثلاث سنوات. حتى انتقل إلى فرنسا عام 1516 في استضافة الملك فرانسيس الأول الذي لقبه بالرسام، والمعماري، والمهندس الأول للملك. وقد عامله الملك باحترام شديد وقام ببعض الأعمال الفنية، ولكن أغلب اهتماماته كانت علمية في ذلك الوقت كعادته حتى توفي عام 1519.

أبرز أعماله :

1. تقديم المجوس الهدايا للطفل اليسوع:

فى عام 1481 تم تكليف ليوناردو برسم لوحة جدارية عن تقديم المجوس الهدايا للطفل اليسوع أو «adoration of magi- حب المجوس» التي بالفعل بدأ العمل بها مستخدماً في ذلك تقنية قد ابتكرها في استخدام الظل والضوء، حيث كان التلاعب بالظل والضوء بالنسبة لليوناردو ليس أمراً فرعية لزيادة واقعية اللوحة، بل غاية في الأهمية في التجسيد وكان باستخدام تلك التقنية المسماه سفوماتو يستطيع أن يضيف الغموض للعمل الفني الذي بدوره يضيف الحياة. وبعد فترة من بداية العمل انتقل إلى ميلان دون أن يكمل اللوحة فتظهر بعض الشخصيات تكاد تكون منتهية وأخرى لم يبدأ فيها حتى، وكذلك الخلفية غير مكتملة، ويظهر بوضوح مباني مقوضة وأخرى يتم العمل على إنشائها، وفي قلب اللوحة يوجد المسيح علي حجر أمه وقد تضرع له من حوله وهي يشير إليهم ليمنحهم البركة.

2. العشاء الأخير :

(يروي الإنجيل حكاية العشاء الأخير حيث يجلس المسيح ومن حوله الحواريين ويقول لهم أن أحدهم سيخونه، فبدأوا بالتجادل والتساؤل عن هوية هذا الشخص) . علي أساس تلك القصة بني ليوناردو لوحته الشهيرة، حيث يجلس المسيح في المنتصف ناظراً للأسفل بعد أن قال كلمته، والحواريين من حوله يتجادلون محركين أيديهم، وأفواههم في صورة تشع بالحركة، والحياة، والملحمية،وقد ركز المشهد علي المسيح وتلاميذه حتى أنه جعل حجم المائدة إصغر من الواقع أصغر؛ من أن تتسع إثنى عشر شخصاً معطياً انطباعا بالتزاحم وكثرة العدد،وقد نجح في تركيز نظر المتأمل على المسيح ليس فقط بجعله فى المنتصف، بل بالمحافظة الموجودة خلفه أيضاً.

3. الموناليزا :

بملامح هادئة وابتسامة غريبة ونظرة غامضة كانت أجمل لوحات ليوناردو دافنشي ومن أعظم الأعمال على مر التاريخ، فباستخدام تقنية السفوماتو التي ذكرناها آنفاً استطاع أن يعطيها تجسيداً بالواقعية، وقد ارتسمت خلفية جميلة وراء الموناليزا وكأنه الأفق الغير منتهي، وأحاط فم الموناليزا، وعيناها بظلٍ خافت مما أعطاها ذلك الانطباع بالغموض فكان هو سر حياة اللوحة فلاتدري أهي تسخر منك، أم تبتسم إليك أم ماذا؟! وقد ظهرت البساطة الشديدة في اللوحة من حيث الملابس وعدم وجود مجوهرات من أي نوع. وإلى الآن غير معروف من هي السيدة بالصورة.

4. القديسة حنة والعذراء والطفل :

فى مشهد معقد، ولكن جميل يحيطه الطبيعة التي لطالما عشقها وولع بها ليوناردو، تظهر العذراء على حجر القديسة حنّة، وكلاهما متشابهتان جداً في الملامح، وقد انحنت العذراء حتي تمسك بالطفل المسيح الذي كان ممسكاً بعنق الحمل الصغير، وأظهرت اللوحة البهجة في وجوههم مشعة بالحياة. وأثّر عشق ليوناردو للجيولوجيا في رسم الصخور بين أقدام القديسة حنّة فريدة المظهر غير المتكررة في لوح غيره.

وبذلك يتضح أن ليوناردو لم يكن اهتمامه الأول الفن بل كان أمرا ثانوياً يجسد من خلاله حبه للتأمل فقد كان ليوناردو عالماً، مهندسا، ومخترعاً من الدرجة الأولى وعلى الرغم من ذلك فبلا سك هو من أهم فنانين العصر.

مصادر سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “ليوناردو دافنشي” :

Britannica

Khanacademy

الفنون في عصر النهضة ثروت عكاشة

Uffizi

إقرأ أيضاً :

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور رافائيل

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “رافائيل”

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “رافائيل” :

عصر النهضة كان بمثابة مسرحية ضخمة تضم أكثر الممثلين إبداعاً يتسابقون فيما بينهم ليبرز كلاً منهم أعظم قدراته مستخدمين في ذلك ما يميزهم حقاً، فمثلاً مايكل أنجلو كان الأعنف في تصويراته فما يلبث المرأ أن يشاهد تمثال ديفد أو لوحة خلق آدم حتى يشعر بعنفٍ في التصوير فيصاب الشخص بالإنبهار بضخامة أعماله وجرأة ألوانه ومواضيعه. علي الصعيد الآخر كان دافنشي رجل العبقرية الغير مكتملة فأعماله تحتاج من المشاهد تركيز كبير في كل تفاصيلها الجميلة ولكن مع الأسف ترك الكثير منها ناقصة. أما رافائيل فقد كان فنان الخيال والروح كان رفائيل قادر على إضافة حياة لشخوصه قادر على تجسيدها بدقة في شكل مثالي غير ممل، رفائيل كان تلميذاً لكل ما هو جميل فقد تأثر بالكثير من الفنانين على مدار حياته مثل العملاق مايكل أنجلو، والعبقري ليناردو دافنشي ولكن كانت له شخصيته المميزة التي أسرت عقول الملايين على مر التاريخ.

نشأته وحياته :

ولد رافائيل عام 1483 في «أوربينو- urbino» وكان والده فنان محلي يسمى جيوفاني سانتي، لم يكن فنان ذو تأثير ملحوظ ولكنه كان على اتصال بالفن الحديث، ومحب للثقافة وكان مُعلم رافائيل في سنين حياته الأولى. توفي في عام 1494 عندما كان رافائيل في الحادية عشر من عمره، انتقل رافائيل إلى مدينة «Perugia-بيروجيا» بعدها بفترة وتتلمذ على يد أشهر الفنانين وقتها وهو بيروجينو وقد تأثر رافائيل بشكل غريب وملحوظ بعمله حتى كانت أعماله مطابقه لأستاذه وظلت هكذا فترة ليست بقصيرة حتى تفوق التلميذ على معلمه في لوحة زواج العذراء

فكانت تلك اللوحة مشابهة لحد كبير مثيلاتها لبيروجيني «المسيح يعطي بطرس مفاتيح ملكوت السماء» ولكنها كانت تشع بالحياة والروح أكثر منها فيظهر في قلب اللوحة الكاهن كحلقة وصل بين يوسف ومريم العذراء فكان يوسف يمد يده ليلبس مريم العذراء ذات الوجه البريئ حاتم الزفاف ممسكاً بهما الكاهن الذي قد التوى يجزاه ناحية يوسف حتى يجعله يلبس العروس الخاتم. ومن حولهم يوجد الضيوف والحضور متراصين في تناسق جميل ولكن غير ممل حيث جعل رافائيل أحد الشباب يكسر الغصن برجله أسفا أنه لن يتزوج العذراء مريم. تلك اللوحة توضح مدى تأثر رافائيل بمعلمه فقد استخدم أبعاد مشابهة جدا ونفس الأسلوب ولكنه أضاف ما يميزه وهو الروح.

بعدها انتقل رافائيل إلى مدينة فلورنسا،التي كان يسيطر عليها أعظم فنانين عصر النهضة ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو، وأخد رافائيل يتعلم من أعمالهم ويقتبس منها حتى استطاع أن ينتج أسلوبه الفريد في النهاية ولكن لا شك أن فضل عبقرية دافنشي وإبداع مايكل أنجلو على رافائيل كان ضخما. في تلك المرحلة أنتج رافائيل مجموعة من اللوح تسمى «Madonna-السيدة العذراء» وكانت تلك اللوح متأثرة بشدة بأعمال ليوناردو دافنشي ولكن كالعادة كانت موهبة رافائيل في إضافة الروح لشخصياته في أدق ملامحهم البريئة وحركاتهم الخفيفة واضحة ومميزة. وقد تدرج رافائيل في رسم العذراء وطفلها من أبسط الوضعيات مثل «عذراء غراندوق- grand duke’s Madonna» حيث ظهرت العذراء بملامح بريئة جدا تنحني رأسها جهة طفلها المتشبث بصدرها في ضمة تشع بالحنان

وبعدها أضف المزيد من التعقيد الملازم لوجود حياة أكثر فرسم «العذراء فوق الكرسي – Madonna Della seggiola» وقد ضم إليهما القديس يوحنا.

ثم خرج إلى الطبيعة فرسم العذراء في الحديقة مع الطفلين في شكل هرمي وقد أمسكت العذراء بكتاب، وتنحى عن كتفها طرف العباءة حتى يلتفت نظر المشاهد لما احتوته تلك اللوحة من حياة. وكذلك ظل يرسم العذراء في مختلف الأوضاغ والصور والطفلين من حولها تارة علي الجانبين وتارة علي جانب واحد. فأصبحت رسمة العذراء لرافائيل مميزة حتى يومنا هذا.

وفي عام 1508 تم استدعاء رافائيل من قبل البابا يوليوس الثانى حتى يزين غرف قصره في الفاتيكان وهذا ما فعله في غرفة التوقيعات «stanza della segnatura» وكانت قاعة مهمة جدا حيث أنها محل توقيع البابا لرسومه ومكان اجتماعه برجال الفكر في الدولة، وقد أبدع رافائيل فيها بشكل ملحوظ فاحتوت تلك القاعة علي جميل اللوح مثل مدرسة أثينا ولوحة احتفال الآلهة وغيرها وقد انبهر البابا بعمله بشده، وطلب منه تزيين قاعات أخرى حتى أنه أسند إليه رسم بورتريه شخصي له، والذي أبدع فيه رافائيل بشدة، وظل رافائيل مقرباً من البابا حتى وفاته.

وقد تولى بعده البابا ليو العاشر الذى قد طلب من رافائيل رسم سبع كرتونات لتزيين كنيسة سيستين، وكانت جميلة بشكل ملحوظ من معجزة شبكة الصيد، لموت حنانيا وغيرها التي بلغت فيها عبقرية رافائيل ذروتها وقد فرغ منها رافائيل بعدها بفترة وجيزة ظل يعمل على لوحات مطلوبة منه من كبار رجال الدولة، وحتى أنه عمل بالمعمار لفترة.

حتى عام 1520 وهو في السابعه والثلاثين من عمره توفي رافائيل تاركاً ورائه إرث بالغ العظمة والجمال والذي سنذكر البعض منه في السطور القادمة.

أهم أعماله :

مما لاشك فيه أن أعمال رافائيل تصلح أن يؤلف عنها كتب عدة تتراكم فيها المعلومات عن مدرسة أثينا، ومعجزة شبكة الصيد، وانتصار جالايطا وغيرهم الكثير.

1. مدرسة أثينا :

هي أحد اللوح التي رسمها رافائيل في قاعة التوقيعات للبابا يوليوس الثاني، والتي ضمت فلاسفة ورياضيين وعلماء ومبدعين في شتي المجالات حتى أنه رسم نفسه فيها. ويظهر في صدر اللوحه أرسطو وأفلاطون يتجادلون وقد تباينت حركات أيديهم والإشارات للسماء والأرض، حتى يعبر عن موقف كلاً منهما من المادية والروحانية وكأنه نقاش حيّ بالتفاصيل، ويظهر كذلك فيثاغورس يكتب في الزاوية من حوله عدة علماء، وفلاسفة من بينهم ابن رشد وفى منتصف اللوحة، يوجد على السلم الفيلسوف ديوجين مسترخياً علي الدرج بملابس بالية منعزلا عما يدور من حوله يقرأ. وتظهر شخصية على يسار ديوجين على ملامحها شيئ من الغضب أو الإرهاق وكأنه عامل بناء بعد يومٍ طويل، تقول بعض المصادر إنه مايكل أنجلو وتقول أخرى إنه الفيلسوف هرقليطس ولكن بوجه مايكل أنجلو، على أية حال تلك الشخصية الغريبة لابد أنها توضح إعجاب رافائيل بإبداع مايكل أنجلو. تتميز مدرسة أثينا بتفاصيل جميلة في الشخصيات، ولكن أيضا تتميز بتخطيط جميل فمثلا حتى لا تضيع رؤية أرسطو و أفلاطون وسط الزحام جعل فوقهما قوس وكأنه برواز يضمهما. فكانت تلك اللوحة ساحرة بحقٍ لما يبحث عن التفاصيل الفنية، أو من يبحث عن المعلومات التاريخية فهي مبهرة لأي عقل مهما كان.

2. معجزة شبكة الصيد :

معجزة شبكة الصيد الزاخرة بالسمك أو miraculous fraught of fishes هي أحد الكارتونات السبع التي طلبها الباب ليو العاشر، والتي تظهر إبداع رافائيل بشكل واضح حيث يظهر قاربين في أحدهما يجلس المسيح وبطرس راكعا أمامه ومن خلفه أندراوس الذى يمثل حلقة الوصل بين القاربين، ويمثل إضافة وجدانية جميلة للوحة فكأن أندراوس هو بطرس قبل أن يركع أمام المسيح، وفى القارب الآخر يوجد الصيادون يحاولون شد شبكة الصيد التي امتلأت بالسمك مع الحفاظ على وضع القارب بالدفة، وقد انعكس شكل الشخصيات علي الماء بشكل جميل جدا، واستطاع رافائيل أن يحافظ على تركيز المشاهد على المسيح عن طريق تصغير حجم القوارب الملحوظ والطير المتجهة صوب المسيح وكذلك اتجاه حركة الشخصيات إليه. كانت تلك اللوحة ممثلة لأحد قصص الإنجيل الشهيرة : كان المسيح يعظ الناس علي مقربة بحيرة فلما اشتد الزحام ركب المسيح في قارب بطرس وأمره أن يرمي شبكته، وهو يقول ما من مخلوق يصطاد شيئا إلا بأمر اليسوع وكانت المعجزة أن امتلئت الشبكة بالسمك، فنادى على رفاقه حتي يعاونوه وفى أثناء ذلك ركع بطرس أمام المسيح.

3. عذراء سيستينا :

وكأنك نائم تحلم بالعذراء فهي تتجلى من السماء على السحاب وقد حملت الطفل بين يديها، وينظر إليها البابا سيستو ثاني في تقديس وقد انحنى جسمه مشيرا إلى الأمام وقد نظر إلى من الأعلى ناحية العذراء، وعلى الجانب الآخر القديسة تنظر إلى الأسفل يميل جسدها ناحية أعلى، حتى تكون في وضع شبه معاكس لوضع البابا المقابل أما فى صدر اللوحة ظهرت العذراء محدقة وهي طفلها غير مرسل الشعر كبير الحجم نسبياً إلى الأمام مباشرة كأنها تحدق في الناظرللوحة وقد انطوت رجلها، وتراجع ثوبها للوراء حتي تشعر بالحركة في اللوحة وهذا ما يتميز به رفائيل وهو إضافة الروح والجمال للشخصيات الممثلة.

وبذلك نقش رافائيل اسمه الذي لن ينتهي صداه للأبد، فهو الرسام صاحب الخيال الأجمل والتصوير الأروع والأكثر رقة.

مصادر سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “رافائيل” :

  1. Britannica
  2. raphael
  3. فنون عصر النهضة لثروت عكاشة
  4. Raphael sanzio
  5. Khan academy

أقرأ أيضا :

نبذة مختصرة عن مايكل أنجلو

سلسلة أهم الفنانين على مر العصور “مونيه”

لطالما كان الفن عموماً -الرسم خاصة- طريقة للتعبير عن الإندهاش، والاهتمام بمظهر معين أو فكرة، وهو كذلك طريقة للتعبير عن فلسفة الفنان تجاه أمر معين مثل الطبيعة أو الحياة والموت ويمكن فلسفته تجاه نفسه. الفنان الذي يحكي عنه مقالنا اليوم هو مثال للخروج عن التقليدية والوصول لطرق جديدة وغريبة في التعبير ليس فقط عن جمال المشهد الملاحظ بل عن وعيه بالمشهد نفسه وهذا ما سيتضح في ثنايا أعماله وما جعله واحد في سلسلة أهم الفنانين على مر العصور.

نشأته وحياته:

أوسكار كلود مونيه ولد عام 1840 في الرابع عشر من نوفمبر في باريس بفرنسا، وتوفي عام 1926 في جيفرني بفرنسا. كان والده رجل أعمال في مجال البقالة، وبعد ولادته بفترة وجيزة انتقلت عائلته إلى ساحل نورماندي بالقرب من مدينة «le havre» في شمال غرب فرنسا حيث اقترابه من البحر كان له أثر كبير عليه وعلى فنه طول عمره، أحب الرسم منذ نعومة أظافره واشتهر في بلدته بالرسم الكراكتيري حيث كان يبيع ذلك النوع من الرسومات وهو في عمر الخامسة عشر. بدأ حبه واهتمامه برسم المناظر الطبيعية بالزيت مع تعرفه على رسام محلي اسمه «يوجين بودين». وفي عام 1859 التحق بالأكاديمية السويسرية في باريس وتعرف فيها على زوجته المستقبلية «كاميل دينسو » وبعدها تم تجنيده في الجيش من عام 1861حتى عام 1862 في الجزائر، ثم عاد إلى مدينه والده مرة أخرى ولم يلبث أن عاد لباريس ليكمل دراسته وتعرف على مزيد فنانين يشاركونه نفس الطريقة التعبيرية، وبدأت ملامح الانطباعية تظهر في أعماله -كما سنرى فيما بعد – إلا أنه لم يحقق نجاحات تذكر في تلك الفترة حيث لم تكن ستينيات القرن التاسع عشر سعيدة أبداً علي مونيه.

أما السبعينيات فشهدت فترة نشاط كبيرة لمونيه وزملائه ولكن بدون نجاح أيضاً وانتقل مونيه وأسرته إلي «فيتويل- Vetheuil» والتي فيها زادت علاقته مع أحد التجار «إزنست هوشيدى- Ernest Hoshedé» وزوجته «أليس هوشيدى» تلك العلاقة التي ستؤثر على أعمال وحياة مونيه فيما. وفي عام 1879 توفيت زوجته بعد صراع مع المرض أصبحت تعيش معه أليس هوشيدى وأطفالها بعد أن هجرهم زوجها.

ومع بداية الثمانينات تفكك مجموعة مؤسسي المدرسة الانطباعية وظل مونيه يعرض لوحاته في معارض فردية، وازدهرت أعماله بشده. فانتقل من بيته الصغير في جيفرني إلى منزل آخر كبير الذي أسس به بحيرة صغيرة بها أنواع كثيرة من النباتات والزهور جميلة ومتباينة الألوان وأقام جسر ياباني صغير، وظل في ذلك المنزل الجميل يعمل علي رسم المشاهد الجميلة الموجودة بحديقته حتى موته عام 1926. تاركاً ورائه أكثر من ألفي عمل فني نستعرض أمثله منهم فيما يلي:

شاطئ سانت أدريس:

في صيف عام 1867 كان مونيه مقيماً مع عمته في سانت أدريس في تلك الفترة بدأ حبه بالطريقة الجديدة في التعبير يتكون يزدهر وهي مدرسة الانطباعية. ولكن ما هي الانطباعية من الأساس؟

مدرسة فنية تعكس انطباع، ووعي الفنان بالمشهد المقابل وخاصة المشاهد الطبيعية من أمثلة ذلك لوحة شاطئ سانت أدريس التي رسمها مونيه، وركز فيها على منظر السحاب الأبيض والبحر بأمواجه والصيادين، ولكن ليس بالطريقة المعتادة فلم يعكسها كما هي إنما صور إحساسه بها وتحديداً إحساسه بالضوء فقد عشق مونيه أن يأسر الضوء في لوحاته ويلاحظ أثر الضوء على الأشكال الطبيعية المختلفة.

وصول القطار لمحطة سانت لازار :

رسمه عام 1876 وهي ليست من أشهر أعماله ولا أكثرها مشاهدة ولكنها من أكثرهم تميزا فبدل من تصوير وعيه بالمشاهد الطبيعية المجرة اتجه فيها لتصوير الحياة الحديثة حيث المشهد المهيب بدخول القطار لمحطة «سانت لازار- Saint Lazare» والدخان يتصاعد بكثافة وسط انتظار من المحيطين في صورة مليئة بالحياة. والجميل في لوحات مانيه هو حبه لتصوير أثر الطقس أو الهواء في لوحاته كما فعل هنا فقد جعل دخان القطار شديد السمك حتى، وكأنه يبرز من اللوحة مجبراً المشاهد لتلك الروعة الفنية أن ينظر للدخان ويهتم به حتى وإن كان لا يعيره اهتماماً في الحياة الحقيقية، وهذا يدل على فرط نجاح مونيه في تصوير انطباعه وليس فقط المشهد مجرداً.

دورة زنابق الماء :

في متحف «L’orangeria» يوجد تحفة فنية مكونه من 8 قطع متراصة جنبا لجنب عن دورة «زنابق الماء – water lilies». فالجدير بالذكر أن مونيه ابتكر طريقة رسم جديدة وجميلة وهي تصوير المشهد الطبيعي ذاته في أوقات مختلفة من اليوم أو من العام حتى يظهر تأثير الطقس والضوء على الشيئ ذاته وهذا ما يحدث في تلك التحفة بين أيدينا وغيرها من رسوماته. ولكن ما هي القصة وراء ذلك العمل الضخم؟

ربط كلاً من مونيه و «جورج كلامينسو- George Clémenceau» علاقة صداقة منذ عام 1860 التي استمرت لفترة ثم انتهت وعادت موجودين عام 1908 فكان مونيه متفق مع أفكار كلامينسو السياسية وكلامينسو كان محباً للفن ويحترم فن مونيه جداً، ففي عام 1919 وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أراد مونيه اهداء الدولة لوحتين ولكن كلامينسو أراد أكثر من لوحتين، أراد سلسة كامله من اللوح يتم عرضها رمزا للسلام، وبعد عناء استطاع إقناع مونيه الذي شرع العمل بهم وهو في الثمانينات من عمره وكان مفترض أن ينتهي منهم عام 1922 لكن الشك تجاه تلك اللوح كان يقتله، فكان دائما ما يمزقها ويدخل عليها العديد من التعديلات حتى مات في عام 1926. وتم عرض تلك اللوح أخيرا عام 1927، وتظهر تأثير الضوء والطقس على زنابق المياه فتارة انعكاس السماء الصافية وتارة السماء مليئة بالغيوم وتارة أخرى انعكاس الأشجار. مرتبة على شكل بيضاوي كما أوصى مونيه القائمين على ترتيبها أثناء عمله بهم.

شهد مونيه حياة مليئة باللألوان والضوء، الضوء الذي أحبه مونيه وأحب أن يصوره في لوحاته. مات وترك ورائه فلسفة مذهلة وجديدة فليس من الضروري أن يكون الواقع هو اللوحة الفنية بل يمكن أن يكون إدراك ذلك الواقع يستحق أن يتم تصويره.

مصادر:

اقرأ أيضاً

نبذة مختصرة عن فان جوخ

نبذة مختصرة عن مايكل أنجلو

Exit mobile version