كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

الحب، إنه الشعور الأروع على الإطلاق. التجربة التي نتوق لها جميعًا ونحاول فك شفرتها. ونتمنى لو نجد إجابات سهلة عنها. لكن ما هو الحب؟ وهل حقًا استطاع العلماء فك شفرته؟

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟

علم النفس الاجتماعي هو الفرع الذي يهتم بدراسة مشاعر الحب والانجذاب، وقام علمائه بتجارب جمة للتوصل إلى تعريف للحب وتحديد عوامل نجاحه. تطرق عدد من العلماء إلى تعريف الحب، لكن الأشهر بينهم وضعه العالم روبرت ستيرنبرج في ثمانينات القرن الماضي وعُرف نظرية مثلث الحب.

وتُفسِر هذه النظرية الحب أنه شعور يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الحميمية، والشهوة، والالتزام. الحميمية هي شعور القرب والتواصل، أو بمعنى آخر مشاركة الأمور الشخصية التي لا تتشاركها مع أي شخص آخر. والشهوة هي الرغبة أو الانجذاب الجسدي. والالتزام هو وضع عنوان للعلاقة أنها علاقة حب ومن ثم اتخاذ قرار الالتزام -على المدى الطويل- بها. وهكذا رأى ستيرنبرج أن وجود هذه العناصر ثلاث يعني تكامل الحب وتمامه. لكن ماذا يحدث عند وجود عنصر واحد من العناصر الثلاث؟ أو اثنان؟ أو لا عناصر على الإطلاق؟

أنواع الحب

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا من نظرية ستيرنبرج، فيمكن القيام بعمليات تبادلية بين العناصر الثلاث للتوصل إلى الأنواع المختلفة من الحب في أغلب العلاقات البشرية. وسنتطرق أولًا إلى العلاقات ذات العنصر الواحد:

  • الصداقة: عند وجود الحميمية أو شعور القرب والتواصل فقط، وغياب الرغبة والالتزام، نحصل على علاقات الصداقة، أو الإعجاب، التي يمكن أن تتطور إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الافتتان: عند وجود الرغبة فقط، وغياب الحميمية والالتزام نحصل على الافتتان. وهي علاقات تقوم على الانجذاب الجسدي فقط دون معرفة عميقة أو قرار بالالتزام. ويكون تأثيرها عادةً قوي للغاية، ومن المحتمل أن ينمو إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الحب الخاوي: عند وجود الالتزام فقط، وغياب الحميمية والرغبة نحصل على علاقات الحب الخاوي. ويظهر هذا كمرحلة أخيرة في العلاقات التي تسوء بمرور الوقت فيقرر طرفاها الالتزام من أجل الأطفال أو المظهر العام أو أسباب مادية. أو كمرحلة أولى في علاقات الزواج التقليدي التي تتم بدون معرفة مسبقة.

وثانيًا، العلاقات ذات العنصرين:

  • الحب الرومانسي: عند وجود الحميمية والرغبة وغياب قرار الالتزام نحصل على الحب الرومانسي. وهي علاقات تقوم على القرب والتواصل الجسدي دون أي قرار بالالتزام على المدى الطويل.
  • العشرة/الصداقة المقربة: عند وجود الحميمية والالتزام وغياب الرغبة نحصل على علاقات مثل الصداقة المقربة أو الزواج بدون جنس. أي علاقات تقوم على القرب وقرار الالتزام دون أي اتصال جسدي.
  • الحب الوهمي: عند وجود الشهوة والالتزام وغياب الحميمية نحصل على علاقات الحب الوهمي أو الحب الأبله. ونجد هذا في علاقات الزواج المتسرع قصير المدى.
  • أما عند غياب العناصر الثلاث نحصل على علاقات اللاحب، وهي العلاقات التي تربطك بالغريب الذي يمر بجانبك في الشارع. فلا توجد حميمية ولا شهوة ولا قرار بالالتزام.
  • وأخيرًا، الحب المتكامل وهو الحب الذي يتضمن العناصر الثلاث بدرجات متفاوتة خلال مراحل مختلفة من العلاقة. وهو الشكل الأمثل للحب في نظر ستيرنبرج.

كيف يحدث الحب؟

بحث علماء النفس الاجتماعي في الحب، وحاولوا فك شفرته، لكن جميع التجارب والنتائج التي وصلت إلينا تخص الانجذاب وليس الحب. باعتباره الخطوة الأولى التي يمكن أن تتطور لاحقًا إلى علاقات حب. وبهذا توصل علماء النفس إلى سبع عوامل/متغيرات لحدوث الانجذاب، منها ثلاثة عوامل رئيسية واضحة التأثير، وأربعة عوامل أخرى قوية أيضًا لكنها أقل وضوحًا وربما يغفل عنها الكثير.

أولًا، العوامل الثلاث الرئيسية:

  • «التقارب-Proximity»

هل حلمت يومًا بالغريب المثالي الذي ستلتقيه صدفة في ليلة ماطرة، تتبادلان حديثًا رائعًا ثم تقعان في الحب؟ باختلاف بعض التفاصيل -من المحتمل أنه صباح صيفي لا ليلة ماطرة- يمكننا القول أن أغلبنا اختبر هذا الأمر، الذي يمكن أن نصفه بالخرافة الثقافية. فيرى علماء النفس أنه من المرجح أنك ستنجذب لشخص مجاور لك، شخص يقع في حيز مكاني قريب عوضًا عن الغريب الرائع، وهذا هو مبدأ التقارب.

  • «التشابه-Similarity»

هل سمعت عن القاعدة الفيزيائية أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب؟ ربما سمعت بها قبلًا ورأيت من حاولوا تطبيقها على علاقاتهم. لكن علماء النفس الاجتماعي أثبتوا فشلها، ووجدوا أنه كلما زاد التشابه بين شخصين كلما زادت احتمالية انجذابهما لبعضهما. وذلك لعدد من الأسباب أهمها: أنه شعور رائع! تواجدك مع شخص يشبهك في نفس المكان يسهل التواصل بينكما، ويعطي نوع من التوكيد لكل منكما عندما تتبنيان نفس الرأي. فتزيد الثقة فيما تقولان وتتحمسان لقول المزيد.

  • «الألفة-Familiarity»

عرض العلماء مجموعة من الكلمات بلغة غريبة على عدد من الأشخاص لثوان معدودة، ثم عرضوا مجموعة أكبر من الكلمات الغريبة من بينها الكلمات التي رآها المشاركون سابقًا، ثم سألوهم: مع العلم أنكم لا تعرفون معنى أى من هذه الكلمات لكن أيها تفضلون؟ وجاءت إجابات المشاركين أنهم يفضلون الكلمات القديمة التي رأوها في المرة الأولى، حتى وإن لم يتذكروا رؤيتها من قبل!

وهذا هو تأثير الألفة، الذي يمكن تطبيقه على البشر بكل تأكيد. فيجد علماء النفس أننا نميل وننجذب للأشخاص اللذين نألفهم ونشاركهم نفس البيئة.

العوامل الأقل وضوحًا

الأربعة عناصر الأقل وضوحًا وهم:

  • «تأثير السقوط-Pratfall Effect»

من المعروف أننا ننجذب للأشخاص المهرة الأكفاء، الذين يدرون دورهم في الحياة. وهذا أمر طبيعي تمامًا لكنه غير مشوق، فمتى تحدث الإثارة؟

تحدث الإثارة حينما يرتكب الشخص الماهر خطأ أحمق، فيتضاعف إعجابنا به! وهذا ما يُعرف بتأثير السقوط. يشعرنا وقوع الشخص الماهر في الخطأ بشعورًا جيدًا حيال أنفسنا، نراه فجأة أكثر إنسانية وتواضعًا وقربًا، ونشعر أنه يشبهنا في نهاية المطاف، فننجذب له أكثر.

أشهر التجارب التي تفسر تأثير السقوط قام بها العالم إليوت أرنسون وجاءت النتائج مذهلة. أُجريت التجربة على طلاب جامعيين، طُلب منهم الاستماع إلى تسجيل صوتي للمتقدمين إلى تمثيل الجامعة في مسابقة تليفزيونية. التسجيل الأول لطالب مثالي، يحصل على علامات ممتازة ويشترك في كثير من الأنشطة. والتسجيل الآخر لطالب متوسط، علاماته جيدة، وأقل انخراطًا في أنشطة الجامعة. ثم سُأل المشاركون عن الطالب الذي يفضلونه؟

فذهب أغلبهم بالطبع إلى اختيار الطالب المثالي. لكن الأمر لم يتوقف هنا، استمر التسجيل الصوتي وسمع الطلاب قرقعة وضوضاء وبعدها شخص يقول: “اللعنة، لقد سكبت القهوة على بذلتي الجديدة”، سُأل المشاركون مجددًا عن الطالب الذي يفضلونه، فارتفع تقديرهم للطالب المثالي الذي سكب القهوة كثيرًا. ولسوء الحظ، انخفض تقديرهم للطالب المتوسط الذي سكب القهوة أكثر. وبهذا وجد ارنسون أن تأثير السقوط يعمل في كلا الاتجاهين، فيرفع من جاذبية الشخص الماهر، ويقلل من جاذبية الشخص المتوسط.

الجاذبية الجسدية

المظهر هو أحد الأمور المزعجة التي يرفض أغلبنا الاعتراف بأهميتها، فنقول لأنفسنا أنه ليس عادلًا أن الانجذاب الجسدي له أهمية في الحياة، خصوصًا إذا وجدنا أنفسنا خارج تصنيف الجاذبية الجسدية. وإذا سألت مجموعة من طلبة الجامعة عن الصفات التي يبحثون عنها في علاقاتهم، سيقولون لك صفات مثل التفاهم والذكاء وحس الفكاهة والتعاون، أما المظهر فليس هامًا للغاية. أما الحقيقة أنه إذا قابلت شخصًا للمرة الأولى، ولم يعجبك مظهره فمن المرجح أنك لن تراه ثانيةً.

أحد الدراسات التي بحثت أهمية الجاذبية الجسدية تُدعى «تجربة الشعر المستعار المجعد-The frizzy wig experiment». استعان القائمون على هذه التجربة بممثلة يراها أغلب الناس جذابة، وغيروا مظهرها لتصبح أقل جاذبية باستخدام شعر مستعار مجعد. كانت الممثلة تقابل مجموعة من الشباب وتطرح عليهم عددًا من الأسئلة ثم تعطيهم تقييمًا. وعندما كانت الممثلة أقل جاذبية لم يهتم المشاركون بتقييمها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. أما عندما ظهرت الممثلة بهيئتها الجذابة، فرحوا بتقييمهم الإيجابي كثيرًا، واستاء هؤلاء الذين حظوا بتقييم سلبي، بل وطالبوا بإعادة المقابلة!

وهكذا توضح لنا هذه التجربة أننا نتأثر برأي الأشخاص الجذابين، ونعطيه أهمية كبيرة على عكس الأشخاص الأقل جاذبية. وهذا أمر غير عادل وغير منطقي لكنه عمليًا موجود. وتوضح أيضًا التناقض الكلاسيكي بين ما نعتقد أنه تافه وغير هام، وما يُثبت عمليًا أنه أكثر أهمية. لكن لحسن الحظ تثبت هذه الدراسات أيضًا أن الجاذبية الجسدية مهمة في تحديد نجاح المقابلات الأولى فقط، أما نجاح العلاقات على المدى الطويل فيحدده عوامل أقل سطحية من المظهر بالطبع.

«تأثير المكسب والخسارة-Gain loss effect»

هناك صفة تطورية اكتسبها البشر على مر الزمان، وهي حساسيتهم وانتباههم للتغيير. وهذا أمر طبيعي لأن الاستقرار يعني الأمان، أما التغيير فهو مؤشر للخطر أو فرصة جديدة، وقد يساعد التنبه لهذا التغيير على الاستمرار والبقاء. لكن كيف يحدث هذا في حالات الحب والانجذاب؟
هناك شخصان، أحدهما يحبك ويظهر مشاعره لك بصورة مستمرة، والآخر ينمو انجذابه لك مع الوقت. أيهما سيجذب انتباهك أكثر؟
الإجابة هي الشخص الثاني، الذي ينمو تقديره لك مع الوقت، حتى وإن كان متوسط مشاعره أقل من الشخص الأول. وهذا هو تأثير المكسب. التغير المفاجيء والنمو التدريجي للمشاعر يجذب الانتباه أكثر من المشاعر الثابتة.
ويمكن تطبيق ذلك أيضًا على المشاعر السلبية، فلا يقع عليك الأذى بسبب شخص يكرهك ويُظهر لك هذا دائمًا. وإنما يأتي الألم من تقدير الأشخاص المرتفع الذي يتلاشى بمرور الوقت. وهذا هو تأثير الخسارة، أو تحول المشاعر من إيجابية إلى سلبية بمرور الوقت.

«الإسناد الخاطيء لأسباب الإثارة-Misattribution of arousal»

يحدث هذا الأمر عندما تشعر بالإثارة الجنسية لكنك لا تعلم السبب، فتفسره تفسيرًا خاطئًا وتعتقد أنه حب أو انجذاب.
ولفهم هذا العامل ودوره في حدوث الانجذاب قام العلماء بعدد من التجارب، أشهرها «تجربة الجسر المتهالك-Rickety bridge experiment»، أُجريت هذه التجربة على جسر عالٍ ومتهالك يقع في مدينة فانكوفر بكندا، وعلى جسر آخر أكثر استقرارًا وثباتًا يؤدي إلى نفس الوجهة. استعان العلماء بممثلة جذابة، كانت تستوقف الذكور الذين يعبرون كلا الجسرين وتطلب منهم مساعدتها في استبيان ما ثم تعطيهم رقمها وتخبرهم أن يتواصلوا معها إذا أرادوا معرفة النتيجة.

وجد القائمون على التجربة أن هؤلاء الذين عبروا الجسر المتهالك اهتموا بالممثلة وتواصلوا معها بالفعل، على عكس هؤلاء الذين عبروا الجسر الآمن. وفسر العلماء ذلك أن عبور الجسر المرتفع المتهالك مرتبط بزيادة ضربات القلب وسرعة التنفس والتعرق. لذلك أسقط المشاركون هذه الإثارة على الممثلة الجذابة واعتقدوا أنهم منجذبون لها.

قام العلماء بتجربة أخرى طلبوا من المشاركين فيها وضع سماعات رأس تضخم صوت ضربات القلب بينما يتصفحون أحد المجلات الإباحية، ثم اختيار صورتهم المفضلة. جاءت النتائج أن أغلب المشاركين اختاروا الصورة التي زادت ضربات قلبهم عند رؤيتها. لكن الحيلة هنا، أنهم لم يستمعوا إلى نبص قلبهم الحقيقي وإنما إلى تسجيل صوتي لضربات القلب يقوم المسئول بتسريعه عشوائيا عند أي صورة. وبهذا يقع هؤلاء الأشخاص في فخ الإسناد الخاطيء للإثارة، فيعتقدون أن ضربات قلبهم المتسارعة دليل على الانجذاب والحب.

وهنا يجب القول أن هذا المفهوم تحديدًا له آثار أكثر خطورة في الواقع، منها: ضحايا العلاقات المسيئة والعنف المنزلي. ما يحدث أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أنهم في علاقات مسيئة، حيث يسبب لهم الصراخ والشجار والغصب إثارة من نوع ما، تُترجم خطئًا أنها حب. فيرددون عبارات مثل: لم يكن ليصرخ بي لو لم يكن يحبني. وبالطبع هذا خاطيء وغير حقيقي تمامًا.

خاتمة

تعرفنا على نظرية مثلث الحب لستيرنبرج، والعناصر الثلاثة الضرورية التي وضعها لتكامل الحب وتمامه، وهي الحميمية والشهوة والالتزام. بالإضافة إلى أنواع الحب المختلفة التي تنشأ عند وجود عنصر واحد فقط أو اثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما تعرفنا على سبع عوامل تؤثر في حدوث الانجذاب الذي يمكن أن يتطور إلى حب. منها ثلاث ذات تأثير واضح وهي التقارب والتشابه والألفة. وأربع أقل وضوحًا وهي تأثير السقوط والانجذاب الجسدي وتأثير المكسب والخسارة واالإسناد الخاطيء للإثارة. لذا ربما حين تجتمع بأصدقائك المرة القادمة، ناقشوا علاقاتكم في ضوء عناصر الحب الثلاث لستيرنبرج، وربما تصدمك النتائج!

اقرأ أيضًا: متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

المصادر

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

هذه المقالة هي الجزء 8 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

بينما يجلس كلايف ويرنج يعزف البيانو، تدخل عليه زوجته فيقوم ليحييها بحرارة. وبعد قليل عندما تخرج زوجته لتعد كوبًا من الشاي يعود كلايف إلى عزفه. حينما تدخل الزوجة الغرفة حاملة الشاي يحييها كلايف بنفس الحرارة مجددًا كأنه لم يراها منذ دقائق معدودة. فما تفسير هذا التصرف؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مفهوم الذاكرة واسع ومراوغ للغاية. فلا تشمل الذاكرة معرفتك لاسمك وأحداث حياتك فقط، بل تمتد لتشمل أدق أجزاء المعرفة، منها معرفتك للمشي والوقوف والجلوس والمضغ والبلع. لكن ما هي الذاكرة؟ كيف تعمل ومم تتكون؟ هل يسعنا اختيار ما نتذكره؟ وإذا كانت الإجابة نعم، كيف يحدث ذلك؟ وفي ضوء القصة التي ذكرناها، كيف يحدث النسيان؟ وما تفسير تصرف كلايف ويرنج؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

ما هي الذاكرة؟

يشير مصطلح الذاكرة إلى قدرتنا على الحصول على المعلومات، وتخزينها، وحفظها، ولاحقًا استرجاعها. وذلك عن طريق عمليات ثلاثة وهي: الترميز، والتخزين، والاسترجاع.

كل منها يمثل مرحلة مختلفة لتكوين الذكريات. فتمثل عملية الترميز التجربة التي تمر بها، او النشاط الذي تقوم به، والتخزين هو انتقال المعلومات الى الذاكرة، والاسترجاع هو القدرة على استخراج هذه المعلومات وقت الحاجة. لكننا نمر بمئات التجارب يوميًا ويحيط بنا كميات هائلة من المعلومات، فأيها نتذكره؟ وأيها لا؟ وعلى أي أساس يتم الاختيار؟ والإجابة هي الانتباه.

الانتباه

يشير مصطلح الانتباه إلى قدرتنا على معالجة المعلومات في البيئة المحيطة بنا. فهناك العديد من المؤثرات تحيط بنا دائمًا، مثلما تجلس أنت الآن وتقرأ هذا المقال، ويضغط الكرسي الذي تجلس عليه على جسدك، وتسمع أصوات الجيران، وتشعر بدفء ملابسك، وترى مكونات الغرفة التي تجلس بها. كل هذه مؤثرات تحيط بنا طوال الوقت، لكننا لا ننتبه لها ولا نتذكرها جميعًا. لو حدث ذلك، فسنصاب حتمًا بالجنون.

لذا يأتي السؤال، ما الذي يتحكم في دخول المعلومات الذاكرة؟ والإجابة هي الانتباه. يمكن اعتبار الانتباه بمثابة ضوء مسلط على التجربة التي تمر بها الآن، فيختار الحدث الأهم ويركز عليه ليدخل الذاكرة.

وللانتباه عدة خصائص:

١. محدود:

يمكننا الانتباه لعدد محدود من المحفزات ولفترة محدودة فقط. ويعتمد هذا الأمر على عدة متغيرات منها: وجود عوامل تشتت، ومدى الاهتمام بالمحفز المذكور. ولهذا السبب اعتبر العلماء عملية «تعدد المهام-Multitasking» خرافة لا أساس علمي لها. لأنها ستكلف الشخص وقتا أطول كما تقلل من جودة الانتباه إلى جميع المهام.

٢. اختياري:

يمكننا اختيار الأشياء التي نتنبه لها. لكن لا يحدث هذا دائمًا، فهناك بعض الأشياء التي نتنبه لها تلقائيًا، مثل: معاني الكلمات. فيما يُعرف بـ «تأثير ستروب-Stroop Effect». ولفهمه يمكنك إجراء هذا الاختبار الذي يطلب منك نطق لون الكلمة وليست الكلمة نفسها وتسجيل الوقت الذي يستغرقك لفعل هذا. من هنا

يفسر فارق الوقت بأن معرفتك للقراءة تصعب عليك مهمة نطق الألوان، فأنت تنتبه لمعاني الكلمات تلقائيًا رغم إرادتك لمزيد من الانتباه وجد العلماء أن الخاصية الاختيارية للانتباه مرتبطة بظاهرة شيقة أخرى تعرف باسم «عمى التغير-Change Blindness». ولفهم ذلك سأطلب منك مشاهدة هذا المقطع وعد التمريرات التي يقوم بها الفريق بالزي الأبيض.

الإجابة الصحيحة هي ١٥، لكن هل انتبهت للغوريلا؟ حوالي ٥٠٪ من الأشخاص الذين لم يروا هذا المقطع من قبل وقاموا بالعد لا يلاحظوا الغوريلا. أما الأشخاص الذين لم يقوموا بالعد لاحظوها.

تجربة أخرى أجراها العالم دان سايمونز يختار فيها أحد المشاة بشكل عشوائي ويسأله عن الطريق، وبينما يتحدثان يمر بينهما شخصان يحملان باب ويُستبدل السائل الأول بشخص آخر. وجاءت النتائج أن حوالي ٥٠٪ من الأشخاص لم يلاحظوا تغير السائل مطلقًا. فكيف يحدث هذا؟

يمكننا القول أن الانتباه نافذة ضيقة للغاية، فبينما تركز على شيء معين، تغفل عن الكثير من الأشياء من الأخرى. وهذا أمر طبيعي ومقبول، لأن الذاكرة تعمل وفقًا لحقيقة أن معظم الأشياء تظل على حالها طول الوقت، وليس من الضروري حفظ التفاصيل الدقيقة لكل مشهد، فمن غير المتوقع أن يتبدل الغريب الذي التقيته في الشارع إذا أشحت بوجهك عنه لثوان معدودة. والمغزى العام هنا هو أن إدراكنا للواقع ضئيل ومحدود أكثر مما تعتقد.

مم تتكون الذاكرة؟

عندما تشاهد فيلمًا يتحدث عن فقدان الذاكرة، تجد البطل يتجول في الشوارع شاردًا لا يتذكر اسمه أو أحداث حياته. وهذه هي الصورة التقليدية التي يتبناها البشر عن الذاكرة، ذاكرة السيرة الذاتية. لكن الحقيقة كما أسلفنا أن الذاكرة تشمل معرفتك لأصغر الأفعال مثل المشي والأكل والحديث، وهناك أنواع مختلفة لها: الذاكرة الحسية، والذاكرة قصيرة المدى أو الذاكرة العاملة، والذاكرة طويلة المدى.

كل عملية من عمليات تكوين الذاكرة التي أسلفنا ذكرها -الترميز والتخزين والاسترجاع- تختص بنوع من أنواع الذاكرة الثلاث.

أولًا: عملية «الترميز-Encoding»

بعد انتهاء دور الانتباه، واختياره المعلومات التي ستدخل المخ، يبدأ دور الترميز. والترميز هو عملية تحويل الإشارات/المعلومات القادمة من أعضاء الحس إلى صيغة يستطيع المخ التعامل معها وبالتالي تخزينها. وهناك تلاثة أنواع للترميز:

  • ترميز بصري: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة صور.
  • ترميز سمعي: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة أصوات.

وكلاهما يعرف بـ «المعالجة السطحية-Shallow Processing» وتختص بالذاكرة قصيرة المدى.

  • ترميز دلالي: وهُنا تخزن المعلومة على هيئة معاني. فيما يُعرف بـ «المعالجة العميقة-Deep Processing» وتختص بالذاكرة طويلة المدى.

    مثال: عندما تقرأ (ترى) كلمة في كتاب، يخزنها المخ بعد تحويلها إلى صوت أو معنى. الصورة الأولى للكلمة تخزن في الذاكرة الحسية لكنها سرعان ما تتلاشى. أما عند حفظ الكلمة وتكرارها عدة مرات فتخزن كصوت في الذاكرة قصيرة المدى، لكنها أيضًا تتلاشى بعد وقت قصير. وأخيرًا عند معرفة معنى هذه الكلمة فإنها تخزن في الذاكرة طويلة المدى لفترة طويلة جدًا. وهذا يأخذنا إلى المرحلة الثانية من عمل الذاكرة وهي التخزين.

ثانيًا: «التخزين-Storing»

هي عملية تخزين المعلومات لمدة قصيرة تصل إلى ثلاثين ثانية فقط في الذاكرة قصيرة المدى عن طريق التكرار (الاحتفاظ بالصوت أو الصورة). أو لمدة طويلة قد تصل إلى عمر كامل في الذاكرة طويلة المدى عن طريق الترميز الدلالي (الاحتفاظ بالمعنى). وتتأثر عملية التخزين بعوامل أخرى مثل: كمية المعلومات المخزنة ونوعها وكذلك مدة ومكان تخزينها.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مكان التخزين نوعان:
الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى وهناك العديد من الدراسات التي توضح الفرق بينهما:

الذاكرة طويلة المدى

لدى الذاكرة طويلة المدى مساحة تخزين هائلة. فتتضمن مثلًا جميع كلمات اللغة(٦٠-٨٠ كلمة) ،ووجوه وأسماء جميع الأشخاص اللذين تعرفهم، والأماكن التي تتردد عليها، والكتب التي تقرأها، والأغاني التي تسمعها وغيرها الكثير، وهذه كمية معلومات هائلة. حتى الآن لم يستطع العلماء حصر المساحة الكاملة للذاكرة طويلة المدى.

الذاكرة قصيرة المدى

أما عن الذاكرة قصيرة المدى فهي محدودة للغاية مقارنة بنظيرتها. فلا تحمل من يزيد عن تسع قطع أو Chunks. والقطعة هي المصطلح الذي أعطاه عالم النفس جورج ميلر لوحدات التخزين الرئيسية للذاكرة. مثال: l a m a i s o n كل حرف من هذه الحروف يمثل قطعة أو Chunk، وإذا لم تستطع تكوين كلمات منها فستراها كسبع قطع منفردة. أما إذا كنت تعرف الفرنسية فستراها كقطعتين فقط، كلمة la وكلمة maison بمعنى المنزل.

وبالطبع يصبح تذكرها في هذه الحالة أسهل. وهنا يمكننا القول أن مقدار المعرفة يؤثر على مقدار ما نتذكر. لأنه يؤثر على ما يمكن احتسابه كقطعة/وحدة تخزين في الذاكرة، وهذا يظهر في «تأثير الخبراء-Expertise effect».

يظهر تأثير الخبراء في أحد التجارب التي أُجريت على مجموعة من المبتدئين والخبراء في لعبة الشطرنج. عُرضت عليهم اللوحة لعدة ثوان، وقطعها مرتبة بترتيب معين لاستراتيجية معروفة لممارسي اللعبة، ثم طُلب منهم إعادة ترتيبها بأنفسهم. استطاع الخبراء فعل هذا الأمر بسهولة بينما تعثر المبتدئين ووقعوا في بعض الأخطاء. وعند إعادة التجربة بترتيب القطع ترتيبًا عشوائيًا لا يشبه أي استراتيجية مألوفة. تعثر كل من الخبراء والمبتدئين في إعادة الترتيب.

وتؤكد هذه التجربة أن زيادة المعرفة وإضفاء المعنى والمنطق على المعلومة يساهم في تذكرها وسهولة تخزينها. رجوعًا إلى الذاكرة طويلة المدى، كيف تنتقل المعلومات من تذكرها لعدة ثوانٍ فقط (الذاكرة قصيرة المدى) إلى الاحتفاظ بها لعمر كامل (الذاكرة طويلة المدى)؟

ذكرنا أن الممارسة أو تكرار المحفز داخل رأسك مرارًا وتكرارًا يُمكنك من الاحتفاظ به في الذاكرة قصيرة المدى. فيظل الأمر عالقًا داخل رأسك طالما تكرره، لكنه لا يترسخ في الذاكرة طويلة المدى. تحتاج المعلومات إلى التنظيم والمعنى لكي تترسخ فيها. بمعنى أنه كلما فكرت في الأمر بشكل أعمق، كلما أكسبته المعنى والمنطق فيما عرفناه بالمعالجة العميقة، صار تذكره أسهل.

ثالثًا: عملية «الاسترجاع-Retrieval»

وكما يوضح الاسم تختص هذه العملية باسترجاع المعلومات المخزنة.

وتنقسم عملية الاسترجاع إلى مرحلتين:

أولًا «الاستعادة-Recall» وهي استخراج الذكرى فقط.
ثانيًا «الادراك-Recognition» وهو إدراك معنى الذكرى، وما كانت تتناظر معه في الماضي.

ويحدث الاسترجاع بشكل أساسي عن طريق «دلالات الاسترجاع-Retrieval cues» وهي إشارات ترتبط بالأمر الذي تحاول تذكره، فعندما تدعو شخصًا لموعد غداء ثم تراه صدفة، تتذكر هذا الموعد. وهذه الحالة (عندما يتماثل السياق الذي حدث فيه ترميز المعلومة واسترجاعها) تُعرف بمبدأ التوافق.

بمعنى أنك تتذكر الأشياء بشكل أفضل في السياق الذي تعلمته بها. فيما يعرف أيضًا بـ «الذاكرة المعتمدة على السياق-Context dependent memory» و«الذاكرة المعتمدة على الحالة-State dependent memory».

مثال: -من المرجح أنك ستتذكر المعلومات بشكل أفضل في امتحانك النهائي، إذا حضرته في نفس القاعة التي حضرت فيها محاضراته. لأن وجودك في نفس الغرفة سيعيد إليك دلالات الاسترجاع.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء تحت تأثير المخدرات (تأثير منخفض لا يؤثر على النشاطات العقلية الأخرى) يتذكرونها بشكل أفضل وهم تحت تأثير المخدرات مجددًا لا في حالتهم الواعية. هذا الأمر ينطبق أيضًا على شرب الكحوليات.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء وهم في حالة اكتئاب، أكثر قدرة على تذكره وهم في نفس الحالة المزاجية لا في حالتهم الطبيعية. وهنا توضح لنا هذه الأمثلة أن جزء كبير من استرجاع المعلومات يعتمد على استرجاع السياق الذي تم ترميزها به.

عندما تخفق الذاكرة- النسيان

تحدثنا عن العالم من حولنا ودور الانتباه في انتقاء المعلومات البارزة أما إراديًا أو لا إراديًا لكي تدخل المخ. وكيف تتم معالجة المعلومات في المخ من ترميز وتخزين واسترجاع. لكن يبقى مسار آخر لم نتحدث عنه وهو النسيان، ليس كل ما نتذكره نحتفظ به للأبد.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

كيف يحدث النسيان؟

النسيان نوعان:

النسيان الطبيعي

الذي يحدث بمرور الزمن وتغير الأشياء وله أسبابه:

أحد التفسيرات أن المخ شيء مادي، وجميع الأشياء المادية تتلف مع الوقت، كذلك مسارات المخ فيحدث النسيان.

الإجابة الثانية هي التداخل. تزداد صعوبة استرجاع المعلومات عندما يتعلم الشخص معلومات أخرى مشابهة لها. لذا يمكن القول أن قدرة الشخص على التعلم تضعف عندما يتعلم المزيد من الأشياء المتصلة بها، بسبب حدوث التداخل أو ارتباك داخل الذاكرة. بسبب تغير دلالات الاسترجاع: كلما مر الوقت كلما تغير العالم، وبما أن التذكر يعتمد بشكل كبير على دلالات الاسترجاع، فكلما تتغير أو تقل يحدث النسيان.

النسيان الذي يحدث بسبب تلف المخ.

مثل: «فقدان الذاكرة الرجعي-Retrograde amnesia» وهو فقدان جميع ذكريات الماضي، وقد يحدث نتيجة صدمة في الرأس فيفقد الشخص جميع ذكريات ذاكرته العرضية/ذاكرة السيرة الذاتية المختصة بأحداث حياته، وهذه هي الصورة التقليدية لفقدان الذاكرة كما ذكرنا.

«فقدان الذاكرة التقدمي-Anterograde amnesia» وهو فقدان القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة، والمثال الأشهر على ذلك هو كلايف ويرنج الذي ذكرناه في بداية المقال.

ويرنج موسيقي بريطاني أُصيب يومًا بفيروس الزهري، الذي انتقل إلى مخه وأحدث تلفًا في الحصين وهو الجزء المختص بالذاكرة. فقد ويرنج ذاكرته الرجعية باستثناء بعض الأحداث المهمة مثل حبه لزوجته وامتلاكه لأولاد لا يذكر أسمائهم وكيفية لعب البيانو. وفقد ذاكرته التقدمية ففقد القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة وعاش في حاضر دائم. لذا ينسى أنه رأى زوجته منذ دقائق معدودة فيحييها كأنه يراها أول مرة، وينسى أنه استيقظ من النوم فيقضي يومه في الاستيقاظ مجددًا كل بضعة دقائق!

يُفسر عدم نسيان ويرنج لكيفية لعب البيانو إلى أن هذا الفعل يُخزن في «الذاكرة الاجرائية-procedural memory» من الذاكرة طويلة المدى، وهذا الجزء من المخ لم يُصب بأذى. فبينما تتذكر أصابعه كيفية اللعب تغيب عن ذاكرة ويرنج أية ذكرى لتعلمه العزف. واعتبر العلماء حالة كلايف ويرنج من أشد حالات فقدان الذاكرة التي عرفتها البشرية على مر التاريخ.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

والآن إذا نجح هذا المقال في الاستحواذ على انتباهك، واستطاعت بعض معلوماته اجتياز حاجز الترميز والتخزين ووصلت بمساعدة المعنى والمنطق إلى الذاكرة طويلة المدى. فلا تنسى حديثنا عن الانتباه ورؤيته المحدودة للواقع بأفكارنا ومشاعرنا وتفضيلاتنا. كذلك كيفية صنع الذكريات، والعمليات الثلاثة التي تمر بها المعلومات لتصنع ماضينا وحاضرنا. وأخيرًا النسيان كناتج طبيعي لتغير المخ والعالم. وحالة كلايف ويرنج الشهير الذي يعيش في حاضر دائم.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

مصادر ( كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟ ):

1- simplepsychology
2- psychology.wikia.
3– /psychology.wikia

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟ سنتحدث اليوم عن جانب آخر مثير للإهتمام من الحياة العقلية البشرية، وهو الإدراك. ما الإدراك؟ كيف نتعرف على العالم من حولنا؟ وهل كل ما نراه حقيقيًا؟

دعونا نبدأ حديثنا بهذه الجملة: أيًا كان ما تراه أمامك حاليًا وتظنه حقيقيًا، فأنت على الأغلب مخطيء حياله، أو دعنا نقول (واهم)!

ما الإدراك ؟

الإدراك هو قدرة المخ على إيجاد المعنى فيما تختبره الحواس. فيدرك الشخص ماهية الأشياء والأشخاص من حوله. فيمكنه التمييز بين وجه صديقه وغريمه، ويدرك الفرق بين رائحة العطر والحريق! وعملية الإدراك تحدث بشكل لا واعي كما أنها ليست محايدة على الإطلاق. فيتأثر إدراكنا للعالم بالمعرفة والخبرة والمعايير الثقافية وحتى الحالة المزاجية.

عند دراسة الآلات والروبوتات، وُجد أن جميع المحاولات لصنع آلة تستطيع إدراك الأشياء فشلت فشلًا ذريعًا. فلا يوجد آلة على الأرض تستطيع التعرف على الأشخاص والأشياء بمستوى طفل ساذج بعمر السنة الواحدة. فما سبب هذه الصعوبة؟

دعونا نشرح الأمر من البداية، هناك العين، وهناك الشبكية الحساسة للضوء التي تقع في الجزء الأعمق من العين. عندما يصطدم الضوء المنعكس من البيئة حولنا بالشبكية، تستقبل خلاياها الضوء وتحوله إلى إشارات كهربية/نبضات عصبية تنتقل إلى الدماغ. حيث يحدث الإدراك. لكن هنا تظهر مشكلة جديدة. كيف يمكن للشبكية إدراك الأشكال والأجسام من حولنا؟

عبقرية الشبكية

الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، ويرى البشر العالم من حولهم بشكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الأمر (أن تختبر العالم من حولك بشكل ثلاثي الأبعاد مستخدمًا سطحًا ثنائي الأبعاد) مستحيل رياضيًا. إلا أنه حقيقي وحي فينا، فكيف يحدث؟

الحقيقة أن رؤية البعد الثالث: العمق -وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا- خدعة من المخ. حيث ترسل كل عين نسختها -ثنائية الأبعاد- إلى المخ، الذي يستخدم بعض الدلالات أو الافتراضات ليكون نسخته ثلاثية الأبعاد عن العالم. ويستخدم المخ هذه الدلالات بشكل لا واعي، وهي لا تختص بإدراك العمق فقط بل بإدراك الألوان والأجسام أيضًا.

وما يعنيه هذا أن المخ هو المسئول بشكل كامل عن الإدراك وبالتالي تكوين الصورة ثلاثية الأبعاد. أما العينان فهما مصادر خام للبيانات فقط. وهذه البيانات ليست ما نراه فعليًا. ما نراه فعليًا يحكمه المخ (بمعرفته وخبراته وخلفيته الثقافية وحالته المزاجية) وليس العينان.

أولًا: إدراك الألوان

العين البشرية مدهشة في رؤية الألوان. فيمكن للشخص العادي التمييز بين ما يقرب من مليون درجة لون مختلفة. ولا يرتبط تمييزنا لأبيض الثلج وأسود الفحم مثلًا بالمادة التي تكون كل منهما فقط. ولكن بكمية الضوء المنعكس عن كل منهما أيضًا. وهو ما يجعلنا نرى شخص يتحرك من النور إلى الظل دون أن نهلع ونعتقد أنه شخص آخر! بل تدرك عقولنا -وبشكل تلقائي- أنه مازال نفس الشخص.

ثانيًا: إدراك الأجسام

برمجة حاسوب يستطيع التمييز بين عدة أشكال مختلفة أمر صعب للغاية. وأحد الإجابات المقترحة لطريقة تعرف البشر على الأجسام المختلفة هي «التقسيم- Segmentation».

ويحدث التقسيم عن طريق عدة دلالات في الطبيعة ترشد المخ أنه يتعامل مع أشكال مختلفة. وهذه الدلالات تعرف باسم «مباديء الجشطالت-Gestalt principles». كل منها موضح في الصورة التالية:

  • «الإغلاق-Closure» بمعنى أننا نميل إلى ملأ الفراغات، ورؤية العناصر في أشكال كاملة. عوضًا عن أجزاء متفرقة.
  • «التقارب-Proximity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر القريبة من بعضها في مجموعة واحدة.
  • «الاتصالية-Continuity» بمعنى أننا نربط بين العناصر التي تتبع خطًا أو منحنى واحدًا. على عكس العناصر التي لا تتبع نمطًا معينًا.
  • «التشابه-Similarity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر المتشابهة في مجموعة واحدة، كما نعتقد أن لديهم نفس الوظيفة.
  • «الشكل/الخلفية-Figure ground» بمعنى أننا نميل تلقائيًا لتحديد العناصر وفصلها عن عن الخلفية المحيطة بها.

وباستخدام هذه المباديء/الدلالات يحول المخ المعلومات البصرية غير المألوفة إلى صور أكثر منطقية وقابلة للإدراك والفهم. فتتحول الصورة من مجرد عدة مكونات متفرقة لا رابط بينها إلى لوحة متكاملة ذات معنى.

ثالثًا: إدراك العمق

ندرك بواسطة العمق مسافة الأشياء وشكلها الحقيقي. وذكرنا قبل قليل أن الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، وأن إدراك البعد الثالث -العمق- يحدث في المخ. باستخدام عدد من الدلالات المثيرة للاهتمام. وتنقسم هذه الدلالات إلى:

  • «دلالات ثنائية العينين-Binocular Cues» ومنها:

«التفاوت الشبكي-Retinal Disparity». وهي دلالة العمق الوحيدة التي تتطلب استخدام العينين. وما يحدث أنه نتيجة لبعد العينين عن بعضهما بحوالي ٦ سم، تختلف الصورة في كلا الشبكيتين اختلافًا بسيطًا. ويستخدم المخ هذه الدلالة ليحكم على المسافة. فكلما قَرُب الجسم، كلما زاد الاختلاف بين الصورتين والعكس صحيح. ويمكنك رؤية التفاوت الشبكي بوضوح عندما تضع اصبعك مباشرة أمام عينيك. فتراه اثنين وليس واحدًا.

  • «دلالات أحادية العينين-Monocular Cues» وهي الدلالات التي تتطلب استخدام عين واحدة. وتساعد في تحديد مسافات الأجسام البعيدة ومقاسها. ومنها:

– «الحجم النسبي-Relative size» وهنا يستخدم المخ حجم الأجسام لتحديد مسافتها. فعند مقارنة جسمين من نفس الحجم تقريبًا، سيظهر الجسم الأقرب أكبر حجمًا من الجسم الأبعد.
– «المنظور الخطي-Linear Perspective» وهنا يرى المخ أنه كلما اقترب خطان متوازيان من بعضهما. كلما زادت المسافة.
– «التداخل-Interposition» ويحدث هذا عندما يحجب جسم جزءًا من جسم آخر. فيرى المخ الجسم الذي يظهر بشكل كامل (غير المحجوب) أقرب من الجسم المحجوب.
– «تدرج النسيج-Texture gradient» وهو ما يحدث حينما تراقب حقلًا ممتدًا، فتتلاشى تفاصيل شكل العشب بابتعاد المسافة. وتظهر التفاصيل واضحة بالقرب منك.

اقرأ المزيد عن عملية الرؤية وتفسيراتها

لا تثق في كل ما تراه!

رغم دقة عمل هذه الدلالات التي سبق وسردناها. والتفاصيل الصغيرة التي تختص بها كل منها. إلا أنه لا يمكننا الثقة بها دائمًا، فهناك حالات حيث تخدعنا جميعًا. وهنا يظهر مفهوم «الخداع البصري-Optical illusion».

يحدث الخداع البصري عن طريق ترتيب الأشكال أو تغيير الألوان أو الإضاءة بشكل معين، مما يضلل المخ فيرى ما ليس حقيقيًا. وللخداع البصري أمثلة كثيرة منها:

  • «خداع ميولر لاير-Muller lyer illusion» وهو عبارة عن خطين كما بالصورة. فأيهما أطول؟

إذا كنت مثل أغلب الناس ستكون إجابتك ان الخط العلوي أطول. أما الحقيقة أن الخطين متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك عن طريق دلالات العمق: يحتل الخطان نفس المسافة على شبكية عينك. لكن رغم ذلك يظهر أحدهما أطول من الآخر، لأنه هناك خطوط أخرى في الصورة تجعل مخك يصنع تخمينات عن المسافة. فيعطي السهم الذي يشير للخارج إيحاء أنه يقع على مسافة أبعد من السهم الذي يشير للداخل، وبالتالي يستنتج المخ أنه لا بد للخط الأبعد أن يكون أكبر حجمًا من الخط الأقرب.

  • «خداع بونزو-Ponzo illusion»

وهنا يظهر خطان أيضًا، وعلى الأغلب سترى الخط العلوي أطول من الخط السفلي. لكنهما في الحقيقة متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك في إطار دلالة المنظور الخطي التي سبق وشرحناها. فنجد الخطين المتوازيين يقتربان من بعضهما في حالة الخط العلوي مما ينبه المخ أن المسافة هنا أبعد. وبالتالي لا بد أن يكون حجم الخط أكبر.

نسختك المميزة عن العالم

في الختام، يمكننا القول أن عملية الإدراك البشري بالغة التعقيد. وأنه لكي تنظر إلى وجه صديقك وتعرف أنه صديقك -لا مجموعة أشكال غير مترابطة أو مألوفة- يبذل مخك الكثير من المجهود. فتتعاون الشبكية المدهشة مع خلايا المخ لتكوين الصورة الكاملة في جزء من الثانية. صورة تدرك فيها الجسم ولونه وحجمه وبعده وحركته. صورة مميزة يستخدم فيها عقلك البيانات الخام ثم يضفي عليها المعنى والسحر. لترى العالم بطريقة لا يراها أحد غيرك، فتتكون نسختك المميزة عن العالم!

المصادر

  1. britannica
  2. lumenlearning
  3. verywellmind
  4. verywellmind
  5. newworldencyclopedia
Exit mobile version