ملخص كتاب الإنسان يبحث عن المعنى للكاتب فيكتور فرانكل

يعود كتاب الإنسان يبحث عن المعنى للمؤلف وطبيب الأمراض العصبيّة والنفسيّة النمساوي الشهير فيكتور فرانكل. حدّد فرانكل معلماً جديداً من معالم العلاج النفسي، وهو العلاج بالمعنى. أي أنّ الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو هدفاً فإنّ هذا يدلّ على أنّ وجوده في الحياة له مغزى وأنّه يستحق أن يعيشها وأن يستمتع بها. ويصور المؤلف في صفحات هذا الكتاب معاناته في معكسر الاعتقال لدى النازيين، ومحاربته من أجل الاستمرار بالحياة رغم كل العذاب.

خبرات في معسكر الاعتقال

يتحدّث الكتاب عن خبرة شخصيّة من الخبرات التي يعاني منها العديد من السجناء. ويجيب عن سؤالٍ مهم للغايّة، وهو كيف انعكست الحياة اليوميّة في معسكر الاعتقال على عقل السجين.

إنّ حالة الإقصاء والتنقل التي كان يعلن عنها رسميّاً لترحيل عدد معين من المسجونين إلى معسكر آخر هي حالة تنطوي على تخمين صادق إلى حد ما بأنّ المصير النهائي لهذا الانتقال هو غرف الإعدام بالغاز وبأفران إحراق جثث الموتى. كان يسيطر على عقل كل سجين فكرة أساسيّة، وهي أن يظل على قيد الحياة من أجل الأسرة التي تنتظره في المنزل ومن أجل أن ينقذ أصدقائه.

لم يتم استخدام فيكتور كطبيبٍ في المعكسر إلّا في الأسابيع الأخيرة من اعتقاله. وكانت كل الأعمال الشاقة التي يقوم بها عبارة عن الحفر لوضع العوارض الخشبيّة اللازمة لمد الخطوط الحديديّة، وحفر الأنفاق المائيّة.

أطوار ردود الأفعال العقلية للسجناء

يقول المؤلف أيضاّ بأنّ هناك ثلاثة أطوار تمرّ بها ردود الأفعال العقليّة لنزلاء السجن. تبدأ بالفترة التي تعقب دخول السجن مباشرةً، ثم الفترة التي يكون فيها النزيل قد اندمج في نظام المعكسر، والفترة الأخيرة وهي الفترة التي تعقب إطلاق سراحه.

يوجد في الطب النفسي حالة من الوهم تُسمى بوهم الإبراء، هذه الحالة التي يشعر بها الشخص المُدان قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه. حيث ينتابه شعور غامض يشبه الوهم وهو أنّه سيأتي أحد وينقذه قبل الإعدام في اللحظات الأخيرة. هذه الأوهام التي راودت بعض السجناء، سرعان ما بدأت تتحطّم واحدة تلو الأخرى، ليُحل مكانها إحساس مروّع بالفكاهة والمرح. يعتقد الكاتب أن ذلك الإحسانس نابع عن يقين تام أنّ ليس لديهم ما يفقدونه عدا حياتهم المتعريّة.

لقد أيقن الكاتب خلال تواجده في السجن بأنّ الإنسان يستطيع أن يتأقلم ويتعوّد على أي شيء. وبالرغم من أنّ الطب النفسي لم يستطع تفسير هذه الحالة إلى هذا اليوم، فمثلاً إنّ الإنسان الذي يتمتّع بالنوم الخفيف والذي اعتاد أن يستيقظ حال سماعه أي صوت بسيط، يجد نفسه راقداً في التصاق بزميله في السجن دون أن يتأثر بصوت شخيره أو بأي صوتٍ مزعج آخر.

إنّ فكرة الانتحار هي فكرة تراود كل شخص مسجون تقريباً، وذلك نتيجة الإحساس بالعجز الشديد. كما أن الانتحار هي فكرة تلازم الشعور بخطر الموت الذي يُحيط بالسجين من كل جانب. ويرى كاتب الإنسان يبحث عن معنى أن السجين الوافد حديثًا يعيش ألواناً من الانفعالات المؤلمة نتيجة شوقهِ العارم لأسرته وبيته. كما يغلب عليه شعوره بالاشمئزاز مما يحيط به في السجن.

كان المسجون يجلد بسبب أبسط أشكال الاستفزاز، وفي بعض الأحيان دون أي أسباب على الإطلاق. وعند هذه اللحظة لم يكن الألم الجسدي هو الذي يسبب الأذى للسجين، وإنّما الألم النفسي الناتج عن الشعور بالظلم. كانت كل أحلام السجين تدورُ حول الخبز، والكعك، والسجائر، والحمامات الساخنة. وكان السجين يستيقظ من نومه ليصطدم بواقعهِ المليء بالعذاب، وهذا ما يجعله ضحية التناقض بين حقيقة الواقع ووهم الأحلام.

المبادئ الأساسيّة للعلاج بالمعنى

يقول الكاتب بأنّ العلاج بالمعنى يُركّز على المستقبل، وعلى المعاني التي يجب أن يضطلع بها المريض في مستقبله. إنّ سعي الإنسان إلى البحث عن المعنى، هو قوة أوليّة في حياتهِ، وليس تبريراً ثانويّاً لحوافزه الغريزيّة. فالإنسان قادر على أن يحيى وأن يموت في سبيل قيمه وطموحاتهِ. لايوجد شيء في الدنيا يُمكن أن يُساعد الإنسان بفعاليّة على البقاء حتى في أسوأ الظروف، مثل معرفته بأنّ هناك معنى في حياته.

إنّ اندفاع الطاقة الجنسيّة يُصبح متفشيّاً في حالات الفراغ الوجودي. لكن معنى الحياة يختلف من شخصٍ لآخر، وعند الشخص الواحد من يومٍ ليوم، ومن ساعة إلى أخرى. لذا يعتقد الكاتب أنه يجب ألّا نبحث عن المعنى مجرد للحياة، فلكل فرد رسالته الخاصة في الحياة.

إنّ العلاج بالمعنى يحاول أن يجعل المريض واعيّاً كل الوعي بالتزامهِ بمسؤوليتهِ. ولذا يجب أن نترك للمريض حرية اتخاذ القرار بشأن إدراكهِ لنفسهِ كشخصٍ مسؤول يتحمّل مسؤولية اختياره لأهدافه في الحياة. ويُشير المؤلف أيضاً بأنّ معنى الحياة يتغيّر دائماً، لكنهُ لا يتوقف أبداً عن أن يكون موجوداً.

يرى كاتب الإنسان يبحث عن المعنى أن الحب هو الطريقة الوحيدة التي يدرك بها الإنسان كائناً إنسانيّاً آخر في أعماق أغوار شخصيتهِ. فلا يستطيع الإنسان أن يصبح واعيّاً كل الوعي بالجوهر العميق لشخصٍ آخر إلّا إذا أحبه. إن معنى المعاناة الحقيقيّة هو عندما يجد شخص نفسه في موقف لا مفر منه، وحينما يكون على شخصٍ أن يواجه قدراً لا يُمكن تغييره. تحدث تلك المعاناة عندما نصاب بمرض عضال مثل السرطان، عندئذٍ فقط يكون أمام الشخص فرصةً أخيرة لتحقيق المعنى الأعمق، وهو معنى المعاناة.

هناك بعض المواقف التي قد يُحرم فيها الإنسان من فرصة الاستمتاع بحياتهِ، ولكن الذي لا يمكن استبعاده أبداً هو حتميّة المعاناة. فإذا تقبلنا تحدي المعاناة بشجاعة كان للحياة معنى حتّى اللحظة الأخيرة.

التسامي بالذات

يقول المؤلف في هذا الكتاب بأنّ الوجود الإنساني يتميز بنوعٍ خاص من ظاهرتين إنسانيتين، وهما التحرر الذاتي، والتسامي بالذات. إنّ تحقيق الذات ليس هو الغايّة القصوى عند الإنسان، ولا حتّى مقصده الأول. وذلك لأنّ تحقيق الذات إذا صار غاية في حد ذاتهِا فإنّه يتعارض مع خاصيّة تجاوز الذات أو التسامي بالذات. إنّ التسامي بالذات هو جوهر الوجود، إذ يقول العالم آنشتاين بأنّ الإنسان الذي يعتبر حياتهُ جوفاء من المعنى، فهو ليس غير سعيد فحسب، ولكنه يكون غير صالح لأن يعيش. ومع ذلك فإنّ الملل والتبلد آخذان في الانتشار في العالم الحالي، وينتشرُ معهما كذلك الشعور بالفراغ وباللا معنى.

من خلال قراءة الكتاب “الإنسان يبحث عن المعنى” فهمت بشكل شخصي أن كلٍ منا اهمية تحديد غاياته الشخصية وهدفه في الحياة. إذ يعمق الكتاب دور البحث عن المعنى الكامن وراء تجاربنا. تعلمت أهمية الصمود في وجه الصعوبات وكيف يمكن للتفكير الإيجابي والتفاؤل أن يلعبان دورا كبيرا في بناء حياة ممتلئه بالرضا الداخلي. تعلمت أيضاً أهمية الايمان بالذات والتسامح مع الذات والقدرة على الاستفادة من التجارب السلبية للنمو الشخصي.

ملخص كتاب أسس التفكير العلمي للدكتور زكي نجيب محمود

يتحدث الكاتب عن أهمية وضوح التفكير العلمي وتجنب اللبس بين المتشابهات للقارئ العام. يؤكد على تنوع مجالات النشاط الذهني للإنسان، مشيرًا إلى أن المنهج العلمي ليس الوحيد وأن هناك ميادين أخرى للنشاط الإنساني. كما يركز الكتاب فقط على المنهج العلمي، فيقول أن الملاءمة في كل ميدان تستند إلى خبرة الإنسان عبر تاريخه، مع تشديده على أهمية الالتزام بمنهج المجال المحدد مع إمكانية التعديل بناءً على التجارب والتطور.

الشعر والعلم

يستعرض الدكتور زكي نجيب محمود التصادم بين الشعر والعلم. حيث يظهر أنه لا يمكن لعالم الجيولوجيا أن يعترض على تصريح شاعر يتحدث عن تكوين الأرض بطريقة شعرية. ويقول أن لكل من الشعر والعلم ميزانًا خاصًا. حيث يقيم النقاد الأدبيون جودة الشعر، بينما يعتمد العلم على أصول المنهج العلمي.

يستعرض الكاتب تفاوت محتوى مجال التفكير العلمي ويقارن بين مستويات التجريد والتعميم، ويقدم مثالاً عن الأقلام. حيث يناقش قدرتنا على التعرف على القلم كشيء بشكل فردي معين، ولكن عندما نقوم بالتجريد وخلع الخصائص الجزئية كاللون والحجم، يبقى لدينا مفهوم فكري مجرد عن القلم.

يسلط الكاتب الضوء على أن هذا التجريد يبعدنا عن الواقع الحسي، مشيراً إلى أن العقل يلعب دورًا رئيسيًا في عملية الإدراك، حتى وإن كان مستندًا إلى الأقلام الجزئية في العالم المحسوس. كما يعتقد الكاتب أن الحقائق العلمية تتفاوت في درجات التجريد والتعميم، حيث تتنوع مستويات التجريد والتعميم بحسب نطاق الاستنباط الذهني للمفاهيم العلمية المختلفة.

علوم مختلفة

يستعرض الدكتور زكي نجيب محمود تنوع العلوم في مجالات مختلفة مثل الرياضة والطبيعة، مشيراً إلى وجود تسميات متنوعة مثل “علوم اجتماعية” أو “علوم إنسانية” لبعض الصنوف. يثير ذلك التنوع سؤالًا حول ما إذا كانت جميع هذه التنوعات في المجالات العلمية تتشارك في نمط فكري واحد يمكن تسميته بالتفكير العلمي أم لا.

وقفة عند التفكير الرياضي

يشير الكاتب إلى اتجاهات الأفراد نحو التفكير العلمي، حيث يلاحظ أن الانتباه يتجه غالبًا نحو التفكير الطبيعي التجريبي في مجال العلوم. ومع ذلك، يشير إلى وجود نوع آخر من التفكير يختلف جوهريًا عن منهج العلوم الطبيعية، وهو التفكير الرياضي. يستخدم مصطلح “الرياضة” هنا ليشمل الجبر والحساب والهندسة، مشيرًا إلى أن هذا النوع من التفكير يتبع نهجًا مميزًا يتمثل في السير من الفرضيات إلى النتائج بنفس الطريقة المستخدمة في العلوم الطبيعية.

وقفة عند التفكير التجريبي

يشدد الكاتب على أهمية التفكير الرياضي كنوع آخر من التفكير العلمي. ويرى أنه على الرغم من تركيز الانتباه على التفكير التجريبي الطبيعي في العلوم، إلا أن التفكير الرياضي له أهمية كبيرة في تاريخ الإنسان والتفكير العقلي. كما يقول بأن التفكير الرياضي يمتد جذوره إلى العصور القديمة، بينما ظهر التفكير العلمي التجريبي في وقت لاحق. يُشير الكاتب إلى أن الفكر اليوناني القديم كان يتبنى منهجًا رياضيًا في الفكر، حيث يستند إلى فرضيات، ويستخرج منها حقائق مستنتجة.

تحويل الكيف إلى كم

يقدم الكاتب تفسيرًا لمصطلحي “الكيف” و”الكم” في سياق الفكر الفلسفي، وفي تفاعلهما مع التفكير العلمي. ويشير إلى وجود مستويين لإدراك الإنسان لبيئته، حيث يعامل المستوى الأول بشكل يومي يعتمد على الحواس والأشياء الظاهرة الملموسة. بينما يتسم المستوى الثاني بالتعامل مع البحث العلمي والتفكير الكمي في علوم متقدمة. يوضح كيف يتم التعامل مع مصطلح “الماء” على مستوى الحياة اليومية، بينما يتفاعل معه في العلم بشكل تحليلي يفصل بين عناصره الكيميائية؛ وهذا يدل من وجهة نظره على دقة البحث والتفكير العلمي مقارنة بمستوى تعاملنا في الحياة العامة.

التفكير العلمي الموضوعي

يقدم الكاتب تفسيرًا للتقسيم بين “كيف” و”كم” في الفكر العلمي، حيث يركز على التفكير العلمي الذي يتناول الجوانب الكمية بشكل أساسي، ويحاول التخلص من الجوانب الكيفية. ويقوم بتوضيح التقسيم بين الصفات الأولية (الموضوعية) والثانوية (الذاتية). حيث يشير إلى أن الأولى تتعلق بصفات الأشياء بشكل موضوعي بمرور الوقت. بينما الثانية تعتمد على تفاعل الإنسان معها بشكل شخصي.

يبرز أهمية أن تكون القضايا العلمية المطروحة قابلة للتحقق بوسائل يمكن فهمها وتقييمها من قبل باحثين آخرين، مما يجعلها قضايا اجتماعية يجب أن تتبنى لغة ورموز معترف بها في المجال العلمي.

ولكن ماذا عن العلوم الإنسانية؟

في هذا الجزء، يروي الكاتب تجربته كأستاذ زائر في جامعة أمريكية خلال العام الجامعي 1953 – 1954. ويشير إلى تقليد الجامعة في استضافة رجال علم بارعين، فيتحدث عن زيارة “هنري مارجينو” الذي كان يهتم بفلسفة العلوم. ويسرد محاضرات “مارجينو” حول فلسفة العلوم الإنسانية، مقدمًا سؤالًا حول المنهج في هذا الميدان. يصف الكاتب لحظة صمت قصيرة قبل أن يبدأ بطرح أفكاره حيث يقترح أن التناول العلمي يمكن تطبيقه على كل ظاهرة تحت المشاهدة، سواء كانت إنسانية أو غيرها، مع إمكانية تطوير منهج خاص للظواهر التي تفوق إمكانيات المنهج الطبيعي.

العلم وحده لا يكفي

في هذا الجزء، يشبه الكاتب حياة الإنسان بقصر ذي غرف كثيرة، ويعبر عن تقصيره في استكشاف جميع جوانبها، متحدثًا عن الجانب الذي اختاره للتفكير العلمي، وهو غرفة العلم. يشدد على أنه في هذه الرحلة تم اختيار نافذة وباب محددين، الأولى تطل على الواقع الذي يمكن حسابه بالأرقام، والثاني يدخلهم إلى تلك الغرفة عبر المنهج العلمي. ويحذر القراء من إهمال أو تجاهل بعض الجوانب الإنسانية العميقة والمعقدة التي قد لا يكون التفكير العلمي قادرًا على إلقاء الضوء عليها، مثل العواطف والقيم.

يرى الكاتب أن غاية الإنسان تتمثل في أن يكون كائنًا حرًّا، ويتحقق ذلك من خلال العلم والوجدان. ويبرز دور العلم في فهم قوانين الطبيعة وتحقيق التفوق على قيودها، ويمكن للعلم أن يساهم في تحريرنا من قيود الزمان والمكان. بالإضافة إلى ذلك، يتحدث عن أهمية الوجدان والإيمان في تحطيم قيود الحاجة وتحقيق أشكال متنوعة من الحرية، مثل الإنفاق في سبيل الخير والترفّع عن الحاجات الضيقة. كما يقارن بين حرية العلم وحرية الوجدان، مشيرًا إلى أنهما يمثلان جوانب مهمة من الحرية التي تمكّن الإنسان من التفوق والتحرر.

ملخص كتاب التجديد والتحريم والتأويل للكاتب نصر حامد أبو زيد

صدر كتاب التجديد والتحريم والتأويل للكاتب نصر حامد أبو زيد عام 2010. يُعتبر هذا الكتاب خطوةً في المشروع التأويليّ، الذي كرّس الدكتور نصر جهوده فيه لمحاولة تجديد الفكر الدينيّ وتحرير العقل من التزمّت والنزعة الأصوليّة عن طريق صياغة قراءةٍ معاصرةٍ متجدّدةٍ تقتضي مواجهة التأويلات التقليديّة. فالتجديد عنده ليس رغبةً شخصيّةً، بل هو حاجةٌ ملحّةٌ في ضوء المتغيرات التاريخيّة والاجتماعيّة دون المسّ بالطبيعة الإيمانيّة للخطاب القرآنيّ. وعلى الرغم من ذلك، أثارت أفكاره زوبعة انتقاداتٍ من أصحاب العقل الفقهيّ انتهت إلى محاكمته وتفريقه عن زوجته بحجّة الارتداد عن الدين. فماذا قال أبو زيد في كتاب التجديد والتحريم والتأويل؟

«التجديد في أيّ مجالٍ لا ينبع من رغبةٍ شخصيّةٍ أو هوىً ذاتيٍّ عند هذا المفكّر أو ذاك، بل هو أمرٌ ملحٌّ لإطلاق الطاقات وتحريك حالة الركود التي تعاني منها مجتمعاتنا، وهو تعبيرٌ عن المسؤوليّة.»

نصر حامد أو زيد

أهميّة تجديد الخطاب الديني

تظهر الحاجة إلى التجديد عندما تتأزّم الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. فتدخل الأمّة في حالةٍ من الركود واجترار إنجازات وانتصارات الماضي هرباً من انكسارات وخيبات الحاضر. والتجديد عمليّة تواصلٍ خلّاقٍ بين الماضي والحاضر. فهو خروجٌ من التقليد الأعمى وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وتحررٌ من التبعيّة الفكريّة للغرب باسم التطور.

التجديد في ضوء المتغيّرات الاجتماعيّة

ظهرت في القرن التاسع عشر، واستقرت في القرن العشرين، قناعةٌ بأنّ مجتمعاتنا دخلت مرحلة الحداثة بسبب التغيّر الكبير الذي حدث في البنية السياسيّة وبدايات تشكّل الدولة الحديثة. ولكنّ الهزيمة المدوّيّة في حرب عام 1967 أظهرت أنّ مجتمعاتنا ما تزال مجتمعاتٍ تقليديّةٍ. وأنّ آليّات اتخاذ القرارات آليّاتٌ غير مؤسّساتيّةٍ تابعةٌ لرغبة القائد. استوجب ذلك إعادة قراءة التراث، ليس بهدف التقليد وإعادة الإحياء، بل بهدف النقد واستخلاص النتائج وفق رؤيةٍ حداثيّةٍ.

تقوم الجماعات السياسيّة وأنظمة الحكم المستبدّة بمحاولة توظيف الدين لتحقيق غاياتٍ شخصيةٍ أو حزبيةٍ مستغلّةً تدخّل الدين في كلّ مجالات الحياة. فتعمل على السيطرة على الشعوب من خلال التحالف مع أو الضغط على رجال الدين. يتولّد الخطر هنا من أن يؤدي خلط الدين بالسلطة إلى تحميل الدين مسؤوليّة الظلم السياسيّ. كما حدث سابقاً عندما سببت ممارسات الكنيسة الضرر للدين المسيحيّ في أوروبا. لذلك يجب أن يدخل التنوير وإعمال العقل في كلّ المسائل الدينيّة المحرّم على العقل الغوص فيها من أجل تحريرها من سيطرة الفقهاء وهدم الجدار الذي يحاولون تشييده بين العامّة والخاصّة.

تتشارك الحركات الأصوليّة الفزع من التجديد و التأويل العصريّ للإسلام فيما بينها حتى وان اختلفت مذاهبها. وتعتبر أنّ الآراء التي طرحها السلف صائبةً بسبب قربهم التاريخيّ من العصر الذهبيّ للإسلام، ولأنهم أكثر تقوى من المعاصرين. فأصبحت كلمة التأويل والتفكير النقديّ عندهم رمزاً لمحاولات هدم الإسلام، خاصّةً وأنها ارتبطت بصراعاتٍ سياسيّةٍ تاريخيّةٍ. واعتبرت محاولةً لإرضاء الغرب دون التمييز بين الغرب السياسيّ الذي تحكمه العلاقات والمصالح والغرب الحضاريّ بما يشمله من فكرٍ وفلسفةٍ وفنون. أدى ذلك إلى المزيد من الانغلاق والتقوقع على الذّات ورفض كلّ محاولةٍ لقراءةٍ عصريّةٍ للدين تنطلق من المتغيرات الاجتماعية والثقافيّة.

التجديد في مواجهة التحديات الخارجيّة

تحاول العولمة صنع دينٍ جديدٍ قائمٍ على قوانين السوق والعمل. وهو دينٌ لا يُقهَر ولا يُعطي وعوداً بالرحمة والعدالة والانتقام من الظلم. لذلك فمن الطبيعيّ أن تقاوم كافة المجتمعات- بما فيها المجتمعات التي صنعت الحداثة- هذا الدين وقوانينه القاسية التي صنعها الأقوياء للسيطرة على المجتمع. وقد تمكّن الدين الجديد من احتواء تأثير الأسلحة القديمة المستخدمة في مواجهته والمتمثّلة في الحفاظ على التراث. وعرف كيف يوظفها جيداً في دعوى مكافحة الإرهاب وصراع الحضارات، بحجّة الحفاظ على السلم العالميّ وحريّة حركة السوق. لذلك ينبغي استخدام أسلحةٍ جديدةٍ تكشف وحشيّته، وتساهم ببناء حضارةٍ قادرةٍ على استيعاب الاختلافات والتناقضات عن طريق فتح أبواب العلم والمعرفة والحريّة.

ساهمت مشاريع الحداثة وإعادة التأويل بفصلها بين الإسلام والمسلمين بتمجيد الماضي في مقابل إدانة الحاضر. ولم يتمّ نقد الماضي إلّا في مرحلة الانشطار والتشظي الفكري والثقافي. وساهم ظهور التعليم المدنيّ بدل المدارس الدينيّة المنتشرة حينها في توسيع الفجوة الثقافيّة بين خرجيّ المدرستين. تزامن هذا مع انتشار خطاب الاستشراق الذي يركز على أنّ الإسلام هو المشكلة والعقبة التي تفصل العرب عن التطور والحداثة. مما أدى إلى ظهور خطابٍ دفاعيٍ لتبرئة الإسلام من تخلّف المسلمين. وهكذا ظهر تيار الإصلاح الدينيّ الذي تحالف أحيانا مع السلطة، وهاجمها أحيانا بحسب اختلاف وتوافق المصالح.

التجديد يحصّن الدين من التوظيف السياسيّ

إنّ محاولة نسب التخلّف الاجتماعيّ إلى مشكلةٍ في بنية العقل الإسلاميّ بمعزلٍ عن الظروف الاجتماعيّة والتطورات التاريخيّة تفتقر إلى الصحّة والعقلانيّة. لأنّ السبب الحقيقي يكمن في تفشي الجهل والظلم الاجتماعي والقمع السياسي. لذلك يرى نصر حامد أبو زيد أنه يجب علينا، من أجل نظرةٍ نقديّةٍ متوازنةٍ ونافعة، تأمّل التاريخ الإسلاميّ بوصفه تاريخ المسلمين بوصفهم بشراً وليس تاريخاً مقدساً. كما لا ينبغي فصل الإسلام عن المسلمين لأنّ هذا الفصل يؤدي إلى رسم صورةٍ طوباويّةٍ لدينٍ مثاليٍّ لا يتأثّر بالمتغيّرات الاجتماعيّة.

يمثّل التحليل النقديّ ضرورةً لا بديل عنها لفهم الدين بوصفه خطاباً إنسانيّاً ناتجاً عن البشر أنفسهم دون المساس بقدسيّة المصدر. ونلاحظ تبدّل وتطوّر هذا الخطاب بوضوحٍ وتفاعله مع المتغيّرات خلال مراحل التأسيس الأولى. لذلك فالخطاب القرآنيّ هو خطابٌ حيٌ متفاعلٌ يتطلّب دائماً إعادة قراءةٍ وتأويل من جيلٍ إلى آخر. يجب أن تتم هذه القراءة دون إغفال تأثير العوامل السياسيّة مثل الظلم الاجتماعيّ والقضايا التي تتعلّق بالصراع بين الطبقات. وتميّز هذه القراءة للعوامل السياسيّة بين التواصل الطبيعي وعلاقات التفاعل الحتميّة، وبين محاولات استغلال الدين وتوظيفه سياسياً.

الفن وخطاب التحريم

نستطيع من خلال تحليل الخطاب الدينيّ التعرّف على المناخ الفكريّ العام. فالخطاب الدينيّ، بوصفه جزءاً من الخطاب الثقافي، يزدهر عندما يكون المجتمع متحرراً ومنفتحاً وإنسانيّاً. ويسوده التعصّب وعداء الآخر عندما يختنق المناخ العام.

لماذا يسبب الفنّ فزعاً لخطاب التحريم؟

الفنّ كمثالٍ على تأثر تحليل الخطاب الديني بالمناخ الفكري العام، هو ممارسة أقصى درجات الحريّة. حيث يتحرر الإنسان من خلال الفنّ من قيود الفكر واللّغة والجسد، ويبني بواسطته عالمه الخاص. لذلك يكره المتشددون- تشدّداً دينياً كان أم اجتماعيّاً- الفنّ، لأنهم يخلطون ما هو معياريٌّ بما هو فنيٌّ. فهم يسعون، بسبب فزعهم من الحريّة، إلى منع التغيير والحفاظ على اللحظة التاريخيّة والسياسيّة بهدف جعلها أبديّةً. فيتحدثون عن ضوابط ومعايير الحريّة قبل أن تبدأ الممارسة. وهو ما يعاكس الروح الأساسيّة للفنّ الذي يسعى، من خلال الغوص في آفاقٍ مجهولةٍ، لكسر وتأسيس معايير جديدةً تُكسر بدورها في تجاوبٍ مع التقدم العلمي والفكري.

هل تحرّم الأديان الفنّ؟

يظهر ارتباطٌ عضويٌّ واضحٌ بين الدين والفن. لدرجةٍ لا يتصور معها دينٌ بلا فن. يتجلى هذا الارتباط بوضوحٍ في الصور والأيقونات في المسيحيّة، وصيغ الأدعية والصلوات ذات الصياغة الشعريّة الواضحة في كلّ الأديان، فضلاً عن الموسيقى المصاحبة للصلوات في الكنائس والترتيل في قراءة القرآن. بالإضافة إلى تغلغل الفنّ المعماريّ في التصميم الداخلي والخارجي للمساجد والكنائس.

كان الإسلام قد حطّم الأصنام في بداياته حرصاً على التوحيد النقيّ الخالي من شبهة الشرك. لكنّ تحريمها ليس تحريماً أبدياً لفن النحت والتصوير، بدليل أنّ المسلمين لم يحطموا التماثيل في البلدان المفتوحة. فهو تحريمٌ نابعٌ من إدراك متغيرات التاريخ. وازدهر فنّ الموسيقى والغناء في الفضاءات الإسلاميّة. فترتيل القرآن وتجويده هو فنٌ موسيقيٌّ بامتياز. فالإسلام أدرك أنّ الفنّ حاجةٌ إنسانيّةٌ لا يمكن الاستغناء عنها. ويمتلئ القرآن بالأدوات الفنيّة من تصويرٍ وعرضٍ وتخييل. فهو نصٌ أدبيٌ بامتياز انبهر به العرب قبل التشريع والنبوءات. فطبيعته البلاغيّة هي التي دفعت الكثيرين منهم إلى الإيمان به أو الإقرار له بالتمييز والزعم، في محاولة تفسير تفوّقه، بأنه سحرٌ مبينٌ.

أحدث الإسلام تطوراً جديداً في فهم ظاهرة الشعر التي كانت قبل الإسلام مرتبطةً بتصوّر أنّ الشعراء يتلقون الوحي من الجن. تطلّب ذلك التمييز بين مفهوم النبوّة وظاهرة الشعر. فإن كان الشعر وحياً من الجنّ فإنّ القرآن وحيٌ من الملائكة دون الاستغناء عن الحاجة للشعر في الإسلام. من هنا نرى أنّ تحريم الشعر هو تحريمٌ أيديولوجيٌّ بعيدٌ عن الدين. فالشعر بقي موجوداً في عصر النبي وازدهر بعده أيضاً في بلاط الخلفاء. لذلك فإنّ قضية تحريم الفن هي قضية تحريم الحريّة الاجتماعيّة بحجّة الرقابة وحماية الأخلاق. وهو ما يؤمّن مصالح السلطتين السياسيّة والدينيّة في السيطرة على المجتمع ويتفقا عليه بصور مختلفة يعبر عنها كل منهما بأدواته.

جذور إشكاليّة تأويل القرآن

وردت كلمة التأويل في القرآن أكثر من كلمة التفسير التي غالباً ما تأخذ معنى تفسير معاني الكلمات المفردة في مقابل تفسير القصد العام في كلمة التأويل. فالتفسير تمهيدٌ للتأويل. ومع ذلك فقد اتخذت لفظة التأويل معنىً سلبياً في وجدان الإنسان العربيّ وفضّل عليها لفظة التفسير. فاتخذ التأويل تدريجياً- مع التطور الاجتماعي والصراع الفكري والسياسيّ- معنى تحريف القرآن لإثبات ضلالات أخرى. وازداد العداء له مع تنامي الصراعات السياسيّة المرتكزة على تطوّر الفكر الشيعي والاعتزالي والمتصوّف.

رغم ذلك ومع التقدم الحضاريّ وتعدد المرجعيات، ظهرت التأويلات المختلفة بسبب الاختلافات الأيديولوجيّة وتجدد الحركة الفكريّة. فتنازعت الأطراف المختلفة على تحديد مفهوم التأويل. حيث حاول علماء الفقه كبح هذه التأويلات ومصادرتها إلى تأويلٍ واحدٍ صالحٍ لكلّ زمانٍ ومكان. بينما صاغ المعتزلة نظريةً ترى أنّ للفهم مستوياتٍ ومثلها للغموض. وجعلوا المعرفة العقليّة مقياساً للفهم وبالتالي للتفسير. في حين بنى الفكر الحنبلي مذهبه على النقل ومنع الاجتهاد وإرجاع كل المسائل إلى القرآن الذي يفسر بعضه بعضاً، أو إلى الحديث في غياب النص القرآني، ثم أفعال الصحابة. وكان للعوامل السياسيّة والخارجيّة الدور الأبرز في ترسيخ أو اضمحلال تأثير هذه التيارات في الحياة اليوميّة.

التأويل في العصر الحديث

تمّ إقفال باب الاجتهاد بإحكامٍ وتقييد العقل الإسلامي ليتحوّل من التفكير والإنتاج إلى التقليد والتكرار. وأخذ المسلمون لعدة قرونٍ كتب الأقدمين مراجع لهم، وتجنبوا كلام الفلاسفة وأصحاب المنطق العقلي باعتبارهم مضلّلين. ولكنّ الوعي بالهزيمة الفكريّة والعسكريّة وإشكاليّات الاحتكاك بالفكر الأوروبيّ المعاصر دفعت المسلمين إلى استدعاء التراث وخاصّةً الفكر المعتزلي لمواجهة هذه التحديات. فتبنى محمد عبده في منهجه الفكريّ الجامع بين التراث والعلوم العصرية، أنّ هدف التفسير هو تنوير العقل الإسلامي من خلال القرآن. فالقرآن عنده ليس كتاب تاريخٍ، بل هو كتاب هدايةٍ وموعظةٍ للمسلمين ولغيرهم. والله يخاطب البشر على قدر عقولهم لذا فمن الطبيعي أنّ يتطوّر هذا الخطاب بتطوّر العقول.

انقسم المفسرون في العصر الحديث إلى تيّارين مختلفين متصارعين. فبينما تبنّى الأول منهج السلف، واحتكم إلى النقل عنهم والالتزام بتفسيرهم، لتظهر منهم لاحقاً حركة الإخوان المسلمين. اتّبع الآخر، على الرغم من التهديدات والتضييق الممارس ضده، المنهج العقليّ. فقالوا أنّه يجب ألّا نبحث عن الصدق التاريخيّ فيما ورد في القرآن من قصص. حيث أمّنت تلك القصص، التي كانت متداولةً في ذلك العصر، التواصل بين القرآن والنصوص الدينيّة السابقة عليه. فلو كان القرآن جديداً تماماً على العرب حينها لما فهموه ولا آمنوا به. فالجِدّة في القرآن هي جِدّةٌ في الإسلوب والتشريع.

يتخذ الصراع بين منهجي السلف والخلف في التأويل شكلاً دموياً بعد أن كان صراعاً ثقافياً فكرياً. وسيطر أهل السلف الذين هددوا كلّ فكرٍ تجديديٍ على ساحة التفسير. لذلك وجب علينا إيجاد مقاربةٍ جديدةٍ لتأويل القرآن تأويلاً إنسانيّاً معتدلاً لتجاوز حالة الركود الفكريّ التي عانى منها الفكر العربيّ طويلاً.

نظرةٌ جديدةٌ في أفق التأويل

تحوّل النصّ الصامت الذي حُفِظَ في قلوب المسلمين إلى نصٍّ مقروءٍ بعد عمليّة التدوين وإعادة الترتيب والتنقيط، مما أدى إلى تجاهل طبيعته الأصليّة التداوليّة بوصفه خطاباتٍ متعددة المستقبلين التاريخيّن. فالتعامل مع القرآن بوصفه نصاً يقلل من حيويّته ويتجاهل دوره في الحياة اليوميّة. لتجنّب ذلك لابدّ من توظيف أدوات النقد التاريخيّ وعلم الدلالة، المرفوضة في سياق الدراسات القرآنيّة التقليديّة، من أجل قراءةٍ معاصرةٍ للقرآن من خلال النظر في الخطاب القرآنيّ باعتباره عمليّة تواصلٍ ذات خطاباتٍ متنوعةٍ بين الله والنبي.

فمن منظور نصر حامد أبو زيد، يجب التركيز على حيويّة القرآن وتعدد التفاسير في كلّ سياقٍ يتم الاستشهاد به. فكلّ استشهادٍ يتضمّن تفسيراً جديداً. ويجب بالمثل الابتعاد عن تلخيص القرآن حين يتمّ التعامل معه بصفته نصّاً جامداً كما تفعل الحركات الإسلاميّة المعاصرة عندما تحدد سلوك الفرد وحركة المجتمع في قوالب محدّدة. أوقعت هذه القراءة الجامدة المفسّرين في مشكلة التناقض في الآيات القرآنيّة. فاتّبع الفقهاء قاعدة الناسخ والمنسوخ لرفع هذا التناقض. وغاب عن ذهنهم أنّ سياقات القرآن لا يمكن فهمها إلّا وفق منهجٍ تأويليٍ ينظر إلى القرآن بوصفه خطاباً وحواراً. فاختلاف الأحكام ليس تناقضاً وإنّما هو أفقٌ مفتوحٌ أمام المجتمع للاختيار وفق الظروف المتغيّرة.

القرآن بوصفه خطاباً

ينطلق التفسير المفتوح للقرآن في مواجهة التفسيرات الكليانيّة والسلطويّة، من اختلاف الطبيعة الإنسانيّة واختلاف معنى الحياة. فالخطاب القرآنيّ هو عمليّة نقاشٍ ومحاورةٍ تتم وفق متغيرات المتحاورين. والقرآن لا يمثّل خطاباً أحاديّ الصوت، فهو خطابٌ حواريٌ تتعدد الأصوات فيه من صوت المقدّس إلى صوت المَلَك وصوت الإنسان. ويتحول هذا الخطاب إلى سجالٍ مع المشركين يتطور من خلاله الإعجاز البلاغيّ والأسلوبيّ للقرآن من خلال المقارنة بينه وبين الشعر وسجع الكهنة. ويتخذ مع المؤمنين أسلوب الحوار الذي تمّ من خلاله صياغة الأوضاع الفقهيّة.

المصادر: كتاب التجديد والتحريم والتأويل لِ نصر حامد أبو زيد

ملخّص كتاب عنف الدكتاتوريّة لِستيفان زفايغ

نُشرَ كتاب عنف الدكتاتوريّة عام 1936 للكاتب النمساويّ الشهير ستيفان زفايغ. اشتُهِرَ زفايغ، المنتمي إلى مذهب النيو-رومانتيكيّة، بإبداعه الروائيّ حيث تُرجِمت رواياته إلى لغاتٍ مختلفةٍ، واقتُبِست في الأعمال السينمائيّة العالميّة. يطلِقُ زفايغ في هذا الكتاب صرخة تحذيرٍ لألمانيا، بشكلٍ خاص، وإلى العالم أجمع بعد وصول النازيّة إلى السلطة. لذلك اختار قصّة كفاح اللاهوتيّ، إنسانيّ المذهب، سيباستيان كاستيليو، ضدّ دكتاتوريّة جان كالْفِن، الذي يُعدّ أحد أبرز قادة حركة الإصلاح الدينيّ، صاحب السلطة والنفوذ في كامل العالم البروتستانتيّ، لينبّه العالم إلى الخطر المحدق به. أراد زفايغ لقارئه أن يقارن وقائع عصره مع الأحداث التاريخيّة التي تبدو للوهلة الأولى ماضياً بعيداً. فهو كتابٌ يدافع عن الحريّة والسلام في وجه العنف والدكتاتوريّة. فماذا قال زفايغ؟ وماهي رسائله إلى العالم في كتاب عنف الدكتاتوريّة؟

“إذا نجحت عقيدةٌ ما مرّةً في الاستيلاء على آلة الدولة ووسائل الضغط التابعة لها، فهي تطلق الإرهاب من غير ترددٍ، وتخنق الكلمة في حلق من حاول مسّ سلطتها المطلقة، إن لم تخنق حلقه ذاته”

ستيفان زفايغ

الدكتاتوريّة ضد الحريّة

يتجدّد في كل زمانٍ صراع الحريّة ضدّ الوصاية، الإنسانيّة ضدّ التعصّب، فلا يكاد سؤال الحدود الفاصلة بين السلطة والحريّة يغيب عن ذهن كلّ الشعوب في كلّ الأزمنة. فالحريّة بدون سلطةٍ فوضى، والسلطة في غياب الحريّة فسادٌ وطغيان. وقد أثبت التاريخ ميل الشعوب إلى التسليم لنظامٍ يعفيهم من إعمال الفكر، فهم يفضّلون تسليم أمورهم إلى منقذٍ يفرض حلوله الجاهزة لتعقيدات حياتهم. وهكذا يظهر الأنبياء الاجتماعيّون والدينيّون.

يظهر رجلٌ ذو موهبةٍ ليعلن بطريقةٍ حاسمةٍ أنّه، وحده، يمتلك الحقيقة المطلقة ليخلق مثاليّةً جديدةً عمادها الوحدة والطهارة. فيتخلى عموم الشعب عن حريّتهم مستسلمين للانقياد دون أدنى مقاومة. عندها، ينقاد السلطويّون إلى المزيد من التسلّط ويحاولون فرض عقيدتهم على الجميع دون استثناء. هكذا تغدو أدنى معارضةٍ لأفكارهم، التي تصير دستوراً، جريمةً في حق الدولة. حتى أصحاب أنقى الحقائق وأطهرها يلجؤون إلى العنف ويعلنون الحرب ضدّ الحريّة الإنسانيّة خلال سعيهم الحثيث لفرض أيديولوجيّتهم.

ولأنّ كل ضغطٍ يقود، عاجلاً أم آجلاً، إلى الثورة، ولأنّ الذهن يعرف دوماً كيف يقاوم كلّ تبعيّةٍ، وعلى الرغم من أنّ غالبيّة أصحاب الصوت الحرّ والنظرة الإنسانيّة لا يتجاسرون على الكفاح ضدّ القمع ويلتزمون نظرةً حزينةً لواقعهم المرعب، تظهر نفوسٌ حرّةٌ تتملّص من القمع الجماعيّ وتدافع عن حقّ المرء في قناعةٍ ذاتيّةٍ ضدّ المهووسين بفكرةٍ أحاديةٍ متسلّطةٍ.

هكذا كان كاستيليو، الذي وقف صامداً أمام دكتاتوريّة كالْفِن، أعنف دكتاتوريّات القرن السادس عشر، مدافعاً عن المبدأ الأساسيّ لحركة الإصلاح الدينيّ التي قامت على شعار «الحريّة للإنسان المسيحي»، موجهاً صرخة الضمير الإنسانيّ الرافض للعنف بعد إقدام كالْفِن على حرق ميغيل سيرفيت حياً بسبب آرائه اللاهوتيّة.

صعود كالْفِن للسلطة

قاد القسيس فاريل عمليّة تحوّل مدينة جنيف، التي كانت تحت حكمٍ ديمقراطيٍ، من الكاثوليكيّة إلى البروتستانتيّة. فتمّ انتزاع الصور المقدّسة من الكنائس وطُردَ رجال الدين الكاثوليك من المدينة. ولكن، وإن كان فاريل قادراً على قلب النظام القديم، فهو غير قادرٍ على بناء نظامٍ جديد. فلجأ فاريل إلى كالْفِن صاحب الأفكار الملهمة في بناء مجتمعٍ بروتستانتيٍّ مثالي.

مراحل الصعود

اعتنق كالْفِن البروتستانتيّة واضطرّ للهجرة من فرنسا إلى مدينة بازل هرباً من الاضطهاد الدينيّ. وأدرك مبكراً أنّ الكنيسة البروتستانتيّة مهددّةٌ بالانشطار إلى فرقٍ عديدةٍ ذات طابعٍ محليٍّ وطني. لذلك كتب مؤلّفَهُ الأشهر «تعاليم الديانة المسيحيّة». وهو من أهم منجزات الإصلاح، ومن أكثر الكتب تأثيراً على أحداث التاريخ. فإن كان لوثر هو من بدأ حركة الإصلاح، فإن عبقريّة كالْفِن التنظيميّة هي من منعت انشطارها وضياعها.

أعجِبَ فاريل بنظرة كالْفِن الثاقبة وثبات رأيه، فهو لم يتراجع يوماً، ولو بشكلٍ بسيطٍ، عن أيٍّ فكرة من أفكاره، ولم يقبل من خصومه إلّا الصمت والتسليم. ففي مواجهة كالْفِن، إمّا أن يحطّمه المرء أو يتحطّم أمامه. فأصرّ على تولي كالْفِن زمام الأمور في جنيف. في النهاية وافق مجلس المدينة على تعيينه في منصب «قارئ الكتابات المقدّسة» وهو أعلى منصب دينيّ في المدينة.

قدّم كالْفِن لمجلس المدينة كتاب التعليم الديني الهادف إلى تعليم الناس أسس العقيدة الإنجيليّة الجديدة. ووقع صدامٌ بينه وبين أعضاء المجلس حول صلاحيّاته. فمطلب كالْفِن كان سلطةً مطلقةً وطاعةً عمياء في سبيل تحويل أفكاره النظريّة إلى واقعٍ عمليٍ. ولم يكن ليسمح بأيّ حريّةٍ في العقيدة أو الحياة العامة. ولم يتردّد في استخدام العنف والإرهاب في محاولة فرض نهجه. حاول عندها أعضاء المجلس عزل كالْفِن ونفيه من المدينة متمسّكين بقيمهم الديموقراطيّة بعدما تيقّنوا أنّ المزايا المؤقتة للدكتاتوريّة وللنّظام الصارم إنّما تُدفَع على حساب حريّة وحقوق الفرد. لكنّ خوفهم من انعدام الاستقرار وإعجاب الأغلبيّة بنموذج كالْفِن التنظيميّ جعلهم يرضخون لسلطة الدكتاتور.

مدينة كالْفِن الفاضلة

بدأ كالْفِن عمليّة تحويل المجتمع، وفق مبادئه النظريّة، بكلّ ما لدى شعبه من مشاعر وأفكار إلى نظامٍ أحاديٍّ وفق آليّةٍ صارمةٍ تُلزِمُ الناس بالعيش حسب طريقةٍ صحيحةٍ مطابقةٍ لإرادة الله وتعاليمه. تجاوز كالْفِن مطالب الإصلاح الدينيّ وابتعد عن أفكاره الأوّليّة. فقد بدأ الإصلاح كحركة تحرّرٍ أخلاقيٍّ تريد وضع الإنجيل في متناول الجميع لِيُكوّن كلّ فردٍ قناعته الذاتيّة بدلاً من سلطة البابا في روما. ولكنّ كالْفِن انتزع بلا هوادةٍ كلّ أشكال الحريّة الفكريّة ووضع خاتمةً لكلّ تأويلات تعاليم الله.

أسّس كالْفِن مدينته على أساس التعفّف والصرامة. فالإنسان -حسبه- يجب أن يعيش في خضوعٍ وإذعانٍ ورفضٍ لكلّ ملذّات الحياة. لذلك حرّم كلّ أشكال الفن وألغى الاحتفالات الدينيّة ووحّد ملابس الناس وعادات أيامهم وعلاقاتهم. وكما في كلّ دكتاتوريّةٍ، أسّس إدارةً تسهر على تطبيق تقاليده الرهيبة. تحقّق هذه الإدارة مع كلّ المواطنين بشكلٍ دوريٍّ وتفحص إيمانهم وتتدخل في كلّ تفاصيل حياتهم، فانعدم مفهوم الحياه الخاصّة تماماً. يشعر الإنسان في ظلّ هذا الإرهاب الأخلاقيّ بأنّه مذنبٌ دائماً وأنّه معرّضٌ في أيّ لحظةٍ للعقاب؛ مصادرة أملاكه، طرده من المدينة، أو حتى حرقه حياً. فيتحوّل كلّ إنسانٍ في مدينة كالْفِن، إلى جاسوسٍ ضد أقربائه وجيرانه، في سبيل الحفاظ على سمعته وتجنّب الملاحقة.

من هو سيباستيان كاستيليو؟

انجذب كاستيليو، أكثر رجال عصره ثقافةً، بقوةٍ إلى قضايا عصره الجديدة، حيث انشغل بمحاولات تجديد الدراسات الكلاسيكيّة. وانضمّ إلى المناقشات الملتهبة التي شغلت أوروبا بعد انطلاق حركة الإصلاح الدينيّ. تحوّل إلى البروتستانتيّة، بتأثير طبيعته الإنسانيّة، عندما شهد وحشيّة محاكم التفتيش في التعامل مع المارقين. تأثر كاستيليو بكتابات كالْفِن الداعية إلى الحريّة وتتلمذ على يده، وانتقل معه إلى جنيف بعدما استقر الأمر لكالْفِن هناك.

بدأ كاستيليو بترجمة الكتاب المقدّس إلى اللاتينيّة ومنها إلى الفرنسيّة لإيمانه بأنّ الحقيقة ينبغي أن تكون في متناول شعبه كما هي لدى الألمان. لكنّه اصطدم برفض كالْفِن طبع الكتاب بدون وضع تعديلاته وملاحظاته التي ستُفقِدُ الكاتب استقلاليّته. فالشخصيّة السلطويّة تعتبر أنّ مَن يفكر بطريقةٍ مستقلّةٍ معارض لا يُطاق. رفض كاستيليو الخضوع للتسلّط، وتمسّك بحريّته في تفسير الكتاب المقدّس، مما أدّى إلى المزيد من الصراع، خاصةً بعد موافقة مجلس المدينة على تعيين كاستيليو قسّيساً وبالتالي عضواً في المجمع الدينيّ دون الرجوع لكالْفِن الذي أراد احتكار التعليم. لكنّه طلب من مجلس المدينة أن يعفيه من وظيفة المدرّس وأن يسمح له بمغادرة المدينة عندما أدرك قدرة خصمه على الاحتيال وتزوير الحقائق بما يخدم سياسته.

حقق كالْفِن، بخروج خصمه الفكريّ من جنيف، نصراً لاستبداده. لكنّه لم ينس خصمه أبداً، فلا يمكن لأيّ دكتاتوريّةٍ أن تواصل العيش من دون قلقٍ في ظلّ وجود رجلٍ مستقلٍّ، ولو كان بعيداً.

عنف الدكتاتوريّة: حالة سيرفيت

كان ميغيل سيرفيت صاحب إرادةٍ صافيةٍ تبتغي الحقيقة. استبدّت به، مثل أبناء جيله، قضايا الصراع الكبير داخل الكنيسة، فانضمّ إلى المصلحين باندفاعٍ وراديكاليّةٍ، حتّى أنّه رأى أنّ التباعد والانفصال عن الكنيسة القديمة يحدث بتريّثٍ شديد. طالب سيرفيت بإلغاء النظريّة الخاطئة بشأن الثالوث الأقدس في الكنيسة الإنجيليّة، وهو ما يخالف إجماع أهل اللاهوت. وعندما رفض الحكماء آراءه، نشر أفكاره وبراهينه في صيغة كتابٍ مما أثار عاصفةً ضده.

طُرِد سيرفيت من كلّ مكانٍ ولم يعد له إلّا أن يختفي تماماً، فانتقل من مدينةٍ إلى مدينة، وعاد إلى فرنسا مُستخدماً اسماً مستعاراً. لكنّ شخصيّة المارق لم تَمُتْ في هذا الرجل الطَموح. فعندما تتملّك فكرةٌ ما إنساناً، تسيطر عليه حتّى آخر ذرّةٍ من مشاعره وتفكيره. لذلك حاول سيرفيت مجدداً إقناع المجتمع اللاهوتيّ بأفكاره. فاختار مراسلة كالْفِن الذي يثور غضباً من أدنى اعتراضٍ على أتفه الصغائر، بقصد استمالته لصالح فكرته.

“السلطة العنفيّة الأصوليّة التي تَدين بصعودها إلى حركةٍ تحرّريّةٍ تصبح دوماً ضدّ فكرة الحرّيّة بشكلٍ أقسى ممّا تمارسه أيّ سلطةٍ متوارثةٍ. والذين يدينون بسلطتهم إلى ثورةٍ ما يصبحون دوماً الأكثر تشدّداً والأقل تسامحاً إزاء كلّ تجديد”

ستيفان زفايغ

قتل سيرفيت

استبدّ الغضب بكالْفِن بسبب هذا التبشير المَرَضيّ والإلحاح المجنون لذاك المعارض، وشعر بضرورة إسكات ذاك الصوت الهرطوقيّ. لو كان سيرفيت يعيش في مناطق نفوذه لحاول تسليمه إلى السلطات المدنيّة، ولكنّه يعيش باسمٍ مستعارٍ في مدينة فيينا تحت سلطة الكنيسة الكاثوليكيّة. لذلك أمر أتباعه بتدبير المكائد وحثّ السلطات الكنسيّة، بتحريضٍ غير مباشرٍ، على محاكمة سيرفيت. هرب سيرفيت مراراً واستبدّ به يأسٌ شديدٌ قاده بالنهاية، دون سببٍ مفهومٍ، إلى مدينة جنيف بالذات، أخطر مكانٍ عليه في العالم.

تمّ اعتقال سيرفيت وزُجَّ به في السجن حيث عانى من أسوأ ظروف الاعتقال والتحقيق والتعذيب النفسي. وبدأت محاكمته بدون تعيين محامٍ للدفاع عنه. كما حَرصَ كالْفِن على تطبيق أقسى عقوبةٍ في حقّ المتّهم على الرغم من أنّه لم يعد يشكّل خطراً عليه. ينبغي للمتمرّد على السلطة أن يدفع الثمن. فكلّ معارضٍ لتعاليمه الكنسيّة مجرمٌ ضدّ الدولة تتم محاكمته بدلاً من الرّد عليه بصفته لاهوتيّاً. وهكذا تمّ الحكم على سيرفيت بالحرق، مع كتبه، حيّاً ليكون عبرةً ودرساً لكلّ من تسوّل له نفسه ارتكاب جريمةٍ مماثلة.

ضميرٌ ينهض ضدّ العنف: منشور الحريّة

ما إن تمّت عمليّة إحراق سيرفيت حتّى اعتبرها معاصروها نقطةَ انحرافٍ أخلاقيٍّ في تاريخ البروتستانتيّة التي عانى أنصارها من محارق الكنيسة الكاثوليكيّة. فعمليّة الإعدام هذه هي أوّلُ قتلٍ دينيٍّ داخل حركة الإصلاح وأوّلُ إنكارٍ في منتهى الوضوح لأفكارها الأساسيّة التي قامت على مبدأ الحريّة الفكريّة للإنسان المسيحيّ. لذلك ارتفعت أصواتٌ مندّدةٌ بهذا الحدث واعتبرته مخالفاً للدين والقانون. عندها قام كالْفِن بالدفاع عن قرار الإعدام. فالقرار، برأيه، يهدف إلى حماية الكنيسة من أصحاب النوايا السيّئة.

جان كاْلِفن وسيباستيان كاستيليو

انتفض المفكّرون المستقلّون الذين شعروا أنّ عمليّة إحراق سيرفيت كانت بمثابة إعلان حرب. فأصدروا، بقيادة كاستيليو الذي كتب تحت اسمٍ مستعارٍ في ظلّ الإرهاب الكالْفِينيّ، منشور التسامح. اعتبر كاستيليو في منشور التسامح أنّه لا ينبغي ملاحقة الزنادقة ومعاقبتهم بالإعدام على جنحةٍ ذات طابعٍ فكريّ. فالزنديق هو الذي لا يلتزم بالمسيحيّة برغم كونه مسيحيّاً، وإنّما يتشبّث في بعض النّقاط برأيه الشخصيّ وينحرف عن العقيدة الصّحيحة التي اختلفت الطوائف المنتشرة حينها في تحديدها. لذلك رفض كلّ أشكال الاضطهاد والعنف، وانتقد التعصّب وانعدام التسامح عند العقائديّين الذين لا يتحمّلون أيّ رأيٍ مخالفٍ لهم. وطالب بمنع عمليات التّعذيب والإعدام. وأكّد أنّ نشر التسامح والحريّة الفكريّة بعيداً عن عنف الدكتاتوريّة، هي السبيل الوحيد للعيش المشترك.

عنف الدكتاتوريّة في مواجهة التسامح والحريّة

أدرك الدكتاتور أنّ الناس لم يكونوا مستعديّن لالتزام الصمت إزاء قتل سيرفيت. فلجأ إلى القمع والرقابة، وسعى جاهداً لمنع صدور أيّ كتابٍ ينتقد ممارساته القمعيّة مستخدماً نفوذه السياسيّ وقوّة جهازه الأمني. وجنّد أهمّ أتباعه ليردّوا على كلّ منشورٍ هرب من الرقابة. وبدل محاولة احتواء الاضطراب، دعا هؤلاء إلى المزيد من العنف ضدّ من لا يلتزم بقواعد كالْفِن وتفسيراته للكتاب المقدّس.

بسبب ذلك أدرك كاستيليو أنّ صمته إزاء هذه التهديدات يعني الرضوخ النهائيّ للدكتاتوريّة وإطلاق ذراع العنف بلا رادعٍ. فبدأ بالكتابة، وهو صاحب النظرة الثاقبة والثقافة العالية، ردّاً على ادعاءات أتباع النظام. على الرغم من أنّه كتب بعقلانيّةٍ بعيدةٍ عن التوتر والهجوم الشخصيّ، فإنّ كلماته كانت واضحةً مباشرةً لا تتردّد في إعلان رفض كلّ ما لا يوافق العقل والمنطق والكتاب المقدّس. كان سلاح كاستيليو الوحيد هو قلمه في حين تخلى عنه أصحاب الفكر الحرّ خوفاً من العنف والقمع. بينما امتلك خصمه كلّ أدوات الدولة وعناصر القوّة.

تمكّن كالْفِن، باستخدام سلاح الرقابة والتهديد، من منع نشر أغلب كتابات كاستيليو، التي لم تر النور إلّا بعد عشرات السنين. وردّ هو وأتباعه على القلّة القليلة التي تمّ نشرها بصوتٍ عالٍ واتهاماتٍ كثيرةٍ حاولت النيل من سمعة كاستيليو. ولأنّ الدكتاتوريّات، وعلى الرغم من سيطرتها المطلقة، لا تستطيع احتمال صوت رجلٍ حرٍ رفض الإتبّاع الأعمى، سعى كالْفِن إلى إلصاق التّهم بمنافسه الفكريّ. لذلك خطّط لاستدراج كاستيليو إلى عمود المحرقة باستخدام كلّ وسيلةٍ ممكنةٍ.

في النهاية انتزع الموت المفاجئ كاستيليو قبل أن يقع في قبضة كالْفِن. وبالطبع، فإن هذه النهاية لا تُرضي الدكتاتور، فهو يريد تشويّه سمعة خصمه وسوقه للمحاكمة ليكون عبرةً يرسّخ بها سلطته بشكلٍ أعمق، ويردع من يفكّر بمعارضة أدقّ تفاصيل نظامه.

المصادر: كتاب عنف الدكتاتوريّة ل ستيفان زفايغ

ملخّص كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني

صدر كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني عام 2009 وتصدر قوائم المبيعات لفترة طويلة. الكتاب من تأليف الدكتور والمفكر يوسف زيدان المتخصّص في التراث العربي وتاريخ الطب العربي. حصل يوسف زيدان على جائزة البوكر العربيّة عن رواية عزازيل. يناقش كتاب اللاهوت العربي العلاقة البنيويّة بين الأديان الإبراهيميّة وتأثيرها المتبادل. ويحاول تحديد العلاقة بين السياسة والدين والأسباب المؤدية للعنف الديني. من خلال قراءة جديدةٍ ومتعمقةٍ في التراث واللاهوت العربي عبر مراحل نشأته وتطوره. الأمر الذي أدى لمحاكمة الدكتور يوسف زيدان بتهمة ازدراء الأديان. من الطبيعي أن تُثيرَ هذه الأفكار والقراءات الثوريّة في التراث الدينيّ لمنطقتنا جدلاً كبيراً. خاصةً في ظل الحساسيات الدينيّة والطائفيّة، والهوس في تعظيم الذات وإنكار الآخر. فماذا قال زيدان في اللاهوت العربي وأصول العنف الديني؟

وحدة الأديان الإبراهيميّة

اعتبر الكاتب الأديان الثلاثة الأكثر انتشاراً (اليهودية والمسيحية والإسلام) دينًا واحدً بتجليّاتٍ مختلفة. إذ أدّى اختلاف الزمان والمكان واللغة إلى اختلافات تشريعيةٍ وعقائديةٍ، لكن الجوهر الاعتقادي ظلّ واحداً؛ فهي جميعاً تعبد معبوداً واحداً اختصّ قوماً بخطابٍ عبر رسلٍ اصطفاهم ورفعهم فوق بقيّة الناس. يؤكد الدين اللاحق الدين السابق بينما ينكر السابق اللاحق لأنّ فيه زواله. وبالمثل فكلّ مذهب في الدين الواحد ينكر بقيّة المذاهب.

لا توصف هذه التجليّات بالسماويّة، لأنّ كل الأديان بالضرورة سماويّةٌ، حتّى لو قدّست تلك الديانات الأصنام أو النار أو الكواكب، فهم يتسامون بها إلى مرتبةٍ ألوهيّةٍ متعاليّةٍ على الوجود الفيزيقي. كما لا يمكن وصفها بالتوحيديّة، فصفة التوحيد موجودةٌ في أديان أخرى وهي ليست حكراً على هذه الأديان. إنما يمكن وصفها بأنها دياناتٌ رسوليةٌ أو رسالية، لكونها أتت إلى الناس برسالةٍ من السماء عبر رسلٍ وأنبياءٍ يدعون الناس إلى إلهٍ متعالٍ.

لذلك فإنّ أيّة محاولةٍ لمقارنة الأديان يجب أن تتم مثلاً بين الديانات الإبراهيميّة بصفتها ديناً واحداً ، مع الديانة المصرية القديمة أو إحدى ديانات الهند لأنه في هذه الحالة سيكون الاختلاف في الجوهر الديني قائماً. وهي مهمةٌ صعبةٌ، فالدارس يتّبع عادةً ديناً معيناً، ومن العسير أن يتجرد منه تماماً ويلتزم النظرة الحياديّة الموضوعيّة اللازمة للمعرفة الحقّة.

لا يمكن فهم التراث الإسلاميّ واللاهوت العربي بشكلٍ مجرّد دون التعمّق في الأصول الإنسانيّة لهذا التراث، وما سبقه زمناً وكان بمثابة مقدمات له. ليس ضرورياً أن يكون هذا التأثير تأثيراً للسّابق على اللاحق فقط فأحياناً يحدث العكس، مثل تأثير الأفلوطينيّة المحدثة على اليهوديّة من خلال شرح فيلون السكندري للتّوارة وتأويلاته لنصوص العهد القديم التي صارت مع الزمن تراثاً يهودياً. أو دخول أفكار البعث والقيامة المسيحيّة الإسلاميّة المنشأ في اليهودية التي خلت نصوصها المبكرة من هذه المفاهيم.

جذور الإشكال: الله والأنبياء في التوراة

تظهر في التّوراة -المقبولة مسيحيّاً والتي ينظر إليها الإسلام بإقرارٍ في صحّة الأصل وتحريف في النّص دون رفضها التام- صورةٌ إشكاليةٌ للإله من حيث الطبيعة والصفات. فنرى الإله اليهوديّ تارةً داعياً إلى الخير وفضائل الأعمال، وتارةً أخرى عنيفاً منتقماً. كما ظهر في قصّة العبور(الفصح) غير كلّي القدرة محتاجاً إلى علاماتٍ على بيوت اليهود حتّى يميّزها عن بيوت المصرييّن حين أراد ضرب أرض مصر. وظهر ثائراً على البشر جميعاً في قصّة الطوفان. كما وردت صّفات وأفعال كثيرة لا تليق بإلهٍ متعالٍ قادرٍ.

اجتّهد علماء الشّريعة اليهوديّة ومن بعدهم علماء التّفسير المسيحي في محاولة تأويل وتفسير النّصوص عن طريق علم اللاهوت المستلهم أساساً من الفلسفة اليونانية بين اعتبارها رموزاً تاريخيّةً أو اعتبارها حالاتٍ للذّات الإنسانيّة في تطوّرها. ولكنّ تأخّر ترجمة هذه التفسيرات عن ترجمة التّوراة من العبريّة الأم إلى الآراميّة واليونانيّة ومنها إلى لغاتٍ أخرى، سمح باستشعار خطورة هذه النّصوص وما ترسمه من صفاتٍ لا يُستحب إطلاقها على البشر ناهيك عن الله.

تتعدّى خطورة النصوص التوراتيّة ما تمّ إلصاقه بالذّات الإلهيّة من صفاتٍ إلى إباحة القتل باسم الرّب والاستهانة بالقّيم والحقوق الإنسانيّة لغير اليهود مظهرةً إيّاهم بصورةٍ أقلّ إنسانيّة من أبناء الرّب. وخُصّص الله التّوراتي لبني إسرائيل دوناً عن البشر جميعاً. وبما أنّه لا يمكن لغير من وُلِد من أمّ يهوديّة أن يعتنق اليهوديّة، فقد صار الله مملوكاً لليهود فقط. بالإضافة إلى أن الصورة التوراتيّة للأنبياء مفزعةٌ، فهم لا يتوارون عن القيام بأفعالٍ شنيعةٍ لا تليق بأناسٍ اصطفاهم الله على البشر برسالته، فهم يقتلون ويزنون ويسرقون.

الحلّ المسيحي: من الثيولوجيا إلى الكريستولوجيا

تعتبر المسيحيّة امتداداً لليهوديّة وإصلاحًا لها قبل أن تتطوّر فيما بعد. فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد انتظر اليهود قدوم  الماشيح ، والتي تعني حرفيّاً، الممسوح بالزيت المبارك، ليصبح ملك اليهود ويحقق وعد الرّب الذي طال انتظاره ويخلّصهم من الظّلم والاضطهاد. اختبر اليهود صدق كلّ من ادّعى أنّه الماشيح. وقاموا بتسليم المدّعين إلى الرّومان الذين صلبوا المدّعين ليكونوا عبرةً للحالمين بالخلاص. وهو ما فعلوه أيضاً بيسوع المسيح. وازدادت البشارات في الأسفار الأخيرة من العهد القديم بقدوم الماشيح المخلّص لليهود ومدمّر شعوب الأرض جميعاً.

تحوّلت دعوة المسيح الذي بدأ ملتزماً بالديانة اليهوديّة إلى العالميّة بعدما ظهر له أنّ اليهود ليسوا تربةً صالحةَ للبشارة. فأمر تلاميذه أن يبشروا الأمم كلّها بخلاص الإنسان. ولم يُفصَل بين المسيحية وبين اليهوديّة إلّا في القرن الثالث للميلاد. ترافق ذلك مع بدء الخلاف حول طبيعة المسيح هل هو بشرٌ مرسلٌ، أم هو الله ذاته نزل إلى الأرض حيناً. وبعد اعتراف الإمبراطور الروّماني قسطنطين بالمسيحيّة كإحدى الديانات الرسميّة في مرسوم ميلانو سنة 313 ميلاديّة، وبعد مجمع نيقية المسكونيّ سنة 325 ميلادي، تمّ اعتماد الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل ورُفِضَ كلّ ما عداها.

أسباب ظهور الهرطقات

أدّت كثرة الأناجيل والتفسيرات والإشارات المختلطة فيها واختلاف اللّغات والثّقافات في الحضارات التي انتشرت فيها المسيحيّة إلى صراعٍ حول طبيعة المسيح. وظهرت الكثير من الهرطقات المدعومة سياسياً وثقافياً. قابلتها الكنيسة بمجامع مسكونيّةٍ حُدِدَ فيها قانون الإيمان الأرثوذكسي لمحاربة تلك الهرطقات. وألغت العمل بالأناجيل غير المتوافقة مع العقيدة السليمة. واعتمدت الأناجيل الأربعة المشهورة: متى، لوقا، مرقس، يوحنّا. وهي مجتمعةً مع الرسائل المُسَماة، أعمال الرسل، شكّلت ما يُعَرف باسم العهد الجديد، وتشكّل مع الأسفار الخمسة للعهد القديم وأسفار أنبياء اليهود ما يعرف باسم الكتاب المقدّس.

يرتكز الإيمان المسيحيّ على المسيح بذاته. ففي الأناجيل الأربعة نرى استعراضاً لحياة المسيح وأعماله دون الإشارة إلى الإلهيّات. وصارت المسألة برمتها هي المسيح لا الله. وصار الإقرار بألوهيّته هو القانون الأول للإيمان. وتحوّل كلّ ما هو ثيولوجي إلى كريستولوجي، أي متعلقاً بالمسيح ذاته، ولم تعد المشكلة اليهوديّة المتعلّقة بصفات الله مطروحةً للنظر. إنّما صار الإيمان الأرثوذكسي هو الإيمان بأنّ المسيح هو الله، وكل ما عداه من أفكارٍ لاهوتيةٍ عربيةٍ هرطقة.

الفارق في مفهوم الإله بين الشرق والغرب

مفهوم الإله في مصر واليونان

كانت الديانات المصريّة واليونانيّة تسمح بالتعدديّة وتجيز أحياناً التمازج بين الإله والإنسان ولا ترى بأساً من تأليه الإنسان وأنسنة الإله. لذلك عندما انتقلت المسيحيّة من فلسطين إلى مصر –والتي كان أساس انتشارها- فهم المصريّون بناءًا على تصوّرهم ذي الأبعاد الثلاثية للألهة (ثالوث: إيزيس، حورس، أوزيريس) وإمكانية تمازج الإنساني بالإلهي، الديانة المسيحيّة. فقد كانت فكرة التجسيد والتّثليث ماثلةً في وعيهم الثقافيّ، ممّا ساهم بسهولة في انتشار الأفكار المسيحيّة وترسيخها في الأرض المصريّة على أساس امتزاج المسيح بالإله كامتزاج حورس مع أوزوريس وعلاقتهما بإيزيس الأم.

وقريبٌ منه ما حدث في اليونان. حيث قصّت الإليّاذة والأوديسة قصص التحام الإلهيّ بالبشري وحكايات غرام آلهة الأوليمب بنساء البشر، وما ينتج عنها من أنصاف آلهةٍ. انتقلت هذه التّصورات إلى العصر الهلينستي، الذي تقبّل الأفكار المسيحية القائلة بالطبيعة الواحدة بسبب طبيعة وعي اليونانيّن. لذلك نجد أنّ الإيمان بأنّ المسيح هو الله أصبح العقيدة الأرثوذكسية في مصر واليونان.

مفهوم الإله في الشام والعراق – اللاهوت العربي


أمّا التّصورات الدينيّة في منطقة الهلال الخصيب (الشام والعراق) ذات التواجد العربي الكثيف، فكانت تقوم على أنّ الألهة مفارقةٌ تماماً لعالم البشر وأنّ الاتصال الوحيد بينهم يتم بواسطة أنبياء ورسل يتمّ تكليفهم بإيصال كلمة الله للبشر. لذلك ميّز العرب بين اللّاهوت والنّاسوت، لأن فكرة النّبوة، عبرانيّة المنشأ، كانت أساس الأفكار الدّينيّة في منطقة الهلال الخصيب التي تأثرت بالحضارة الفارسية وأنبيائها. وتوسّع اليهود في هذا المفهوم حتّى صار مفهوم النبوّة سلسلةً متوارثةً على قاعدة القرابة والدم. ومن الفارسية والعبرانيّة تسلّل مفهوم النبوّة إلى العقليّة العربيّة فكان للعرب أنبياءٌ اعتزوا بهم بعدما أنكر عليهم اليهود فضل النبوّة. فاسّتقبل العرب في الجّزيرة العربيّة والهلال الخصيب الديانة المسيحيّة وقرأوا في أناجيلها الأربعة إشاراتٍ للمسيح تصفه بابن الإنسان وابن الله. لذلك فهموا أنّ المسيح هو النّبي المخلّص.

ومن الطبيعي أن يقوم الخلاف بين هاتين العقليّتين -عقليّة اللاهوت العربي وعقليّة اللاهوت الغربي- وأن تتبادلا الاتهامات واللّعنات والحرمانات الكنسيّة. فسالت أنهار الدم وانتشر العنف الديني بسبب ارتباط هذه العقائد بمصالح سياسيةٍ أجّجت الخلافات العقائديّة. دارت الخلافات جميعها حول المسيح، فاللّاهوت الديني المسيحيّ لا يتعلّق بالله بذاته، بل يتعلق بطبيعة المسيح الذي صار الله عندما صارت الكلمة جسدًا بحسب الفهم الأرثوذكسي. في مقابل لاهوتٍ عربيٍ يرى المسيح ابن الإنسان.  فظهرت هرطقاتٌ كثيرةُ، وقام جدلٌ فلسفيٌ بينهما رسّخ العقيدة الأرثوذكسيّة بحسب المفهوم القبطيّ اليونانيّ قبل حدوث الانشقاق الكبير للكنيسة القبطيّة بعد مجمع خلقيدونيّة المسكونيّ سنة  451 ميلاديّة. ليبدأ بعدها انحدار أثر الكنيسة السكندرانيّة  ليصبح محلياً بعد أن كان لها الأثر الأكبر في كل المجامع المسكونيّة السابقة وفي تحديد مفهوم الايمان القويم. لذا فإنّ معظم الهرطقات الكريستولوجيّة ظهرت في منطقة الهلال الخصيب مثل الإبيونيّة وبولس السميساطي ولوقيانوس والآريوسيّة والنسطوريّة اللّتان كان لهما أثرٌ كبيرٌ في الرؤية الإسلاميّة للجدل الكريستولوجي دون أن نهمل الأثر الواضح للمصالح السياسيّة في تأجيج وانتشار هذه الهرطقات.

الحل القرآني: إعادة بناء التصورات ونشأة علم الكلام

حاول الإسلام إعادة رسم شخصيات وسيَرَ الأنبياء بما يناسب مكانتهم دون تأليههم كما الحال في التوراة. فقدّمهم بلغةٍ راقيةٍ لا يشوشها لفظٌ رديء ولا معنىً غير لائقٍ بالله وأنبيائه. وفصل بوضوحٍ بين اللّاهوت والناسوت، حتى ما كان متعلقاً بنبي الإسلام بالتأكيد على أنّه يتلقى وحيًا منزلاً من السماء. وهكذا تجاوز القرآن أزمتي صورة النّبي وصفات الله. ومن هنا أتى تأكيد القرآن على بشريّة المسيح مبيناً أنّه نبيٌ من الله مطلقاً عليه اسم المسيح ابن مريم دون إنكار معجزاته.

ولأن القرآن نزل بلغةٍ عربيةٍ على عقولٍ عربيّةٍ براغماتيّةٍ، فقد مدّهم بنظامٍ حياتيٍ كاملٍ. ولم يكتف بالإلهيّات. وأمر المسلميّن بقتال المشركين ونشر الدين حتّى تّم فتح الشام ومصر والعراق. واختلط الفكر الإسلاميّ الجديد بالهرطقات المنتشرة هناك. وحصل الاحتكاك الثّقافي. وحدثت تحوّلاتً كبرى أدت إلى حاجة المسلميّن لتطوير علم كلامٍ يبرهنون به صحّة عقائدهم أمام علم اللّاهوت المسيحيّ ويجيبون به على الأسئلة التي طرأت على المجتمع الإسلاميّ.

بدأ ظهور علم اللاهوت العربي والذي سُميَ علم الكلام في النّصف الثاني من القرن الأوّل الهجري بعد انتشار الإسلام في البلاد المحيطة بالجّزيرة العربيّة. وليس من المصادفة أن مؤسسي المذاهب الكلاميّة تتلمذوا على يد رجال لاهوتٍ مسيحيٍين. فاستكملوا طريق أسلافهم. وبهذا لا يكون علم الكلام اختراعاً إسلاميّاً وإنّما هو امتدادٌ لعلم اللّاهوت. وليس غريباً أيضاً أنّ هؤلاء المؤسسين قُتِلوا جميعاً، لأنهم ناقشوا أفكاراً غريبةً عن العقيدة الإسلاميّة التي هي امتداد لعقائد المشركيّن، فاتُهِموا بالزّندقة واعتناق الأفكار الفلسفيّة للشعوب المفتوحة. أمّا اللّاحقون من المتكلّمين فقد فصلوا بين المباحث الكلاميّة والنضال السياسي الذي تبناه المتكلّمون الأوائل. فأزالوا من مناقشاتهم فكرة الخروج على الحاكم الظّالم، فعاشوا بسلامٍ خلال فترة الحكم الأمويّ والعبّاسي. بل إنهم استعانوا بالخلفاء على أعدائهم وخاصةً في زمن المأمون. وتؤكد الصّلة الخفيّة بين إصرار الهراطقة على نفي المماثلة بين الله والكلمة، وإصرار المتكلّمين على نفي صفة الكلام عن الذّات الإلهيّة اتصال علم الكلام باللّاهوت المسيحي.

إشكاليّة العنف الديني في اللاهوت العربي

أطر التّديّن ودوائره

إنّ الإسلام واليهوديّة شديدتا القرب لأنّ اليهوديّة ديانةٌ غير تبشيريّةٍ انتشرت في منطقةٍ ذات أغلبيةٍ عربيةٍ، عكس المسيحيّة التي تطوّرت في مصر واليونان، وبالتّالي تأثّرت بثقافات وديانات هذه المناطق. ولأنّها من حيث الجوهر دينٌ واحدٌ بتجلياتٍ متعددة، يمكن تمييز هذه الديانات الإبراهيميّة بأطرٍ عامةٍ تؤكد وحدتها. مثل فكرة الإنابة: وتعني وجود وسيطٍ بين الله والإنسان. وهذا واضحٌ في التجليات الثلاثة للدين الإبراهيمي من أنبياءٍ ورسلٍ وأئمة، وهي دائماً حكرٌ على الرجال دون النّساء. ومن الأطر، الإبادة: من خلال الوعد الإلهّي لليهود بإسرائيل الكبرى. وهو ما نراه في العهد القديم من إبادة أقوامٍ بأكملهم نُصرَةً لليهود. ونرى مثل هذه الوعود أيضاٌ في القرآن. من هذه الدوائر المشتركة، الخروج: وهو مخالفة اعتقاد المجتمع . تعزل المجموعة التي تعتقد أنّها على حقٍّ نفسها عن بقيّة المجتمع، وتحكم عليهم بالكفر والضلال.

صلة الدين بالسياسة

إنّ الفصل بين الدّين والسياسة وهمٌ تبدده الحقائق التاريخيّة للأديان الإبراهيميّة التي امتزج فيها الدينيّ بالسياسيّ امتزاجاّ شديداّ يصعب معه تمييز ما هو دينيٌ عن ما هو سياسي. يتضح هذا مراراً وتكراراً في تاريخ هذه الأديان، حيث كان الأمراء والملوك ينصرون مذهباً على حساب آخر، بناءًا على مصالحهم السياسية. وكذا رجال الدين الذين دعموا ملوكاً دون غيرهم وفق مصالحهم الخاصّة.

العلاقة بين العنف الديني والسياسة

تدور السياسة حول محور الحاكم بينما يدور الدين على محور الإله. وهما محوران منفصلان نظرياً. ولا تتم السياسة إلّا في جماعةٍ إنسانيّةٍ، بينما يرتبط الدين بالفرد. وهناك تداخل بين هذين المحورين، إذ لا يمكن للسياسة أن تضبط الجماعة إلّا بضبط الفرد. ولا يمكن للدين أن يحقق رؤيته إلّا في مجتمعٍ قائمٍ.

يبدأ الدين في حياة النّبي في جماعة مستقرةٍ سياسياً، ظهر فيها نظامٌ سياسيٌ واستقر قبل ظهور الدين. ونظراً لطبيعة الدين الانبثاقية، فهو يسعى لخلخلة النظام السياسي ليفسح لنفسه مجالاً بين الجماعة. وهنا يبدأ العنف من طرف النظام السياسي للحفاظ على استقراره. ويقابله المؤمنون بالصبر والتّمسك بالمبادئ الدينيّة. حتّى إذا ازاد العنف، حدثت الهجرة، فينتشر هذا الدين بين المهمّشين والمظلومين وأعداء النّظام السياسي. ونتيجة هذا الخروج تقتنع السّلطة بأنّ الدين هرب من المواجهة ولم يعد يشكل تهديداً لها، فيهدأ العنف. بينما يزداد حجم الدين في أرض الخروج ويُنظّم ويصبح قوياً جاهزاً لاقتلاع النظام السياسي. عندها يعود الدين مفاوضاً النظام على اقتسام النفوذ والسّلطة. وتضطر السًلطة إلى التنازل جزئياً، مما يؤدي إلى نتائج وخيمةٍ على صعيد السلم الاجتماعي. ويتجه الدين الجديد نحو مزيدٍ من التّشدّد والتّمحور حول الذات، يتطور عندها الصراع إلى معركة بقاء، ويصير الدين مع الوقت مليكاً مسيطراً.

يحدث أحياناً أن تتوحد السّلطتان في شخصٍ واحدٍ، يصعب عندها الفصل بين السياسي والديني. وبعد استقرار النّظام الجديد تظهر انبثاقات أخرى داخل الدين. وتكرّر دائرة العنف نفسها بشدّةٍ أكبر لأن العقيدة الجديدة تستند إلى قراءاتٍ خاصةً للعقيدة الأصليّة على نحوٍ مخالفٍ للسائد، فيحدث عنف ديني مزدوج ضد الواقع السياسي وضد الاعتقادات السائدة.

يجب لكسر دوائر العنف اللانهائيّة أن يتّم الاعتراف بالمشروعيّة المتبادلة. فلا بدّ للديني أن يعترف للسياسي بمشروعيّة الحركة والحق في التّنظيم الاجتماعي والتعامل مع العالم الخارجي، بالمقابل لا بدّ للسياسي من الاقتناع بأنّ السياسة لن تقوم بذاتها بديلاً عن الدين.

المصادر:

كتاب اللّاهوت العربي وأصول العنف الديني

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

في كتابه خلاصة القرن، يبدأ بوبر في حوار معه، بطرح مشكلة النظام الشيوعي وفلسفة ماركس التي بدأ بانتقادها في مراهقته. ومن ثم يحلل انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الشيوعية. ويتضمن الكتاب بعض من دراسات كارل بوبر حول دولة القانون ومشكلاتها المتعلقة بالحرية والمراقبة والتدخل. وكأنك قرأت خلاصة القرن لكارل بوبر حلقة من سلسلة وكأنك قرأت لتقديم أهم الكتب الفلسفية.

بوبر الفأر في فخ الشيوعية:

يروي بوبر بأنه كان يحلم دومًا بعالم يسود فيه السلام، خاصة في فترة مراهقته، حيث نظم قصيدة وآمن بأن الحق سينتصر والسلام سيتحقق، بحيث سيعود الجنود المحتلين إلى ديارهم. تأثر بوبر بخطابات تروتسكي بشكل خاص حول بناء عالم بلا عنف. ذات مرة ذهب إلى مقر الحزب الشيوعي وهناك التقى بأبناء الفيلسوف النمساوي رودولف إسلر (هانز، فريتي وجيرهارد) كان لهم مكانة بارزة في الحزب الشيوعي وعاملوه بلطف كما يروي. لم تمر فترة طويلة حتى بدأ بوبر يشك في الخطاب الشيوعي، خاصة بعد حادثة مقتل ستة شبان في مظاهرة للشيوعيين من قبل الشرطة في فيينا، شعر أنه يحمل جزء من مسؤولية قتلهم. قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره وجد أنه من الضروري نقد أطروحة ماركس والشيوعية.

بوبر ينتقد ماركس:

اعتقد ماركس أنه الرأسمالية وصلت إلى مرحلة بحيث هي نفسها صارت أزمة، لا مجال لإصلاحها بل يجب تدميرها. كما وجد ماركس بأنه ظروف العمال تزداد سوءًأ, غير أنه لم يرد تجريم الرأسماليين شخصيًا لطالما هم ضحايا النظام. حذر ماركس من “الشيوعية المبتذلة”. رأى بوبر أن أطروحة ماركس بعيدة عن الواقعين، واقع الرأسمالية وواقع الحزب الشيوعي. فالحزب دعم الشيوعية المبتذلة، حيث أن الرأسماليين شخصيًا يتحملون المسؤولية ويحب القضاء عليهم. ومن جهة اخرى يرفض بوبر كون الرأسمالية غير قابلة للإصلاح، كانت هناك إصلاحات جذرية حتى في زمن ماركس، ويبدو له أن ماركس بالغ في تقدير الرأسمالية وما يجب فعله، فالرأسمالية التي وصفها ماركس لم تكن سوى خيال شيطاني. وفي سياق آخر رأى بوبر أن ماركس بالغ في الاعتماد على الاقتصاد كآلة تفسيرية شاملة، فعناصر أخرى مثل الدين والمؤسسات لها دور كبير في تحديد شكل المجتمعات.

إقرأ أيضًا مفهوم الإنسان عند ماركس

انحطاط الاتحاد السوفيتي:

وفقًا لبوبر فأن حقبة خروشوف كانت هي بداية انحطاط الاتحاد السوفيتي، حيث لم يأخذ قادة السوفييت الماركسية بجدية سوى كاداة لبقاء النظام، أي فكرة تدمير الدول الرأسمالية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. يتحدث بوبر عن خروشوف ومحاولة القضاء على أمريكا من خلال الصواريخ النووية الهائلة التي ارسلها الروس إلى كوبا. كان العالم أمام كارثة عالمية غير أن الصواريخ لم تكن جاهزة كفاية لضرب أميركا، هكذا خسر السوفييت الرهان وأنهار النظام الشيوعي لأسباب عسكرية بحتة.

دولة القانون:

مع أن بوبر كان ليبراليًا، إلا أنه ينتقد بعض المبادئ الرئيسية في الدولة الليبرالية وأهمها السوق الحر وحرية التعبير. فلأجل بناء دولة القانون يجب أن تتدخل الدولة في السوق كما عليها مراقبة وسائل الإعلام. فالسوق الحر، بشكل أو بآخر يشجع السرقة والفساد، فضلًا عن التلاعب بآالية السوق. يرى بوبر أنه يتحتم وجود سوق حر دون تدخل الدولة. يضع بوبر قائمة من الأولويات لبناء دولة القانون:

  • السلام العالمي: أن تكون الأسلحة النووية بيد الشعوب المتحضرة لأجل تحطيمها والإحتفاظ بكمية قليلة فقط.
  • وضع حد للإنفجار السكاني.
  • التربية: يجب أن نربي الأطفال على اللاعنف، فهم غريزيًا ضد العنف، غير أن وسائل اللإعلام هي من تفسدهم لذلك ثمة حاجة للمراقبة من قبل الدولة. وفي حديثه عن الحرية يجد بوبر بأن الحرية المطلقة سخيفة لذلك يدعو إلى ضمان حرية الآخر، ذلك لأن الحرية المطلقة تكون تعسفية غالبًا بحيث تحرم الآخر من حريته. بذلك يتبنى مفهوم كانط للحرية “ما نحن في حاجة إليه هو مجتمع حيث حرية الفرد متعادلة مع حرية الآخرين، حريتي ليست متعادلة معك إلا عندما نرفض معًا استعمال العنف، أنا لا أضربك وأنت لا تضربني”. فالقاعدة في دولة القانون هي حمايتنا من الجريمة والعنف.

وفي حديثه عن دولة القانون، يدعو بوبر إلى التعاون مع الدين والمؤسسات الأخرى وخاصة التيارات غير المتشددة في الديانات المختلفة، ذلك لأنه يؤمن بأن الدين نفسه ليس مع العنف. كما يرى بأن الخطر الحقيقي يأتي اليوم من الوطنية، حيث هوية عرقية تدعي أنها الهوية الحقة، على الدولة حماية الأقليات وضمان حقوقهم لطالما أنه من المستحيل أن يكون لكل شعب دولة.

الكتب والديمقراطية:

في أثينا وابتداءً من عام 530 ق.م وجد أول سوق للكتب في التاريخ لبيع المخطوطات، خاصة الملحمتين الشهيرتين لهوميروس، الإلياذة والأوديسا. الذي أمر بتدوين قصائد هوميروس كان الطاغية بيزيسترات، كما هو من فتح المسارح. تحول الشعب الأثيني إلى شعب يقرأ هوميروس كأنجيل أثيني. بدأ الفلاسفة والكتاب مثل أناكساغوراس وهيرودوت يأتون إلى أثينا لنشر أعمالهم. فوفقًا لبوبر سوق الكتب يفسر الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلادي، هما حدثان مرتبطان. يقارن بوبر بين اختراع جوتنبرغ لآلة الطباعة وبين إنشاء سوق الكتب في أثينا، فسوق الكتب هو عامل مهم في بناء مجتمع يوناني ديمقراطي متطور فكريًا وأدبيا، وأختراع جوتنبرغ أدى إلى ثورة ثقافية وإزدهار في الفنون، وحسب بوبر فأن اختراع آلة الطباعة مرتبط بثورتي الإصلاح في إنكلترا عام 1648 و1688.

الديمقراطية ليست حكم الشعب:

وفقًا لأفلاطون هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسلطة:

الملكية: حكم رجل واحد

الأرستقراطية: حكم مجموعة من الأشخاص

الديمقراطية: حكم الشعب

كان يتسائل أفلاطون، إلى من يجب أن تعود قيادة الدولة؟ الأفضل حسب أفلاطون وحسب ماركس البروليتارية وقال هتلر أنا. يطرح بوبر المشكلة بشكل مختلف، هل توجد أشكال حكومة التي هي لأسباب أخلاقية جديرة بالعقاب؟ هل توجد أشكال حكومية تسمح لنا بالتخلص من الحكومة السيئة؟ هذه الأسئلة هي قاعدة الديمقراطيات.

يرفض بوبر أن تكون الديمقراطية سلطة بيد الشعب، ذلك غير ممكن، فهي بإختصار تساعدنا على التخلص من الدكتاتورية دون إراقة الدماء، سواء عن طريق الانتخابات أو البرلمان.

الحرية ودولة حد أدنى:

إن حماية الحرية مسؤولية مشتركة، نتشارك فيها جميعًأ، بمعنى أن حريتي عندما تبدأ يجب ألا تنهي حريتك, لذلك فأن الإسراف في الحرية يؤدي إلى التعسف والعنف. يعبر بوبر بشكل جميل عن ثنائية الحرية-الدولة بقوله: “نحن بحاجة إلى الحرية لمنع الدولة من التعسف في سلطتها ونحن بحاجة إلى الدولة لمنع تعسف الحرية”. يقترح بوبر وجود محكمة دستورية لمنع التعسف الناتج من الحرية.

كما يناقش بوبر آراء الفلاسفة هوبز، كانط، هامبلدنت وميل حول مفهومي الدولة والحرية. عند هوبز أن الإنسان من دولة سيكون ذئبًا لأخيه الإنسان. عند كانط الدولة عليها أن تضمن أكبر حرية ممكنة للفرد مع ضمان حرية الآخرين بنفس الدرجة. تبنى كل من ميل وهامبلدنت فكرة كانط، أي دولة حد أدنى. هذه الدولة مهمتنا الرئيسية هي الاعتراف بحقنا في الحرية والحياة ومساعدتنا على حماية حقوقنا. كما من مهمات الدولة الاهتمام بالفئات المستضعفة والشباب ومنع وسائل الاعلام من بث الاخبار الكاذبة.

الديمقراطية محكمة الشعب:

الديمقراطية هي النظام الأفضل بين الأشكال الأخرى للنظام، غير أن الديمقراطية ليست واضحة تمامًا. لطالما أن أغلبية الشعب تحدد الحكومة، فمن المحتمل أن تختار الأغلبية حكومة ديكتاتورية كما حدث مع هتلر. وفقًا لسقراط فالذي يحكم هو الذي يعرف نفسه والذي لا يعرف شيئًا، بمعنى أن اختيار الصحيح صعب جدًا. يقول بوبر أن الانتخابات التي يصوت فيها الشعب يجب أن تكون بمثابة معاقبة الحكومة المنتهية حكمها وليس إعطاء شرعية للحكومة الجديدة. فمن السهل جدا أن ينتخب الشعب حكومة دكتاتورية حيث الإنسان يصبح نصف إنسان. يحتار بوبر أمام مفارقة الانتخابات ويعترف بذلك. كما يحذرنا بوبر من الحكومة التي يشكلها اتلاف او كتلة من الاحزاب حيث لا أحد يتحمل المسؤولية، فوجود احزاب أقل يجعل من الحكومة تشعر بمسؤوليتها أكثر.

السلطة والمثقف:

المثقف يستطيع أن يفعل الكثير، فهم الذين يبدعون الأفكار ومن واجبهم أن يأتوا بما هو خير لمواجهة الأفكار الشريرة وخاصة التي تؤمن بها الجماعات المتطرفة. يأخذ بوبر على الفلاسفة الذين يستغلون الثغرات أو لأجل غايات شعبوية ويقومون بشيطنة النظام الغربي، الذي هو أفضل نظام في التاريخ. لا يعني بوبر بأنه نظام كامل، لكمنه يدعو المثقفين إلى قول الحقيقة وتغير ما يجب تغيره بدلًا من التمويه ونشر أفكار لا أصل لها.

ملخص كتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون

نشر كتاب “سيكولوجية الجماهيرˮ أول مرة عام 1895 لمؤلفه غوستاف لوبون، والذي يعد مؤسس علم نفسية الجماهير. وسنستعرض هنا ملخصًا موجزًا للكتاب.

مقدمة سيكولوجية الجماهير (عصر الجماهير)

تبدو الانقلابات الكبرى التي تسبق عادةً تبدل الحضارات محسومةً بتحولات سياسية ضخمة كالغزو أو قلب السلالات المالكة. ولكن الدراسة المتفحصة تكشف غالبًا أن السبب الحقيقي هو التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. أما الأحداث الضخمة التي تتناقلها كتب التاريخ فليست إلا الآثار المرئية للمتغيرات اللامرئية التي تصيب سيكولوجية الجماهير وعواطفها.

إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير. فالجماهير هي القوة الوحيدة التي تتزايد هيبتها وجاذبيتها باستمرار، ولا يستطيع شيء تهديدها. ونشأت قوة الجماهير أولًا عن نشر بعض الأفكار التي زرعت في النفوس ببطء، ثم بالتجميع المتدرج للأفراد من خلال الروابط والجمعيات. وإن معرفة سيكولوجية الجماهير (علم نفس الجماهير) تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألّا تحكمه الجماهير.

الكتاب الأول (روح الجماهير)

الخصائص العامة للجماهير، القانون النفسي لوحدتها الذهنية

الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور هي تلاشي الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتوجه الجميع إلى نفس الاتجاه بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، والميل إلى تحويل الأفكار المحرّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة.

ومن أسباب ظهور هذه الصفات، اكتساب الفرد بواسطة العدد المتجمع فقط شعورًا عارمًا بالقوة، والعدوى العقلية أو الذهنية للعواطف والأفعال في الجمهور.

“لا يوجد في التجمع الذي يشكله جمهور ما حاصلٌ ومتوسط للعناصر، وإنما يوجد فقط تركيب وخلق للخاصيات. وهذا يشبه ما يحصل في مجال الكيمياء. فبعض العناصر المستخدمة في التركيب كالقواعد والحوامض مثلًا تتداخل في بعضها البعض وتتركب من أجل تشكيل مادة جديدة مزودة بخصائص مختلفة عن تلك الخصائص التي كانت تتحلى بها العناصر المفردة قبل تركيبها”.

جوستاف لوبون

عواطف الجماهير وأخلاقياتها

الخصائص الأساسية للجماهير

  • سرعة انفعال الجماهير وخفّتها ونزقها.

إذ تكون الانفعالات التحريضية التي تخضع لها الجماهير مهيمنةً وقوية إلى درجة أنها مستعدة للموت من أجلها.

  • سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأي شيء.

نجد الجمهور غالبًا في حالة ترقب مهيأة لتلقي أي اقتراح، ويفرض أول اقتراح يظهر نفسَه مباشرة بواسطة العدوى والانتشار، فخلق الأساطير التي تنتشر بسهولة في أوساط الجماهير ينتج عن سرعة التصديق والتضخيم الهائل للأحداث.

  • عواطف الجماهير، تضخيمها وتبسيطها.

بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها يحميانها من عذاب الشكوك وعدم اليقين.

  • تعصّب الجماهير واستبداديتها ونزعتها المحافظة.

“إن الاستبداد والتعصب يشكلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جدًا، وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها. فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلًا من أشكال الضعف. وما كانت عواطفها متجهة أبدًا نحو الزعماء الرحيمين وطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس. وهي لا تقيم تلك النصب التذكارية العالية إلا لهم. وإذا كانت تدعس بأقدامها الديكتاتور المخلوع فذلك لأنه قد فقد قوته ودخل بالتالي في خانة الضعفاء المحتقرين وغير المهابين. إن نمط البطل العزيز على قلب الجماهير هو ذلك الذي يتخذ هيئة القيصر. فخيلاؤه تجذبها، وهيبته تفرض نفسها عليها، وسيفه يرهبها”.

جوستاف لوبون
  • أخلاقية الجماهير.

الجماهير غير مهيأة لاحترام النزعة الأخلاقية فيما يخص بعض الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أما بالنسبة لبعض الصفات كالإخلاص والنزاهة والتضحية بالذات فهي قادرة على أرفع أنواع الأخلاقية، ولكنها تبرهن على انحطاط أخلاقيتها غالبًا.

أفكار، ومحاجّات عقلية، ومخيلة الجماهير

  • أفكار الجماهير.

وتقسم إلى أفكار طارئة تتشكل تحت تأثير اللحظة كالانبهار بفرد أو عقيدة ما، وأفكار أساسية تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقرارًا كبيرًا كالأفكار الدينية والديمقراطية والاجتماعية. ولا تهيمن الأفكار إلا إذا اتخذت هيئة بسيطة جدًا وتجسدت في سيكولوجية الجماهير على هيئة صور، فتدخل إلى اللاوعي وتصبح عاطفة متماسكة. وإذا كان يلزم وقت طويل كي تترسخ الأفكار، فإنه يلزم وقت لا يقل عنه طولًا كي تزول.

  • المحاجّات العقلية للجماهير.

ترتكز المحاجّات العقلية المؤثرة على الجماهير على ترابطات بين أشياء متنافرة ليس بينها إلا علاقات سطحية ظاهرية. كما أن الجماهير تعمّم حالات فردية وخصوصية، وهاتان هما الخاصيتان الأساسيتان للمنطق الجماعي.

  • خيال الجماهير.

تأسست مقدرة الفاتحين وقوة الدول على قاعدة الخيال الشعبي، وإن معرفة سيكولوجية الجماهير وفن التأثير على مخيلتها تعني معرفة فن حكمها.

“لم أستطع إنهاء حرب الڤاندي إلا بعد أن تظاهرت بأني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي. وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا. ولو أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد هيكل سليمان”.

نابليون في مجلس الدولة الفرنسي

الأشكال الدينية التي تتخذها كل قناعات الجماهير

للعاطفة الدينية خصائص بسيطة جدًا، عبادة إنسان يعتبر خارقًا للعادة، والخوف من القوة التي تعزى إليه، كما أن الخضوع الأعمى لأوامره مظهر مهم، واستحالة أية مناقشة لعقائده، والرغبة في نشر هذه العقائد، والميل لاعتبار كل من يرفضون تبنيها أعداءً. ولذلك فالتعصب وعدم التسامح يشكلان المرافق الطبيعي لها.

الكتاب الثاني (آراء الجماهير وعقائدها)

العوامل البعيدة المشكلة لعقائد الجماهير وآرائها

تمهد هذه العوامل الأرضية لانبثاق الأفكار الجديدة، إذ تجعل الجماهير قادرة على تبني بعض القناعات وغير مؤهلة لتبني قناعات أخرى.

  1. العِرق.

وهو أهم من كل العوامل الأخرى مجتمعة، إذ يمكن للمقترحات الاجتماعية أن تمارس فعلًا مهمًّا، ولكنه مؤقت دائمًا إذا كانت مضادة لمقترحات العِرق أي لكل سلسلة الأسلاف.

  • التقاليد الموروثة.

تمثل التقاليد خلاصة العِرق، ولا يمكن لأية حضارة أن توجد بدونها، أي بدون روح قومية، والجماهير تعارض بإصرار أية محاولة لتغييرها.

  • الزمن.

إن بعض الأفكار التي يمكن تحقيقها في فترة ما تبدو مستحيلة في فترة أخرى، فالزمن يراكم بقايا العقائد والأفكار وتولد منها أفكار عصر ما، فهو يجعل كل العقائد تتطور وتموت، فبه تمتلك قوتها وبه تفقدها.

  • المؤسسات السياسية والاجتماعية.

لقد حصلت حروب دموية لفرض مؤسسات تعزى إليها مقدرة خارقة على خلق السعادة، فالمؤسسات تؤثر على روح الجماهير لأنها تولد انتفاضات كهذه، ولكنها لا تمتلك أية فضيلة.

  • التعليم والتربية.

يتيح التعليم المقدم في بلد ما استشراف مصير هذا البلد ومستقبله، فمع التربية والتعليم تتحسن سيكولوجية الجماهير وروحها أو تفسد، فهما مسؤولان عن ذلك جزئيًا.

العوامل المباشرة التي تساهم في تشكيل آراء الجماهير

تؤدي هذه العوامل إلى التمردات الشعبية أو الإضرابات. وهي التي تدفع أغلبية من الشعب إلى الوصول بشخص ما إلى السلطة أو إسقاط حكومة معينة.

  1. الصور، والكلمات، والشعارات

ترتبط قوة الكلمات بالصور التي تثيرها، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بدقة هي التي تمتلك أحيانًا أكبر قدرة على التأثير. مثلًا، ديمقراطية، اشتراكية، حرية، …إلخ.

  • الأوهام.

تحوّل الجماهير نظرها عن الحقائق التي تزعجها وتفضل تأليه الخطأ إذا ما جذبها، فمن يعرف كيف يوهمها يصبح سيدها، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينها يصبح ضحية لها.

  • التجربة.

تشكل التجربة المنهجية الوحيدة الفعالة تقريبًا لزرع حقيقة ما في روح الجماهير، وإن التجارب التي عاشها جيل ما غير ذات جدوى بالنسبة للجيل اللاحق، فالأحداث التاريخية التي تضرب عادة مثلًا للموعظة لا تفيد شيئًا، وتكمن فائدتها الوحيدة في البرهنة على ضرورة تكرار التجارب من عصر إلى عصر لتمارس بعض التأثير.

  • العقل.

يعدّ العقل عاملًا سلبيًا في التأثير.

محرّكو الجماهير، ووسائل الإقناع التي يمتلكونها

  1. محرّكو الجماهير.

إن القادة ليسوا رجال فكر غالبًا، وإنما رجال ممارسة وانخراط، وغالبًا ما يكونون خطباء ماهرين، إذ تعطي كثافة الإيمان لكلامهم قوة تحريضية كبيرة، فالكثرة تصغي دائمًا إلى الإنسان المزود بإرادة قوية.

  • وسائل العمل التي يستخدمها المحركون أو القادة.

التأكيد، والتكرار، والعدوى. إذ يشكل التأكيد المجرد من البراهين الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير، والشيء المؤكد يرسخ في النفوس بواسطة التكرار إلى درجة أنه يقبل كحقيقة برهانية، وعندما يتاح لتوكيد ما أن يكرّر كثيرًا وبالإجماع، يتشكل عندئذٍ ما ندعوه بتيار الرأي العام، وتتدخل الآلية الجبارة للعدوى.

  • الهيبة الشخصية.

وهي نوع من الجاذبية الساحرة التي يمارسها فرد أو عقيدة ما على روح الجماهير، ولها نوعان أساسيان.

  • الهيبة المكتسبة، ويصنعها اسم العائلة والثروة والشهرة وهي أكثر انتشارًا.
  • الهيبة الشخصية، وهي ذات طبيعة مختلفة جدًا وتشكّل مَلَكَةً مستقلة عن الألقاب والسلطات، ويمارس من يمتلكونها سحرًا مغناطيسيًا على المحيطين بهم بما فيهم أندادهم، والنجاح أحد أهم العوامل التي تشكلها، إذ تختفي دائمًا مع الفشل.

محدودية تغير كلّ من عقائد الجماهير وآرائها

  1. العقائد الثابتة.

وهي العقائد الإيمانية الكبرى والتي تدوم قرونًا عديدة وترتكز عليها حضارة بأكملها، مثل أفكار الإصلاح المسيحي (لوثر) والأفكار الديمقراطية والاجتماعية.

“أما العقائد الكبرى العامة فذات عدد محصور جدًا. وتشكلُها وتلاشيها يمثلان بالنسبة لكل عرق تاريخي نقاط الذروة في تاريخه. إنها تشكل الهيكل العظمي للحضارات”.

جوستاف لوبون
  • الآراء المتحركة للجماهير.

وهي طبقة سطحية من الآراء والأفكار، تتموضع فوق العقائد الراسخة، وتولد وتموت باستمرار، مثل النظريات التي توجه الفنون والآداب. وتتزايد هذه الآراء لأن العقائد القديمة تفقد هيمنتها على النفوس تدريجيًا، وبسبب ظهور الصحافة ونشرها لأكثر الآراء اختلافًا. وينتج عن هذه الأسباب المختلفة ظاهرة جديدة جدًا في تاريخ العالم؛ وهي عجز الحكومات عن قيادة الرأي العام.

الكتاب الثالث (تصنيف الفئات المختلفة من الجماهير ودراستها)

تصنيف الجماهير

تقسم الجماهير إلى

جماهير غير متجانسة.

  1. جماهير مغْفَلَة (أسماء أفرادها غير معروفة)، كجماهير الشارع.
  2. جماهير غير مغْفَلَة، كهيئات المحلّفين والمجالس البرلمانية.

جماهير متجانسة

  1. الطوائف، كالطوائف السياسية والدينية.
  2. الزمر، كالزمرة العسكرية والزمرة العمالية.
  3. الطبقات، كالطبقة البورجوازية والطبقة الفلاحية.

تشكل الطائفة المرحلة الأولى من مراحل تشكل الجماهير المتجانسة، إذ تحتوي على أفراد من ثقافات ومهن وأوساط مختلفة أحيانًا، ولا رابطة بينها إلا العقيدة والإيمان.

وتمثل الزمرة أعلى درجات التنظيم التي يقدر عليها الجمهور، ولا تشمل إلا أفرادًا من نفس المهنة، أي ذوي تربية وأوساط متماثلة تقريبًا.

وتتشكل الطبقة من أفراد ذوي أصول مختلفة توحّدهم بعض المصالح وبعض عادات الحياة والتربية المتشابهة.

الجماهير المدعوة بالمجرمة

وتمتلك نفس الخصائص العامة لجميع أنواع الجماهير، فجرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها لا يعدّون أنفسهم مجرمين، بل يقتنعون أنهم أطاعوا واجبهم.

محلّفو محكمة الجنايات

نعثر في هذا الجمهور على الخصائص الأساسية، فهيئات المحلّفين تتأثر جدًا بالعواطف ومسحورة بمظاهر الهيبة، وإن هذه الهيئات الديمقراطية في تشكيلتها تبدو أرستقراطية في عاطفتها وميولها. والقرارات المتخذة متماثلة أيًا تكن تركيبة الهيئة المحلّفة ومهما اختلفت وتنوعت.

الجماهير الانتخابية

وهي جماهير غير متجانسة، ونعثر في قراراتهم على تأثير القادة المحركين وعلى دور التوكيد والتكرار والعدوى والهيبة الشخصية، فالوعود المبالغ فيها تولّد آثارًا ضخمة على الناخبين في لحظتها، والناخب لا يهتم لاحقًا بمسألة التحقق فيما إذا كان المرشح قد التزم بوعوده أم لا، بل إنه ينسى ذلك تمامًا. وإن تصويت الجماهير يعبر غالبًا عن آمال العِرق وحاجياته اللاواعية.

المجالس النيابية

وهي جماهير غير متجانسة وغير مغْفَلَة، وتمثل آراءً متطرفة، فالأفراد يميلون دائمًا إلى تضخيم قيم مبادئ أحزابهم عندما ينخرطون في جمهور ما. وإن قابلية التحريض والعدوى تظل محدودة في المجالس النيابية؛ فلكلّ حزب محركوه وقادته.

“إن المجالس النيابية السياسية هي آخر محلّ في الأرض يمكن للعبقرية أن تشع فيه. فلا أهمية فيه إلا للفصاحة الخطابية المتناسبة مع الزمان والمكان، وللخدمات المقدمة للأحزاب السياسية لا للوطن. أما الجمهور العادي فيتلقى هيبة القائد المحرك ولا يدخل في سلوكه أية مصلحة شخصية ولا ينتظر جزاءً ولا شكورا”.

جوستاف لوبون

والمجالس النيابية ليست جماهيرًا بالمعنى الاصطلاحي إلا في بعض الأوقات، فأعضاؤها يحققون فردانيتهم في حالات عديدة، ولذلك يمكنها أن تصوغ قوانين ممتازة.

وعلى الرغم من صعوبات تسييرها، فإنها تمثل أفضل طريقة وجدتها الشعوب لحكم ذاتها، ولا يهددها إلا خطران:

  1. التبذير الإجباري للميزانية، وهو نتيجة لمطالب الجماهير كزيادة الرواتب والتي تتطلب فرض ضرائب جديدة.
  2. التقييد التدريجي للحريات الفردية، ويتجلّى بالنسبة لكل البلدان بسنّ عدد هائل من القوانين التشريعية، فالشعوب تقبل بفرض الإكراهات القسرية كل يوم لأنها تقع ضحية الوهم القائل بأنه كلما زدنا عدد القوانين فإن المساواة والحرية تصبحان مضمونتين أكثر.

إن دورة الحياة لشعب ما، الانتقال من حالة البربرية إلى حالة الحضارة عن طريق ملاحقة حلم ما، ثم الدخول في مرحلة الانحطاط والموت ما إن يفقد هذا الحلم قوته.

يمكنك قراءة المزيد من ملخصات الكتب من هنا.

وكأنك قرأت كتاب المونادولوجيا لليبنتز

إن بداية الفلسفة هي بداية البحث عن المبدأ الأول الذي يتأسس عليه وجود كل ما هو موجود. هذا المبدأ أخذ عناصر مادية في البداية مثل الماء والهواء والنار أو عناصر مجردة مثل العدد عند فيثاغورس أو الجوهر عند أرسطوطاليس. عدوى البحث عن الأصل انتقلت إلى العلوم أيضًا. أسفرت الجهود العلمية عن نتائج مرضية ولكن غير نهائية، أقصى ما تم الوصول إليه هو الكواركات الضاربة جذورها في بنية البروتونات والنيوترونات. ثمة فرضيات حول وجود الأوتار الفائقة لكن النتائج غير حاسمة بعد. في هذا المقال نستعرض مفهوم المونادة عند ليبنتز ومحاولته للكشف عن المبدأ الأول. يعتمد هذا المقال على ترجمة ألبير نصري نادر الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة.

ماهية المونادة

في فلسفة ليبنتز ظهرت قضية المبدأ الأولي مرة أخرى في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. هذا المبدأ الأولي عند ليبنتز مفارق عن المبدأ المادي ومتعالي عليه بالمعنى الحرفي للتعالي. فالمونادة عند ليبنتز هي جوهر بسيط غير قابل للتحليل ومتأصل في كل الموجودات أي المركبات بتعبير ليبنتز. ما يجعل من هذه المونادة مختلفة عن المادة، فهي:

  • لا تولد ولا تموت.
  • غير حائزة على مكان،
  • هي خارج الزمن وأزلية.
  • لا تؤثر عليها التغيرات الفيزيائية.
  • كل مونادة مغلقة على نفسها.
  • كل مونادة هي كاملة لأن فيها شيء من الكمال.

سيرورة المونادة

المونادة لا تأتي إلى الوجود بالولادة؛ لأنها لا تتكون بشكل مرحلي، عكس الموجودات التي تولد من خلال تركيب في الأجزاء. المونادة توجد بالخلق الكامل. كما أن المونادة لا تموت موتًا طبيعيًا، ذلك أن الموت هو تفكك وتحلل الأجزاء، إنما تنعدم كليًا. لكن مع أنها تأتي بالخلق وتنعدم، فهي أزلية.

أزلية المونادة

نعرف أن الله أزلي، ويؤكد ليبنتز على ذلك، لكن أزلية المونادة تختلف عن أزلية الله. إنها تكون كذلك لعدم خضوعها لسلطان الزمن. فالمونادة أزلية بالنسبة للمركب/الجسم، فهي تكون خارج الزمن بشكل متعالي، بينما الجسم يعيش في صميم الزمن، والزمن يحدد كينونة المركب كخاصة أصيلة له. لكن المونادة رغم كونها لا تتأثر بميتات المركب فهي بدورها لا تكون أزلية بالنسبة لله، لأنها تأتي بقرار الله وتنعدم بقرار منه.

الزمان والمكان

الإنسان عبارة عن مركب أو جسم زماني ومكاني، ليس على مستوى التكوين فحسب، إنما على صعيد الإدراك أيضًا. لا يمكننا أن نخرج من كينونتنا ونتعالى عليها ونتصور وجود ما وراء المكان وما هو اللا زمان. منطقنا بالدرجة الأولى هو منطق نفسي، إذ أن إدراكنا عبارة عن إسقاط لمقولاتنا على العالم.

بالنسبة للمونادة فالأمر مختلف تمامًا، فهي لا تكون زمانية ولا تقع في مكان. وما نطلق عليه المكان هو مجال حركة الأجسام، والزمان هو الرابط الآخر الذي يجمع بين جسم وآخر.

المونادة وهوية المركب

كل مونادة تمثل هوية مختلفة، فهي لا تتشابه وهذا اللا تشابه يعطي هوية للمركبات التي تحل فيها. لو كانت المنوادات تتشابه لكانت كل المركبات متشابهة بدورها، فحتى بالنسبة للمركبات من نفس النوع فيها شيء من اللا تشابه. للمونادات صفات وأعراض وهي التي تحدد هوية المركب.

حركة المونادة

مع أن المونادات عوالم مغلقة ولا نوافذ لها، غير أنها تتواصل وتؤثر بعضها في بعض، وهي نفسها تتغير، وهذا التغير يكون وفقًا لمبدأ أصيل في المونادة وهو النزوع للإدراك وموضوع هذا الإدراك هو العالم أي حقيقة اللا متناهي. المونادة تتطور لتدرك الله، هدف وجودها هو هذا الإدراك للوصول إلى إدراك كامل ونشره. كل المونادات مدركة بدرجات متفاوتة. هنا، يخالف ليبنتز معاصره ديكارت. حيث قال ديكارت بأن الإنسان وحده كائن مدرك ونفى هذه الصفة عن باقي الكائنات وكأنها محض آلات، في حين أن ليبنتز يقول بأن كل الأجسام حائزة على نوع من الإدراك ولو كان إدراكًا ضعيفًا. وهذا الإدراك وبفعل نزوعه الداخلي دائمًا ما يتوق إلى الإنتقال إلى إدراك أكثر وضوحًا.

 هوية الإنسان

مع أن النباتات والحيوانات تدرك لكنها أقل كمالًا من الإنسان، ذلك لأن الذاكرة هي أقوى ملكة لدى الحيوانات، فهي تتذكر صاحبها، وتفعل بقدر ما تتذكر. الحيوانات كائنات تجريبية، فهي إذا ما تعرضت للسوء من شخص ما فهي ستذكره ومن ثم تتجنبه. لا ينفي ليبنتز بأننا تجريبيون في أكثر أفعالنا، بيد أن ما يميز الإنسان هو قدرة التجريد بمعرفة الحقائق النظرية الضرورية والأزلية، لذا فالإنسان نفس عاقلة.

نظرية المعرفة

المعرفة النظرية الخالصة تميزنا عن باقي الكائنات، لأنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة الله. هذه المعرفة تساعدنا أن نعرف “الأنا”ونتأمل فيها ونتأمل في المونادة وتجعلنا مدركين بمحدوديتنا أيضًا.

تفكيرنا قائم على مبدأيين كبيرين، وهما:

  • مبدأ عدم التناقض: نحكم بمقتضى هذا المبدأ أن الخطأ هو ما يتناقض مع نفسه، وما هو مضاد للتناقض هو الصواب.
  • مبدأ السبب الكافي: يستحيل أن يكون أي أمر صادقًا أو موجودًا، أو أن يكون أي تعبير صادقًا دون يوجد سبب كافٍ له، ليكون الأمر على ما هو عليه ولا على خلاف ما هو عليه.

وللحقائق نوعين وفقًا لليبنتز، ثمة حقائق عقلية وأخرى واقعية:

  • الحقائق العقلية: هي حقائق ضرورية وضدها مستحيل، مثل الحقائق الرياضية والميتافيزيقيات. هذه الحقائق نستطيع أن نجد سببها بواسطة التحليل وردها إلى حقائق أبسط إلى أن نصل إلى الحقائق الأولية.
  • الحقائق الواقعية: هي حقائق حادثة وضدها ممكن، وهي عبارة عن حقائق خلقية وطبيعية تحتاج إلى التجربة. هذه الحقائق يمكن ردها دائما إلى حقائق أخرى من دون الوصول إلى حقائق أولية.

الله

الله هو المونادة الأقصى والأكمل، فهو واجب الوجود والعلة الأخيرة. هو واجب الوجود لأنه يستحيل أن نتصور إمكانية عدم وجوده، ذلك لأن عدم وجوده يعني استحالة وجودنا. فهو مطلق الكمال ويصدر عنه الوجود/المونادات. وما يميز بين الله والموجودات هو أن الأخيرة لها حدود بسبب القصور الذاتي فيها.

الله فيه نبع الموجودات ونبع الماهيات الحقيقية، وعقله هو منطقة الحقائق الأزلية. الحقائق الأزلية قائمة في شيء موجود ومتحقق وفيه يكون الممكن متحققًا. ولا نحتاج إلى تجربة لمعرفة الله.

يخالف ليبنتز ديكارت في مسألة حرية الله، فوفقًا لديكارت فإن نظام الأشياء مجرد ضربة من إرادة الله وكان بإمكانه أن يخلق الأشياء بشكل مغاير. بينما ليبنتز يرى أن الله نفسه خاضع للنظام، فهو لا يخلق بعشوائية إنما بقوانين، لذا فإن القوانين التي تحكم كل شيء في الكون هي من الله. وتوجد في الله القدرة التي هي مصدر كل شيء، ثم المعرفة التي تشمل تفاصيل الأفكار، وأخيرًا الإرادة التي تحدث التغيرات حسب مبدأ الأصلح. ويقابل ذلك في المونادة ملكة الإدراك وملكة النزوع ولكن بشكل غير نهائي.

إقرأ أيضًا محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

خلق المونادات

جميع المونادات تصدر من الله وتولد عنه بواسطة بريق بشكل متواصل، وهذا البريق يحدد ماهية المونادات. وتحصل المونادة على الكمال من الله. فالله هو فاعل، بينما المخلوق له بعدين، بُعد الفاعل وبُعد المنفعل، فهو فاعل بما فيه من الكمال وإدراكات واضحة، ومنفعل بقوة مخلوق آخر بقدر ما فيه من نقص. المونادات نفسها لا تنفعل، فهي ترعى من قبل الله، وتنظيم الله لها يجعل من كل واحدة في علاقة وتواصل مع أخرى وتعبر عنها، وهذه المونادات معًا تكون بمثابة مرآة أزلية للكون.

كل هذه المونادات تسير سيرًا غامضًا نحو المطلق. كل المونادات كاملة رغم أنها محدودة، فكمالها يكمن في تأدية دورها، فالمونادات التي في نبتة بسيطة تكون كاملة لأنها تحقق وجودها وتدرك العالم من زاويتها وتشارك في مدينة الله وتساهم في الإدراك الكلي، فالعين تكون كاملة بما هي عين، واليد بما هي يد. كحديقة مملوءة بالنباتات، وكبركة مملوءة بالأسماك، كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من الماء هي أيضًا مثل هذه الحديقة أو هذه البركة. لا شيء قفر أو عقم أو ميت في العالم، ولا سديم إلا ظاهريًا.

النفس والجسم

إن المونادة لا تموت، وبما أن المونادة هي جوهر أو روح الجسم، أي جسم كان فهي لا تموت. وليست هناك ولادة كاملة، فالمونادة في حالة تطور مستمر لأن تدرك، وليس هناك موت كامل، فليست المونادة غير قابلة للزوال بل حتى الحيوان لا يزول زوالًا كاملًا. الجوهر والجسم في تناسق دائم رغم أن لكل منهما قوانينه الخاصة. فالروح تعمل حسب قوانين العمل الغائية، بواسطة النزوع والغايات والوسائل. والأجسام تعمل حسب قوانين الحركات، وكلا النظامين متناسقين.

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

إن الأخلاق هي نظام سلوكياتنا، فكل ما نقوم به يكاد يكون تطبيقًا لما نؤمن به أخلاقيًا ولو بشكل غير واعي. لذلك تعد نظرية الأخلاق نقطة مركزية في كل نسق فلسف. منذ آلاف السنين ويحاول المصلحين والفلاسفة بناء نظرية أخلاقية من شأنها أن تفسر سلوكياتنا وتوجهها أحسن توجيه. نظرية المنفعة أو النفعية حاولت وتحاول بدورها تقديم إجابات لأسئلتنا الكثيرة حول الأخلاق وما زالت تواجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات. هذه النظرية قديمة، دافع عنها بروتوغوراس جزئيًا وتبناها أبيقور واجتهد فيها، كما استمرت الاجتهادات عبر العصور. يعتبر جون ستيوارت ميل من أهم منظري الفلسفة النفعية. ولنتعرف على هذه النظرية نقدم في هذا المقال أهم كتاب في النفعية ألا وهو كتاب المنفعة لجون ستيوارت ميل.

صراع المدارس:

يقسم ميل المدارس الفلسفية الأخلاقية بين الحدسية والاستقرائية وكلاهمها يتفق على أن أخلاقية الفعل الفردي لا تختص بالإدراك المباشر، بل تخص تطبيق القانون على حالة فردية معينة. يأخذ ميل على المدرستين التمسك الحاد بوجود مبادئ عامة للأخلاق. الحدسية تؤكد على وجود مبادئ أخلاقية بديهية بصفة ما قبلية بينما تعول الاستقرائية وجود مبادئ عامة تم كشفها عن طريق التجربة. كلتا المدرستين تقومان على أساس ميتافيزيقي. لذا يرى ميل بأن كل المبادئ العامة بما فيها مبادئ الريضايات فيها نوع من الوهم. بعيدًا عن المبادئ العامة يقول ميل بأن قواعد الفعل الأخلاقي يجب أن تأخذ طابعها ولونها من الغاية التي تكون في خدمة تحقيقها.

ماهية نظرية المنفعة:

منذ بداياتها وتواجه نظرية المنفعة السخرية من منتقديها، إذ يعتقدون أنها تركز على اللذة المحض بأبشع أشكالها الحيوانية. يفند ميل هذا الإعتقاد، فاللذة لا تعني الانغماس في اللذات الجسدية الآنية، بل أن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الخالص، وأن النفعية ترفع من شأن اللذات الذهنية بالمقارنة مع اللذات الجسدية. لذلك فأن نظرية المنفعة لا تتوقف عنذ اللذة بل تجد بأن هدف الإنسان هو السعادة وتخفيف الألم.

السعادة التي تهدف إليها النفعية لا تعني الأنانية، أي سعادة الفرد ولو على حساب سعادة الآخرين. بل هي على عكس ذلك تمامًا. يقول ميل بأن السعادة التي تمثل المقياس النفعي لما هو خير في ما يتعلق بالسلوك ليست متمثلة في السعادة الخاصة للفاعل، بل هي متعلقة بسعادة الجميع. بل تذهب النفعية أبعد من ذلك إذ ترى بأن التضحية بالسعادة الشخصية لأجل سعادة الآخرين تعد أرقى فضيلة.

النفعية كأخلاق عالمية:

يعتقد ميل بأنه يمكن القضاء على أكثر الظواهر العالمية فتكًا مثل المرض والفقر. فمع تطوير العلم والتربية الصحية يمكن تقليض رقعة الأمراض بشكل غير نهائي ومن خلال حكمة المجتمع يمكن القضاء على الفقر نهائي.

النفعية متفائلة بخصوص المستقبل، ذلك لأن طبيعة الإنسان قابلة للتعديل والتصحيح، والتجربة على مدى العصور علمتنا الكثير حول السلوكيات الحسنة. لذا يمكن تحسين طبيعة البشر والبيئة المحيطة عن طريق توجيه سلوكياته نحو غايات فاضلة.ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

السعادة والرضى:

هناك لذات جسدية وأخرى ذهنية، لا شك أن الأخيرة أصعب من الأولى. ذلك لأن صاحب الملكات الأرقى يتطلب الكثير ليصل إلى السعادة المرجوة وعادة ما تكون مرهقة أو صعبة المنال. لذلك قد يلتجأ إلى اللذات الجسدية لتعويض ذلك. لهذا فأن الذي يسعى إلى اللذات الدنيا لديه فرصة أكبر للوصول إلى الرضى المطلوب. فالمشاعر السامية هي في معظم الطبائع، نبتة رقيقة جدًا وسهلة الفناء.

لكن تفضيل لذة على أخرى يعود بالدرجة الأساس إلى التجربةو فالشخص الذي لم يجرب اللذات الفضيلة سيفضل اللذات الآنية، كما أن للبيئة والتربية أثر كبير في تفضيلات الشخص، غير أن الذي يجرب الأثنين سوف يفضل اللذات الذهنية.

النفعية ليست فلسفة زاهدة، فهي لا تنفي حقيقة وجود ميول مختلفة في الفرد، فهو لا يهدف دائما إلى اللذات الراقية، بل له الحق في طلب الأخرى أيضا وذلك جزء من طبيعتنا.

الفعل أم الدافع:

يرى ايمانويل كانط بأن الأخلاقي هو الدافع وليس الفعل، فالكذب مهما كانت نتيجته فهو شر. غير أن ميل ينظر إلى الفعل مباشرة، فحتى السلوكيات غير المرغوبة إذا ما أدت إلى نتيجة خيرة فهي تكون خيرة. فمثلًا إنقاذ شخص من الغرق بدافع الحصول على المال أو الشهرة يعد فعلًا أخلاقيًا، لأن الفرد لا يُحاسب على نيته إنما فعله وأثر الفعل.

النفعية والدين:

إن صدق الأعتقاد القائل بأن الله يرغب فوق كل اعتبار في سعادة مخلوقاته، هو ما كان غرضه في خلقها، فإن النفعية لن تكون نظرية دون إله، بل ستكون نظرية دينية في أعماقها.

عقوبات أخلاق المنفعة:

كل قانون أخلاقي هو قانون يربط بيني وبين الآخرين، أي أن الأخلاق تحدد علاقتنا معهم. ولمحافظة على كل قانون لابد من وجود رادع أو سلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أم بشرية. نظرية المنفعة الأخلاقية تستند إلى سلطتين وهما السلطة الداخلية والسلطة الخارجية:

السلطة الخارجية:

كل القوانين الإلهية والوضعية التي تعاقب وتكافأ الإنسان على سلوكياته. فالبشر يرغبون ويؤمرون بكل ما سيقوم به الآخرون تجاههم وحيث يعتقدون أن سعادتهم ستزداد به.

السلطة الداخية:

لكل فرد حس أخلاقي وهو جوهر الضمير كما يقول ميل، لكن هذا الحس أو الضمير لا يقع خارج الطبيعة الإنسانية إنما حاصل تجربة الإنسان في العالم ومع الآخرين. تجارب الطفولة، الإحساس الديني، حبنا وتعاطفنا وتقديرنا للآخرين ولأنفسنا وكل ما اختبرناه يشكل ما نطلق عليه بالضمير. إذا ما ارتكبنا خطأ ما فهذا الضمير سيدفعنا للشعور بتأنيب الضمير، ذلك لأننا تعلمنا بأن هكذا أخطا تضر بمصلحتنا وسعادتنا وسعادة الآخرين، وترفض النفعية وجود قوة خفية أخرى وراء حسنا الأخلاقي. أما الشخص الذي لم يتلقى تربية حسنة لن يشعر بأي ذنب إذا ما اقترف خطأ ما وهذه الحالة تفرض وجود سلطة خارجية لتهذيب السلوك.

دليل النفعية:

كل نظرية ملزمة لتقديم دليلها على صحة طروحاتها، بالنسبة للنفعية فأنها تفترض أن شيئا ما مرغوب فيه لأن الناس يرغبون فيه بالفعل، فدليلنا على أن شيئا ما يمكن رؤيته هو أن الناس يمكنهم بالفعل رؤيته. وفقًا لميل فأن السعادة هي كل ما يرغب به الإنسان ولا شيء سواها، فالسعادة هي غاية الفعل ومقياس الأخلاق أيضًا.

بالنسبة النظريات التي قالت بأن الفضيلة هي الغاية، تقر النفعية بأن الفضيلة هي جزء من السعادة، وهي تساعدنا للحصول على سعادة أكبر وألم أقل. كما أن بعض الأمور الأخرى قد تتحول إلى غايات بعد أن كانت وسائل، فالمال، الشهرة والسلطة على سبيل المثال، في البداية كانت وسيلة للوصول إلى الغايات تحولت إلى غايات في حد ذاتها.

لفهم هذه الجزئية يجدر بنا تفسيرها وفقًا لنظرية الاشتراطية التقليدية (Classical Conditioning)، فالمال مثلًا لا قيمة له، لكنه عندما يساعدنا في تحقيق غاياتنا، يتحول بذاته إلى غاية لكونه ينتج نفس المشاعر التي انتجتها غاياتنا، ولكن إذا ما فشل المال في تحقيق سعاتدنا سيخسر المال قيمته، وتسمى هذه الحالة بالإنطفاء.

النفعية والعدل:

يذهب ميل إلى شرح مفهوم العدل لغةً، وفقًا فأن لفظة عدل في البداية كانت تعني طريقة القيام بالأشياء ومن ثم صارت تعني الطريقة التي يؤمر بها يعني على السلطات القيام بتطبيقها. يقول ميل على ذلك: “أن الفكرة الأصيلة في تكوين مفهوم العدل كانت تتمثل في مطابقة القانون”.

الشعور بالعدل:

يتسائل ميل إذا كان الشعور بالعدل يعد شعورًا خالصًا كما الشعور بالألوان وغيرها من المشاعر الخالصة أو أنه نعمة من نعم الطبيعة، أي شعور طبيعي. يرى ميل أن العنصرين المكونين الأساسيين للشعور بالعدل هما الرغبة في عقاب الشخص المتسبب للضرر، والاعتقاد بأن هناك شخصًا معينًا أوأشخاصًا معينين ألحق بهم الضرر، الرغبة في الانتقام رد فعل تلقائي نابع من نوعين من المشاعر الطبيعية وهما الدفاع عن النفس والتعاطف. التعاطف مع الآخرين والذكاء المتطور يساعدان الإنسان لتحقيق المصالح المشتركة. يقول ميل عن ذلك بأن الشعور بالعدل هو الرغبة الحيوانية بالإنتقام بسبب الإساءة الملحقة بالنفس أو الملحقة بمن تعاطف معهم.

الإرادة الحرة:

الإنسان هو نتيجة بيئته الخارجية والداخلية، التربية السيئة ستخلق المجرمين على سبيل المثال، وبالنسبة للبيئة الداخلية، فوجود أمراض قد يدفع بالمرء ارتكاب الجرائم، لذا العقاب القاسي لا يكون مبررًا لطالما أن الشخص غير مسؤول عن تكوينه الأخلاقي، فالعدل إذن عليه ألا يكون إجراميًا بدوره بل عليه أن يكون تصحيحيًا.

العدالة الإجتماعية:

رغم أنه تم ربط النفعية بأبشع أشكال الرأسماية إلا أننا نجد عند ميل ميوله الإشتراكية، لا يُقصد هنا الإشتراكية العلمية (الشيوعية) بل الإشتراكية بمعنى عام، هذا الميل هو الذي تسبب له بمشاكل عائلية أيضًا، لطالما كان والده يكره الإشتراكية. فهو يرى بأن العدالة تقتضي أن تدفع الأثرياء وفقًا لدخلهم.

فهو يتحدث عن العدل بوصفه ضمانًا قانونيًا لحقوق الجميع دون أي إستثناء. فالقانون العادل هو الذي يحمي مصلحة الجميع. فنحن على صلة طبيعية بكل الكائنات البشرية، وهذه الصلة تعد بمثابة وثيقة أخلاقية ومخلفتها أعظم الشرور. والقانون يجب أن يتمتع بالحياد والمساواة وعلى المجتمع كله أن يعامل كل الأفراد معاملة حسنة بشكل مطلق.

اقرأ أيضافلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

مراجعة كتاب “إبداعات النار” من السيمياء إلى العصر الذري

مراجعة كتاب “إبداعات النار” التاريخ المثير للكيمياء من السيمياء إلى العصر الذري

يتناول كتاب “إبداعات النار” تاريخ علم الخيمياء أو كما يطلق عليه (السيمياء) بالتفصيل منذ بداية ظهوره وصولًا إلى ظهور علم الكيمياء كعلم حقيقي معترف به، بالإضافة إلى تاريخ العالم والحضارات المختلفة من منظور علم السيمياء، وقد استطاع الكتاب مناقشة أهم الأسئلة التي تتعلق بذلك العلم الغريب باستفاضة. 

ما هو علم السيمياء؟ 

علم  السيمياء هو أحد العلوم القديمة التي انتشرت في القرون الوسطى، وقد انقسم علم السيمياء إلى شقين أساسيين، أولهما الإيمان بوجود حجر الفلاسفة الذي له قدرة هائلة على شفاء المرضى وإطالة العمر وتحقيق حلم الشباب الدائم والخلود.

 أما الشق الثاني فكان يهتم بمحاولة تحويل معدن الرصاص إلى ذهب، وقد بنيت هذه النظرية على افتراض أن الرصاص والذهب مصنوعين من العناصر الأربعة الأساسية (الماء- الهواء- التراب- النار) نفسها ولكن بنسب مختلفة، لذلك فإن تغيير هذه النسب في معدن الرصاص كفيل بتحويله إلى ذهب.

وقد كان علم السيمياء من العلوم الرائجة آنذاك بين الكثير من العلماء المشهورين مثل عالم الفيزياء الشهير “ إسحاق نيوتن “، والذي تلقى دروسًا به على يد العالم “روبرت بويل” بطل الثورة العلمية في القرن السابع عشر.

كما اشتهرت شائعة أن جميع الأواني والملاعق التي كان يستخدمها الطبيب أبو بكر الرازي مصنوعة من الذهب، وذلك لأنه اكتشف الطريقة السرية الكامنة في علم السيمياء لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، والتي كانت تضم بعض المواد الأخرى مثل الزئبق والكبريت والملح والذي كان يُعتقد أنه عبارة عن خليط من الذهب والفضة.

وقد أشاد الكيميائي الشهير “لورنس برينسايب” بالخيميائيين، وذكر أنهم كانوا علماء تجريبيين إلى حد مذهل، حيث أنهم ابتكروا الكثير من التقنيات الهامة مثل التقطير والصهر والورنشة والصباغة وغيرها، وأضاف أن أي كيميائي يتمنى أن يكون لديه مساعد على دراية كبيرة بعلم الخيمياء، وكان رأي “لورنس برينسايب” الدافع الأساسي لي لقراءة ومراجعة كتاب “إبداعات النار”.

مراجعة كتاب إبداعات النار      

 كتاب إبداعات النار عبارة عن دليل شامل لتاريخ الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري. هو عبارة عن قصة، بل ربما رواية إن اكتفينا بمعيار الحجم، من عشرين فصلًا. 

تغطي السَبعةُ فصولِ الأولى زمنًا يمتد من مئة ألف عام قبل اختراع الكتابة إلى القرن الثامن عشر. لأنه لا بد وفق الكاتبَين اللذين ألفا الكتاب (كاتي كوب وهارولد جولد وايت) أن نعرف خلفية الثورة الكيميائية. والتي نشأت قبل الخيمياء، حيث كان الطهو بوصفه هو أول تفاعل كيميائي أجراه البشر.

أما الفصول من الثامن إلى الرابع عشر تمتد من أواخر القرن الثامن عشر حتى الحرب العالمية الأولى. وهنا الثورة الحقيقية، خاصة حين لا تعني الثورة انفجارًا معرفيًا فحسب. بل نظرة جديدة إلى الوجود: إنجازات لافوازييه، أفكار دالتون، قوانين الترموديناميك، ظهور فروع جديدة من الكيمياء (العضوية، التحليلية، الحيوية)، جدول مندلييف الدوري، تطور النظرية الذرية… إلخ. باختصار فإنها تصف نهاية الخيمياء، وبداية الكيمياء بصفتها علمًا حقيقيًا.

الفصول من الخامس عشر إلى العشرين تنتهي بنا في عام 1950. فترة قصيرة قياسًا بما سبق، لكن فيها حدث ما يراه كثيرون أكثر الاكتشافات إذهالاً وهو ظهور نظرية الكم (الكوانتم).

إذن، ما هو علم الكيمياء؟

علم الكيمياء هو العلم الذي يهتم بدراسة خصائص العناصر المختلفة وبنية المركبات. وكذلك التركيب الجزيئي للمواد والتفاعلات التي تحدث فيما بينها.

ما الذي تحتاجه لقراءة كتاب إبداعات النار؟

قد يلزمك لقراءة كتاب “إبداعات النار” بالإضافة إلى الرغبة والشغف للقراءة. أن تكون على معرفة ببعض المصطلحات الأساسية في علم الكيمياء مثل: 

1- العدد الذري (Atomic Number)

يعبر العدد الذري عن عدد البروتونات التي توجد في النواة. وهو العدد الذي يعبر عن هوية العنصر، كما أنه يمثل كذلك عدد الإلكترونات في الذرة المتعادلة (التي لم تخسر أو تكسب أية إلكترونات).

2- العدد الكتلي (Mass Number)   

العدد الكتلي هو مجموع عدد البروتونات والنيترونات التي توجد في النواة.

3- الكتلة الذرية (Atomic Mass)

الكتلة الذرية هي متوسط كتلة ذرة ما وذلك مع مراعاة نظائرها التي توجد في الطبيعة.

4- النظائر (isotopes)

النظائر هي ذرات لها نفس عدد البروتونات أي أن لها نفس العدد الذري. ولكنها تختلف في عدد النيوترونات أي أنها تختلف في العدد الكتلي. إذن فإن النظائر هي أشكال مختلفة من العنصر نفسه.
مثال:
تحتوي كل ذرات الكربون على ستة بروتونات أي أن عدده الذري يساوي 6. وفي الطبيعة يوجد عدة أنواع من الكربون مثل:

  • الكربون الذي يحتوي على 6 نيوترونات (الكربون 12).
  • الكربون الذي يحتوي على 8 نيوترونات (الكربون 14) نظير مشع للكربون.

وليس بالضرورة أن تكون كل النظائر مشعة فبعضها مستقر والبعض الآخر يتحلل ببطء شديد، فمثلًا عنصر البزموت يمتلك نظير واحد مستقر، أما الرصاص فيمتلك أربعة نظائر مستقرة.

هل يمكن فعلًا تحويل الرصاص أو أي عنصر آخر إلى ذهب؟ 

في عام 1981 استطاع بعض العلماء في مختبر لورنس بيركلي الوطني (LBNL) في كاليفورنيا استخلاص كمية ضئيلة من الذهب من عنصر البزموت، وذلك عن طريق تسريع عددًا من ذرات الكربون والنيون إلى سرعة كبيرة تقترب من سرعة الضوء، من ثم توجيهها نحو رقائق من معدن البزموث الذي يقع بجوار عنصر الرصاص في الجدول الدوري.

استمرت تلك العملية حوالي 24 ساعة متواصلة، وعندما انتهت التجربة وجد العلماء أن بعض ذرات البزموت قد فقدت أربعة من بروتوناتها وتحولت إلى ذرات الذهب، حيث أن العدد الذري لعنصر البزموت هو 83 أما العدد الذري للذهب هو 79.ولكن كانت نتائج التجربة مخيبة للآمال بالرغم من نجاحها وذلك نظرًا لصعوبة عزل ذرات الذهب، بالإضافة إلى ضآلة الكمية الناتجة مقارنة بكمية معدن البزموث المستخدمة في التجربة. ولكن هل يمكن أن نعتبر أن ما وصل إليه هؤلاء العلماء قد يساعد في تحقيق الحلم القديم؟

ملخص كتاب بحث الإنسان عن معنى (الجزء الأول)

في كتابه بحث الإنسان عن معنى، يحكي الطبيب النفسي النمساوي الشهير فيكتور فرانكل عن التجربة العصيبة التي مر بها داخل معسكرات الاعتقال النازية. وكيف تأثر بها وأسهمت بشكل كبير لاحقًا في وضعه لأساسيات واحدة من أشهر مدارس العلاج النفسي المعروفة الآن. وهي العلاج بالمعنى المعروفة باسم logotherapy. يقوم العلاج بالمعنى على فكرة أن إيجاد المعنى والهدف من الحياة هو مفتاح سعادة الإنسان وراحته.

في الواقع، بدأ فيكتور صياغة نظريته عندما كان في فيينا، النمسا من قبل حلول العدوان النازي. وبعدها عندما تم اعتقاله لمدة 3 سنوات، شارع فيكتور بتطبيق أفكار نظريته عليه وعلى زملائه في المعسكر في محاولة منه لإيجاد المواساه.

ينقسم الكتاب إلى جزئين. في الجزء الأول يباشر فيكتور الحديث عن تفاصيل تجربته في معسكرات الاعتقال ومراحلها المختلفة. أما في الجزء الثاني فيبدأ بتوضيح أساسيات العلاج بالمعنى.

في هذا المقال، يتم سرد ملخص الجزء الأول فقط. وسيتم نشر ملخص للجزء الثاني في مقال لاحق.

الوصول إلى المعسكر

يروي فيكتور تفاصيل نقله هو وعائلته إلى المعسكر بعد رحلة طويلة شاقة. وعند وصولهم، يتم تصفيتهم حسب مقدرة كل فرد على العمل. فالأفراد ذوي المقدرة البدنية على العمل يتم إرسالهم إلى معسكرات أخرى خاصة بالأعمال الشاقة. ويتم إرسال جميع من ليس لديه مقدرة بدنية (بما في ذلك الأطفال وكبار السن والمرضى) إلى غرف الغاز حيث يلقون حتفهم.

عرفت غرف الغاز بالإبادة الجماعية، حيث يتم إدخال الأفراد في غرفه مغلقة ومن ثم ضخها بالغاز المسمم فيتم إعدام جميع من فيها خنقًا.
فيروي هنا فرانكل بأنه عند مفترق الطرق، عند مرحلة اختيار من عليه الذهاب إلى معسكر الأعمال الشاقة ومن سيتم إرساله إلى غرف الغاز، كان الجميع يحاولون جاهدين التظاهر بالمقدرة البدنية لتجنب المصير المحتوم.
بعد اجتياز مرحلة التصفية، يتم اختيار فرانكل للذهاب إلى معسكر أخر ليقضي سنوات مقبلة من حياته في الأعمال القسرية.
كان حراس المعسكر يحرصون على سلب جميع ممتلكات المساجين. حيث يروي فرانكل أنه وقبل دخولهم المعسكر يتم أخذ كل الممتلكات دون استثناء. ولا يقتصر الأمر على الممتلكات المادية فحسب، فمعاملة حراس المعسكر للمساجين بتعمد الإهانة والوحشية والتعنيف الجسدي سلبت منهم أيضًا حقوقهم الأساسية في التعامل الآدمي.
فيقول فرانكل أنه في المعسكر يتم سلب جميع الممتلكات المادية والحقوق الأساسية. وحتى أدنى مستوى من الكرامة الإنسانية ليتركوا بذلك الفرد مجرد تمامًا من كل شيء.

المراحل النفسية الثلاث للسجين في معسكرات الاعتقال

يروي فرانكل أن السجين في معسكرات الاعتقال يمر بثلاث مراحل نفسية أساسية. من بداية دخوله المعسكر وحتى خروجه منه. المراحل هم: الصدمة واللااكتراث والإحباط. المرحلة النفسية الأولى تتجلى عند وصولهم إلى المعسكر. حيث يختبر السجين مشاعر الصدمة جراء ما يشهده من انتهاكات وسلب مباشر وغير مباشر للكيان الإنساني الذي هو عليه.

الحياة داخل المعسكر

يتحدث فرانكل عن تفاصيل الحياة من داخل المعسكر التي لا تخلو من مختلف ممارسات الظلم والقهر والمعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها المساجين. وفي تلك المرحلة بالتحديد، عندما يجتاز السجين مرحلة الصدمة، وهي المرحلة الأولى من مراحله النفسية الثلاث، ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة اللااكتراث. تتطور هذه المرحلة بشكل كبير كآلية دفاعية نفسية عند السجين لمواجهة جميع أشكال العذاب التي يتعرض لها.
في تلك المرحلة، تعمد فرانكل التركيز على ذكر المعاناة اليومية المتفرقة التي كانوا يواجهونها. ولم يتطرق إلى الحديث عن الألم الوجودي العميق المصاحب للتجربة بشكل كبير.

فمن ضمن مما عاناه السجين، وساهم بشكل كبير في التأثير عليه هو قلة الطعام وسوء التغذية العام. فحراس المعسكر كانوا يتعمدون تجويع المساجين وحرمانهم من الطعام كلما سنحت الفرصة.
فكان هَم السجين الأوحد خلال اليوم هو الحصول على قسط من الطعام للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن. ويأتي ذلك إلى جانب قلة ساعات النوم بالإضافة إلى ساعات العمل الطويلة الغنية بجميع أنواع العذاب النفسي والجسدي.
يذكر فرانكل هنا أن كثير من المساجين لم يتحملوا الحياة داخل المعسكر فبعضهم حاول الهرب والبعض الآخر لجأ إلى الانتحار.

وفي منتصف ذلك العذاب المضني، يحاول فرانكل جاهدًا تطبيق أفكار نظريته العلاجية عليه وعلى أصدقائه. لمساعدتهم على تحمل مشاق الحياة التي وجدوا أنفسهم بصددها.
ففي وسط جميع أنواع العذاب والظلم والفوضى التي تحوم حول الحياة داخل المعسكر. يرى فرانكل أنه بإمكان الحياة أن تكون ذات معنى وبإمكان الفرد تحقيق ذلك المعنى.
وأن معاناة الفرد دليل على قدرته في تحقيق ذلك المعنى. فالمعاناه تحمل في طياتها جرأة في مواجهة العذاب والألم وشجاعة تحمله. بالإضافة إلى فضيلة التحكم بالنفس عن طريق عدم السماح لتلك المعاناة بأن تقود سلوك الفرد إلى الأسوأ.
فيرى فرانكل أن المعاناة والصعوبات يحملان في طياتهما فرصة عظيمة لاستخراج الكثير من المعان.

آمال زائفة

يروي فرانكل أنه في أيامهم داخل المعسكر كان السجين يحلم باليوم الذي سيطلق به سراحه. فكانوا يسرفون في الحلم وكان الكثير يمضون أيامهم في تخيل شكل الحياة ما بعد التحرر. وأدرك فرانكل التأثير السلبي لذلك على المساجين. حيث أن تلك التخيلات لم تأت بمفردها بل تأتي عادة جمًا إلى جمب مع الكثير من الإشاعات عن أنباء لانتهاء الحرب والتحرر. فيعلق الكثير آمالهم على توقعات زائفة بالتحرر القريب ويسرفون في التخيلات الواعدة، وعندما يمر الوقت دون تغير في الأحداث واستمرار الحرب، يصاب الكثير بمشاعر إحباط شديدة قد تودي بهم أحيانًا.

الحياة بعد المعسكر

في آخر أيامه في معسكرات الاعتقال، يذكر فرانكل كم السعادة التي شعر بها هو وأصدقائه عندما وصلهم أنباء انتهاء الحرب والإفراج القريب عنهم. فيروي أنه لم يستطع النوم هو وزملائه من فرط سعادتهم وتحمسهم. ففي أول يوم خرج فيه من بوابة المعسكر هو وزملائه كانوا في حالة عدم تصديق بأنهم أخيرًا قادرون على تخطي بوابة المعسكر دون خوف من الحراس.

ويحكي عن تفاصيل ذلك اليوم، فيقول أنهم بالرغم من شدة حماسهم وهم بداخل المعسكر للخروج، عندما خرجوا فعلًا كان الأمر مختلفًا عما تصوروه. حيث شعروا في البداية بعدم الرضا عندما لم يجدو ما كانوا ينشدونه عند خروجهم من المعكسر. بل سرعان ما تطور هذا الشعور بعدم الرضا إلى شعور عميق بالإحباط عند عودتهم إلى منازلهم ليجدوا أن عائلاتهم بأكلمها لم تعد على قيد الحياة. وأن الحياة خارج المعسكر لم تكن كما كانوا يتصورونها في أذهانهم طوال سنوات المعسكر. وهنا، يمر السجين بآخر مرحلة نفسية من المراحل الأساسية خلال رحلته إلى وخارج المعسكر، مرحلة الإحباط العميق.


يرى فرانكل في نهاية الجزء الأول بأنه حتى إذا كانت الحياة بالفعل خارج المعسكر كما تخيلوها بداخله، فإنها مع ذلك لن تستطيع تعويضهم عن كم المعاناة التي شهدوها هناك. وأوضح أيضًا بأنهم لا يحتاجون السعادة المادية بالأساس. فعند النظر إلى الوراء والتأمل في التجارب والمحن التي اجتازوها وبالشخص الذي أصبحوا عليه بعد تلك المحنة فإن ذلك يبعث شعورًا مليئًا بالمعنى والتتويج.

اقرأ أيضًا: ملخصات كتب

ملخص رواية “الواجهة” للكاتب يوسف عز الدين عيسى

ملخص رواية “الواجهة” للكاتب يوسف عز الدين عيسى

تُعتبر رواية الواجهة من أشهر أعمال الكاتب والمفكر المصري يوسف عز الدين عيسى، والتي أثنى عليها الكاتب الكبير نجيب محفوظ. وأقر أنها من أفضل الأعمال التي قرأها.
وقد جاءت الرواية لتطرح الكثير من الأسئلة الفلسفية التي تطرأ على أذهاننا جميعًا، عن ماهية الحياة وألم العيش ولغز الموت المحير. وذلك في إطار روائي مميز، يجمع بين الفلسفة والخيال، ليحكي لنا حكاية البطل “ميم نون” من البداية إلى النهاية.

الواجهة:

تبدأ الحكاية بظهور البطل في مدينة غريبة لا يعرفها، كما لا يعرف اسمه أو من أين جاء. ظل وفقًا في مكانه لبعض الوقت مشدوهًا بما يرى من أناقة هذه المدينة ونظافتها، وشوارعها التي تفوح منها رائحة الفل والياسمين ولكنه لا يعرف كيف نقل إليها ولا متى، قاطعت تفكيره فتاة ترتدي ثوبًا ناصع البياض، تمر من أمامه على استحياء. فقرر أن يتبعها علّه يجد من يجيبه عن تلك الأسئلة التي تدور في رأسه.

رأى الفتاة تدخل مبنى يختلف عن مباني المدينة الأخرى، حيث سمع أصواتًا عديدة وتراتيل تنبعث من الداخل، وعندما دخل أبصر مجموعة كبيرة من البشر جميعهم بملابس بيضاء، يجلسون أمام رجل في الخمسين من عمره يرتدي ملابس تشبه ملابس القس، والذي كان يخبرهم بعدم حاجتهم بعد ذلك لجلسات الوعظ والإرشاد، فإن المدينة طاهرة لا يوجد بها من سارق ولا قاتل، ولا حتى رجل منحرف السلوك أو أنثى فاسدة الأخلاق.

انبهر البطل بما رأى وقرر أن يسرع ليسأل القس عن سبب وجوده هنا، ولكنه لم يلحق به فبمجرد انتهاء الجلسة اختفى الجميع من أمام ناظريه. فخرج إلى الشارع شاعرًا بجوع شديد ووحدة قاتلة. وعندها رأى مطعمًا قريبًا منه جذبته إليه رائحة الشواء فتقدم نحوه وجلس إلى مائدة في وسط المطعم.

أقبلت تجاهه فتاة جميلة تعمل بالمطعم، طلب منها أن تحضر له أي طعام يسد جوعه، وأخبرها أنه لا يملك المال، ففاجأته بأنه ليس عليه دفع أي شيء، فهو غريب عن المدينة وله الحق في الطعام والمسكن لمدة عام دون مقابل. لأن تلك هي القوانين.

وعندما سألها عن مسكنه ذهبت باتجاه الهاتف المعلق على الحائط وأدارت رقمًا وتحدث في بضع جمل قصيرة، ثم عادت إليه مرة أخره وأخبرته أن اسمه هو “ميم نون” ودلته على مسكنه، ودهش عندما علم أن المدينة تتكون من شارع واحد وكل سكان المدينة يعيشون فيه، اتجه إلى منزله وقابل خادمه الذي يعمل بالمنزل، وحاول أن يسأله “ميم نون” عن الأسئلة التي تدور في رأسه، ولكنه أخبره أن يذهب إلى مكتب الاستعلامات إذا كان يريد العثور على إجابات.

حكم الإعدام:

ذهب “ميم نون” إلى المطعم في وقت العشاء ولكنه كان قد تأخر كثيرًا عن الموعد، لذا قرر أن يتفقد المدينة، ولاحظ ابتسام كل من قابلهم من أهل المدينة جميعًا له واحتفالهم به، وأثناء سيره تعرف على شابًا يدعى دال والذي دعاه لتناول العشاء في منزله فرحب ميم فورًا، وهناك تعرف على أختيه ووجد طعامًا وفيرًا، وفي أثناء الطعام بدأ حديثه بأنه سعيد في هذه المدينة وأنها مكان مثالي.

ولكن حاولت إحدى الأختين إخباره بشيء ما فنهرها أخوها وخرجت مسرعة من غرفة الطعام، ثم عادت بعد دقائق صارخة أنها رأت الذبابة وقد حان دورها في الإعدام، مما راع “ميم نون” كثيرًا ولم يفهم شيئًا، من ثم ماتت الفتاة أمام ناظريه.

ثم دق جرس الباب وحضر رجلين يرتديان ملابس سهرة سوداء، حملا الفتاة ووضعاها في سيارة سوداء وانطلقا نحو بالوعة في آخر المدينة وألقوها فيها، وهناك سمع “ميم نون” صوت قطار قادم من بعيد ثم أُغلقت البالوعة.

وكان هذا أول تنفيذ لحكم إعدام يشهده “ميم نون” في المدينة، ومنذ هذه اللحظة عرف أن كل من في المدينة محكوم عليهم بالإعدام بأمر من حاكم المدينة، وهو وحده من يقرر وقت وطريقة الإعدام، وتساءل لماذا يأمر الحاكم بقتل فتاة جميلة مثل هذه؟

وفي اليوم التالي ذهب إلى مكتب الاستعلامات وهناك علم أن مهمته في هذه المدينة هي البحث عن الحقيقة، وتأكد هناك من أن جميع من في المدينة محكوم عليهم بالإعدام بما فيهم هو نفسه، وأنهم يلقون في البالوعة بعد تنفيذ الحكم حيث تنتظرهم حياة أخرى.

اللعنة التي حلت على “ميم نون”:

أمضى “ميم نون” أيامًا في صدمة مما علمه عن تلك المدينة وشاهده فيها، وكان يشعر بوحدة شديدة لذا عندما ذهب إلى المطعم دعا الفتاة التي كانت تقدم له الطعام أن تأتي لمنزله وتؤنس وحدته دون أي تفكير دنيء. بُهتت الفتاة بمجرد سماع هذا الكلام، ونهرته واتهمته بأنه يلوث المدينة بخطاياه. وشكته للجهات المسؤولة في المدينة وحرمته من مجانية الطعام والمأوى.

وعندما خرج ميم إلى الشارع تفاجئ بأن الجميع ينظرون له باشمئزاز، وعندما ذهب إلى منزله طرده الخادم جزاءًا لإثمه، وعلم “ميم نون” أنه لكي يحصل على المال يجب أن يدور في طاحونة المدينة. بحث بجد عنها حتى وجدها واستطاع تخطي الاختبار وبدء العمل، وكان عليه أن يدور في الطاحونة وتلهب السياط ظهره من قبل عامل الطاحونة ليحصل على المال.

خرج ميم منهك القوى مدمى الظهر من الطاحونة يحمل عشرين قرشًا، ثم ذهب إلى المطعم ليتناول طعامه، تناوله على عجل وغادر المكان، ومعه كل الأسئلة التي سرقت النوم من عينيه تدور في رأسه، فماذا تكون تلك المدينة؟ ومن هو مالكها؟ ولماذا يستمتع بإعدام الناس؟

رجع “ميم نون” إلى منزله فقد استطاع أن يدفع الإيجار بما كسبه من الطاحونة. وفي اليوم التالي ذهب للطاحونة مرة أخرى ليحصل على قوت يومه، وعندما ذهب للمطعم على العشاء وجد أن أسعار الطعام قد ارتفعت بشكل كبير فلم يستطع شراء عشائه، واستمر في الدوران في الطاحونة لأيام والأسعار تتزايد بشكل مستمر، وأجره في الطاحونة كما هو لا يتغير وأصبحت المعيشة أصعب.

زواج مفاجئ:

عاد ميم إلى منزله في يوم ووجد هاتفًا قد وضع جانب سريره بأمر من مالك المدينة، وعبر هذا الهاتف تلقى مكالمه من رجل مهم في المدينة يدعوه لتناول العشاء معه، وهناك لم يحصل “ميم نون” على إجابات مرضيه على تساؤولاته مثلما كان يظن، ولكنه حصل على وجبة عشاء دسمة وتعرف على فتاة شقراء تعمل لدى هذا الرجل المهم.

وعندما خرج من هناك، وجد في طريقه مبنى معلق عليه لافتة. مكتوب عليها “كل من يشكو الوحدة يدخل هذا المكان” فدخل على الفور. ولكنه وجد هناك باب مكتوب عليه “كل من يرغب في تجربة القلق والحزن يدخل من هذا الباب”. فحاول التراجع ولكن لم يجد مفر من الدخول.


وعندما دخل رأى قاعة احتفالات مليئة بالشباب والفتيات، ووقعت عيناه على الفتاة التي وجدها سابقًا عند الرجل المهم، وعندما ابتسمت له وابستم لها كانت قد تمت مراسم الزواج بينهم واستلما الوثيقة عند خروجهما، تفاجأ ميم مما حدث ولكنه قد اطمأن لأنه لن يظل وحيدًا بعد الآن.

الجزء الخلفي من المدينة:

وفي الصباح ذهبا معًا لتناول الطعام، ولكن النقود التي مع “ميم نون” لم تكف نظرًا لغلاء الأسعار المستمر. ذهب ودار في مرارًا وفي كل مرة عند عودته يجد أن الأسعار قد ارتفعت. وظل يذهب إلى الطاحونة ويرجع ولا يحصل على المال الكافي وسط ضحكات الأطفال ونظرات أهل المدينة، فأدرك أن زواجه لم يكن خطوة جيدة. وعندما استيقظ في اليوم التالي لم يجد زوجته بجانبه، فأخبره الحارس أنها قد تكون في الجزء الخلفي من المدينة!


ذهب ميم إلى مكتب الاستعلامات ليعرف ما هو الجزء الخلفي من المدينة. ولكنه قرر السؤال عن سبب غلاء الأسعار وعدم ارتفاع أجره. فحوكم بالسجن عدة أيام عقابًا على ما فعله. وعندما عاد إلى منزله وجد أن مالك المدينة قد أهداه طفلان، صبي وفتاة في عمر السابعة تقريبًا.
أصبح على ميم مسؤوليات كبيرة لإطعام وكساء الطفلين. وزادت مرات دورانه في الطاحونة وإلهاب ظهره بالسياط، وفي يوم استيقظ من النوم فرأى زوجته تتسلل إلى باب خلفي لم يره مسبقًا داخل المنزل، فتبعها والفضول يأكله ووجد نفسه في مكان قذر تفوح منه رائحة النفايات. وجد نفسه في الجزء الخلفي من المدينة.

رأى ميم جميع أشراف المدينة الذين يعيشون في الواجهة. ومن ضمنهم فتاة المطعم التي عوقب من أجلها والواعظ الذي رآه فور وصوله للمدينة، يمارسون أبشع التصرفات في ذلك الجزء الخلفي، يسيرون أشباه عرايا، يسرقون ويزنون ويقتلون ومن يفعل غير ذلك يلقى العقاب، وتساءل ماذا تفعل زوجته في هذا المكان! وعندما يأس من إيجادها رجع إلى منزله فوجدها قد عادت، ولكنها لم تخبره عن سبب ذهابها إلى هناك.

وفي يوم قضاه ميم وزوجته خارج المنزل لزيارة الرجل المهم، عادا إلى المنزل فلم يجدا الطفلين وكانا قد ذهبا إلى الجزء الخلفي من المدينة. وعندما وجدهما ميم كان الطفل قد صدمته سيارة وتسلما إنذارًا بإعدامه. ولكي يرفع حكم الإعدام عن ولده دار في الطاحونة مائة دورة دون مقابل.

وعندما عاد وجد إبنه الجريح قد شفي، ولكنه لم يجد زوجته التي كانت في الجزء الخلفي من المدينة، وعندما عادت إلى المنزل أمرته أن يدور في الطاحونة لتوفير ثمن شراء ملابس المدرسة للطفلين، وكان “ميم نون” منهك القوى ولكنه ذهب للطاحونة وحصل على النقود.

وعندما عاد خرج مع زوجته لشراء الملابس للطفلين، ولكنه سقط من شدة الإعياء في منتصف الطريق. وتوقفت بجوارهما سيارة حمراء هبط منها رجل سلم الزوجة ظرفًا، عندما فتحته أخبرت ميم نون أنه إنذار بتنفيذ حكم الإعدام فيه ثم تركته وذهبت، وعندما استعاد وعيه بعدما ساعدته فتاة عابرة. هم بالرجوع إلى منزله، ورأى في الطريق برجًا يتم إقامته على أحد جانبيه. وعندما سأل أحدهم علم أن هذا البرج من أجله. ليساعده في البحث عن الحقيقة!

البرج:

اندهش “ميم نون” عندما علم أن البرج من أجله وتفاجأ بحشد كبير من الناس يقفون أمامه يريدون تقبيل يديه والحزن يعلو وجوههم والدموع في أعينهم. حاول ميم التملص منهم وذهب إلى منزله، رأى زوجته بين حشود من البشر تحتفل. وقد اكتسى البيت بأفخم الأساس وامتلأ بأشهى الأطعمة، وعندما رأته اعترتها الصدمة. حيث أنها كانت تظن أنه قد تم تنفيذ حكم الإعدام فيه.

وعندما سأل عن مصدر هذا المال الوفير لم يجد إجابة، وسأل عن أبنائه، علم منها أن الفتى قد تم تنفيذ حكم الإعدام فيه. أما الفتاة فقد أصابها الجنون عندما علمت أن كل من في المدينة محكوم عليهم بالإعدام. وفي اليوم التالي تلقى ميم مكالمة تخبره بضرورة ذهابه إلى البرج ليبدأ عمله.

وبعدما ذهب وجد البرج مجهز على أعلى مستوى، وكانت غرفته في الدور الأخير من البرج فوق أربعين طابقًا، ولكن لم يكن من حقه استخدام المصعد وكان عليه الصعود على قدميه. وكانت غرفته أحقر غرفة في المكان، كما أنه لا يحق له ارتياد المطعم الكبير في البرج. حيث أنهم أخبروه أنه أعلى وأرقى من ذلك وأن كل تلك الخدمات للعاملين بالبرج أما هو فمالكه.

وعندما دخل غرفته سمع صوت صراخ طفلته التي تركتها زوجته له ورحلت، وجد الطفلة حزينة وهزيلة تحتاج للطعام. فذهب للدوران في الطاحونة والبحث عن زوجته. ولكنهم أخبروه أنها قد اختارت أن تعيش في الجزء الخلفي من المدينة فرجع ميم مع طفلته إلى البرج وصعد بها أربعين طابقًا حتى خارت قواه.

وفجأة شعر بهدوء الطفلة وأنها كفت عن البكاء، وعندما تفقدها كان قد تم تنفيذ حكم الإعدام بالجوع فيها. وبعد دفن الفتاة رجع “ميم نون” إلى البرج ومات هناك في صمت. وذلك بعدما نفذ فيه حكم الإعدام بالحزن. وبعد إلقائه في البالوعة، ظهر فتى غريب في المدينة لا يعرف إسمه ولا من أين جاء وعندما ذهب لمكتب الاستعلامات. علم أن مهمته هي البحث عن الحقيقة!

مراجعات أعضاء نادي القراءة لرواية الواجهة:

بعد أن علمت حقيقة تلك المدينة الملعونة وأنا في كل صفحة من طياتها أخشى على عزيزي ميم نون من أن تكون البالوعة من نصيبة . آمنت بكلامه بأن وقوع المصيبة أهون بكثير من انتظارها.

أشفقت على ميم نون حد البكاء وكأنني لم أتأثر برواية من قبل. كان قلبي ينخلع مع كل إعدام يتم تنفيذه وكأنه حقيقة أشعر بها من شدة تأثري بها بت أحلم كل ليلية بأنني قد حان موعد إلقائي فى البالوعة. كم من بالوعات تم إلقائي فيها كل ليلة منذ أن قرأت!.

عايشت المدينة بتفاصيلها. فرحت كفرحهم وحزنت كحزنهم. لم أقرأها في يوم أو نصف يوم أو أقل من ذلك مع قدرتي على فعلها. كنت أخشى أن أصل إلى نهايتها فأفقد لذتي تلك، وكأن للعذاب لذة.

لاحظت الشبه العجيب بين فكرة الإعدام بلا سبب وبين فلسفة الموت. يمكن أن يأتينا دون اعتبار أو حساب أو سابق إنذار. لكنني أحسست فيها بتشبيه بين واقعنا في الحياة وما خلقنا لأجله. شعرت بالاشمئزاز حينها.

” الإنسان لا يشعر بوجوده إلا إذا تعذب، إننا لا نشعر بلحظات السعادة، ولكننا نحس بأيام العذاب”

بعد ربع الرواية بدأ الكلام يتجه مع كل من يحاوره بأننا دُمى صنعها مالك المدينة ويحق له أن يعدمها في أي وقت الشيء الأقرب إلى الملل هو تشابه الحديث بينه وبين أفراد الرواية. حديثه مع الخادم ومع السيدة العجوز ومع واو كلها متشابهة تقريبًا في اللفظ والمعنى.

في أسفل البالوعة محطة قطار وهذا القطار يحمل الذين نُفذ فيهم حكم الإعدام إلي مكان بعيد مجهول، بعد أن تدب فيهم الحياة من جديد، هذا المكان قد يكون أجمل وأروع من هذه المدينة، وقد يكون أسوأ منها .

كل إنسان يراه بصورة مختلفة الكلمة أشبه كثير بفلسفة الموت والبعث والخلود كما ذكرت سالفًا. النصف الأخير من الرواية أشكر نفسي على احتماله كنت على وشك كسر الشاشة من اشمئزازي من كل موقف مر بي وأنا أقرأه.

الجزء الخلفي من المدينة ومن بعده البرج وحديث الخادم ولا سيما كلمة يا سيدي أنت اعلى قدرًا من الموظفين هنا لذلك لست أهلًا لدرجة كذا .. شعرت بالاستفزاز.

الشيء الأكثر تأثيرًا كان النهاية أو البداية، سيفهم مقصدي من قرأها. في النهاية هناك بعض الأمور التي يجب مراجعتها ولكن كاتبها رحمه الله كنت ولا زلت من أشد الناس إعجابًا بمدرسته. مدرسة الربط بين الواقع والخيال والأحلام. مدرسة لم أر غيره اتجه لها إلا تابعًا.

قرأت له من قبل العسل المر وثلاث وردات وشمعة والتمثال والأب لكن لم اقرأ رواية مخيبة لآمالي لا من الناحية الأدبية ولكن من التأثير النفسي مثل الواجهة.

عبد الله جمال

ملخص رواية الغريب للكاتب والفيلسوف ألبير كامو

للمزيد من ملخصات الكتب

ملخص رواية زوربا اليوناني للكاتب نيكوس كازانتزاكي

ملخص رواية زوربا اليوناني

زوربا اليوناني هي رواية عالمية للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي. نُشرت بداية في عام 1946، وتُرجمت إلى العديد من اللغات ولاقت نجاحاً كبيراً.

لقاء زوربا في المقهى

تبدأ أحداث الرواية مع بداية نهار جديد في أحد المقاهي في ميناء “بيريه”. لكن هذه البداية لا توحي بإشراقة أمل أو مستقبل واعد. بل يعطي الطقس العاصف شعوراً بالضيق، ينعكس في حالة رواد المقهى من بحارين وغيرهم. فهم سئمون ومثقلون بهموم الحياة.

وسط هذه الصورة الرمادية، يطلّ الراوي الذي نسمع تفاصيل حكايته بصوته، ولكننا نجهل اسمه. يبدأ الحكاية وهو جالس في إحدى زوايا المقهى، مستعرضاً ذكريات لا تقلّ سوداوية عن اللحظة الحالية. فيحكي قصة وداعه لصديقه في هذا المقهى بالذات، حين كان هذا الصديق مسافراً إلى القوقاز. مع أننا لا نرى هذا الصديق ولا نسمع صوته مباشرة، إلا أنه يبقى حاضراً في ذهن الراوي.

في هذه الأثناء، يجلس الراوي في المقهى بانتظار مركب ليأخذه هو الآخر في مغامرة إلى جزيرة كريت. حيث قرر هذا الرجل، وهو رجل مثقف مفكر كاتب، أن يترك أوراقه وكراساته، وينطلق في مغامرة حقيقية أسوة بصديقه الذي كان دائماً يشجعه على هذه الخطوة. وها هو الآن، حزم أمتعته، وترك كتبه، واستأجر منجماً للينيت (أحد أنواع الفحم) كي يستثمره. لكنه يدسّ معه خلسة – ربما خلسة عن نفسه أو عن صديقه الحاضر في ذهنه – مخطوطاً كان قد بدأ بكاتبته ولم ينته منه، علّه يكمله على الجزيرة. ويبقى هذا المخطوط، الذي أسماه مخطوط “بوذا”، مرافقاً له لوقت ليس بقليل.

قبل أن يأتي القارب، يدخل على الراوي رجلٌ غريب يقارب الستين من العمر، وهو بطلنا ألكسيس زوربا الذي نتعرف عليه مع الراوي بلحظة شرود وصمت. يأتي زوربا طالباً أن يسافر معه، ويثير بأحاديثه العفوية فضوله، مما يدفعه إلى القبول بأخذه كمساعد.

ولكن زوربا لم يكن قد حزم الكثير من الأمتعة، بل اكتفى بأخذ السانتوري الذي يعشق موسيقاه، والذي عاش معه تجارب غيرت حياته. وفي خضم أحاديثه المتشعبة، يدرك الراوي، أو الرئيس كما يدعوه زوربا، أن هذا الرجل ذو القلب الحي والروح الخام هو الرجل الذي يبحث عنه ليساعده، ليس فقط في مغامرته، بل أيضاً في سعيه الفكري والروحي.

ثم على القارب

في القارب، يكتشف الرئيس جوانب أكثر لشخصية زوربا. فهو رجل صريح لا يخاف أن ينتقد ما لا يعجبه أو أن يعبر عن رأيه واستيائه للأحداث المعاصرة في بلاده. أما الرئيس فيغرق في تأملاته وأفكاره التي تطال كل الغيوم والجزر التي تمر في طريقهم، بل وحتى الركاب.

على القارب، يكشف زوربا للرئيس عن العذاب التي تسببه له فكرة الحرية، هذه الفكرة التي يقتل البشر بعضهم من أجلها، كما فعل هو في أيام شبابه عندما قامت الثورة في كريت. ويبقى موضوع الحرية أحد المحاور الأساسية التي تناقشها الرواية على لسان زوربا وفي أفكار الرئيس.

الوصول إلى القرية

مع الحديث عن الحرية، يترجل الرئيس وزوربا وينطلقان إلى وجهتهما، وهي إحدى القرى على جزيرة كريت. فالخطة أنهما سيمكثان هناك ويعملان في منجم اللينيت. يقصدان بداية الأمر مقهى القرية ويتعرفان على بعضٍ من رجالها. ثم يذهبان إلى نُزُلٍ تملكه سيدة غريبة عن القرية، سيدة فرنسية تدعى السيدة هورتانس، وهي امرأة ذات سمعة غير طيبة بين السكان.

في اليوم التالي بعد أن يستكشف الرئيس القرية، يمضي يومه مع زوربا والسيدة هورتانس التي تكرمهما بوليمة غداء تحكي لهما أثناءها عن مغامراتها السابقة عندما كانت مغنّية شابة. فقد عاشت أيام مجدها في زمن الثورة الكريتية حين كانت بصحبة جنرالات من إنكلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا.

لم يُكتب لهذه الأمجاد أن تدوم، فبعد انتهاء الثورة، رست مراكب السيدة هورتانس في كريت. ومع أنها لا تحظى باحترام كبيرٍ من الأهالي، إلا أنها تعيش بينهم وتدير فندقها في القرية. ويقضي زوربا والرئيس وقتاً ممتعاً عندها وتنشأ علاقة بينها وبين زوربا الذي دائماً ما يبحث عن سيدة أو أرملة يقضي معها بعض الوقت في كل مغامرة يخوضها.

الكوخ والصديقان

تمضي الأيام ويبني الرئيس وزوربا كوخاً على الشاطئ ويستقران فيه. ويبدأ العمل بمنجم اللينيت حيث يشرف زوربا على العمال. كما تتطور الصداقة بين الرجلين الذين لا تنتهي أحاديثهما. فالرئيس لا يملّ من حكايات زوربا، هذا السندباد البحري الذي دار بلاداً ومدناً كثيرة، وعاش تجارب لا تحصى. وكان الرئيس ينهل من هذه الأحاديث ما استطاع إليه سبيلاً من حكمٍ ومعانٍ لم يجدها في الكتب.

يكمن جمال العلاقة بين زوربا والرئيس بأن أحدهما يكمّل الآخر. فزوربا رجلٌ مدفوعٌ بغرائزه ورغباته، ويفخر بالتعبير عن مدى حبه للنساء والطعام والخمر وكافة الملذات الجسدية. كما أنه يقدّس الجمال في كل ما يرى، وهو “يرى يومياً كل الأشياء للمرة الأولى” كما يصفه الرئيس. أما هذا الآخر فهو رجل يحتقر ملذات الجسد، على حد اعترافه، ويُكثر التفكير والتحليل في كافة الأمور، حتى تستحيل إلى أفكارٍ مجردة يقبلها عقله. تتناقض سعة معرفة الرئيس وحكمته التي استقاها من الكتب مع اندفاع زوربا وطيش الشباب الذي لا يفارقه حتى بعمر الستين.

لا يقطع زوربا والرئيس علاقتهما مع أهل القرية ومع السيدة هورتانس التي يزورانها أيام الأحد. وهذا الاختلاط بالناس هو أحد المحفزات التي تخلق حوارات عميقة بين الصديقين. ويتمخض عن هذه الحوارات في أحد المرات اعتراف من الرئيس برغبته في إنارة العالم وإخراج هؤلاء الناس من غياهب الظلمات التي يغرقون فيها. وكالعادة، يختلف زوربا عنه في هذا المسعى، إذ يرى أن لا فائدة من إنارة الظلام، فقد اعتاد الناس عليه، وهم سعيدون فيه. لكن العالم الذي يرسمه الرئيس لهم هو ليس إلا ظلاماً آخرَ مجهول الماهية، ولن يحقق لهم أية سعادة إضافية لأنه غير معروف. “إنهم مرتاحون في بؤسهم. إذن دعهم والزم الصمت” ينصح زوربا الرئيس.

المخطوط والرئيس، زوربا والمنجم والرقص

لا تكف أفكار الرئيس عن مطاردته في هذه الجزيرة، فسكون البحر وصمت الليل يحركان “بوذا” المختبئ داخله، ويشعلان في قلبه وعقله الرغبة بالتحرر من الأعباء التي تثقله. فهو دائماً يتغنى بالحرية التي تحدث عنها بوذا، والآن على هذه الجزيرة، قطع على نفسه وعداً بأن يحرر روحه من القلق. عندما تنتابه هذه التأملات، ينكب على مخطوطه ويكتب فيه حتى يغيب في عالم النوم ويستيقظ مجدداً في دوامة تعب تعود به إلى الواقع.

أما زوربا، فكان همه هو العمل والمنجم. وكان في كل ليلة تقريباً، بعد أن يتعشى مع الرئيس، يحدثه عن سير الأعمال. في إحدى المرات، وبعد الحديث عن أفكار جديدة للمنجم، تغمر روح زوربا سعادة جمة لا يتحملها جسده المحدود. فينطلق إلى شاطئ البحر ويبدأ بالرقص تعبيراً عن كل المشاعر في داخله. ويعترف للرئيس عندها أن الرقص هو سلاحه في التعبير عندما تخونه الكلمات.

يمضي الرئيس أياماً لطيفة مع صديقه الجديد، لكنه لا ينسى صديقه القديم الموجود في القوقاز والذي يزور أفكاره بين الحين والآخر. ويمثل هذا الصديق الغائب الحاضر جزءاً عميقاً من نفس الرئيس، لا ينفصل عن كيانه، ويلجأ إليه في لحظات الضعف والاعتراف والبوح .وفي إحدى المرات يكتب له رسالة يحدثه فيها عن مغامرته، وعن هذا السندباد البحري الذي يعيش معه ويتعلم منه.

ظهور الأرملة

ذات نهار ماطر، وفي مقهى القرية، تظهر شخصية جديدة مثيرة للاهتمام، وهي الأرملة سورمولينا التي سلبت بجمالها قلب أحد الشباب في القرية، وهو بافلي، ابن السيد مافراندوني. كانت للأرملة أثر كبير على كل الموجودين، بجسمها القوي الممتلئ ونظرتها الثاقبة. وكما هو متوقع من زوربا، أضرمت الأرملة ناراً في قلبه، ولكنه في هذه المرّة آثر أن يشجع صديقه ليجري خلفها. فبدأ يحث الرئيس على السعي لطلب ودّها.

كان الرئيس قد أحس برغبة كبيرة تجاه هذه المرأة الشابة التي تشبه الفرس، فهو رجل بطبيعة الحال، لكنه كان أضعف من أن يعترف بذلك لعدم قدرته على احتضان الحب بكل قوته. إلا أن صورة الأرملة سورمولينا تعود لتقضّ مضجعه في مواقف متكررة، مذكّرة إياه بعدم ديمومة الحياة، وبضرورة تحصيل السعادة في كل مرة يستطيع الإنسان إليها سبيلاً.

أفكار الرئيس ومشاريع زوربا

تمر الأيام وتأتي السنة الجديدة، ويمضي زوربا والرئيس أيام الأعياد عند السيدة هورتانس، أو بوبولينا كما يفضل زوربا أن يناديها تيمناً ببطلة حرب الاستقلال اليونانية. وكانت هذه السيدة العجوز لا تبخل عليهما لا بالطعام ولا بالحفاوة، وبالمقابل، كان زوربا يكرمها بالحب.

أما الرئيس، فكانت حبيبته مخطوط “بوذا” الذي كان يخرجه من عزلته عندما تعطيه التجارب كمّاً من الأفكار ليضيفها إليه، خاصة تلك التي يتعلمها من مدرسة زوربا في الحياة. وقد أصبحت كتابة مخطوط “بوذا” تمثل صراع الرئيس مع ذاته تجاه السلام الروحي.

ومع الأيام، وعندما يلاحظ الرئيس عدم جدوى العمل في المنجم، يشجع زوربا على المضي قدماً في خطة جديدة. إذ كان الرئيس قد استأجر غابة صنوبر من دير الرهبان الواقع على الجبل، وكانا يريدان بناء مصعد لنقل الخشب من الأعلى. وكانت مهمة زوربا إيجاد الميل الملائم للمصعد. وعندما ينجح بذلك نظرياً، يقرر الذهاب إلى مدينة مجاورة لجلب الأغراض التي يحتاجها المصعد، على أن تستمر رحلته تلك ثلاثة أيام.

رحلة زوربا

يبقى زوربا في المدينة فترة أطول بكثير من المتفق عليها. ويبعث برسالة للرئيس يحكي له فيها عن سبب هذا التأخير. فقد كان يقضي أيامه مع صبية بعمر الورود تدعى لولا، كان قد تعرف عليها وقرر قضاء تجربة جديدة في الحب معها. ومع أنه كان يبدد مال الرئيس في المدينة، إلا أن الرسالة وما تحمله في سطورها من تأملات “زورباوية” عن الحب والحياة تبهج قلب الرئيس ولا تفتح مجالاً للغضب أو الانزعاج من هذا التصرف الطائش.

وأما السيدة العجوز هورتانس، فتصيبها حالة من القلق على محبوبها الذي تأخر في المدنية، وتأتي لتسأل صديقه عنه. ما الذي سيقوله الرئيس هنا؟ فهو لا يستطيع أن يكسر قلبها ويخبرها الحقيقة، لذلك ألّف لها قصصاً كثيرة عن زوربا، لا تخلو من أشواق ووعود وكلمات معسولة زعم أنه أرسلها لها في إحدى رسائله. ولكن مع كل هذا تبقى سعادتها ناقصة. عندها، يدرك  الرئيس بحكمته الواسعة أن هذه المرأة التي أمضت حياتها وشبابها كمغنية جميلة تنتقل من مدينة لأخرى ومن عشيق لآخر، كان لا بدّ لها في نهاية الأمر من أن تستقر مع زوج شرعي يعيد لها كرامتها بين الناس. فلم يكن منه إلا أن أكمل نسج كذبة على مقاس أحلامها وتمنياتها، وأخبرها أن زوربا ينوي الزواج منها عندما يعود.

أثر الأرملة الأول

تعود الأرملة سورمولينا إلى صورة الأحداث، مصحوبة بمأساة كانت قد حلت بالقرية. فقد قام العاشق الولهان بافلي بإغراق نفسه، إذ لم يعد يطيق رفض الأرملة له ووصل إلى قاع اليأس الذي قاده إلى انتحاره. يثير هذا سخط أهل القرية على الأرملة ويتهمونها بأنها سبب ما حدث، أما الرئيس فهو الشخص الوحيد الذي يدافع عنها. ولهذا ترسل له سلة من البرتقال امتناناً لموقفه معها. لكنه يبقى صامداً بمقاومة مشاعره ورغبته تجاهها.

زيارة الدير

عند عودة زوربا من المدينة، يتبادل الأخبار والقصص مع صديقه، ويخبره هذا الأخير بمشروع زواجه من هورتانس. لكن زوربا لا يسرّ من الفكرة ولا يعيرها الكثير من الاهتمام. ثم يذهب الرجلان إلى دير الرهبان الذي استأجرا منه غابة الصنوبر لإكمال الصفقة. ويقضيان يومين وليلة هناك، تدور فيها أحداث مريبة بين بعض الرهبان والآباء. يستغل زوربا هذا الموقف ليحصّل صفقة موفقة مع رئيس الدير، يوفر من خلالها على الرئيس الكثير من المال تعويضاً لما بدده في مغامرته مع لولا.

عند عودتهما إلى كوخهما على الشاطئ، يجدان عروس المستقبل بانتظارهما، طلباً لعريسها الذي سيخرجها من حياة العار. إن لزوربا قلباً رقيقاً لا يتحمّل رؤية أنثى، أياً كانت، حزينة أو كئيبة. ولهذا، يحنّ قلبه على السيدة هورتانس ويقوم بخطبتها فوراً تحت ضوء القمر وبوجود شاهدهما، الرئيس. ويعدها أنه سيتزوجها يوم عيد الفصح، أي بعد عدة أيام. في هذا الموقف، يتجلى زوربا رجلاً رؤوفاً وحنوناً وصادقاً حتى عندما لم يَقطع الوعد بنفسه.

أثر الأرملة الثاني

في اليوم التالي، يجتمع أهل القرية والكاهن عند الرئيس وزوربا لمباركة الخطوة الأولى في بناء المصعد. وبعد أيام قليلة، يأتي عيد الفصح وينتظر الرئيس وزوربا العروس العجوز، لكن يأتي صبي يخبرهما أنها مريضة. فيهرع زوربا للاطمئنان عليها، ثم ينضم لأهل القرية للاحتفال بالعيد.

أما الرئيس، فيبقى وحده في الكوخ، إلى أن يشعر بقوة داخلية تسري في جسده وتقوده إلى وجهةٍ لم يتوقف عقله الباطن عن التفكير بها مدة طويلة.

ها هو يصل إلى بيت الأرملة، يراها واقفة بين أشجار البرتقال المزهرة، يدق الباب ، ويقول لها أنه هو، فتفح له، ويدخل.

يعود الرئيس إلى كوخه في صباح اليوم التالي، ويجد صديقه منتظراً إياه بفارغ الصبر. فهذا العجوز المفعم بالحياة كان قد خمّن ما حصل، وملأت قلبه سعادة غامرة عند رؤية الرئيس قادماً من بيت الأرملة.

بعد تلك الليلة، يعيش الرئيس خليطاً من المشاعر التي تملأ قلبه بالسرور وتعمل على مصالحة كل التناقضات والصراعات في داخله. فيشعر في تلك اللحظات بغبطة واستقرار في نفسه، ويصبح أقرب إلى فهم روحه وجسده والعلاقة بينهما. ويحمله هذا الإدراك إلى مخطوطه العزيز، فقد آن لهذا المشروع أن ينتهي، وآن لبوذا أن يجد حريته مرة أخرى، لكن هذه المرة في عقل الرئيس.

أثر الأرملة الثالث

بعد أن ينتهي من مخطوطه، يأتي خبر للرئيس عن السيدة هورتانس ويذهب مسرعاً إليها. في طريق عودته يجد أهل القرية مجتمعين ومستمرين باحتفالات العيد، فيبقى بعض الوقت معهم. ولكن، يرى أحد الموجودين أن الأرملة قد خرجت من بيتها، وهي لحظة كان الجميع ينتظرها كي يأخذوا بثأر الشاب بافلي. وفعلاً، يذهب الجميع، نساءً ورجالاً، إلى حيث ذهبت الأرملة، وينقض ابن عم الشاب كي يقتلها. لكن زوربا يأتي في الوقت الحاسم ويحتد القتال بينه وبين الشاب المندفع، وعندما ينجح بإفلات سكينه ويهرع إلى أخذ الأرملة لمنزلها، يأتي والد الشاب الضحية ويقطع عنقها بضربة واحدة، ويرمي رأسها على الأرض.

كان هذا الحادث صدمة شديدة تحل على زوربا الذي يدخل في حالة من اليأس والحزن والذهول، وتتجلى هذه الحالة بكل تفاصيل حياته وعقله، بل حتى جسده الذي أضناه التعب. أما الرئيس، فكعادته، يبدأ بتحويل الواقع إلى أفكار مجرّدة كي يستوعبها عقله، ثم يقتنع به ويتصالح معه.

وداعٌ آخر

لا تنتهي المآسي هنا، فبعد أيام قليلة، تلفظ السيدة هورتانس أنفاسها الأخيرة، وتودّع الحياة الصاخبة التي عاشتها. تودع عشاقها ومحبيها الموجودين في ذاكرتها. كما تودع خطيبها زوربا الذي لم يفارقها في مرضها. ويودعها أهل القرية الذين كانوا ينتظرون موتها كي يقتسموا أغراض بيتها، فلا أولاد لها ولا أقارب. بل إنها غريبة عن البلاد كلها، ويرى أهل القرية أنهم أحق بهذا الإرث الذي خلفته المغنية حتى وإن لم يكنّوا لها أي احترام في أيام حياتها.

مع هاتين السيدتين، تنتهي سلسلة أحداث كانت تزين حياة زوربا والرئيس بتفاصيل عذبة وجلسات مرحة، وبأفكار وتأملات تبعث على الطمأنينة والهدوء.

المصعد، الأمل

تمضي الأيام وتتوالى المغامرات وجلسات التأمل والتفكير. أما عن العمل، فيشارف بناء المصعد على الانتهاء، ويقترب موعد تجريبه. وفي هذا اليوم المنشود، يجتمع أهل القرية ورهبان الدير والكهنة لتجربة المصعد والاحتفال بعد ذلك بهذا الإنجاز. لكن الفرحة لا تتم، وينهار المصعد أثناء التجربة، فيصاب جميع الموجودين بالذعر ويفرون هاربين. ويبقى زوربا والرئيس، يتأملون الفشل الذريع لهذا المشروع الذي كلف كثيراً من المال والوقت والجهد. ولكن الطريف بالأمر أنهما يكملان نهارهما بسعادة. يتناولان وليمة الغداء على شاطئ البحر، ويرقصان سوياً بعد ذلك، مدركين في قرارة نفسيهما أن وقت الفراق أصبح قريباً.

الحرية المنشودة ووداع زوربا

في اليوم التالي، يركض الرئيس في القرية بلا هدف ويصعد الجبل ويدرك مدى الحرية التي اكتسبها حقاً. فمع انهيار المصعد، تخلّص من كل همومه الدنيوية، وباتت الحرية تملأ عقله وقلبه. يتلقى في ذاك الصباح رسالة من صديقه في القوقاز ويسمع بعضاً من أخباره. لكن عندما يغفو وهو في حالة الغبطة تلك، ينتابه شعور غريب في الحلم ويحس بأن مكروهاً سيحصل لصديقه. فقد اتفقا عندما افترقا أن يرسل أحدهما للآخر إشارة عبر الأثير عندما يشعر بدنوّ أجله، ويبدو أن صديق القوقاز قد وفى بوعده. فبات الرئيس على يقين أن شيئاً ما سيحدث، وقد كان لهذا الإحساس أثر أكبر من الرسالة التي استلمها فعلاً وقرأ محتواها.

في آخر ليلة لهما، يتحدث الرئيس وزوربا حديث الوداع، لكنه ليس بذاك الحديث العاطفي المنمق المليء بالمشاعر المضطربة. فزوربا، بقوته وصدق كلماته، لا يختبئ خلف كلمات العزاء الفارغة. بل يبوح بمكنونات قلبه، ويخبر صديقه أنه يعلم بأنهما لن يلتقيا في المستقبل، ثم يذهب ويتركه وحيداً. ولا يلتق الصديقان بعد ذلك أبداً.

في صباح اليوم التالي، يودع الرئيس القرية ويذهب إلى المدينة ليكمل مشوار حياته وأسفاره، ويتلقى هناك برقية كان يعرف محتواها مسبقاً. كان صديقه في القوقاز قد مات فعلاً، بعد أن أرسل له تلك الإشارة الأثيرية المتفق عليها.

النهاية وزوربا والسانتوري

مرت سنوات خمس، ومازال الرئيس هائماً على وجهه. صحيح أنه لم يلتق زوربا، لكن وصلته منه عدة رسائل من أماكن مختلفة، مرة من جبل أثوس ومرة من رومانيا ومرة من الصرب، حيث يلتقي بأرملة جميلة ويتزوجها.

يتابع الرئيس خلال رحلاته التفكير والتأمل والكتابة، ويقرر أن يكتب عن زوربا حتى يخلّده ولا ينساه. فيكتب عنه أسطورة ذهبية يحكي فيها كيف كان هذا الرجل صديقاً ومعلماً، بل مدرسة كاملة. وعندما ينتهي من الكتابة، تأتي إليه رسالة من الصرب، مفادها أن زوربا العزيز قد مات، وقد أوصى بإعطاء السانتوري للرئيس.

تنتهي هنا حياة زوربا، لكنه في الواقع لم يمت. فقد بقي خالداً ليس فقط في كتابة الرئيس، بل في ذهن كل إنسان مر في حياته وكل امرأة لمسها وكل صديق خاطب روحه. كما أنه سيبقى حياً بفلسفته وحكمته وحريته في أذهان كل من يقرأ عنه.

للاستماع لموسيقى ميكيس ثيودوراكيس. من فيلم زوربا: هنا.

اقرأ أيضاً: ملخصات كتب.

المصادر

نيكوس كازانتزاكي، زوربا اليوناني. ترجمة جورج طرابيشي. دار الآداب، بيروت. الطبعة الحادية عشرة، 2013.

مفهوم الإنسان عند ماركس

مفهوم الإنسان عند ماركس:

تمتلك الماركسية، كأي أيدولوجيا، ترسانة معرفية هائلة، غير أنها تعدو أن تكون تراكمات مفاهيمية في الكتب. في فترات طويلة جدًا سيطرت أنظمة قمعية على مساحات شاسعة من العالم تحت غطاء الماركسية وصور ماركس. لم يكن ماركس محظوظًا رغم كل هذا الاهتمام به، فتحول عند البعض إلى تجسيد شيطاني، وتم تفسير فلسفته من قبل البعض على أنها فلسفة مثالية وآخرون حملوه مسؤولية كل ما قامت به السلطات الشيوعية الاستبدادية. يقدم إريك فروم في كتابه “مفهوم الإنسان عند ماركس” تفسيرًا مغايرًا وموضوعيًا لأكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه في فلسفة ماركس.

أسباب تزييف مفاهيم ماركس:

يتساءل فروم عن الأسباب التي دفعت المجتمع الغربي لتكوين صورة مزيفة لفلسفة ماركس رغم تظاهره بالموضوعية والصدق في البحث. مفهوم “المادية” على سبيل المثال من أكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه. حيث يُعتقد بأن ماركس كان يؤمن أن الدافع السايكولوجي الأعظم في الإنسان هو ميله للكسب المالي دون إعطاء أي اعتبار للحاجات الروحية.

كما تم تفسير نقده للدين بوصفه نوعًا من العدمية الأخلاقية. راح هذا التفسير ليبين أن الماركسية هي فردوس من الأشخاص الذين تنازلوا عن فرديتهم وحريتهم ليعملوا مثل الروبوتات. يشير فروم إلى وجود بعض التناقض في هذه الرؤية الرأسمالية؛ حيث أن الرأسمالية تتهم تارة الماركسية بأنها مادية وتارة أخرى بأنها مثالية/غير واقعية.

يعرض فروم بعض الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة المعرفية دون ترتيب. أحدها الجهل وعدم العودة إلى كتابات ماركس وعدم ترجمة بعض من أعماله، خاصة (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية). وسبب آخر هو أن الشيوعيين الروس قد طبقوا رؤيتهم المحتقرة للفردية والقيم الإنسانية تحت غطاء مفاهيم ماركس. تصور الروس –على حد قول فروم- أن الاشتراكية ليست مجتمعًا مختلفًا إنسانيًا عن الرأسمالية، بل شكلًا من الرأسمالية الذي تحصل فيه الطبقة العاملة على مكانة اجتماعية أرقى. كما كانت هناك أسباب غير عقلانية وراء ذلك التحريف، مثل العداء الثقافي المتجذر في العلاقة الروسية-الغربية.

مفهوم المادية:

إن المادية ببساطة هي المنهج الذي اعتمد عليه ماركس في تحليله للوجود الإنساني. جاءت مادية ماركس لمواجهة المثالية الألمانية والمادية البرجوازية الميكانيكية. فالمثالية المتمثلة بهيجل تفترض مقدمًا روحًا مطلقة أو مجردة، تتطور بحيث لا يكون الإنسان فيها سوى كتلة لحم تحمل هذه الروح. أما المادية البرجوازية فهي مادية استاتيكية جامدة، ترجع كل مظاهر الحياة الإنسانية الروحية والعاطفية إلى عمليات فسيولوجية في الجسم. حسنًا، ما هي مادية ماركس؟

مادية ماركس تتميز بطابع الصيرورة والديناميكية، بحيث تركز على علاقة الإنسان بالطبيعة. لفهم ذلك، يجب أن نفهم أنه لدى الإنسان غرائز ثابتة وأخرى نسبية، الأخيرة نابعة من تنظيم اجتماعي معين. أما الغرائز الثابتة هي التي تحتاج التركيز. يحتاج الإنسان إلى المأوى والطعام والجنس… إلخ، فيستدعي ذلك أن يقوم الإنسان بعملية الإنتاج، لإنتاج ما يحتاجه. وليس الإنتاج نفسه هو المهم، إنما إسلوب الإنتاج، لأنه يحدد كينونة الإنسان وأفكاره.

يقول ماركس: إن شروطًا اقتصادية محددة، كتلك الموجودة في الرأسمالية، تخلق كحافز رئيسي الرغبة في المال والملكية. بينما نجد أن أوضاعًا اقتصادية أخرى تولد رغبات معاكسة تمامًا، كالزهد واحتقار الثروة الدنيوية كما هو ملاحظ في كثير من الثقافات الشرقية.

مفهوم الوعي:

يعد مفهوم الوعي من المفاهيم المتشظية في تاريخ الفلسفة، وغالبًا ما يُنظر إلى الوعي ككيان مستقل ومتعال. لكن ماركس يضعه في سياق العملية الإنتاجية. فالوعي الإنساني الجمالي والقانوني والسياسي والأخلاقي يحدده أسلوب الإنتاج الذي يتبعه. إن إنتاج الأفكار متمازج بشكل مباشر مع الفعالية المادية ومع علاقات البشر المادية. لكن يجب أن نفهم أن الوجود الإنساني ليس بوجود سلبي، فالإنسان في علاقة إيجابية مع الطبيعة؛ أي الظروف الخارجية. يقول ماركس أن الإنسان هو من يصنع وجوده من خلال العمل، أي فعالية علاقتنا مع الطبيعة. إن توافق عملية تغيير الظروف مع الفعالية الإنسانية أو التغيير الذاتي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه ممارسة ثورية.

اقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

مفهوم الاغتراب:

يؤكد ماركس دومًا على أصالة علاقة الإنسان بالطبيعة؛ أن الإنسان يحوز كينونته الفعالة من خلال تفاعله الإيجابي مع الطبيعة. إن الإنسان يصنع نفسه في تلك العلاقة في سياق التاريخ. إلا أن مفهوم الإنسان لا يمكن فهمه بمعزل عن إشكالية الاغتراب.

يقوم فروم بمقاربة مثيرة بين مفهوم الاغتراب عند ماركس ومفهوم الوثنية. تعني الوثنية عبادة الإنسان وخضوعه لشيء أو كيان قام هو نفسه بصنعه، عبادة التماثيل على سبيل الذكر. الإنسان حين يخلق شيئًا ما، فبدلًا من أن يمارس ذاته كفرد خالق، فإنه يكون في حالة تواصل مع ذاته عبر عبادة ذلك الشيء، أي الوثن.

وتمثل اللغة شكلًا من أشكال الاغتراب المعقدة عند ماركس. إن اللغة تحول الكلمة من علامة لغوية دالة إلى شيء قائم بذاته، فعندما أقول (أحبك) فهذه الكلمة تمتلك حياتها الخاصة، فحينئذ نهتم بفكرة الحب التي انبثقت من اللغة بدلًا من الاهتمام بحدث الحب نفسه. رغم الاعتبار العظيم للغة في فلسفة ماركس إلا أنه يحذرنا من خطر أن تكون بديلًا عن التجربة الحية.

كما أن الاغتراب قد يتجلى في مواضيع فنية وأدبية وفكرية، فيمكن أن نذعن لنص شعري أو لوحة فنية أومفهوم إلى حد الاغتراب عن ذواتنا.

لنفهم مفهوم الاغتراب علينا البحث في مسألة العمل، فتجربة العمل هي التجربة الأهم بالنسبة لماركس في تحقيق الانسان لذاته الفردية أو لذاته الكونية، أي تمثيله للنوع الإنساني. بيد أن تجربة العمل باتت تجربة مغرَّبة في عصر الرأسمالية. تحت شروط الإنتاج الرأسمالي يُقصى الإنسان عن قواه المبدعة كما أن الأشياء التي انتجها هي التي تتعالى عليه وتتحكم به.

ثمة سوء فهم شائع حتى بين الاشتراكيين، فلم يدعو ماركس إلى التساوي في الدخل أو أن يحصل العامل على أجر أعلى بل دعا إلى تحرير الإنسان من ذاك النوع من العمل الذي يدمر فرديته، والذي يحوله إلى شيء ويجعله عبدًا للأشياء.

العمل المغرِّب هو الذي ينزل بالإنسان إلى مستوى الآلة أو أقل، حيث يفقد الفرد رغبته في العمل ويشعره بالبؤس. ولأن العلاقة الانتاجية هي محرك تاريخ تحقيق الإنسان لذاته، فالاغتراب لا يكون واقعة طارئة في زمن العمل ومكانه بل يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وأخيه الإنسان وعن الطبيعة.

الاشتراكية والحرية:

الصورة الرسمية للاشتراكية في الفضاء العمومي العالمي هي صورة لمجموعة كبيرة من الأشخاص البائسين يعملون تحت مراقبة شديدة. ساهم الاعلام الرأسمالي في تقديم تلك الصورة، كما عملت سلطة ستالين على ترسيخها في مخيلة الناس. بيد أن الاشتراكية التي دعا ماركس إليها مختلفة عن تلك الصورة والتأويلات الشائعة. إذن ما هي الاشتراكية؟

الاشتراكية هي المجتمع الذي يعمل فيه الأفراد بطريقة مشتركة، لا تنافسية، بطريقة عقلانية وغير مغرَّبة. يقول الفيلسوف باول تيليش بأن الاشتراكية هي حركة احتجاج ضد تدمير الحب في الواقع الاجتماعي.

الحاجات في المجتمع الاشتراكي:

إن الاشتراكية وفقًا لماركس هي المجتمع الذي يلبي حاجات الفرد الإنسانية، لكن مفهومه للحاجات فيه بعض التحديد. ثمة حاجات زائفة وأخرى حقيقية، الحاجات الزائفة تؤدي إلى الاغتراب في حين الحاجات الحقيقية تؤدي إلى تحقيق الفرد لجوهره. ما يميز حقيقة الحاجة عن زيفها هو طبيعة الإنسان، بعكس المجتمع الرأسمالي الذي يخلق كمية هائلة من الحاجات الزائفة، فإن الاشتراكية هي تحقيق حاجات حقيقية وأصيلة.

هدف الاشتراكية:

إن هدف الإشتراكية هو الإنسان، إنها تهدف إلى خلق نمطًا من الإنتاج، ونظامًا للمجتمع، يصبح فيه بإمكان الإنسان قهر الاغتراب عن نتاجه، وعن عمله، وعن أخيه الإنسان، وعن ذاته وعن الطبيعة. والاشتراكية ترفع شعار التصالح والانسجام مع الطبيعة وليس السيطرة عليها واستغلالها لأجل فائدة أكبر كما هي حال الرأسمالية.

الحرية:

يتخيل الناس –ولهم مبرراتهم- المملكة الاشتراكية على أنها الجانب المقابل للحرية، أي استحالة الحرية. في حين أن الاشتراكية تهدف إلى مجتمع حر وإنسان حر. الحرية هنا هي أن يبني الأفراد علاقة عقلانية مع الطبيعة، وأن يتعاملوا مع ثرواتها بشكل مشترك، بدلًا من أن يكونوا محكومين بها كقوة عمياء. كتب ماركس في (رأس المال): “عهد مملكة الحرية لا يبدأ، حتى تنقضي المرحلة التي يكون فيها العمل القائم على قسر الضرورة والمنفعة الخارجية متطلبًا”.

ملخص كتاب التأملات لماركوس أوريليوس

ملخص كتاب التأملات لماركوس أوريليوس

نبذة عن التأملات


التأملات للإمبراطور الروماني والفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس هي عبارة عن سلسلة من الكتابات والملاحظات الشخصية التي كتبها لنفسه كمصدر لتحسين ذاته و توجيهها. تتكون السلسلة من اثني عشر كتابًا عبّر فيها ماركوس عن خواطره حول الكثير من الموضوعات المتفرقة التي تتراوح بين القضايا الأخلاقية وممارسة الفضيلة إلى التعاملات مع الطبيعة والتفكر في حقيقة الكون. في هذا المقال سنعرض أهم ما ذكره ماركوس أوريليوس عن تلك الموضوعات في كتابه التأملات.

رواقية ماركوس


كانت رواقية ماركوس معتدلة إذا ما قورنت بمبادئ الرواقيين القُدامى. وكان أسلوبه في تدوينه لملاحظاته بسيطًا، متجنبًا المصطلحات المعقدة. رفض ماركوس زعم الرواقيين القُدامى بإمكان المعرفة اليقينية، ويرى أنه لا وجود لذلك الحكيم الذي يملك تلك المعرفة.

ففي كتابه الخامس يدون ماركوس “لكأنما أُلقِيَ على الأشياء حجابٌ كثيف حتى بدَت لعددٍ غير قليلٍ من كبار الفلاسفة غيرَ قابلةٍ للفهم على الإطلاق. وحتى الرُّواقيون أنفسهم بدَت لهم الحقائق عصيةً على الفهم، وبدا لهم كلُّ تصديقٍ عقلي لإدراكاتنا شيئًا عُرضة للخطأ؛ فليس هناك من هو معصوم …”.

كما رفض ماركوس اعتقاد الرواقيين القُدامى بأن الفضيلة لا تتجزأ، وذهب للاعتقاد بفكرة التدرج الأخلاقي. ذلك بالإضافة إلى أنه لم يكن معتدًا برأيه كما كان قدام الرواقيين.

قلعة الذات


أكّد ماركوس على أن العلاج الحقيقي للنفس والسلام الذي تنشده لا ينبع من الخارج بل من الداخل، ينبع من اللجوء إلى الذات والاحتماء بها. مصدر السلام الحقيقي هو الخلو إلى النفس من حين لآخر التماسًا للراحة والسكينة.

فيقول في كتابه الرابع “إنهم يبحثون عن منتجعاتٍ لهم؛ في الريف، على البحر، على التلال، وأنت بصفةٍ خاصةٍ عرضةٌ لهذه الرغبة المشبوبة، ولكن هذا من شيم الطَّغام، فما زال بإمكانك كلما شِئتَ ملاذًا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبيك؛ فليس في العالم موضعٌ أكثر هدوءًا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه، وبخاصةٍ إذا كانت نفسه ثرية بالخواطر التي إذا أظلَّته غَمرَته بالسكينة التامة والفورية. ولستُ أعني بالسكينة إلا الحياة التي يَحكُمها العقل ويُحسِن قِيادها. فلتمنح نفسك دائمًا هذا الاستجمام، ولتُجدِّد ذاتك. ولتكن المبادئ العقلية التي سوف تعود إليها هناك وجيزةً وأساسيةً وكافية لأن تذهب بكل ألمِك في الحال وتُعيدَك إلى أُمورِكَ المستأنَفة خاليًا من السخط عليها أو التبرم بها”.

طبيعة الفضيلة والرذيلة


تأثر ماركوس أوريليوس بسقراط كثيرًا وأخذ عنه الفكرة القائلة بأن الفضيلة علم والرذيلة جهل. هذا يعني أن مرتكب الشر لا يرتكبه عن قصد بل هو جهل منه بحقيقة الخير والشر، لذلك من الواجب علينا تجاه مرتكبي الخطأ أن نعلّمهم ونوَجّههم ونبصّرهم بجهلهم، فإن لم نستطع فعلينا واجب تحمّلهم والتسامح معهم ولا نحملهم فشلنا وتقصيرنا في إرشادهم إلى الطريق الصحيح.

ويقول ماركوس عن ذلك في كتابه الثاني “قل لنفسك حين تقوم في الصباح: اليوم سألقى من الناس من هو مُتطفلٌ ومن هو جاحدٌ ومن هو عاتٍ عنيف، وسأقابل الغادر والحسود ومن يُؤثِر نفسه على الناس. لقد ابتُلي كلٌّ منهم بذلك من جرَّاء جهلِه بما هو خيرٌ وما هو شَر، أمَّا أنا وقد بَصُرتُ بطبيعة الخير وعَرفتُ أنه جميلٌ، وبطبيعة الشر وعرفتُه قبيحًا، وأَدركتُ أن مُرتكِب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلافٍ في طَبيعتِه ذاتها — فنحن لا تجمعنا قَرابة الدم والعِرق فحسب بل قَرابة الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبس الإلهي — أمَّا أنا وقد بَصُرتُ بهذه القَرابة فلن يسُوءني أيُّ واحدٍ من هؤلاء ولن يُعديني بإثمه. وليس لي أن أَنقِم منه قرابتي أو أَسخَط عليه؛ فقد خُلِقنا للتعاوُن، شأننا شأن القَدمَين واليدَين والجفنَين وصَفَّي الأسنان. التشاحُن ضدٌّ للطبيعة، وضدُّها، مِن ثَمَّ، العداوةُ والبغضاء”.

التغير


روى ماركوس كثيرًا في تأملاته عن فكرة التغير الدائم للأشياء جميعها، وأن التغير هو جوهر الوجود وأنه يحفظ نظام الأشياء ويبقي العالم صبيًا.

فيقول في كتابه السابع “هل يخشى أحد من التغير؟ حسن، فأي شيء يمكن أن يحدث من دون تغير؟ أو أي شيء أعزُّ على طبيعة «الكل» وأقرب إليها من التغير؟ هل بوسعك أنت نفسك أن تغتسل إذا لم ينل التغير خشب الموقد؟ هل بوسعك أن تأكل دون أن يتغير ما تأكله؟ هل يمكن أن يتحقق أي شيء نافع في الحياة بدون تغير؟ ألست ترى، إذن، أن التغير بالنسبة لك هو الشيء نفسه، وأنه ضروري بنفس الدرجة لطبيعة الكل؟”.

دراسة الطبيعيات


أوصى ماركوس بدراسة الطبيعيات نظرًا إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان والكون.

فيقول في الكتاب الثامن “من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو، ومن لا يعرف لأي غاية وُجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم، ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وُجد هو ذاته، ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟”.

الكوزموس


يرى ماركوس في تأملاته أن العالم كله ليس إلا كائنًا واحدًا حيًا متكامل الأعضاء، وأن أي تأثير يحدث للجزء فيجد صداه الكل والعكس صحيح.

فيقول في كتابه الرابع “انظر دائمًا إلى العالم على أنه كائنٌ حي واحد، يتكون من مادةٍ واحدة وروحٍ واحدة، انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوعٍ واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعًا في كل ما يحدث، انظر أيضًا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها”.

الأشياء اللافارقة


يطلق الرواقيون على جميع تلك الأشياء التي ليست بذاتها خير أو شر لقب الأشياء اللافارقة. فالخير عندهم هو الفعل العقلاني الفاضل والشر هو الفعل الأرذل المنافي للعقل، فيما عدا ذلك فهو من الأشياء اللافارقة.

فيذكر في كتابه الثاني “… الموت والحياة، النباهة والخمول، الألم واللذة، الغنى والفقر … ليست هذه الأشياء في ذاتها حسنةً ولا سيئة؛ وبالتالي ليست في ذاتها خيرًا ولا شرًّا”.

الاعتدال في طلب الأشياء


يدعو ماركوس إلى السعي بتحفّظ في طلب الأشياء اللافارقة. أي السعي في طلبها بدون الإفراط في اللهفة، وذلك حماية من التعاسة التي قد تصيب المرء إذا فقدها. فيقول في الكتاب الثامن “بلا زهوٍ تقبَّل الرخاء إذا أتى، وكن مستعدًّا لفقدانه إذا ذهب”.

التعامل مع العقبات


نرى في التأملات أن منظور ماركوس للعقبات مختلف وجميل. فقد رأى ماركوس في العقبات فرصة لممارسة الفضيلة، فإذا كان الخير هو السلوك العقلاني الفاضل، فإن العقبات التي تعترض طريق المرء وسعيه هي بدورها فرصة أخرى لممارسة الفعل الفاضل.

فيقول في الكتاب العاشر ” إن العقل لديه القدرة، بطبيعته وبإرادته، على أن يمضي خلال كل عقبة. في جميع الكائنات العضوية الأخرى فإن أي أذًى يلحق بأيٍّ منها يجعله أسوأ في ذاته، أمَّا في حالة البشر فإن الشخص في الحقيقة يُصبِح أفضلَ وأجدرَ بالثناء إذا استخدم الظروف التي تُصادفه استخدامًا صحيحًا”، و أيضًا في الكتاب السادس “فإذا اعترض أحدٌ سبيلك بالقوة فتذرَّعْ بالهدوء، وحوِّل العائق إلى تمرُّسٍ بصنفٍ آخرَ من الفضيلة”.

الاستقلال الذاتي


الاستقلال الذاتي ينبع من الاستقلال العقلي والفكري، عندما يكون العقل بانعزال عن متقلبات الرغبات والحواس، فيقول ماركوس في الكتاب السابع “فمِن الخصائص التي ينفرد بها العقل أنه يعزل نفسه ولا يتأثر بنشاط الحواس أو نشاط الرغبات؛ فهذان النشاطان حيوانيان، بينما غاية النشاط العقلي أن يتسيد عليهما ولا يُسلم قِياده لهما؛ لأن طبيعته ذاتها هي أن يضع كل هذه الأشياء تحت إمرته”.

وأنه لا يمكن أن يصيب الإنسان أذى خارجي عندما يدرك أن الأذى الوحيد الذي يمكن أن يصيبه هو ما يجره العقل على نفسه، فيقول في الكتاب الرابع “لا أذى لك يقبع في عقل غيرك، ولا حتى في أي تبدُّل أو تغيُّر لعطائك الجسدي. أين إذن يقبع الأذى؟ في ذلك الجزء منك الذي يضطلع بتكوين الأحكام عن الأذى. كُفَّ عن الحكم بأن بك أذًى تكنْ قد سَلِمتَ منه.”.

ينبع أيضًا الاستقلال الذاتي من تحمل المرء مسؤولية إسعاد نفسه بنفسه، دون انتظار شيء من الآخرين أو تحميلهم مسؤولية إسعاده.

تقبّل القدر


يرى ماركوس أن كل ما يصيب الإنسان هو مقدر له منذ الأزل، وأنه خير له لأنه خير لطبيعة الكل. ومن ذلك المنطلق عليه أن يتقبل نصيبه ويتقبل قدره.

فيذكر في الكتاب الرابع “هل أَلمَّ بك شيء؟ حَسَن، كل ما أَلمَّ بك كان مُقدَّرًا لك من «الكل» منذ البداية ومنسوجًا من أجلك”. وفي الكتاب السادس “لا تحب إلا ما أَلمَّ بك ونُسج لك من خيط مصيرك، فأيُّ شيء أنسب لك من هذا؟”.

فعل الخير ثواب ذاته


يؤكد ماركوس على قوله أن فعل الخير كالإحسان والرحمة غاية في ذاتها، وثواب ذاته. لا تنتظر ردًا من أحد أو تقديرًا من الآخرين.

فيقول في الكتاب السابع “ما دُمتَ فَعلتَ خيرًا وتلقَّاه آخر، فما لك ما تزال تترقب، كالأبله، شيئًا ثالثًا إلى جانب هذَين؛ أن تنال صِيتًا بفعل الخير، أو تتلقَّى مقابلًا؟”.

التمسك باللحظة الحاضرة


المرء لا يملك إلا اللحظة الحاضرة، وفيما عداها ماهو إلا ماضٍ ذهب أو مستقبل غير معلوم.

طول الحياة غير فارق


يترتب على الفكرة السابقة أن الحياة مهما طالت أو قصرت فذلك ليس بالشيء المهم مادمنا لا نملك إلا اللحظة الحاضرة.

يقول ماركوس في كتابه الثاني “حتى لو قُدِّر لك أن تعيش ثلاثة آلاف عام، أو عشرة أضعاف ذلك، فاذكُر دائمًا أنْ لا أحد يفقد أي حياةٍ غير تلك التي يحياها، أو يحيا أي حياة غير تلك التي يفقدها. ينتج من ذلك أن أطول حياةٍ وأقصرها سيَّان؛ فاللحظة الحاضرة واحدة في الجميع؛ ومن ثَمَّ فإن ما ينقضي متساوٍ أيضًا.”.

التأهب للموت


يتخذ ماركوس من الموت موقفًا محايدًا باعتباره من الأشياء اللافارقة فيقول في كتابه الثاني “وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويُعمل فيه التحليل العقلي ليُجرِّده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلُص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفةً طبيعية. ومن يرتاع لوظيفةٍ من وظائف الطبيعة فهو طفلٌ غرير. ليس الموت وظيفةً طبيعية فحسب بل إنه أيضًا لِخَير الطبيعة وصالحها”.

لتحميل كتاب التأملات
لمزيد من ملخصات الكتب

Exit mobile version