التاريخ الكبير: قصة مجموعتنا الشمسية

وفقاً لما نشاهده في الأنظمة النجمية الخارجية، قد تأخذ عملية تشكل الكواكب بضعة ملايين من السنين، في قصة مجموعتنا الشمسية، قد تكون أخذت هذه العملية ما يقرب من 10 مليون سنة فقط، بينما عمر مجموعتنا هو 4.5 بليون سنة، ومن المرجح للشمس أن تعيش حوالي 5 بلايين أخرى من السنين، إذا فهذا أشبه بفترة حمل مدتها شهر، لامرأة تعيش 80 سنة!

قصة مجموعتنا الشمسية

يمكننا التعرف على تاريخ المجموعة الشمسية عن طريق ملاحظة النجوم الأخرى، التي تحوي أنظمة كوكبية بدائية، في طريقها نحو التشكل، والتكوين بصورة شبيهة بصورة مجموعتنا، تمكن الفلكيون من رصد بعد الأنظمة النجمية الأولية، إذ أنه وكما ناقشنا في جزء سابق من هذه السلسلة، تتكون النجوم بفعل الجاذبية التي تضغط الغازات سويًا حتى تزيد من حرارتها، مساعدة على احداث الاندماج النووي، ومما لا عجب فيه أن الجاذبية لا تضغط كل الغاز الموجود في محيطها، إذ تتبقى بعض الغازات التي تسبح حول النجم على شكل قرص، ومن ثم تهدأ هذه الغازات وتتجمع مع بعضها البعض، وتبرد، لتكون ما يعرف بالكواكب، على ما يبدو أن هذه هي الطريقة التي تكون بها نظامنا الشمسي.

لكن قد يبدو لنا أن هناك بعض الأماكن التي تفتقد الكواكب في مجموعتنا، فهناك «حزام الكويكبات-Asteroid belt»، و «حزام كويبر-Kuiper belt» الذي يحتوي على كوكب بلوتو، والذان يحتويان على مجموعة ضخمة من الصخور والجليد، دون أدنى تكون لأي كوكب، فلماذا إذا؟

حزام الكويكبات

ظهرت بعض الفرضيات لتبرير هذا الشأن، وهي تفترض بأن نظامنا الشمسي في طفولته لم يكن بهذه السكينة، إذ دخلت الكواكب مع بعضها البعض في تصادمات شديدة، هناك فرضية تقول بأن «المشترى-Jupiter» قد سافر في بدايته إلى داخل المجموعة الشمسية، حيث «الكواكب الصخرية-rocky planets»، ولكنه لم يهوى إلى داخل الشمس بفضل سرعته، إذ قذفته الشمس إلى الخارج مرة أخرى، وفي هذه الأثناء فقد بعضًا من كتلته، التي شكلت حزام الكويكبات الذي نراه.

لكن ماذا عن حزام كويبر؟

هناك العديد من الفرضيات بشأن نبتون وأورانوس، حيث أن بعض الفرضيات ترجح حدوث تبادل في الأماكن بين هذين الكوكبين، إذ أدى هذا التبادل وحركة الجذب والتنافر إلى فقدان البعض من كتلتهما، مما كون حزام كويبر.

الخلاصة

في الواقع هناك العديد من الفرضيات التي لا سبيل لنا للتأكد منها بشأن قصة مجموعتنا الشمسية، وفقاً لما نمتلكه من أدوات البحث العلمي الحالية، لكن مما لا ريب فيه أن العلم كل يوم يصير متأكدًا أكثر من بعض الأمور، فلا سبيل لمعرفة الحقيقة أفضل من العلم.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam

coursera

لقراءة سلسلة التاريخ الكبير ج5 من هنا

التاريخ الكبير: كيف تموت النجوم؟

لنعلم كيف تموت النجوم علينا أولا أن نعلم ما هي النجوم وكيف تعمل.

كيف تعمل النجوم؟

لنأخذ الشمس على سبيل المثال، شمسنا ذات كتلة كبيرة جدا، فهي عبارة عن كرة عملاقة من الغاز الساخن، وبسبب هذه الكتلة، تتعرض نواة الشمس لضغط رهيب، مما يزيد حرارتها إلى 16 مليون درجة، وهي درجة جيدة جدا لحدوث الاندماج النووي، حيث تتحول في كل ثانية كمية كبيرة من الهيدروجين إلى الهيليوم بفعل الاندماج داخل نواة الشمس، تفقد الشمس 4 مليون طن من المادة في صورة حرارة كل ثانية، مما يخبرك بشيء بديهي، شمسنا لها نهاية، عمر شمسنا هو 4.5 بليون سنة، وبقليل من الحسابات، اعتمادا على معدل تحويل الهيدروجين إلى هيليوم، أمكننا التنبؤ بأن شمسنا ستعيش ل 5 بلايين أخرى من السنين.

وبعد انقضاء عمرها، ستصير «عملاقًا أحمر-Red giant»، وتلتهم عطارد والأرض، ثم تنهار تحت وطأة الجاذبية، لتصير «قزمًا أبيضًا-White dwarf»، وهو كما يبدو من اسمه، فهو نجم أبيض صغير، بحجم الأرض تقريبًا، لكنه يحتوي كتلة الشمس بأكملها، وبهذا يصير كثيفًا جدًا، مما يجعل عمره يصل إلى تريليونات السنين!

كيف تموت النجوم الأكبر؟

عمر النجوم في الواقع يعتمد على شيئين، كمية الوقود النووي لديه، ومعدل استهلاكه لهذا الوقود، لنأخذ على سبيل المثال نجما ذو كتلة بقدر 20 ضعف كتلة الشمس، نجم كهذا سيبلغ سطوعه 40 الف مرة سطوع الشمس، مما يعني أنه سيستهلك وقوده أسرع ب 40 الف مرة، جاعلًا عمره 10 مليون سنة فقط!

ولكن النجوم كهذه لا ينتهي بها الأمر لتصير أقزاما بيضاء مثل الشمس، حيث تنهار على نفسها بسرعة بالغة بفعل الجاذبية، مما يدفع بالالكترونات نحو البروتونات لتصير نيوترونات، وتتزاحم هذه النيوترونات وتتنافر بفعل القوة النووية القوية، كما تترك خلفها إنفجارًا بقوة تريليون ميجاطن بالمناسبة، حيث أن «النجوم النيوترونية-Neutron stars»، يمكن أن تصل كتلتها إلى أضعاف كتلة الشمس، لكن بقطر 20 كيلومتر فقط!
مما يجعلها كثيفة للغاية، فملعقة واحدة من هذه النجوم تساوي كتلة ألف من أهرامات الجيزة!

ولكن ماذا عن النجوم الأكبر من هذه؟

لا ترحم الجاذبية النجوم الأكبر، حيث تسحقها على نفسها في لمح البصر، لتركز كتلة النجم بأكمله داخل نقطة صغيرة للغاية، تدعى ب «المفردة-singularity»، وهذا ما نعرفه جميعًا باسم «الثقوب السوداء-Black holes»، الذي لا يسمح لأي شيء بمغادرة جاذبيته، مهما كانت سرعته، حتى لو كان الضوء نفسه.

تترك هذه النجوم خلفها انفجارات مهولة، مما نرصده في شكل السدم، فالسدم ما هي إلا جثث النجوم، بالطبع تولد العديد من النجوم كل يوم، لكن هذا إلى زوال، حيث سيأتي يوم لا تولد فيه المزيد من النجوم، وتموت النجوم كلها، تاركة الكون في ظلام دامس، معلنة انتهاء الحقبة النجمية للكون.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

coursera

لقراءة سلسلة التاريخ الكبير ج4 من هنا

بين الفلسفة والتفكير النقدي، تعريف التفكير الفلسفي، وكيف نصل إلى المعرفة؟

تهتم الفلسفة بالاستقصاء والبحث العقلاني بهدف المعرفة، فاهتم الفلاسفة ودارسوها منذ فترة طويلة بفهم ماهية المعرفة.بمجرد أن تكون لدينا فكرة واضحة عن ماهية المعرفة، أي تعريف التفكير الفلسفي، وكيف نصل إلى المعرفة؟ حينها سنتمكن من طرح السؤال التالي والذي تسعى البشرية إليه بشغف كبير وهو ما إذا كانت قادرة على الوصول لليقين المعرفي، أي معرفة شيء ما على وجه اليقين والتأكد من أن صحته غير قابلة للشك. ولكن لماذا نشك أصلا؟

يلعب الشك دورًا مهمًا في جعلنا صانعي معرفة دقيقين، لكنه لا يمكّننا أبدًا من الوصول إلى اليقين المعرفي، كما يمكن للشك أن يذهب بنا أبعد مما نتخيل، بداية من الشك في إدراكنا ووعينا، وحتى الشك في العالم وفي وجودنا. الشك بحر عميق بلا أرض نحاول الخروج منه منذ الأزل بعد أن أدركنا أن الكثير مما اعتقدناه معرفة لم يكن كذلك!

تعريف التفكير الفلسفي، وكيف نصل إلى المعرفة؟

تخيل الحوار التالي بين شخصين أ و ب، يبدأ شخص أ الحوار قائلا: “هل تعرف أن السمك الذي تأكله الآن يمكنه الطيران؟”

ب: “لا أظن ذلك. أنت على خطأ”

أ: “بل أنا على صواب”

ب: “ولكن كيف تعرف أنك على صواب؟”

أ: “لأنني أؤمن بأن هذا السمك يطير!”

ب: “ولماذا تؤمن بأن هذا السمك يطير؟”

أ: “لأنني أؤمن بهذا!”

ب: “ولماذا تعتقد بأن إيمانك سيقنعني؟”

أ: “لأنني على صواب!”

ب: “وكيف تعرف بأنك على صواب؟”

أ: “لأنني أعرف أنني على صواب!”

كما يبدو من هذه المناقشة، فما يؤمن به (أ) لا يستوجب من (ب) أن يؤمن به أيضًا، فكيف يمكننا إصلاح تلك المناقشة؟

أ: “هل تعرف أن السمك الذي تأكله الآن يمكنه الطيران؟”

ب: “لا أظن ذلك. أنت على خطأ”

أ: “بل أنا على صواب”

ب: “ولكن كيف تعرف أنك على صواب؟”

أ: “لأنني أمتلك الحُجة”

ب: “وما هي حُجتك؟”

أ: “لأن زعانف تلك السمكة أطول وأخف من بقية الأسماك وتتصل بعضلات أقوى، ولهذه السمكة أيضًا ذيل يضرب الماء بقوة، فتنطلق فوق سطح الماء بسرعة عالية تمكنها من الطيران لأمتار قليلة فوق سطح الماء!”

ب: “تبدو حجتك مقنعة قليلًا!”

قيمة الحُجة في الفلسفة

تحترم الفلسفة الحُجة وتعتبرها ركيزة أساسية من ركائز التفكير المنطقي والعقلاني، فهي كما رأينا قد أصلحت الحوار السابق بسهولة بغض النظر عن مدى صحة الحُجة، لكنها لا بد أن تتواجد في النقاش كي يصل إلى نتيجة بشكل ما. فالحُجة تخاطب العقل بالأسباب، والحجة المقنعة هي الحجة المنطقية. فهي ليست دعوة للشفقة والتعاطف، أو تهديدًا بالقوة، لكنها دعوة للمنطق. يقدر الفلاسفة الحجة لأنها تعني أن طرحك يمكن تفسيره وفهمه وقبوله من الآخرين. لهذا السبب فشل أ في البداية في إقناع ب، لأن حجته افتقرت للسبب. يحتاج أ إلى المزيد من الجهد لإقناع ب بإعتقاده، وعندما حصل ب على أسباب منطقية، بدا أنه أكثر قابلية للقبول باعتقاد أ.

وجود السبب لا يعني صحة الحُجة، ولا يعني قبول الاعتقاد من عدمه، لكنه يعني أن الحُجة أصبحت قابلة للنقاش بالأساس، أي يمكن معرفة صحتها أو خطئها وأن فرص صاحب الحُجة أ على اقناع ب قد زادت بشكل ملحوظ.

يقول رود جيرل: “إن المعرفة موضوعية جدًا، أما الإيمان فهو شخصي جدًا، المعرفة هي شيء يمكن إثبات خطئه، فإذا أخبرك شخص بمعرفته لشيء ما، يمكنك إثبات عدم معرفته به إذا أمكنك إثبات خطئه”

المحاججة

تُستخدم المُحاججة طوال الوقت بين الفلاسفة، مما جعل دراستها ركن رئيسي في المنهج الفلسفي، كما يجب معرفة وتمييز مجموعة من الكلمات عند استخدام المنهج الفلسفي، مثل “الاعتقاد” و”المعرفة” و”التفكير”. لكن لماذا يجب أن نميز تلك الكلمات تحديدًا؟ إليك مثلا بالتفكير، هل أنت تفكر الآن؟ ما دمت تقرأ هذا المقال فيبدو أنك تفكر بالفعل. لكن هل تمارس الفلسفة بمجرد قراءتك لهذا المقال؟ بالتأكيد لا! فهناك نوع محدد من التفكير يُدعى “التفكير الفلسفي”!

تعريف التفكير الفلسفي

التفكير الفلسفي ليس أمر صعب فحسب، وليست الصعوبة هي المميزة في التفكير الفلسفي عمومًا، فعلى سبيل المثال يصعب على أغلبنا ضرب رقمين كل منهما مكون من عددين سريعًا في رأسه، وبالرغم من صعوبة هذا الضرب فهو ليس تفكيرًا فلسفيًا.

ما دام الأمر غير مرتبط بالصعوبة، فبم هو مرتبط؟

يمكننا ربط التفكير الفسلفي بأنه التفكير في التفكير، فنحن نتواصل مع الآخرين لشرح أفكارنا فنحلل أفكارهم عبر حديثهم أو قراءة ما يكتبون. لا يقتصر الأمر على التفكير في التفكير ذاته، ولكن يمتد أيضًا لتقييم عملية التفكير. نحاول تطوير مجموعة من الاختبارات للتأكد من صحة عملية التفكير بأقصى قدر ممكن. والمحاججة هي أحد أعمدة تقييم عملية التفكير.

يقول ستيفين هيثيرينجتون: “ليس كافيًا أن تمتلك مجرد آراءًا، الآراء لا تعني شيء، حتى وإن أخبرت الجميع أنك تشعر بقوة بأن رأيك صحيحًا، فرغم قسوة ما سأقول، لكن رأيك لا يمكن اعتباره معرفة. لدينا نظرية فلسفية مذهلة تخبرنا لماذا لا يعتبر رأيك معرفة.”

التاريخ الكبير: لماذا يهتم العلماء بدراسة النجوم؟

لم تتوقف السماء عن سحرنا يومًا، حتى أننا نجد القمر، والنجوم مذكورين في كثير من أغانينا، فالسماء بنجومها كانت وما زالت مصدر إلهام لنا نحن البشر، لكن ما هي النجوم وكيف تتكون؟ ولماذا يهتم العلماء بدراسة النجوم؟

أكثر النجوم في كوننا هي نجوم صغيرة ذات كتلة قليلة، بحجم شمسنا أو أصغر، وهي أبرد بكثير من يا النجوم، لذا فلونها أحمر وتُدعى بال «أقزام حمراء-Red dwarfs»، ولكنها ليست مشوقة للحد الكافي، فنحن نتحدث هنا عن النجوم العملاقة، التي هي أكبر من شمسنا على الأقل ب 8 مرات، وقد تسطع أكثر بمليون مرة من سطوع الشمس!

تعيش هذه النجوم حياة مغايرة تمامًا لحياة شمسنا، ففي نهاية حياتها تنفجر في إنفجار خلاب مهيب يدعى بال«سوبرنوفا-Supernova»، تاركة خلفها لوحة جميلة من أجمل وأبهى الألوان، مثل التي نراها في السدم التي يعج كوننا بها، كما لعبت هذه النجوم دورًا حيويًا في تشكيل كوننا بشكله الحالي، فبعد الانفجار العظيم بفترة وجيزة، لم يكن هناك أي مصدر للضوء، كان الظلام والصمت يخيمان على كوننا بأسره، فيما يعرف باسم «العصور الكونية المظلمة-Cosmic dark ages»، ولكن بعد حوالي 100 مليون سنة، تكونت هذه النجوم العملاقة، التي عاشت حياة قصيرة، ثم انفجرت في حدث السوبرنوفا العظيم، وتوالت الأجيال النجمية، جيلًا بعد جيل بمرور الزمن، وأثناء فترة حياة تلك النجوم كان إشعاعها ورياحها النجمي يزيدان من حرارة الغازات من حولهم، مؤديين إلى حدوث عملية «التأين-Ionization»، محدثة ثقوبًا وفقاعات في تلك الغازات من حولها، وعلى مدار الوقت، تقوم تلك النجوم بتغيير شكل المجرات التي تحتويهم، مؤدية إلى شكل كوننا الحالي الذي نعيش فيه.

لماذا يهتم العلماء بدراسة النجوم من الأساس؟

أحد أكثر الأشياء إثارة للدهشة في كوننا هو التنوع الكبير للعناصر، تلك العناصر التي نحن وكل ما حولنا مصنوعون منها، ومن أمثلة هذه العناصر هو عنصر الأوكسجين الذي نتنفسه، وأيضًا عنصر الكربون، الذي هو حجر الأساس لجميع المركبات العضوية، ويلعب دورًا محوريًا في تكوين أنسجتنا وعضلاتنا، كذلك عنصر الكالسيوم، الموجود في أسناننا وعظامنا، وكذلك عنصر الحديد الذي يجري في دمنا.

على الرغم من ذلك التنوع، فالعناصر التي كانت موجودة بعد الانفجار العظيم هي الهيدروجين، والهيليوم، وقليل من الليثيوم، إذا من أين أتت كل تلك العناصر؟

يعتقد المجتمع العلمي أن الفضل في ذلك يرجع إلى النجوم، ولكن كيف ذلك؟

كيف تُشكّل النجوم العناصر؟

يبدأ الأمر بقوة الجاذبية، حيث تضغط الجاذبية الغازات سويًا، مؤدية إلى زيادة حرارتها، حتى تصل درجة الحرارة في المركز إلى ما يزيد عن المليون درجة، هذه الدرجة عالية بما يكفي للسماح بعملية الاندماج النووي، حيث تندمج ذرتان من ذرات الهيدروجين لتكوين ذرة من الهيليوم، ولكن هذا في النجوم التي هي بحجم شمسنا أو أكبر قليلًا، حيث أن النجوم العملاقة لا تتوقف عند هذا الحد، وإنما تستمر بدمج ذرات الهيليوم لتكوين الكربون والأوكسجين.

إذا كان النجم كبيرًا كفاية، فإنه سيستمر في دمج العناصر وصولًا إلى عنصر الحديد، ومن ثم تنفجر تلك النجوم العملاقة، في مشهد مهيب، مطلقة ما بجعبتها من مادة إلى الفضاء الشاسع، مضيفة عناصر جديدة إلى جدولنا الدوري.

يبدو غريبًا أليس كذلك؟ فالأوكسجين الذي تتنفسه بينما تقرأ هذا المقال الآن مصنوع في نواة أحد النجوم كتلك التي تراها في سماء الليل، أضف إلى ذلك أنك أنت نفسك تتكون من ذرات صنعت في نواة أحد النجوم أيضًا!

إنه لشيء مبهر بحق، ولا يسعنا إلا أن نقول أكثر من قول عالم الفيزياء الفلكية الشهير «كارل ساجان-Carl Sagan»: “أنت مصنوع من غبار النجوم”.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

التاريخ الكبير: ما هي القوى التي تحكم الكون؟

كوننا محكوم بأربع قوى فيزيائية، فكل ما نراه في حياتنا من أحداث يمكن الحكم عليه من خلال التفاعل بين هذه القوة الأربعة، إذًا ما هي القوى التي تحكم الكون؟

1- «القوة الكهرومغناطيسية-Electromagnetic force»

القوة الكهرومغناطيسية هي القوة التي تسبب الترابط بين الجسيمات ذات الشحنة الموجبة، ونظيراتها ذات الشحنة السالبة، إذ أنها هي السبب في تجاذب الالكترونات والبروتونات، كما أن لكل قوة من بين هذه القوة الأربعة جسيمًا ليحملها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، الجسيم الذي يحمل القوة الكهرومغناطيسية هو الفوتون، وهو جسيم يسير بسرعة الضوء إذ أنه منعدم الكتلة، لكنه مليء بالطاقة، فتقوم الالكترونات بتبادل الفوتونات بينها وبين البروتونات للحفاظ على ترابطهم في الذرة، يمكنك تصور الأمر على أنه مباراة كرة قدم، فالجزيئات هي اللاعبون، بينما التفاعل بينهم محكوم بحركة الكرة فيما بينهم.

2- «القوة النووية القوية-Strong nuclear force»

وهي القوة التي تسبب الترابط بين البروتونات وبعضها البعض داخل نواة الذرة، لتشكيل العناصر الثقيلة، إذ أن البروتونات ذات شحنة موجبة إلا أنها لا تزال متجاذبة ومتحدة في نواة الذرة، بسبب القوة النووية القوية، كما أنها أيضًا هي السبب في ترابط الكواركات داخل البروتونات، والجسيم الحامل لهذه القوة هو «الجلون-gluon»، فتقوم الكواركات بتبادل الجلونات فيما بينها، لتحافظ على ترابطها داخل البروتونات.

3- «القوة النووية الضعيفة-weak nuclear force»

تتسبب هذه القوة فيما يعرف بالتحلل الإشعاعي، مثل «إشعاع بيتا-Beta radiation»، وهذه القوة ليست ذات جسيم حامل واحد، ولكن ثلاثة جسيمات حاملة لها وهم W plus, W minus, Z boson، وهم يختلفون عن الفوتونات والجلونات في أمر الكتلة، فالفوتونات والجلونات منعدمة الكتلة، لكن هذه الجسيمات لها كتلة.

4- «الجاذبية-Gravity»

ما نتحدث عنه هنا هو ما يعرف ب «النموذج المعياري- Standard model»، وهو ما طوره الفيزيائيون في أوائل ستينيات القرن الماضي، ومن أشهر هؤلاء الفيزيائيون هو «فيلتمان-Veltman»، لكن نموذج فيلتمان حوى بعض الأخطاء القاتلة، إذ نصت نظريته بتنبؤات سخيفة، كما أن نموذج فيلتمان لا يكون صحيحًا إلا إذا كانت الجزيئات منعدمة الكتلة، لكنها إن كانت كذلك لطارت في الفراغ بسرعة الضوء، ولحل هذا الإشكال، صاغ «بيتر هيجز-Peter higgs» معادلاته، لوصف ما سُمّي بعد ذلك ب «حقل هيجز-higgs field»، إذ أخبر هيجز بأن كتلة الجسيمات لا تأتي من داخلها، وإنما هناك حقل غير مرئي، تتفاعل الجسيمات معه أثناء حركتها، فيُبطئ من حركتها، على سبيل المثال، إذا وجدنا جسيمًا ثقيلًا، فهذا يعني أنه يتفاعل بشدة مع حقل هيجز، وليس أن كتلة الجسيم نتيجة لتركز المادة بداخله.

إذًا فالأمر بسيط الآن، علينا فقط أن نجد جسيم هيجز، وعندها سيكون هذا دليلًا على وجود حقل هيجز، وقد حدث بالفعل، فقد وجد الفيزيائيون «بوزون هيجز-Higgs boson» عام 2012، وهذا هو ما يعطي الجسيمات كتلتها.

مما لا يشك فيه عاقل هو وجود الجاذبية وتأثيرها فيما حولنا، فهي التي تسببت بسقوط التفاحة، وهطول الأمطار، وترابط الأرض والقمر، ودوران الأرض حول الشمس، والكثير والكثير من الأشياء الأخرى، لكن الفيزيائيون لا يعرفون جسيمًا ليحمل هذه القوة، إذ أنها قوة كبيرة لتكون محمولة بجسيم واحد، ولكن مما لا شك فيه كذلك أنهم منهمكون في البحث عن هذا الجسيم بحثًا عن فهم أفضل عن ماهية القوى التي تحكم الكون.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

coursera

لقراءة سلسلة التاريخ الكبير ج2 من هنا

بين الفلسفة والتفكير النقدي، لماذا أدرس الفلسفة جامعيًا؟

بين الفلسفة والتفكير النقدي، لماذا أدرس الفلسفة جامعيًا؟

يتعجب البعض أحيانا من حماسة المتحدثين عن الفلسفة والراغبين في دراستها ويتسائلون:

ما دمت لا أرغب في العمل الأكاديمي الجامعي كمدرس للفلسفة فماذا سأفعل بعد التخرج من قسم الفلسفة؟ أو لماذا أدرس الفلسفة جامعيًا؟ أو ما دمتم لن تصبح فيلسوفًا، فلماذا تدرس الفلسفة؟

إذن وجب علينا أولًا تحطيم بعض الخرافات المنسوجة عن الفلسفة ودراستها وقراءتها، فإليك بعض أهم تلك الخرافات في هذا المقال.

أولًا: دراسة الفلسفة لن تمنحك مستقبل مهني مناسب

الفلسفة بالفعل ليست أحد الأقسام المهنية بشكل مباشر، لكنها تعلمنا كيفية التفكير، وليس فيما نفكر. لا تهتم الفلسفة بمنحك دور اجتماعي محدد، فهي لن تمنحك رخصة لمزاولة مهنة بعينها، ولهذا يقع الكثيرون في معضلة “لماذا أدرس الفلسفة؟”، والمشكلة تكمن في “لماذا تدرس أصلا؟”.

تهتم الفلسفة بالأساس بتعليمك بعض المهارات المهمة مثل كيفية التفكير بشكل ناقد، وكيفية تحليل المعلومات، وكيفية بناء حجج منطقية، وكيفية الكتابة بشكل واضح ومُقنع.

هذه هي المهارات التي يبحث عنها كل صاحب عمل في موظفيه تقريبًا في الصناعات كافة. إن أصبحت استشاري أو خبير في أي مجال، فأنت تحتاج إلى تكوين الحجج المنطقية باستمرار في مجالك. إن أصبحت صاحب عمل أيضًا، فأنت تحتاج إلى إقناع موظفيك بأهمية ما تطلبه منهم وعدالته ومنطقيته، وتحتاج لتفكير ناقد وقدرات تحليل هائلة كي ينجح مشروعك.

إليك بعض إعلانات الوظائف كي تلمس الاحتياجات بنفسك:

ذكرت هذه الإعلانات بعض من المهارات التي تتعلمها عند دراستك للفلسفة، مثل مهارات التواصل، والتفاوض، ومهارات التحليل، والتفكير وحل المشكلات وغيرها.

تشير بعض الدراسات إلى أن متوسط تغيير المهن في أستراليا قد وصل ما بين 5 – 7 مرات في عمر الفرد، والمهن لا يُقصد بها مكان العمل ولكن نوع العمل ذاته، بالتالي فإن فكرة زواج المهنة لحد الارتباط الأبدي غير مناسبة لعالمنا الرقمي الحديث ولم تعد واردة.

من هنا، تكتسب الفلسفة ميزة عظيمة وهي قدرتها على إكسابك المهارات الأساسية التي ستساعدك للانتقال بين المهن والصناعات المختلفة بسلاسة وقتما تشاء.

الأمر هنا مختلف عن شهادة الطب التي ستبقيك طبيبًا طيلة حياتك، أو الهندسة الإنشائية التي ستجعلك ملازمًا لمواقع البناء للأبد، الوضع هنا أكثر حرية واستقلالية ومتعة.

ريادة الأعمال نموذجًا

يستخدم رواد الأعمال مهاراتهم التحليلية والنقدية لمعرفة احتياجات السوق وفجواته ومشكلاته لإيجاد حلول إبداعية لتلك المشكلات والفجوات. تمامًا مثلما فعل خريج قسم الفلسفة لاري سانجر عند مشاركته في تأسيس موقع Wikipedia والحاصل على الماجستير والدكتوراة في الفلسفة أيضًا، وكذلك ستيوارت بترفيلد المشارك في تأسيس موقع Flicker لمشاركة الصور وهو للعلم حاصل على ماجستير في الفلسفة أيضًا.

كثير من خريجي الفلسفة يعملون في المجالات الآتية:

  • القانون.
  • الدين.
  • إدارة الأعمال.
  • الدبلوماسية الدولية.
  • العمل الاجتماعي.
  • الإدارة الطبية.
  • العلاقات العامة.

مما يجعل خريجي الفلسفة قادرين على شغل العديد من الأعمال والمناصب بعكس المتوقع.

ثانيًا: لن تملك المال الوفير لدراستك كانط وهيجل

تقول جين ويلز ل yahoo finance بناءًا على دراسة مالية لعدد من المواقع الإلكترونية:

“خريجي كليات الإنسانيات وتحديدًا الفلسفة هم أكثر جاهزية لاقتناص الوظائف ذات الرواتب المرتفعة”

والحقيقة أن خريجي الفلسفة يحصلون على فرص مادية أفضل من خريجي المجالات الفنية والإنسانية كافة، وهم من بين أعلى أربع فئات في متوسط الدخل للخريجين غير الحاصلين على دراسات عليا، وهم الأعلى في معدلات نمو الراتب بين قرنائهم في مراحل حداثة التخرج وحتى المراحل المهنية الوسيطة.

والآن، أنت تعرف أن ما يقال عن الفلسفة ودراستها هو محض خرافات لا أساس لها. إذن فدراسة الفلسفة تساعدك مهنيًا وماديًا.

ثالثًا: دراسة الفلسفة غير مهمة وتناسب الفاشلين!

الحقيقة أن خريجي الفلسفة هم أذكى طلاب المرحلة الجامعية، ويسجلون باستمرار في أفضل ثلاثة برامج في امتحانات المتطلبات الأساسية للدراسات العليا الأمريكية الـ GRE. في إحدى الدراسات، لوحظ حصول خريجي الفلسفة على أعلى معدل تقدّم في كليات الطب الأمريكية، وبعضها معدلات أعلى من طلاب علم الأحياء أنفسهم!

تحتاج صناعة التكنولوجيا خريجي الفلسفة لأن طريقة تفكيرهم الإبداعية مناسبة بشكل مثالي لتسارع الخطى التكنولوجية في عالمنا. كما تقدر مهنة المحاماة أيضًا المتقدمين الحائزين على درجات في الفلسفة لأنهم يفهمون مستوى الصرامة الفكرية في برامج التعليم القانونية وفي ممارسة المحاماة كوظيفة.

لم تظهر الفلسفة فجأة كما يعتقد البعض، بل كانت موجودة طوال الوقت ولفترة أطول من العلوم والرياضيات والأدب. في الواقع، كل هذه المجالات بدأت بفيلسوف يتساءل عن طبيعة الكون. لذلك، تقضي بعض الفصول مفكرًا في أسباب وجودك كإنسان في هذا العالم، فأنت كذلك تطور بعض المهارات المطلوبة بشدة في سوق العمل والتي يبحث عنها أصحاب العمل بنهم وبشكل متزايد في السنوات القادمة.

إذن، بعد هذا المقال، أعتقد أن سؤال “لماذا ندرس الفلسفة؟” لم يعد هو السؤال الأنسب، ولكن السؤال الأكثر ملاءمة الآن هو “لماذا لا ندرس الفلسفة؟”، أليس كذلك؟

——————————-

This quiz is for logged in users only.


التاريخ الكبير: مم يتكون الكون؟

سلسلة التاريخ الكبير: مم يتكون الكون؟ لطالما سحرنا الكون بغموضه، لكن في القرن الماضي، تمكن العلماء من إزالة بعض من الغموض الذي يحيط بالكون، كما اكتشفنا بعض الأمور المثيرة، على سبيل المثال علمنا أن الفراغ ليس عدمًا كاملًا، ولكنه يحوي «تقلبات كمومية-Quantum fluctuations» تُنشئ جزيئات ومضاداتها، ليتحد الجزيء و مضاده ليعودوا كما كانوا فراغًا، ولكن هذا الاكتشاف المثير قد يدفعك للتساؤل عن ماهية المادة من الأساس، في الواقع، نحن نعرف الكثير، دعونا نناقش في سلسلة التاريخ الكبير: مم يتكون الكون؟

1- الالكترونات

كما نعلم جميعا تدور الالكترونات حول نوى الذرات بسرعة تقارب سرعة الضوء، وهذا لا يسمح لنا بقياس سرعته و تحديد مكانه في نفس اللحظة، تقف قوانيننا عاجزة أمام هذا الجزيء الصغير ذو الشحنة السالبة.

2- «الكواركات-Quarks»

تحتوي نواة الذرة على البروتونات والنيوترونات، واللذان بدورهما يوجد بداخلهما جزيء أصغر، يدعى بالكوارك، وحجم الكوارك أصغر من حجم البروتون بألف مرة، إذ أن كل بروتون يحتوي على ثلاث كوراكات، وكل نيوترون يحتوي على ثلاثة أيضًا، كما أن للكواركات أنواع مثل : «الكوارك العلوي-Up quark»، «الكوارك السفلي-Down quark»، وغيرهم، إلا أن هذان النوعان هما ما يكوّنان المادة التي في كوننا، و يحتوي البروتون على كواركان علويان وكوارك سفلي، بينما يحتوي النيوترون على كواركان سفليان وكوارك علوي.

3- «الالكترون نيوترينو-Electron neutrino»

ليس مكونًا من مكونات الذرة، لكنه يغمر كوننا بجسيماته طوال الوقت، جسيماته القادرة على اختراق كل شيء دون أن نشعر بها، إذ أن في الثانية الواحدة يخترق مئة بليون من هذا الجسيم إبهامك!
لا تزال خصائص النيوترينو مجهولة لدى المجتمع العلمي، كما أننا لا نعرف أي دور يلعب في بناء كوننا، ربما نجيب عن هذه الأسئلة في المستقبل القريب.

4- «المادة المضادة-Antimatter»

كانت المادة المضادة افتراضًا تنبأت به معادلات العالم «بول ديراك-Paul Dirac» في عام 1926، إلا أننا استطعنا إنتاجها في المعامل، كما رصدناها في التقلبات الكمومية، إذ أن الالكترون له جسيم مضاد بشحنة موجبة ويدعى بال «بوزيترون-Positron»، كما أن للبروتون جسيمًا مضادًا كذلك، ويدعى بال «البروتون المضاد-Antiproton»، فلكل جسيم من جسيمات المادة جسيمًا مقابلًا من جسيمات المادة المضادة.

عندما يلتقي جزيء بنظيره من المادة المضادة، يتحدان سويًا ليفنيا ويتحولا إلى طاقة وفقًا لمعادلة ألبرت أينشتاين الشهيرة E=MC^2، التي تنص على أن المادة والطاقة ما هما إلا وجهان لعملة واحدة، وهذه بالضبط هي فكرة «المسرعات الجزيئية-Particle Accelerators»، حيث يقوم الفيزيائيون بتسريع الجسيمات لتصطدم ببعضها منتجةً طاقة هائلة، وبحسب كمية الطاقة تنشأ جسيمات جديدة، إذ اكتشفنا نوعًا أثقل من الكواركات، وهو «الكوارك القمي-Top quark»، ونوعا أثقل من الالكترونات، وهي «الميونات-Muons»، ونوعا أثقل من النيوترونات، وهي ال «ميون نيوترينو-Muon neutrino»، وكل هذا عن طريق مصادمة الجزيئات ببعضها البعض، لتنتج طاقة، ومن ثم تتركز هذه الطاقة لتتحول إلى جسيمات جديدة.

ولكن لماذا لا نجد المادة المضادة بوفرة في الطبيعة مثل المادة؟ ولماذا هذه الجسيمات بالتحديد؟ وهل توجد جسيمات أخرى؟

كل هذه أسئلة لا نعرف لها إجابة في الوقت الحالي، لكن لربما كنت أنت أيضًا المجيب عليها، والفائز القادم بجائزة نوبل في الفيزياء.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

لقراءة الجزء الأول من هنا

التاريخ الكبير: الانفجار العظيم

التاريخ الكبير: الانفجار العظيم

بعد أن أعددت مشروبك المفضل في سلام، وجلست في شرفة بيتك الهادئة بعد منتصف الليل، تنظر إلى السماء بعجب، فإذا القمر يتوسط المشهد بنوره الفضي الساحر، محاطًا بمجموعة بالكثير والكثير من النجوم، ووسط هذا الجو الشاعري الجميل تتساءل: “كيف بدأ كل هذا؟”.

الحقيقة أننا نعرف كيف بدأ كوننا الجميل، لقد بدأ بداية عنيفة، بدأ ب «انفجار عظيم-Big bang»، ولكن كيف نعرف هذا؟ وما هي الأدلة على هذا الادعاء؟ تابع معنا سلسلة التاريخ الكبير ج١: الانفجار العظيم

1- توسع الكون

بدأ الأمر في بدايات القرن العشرين حينما وجه العلماء تليسكوباتهم نحو السماء، كان الاعتقاد السائد آنذاك أن الكون هو عبارة عن تجمع نجمي يحوي جوالي 400 بليون نجم، له أربعة أذرع، ويدعى ب«مجرة درب التبانة-Milky way galaxy»، لكن هؤلاء العلماء اكتشفوا اكتشافًا قد مثل ثورة علمية في ذلك الوقت، اكتشفوا أن مجرتنا ليست وحيدة!

بل أن هناك العديد من المجرات الأخرى، لم تكن تلك المجرات موجودة فقط، بل أنها كانت تبتعد عنّا، وأنه كلما كانت المجرة أبعد، كلما تحركت أسرع، فيما يعرف باسم «قانون هابل-Hubble’s law» نسبةً إلى العالم «إدوين هابل-Edwin Hubble».

لذا فإن كانت المجرات تبتعد عنا، فهي غدًا ستكون أبعد، كما أنها كانت أقرب إلينا في البارحة، فلنرجع الشريط إذًا للخلف، وسنرى أن المجرات تصبح أقرب مع التراجع في الزمن أكثر وأكثر، حتى يصبح الكون كله كتلة غازية ساخنة.

ومع بعض الحسابات يمكننا حساب عُمر كوننا، وبالفعل أطلق العلماء لأياديهم العنان لصياغة حسابات رياضية لحساب عمر الكون، ألا وهو 13.8 بليون سنة.

2- «الخلفية الكونية الميكرووية-Cosmic microwave background»

في بدايات الكون، كانت درجة الحرارة عالية جدا، عالية بشكل لا يسمح للنجوم أو المجرات أو الكواكب بالتكون، بل حتى أنها لا تسمح بوجود الذرات نفسها!

كانت الغازات ساخنة للغاية حتى بدأت في عملية «التأين-Ionizing»، كانت كل المادة في الكون منصهرة في حساء كوني من البلازما، حيث تندمج نوى الذرات، وتخرج الالكترونات عن مساراتها، والبلازما تنتج الكثير من الضوء والاشعاع لكنها تحتبسهم بداخلها، ولكن بعد أن أتم الكون 300 ألف سنة من عمره، هبطت درجة حرارته إلى 3000 درجة نتيجة للتوسع، رغم أنها درجة عالية نسبيًا، إلا أنها تسمح بتكون الذرات، لذا أصبح هناك مجال للإشعاع بأن يتحرك بحُرية أكثر، وكلما زاد عمر الكون كلما زاد الطول الموجي لهذا الإشعاع، فأصبحت هذه الموجات كانت موجات ميكروويف.

ثم رصدها العلماء وكونوا صورة لخلفية كوننا الميكرووية، فقد رصدوا إشعاعًا قادمًا من أولى سنوات الكون، فهذا أيضًا دليل على أن لكوننا بداية.

3- نسبة الهيليوم:

في نواة شمسنا الدافئة، تؤدي قوى الجاذبية الشمسية إلى التحام نوى ذرات الهيدروجين، حيث تتحد ذرتا هيدروجين لتكوين ذرة هيليوم واحدة، وهذا ما يحدث في النجوم فيما يعرف بعملية «الاندماج النووي-Nuclear fusion»، فإذا قمنا ببعض الحسابات استنادًا إلى عمر الكون، وإلى قوانيننا الفيزيائية المعروفة، فنستطيع التنبؤ بأن في ظروف كهذه، ستكون نسبة الهيليوم في يومنا هذا هي 1:10 من المادة الموجودة في الكون، ثم نأتي على أرض الواقع لنقيس نسبة الهيليوم وتكون المفاجأة، نسبة الهيليوم مطابقة لحساباتنا في ظروف كون بانفجار عظيم!

وهذا أيضًا يعتبر دليلًا قويًا على صحة نظرية الانفجار العظيم. لكن قد يسأل سائل: “هل نعلم كل شيء عن الكون الآن؟”

و الإجابة هي: “لا وبكل تأكيد”

إذ أن كل ما نعلمه عن كوننا كميًا هو 5% فقط من الكون. كل المادة التي نحن مصنوعون منها نحن والنجوم، لا تحظى إلا بنصيب 5% فقط من الكون.

فنحن لا نعلم ما يجعل المجرات متماسكة بهذا الشكل، فأطلقنا عليها اسم «المادة المظلمة-Dark matter»، كما أننا لا نعرف طبيعة القوة التي تتسبب في توسع الكون من الأساس، ونسميها «الطاقة المظلمة-Dark energy»، كما أننا أيضًا لا نعرف ما تسبب ببداية الكون، لا نعلم ما هو سبب الانفجار العظيم، إذ أن الكون كان كثيفًا وساخنًا للغاية بدرجة لا تسمح لقوانيننا الفيزيائية المعهودة بالعمل.

فهناك الكثير والكثير الذي لا نعلمه عن الكون وعنّا، في الواقع نحن نجهل عن الكون أكثر مما نعلم، وكما ترى عزيزي القارئ، هناك الكثير من جوائز نوبل في انتظار من يجيب عن هذه الأسئلة، ومن يدري؟ أليس من الممكن أن يكون أنت من يفعل؟

من كورس تابع لCoursera، مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

اقرأ المزيد حول: داروين لم يكن أول من وضع نظرية التطور

داروين لم يكن أول من تحدّث في التطور

داروين لم يكن أول من تحدّث في التطور

إذا ذُكرت نظرية التطور تبادرت لذهنك صورة العالم الشهير «تشارلز داروين-Charles Darwin»، ظنًا منك أنه هو من أسّس النظرية، لكن على ما يبدو أن النظرية لها تاريخ طويل جدًا، فما من عمل بشري عظيم كان ثمرة إبداعات شخص واحد، فماذا عن نظرية بحجم نظرية التطور؟ فجميعنا نعلم أنها إحدى أروع وأعظم الأعمال البشرية على الإطلاق، لذا وجب استعراض قبسات من تاريخها الطويل، وستجد عزيزي القارئ أن داروين لم يكن أول من وضع نظرية التطور

1- «أناكسيمندر-Anaximander»:

وُلد الفيلسوف اليوناني أناكسيمندر عام 610 ق.م، في مدينة «ميليتوس-Miletus» (في تركيا حاليًا)، ويُعد مؤسس «علم الكونيات-Cosmology»، إلا أنه امتلك نظرته الخاصة عن الحياة أيضًا، وكيف ارتقت لمرحلة تكوين الإنسان، فقد كان يعتقد أن الإنسان هو أكثر أشكال الحياة تعقيدًا وكمالًا، فقد رأي أن الحياة تكونت من العناصر الرطبة، كان يرى أن الحياة بدأت في البحار، وأن الإنسان تطور من كائنات أبسط مثل السمك، حيث اعتقد أن الإنسان يحتاج لفترة طويلة من التنشئة، إذ أنه لم يكن لينجو في الظروف البيئية القاسية التي مرت على الأرض إن كانت هذه هي صورته الأولى (صورة الإنسان الحالية).

2- «إمبيدوكلس-Empedocles»:

جاء إمبيدوكلس بعد أناكسيمندر بحوالي قرن من الزمان، اعتقد إمبيدوكلس أن الكون يتكون من أربعة عناصر: الماء، والهواء، والأرض، والنار، اعتقد أن هذه العناصر تفاعلت مع بعضها البعض، نتيجة التأثر بصراع قوتي الجذب والتنافر، صانعين مسوخًا ووحوشًا كنتيجة عرضية لهذا التفاعل، وبسبب استمرار الصراع بين قوتي الجذب والتنافر تطورت هذه المسوخ إلى الكائنات التي نراها اليوم.
وهي أغرب نظرية فيهم، لكنها تبدو قريبة من نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي، التي تخبرنا بوجود كائنات فشلت في اختبار الطبيعة لها، سامحةً لأجناس أخرى أكثر نجاحًا بالاستمرار.

3- «لوكريتيوس-Lucretius»:

ظنّ لوكريتيوس أن القوة التي تسبب في نشأة الحياة على الأرض هي الصدفة، وأن وحوش إمبيدوكلس تعرضت لنوع من أنواع الانتقاء الطبيعي، الذي فضّل الأفراد الأقوى، والأذكى، والأسرع، واختارهم للاستمرار، إلا أنه اعترض على نظرية أناكسيمندر، واعتقد باستحالة تطور كائنات اليابسة من كائنات بحرية.

4- الجاحظ:

وُلد أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري -المعروف باسم الجاحظ- في مدينة البصرة جنوبي العراق عام 776م.، وهي فترة زاد فيها نفوذ المعتزلة، وهي طائفة مسلمة تنادي بإعمال العقل وتحكيمه، وتشجيع البحث العلمي والفلسفي.
ألّف كتابه “الحيوان”، وهو كتاب موسوعي يدرس فيه الجاحظ 350 حيوانًا، وقدم في هذا الكتاب أفكارًا مشابهة لأفكار داروين، حيث قال فيه أن الكائنات تتصارع على البقاء ولأجل الموارد، ويرى فيه أيضًا أن العوامل البيئية تؤدي إلى تطور صفات جديدة، ومع مرور الزمن تتحول إلى أنواع أخرى.

5- الطوسي:

رأى نصير الدين الطوسي في كتاباته أن الكون في البدء تكون من عناصر متشابهة ومتساوية، ثم طرأت بعض التغيرات على بعض العناصر مكونةً مواد مختلفة، ثم يشرح كيف تحولت هذه المواد إلى أملاح، ثم نباتات، ثم حيوانات، انتهاء بالإنسان.
ثم تطرق لشرح كيف حدث هذا التنوع الحيوي الذي نراه، حيث رأى أن الأنواع التي كانت أسرع في اكتساب الصفات وتوريثها كانت أكثر تنوعًا.

6- ابن خلدون:

تأثر عبدالرحمن بن خلدون مؤسس علم الاجتماع بكتابات الجاحظ حيث رأى أن الإنسان تطور مما سماه ب “عالم القرود”، وذكر في الفصل الأول من كتابه “المقدمة” أن عالم الأحياء بدأ من الأملاح التي تطورت فأصبحت نباتات، ثم حيوانات، في تراتبية وتدرج على مر الزمن.

7- «جان باتيست لامارك-Jean Baptiste Lamarc»:

ظنّ لامارك أن الصفات المكتسبة في حياة الكائن يرثها نسله، وبالتالي يحدث التطور.

مثال: إذا قُطع ذيل زاحف ما فسيولد نسله بدون ذيول وفقًا لنظرية لامارك.

وهي فرضية خاطئة وفق علومنا الحالية، فالصفات المكتسبة تختلف عن الصفات الموروثة.

كما رأى أيضًا أن العوامل البيئية تغير من تصرفات الحيوانات، ومن ثم تغير الطبيعة صفات الكائنات لما يتوافق مع هذه العوامل.

مثال: أدّى علو الأشجار إلى أن الزرافات صارت تمد أعناقها لتصل إلى الثمار، فصارت أعناق الزرافات أطول.

وهذه أيضًا فرضية خاطئة وفق نظرية داروين للانتخاب الطبيعي، التي رأت أن الزرافات ذات الأعناق الطويلة كانت تنعم بفرصة أكبر للغذاء وبالتالي التناسل، فاستمر نوعها.

الخلاصة:

التطور حقيقة علمية يدركها الأعمى والبصير على حد سواء، والتاريخ مليء بالمحاولات الساعية بجهد لتفسيره وشرح كيفية حدوثه، وأكثر ما يميز هذه النظريات هو تعديل بعضها بعضًا، بحيث تستمر حركة العلم، فقد أُضيفت تعديلات على نظرية داروين بعد وفاته، فالعلم دائم التطور، تمامًا كالكائنات الحية!

المصادر:

bbc
interestingengineering
amazon
britannica
pbs
classicawesdom

اقرأ المزيد: هل حقًا سقطت نظرية التطور كما يزعمون

كيف لشريحة نيورالينك أن تنهي عالمنا الذي نعرفه؟ سيناريوهات وتوقعات

كيف لشريحة نيورالينك أن تنهي عالمنا الذي نعرفه؟ سيناريوهات وتوقعات

“حاولت إقناع الناس أن يبطئوا … يبطئوا الذكاء الصناعي … لم يصغِ إليّ أحد”

كانت هذه الكلمات التي نطقت بها شفتا المهندس ورجل الأعمال الشهير إيلون ماسك، نطق بها محذرًا من خطر الذكاء الصناعي على البشر ومستقبلهم، فالذكاء الصناعي أصبح يهدد الذكاء البشري، وما هي إلا سنوات معدودات حتى يملك الذكاء الصناعي زمام جميع أمورنا نحن البشر من وجهة نظره.

استطاعت 6 مليون سنة من التطور صقل الدماغ البشري بحيث لا يتسامح مع فكرة تفوق الآخرين، فنحن نغار من بعضنا البعض، ونشعر بالتهديد في حال تفوق أحدهم علينا، وهذا هو سر تخوفنا من الذكاء الصناعي، حيث أن هذه الحواسيب ستكون مدركة لتفوقها على أدمغتنا خلال سنوات، فمثلما جاء في فيلم «Alien Covenant» بعد عدة دقائق من تشغيل الروبوت الذكي «ديفيد-David» على يد صانعه المهندس «بيتر ويلاند-Peter Weyland»، وجّه ديفيد الكلام لويلاند قائلًا:

“أنت تبحث عن خالقك بينما أنظر إلى صانعي، سيكون عليّ أن أخدمك على الرغم من كونك إنسان سيموت بينما أنا لن أموت”

فهذه الروبوتات ستكون مدركة تمامًا لتفوقها علينا وأحقيتها بالسيادة بحكم ذكائها وقدرتها على التعلم.

ويبدو أن الحل الوحيد لهذه المعضلة هو أن نحارب النار بالنار، يبدو أن الحل كامن في دمج الدماغ البشري مع الحواسيب الذكية لكي نضمن سيادتنا على هذه الروبوتات التي صنعناها بأيدينا. لكن يبدو أن هذه الفكرة ما هي إلا نذير لسيناريو آخر لهلاك أعنف للبشر.

كشف إيلون ماسك الستار عن أحدث إبداعات شركته «نيورالينك-Neuralink»، وهي عبارة عن شريحة تُزرع في الدماغ عن طريق عملية جراحية، معلنة بدء عصر دمج الدماغ البشري بالآلة على نطاق تجاري، ستعطي الشريحة لصاحبها قابلية محو بعض ذكرياته، وتعديل الساعة البيولوجية، وزراعة معلومات داخل الدماغ، وغيرها الكثير من الإمكانيات.

وسط التخوفات ونظريات المؤامرة والتحذيرات الكثيرة قد نشعر ببعض من عدم الارتياح لهذه الفكرة، دعونا نناقش سويًا مخاطر هذه الفكرة.

أشهر 4 تخوفات من شريحة إيلون ماسك

1- «الاختراق-Hacking»

إذا قام أحدهم باختراق هذه الشريحة فسيملك بين يديه كل المعلومات التي يحتويها دماغ صاحبها، بل أنه سيملك صاحبها نفسه، تخيل عزيزي القارئ أن مشاعرك، وذكرياتك، وخبراتك، ومخاوفك بل وحتى أفعالك ستكون ملك يدَي شخص آخر.

هذا قد يمكنّه من زراعة ذكريات وهمية في دماغك، تخيل أن يتحكم بك ليرتكب جريمة بيديك، ولن يُدان بالجريمة سواك أنت.

اختراق هذه الشريحة سيمكن مخترقها من التحكم في حياة صاحبها حرفيًا، وهذه ليست بالفكرة الجيدة على ما يبدو.

2- الاستغلال

بما أن الشريحة يمكن عن طريقها التحكم في مشاعر وأفكار صاحبها، دعونا نتخيل سويًا ما قد يحدث إذا استغل رؤساء العمل هذا لجعلنا نعمل ساعات إضافية، أو تحكمت بنا الشركات التجارية الكبرى لشراء منتجاتها بنهم، أو تحكم السياسيون بمعارضيهم لتحويلهم إلى خدم مطيعين لهم، سنصير عبيدًا تحت رحمة من يسيطر على هذه الشريحة، وهذا سيقوم بخلق واقع ديستوبي شبيه بالذي في رواية “1984” لكاتبها الراحل «جورج أورويل-George Orwell».

استغلال هذه الشريحة من قبل الآخرين سيسلبنا إنسانيتنا وحريتنا محولًا إيانا إلى نسخ كربونية تطابق رغبات الآخرين دون أي اعتراض منّا على أي شيء.

3- التطبيقات العسكرية

كعادة معظم ابتكارات واكتشافات البشر، لا يطول الأمر حتى يأتي أحدهم بفكرة لتوظيف هذا الاكتشاف في صناعة الأسلحة، خذ على سبيل المثال الهندسة الوراثية التي استُخدمت في صناعة وتطوير الأسلحة البيولوجية، أو معادلة أينشتاين الشهيرة “E=MC^2” التي تنص على وجود طاقة مختزنة في ذرات المادة، وجميعنا نعرف انها كانت شرارة أشعلت نارًا التهمت 200,000 روح بريئة باسم الطاقة النظيفة الغير محدودة.

امتلاك شيء قادر على التحكم بالدماغ البشري قد يخلق جنودًا خارقين يمكنهم القتال لساعات متواصلة دون كلل أو خوف، جنودًا دمويين لا وجود للرحمة في قاموسهم، لا يجدون أي مشكلة أخلاقية في إبادة الأبرياء وارتكاب أبشع جرائم الحرب، فقط يفعلون ما يؤمَرون به دون خوف أو تفكير، وهذا بلا شك سيقلب موازين القوى ويغير شكل الحروب للأبد.

4- «الإبادة الجماعية-Genocide»

لن يستغرقك الأمر بضع دقائق من التأمل حتى تجد تحكم البشر واستعبادهم لما حولهم، نحن نقتل الأفيال من أجل العاج، نقتل الحيوانات من أجل لحومها وفرائها، نمتطي الحيوانات الأخرى كالخيول بغرض المفاخرة، نمتلك تلك الرغبة الصارخة في السيطرة على كل ما هو أدنى منّا.

التاريخ مليء بإبادات جماعية بسبب العنصرية والتعالي على الأعراق الأخرى، في الواقع، قد نكون نحن السبب في انقراض أسلافنا من ال «Homo Neanderthals» وال «Homo Erectus» فقط لأننا أعلى تطورًا منهم، أو لأنهم كانوا يمثلون خطرًا على الموارد الغذائية التي كانت شحيحة آنذاك، ولماذا نذهب بعيدا؟

هتلر شن حملات إبادة ضد اليهود، وذوي الإعاقات، والمثليين، وأصحاب الأمراض المزمنة.

كولومبوس أباد سكان أمريكا الأصليين، وغيرها الكثير من حملات التطهير العرقي التي تزعمها أشخاص احتقروا أعراقًا أخرى.

مما لا شك فيه الآن أن هؤلاء ال« بشر السيبرانيين-Cyborgs» سيشعرون أننا أدنى منهم ذكاءً وكفاءةً، سيرون أنهم متطورون عنّا، وأننا على درجة أدنى من السلم التطوري، وهذا ينذر بإبادة جماعية للبشر الطبيعيين، مما قد يعني نهاية البشرية بالشكل الذي نعرفه.

الخلاصة: قد يأخذ المستقبل منحى أخر أكثر ظلامًا مما كنّا نتوقع، فيجب علينا أن نتمهل ونفكر مليًّا فيما نحن مقبلون عليه، وإلا كنّا سببًا في هلاك أنفسنا.

المصادر:

forbes
the conversationtheconversation

اقرأ المزيد حول: ماذا تعرف عن شريحة نورولينك العصبية التي أعلن عنها إيلون ماسك

أشهر 5 ادعاءات يروجها معارضو نظرية التطور

أشهر 5 ادعاءات يروجها معارضو نظرية التطور

أحدثت نظرية التطور ثورة غير مسبوقة في علم الأحياء، حيث ادعت النظرية معرفة سبب التنوع البيولوجي الكبير بين الكائنات الحية، ولكن ما لبث «تشارلز داروين-Charles Darwin» أن أخرج نظريته إلى الناس حتى بدأت حملة الهجوم عليها بشراسة، وما زالت النظرية تُهاجم و تكذّب إلى يومنا هذا، فهل حقًا سقطت نظرية التطور وأثبتت استحالتها كما يزعمون؟

إليكم أشهر 5 ادعاءات يروجها معارضو نظرية التطور وتفنيدها علميا بالدليل:

1- التطور مجرد نظرية وليست حقيقة

  • يعتمد هذا الادعاء على مغالطة «رجل القش-Straw Man Fallacy»، وهو رسم صورة خيالية غير واقعية عن شيء ما ومن ثَم مهاجمة وانتقاد هذه الصورة، والمغالطة هنا في فهم مفهوم النظرية العلمية.
  • يختلف مفهوم النظرية العلمية عن مفهوم النظرية في اللغة الدارجة، فالنظرية في اللغة الدارجة تعني رأيًا لم يثبُت بالأدلة، ولكن النظرية في لغة العلم هي صرح من الأدلة والإثباتات لتفسير ظاهرة طبيعية ما.
  • النظرية العلمية هي أفضل تفسير نملكه، وهي قائمة إلى أن يثبُت خطأها أو استبدالها بنظرية أخرى، ومن أمثلة النظريات العلمية المُثبتة والمُستخدمة «نظرية فيثاغورس-Pythagoras Theorem»، فلماذا إذًا من وجهة نظركم ما زالت تستخدم في البناء وتُدرس في الجامعات والمدراس إن كانت مجرد نظرية كما تقولون؟

2- توجد العديد من الحفريات التي تتعارض مع التطور مثل العثور على آثار أقدام بشرية في تنزانيا تعود لأكثر من 3 مليون سنة

يظن معارضو التطور أن النظرية تحدد عمرًا معينًا لجنس ما، فعمر الجنس البشري الحالي وفقًا للأحافير المُكتشفة حديثًا هو 300 ألف سنة فيتساءلون كيف إذا يمكن أن يوجد إنسان قبل 3 مليون سنة؟

ولكن في الواقع عاش في هذه الفترة العديد من الكائنات الشبيهة بالبشر الحاليين مثل «هومو إريكتوس-Homo Erectus»، فمجرد آثار الأقدام لا تكفي لتحديد النوع بدقة، فلا نملك أدلة كافية لتحديد الكائن الذي تعود إليه هذه الآثار، ولكن لنفترض أنها تعود إلى «هومو سابيان-Homo Sapien»، (البشر الحاليين) فما المانع على أية حال؟ يُحدد عمر جنس ما عن طريق قياس عمر أقدم حفرية له، وهذا لا يعارض التطور في شيء.

منذ أربع سنوات كان الاعتقاد السائد أن أقدم هومو سابيان عاش منذ قرابة ال200 ألف عام، و لكن في عام 2017 اكتُشفت حفرية لهومو سابيان أضافت مئة ألف عام أخرى إلى تاريخ الهومو سابيانز ليصير 300 ألف سنة، ولم ولن يضر هذا التطور في شيء؛ إذ أن النظرية معنية بدراسة تنوع الأجناس وكيف حدث هذا التنوع، وليس بأعمارها.

3- إذا كان الإنسان تطور من القردة، فلماذا ما زالت القرود موجودة؟

يعتقد معظم معارضي التطور أن النظرية تدّعي أن الإنسان انحدر من القرود، فيتساءلون لماذا ما زالت توجد القرود و لم تتطور إلى بشر؟
وهذا السؤال يشير إلى ضحالة المعرفة عن النظرية، فالتطور لم يقل أن البشر انحدروا من قرود، ولكنه قال أن الإنسان و القرد (وكل الكائنات الحية) لها سلف مشترك و تنحدر كلها من كائن واحد بسيط، ولكن لنفرض جدلًا أنه قال ذلك، فهذا السؤال يشبه سؤال: “إذا كان الأمريكيون البيض من أصول بريطانية، فلماذا ما زال هناك بريطانيون؟”

4- لم يتم اكتشاف الحفريات الانتقالية التي ذكرها داروين.

تنبأ داروين بوجود «حفريات انتقالية-Transitional Fossils» بين الأجناس، فعلى سبيل المثال تعتقد النظرية أن الطيور انحدرت من الزواحف، فيجب إذا أن نجد حفريات لكائنات بين الطيور والزواحف، وها هي مغالطة رجل القش ثانية، اكتشف العلماء أنواع عديدة مثل «الاركيوبتريكس-Archaeopteryx»، (أحد الكائنات الانتقالية بين الزواحف و الطيور) و غيرها الكثير من الحفريات الانتقالية.

5- يمنع القانون الثاني للديناميكا الحرارية التطور من الحدوث حيث ينص على أن «الانتروبي-Entropy» (الفوضى) تزيد في نظام مغلق وهذا يمنع الكائنات الحية من التطور إلى كائنات أكثر تعقيدًا.

النظام المغلق وفقًا للديناميكا الحرارية هو النظام الذي لا يسمح بتلقي الطاقة من الخارج المحيط به أو خروج الطاقة منه إلى المحيط، وكما أنكر معارضو التطور نظرية واضحة وضوح الشمس، فقد أنكروا وجود الشمس نفسها!

فالأرض ليست نظامًا مغلقًا حيث أنها تستقبل الطاقة الحرارية والضوئية من الشمس، ناهيك عن سقوط آلاف النيازك، في المرة القادمة التي يسألك أحدهم عن قانون الديناميكا الحرارية الثاني قم بسؤاله عن باقي قوانين الديناميكا الحرارية، حينها فقط ستعرف مدى معرفته بهذا الشأن.

الخلاصة

نظرية التطور هي أفضل ما نملك لتفسير التنوع الخلّاب للكائنات الحية ومع ذلك ينكرها الكثير من الناس لكن هذا لن يضر النظرية في شيء، فكما قال عالم الفيزياء الفلكية «نيل ديجراس تايسون-Neil Degrasse Teison»: “الجميل في العلم هو أنه صحيح سواء صدقت ذلك أو لم تصدق”.

المصادر:
livescience
الأرض ليست نظاما مغلقا
لماذا لم تتطور القرود إلى بشر ؟
حفريات المغرب
حفرية الاركيوبتريكس
بعض الحفريات الانتقالية التي وُجدت

اقرأ أيضًا حول: آخرون سبقوا دارون بالحديث عن التطور منهم عرب

من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟

من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟ ما بين صرخة مارتن لوثر كينج الإبن: “عندي حلم :I have a dream”، وصرخة جورج فلويد تحت أقدام الشرطي الأمريكي في 25 مايو 2020: “لا أستطيع التنفّس :I can’t breath” أكثر من نصف قرن، تخللتها أحداث كبرى، اعتقد البعض فيها أن العنصرية قد انتهت بالكامل، لتوقظ صرخات جورج أمريكا على كابوس مُفزع حاول السياسيون الأمريكيون واحدًا تلو الآخر حجبه عن الشعب الأمريكي بشتى الطرق. الواقع الأمريكي يقول أن المساواة قد أصبحت كاملة بين البيض والسود، إذ وصل باراك أوباما الأمريكي من أصول أفريقية للحكم في 2009 ليصبح الرئيس رقم 44 للبلاد وقضى فترتين رئاسيتين حتى 2017، فكيف وصلنا إلى جورج فلويد؟ أو كما يُعنون مقالنا، من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟ دعونا نضع الأمور في نصابها أولاً، ونفهم سبب الانتفاضة الحالية.

خطبة مارتن لوثر كينج جونيور i have a dream

لماذا انتفض الأمريكيين من أصل أفريقي الآن تحديدا؟

بجانب حادث فلويد، هناك عوامل اقتصادية أيضًا، فالكورونا تلقي بظلالها على الأحداث. فقد ملايين الأمريكيين وظائفهم، إذ وصل معدّل البطالة في أبريل 2020 حوالي 14.7% وبالطبع كان للأمريكيين من أصول أفريقية نصيب أكبر من غيرهم، فهم يعانون من التمييز بسبب العرق في الوظائف، فبالرغم من أن السود يمثلون 1 إلى 8 من السكان، إلا أنهم يمثلون رُبع الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية. فمن لا يملك مدخرات كافية تساعده بعد فقدان وظيفته سيعاني بشده حتى يحصل على وظيفة جديدة لقلة المعروض، وهو ما يمثل ضغطًا شديدًا على الكثير من الأسر الأمريكية من أصل أفريقي أكثر من غيرها، لكن هل هو الجانب الاقتصادي وحده أم أن هناك جوانب أخرى تحتاج لتسليط الضوء عليها؟ هل المشكلة في القوانين؟ أم في التركيبة السكانية؟ أم هو اليمين الأمريكي المحافظ؟ أم هي التركيبة النفسية للجماهير؟

التعليم

قد تتعدد المشكلات والأسباب وراء حادث جورج فلويد، لكن دعنا نضع أصابعنا في هذا المقال على جانب قد يغيب على الكثيرين، ألا وهو التعليم. وللتعليم في أمريكا أصول عنصرية قديمة وغريبة، وكما قال الرئيس الأمريكي جونسون في أحد مقولاته:

“التعليم ليس المشكلة، لكنه الفرصة”

إذن كيف أضاعت أمريكا تلك الفرصة؟

الفرصة التي أتاحتها الدمى السوداء

ليندا براون وطفليها

دائمًا ما نجد الدمى في محلات الألعاب أو بين أيدي الأطفال، ولكن دخلت بعض الدمى إلى واحدة من أكبر قاعات المحاكم احترامًا في الولايات المتحدة، وذلك في قضية تُعرف باسم “براون ضد مجلس التعليم” أو “Brown v. board of education”، القضية التاريخية لعام 1954 التي ألغت في نهاية المطاف الفصل العنصري تحت شعار “منفصل لكن متساوي” في الولايات المتحدة، سمع قضاة المحكمة العليا الحجج والمرافعات الشفوية وبحثوا في ملفات القضايا، لكن لم يمنعهم كل ما سبق من أن يعتبروا دمى لطفلين، أحدهما بيضاء والأخرى سوداء – أسلحة غير متوقعة في معركة مكافحة التمييز العنصري. كانت الدمى جزءًا من مجموعة من التجارب النفسية الرائدة التي قام بها الثنائي مامي وكينيث كلارك، وهما فريق يتكون من زوج وزوجة من علماء النفس الأمريكيين الأفارقة الذين كرّسوا عمل حياتهم لمكافحة التمييز العنصري ضد الأطفال وعلاجهم من آثاره.

سبب تسمية القضية يعود لفتاة تُدعى ليندا براون والتي قرر والدها أوليفر براون أن يقدّم لها في مدرسة صيفية للبيض فقط في توبيكا وهو ما قوبل بالرفض، مما دعاه لرفع القضية.

التجربة

أظهرت غالبية الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي تفضيلهم للدمى البيضاء بدلاً من الدمى السوداء خلال “اختبار الدمى”، وهو ما اعتبره كلاركس نتيجة للتأثيرات الضارة للفصل العنصري. ساعد عمل آل كلاركس وشهادتهما في القضية -التي أصبحت معروفة تاريخيًا باسم “قضية براون ضد مجلس التعليم”- قضاة المحكمة العليا بل والعالم كله على فهم بعض الآثار الباقية للفصل العنصري على الأطفال المتضررين. بالنسبة لكلاركس، أظهرت النتائج آثار مُدمّرة للحياة في مجتمع رافض للأمريكيين من أصل أفريقي. كانت تجربتهم، التي تضمنت دمى ذات بشرة بيضاء وأخرى سوداء، بسيطة بشكل مخادع ولم يتوقعه أحد.

د.دينيث كلارك يتابع أحد الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي وهو يختار في تجربة الدمي

كان على كلاركس دهن دمية بيضاء باللون البني من أجل الاختبارات، إذ لم تُصنع الدمى الأمريكية الأفريقية في ذلك الوقت بعد، ثم طُلب من الأطفال تحديد الدمى الأفضل بعدد من الأسئلة مثل: تلك التي يرغبون في اللعب بها، أو تلك التي تبدو “بيضاء”، أو “ملونة”، أو “زنجية”، أو “جيدة” أو “سيئة”. أخيرًا، طُلب منهم تحديد الدمية التي تشبههم تمامًا.

جميع الأطفال المُختبرين كانوا من السود بالطبع، وجميعهم باستثناء مجموعة واحدة التحقوا بمدارس منفصلة أي مدارس للسود فقط وفقا لقوانين عُرفت باسم قوانين جيم كرو للفصل العنصري، وتحديدًا قرار المحكمة المعروف باسم “براون الثاني”. فَضّل معظم الأطفال الدمية البيضاء عن الدمية الأفريقية. كان بعض الأطفال يبكون ويهربون من الغرفة عندما يُطلب منهم تحديد الدمية التي تشبههم، وهذه النتائج أزعجت الزوجين كلاركس لدرجة أنهم أخّروا نشر استنتاجاتهم.

هل كان قرار براون الثاني ضد الفصل العنصري أم معه؟

كان قرار براون الثاني مُصاغا للقضاء على التمييز العنصري وإلزام المقاطعات بمنح فرص تعليمية متساوية لمواطنيها دون تمييز عرقي، لكن بسبب ديباجة النص الفضفاضة ” … بأقصى سرعة ممكنة” والتي استخدمها بعض المتعصبين من أجل وقف تنفيذ القرار لسنوات والإضرار بالمواطنين الأمريكيين من أصل أفريقي.

كان لدى الزوجة مامي كلارك صلات مع النضال القانوني المتنامي لمكافحة الفصل العنصري، فقد عملت في مكتب أحد المحامين الذين ساعدوا في إرساء أسس قضية “براون ضد مجلس التعليم”. وعندما علمت (الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين أو الأفارقة الأمريكيين) NAACP بعمل آل كلاركس، طلبوا منهم المشاركة في قضية ستُدرج لاحقًا في الدعوى الجماعية المرفوعة حينها إلى المحكمة العليا. لذا توجه الزوج كينيث كلارك إلى مقاطعة كلارندون بولاية كارولينا الجنوبية لتكرار تجربته مع الأطفال السود هناك. وذكر في وقت لاحق أنها كانت تجربة مرعبة، خاصة عندما تعرّض مضيفه NAACP للتهديد في حضوره. وقال د.كينيث كلارك عن تلك التجارب: “كان علينا أن نختبر هؤلاء الأطفال”. “لقد رأى هؤلاء الأطفال أنفسهم أقل شأنًا وقبلوا الدونية كجزء من الواقع”.

لم يكن إجراء تجربة الدمى بالمحكمة أمر سهل

كان ثورغود مارشال حريصًا على استخدام تجربة آل كلاركس في أكبر قضية جماعية وهي “براون ضد مجلس التعليم”، ولكن لم يقتنع الجميع. وكتبت المؤرخة مارثا مينو ما قاله المحامي الحقوقي سبوتسوود روبنسون وهو ممثل NAACP: “من الجنون والإهانة إقناع محكمة بدمى سخيفة”. لكن المحكمة لم توافقه الرأي. شهد كينيث كلارك في ثلاث من المحاكمات وساعد في كتابة ملخص لجميع استشهادات العلوم الاجتماعية للمحاكمات الخمس التي استُخدمت في قضية المحكمة العليا. وأخبر القضاة والمحلفين أن تفضيل الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي للدمى البيضاء يمثّل ضررًا نفسيًا عززه الفصل العنصري. وقال أمام هيئة المحلفين في قضية بريجز (إحدى القضايا المتفرعة من القضية الرئيسية “براون ضد مجلس التعليم”، “أرى أن التأثير الأساسي للفصل هو ارتباك وتضارب المفاهيم لدى الأفراد عن أنفسهم وصورهم الذاتية”. وآمن بأن الشعور بالنقص الناجم عن الفصل كان له عواقب حقيقية مدى الحياة – عواقب بدأت قبل أن يتمكن الأطفال من معرفة أي شيء حول العِرق. كان عمل وشهادة آل كلاركس جزءًا من قضية أوسع نطاقا جمعت خمس حالات وغطت تقريبًا كل جانب من جوانب الفصل العنصري المدرسي – بالرغم من ذلك، يعتقد بعض المؤرخين بأن اختبارات الدمى لعبت دورًا ضئيلًا نسبيًا في قرار المحكمة. لكن أصداء نتائج تجربة الدمى تكمن في الرأي الجمعي لقضاة المحكمة العليا.

قرار تاريخي

كتب رئيس المحكمة ايرل وارن في حكمه التاريخي: “فصل الأطفال السود من نفس العمر والمؤهلات عن الآخرين فقط بسبب العرق، يولّد شعورًا بالدونية فيما يتعلق بوضعهم في المُجتمع، وهو ما قد يؤثر على قلوبهم وعقولهم بطريقة يمكن أن تصبح غير قابلة للمحو”. ساعد عمل كلاركس في القضاء على الفصل العنصري في الولايات المتحدة. اليوم، تُعرض إحدى الدمى السوداء في موقع براون التاريخي ضد مجلس التعليم في كانساس. لكن تبقى التحيزات العنصرية التي وثقها الزوجان في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين موجودة.

فرصة مُهدرة!

في عام 2010 ، نفّذت الـ CNN نسخة حديثة من الدراسة باستخدام صور كرتونية للأطفال وشريط ألوان أظهر مجموعة من درجات لون البشرة – ووجدت نتائج مشابهة بشكل مذهل للنتائج التي أظهرتها تجربة كلاركس. في الاختبار الجديد، اختبرت باحثة تنمية الطفل مارجريت بيل سبنسر 133 طفلاً من مدارس تحوى مزيج عرقي وشرائح دخل مختلفين. نظرت الدراسة هذه المرة إلى الأطفال البيض أيضًا. وعلى الرغم مما بدا أن الأطفال السود لديهم وجهات نظر أكثر إيجابية تجاه الدمى السوداء، إلا أن الأطفال البيض حافظوا على انحياز شديد تجاه الصور البيضاء. تقول سبنسر للسي إن إن: “ما زلنا نعيش في مجتمع يقلل من قيمة السود ويرفع من قيمة البيض” . قد لا تكون قوانين جيم كرو العنصرية موجودة في نصوص القانون ومحاكم الولايات المتحدة اليوم، ولكن التحيز العرقي ما زال موجودًا ونرى آثاره ممتدة عبر الأجيال. أهدرت الولايات المتحدة نصف قرن منذ تلك التجربة لمعرفة أهمية القضاء على التمييز العنصري للمجتمع الأمريكي ومستقبله.

عنصرية الألفية الثالثة

تغيّرت بالطبع ثقافة الإنكار لدى الأمريكّيين العاديّين بشكلٍ كبير، وهو ما أثبتته دراسات استقصائيّة على مدى عقود عديدة ماضية، تُخبرنا بأنّ هناك قطّاعات كبيرة من الأمريكيّبن تعترف بتبنّي وجهات نظرٍ تمييزيّة حتّى في أمريكا الحديثة، فعلى سبيل المثال، واحد من كل عشرة أمريكييّن أقرّ بتحيزه ضد الأمريكيين من الأصول المختلفة. كما وجد استطلاع الإيكونومست عام 2018 أنّ 17٪ من الأمريكيين يعارضون الزواج بين عرقين مختلفين، و19٪ يعارضون الزواج من المجموعات العرقية “الأخرى”، و 18٪ يعارضون الزواج من السود، و17٪ يرفضون الزواج من البيض، و15٪ يرفضون الزواج من اللاتينيين. بل ويعتقد البعض أن قوانين المجمّع الانتخابي والمسؤولة عن انتخاب الرئيس الأمريكي هي بذاتها قوانين عنصرية، فهي تمنح بعض الولايات رغم عدد السكان الكبير وزن أقل في انتخاب الرئيس بالطريقة غير المباشرة بسبب نشأتها القديمة العنصرية. كما أن فرص العائلة الأمريكية من أصول أفريقية للمعاناة من الفقر هي ضعف فرص العائلات الأمريكية البيضاء أو الأمريكيين الأسيويين، وهو ما ينعكس بالطبع على الفرص التعليمية المتاحة لهم. تلك النتائج إن تدل، فهي تدل على عنصرية متجذّرة تحتاج لمواجهة مستمرة وإجراءات أقوى للقضاء عليها، قد تتباطأ فيها الولايات المتحدة وتحتاج لمحررين جدد للقيام بهذا الدور.

لا نعتقد بأن الأمر يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن يحتاج الأمر لسرد في مقال آخر، فما رأيك عزيزي القارئ؟ إذا أجريت تجربة الدمى على أطفالك في بلدك أينما كنت، فأيهما سيختار، الدمية البيضاء أم السوداء؟

مترجم: عالم ما بعد فيروس الكورونا للكاتب يوفال نوح حراري

عالم ما بعد فيروس الكورونا للكاتب يوفال نوح حراري يوضح فيه يوفال نوح حراري ماهية عالم ما بعد فيروس الكورونا مستعرضا تخوفاته وما نحتاجه لتشكيل عالم أفضل بدلًا من عالم منعزل شديد الرقابة يقتص من حرياتنا، فيقول:

“إن مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة هو في الواقع أصل المشكلة، لأنه خيار زائف. يمكننا -وينبغي أن- نتمتع بالخصوصية والصحة معًا. يمكننا أن نختار حماية صحتنا ووقف وباء الفيروس التاجي؛ ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، ولكن عن طريق تمكين المواطنين.”

يوفال نوح حراري

إليكم المقال:

تواجه البشرية الآن أزمة عالمية، ربما كانت أكبر أزمة في جيلنا، ويُحتمل أن تشكّل القرارات المُتخذة خلال الأسابيع القليلة المقبلة من الشعوب والحكومات عالمنا لسنوات قادمة. لن ينحصر تأثيرها على أنظمة الرعاية الصحية فقط ولكن ستشكّل اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا. يجب علينا أن نتصرف بسرعة وحسم، ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار العواقب طويلة المدى لأعمالنا. عند الاختيار بين البدائل، يجب أن نسأل أنفسنا ليس فقط عن كيفية التغلب على التهديد المباشر، ولكن أيضًا عن نوع العالم الذي سنعيش فيه بمجرد مرور العاصفة. نعم، ستمر العاصفة، وستبقى البشرية على قيد الحياة، سيظل معظمنا على قيد الحياة – لكننا سنعيش في عالم مختلف.

ستصبح العديد من تدابير واجراءات الطوارئ قصيرة الأجل من عناصر الحياة الأساسية في المستقبل. هذه هي طبيعة حالات الطوارئ، فهي تسرّع من العمليات التاريخية والقرارات التي قد تستغرق في الأوقات العادية سنوات من المداولات، ولكن تُمرر في حالات الطوارئ في غضون ساعات. يُدفَع بالتقنيات غير الناضجة وحتى الخطرة للخدمة، فمخاطر عدم القيام بأي شيء أكبر. تبدو دُوَل بأكملها كفئران في تجارب اجتماعية واسعة النطاق. ماذا قد يحدث عندما يعمل الجميع من المنزل ويتواصلون فقط عن بُعد؟ ماذا قد يحدث عندما تُقدّم كل المدارس والجامعات محتواها مباشرة على الإنترنت؟

في الأوقات العادية، لن توافق الحكومات والشركات والمجالس التعليمية على إجراء مثل هذه التجارب. لكن هذه الأوقات ليست عادية. في وقت الأزمة هذا، نواجه خيارين مهمين بشكل خاص. الخيار الأول بين المراقبة الشمولية وتمكين المواطنين. والثاني بين العزلة القومية والتضامن العالمي.

المراقبة الحيوية أو “المراقبة تحت الجلد”

من أجل وقف الوباء، يجب على جميع السكان الامتثال لإرشادات معينة. هناك طريقتان رئيسيتان لتحقيق ذلك. إحدى الطرق هي أن تراقب الحكومة الشعب، وتعاقب أولئك الذين يخالفون القواعد. اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. قبل خمسين عامًا، لم يكن باستطاعة المخابرات السوفيتية KGB مراقبة 240 مليون مواطن سوفيتي على مدار 24 ساعة، ولا يمكن للـ KGB معالجة جميع المعلومات التي تم جمعها بشكل فعّال. اعتمدت وكالة المخابرات السوفيتية (KGB) سابقًا على عملاء ومحللين بشريين، ولم تتمكن من توظيف شخص لمراقبة كل مواطن. ولكن يمكن للحكومات الآن أن تعتمد على أجهزة استشعار وخوارزميات قوية في كل مكان بدلاً من الأشخاص.

استخدمت عدة حكومات بالفعل أدوات المراقبة الجديدة في معركتها ضد جائحة فيروس الكورونا. أبرز حالة هي الصين؛ من خلال مراقبة الهواتف الذكية للأشخاص عن كثب، والاستفادة من مئات الملايين من كاميرات التعرف على الوجوه، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارة أجسامهم وحالتهم الطبية والإبلاغ عنها. لا يمكن للسلطات الصينية أن تحدد فقط حاملي الفيروس المشتبه بهم، ولكن أيضًا تتبع تحركاتهم وتتعرف على أي شخص اتصلوا به. تحذّر مجموعة من تطبيقات الهاتف المحمول المواطنين من اقترابهم من المرضى والمصابين.

لا يقتصر هذا النوع من التكنولوجيا على شرق آسيا. إذ سمح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرًا لوكالة الأمن الإسرائيلية بنشر تكنولوجيا المراقبة المخصّصة عادة لمحاربة الإرهابيين لتعقب مرضى فيروس الكورونا المستجد. وعندما رفضت اللجنة الفرعية البرلمانية المعنية الموافقة على الإجراء، صدمها نتنياهو بـ “مرسوم الطوارئ”.

المراقبة البيومترية، يمكنك أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء مؤقت يُتّخذ أثناء حالة الطوارئ. لكن للأسف، للتدابير المؤقتة عادة سيئة في تجاوز حالات الطوارئ

قد نتجادل بأنه لا يوجد جديد في كل هذا. ففي السنوات الأخيرة، استخدمت كل من الحكومات والشركات تقنيات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى للتتبع والمراقبة والتلاعب بالناس. ومع ذلك، إذا لم نكن حذرين، فقد يمثل الوباء فاصلاً هامًا في تاريخ المراقبة. ليس فقط لأنها ستسمح بنشر أدوات المراقبة الجماعية في البلدان التي رفضتها حتى الآن، ولكن أكثر من ذلك لأنها تشير إلى تحوّل كبير من المراقبة “فوق الجلد” إلى “تحت الجلد” أي من المراقبة الفوقية للمراقبة الداخلية. ما نعلمه حتى الآن، هو معرفة الحكومة للروابط التي ينقرها إصبعك على شاشة هاتفك الذكي. ولكن مع اجراءات الفيروس الطارئة، يتحول الاهتمام إلى رغبة في معرفة درجة حرارة إصبعك وضغط الدم تحت الجلد.

إحدى المشاكل التي نواجهها في تشكيل موقفنا من المراقبة تكمن في عدم معرفتنا لكيفية مراقبتنا، وما قد تجلبه السنوات القادمة. تتطور تكنولوجيا المراقبة بسرعة فائقة، وما بدا أنه خيال علمي منذ 10 سنوات أصبح قديمًا اليوم. كمثال، تخيّل حكومة افتراضية تطالب بأن يرتدي كل مواطن سوارًا بيولوجيًا يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار 24 ساعة في اليوم. تُجمَع البيانات الناتجة وتُحلَّل بواسطة الخوارزميات الحكومية، وستعرف الخوارزميات أنك مريض حتى قبل أن تعرف أنت. كما ستعرف أيضًا أين كنت، ومن قابلت. يمكن تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، بل ويمكن كسرها تمامًا. بمقدورنا القول أن مثل هذا النظام قادر على إيقاف الوباء في غضون أيام. تبدو الأمور رائعة، أليس كذلك؟

لم تدرك أن هذا سيعطي الشرعية لنظام مراقبة جديد مرعب. إذا كنت تعلم، على سبيل المثال، أنني نقرت على رابط Fox News بدلاً من رابط CNN، فيمكن هذا أن يخبرك شيئًا عن آرائي السياسية، وربما يكشف لك عن شخصيتي “وهو ما حدث مع Cambridge analytica”. ولكن إذا تمكنت من مراقبة ما يحدث لدرجة حرارة جسدي وضغط الدم ومعدل ضربات القلب أثناء مشاهدة مقطع الفيديو، فيمكنك معرفة ما يجعلني أضحك أو أبكي، وما قد يجعلني غاضبًا حقًا.

من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. يُمكن للتكنولوجيا نفسها التي ترصُد السعال أن تحدد الضحكات أيضًا. إذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية “الحيوية” بشكل جماعي، فيمكنهم التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف حتى أنفسنا، ومن ثَمّ لا يمكنهم فقط التنبؤ بمشاعرنا ولكن أيضًا التلاعب بها وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء كان ذلك منتجًا أو شخصية سياسية. ستجعل المراقبة البيومترية أساليب Cambridge Analytica تبدو وكأنها من العصر الحجري. تخيّل كوريا الشمالية في عام 2030، عندما يضطر كل مواطن إلى ارتداء سوار المراقبة البيومترية على مدار 24 ساعة في اليوم. حينها، إذا استمعت إلى خطاب القائد العظيم والتقط السوار علامات الغضب، فقد انتهت حياتك.

لن تتوقف معرفتي عند كوني خطرًا صحيًا على الآخرين، ولكن ستمتد إلى معرفتي بأي العادات تساهم في تحسين حالتي الصحية

يمكنك بالطبع أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء مؤقت يُتّخذ أثناء حالة الطوارئ. ستزول المراقبة حالما تنتهي حالة الطوارئ. لكن للأسف، للتدابير المؤقتة عادة سيئة في تجاوز حالات الطوارئ، خاصة وأن هناك دائمًا حالة طوارئ جديدة تلوح في الأفق. على سبيل المثال، أعلنت إسرائيل، حالة الطوارئ خلال حرب الاستقلال عام 1948، والتي بررت مجموعة من الإجراءات المؤقتة مثل الرقابة على الصحافة ومصادرة الأراضي إلى اللوائح الخاصة لصنع الحلوى (أنا لا أمزح). كسبت حرب الاستقلال منذ فترة طويلة، لكنها لم تعلن أبدًا انتهاء حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء العديد من الإجراءات “المؤقتة” منذ عام 1948 (أُلغي مرسوم الطوارئ في عام 2011).

عندما تنخفض الإصابة بفيروس الكورونا المستجد إلى الصفر، يُمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تتذرّع بحاجتها إلى إبقاء أنظمة المراقبة البيومترية في مكانها لخشيتها من حدوث موجة ثانية من الفيروس مثلاً، أو لوجود سلالة جديدة من فيروس إيبولا تتطور في وسط أفريقيا، أو لأن …. أعتقد أنك قد فهمت الفكرة. كانت هناك معركة كبيرة تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول “حق الخصوصية”، وقد تصبح أزمة الفيروس نقطة تحوّل في المعركة. فعندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، فعادة ما يختارون الصحة.

شرطة الصابون

إن مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة هو في الواقع أصل المشكلة، لأنه خيار زائف. يمكننا -وينبغي أن- نتمتع بالخصوصية والصحة معًا. يمكننا أن نختار حماية صحتنا ووقف وباء الفيروس التاجي؛ ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، ولكن عن طريق تمكين المواطنين. في الأسابيع الأخيرة، نظمت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بعض أنجح الجهود المبذولة لاحتواء وباء الفيروس التاجي. فبالرغم من استخدام هذه البلدان لبعض تطبيقات التتبع، إلا أنها اعتمدت بشكل أكبر على تكثيف اختبارات الفيروس، وعلى تقارير صادقة، وعلى التعاون المتبادَل مع جمهور تمت توعيته. المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست الطريقة الوحيدة لجعل الناس يمتثلون للإرشادات المفيدة. يمكن للمواطنين إذا عرفوا الحقائق العلمية، ووثقوا في السلطات العامة وما تخبرهم به من حقائق، أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى بدون أن يراقبهم الأخ الأكبر “تعبير من رواية 1984 يستخدم للإشارة إلى مراقبة السلطة للمواطنين بهدف توجيههم والسيطرة عليهم”. عادة ما يصبح جمهور من أصحاب الدوافع الذاتية المستنيرة أكثر قوة وفعالية بكثير من جمهور من الخاضعين لقوة الشرطة والجاهلين. ضع في اعتبارك مثال غسل الأيدي بالصابون، “هل يستوجب علينا تعيين شرطة خاصة لإجبار المواطنين على غسل أيديهم بالصابون؟”. كان هذا أحد أعظم التطورات على الإطلاق في نظافة الإنسان، إذ ينقذ ملايين الأرواح كل عام. بينما نعتبر غسل الأيدي بالصابون أمرًا مُسلّمًا به الآن، لكن لم تُكتَشف أهميته علميًا إلا في القرن التاسع عشر. في السابق، حتى الأطباء والممرضات انتقلوا من عملية جراحية إلى أخرى دون غسل أيديهم. واليوم يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يوميًا، ليس لأنهم يخافون من شرطة الصابون، ولكن لأنهم يفهمون الحقائق. أغسل يدي بالصابون لأنني سمعت عن الفيروسات والبكتيريا، أفهم أن هذه الكائنات الدقيقة تسبب الأمراض، وأنا أعلم أن الصابون يمكن أن يزيلها. ولكن لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون، فأنت بحاجة إلى الثقة. يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم، والثقة بالسلطات العامة، والثقة بوسائل الإعلام. على مدى السنوات القليلة الماضية، قوّض السياسيون غير المسؤولين عمدًا الثقة في العلوم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. الآن قد يميل هؤلاء السياسيون غير المسؤولين إلى السير في الطريق السريع نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكنك الوثوق في الجمهور لفعل الشيء الصحيح.

عادة، لا يمكنك إعادة بناء الثقة التي تآكلت لسنوات بين عشية وضحاها. ولكن ما نحن فيه ليس بأجواء عادية. في الأزمات، يمكن للعقول أيضًا أن تتغير بسرعة. يُمكن أن تقع في شجار مرير مع أشقائك لسنوات، ولكن بمجرد حدوث طارئ، تكتشف فجأة خزّانًا خفيًّا من الثقة والوُد، وتُهرعوا لمساعدة بعضكم البعض. لم يفت الأوان لإعادة بناء ثقة الناس في العلوم والسلطات العامة ووسائل الإعلام، بدلاً من بناء نظام مراقبة. يجب علينا بالتأكيد الاستفادة من التقنيات الجديدة أيضًا، ولكن هذه التقنيات يجب أن تُمكّن المواطنين. أنا أؤيد مراقبة درجة حرارة جسمي وضغط دمي، ولكن لا ينبغي استخدام هذه البيانات لترسيخ حكومة قوية، ولكن ينبغي أن تُمكنني هذه البيانات من اتخاذ خيارات شخصية أكثر استنارة، وكذلك تُمكنني من محاسبة الحكومة على قراراتها.

إذا تمكنت من تتبع حالتي الطبية الخاصة على مدار 24 ساعة في اليوم، فلن تتوقف معرفتي عند كوني خطرًا صحيًا على الآخرين، ولكن ستمتد إلى معرفتي بأي العادات تساهم في تحسين حالتي الصحية. وإذا تمكنت من الوصول إلى إحصاءات موثوقة حول انتشار الفيروس وتحليلها، فسأتمكن من الحكم ما تخبرني به الحكومة من حقائق وما إذا كانت تتبنى السياسات الصحيحة لمكافحة الوباء أم لا. عندما يتحدث الناس عن المراقبة، تذكّر أن نفس تكنولوجيا المراقبة يمكن للحكومات استخدامها لمراقبة الأفراد – ويمكن للأفراد أيضًا استخدامها لمراقبة الحكومات.

وبالتالي فإن وباء الفيروس التاجي هو اختبار رئيسي للمواطنة. يجب على كل منا في الأيام المقبلة أن يختار الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية مقابل نظريات المؤامرة التي لا أساس لها والسياسيين الذين يخدمون أنفسهم. إذا فشلنا في اتخاذ القرار الصحيح، فقد نجد أنفسنا نبيع أغلى حرياتنا، معتقدين أن هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية صحتنا.

نحن بحاجة إلى خطة عالمية

الخيار الثاني المهم الذي نواجهه هو بين العزلة الوطنية والتضامن العالمي. إن كلا من الوباء نفسه والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه مشكلتان عالميتان. لا يمكن حل أي منهما بشكل فعال إلا من خلال التعاون العالمي.

أولاً وقبل كل شيء، من أجل هزيمة الفيروس، نحتاج إلى مشاركة المعلومات عالميًا. هذه هي الميزة الكبرى للبشر على الفيروسات. لا يمكن للفيروس التاجي في الصين والفيروس التاجي في الولايات المتحدة تبادل النصائح حول كيفية إصابة البشر. ولكن يمكن للصين أن تُعلم الولايات المتحدة العديد من الدروس القيّمة حول الفيروس التاجي وكيفية التعامل معه. ما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلانو في الصباح الباكر قد ينقذ الأرواح في طهران في المساء. عندما تتردد حكومة المملكة المتحدة بين العديد من السياسات، يمكنها الحصول على المشورة من الكوريين الذين واجهوا بالفعل معضلة مماثلة قبل شهر. ولكن لكي يحدث هذا، نحتاج إلى روح من التعاون والثقة العالميين.

يجب على البلدان أن تبدي استعدادًا لتبادل المعلومات بشكل مفتوح وتواضعًا للحصول على المشورة، ويجب أن تمتلك القدرة على الثقة في البيانات والأفكار التي تتلقاها. نحتاج أيضًا إلى جهد عالمي لإنتاج وتوزيع المعدات الطبية، وعلى الأخص مجموعات الاختبار وأجهزة التنفس. فبدلاً من محاولة كل دولة القيام بذلك محليًا وتكديس أي معدات يمكنها الحصول عليها، يمكن لجهد عالمي مُنسّق أن يُسرّع الإنتاج إلى حد كبير، ويضمن توزيع المعدات المُنقِذة للحياة بشكل أكثر عدالة. مثلما تقوم الدول بتأميم الصناعات الرئيسية خلال الحرب، فقد تتطلب منا الحرب البشرية ضد الفيروس التاجي “إضفاء الطابع الإنساني” على خطوط الإنتاج الضرورية. يجب أن تستعد الدولة الغنية صاحبة العدد القليل من حالات الإصابة بالفيروس لإرسال معدات ثمينة إلى بلد فقير يعاني من كثرة الحالات، واثقة من أن الدول الأخرى ستهب لمساعدتها إذا احتاجت المساعدة لاحقًا.

حتى لو قامت الإدارة الحالية في نهاية المطاف بتغيير مسارها ووضعت خطة عمل عالمية، فإن القليل سيتّبع زعيمًا لا يتحمل المسؤولية مطلقًا، ولا يعترف أبداً بالأخطاء، ينسب كل الفضل لنفسه ويترك كل اللوم للآخرين.

قد نفكر في جهد عالمي مماثل لتجميع العاملين في المجال الطبي. يُمكن للبلدان الأقل تأثراً في الوقت الحالي أن ترسل موظفين طبيين إلى المناطق الأكثر تضرراً في العالم، من أجل مساعدتهم وقت الحاجة، ومن أجل اكتساب خبرة قيّمة. وتبدأ المساعدة في التدفق في الاتجاه المعاكس بانعكاس التحولات الوبائية لاحقًا.

هناك حاجة حيوية للتعاون العالمي على الصعيد الاقتصادي أيضًا. بالنظر إلى الطبيعة العالمية للاقتصاد وسلاسل التوريد، سنصبح أمام فوضى وأزمة عميقة إذا حاولت كل حكومة بشكل منعزل معالجة الوضع في تجاهل تام للحكومات الأخرى. نحن بحاجة إلى خطة عمل عالمية وبسرعة.

شرط آخر هو التوصل إلى اتفاق عالمي بشأن السفر، فتعليق جميع الرحلات الدولية لأشهر سيتسبب في صعوبات هائلة، ويعرقل الحرب ضد فيروس كورونا. تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعدد قليل على الأقل من المسافرين الأساسيين بمواصلة عبور الحدود مثل العلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال. يُمكن القيام بذلك من خلال التوصل إلى اتفاقية عالمية بشأن الفحص المسبق للمسافرين في بلدهم. ستكون أكثر استعدادًا لقبول المسافرين في بلدك إذا تأكدت من فحصهم بعناية قبل صعودهم على متن الطائرة.

في الوضع الحالي ولسوء الحظ، لا تفعل البلدان أي من هذه الأشياء. لقد أصيب المجتمع الدولي بالشلل الجماعي. أليس منكم رجل رشيد؟ كان المرء يتوقع أن يرى قبل أسابيع اجتماع طارئ للقادة العالميين للتوصل إلى خطة عمل مشتركة. تمكن قادة مجموعة السبع من تنظيم مؤتمر بالفيديو هذا الأسبوع فقط، ولم تسفر عنه أي خطة من هذا القبيل.

في الأزمات العالمية السابقة – مثل الأزمة المالية لعام 2008 ووباء إيبولا 2014 – تولت الولايات المتحدة دور القائد العالمي. لكن الإدارة الأمريكية الحالية تخلت عن منصب القائد. لقد أوضحت أنها تهتم بعظمة أمريكا أكثر من اهتمامها بمستقبل البشرية.

لقد تخلت هذه الإدارة حتى عن أقرب حلفائها، عندما حظرت جميع رحلات السفر من الاتحاد الأوروبي، ولم تكلف نفسها عناء إعطاء الاتحاد الأوروبي إشعارًا مسبق – ناهيك عن التشاور مع الاتحاد الأوروبي حول هذا الإجراء الجذري. قامت بتخريب علاقاتها مع ألمانيا عندما قدّمت مليار دولار إلى شركة دواء ألمانية لشراء حقوق احتكار لقاح جديد Covid-19. حتى لو قامت الإدارة الحالية في نهاية المطاف بتغيير مسارها ووضعت خطة عمل عالمية، فإن القليل سيتّبع زعيمًا لا يتحمل المسؤولية مطلقًا، ولا يعترف أبداً بالأخطاء، ينسب كل الفضل لنفسه ويترك كل اللوم للآخرين.

إذا لم يُملأ الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قبل دول أخرى، فلن تتوقف صعوبة الأمر على إيقاف الوباء الحالي فحسب، بل سيستمر إرثه في تسميم العلاقات الدولية لسنوات قادمة. ومع ذلك، فكل أزمة هي فرصة. نأمل أن يساعد الوباء الحالي البشرية على إدراك الخطر الحاد الذي يشكله الانقسام العالمي.
تحتاج البشرية إلى الاختيار. هل نسير في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الانقسام، فلن يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الأزمة فحسب، بل سيؤدي على الأرجح إلى كوارث أسوأ في المستقبل. إذا اخترنا التضامن العالمي، فسننتصر على الفيروس التاجي وعلى جميع الأوبئة والأزمات والتحديّات المستقبلية التي قد تهاجم البشرية في القرن الحادي والعشرين.

تُرجم عن مقال الكاتب يوفال نوح حراري في Financial Times

من كورونا وسارس إلى الحمى الصفراء، ومن الطب ما قتل!

ومن الطب ما قتل!

في 7 فبراير 2020، أُعلنت وفاة الطبيب الصيني Li Wenliang إثر إصابته بفيروس COVID-19 عن عمر 33 عام. يعتبر لي ونليانغ أحد أوائل المكتشفين والمحذرين من الفيروس، مما زاد من حالة التعاطف والحزن التي سادت وسائل الإعلام الصينية والعالمية. دفعتنا تلك الحالة لاستبدال مقولة ومن الحب ما قتل إلى ومن الطب ما قتل . إذ اعتقد البعض أن وفاة لي ونليانغ بمثابة هزيمة للأنظمة الصحية العالمية أمام الفيروس، لكن لا تجري الأمور هكذا. ليست تلك المرة الأولى التي يحصد فيها أحد الأوبئة أرواح الأطباء المعالجين أو المكتشفين له. بل وكان في موت بعضهم أحيانًا علامة لانتصار ما أو خطوة ساهمت في إنقاذ الآلاف. ما نعنيه هنا أن للأمر خلفية تاريخية يجدر بنا تسليط الضوء عليها قليلًا لنتعلم منها.

الحمى الصفراء

رسم معبر عن حروب التحرير في جزر تاهيتي

داء لعين أُطلق عليه اسم “القيئ الدموي” ينتقل عبر لدغات بعض أنواع الناموس. انتشر في أفريقيا وأمريكا ويسبب الحمى والدوار والإمساك وألم مستمر في العضلات يعقبه اصفرار للجلد والعيون ونزيف لثة المصاب وجدار معدته. وتراوحت نسب وفاة المصابين بالحمى الصفراء من 20-50%. تسبب الوباء في آلاف الوفيات، لكن أشهر أحداثه كانت منذ قرنين، حين قتل حوالي 35:45 ألف جندي من قوات نابوليون المُرسلة لإيقاف ثورات التحرر في جزر هاييتي وفقًا للمؤرخ J. R. McNeill وتسببت في هزيمته. سقط من الجنود الفرنسيين ضحية لهذا المرض ضعف من سقطوا في معركة ووترلو الشهيرة. ثم استمر الوباء في الظهور والاختفاء حتى القرن العشرين دون معاملة علمية منهجية تُذكر حتى مجيئ الطبيب الأمريكي لازيار.

انتقل جيسي لازيار Jesse Lazear كعضو لجنة الحمى الصفراء إلى كوبا عام 1900 لدراسة المرض وفهم أسبابه المجهولة حينها. كان لازيار هو العضو الوحيد صاحب الخبرة بالبعوض ونقله للأمراض، فقد عمل سابقًا في مشفى جون هوبكنز في بالتيمور عام 1985 ودرس الملاريا والحمى الصفراء هناك. افترض الطبيب أن السبب الرئيسي في الإصابة هو وجود عائل حي ينقلها إلى البشر، وحينها قررت اللجنة اختبار فرضية لازيار بنفسها. سمح الطبيب لازيار لبيوض البعوض بالفقس داخل مستشفى هافانا والتغذي على دماء المصابين بالحمى الصفراء. ثم سُمح للبعوض أيضًا أن يتغذى على دماء بعض المتطوعين، فانتقلت إليهم العدوى وثبتت الفرضية. أعلنت اللجنة أن المسؤول عن الإصابة هو كائن شديد الصغر لا يمكن الإمساك به عبر فلاتر البكتيريا أي أنه أصغر من البكتيريا. شُفي الرجلان اللذان تعرضا للتجربة، ولكن يبدو أن لازيار قد عرّض نفسه أو تعرّض للدغات البعوض المصاب، ولسوء حظه لم يُشف. أصيب لازيار بالحمى الصفراء بالفعل ومات في سبتمبر عام 1900. 1

استكملت التجارب بعد وفاة الطبيب لازيار لجمع المزيد من الأدلة العلمية بعدما تأكدت اللجنة من دور البعوض في الإصابة بالمرض، فتطوعت الممرضة الأمريكية كلارا ماس Clara Maass لخوض التجربة، لكنها للأسف لم تنج لتعرضها للإصابة من البعوضة الأخطر الحاملة للمرض Aedes aegypti في 24 أغسطس 1901. قدمت تضحيات كلارا ولازيار للبشرية حينها معرفة كيفية الإصابة ونوع العائل بالتحديد، فتركزت الجهود بعدها على محاربة بعوضة Aedes aegypti وتجفيف المستنقعات أو تغطيتها، مما ترتب عليه إنخفاض معدلات الإصابة وإنقاذ آلاف البشر. 2

الممرضة كلارا ماس                                الطبيب جيسي لازيار

المتلازمة التنفسية الحادة سارس SARS

في نوفمبر 2002، توجه أحد المزارعين الصينيين إلى مستشفى فوشان ليتلقى العلاج إثر أعراض حمى وسعال وصعوبة شديدة في التنفس، ثم مات بعدها بأيام دون تشخيص واضح لسبب الوفاة. وفي نهاية الشهر ذاته، انطلقت أولى التحذيرات من كندا عبر تحليل أخبار ومواقع صينية عدة عن وجود جائحة إنفلونزا غريبة في الصين. استهدفت التحذيرات الكندية منظمة الصحة العالمية والتي طلبت بدورها معلومات من الصين في ديسمبر 2002. وبينما تحاول المنظمة الحصول على معلومات من الصين، كان أحد رجال الأعمال الأمريكيين المصابين يسافر على متن طائرة من الصين إلى سنغافورة في فبراير 2003. توقفت الطائرة في مدينة هانواي الفيتنامية، ونُقل المريض الذي ساءت حالته إلى مستشفى هانواي الفرنسي. أصيب مُعظم الطاقم الطبي الذي تعامل مع المريض بالأعراض، فدُعي عالم الميكروبات الطبيب الإيطالي كارلو أورباني لمتابعة الحالة.

كارلو أورباني

درس كارلو أورباني الطب في إيطاليا وتخصص في علم الطفيليات، ثم تطوع للعمل في أفريقيا وسافر إلى أثيوبيا عام 1987. أصبح استشاري لمنظمة الصحة العالمية بعد سنوات من مكافحة الأوبئة ودراستها. وفي 1996، انتقل إلى كمبوديا مع أسرته للعمل في مؤسسة أطباء بلا حدود، ليعود إلى إيطاليا كرئيس للفرع الإيطالي للمؤسسة. فوضته المؤسسة للحصول على جائزة نوبل التي نالتها عام 1999. ثم دُعي الطبيب كارلو أورباني في نهاية فبراير 2003 لمتابعة حالة رجل الأعمال المريض في مستشفى هانواي الفرنسي. اعتقد أطباء المستشفى أنهم أمام حالة إنفلونزا طيور شديدة، لكن كارلو بخبرته علم أنه أمام فيروس أكثر عدوانية وانتشار. أرسل كارلو تحذيراته لمنظمة الصحة العالمية ببدء إجراءات الحجر الصحي للمصابين على الفور تجاه الوباء الجديد. كما أقنع وزارة الصحة الفيتنامية ببدء إجراءات فحص المسافرين وعزل المصابين. 3

في 11 مارس 2003، دُعي الطبيب كارلو للحديث في مؤتمر طبي في تايلاند. وبينما هو في الطائرة، شعر بالحُمى والإعياء وطُلبت له الإسعاف في المطار فور وصوله. انتقل كارلو إلى مستشفى بانكوك وشُخص بالإصابة بفيروس سارس. وبعد حرب ومعاناة مع الفيروس لـ 18 يوم، توفى في 29 مارس في العناية المركزة للمستشفى بتايلاند. ساعدت توجيهات كارلو في السيطرة على انتشار الوباء في فيتنام والتعرف على فيروس سارس الجديد ليصبح هو أول من يكتشفه. كما أوصى كارلو قبل وفاته بالتبرع بخلايا رئته المصابة للأبحاث العلمية في سبيل مكافحة الفيروس الجديد، لينجح العالم في تشخيص الفيروس والحد من انتشاره.

هناك المزيد من الأمثلة، لكن بدا واضحًا الآن أن بعض التضحيات تركت بصمة لا يمكن محوها، كما تركت دروس مستفادة لأفراد المجتمع والأطقم الطبية والأنظمة الصحية لنتعلم جميعًا منها. للأسف فقد أودت تلك التضحيات بحياة صانعيها مثلما أودى الحب بحياة شاب الأصمعي الذي دعاه لقول مقولته”ومن الحب ما قتل”.

للمزيد: ماذا تعرف عن عالم الفيروسات؟

لماذا نشعر بالملل؟ وكيف ننتصر عليه؟

لماذا نشعر بالملل؟ وكيف ننتصر عليه؟

رفع الشاب حقيبة الظهر السوداء فوق ظهره وخرج من أمام شباك التذاكر واضعا تذكرته في جيب سترته، وانطلق مسرعا للحاق بالقطار، وما هي إلا دقائق حتى وصل لمقعده بجواري. وضع حقيبته ثم تهيأ معتدلا في جلسته، ونظر للأمام لنصف دقيقة في سكون أعقبه ملامح الشعور بالملل. أكره مثله ساعات السفر الطويلة وخاصة عندما علمت بانتهاء شحن هاتفي المحمول. لقد أصبحنا سجناء كراسينا تحت رحمة هذا القطار ولساعات. حاولت الانشغال بوجوه المسافرين حولنا. يبدو علينا جميعا الشعور بالملل، أليس كذلك؟ فجأة طرأ في ذهني ذلك السؤال، لماذا نشعر بالملل؟ وما هو بالأساس؟ وكيف ننتصر عليه؟ لا أعلم عزيزي القارئ ما إذا كان الملل هو الداعي لهذا السؤال أم هو الرغبة في المعرفة، ولكن لا شك أننا جميعا نشعر بالملل ونمر بمثل هذا الموقف، لذا دعنا نكتشف الأمر.

ما هو الملل؟

اقترح مقال بحثي منشور عام ٢٠١٢ في Educational Psychology Review أن الملل عبارة عن نقص في الإثارة العصبية يصحبه شعور مختلط من عدم الرضا والغضب أو عدم الاهتمام.

يشعر ٩١ إلى ٩٨٪ من الشباب بالملل بشكل يومي، ويظهر لدى الذكور أكثر من الإناث. فكلما ارتفعت نسب الملل، صاحبها ارتفاع مخاطر معاقرة الخمور وإدمان المخدرات وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني كريكيغارد قائلا عن الملل: “هو أصل كل الشرور”. يتفق معظم البشر على أن الملل شعور سلبي.

هل يختلف الملل عن اللا مبالاة أو الاكتئاب؟

بالتأكيد يختلف عن اللا مبالاة، إذ أن الملل يدفعنا للقضاء عليه في أسرع وقت. كما أنه يختلف عن الاكتئاب، فهو ناجم عن ظروف خارجية محيطة بنا. اقرأ أيضًا: الفارق بين الحزن والاكتئاب في هذا المقال.

لماذا نشعر بالملل؟

وفقا للدراسات، هناك سبعة أسباب للملل:

أولا، الرتابة:

أول المتهمين قد يكون هو الإرهاق العقلي، إذ أن أي مهمة متوقعة ومتكررة ستقودك مباشرة إلى الملل. فالكثير من الشيء ذاته سيشعرك بالاكتفاء، ثم تفقد اهتمامك به تماما (Toohey, 2012)، إلى أن تمارسه بملل مثل المهام المنزلية اليومية.

ثانيا، قلة الأحداث:

قد يضعك أحدهم يوما ما أمام مهمة قليلة الأحداث والمتغيرات، مثل مراقبة كاميرا ما، وشعورك بالملل طبيعي تماما، فمئات الساعات تمر بسلام دون أي حادث يستحق المراقبة. المهمة هنا قليلة الأحداث وبلا أي متغيرات حقيقية تتناسب مع عقولنا المتحفزة فهل تتوقع أن استقلال وسيلة مواصلات طويلة أو انتظار دورك في الطوابير قد يكون أمر مثير؟ بالتأكيد لن يكون، لكن لا تتعجب أيضا إذا عرفت أن ممارستك لمهمة صعبة وسريعة المتغيرات قد يقودك للنقيض وهو الشعور بالقلق.

ثالثا، الحاجة إلى الجديد:

بعضنا قد يكون مختلف بعض الشيء، مثل أولئك الذين يمارسون الرياضات الخطرة أو من اعتادوا على المخاطر في حياتهم المهنية. من الطبيعي أن يشعر هؤلاء ببطء الحياة من حولهم مقارنة بما اعتادوا أن يمارسوه. هم يحتاجون إلى ممارسة شيء جديد على نفس المستوى من الخطر والإثارة كي تنتبه حواسهم. وهو ما يفسر أيضا سبب تعرض الأشخاص الاجتماعيين والمنفتحين للملل أكثر من الانطوائيين. فيدفعهم ذلك لخوض المزيد من المغامرات للقضاء على الملل.

رابعا، منح الاهتمام:

هل فكرت مسبقا أنك قد تكون مصاب بمشكلة صحية تتسبب في شعورك بالملل؟ نعم، وفقا للأبحاث فالمصابون بفرط الحركة وضعف التركيز والانتباه أكثر عرضه للملل من غيرهم. فلا يمكن أن تهتم بشيء يصعب أن تنتبه إليه.

خامسا، الوعي العاطفي:

ربما ينقصك الوعي الذاتي اللازم. فبعض من يشعرون بالملل هم أشخاص غير قادرين على تحديد ما يريدون أو ما يرغبون فيه. غياب قدرتك على تحديد ما يسعدك قد يتسبب في شعورك بالملل. لذلك ينصح بتحديد الأهداف المنطقية المناسبة لرغباتك وما يشعرك بالسعادة. (Eastwood, 2012)

سادسا، غياب الإرادة:

فترة المراهقة هي أكثر فترات الشعور بالملل، أليس كذلك؟ تبدو تلك الحقيقة قاسية ومجربة، فكلنا قد شعرنا بها في حيواتنا. يعود الأمر إلى غياب تحكمنا في سير الأحداث من حولنا. إذ نشعر بأننا محتجزين وعالقين في حياة لا نرغب فيها ونريد تغييرها بأي شكل. نريد السيطرة الكاملة والحرية. نريد أن نفعل ما نريد وقتما نريد. إذا فحرمانك من السيطرة على مجريات حياتك وإجبارك على فعل ما لا تريده سيقودك حتما للملل وربما ما هو أكثر خطورة منه.

سابعا، تأثير الثقافة:

الشعور بالملل هو رفاهية عصرية بشكل أو بآخر. (Spacks, 1996) إذ لم تعرفه البشرية أو تسميه حتى أواخر القرن الثامن عشر إبان الثورة الصناعية. قبل ذلك، لم تكن البشرية بهذا الترف، إذ قضى الإنسان معظم وقته لتأمين الطعام والمسكن، حينها لم يكن للملل وجود.

ماذا لو لجأنا إلى هواتفنا المحمولة؟

قد يتخيل البعض أن اللجوء إلى الهاتف المحمول أثناء ممارسة المهام سيقضي على الملل، إلا أنها تزيد من إدمانك لها وارتباطك بها، حتى أنها تمنحك قدر من الإثارة أكثر مما تتوقعه لدرجة تؤثر على علاقتك بأسرتك وأصدقائك. فلا تتعجب حينها عندما يشتكي منك كل من حولك. وربما تزيد الألعاب التكنولوجية أو وسائل التواصل الإجتماعي من أعراض مللك، لأنك رفعت من مستوى الإثارة الذي تتعرض له يوميا، فتكاد لا تطيق البقاء دونها، فاحذر هذا العلاج فهو كارثي.

نظرة مختلفة للملل

على النقيض من كريكيغارد، اعتبر الفيلسوف الشهير نيتشة الملل دافعا للإنجاز، أو على أقل تقدير قد يكون علامة على عدم أهمية شيء ما أو أن هذه المهمة سخيفة وليست إلا مضيعة للوقت. وحينها عليك ترك ما تفعل وتتحول لشيء آخر أكثر فائدة. والفضل في ذلك التحول يعود إلى شعورك بالملل. (Svendsen, 1999)

كيف نتغلب على الملل؟

تقترح الدراسات أن نواجه المهام المملة بطريقة تفكير غير تقليدية، أي أن نفكر في تلك المهام بشكل مختلف. ربما يساعدك إدراك مدى أهميتها للآخرين على التغلب عليها، أو إيجاد معنى أكبر لما تفعله، فيضع عقلك بعيدا ليتجاوز التكرار والتفاصيل.

كما يقترح بعض الباحثين ممارسة التأمل والتمارين الذهنية ولكن وجب التنويه أن تأثيرها غير مؤكد بعد.

يحتاج الملل كشعور إنساني للمزيد من الدراسة والفحص، فهو مرتبط ببعض الآثار السلبية مثل الاكتئاب والقلق وانخفاض الأداء الأكاديمي للطلاب وارتفاع معدلات الرسوب، كما يرتبط ببعض الأخطاء المهنية والتي قد تقود بعضها لكوارث وخسائر في الأرواح. حتى وإن لم يقودنا الملل لتلك النتائج السلبية. ما زلنا نحتاج لدراسته لتصميم بيئات تعلم ممتعة وبيئات عمل متطورة والقيام بمهامنا اليومية على أكمل وجه. يبدو عزيزي القارئ أن الملل قد وجد من لا يملون من دراسته لمساعدة البشرية.

 

مصادر:

springer

psychology today

livescience

Exit mobile version