إعادة ترميم وجه شانيدار زد امرأة النياندرتال القديمة من كهوف العراق

في اكتشاف رائد، أعاد فريق من علماء الآثار في المملكة المتحدة بناء وجه امرأة نياندرتال عمرها 75 ألف عام، مما يتحدى التصور السائد منذ فترة طويلة عن إنسان نياندرتال باعتباره وحشيًا وغير متطور. وتم العثور على جمجمة المرأة، التي حملت اسم Shanidar Z، في عام 2018 في كهف Shanidar في كردستان العراق، حيث تم اكتشاف ما لا يقل عن 10 من النياندرتال سابقًا في الستينيات. وقد دفع هذا الاكتشاف الأخير الخبراء إلى إعادة النظر في لغز إنسان النياندرتال، الذي انقرض في ظروف غامضة منذ حوالي 40 ألف سنة، أي بعد بضعة آلاف من السنين فقط من ظهور البشر العاقل.

أمضى فريق من جامعتي كامبريدج وليفربول جون موريس عقودا في كشف أسرار كهف شانيدار، حيث عثروا على بقايا العديد من النياندرتال، بما في ذلك شانيدار زد، التي دُفنت في وضعية النوم تحت علامة حجرية عمودية ضخمة. وكشف هذا الاكتشاف عن جانب أكثر تعقيدًا وتطورًا لدى إنسان النياندرتال، لوجود أدلة على الطقوس الجنائزية ورعاية المعاقين. بينما نتعمق في قصة Shanidar Z، نستكشف التاريخ المنسي لإنسان النياندرتال، ورحلة الاكتشاف العلمية، والاكتشافات المفاجئة عن أسلافنا القدماء، فهيا بنا.

الإنسان البدائي المنسي: فصل الحقيقة عن الخيال

لقرون عديدة، أُسيء فهم قضية إنسان النياندرتال، وتم تهميشه، وتصويره على أنه وحشي وغير متحضر. تعود جذور هذا المفهوم الخاطئ إلى أوائل القرن التاسع عشر عندما تم اكتشاف أول حفريات إنسان نياندرتال في وادي نياندر بألمانيا. تم إعادة بناء الاكتشافات الأولية، بما في ذلك الحفريات من وادي نياندر، من وضع متهالك، مما أدى إلى مظهر يشبه الغوريلا. وهو ما عزز تصور الجمهور عن إنسان نياندرتال على أنه غير متحضر وغير ذكي.

في أوائل القرن العشرين، أدى اكتشاف حفريات إنسان نياندرتال في أوروبا، وخاصة في فرنسا وإسبانيا، إلى موجة من التغطية الإعلامية المثيرة، التي صورت إنسان نياندرتال على أنه متوحش وفظ. لقد تم ترسيخ صورة إنسان نياندرتال المزمجر الذي يحمل الهراوة في الثقافة الشعبية، مما أدى إلى سردية كاذبة ستستمر لعقود من الزمن.

يمكن إرجاع جذور هذا المفهوم الخاطئ أيضًا إلى إعادة البناء الأولية لحفريات إنسان نياندرتال في أوائل القرن العشرين. حيث أعاد عالم الحفريات الفرنسي مارسيلين بول بناء هيكل عظمي لإنسان النياندرتال بعمود فقري شديد الانحناء، مما أدى إلى ظهور الصورة النمطية “لرجل الكهف”. أدى هذا التحريف المبكر إلى تحديد طريقة تصور الجمهور للنياندرتال، مما أثر على الفن والأدب وحتى وسائل الإعلام الشعبية.

في الواقع، كان إنسان النياندرتال قابلاً للتكيف بدرجة كبيرة، وواسع الحيلة، وذكيًا. وكان يعيش في بيئات قاسية ويطور هياكل اجتماعية معقدة. لقد دفعتنا الاكتشافات الأخيرة، بما في ذلك اكتشاف شانيدار زد، إلى إعادة تقييم فهمنا لإنسان النياندرتال، مما يكشف عن صورة أكثر دقة وتعاطفا. وبينما نواصل كشف أسرار هؤلاء البشر القدماء، فإننا مجبرون على مواجهة تحيزاتنا ومفاهيمنا الخاطئة، وفصل الحقيقة عن الخيال في القصة الرائعة لإنسان نياندرتال.

التاريخ العلمي لاكتشافات إنسان نياندرتال

إن اكتشاف Shanidar Z ليس حادثة معزولة، بل هو تتويج لقرون من البحث والاستكشاف العلمي. إن تاريخ اكتشافات إنسان نياندرتال هي قصص رائعة لم تخل من التقلبات والمنعطفات، وتتميز بالنقاش والجدل، وفي نهاية المطاف، تؤدي إلى فهم أعمق لأبناء عمومتنا القدماء.

في القرن التاسع عشر، قوبلت اكتشافات النياندرتال الأولى بالتشكيك وحتى بالسخرية. تم اكتشاف أول حفرية للنياندرتال عام 1856 في وادي النياندرتال بألمانيا، ومن هنا جاء اسم النياندرتال. ومع ذلك، لم يبدأ المجتمع العلمي في أخذ إنسان نياندرتال على محمل الجد إلا في أوائل القرن العشرين.

كانت الحفريات الرائدة التي قام بها رالف سوليكي في كهف شانيدار في الستينيات بمثابة نقطة تحول في أبحاث الإنسان البدائي. أثار اكتشافه للعديد من الهياكل العظمية للنياندرتال، بما في ذلك هيكل شانيدار 1 الشهير، موجة جديدة من الاهتمام بهذا النوع. تحدت النتائج التي توصل إليها سوليكي وجهة النظر السائدة عن إنسان نياندرتال باعتباره وحشيًا وغير متطور، وبدلاً من ذلك أشارت إلى أنه ربما كان لديهم طبيعة أكثر تعقيدًا وتعاطفًا.

على مر العقود، أدى التقدم التكنولوجي، مثل التأريخ بالكربون المشع والتحليل الجيني، إلى توسيع نطاق فهمنا لإنسان النياندرتال بشكل كبير. على سبيل المثال، أدى اكتشاف الحمض النووي لإنسان النياندرتال في البشر المعاصرين إلى طمس الخطوط الفاصلة بين جنسنا البشري وجنسهم، وكشف عن تاريخ أكثر تعقيدا من التزاوج والتعايش.

يعد الاكتشاف الأخير لشانيدار زد بمثابة شهادة على قوة البحث العلمي والتعاون. لقد وفرت إعادة بناء وجهها وتحليل هيكلها العظمي نافذة فريدة على حياة وموت امرأة إنسان نياندرتال منذ أكثر من 75000 عام. وبينما نواصل اكتشاف أدلة جديدة وإعادة فحص البيانات الموجودة، فإننا مضطرون إلى إعادة تقييم افتراضاتنا حول إنسان النياندرتال ومكانته في القصة البشرية.

لغز عمره 75000 عام ينكشف

في أعماق كهف شانيدار، الواقع في جبال زاغروس بكردستان العراق، كمن سر عمره 75 ألف عام. لعقود من الزمن، ظلت بقايا امرأة النياندرتال، شانيدار زد، مخفية، وهيكلها العظمي مجزأ ومسطح، في انتظار أن يتم اكتشافها. إن قصة اكتشافها هي شهادة على قوة المثابرة. أدى عدم الاستقرار السياسي في العراق إلى تأخير المزيد من الاستكشاف للموقع بعد ما قام به رالف سوليكي. حتى عاد فريق من جامعتي كامبريدج وليفربول جون موريس إلى الكهف في السنوات الأخيرة.

ركز الفريق، بقيادة البروفيسور جرايم باركر، في البداية على تأريخ المدافن. وفهم الأسباب وراء الانقراض الغامض لإنسان النياندرتال منذ حوالي 40 ألف عام. ولكن عندما تعمقوا أكثر في الموقع، عثروا على أكثر مما توقعوا. تم العثور على جمجمة شانيدار زد، المحفوظة جيدًا بشكل ملحوظ. بدت مسطحة بسمك 2 سم فقط، ويرجع ذلك على الأرجح إلى سقوط صخرة على رأسها بعد وقت قصير من وفاتها. وكشفت جهود التنقيب وإعادة البناء الدقيقة التي قام بها الفريق منذ ذلك الحين عن امرأة في منتصف الأربعينيات من عمرها. كانت مدفونة في وضع النوم تحت علامة حجرية ضخمة. يشير هذا الوضع المتعمد إلى مستوى من التعقيد والسلوك الشعائري. يتحدى هذا السلوك وجهات نظرنا التقليدية عن إنسان نياندرتال باعتباره وحشيًا وغير متطور.

بينما نتعمق أكثر في حياة Shanidar Z، نبدأ في كشف أسرار الأنواع التي أسرت الخيال البشري لعدة قرون.

تجميع الماضي معًا: إعادة بناء وجه شانيدار زد

كانت إعادة بناء وجه Shanidar Z عملية شاقة ومعقدة تتطلب خبرة فريق متعدد التخصصات من العلماء. بدأت الرحلة بالتنقيب الدقيق لشظايا الجمجمة من كهف شانيدار في كردستان العراق. كانت الشظايا حساسة للغاية، تشبه في اتساقها قطعة البسكويت المغمسة في الشاي، مما يصّعب التعامل معها. استخدم الفريق، بقيادة إيما بوميروي، عالمة الأنثروبولوجيا القديمة من كامبريدج، مادة تدعيم خاصة لتقوية الأجزاء في مكانها قبل إزالتها في عشرات الكتل الصغيرة المغلفة بالرقائق. تم بعد ذلك نقل الكتل إلى المختبر، حيث تم تنظيف القطع وفحصها وتحليلها بعناية.

وكانت الخطوة التالية هي إعادة بناء الجمجمة باستخدام أكثر من 200 قطعة، وهي عملية تشبه أحجية الصور المقطوعة ثلاثية الأبعاد. وقد عمل الفريق بدقة، لضمان وضع كل جزء بدقة لإعادة تكوين شكل الجمجمة الأصلي. وبمجرد إعادة بناء الجمجمة، أنشأ الفريق نموذجًا ثلاثي الأبعاد. وتم إرساله بعد ذلك إلى فناني الحفريات أدري وألفونس كينيس في هولندا. استخدم الأخوان التوأم خبرتهما لإضافة طبقات من العضلات والجلد المُصنَّع، مما أعاد الحياة إلى وجه شانيدار زد.

كشفت عملية إعادة البناء النهائية عن وجه لا يشبه أي وجه إنسان نياندرتال معروف من قبل. كان وجه Shanidar Z أكثر شبهاً بالإنسان، مع جبهة أكثر نعومة وحاجب أقل بروزًا مما كان متوقعًا. تشير إعادة البناء إلى أن الاختلافات بين إنسان النياندرتال والبشر قد لا تكون صارخة كما كان يعتقد سابقًا.

إن أهمية إعادة البناء هذه تتجاوز الكشف عن مظهر شانيدار زد. فهي تسلط الضوء على التهجين بين إنسان نياندرتال والإنسان، والذي أدى إلى أن كل شخص على قيد الحياة اليوم تقريبًا يحمل الحمض النووي للنياندرتال.

المصدر: Meet Shanidar Z: 75,000-Year-Old Neanderthal Woman’s Face Reconstructed : ScienceAlert

لماذا تفضل أدمغتنا المحتوي الورقي عن المحتوي الرقمي؟

يستخدم القُراء الكبار اليوم أجهزة الكمبيوتر على نطاق واسع لسنوات عديدة. ومع ذلك، عندما يحتاج المرء إلى دراسة نص ما بشكل شامل، لا يزال هناك تفضيل قوي تجاه المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي المباشر من شاشة الكمبيوتر. يمكن للمرء أن يفترض أن هذا التردد هو مسألة تجربة. ومع ذلك، حتى مستخدمي الكمبيوتر ذوي الخبرة العالية ما زالوا يفضلون الطباعة. و في دراسة استقصائية أجريت عام 2011 لطلاب الدراسات العليا في جامعة تايوان الوطنية، ظهر اتجاه مفاجئ، حيث أفاد غالبية هؤلاء الطلاب أنهم عادة ما يتصفحون بضع فقرات فقط من موضوع ما عبر الإنترنت قبل طباعة النص بأكمله لقراءة أعمق.

منذ تسعينات القرن العشرين، و يشتعل سجال بين مدرستين فكريتين حول موضوع النصوص الإلكترونية. الأول يرى أن الورق أفضل بكثير ولن يتم استبداله بالشاشات أبدًا. و يتم دعم هذه الحجة في كثير من الأحيان بالإشارة إما إلى نوع سيناريوهات القراءة التي قد يكون من الصعب (وقتها)، إن لم يكن من المستحيل، دعمها بشكل مقبول بالنص الإلكتروني، على سبيل المثال، قراءة صحيفة على الشاطئ أو مجلة على السرير، أو الصفات اللمسية الفريدة للورق. أما المدرسة الثانية ففضلت استخدام النص الإلكتروني، مشيرة إلى سهولة التخزين والاسترجاع، وتوفير الموارد الطبيعية كحوافز رئيسية. وتري وفقًا لهذا المنظور، سيحل النص الإلكتروني قريبًا محل الورق، وفي وقت قصير سنقرأ جميعًا من الشاشات كنوع من العادة.

منذ ذلك الحين، تعمقت موجة من الأبحاث في الفروق الدقيقة بين القراءة على الورق مقابل الشاشات. لقد استكشفت أكثر من مائة دراسة، تشمل علم النفس وعلوم الكمبيوتر وعلوم المكتبات والمعلومات، هذه الاختلافات. و تشير النتائج باستمرار إلى أن القراءة على الشاشات تبطئنا وتعيق قدرتنا على الاحتفاظ بالمعلومات. ومع ذلك، مع التقدم في تكنولوجيا الشاشات، تكشف الأبحاث عن صورة أكثر دقة. على الرغم من هذه التطورات، تشير الدراسات الاستقصائية الأخيرة إلى أن الورق يظل الوسيلة المفضلة لمهام القراءة المركزة.

كيف يفسر الدماغ اللغة المكتوبة؟

لعلك تساءلت يوما، كيف يمكن لأدمغتنا تحويل خليط من التمايلات الموجودة على صفحة إلى عالم من المعرفة؟ إن فك رموز اللغة المكتوبة إنجازًا رائعًا يتم تنسيقه بواسطة شبكة معقدة في دماغنا، تقع بشكل أساسي في النصف الأيسر من الدماغ.

تبدأ الرحلة في القبو البصري، وهو مكان عميق في الجزء الخلفي من دماغك يسمى الفص القذاليoccipital lobe“. هنا، يتم التعرف على الحروف والكلمات لأول مرة. بعد ذلك، ينتقل التحقيق إلى تقاطع حرج حيث يلتقي الفص الصدغيTemporal lobe” والقذالي. هذا هو التلفيف الزاويangular gyrus“، وحدة فك التشفير الرئيسية للدماغ. هنا، يتم تحويل الحروف المكتوبة إلى الأصوات المقابلة لها بناءً على معرفتك بالصوتيات وقواعد التهجئة. تتجه الحالة الآن إلى منطقة بروكا “Broca’s area“، وهي منطقة تقع في الجزء الأمامي من دماغك. تشبه منطقة بروكا مكتبة عقلية عملاقة، مليئة بالتعريفات وتاريخ عدد لا يحصى من الكلمات. حيث تساعد على تنشيط المعرفة المخزنة بالكلمات ومعانيها.

وأخيرًا، تتجمع القطع معًا في منطقة فيرنيك “Wernicke’s area“، وهي جزء حيوي آخر من الفص الصدغي. وتعتبر منطقة Wernicke هي العقل المدبر، و الذي يجمع كل شيء معًا. فهو يأخذ الأصوات والمعاني من مكتبة بروكا، إلى جانب معلومات حول بنية الجملة (مثل القواعد)، ويبني صورة كاملة لما تحاول الرسالة قوله.[1]

هل نولد قارئين مفضلين المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي ؟

على عكس القدرات المعرفية الأخرى، القراءة ليست شيئًا نولد به. وذلك لأن الكتابة هي اختراع حديث نسبياً في تاريخ البشرية التطوري، ظهر حوالي عام 4000 قبل الميلاد. ونتيجة لذلك، يجب على أدمغتنا أن تتكيف مع الدوائر العصبية الموجودة للتعامل مع هذه المهارة الجديدة أثناء الطفولة. يتم تجميع هذه الدائرة المبتكرة معًا من مناطق مختلفة من الأنسجة العصبية في الدماغ المخصصة بالفعل لوظائف أخرى، مثل الكلام والتنسيق الحركي والرؤية.

إن أدمغتنا متعددة الاستخدامات بشكل لا يصدق، فهي قادرة على تكييف الشبكات العصبية الموجودة لخدمة أغراض جديدة. مثلما تتخصص مناطق معينة في الدماغ في التعرف على الأشياء، مما يسمح لنا بالتمييز الفوري بين التفاحة والبرتقالة بناءً على سماتها المميزة وتصنيفهما على أنهما فاكهة، فإن أدمغتنا تتكيف أيضًا مع مهمة القراءة والكتابة. عندما نتعلم القراءة، نبدأ في التعرف على الحروف بناءً على ترتيباتها الفريدة من الخطوط والمنحنيات والمساحات – وهي عملية تتضمن مدخلات بصرية وملموسة. وفي دراسة أجريت على أطفال في سن الخامسة، وجد <ستانيسلاس ديهين> من جامعة هارفارد أن دوائر القراءة تنشط عندما يكتب الأطفال الحروف باليد، بدلا من كتابتها على لوحة المفاتيح. وبالمثل، عند قراءة النصوص المعقدة، حيث يحاكي الدماغ حركات الكتابة حرفًا تلو الآخر، حتى في غياب حركات اليد الفعلية.[2]

طبوغرافيا وخرائط ذهنية للنصوص

اقترح كلا من <ستيفن باين> و <ويليم ريدر> في دراسة نشرت عام 2006 في مجلة “International Journal of Human-Computer Studies” أنه في العديد من سياقات استخدام النص، يحتاج الأشخاص إلى استشارة التمثيل العقلي للتخطيط بين محتوى المستندات وبنيتها. و لقد قاموا بإعداد ثلاث تجارب تبحث في بناء واستخدام مثل هذه “الخرائط الهيكلية” أو ” الخرائط الذهنية”. في كل تجربة، قرأ الأشخاص نصوصًا متعددة عبر الإنترنت حول نفس الموضوع، ثم بحثوا عن أجزاء محددة من المعلومات في تلك النصوص. وتمت مقارنة أداء البحث مع الأشخاص الذين لم يقرؤوا النصوص.[3]

كان الأشخاص الذين قرأوا نصوصًا متعددة، إلى حد ما، قادرين على تذكر مكان وجود المعلومات في النصوص كما هو موضح في المواقع التي بحثوا فيها لأول مرة أو عدد الصفحات المفتوحة أثناء البحث. وجدوا أيضًا أن قُرَاء النصوص المتعددة كانوا قادرين على العثور على الحقائق في تلك النصوص بشكل أسرع من الأشخاص الذين لم يقرؤوا النصوص، وأن هذا التسريع لم يكن تأثيرًا بسيطًا للقراءة الأسرع أثناء البحث عن الحقائق أو معرفة أكبر بالموضوع العام.

حدثت هذه التأثيرات العرضية للقراءة سواء تم تحذير المشاركين قبل القراءة أم لا بأنهم سيضطرون لاحقًا إلى البحث في النصوص ولن يتعرضوا للخطر بسبب التحولات في مظهر النص (عمود مزدوج إلى عمود واحد) التي عطلت مواضع الحقائق على الصفحات. وتم الاستنتاج بأن القراء يقومون تلقائيًا ببناء خرائط ذهنية لنصوص إلكترونية متعددة، حتى عندما يركز هدف قراءتهم على تجريد المعنى عبر المصادر. و من المحتمل أن تلعب الخرائط الهيكلية دورًا حيويًا في العديد من جوانب استخدام النص، مثل إعادة القراءة وتحديث المعرفة.

ولنجعل الاستنتاج أكثر بساطة. تخيل غابة خضراء ذات مسار متعرج. أثناء التنزه سيرًا على الأقدام، ستلاحظ وجود مزرعة حمراء نابضة بالحياة على حدود رأس المسار، يليها جبل شاهق. وبالمثل، عندما تنغمس في رواية مثل رواية “كبرياء وتحامل” ل<جين أوستن>، يمكنك أن تتذكر بوضوح توبيخ السيد <دارسي> ل<إليزابيث> أثناء الرقص، المحفور في الزاوية اليسرى السفلية من الصفحة اليسرى في الفصل الثاني.

و على عكس النص الرقمي، توفر الكتب المادية تضاريس مميزة تساعد في تكوين الذاكرة وهو ما يدعي ب “Haptic attributes“. يقدم الكتاب المفتوح نفسه كمشهد طبيعي يحتوي على حقلين بارزين – الصفحات اليمنى واليسرى – وثمانية زوايا إرشادية. يتيح لك هذا التخطيط الملموس التركيز على صفحة واحدة دون إغفال السياق العام. ويمكنك أيضًا الشعور بسمك الصفحات التي قلبتها، والتمييز بين المقروءة وغير المقروءة. إن تقليب الصفحات يشبه ترك أثر من آثار الأقدام، فكل صفحة علامة على طول رحلتك الأدبية. هذا السجل المادي للتقدم لا يسهل التنقل فحسب، بل يعزز أيضًا تكوين خريطة ذهنية متماسكة لمحتوى الكتاب. قد يدفع ذلك عقولنا مباشرة لتفضيل المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي على الفور.

يتجاوز العقل البشري مجرد معالجة الحروف الفردية كأشياء مادية. فهو يتمتع بقدرة رائعة على إدراك النص ككل، على غرار المشهد البصري. أثناء انشغالنا بقراءة مقطع ما، نقوم في نفس الوقت ببناء تمثيل ذهني له. على الرغم من أن الطبيعة الدقيقة لهذه التمثيلات لا تزال بعيدة المنال، إلا أن بعض الباحثين يعتقدون أنها تشبه الخرائط الذهنية التي ننشئها للتنقل في المساحات المادية، مثل المناظر الطبيعية مع الجبال والممرات أو البيئات الداخلية مثل الشقق والمكاتب.[3]

التنافر Haptic dissonance

تعتمد أدمغتنا بشكل كبير على اللمس (haptics) لفهم العالم. عندما نقرأ كتابًا ماديًا، فإن ملمس الورق، والوزن في أيدينا، وقلب الصفحة المُرضي، كلها تعمل معًا لخلق تجربة متعددة الحواس. وهذا يعزز ما نقرأه ويساعدنا في بناء صورة ذهنية أقوى للقصة. لكن الأجهزة الرقمية غالبا ما تفتقر إلى هذه العناصر اللمسية. يمكن أن تتعارض الشاشة الزجاجية الناعمة والصنابير الصامتة مع الصور التي نحاول بناءها في أذهاننا، مما يؤدي إلى انفصال – التنافر اللمسي ” Haptic dissonance“. هذا ليس مجرد إزعاج بسيط. حيث تشير الدراسات إلى أن التنافر اللمسي يمكن أن يعيق في الواقع فهمنا للقراءة والاستمتاع بها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقصص التي تعتمد بشكل كبير على التفاصيل الحسية.[4] يزيد هذا التنافر من تفضيلنا المحتوى الورقي عن المحتوى الرقمي بالطبع.

وقد بين كلا من <كريشنا> و<مورين> (2008) بالتحقيق في تأثير التوجه اللمسي الفردي على تقييم المنتج. وبشكل أكثر دقة، قاموا بتحليل تقييم المياه المعدنية، المقدمة في أكواب أو زجاجات ذات جودة عالية أو منخفضة الجودة. ووجدوا أن عبوة المنتج أو حاوية التقديم يمكن أن يكون لها تأثير على أحكام جودة المياه. وأوضحوا أن نفس المحتوى، الذي يتم تسليمه في عبوة ذات لمسيات مختلفة، يمكن تقييمه بشكل غير متساوٍ من قبل العملاء. [5]

إجهاد وبطء في الفهم

تجربة مانجن

تشير الدراسات، مثل تلك التي أجراها <مانجن> وزملاؤه في جامعة ستافنجر النرويجية، إلى أن هذا التنافر اللمسي، وعدم التطابق بين إدراكنا البصري واللمسي، يمكن أن يعيق فهم القراءة. في دراستهم، طُلب من طلاب المدارس الثانوية قراءة نص سردي وتفسيري، نصفه على الورق ونصفه الآخر على ملفات PDF. وكان أداء أولئك الذين قرأوا على الورق أفضل، ربما لأنهم تمكنوا بسهولة من التنقل في النص بأكمله، وإنشاء خريطة ذهنية تساعد على الفهم.[6]

كما يوضح مانجن، “إن سهولة العثور على البداية والنهاية وكل شيء بينهما، بالإضافة إلى اتصالك المستمر بمسارك وتقدمك من خلال النص، قد يسمح لك بطريقة أو بأخرى بالاقتصاد في جهودك المعرفية واستثمار ما تبذله من جهد في تقوية قدرتك على الفهم.”

تجربة فيستلوند

في إحدى الدراسات التي أجراها الباحث <فيستلوند> من جامعة كارلستاد بالسويد، كان أداء المشاركين الذين أجروا الاختبار على الكمبيوتر أسوأ وأفادوا أنهم شعروا بالتوتر والتعب أكثر من أولئك الذين أجروا نفس الاختبار على الورق.

حيث تم إعطاء 82 متطوعًا اختبارًا لفهم القراءة على جهاز كمبيوتر، إما بصفحات مرقمة أو بالتمرير المستمر. ثم قام الباحثون بتقييم انتباههم وذاكرتهم العاملة، وهي القدرات العقلية التي تسمح لنا بتخزين المعلومات ومعالجتها بشكل مؤقت. وكان على المتطوعين إغلاق النوافذ المنبثقة بسرعة أو تذكر الأرقام الوامضة. ومن المثير للاهتمام، أنه في حين كان الأداء في اختبار القراءة نفسه متشابهًا بين المجموعتين، فإن أولئك الذين مرروا النص غير المرقم كان أداؤهم أسوأ في مهام الانتباه والذاكرة العاملة. و يعتقد <فيستلوند> أن التمرير، الذي يتطلب اهتمامًا مركزًا على كل من النص وإجراء التمرير، يستنزف موارد عقلية أكثر من الإجراءات الأبسط والأكثر تلقائية المتمثلة في قلب الصفحة أو النقر. كلما زاد تحويل الاهتمام إلى التنقل، قل ما تبقى للفهم.[7]

تأثير استبدال الورق بالشاشات فى سن مبكر

إن الدراسات الحديثة تشير إلى أن استبدال الورق بالشاشات في سن مبكرة قد يكون له آثار ضارة لا ينبغي إغفالها. ففي دراسة أجريت عام 2012 في مركز “كوني” في نيويورك، الذي شمل 32 زوجًا من الآباء والأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 6 سنوات، أن الأطفال الذين قرأوا قصصًا من الكتب الورقية كان لديهم تذكر أفضل للتفاصيل مقارنة بأولئك الذين استمعوا إلى نفس القصص من الكتب الإلكترونية التفاعلية مع الرسوم المتحركة. لقد أدت عوامل التشتيت الناتجة عن هذه الميزات الرقمية إلى تحويل انتباه الأطفال بعيدًا عن السرد ونحو الجهاز نفسه. وقد أيدت دراسة استقصائية لاحقة أجريت على 1226 من الآباء هذه النتيجة، حيث أشارت الأغلبية إلى أنهم وأطفالهم يفضلون الكتب المطبوعة على الكتب الإلكترونية عند القراءة معًا. وذلك لعد اضطرارهم على إيقاف قراءتهم الحوارية المعتادة مرارا وتكرارا لمنع أطفالهم من إضاعة الوقت في اللعب بالأزرار، الأمرالذي كان يؤدي إلى انقطاع سلسلة أفكارهم في سرد الحكاية.

المصادر

1-Psychologically speaking: your brain on writing

2-Universal brain systems for recognizing word shapes and handwriting gestures during reading

3-Constructing structure maps of multiple on-line texts

4-The development of haptic abilities in very young infants: From perception to cognition

5-INVESTIGATING THE ACCEPTANCE OF ELECTRONIC BOOKS – THE IMPACT OF HAPTIC DISSONANCE ON INNOVATION ADOPTIO

6-Reading linear texts on paper versus computer screen: Effects on reading

7-Experimental studies of human-computer interaction : working memory and mental workload in complex cognition

إنسان الغاب يفاجئ العلماء باستخدام النباتات الطبية في علاج الجروح

في الغابات المطيرة الكثيفة في إندونيسيا، ألقى اكتشاف رائع ضوءًا جديدًا على عالم التطبيب الذاتي الحيواني المذهل. كشفت دراسة حديثة، نشرت في مجلة Scientific Reports، أن إنسان الغاب، مثل البشر والشمبانزي، يستخدم النباتات لعلاج جروحه. هذا الاكتشاف الرائد له آثار مهمة على فهمنا لسلوك الحيوان وتطور الطب البشري.

أشرفت على الدراسة عالمة الرئيسيات إيزابيل لومر من معهد ماكس بلانك، التي لاحظت، مع زملائها، السلوك المذهل لذكر إنسان الغاب السومطري يُدعى راكوس. لوحظ أن راكوس يستخدم نباتًا طبيًا، يدعى أكار كونينج (فيبراوريا تينكتوريا)، لعلاج جرح مفتوح في وجهه. قام بجمع الأوراق ومضغها ووضع اللب على جرحه عدة مرات، مما يدل على فهم واضح للخصائص العلاجية للنبات. تمت الملاحظة في 25 يونيو 2022، في متنزه جونونج ليوسر الوطني، بإندونيسيا. تم إجراء البحث في الغابات المطيرة بإندونيسيا، حيث يتجول إنسان الغاب بحرية.

تفتح هذه الملاحظة الرائعة آفاقًا جديدة لفهم العلاج الذاتي للحيوانات وتطور الطب البشري. في الأقسام التالية، سوف نتعمق أكثر في العالم الرائع للشفاء الذاتي للحيوانات، ونستكشف المفاهيم العلمية والتاريخ وراء هذا الاكتشاف الرائد.

الصيدلة القديمة للرئيسيات

في العالم القديم، لم يكن البشر هم الوحيدون الذين يبحثون في خزانة الأدوية الطبيعية للعثور على علاجات لأمراضهم. كما أن أبناء عمومتنا من الرئيسيات يستخدمون العالم الطبيعي لتهدئة آلامهم وأمراضهم. من اللب المر لنبات فيرنونيا أميجدالينا لعلاج عدوى الديدان لدى الشمبانزي إلى الخلطات غير المعروفة التي يستخدمها إنسان الغاب، فإن استخدام النباتات كدواء هو سلوك يعود إلى ملايين السنين.

أحد الجوانب الأكثر روعة في العلاج الذاتي لدى الرئيسيات هو تنوع النباتات والمواد المستخدمة. في الكونغو، على سبيل المثال، لوحظ أن الشمبانزي يستخدم لحاء شجرة Ancistrocladus korupensis لعلاج الالتهابات الطفيلية. وفي أجزاء أخرى من أفريقيا، يستخدم الشمبانزي أوراق نبات Aspilia pluriiseta لدرء البعوض المسبب للملاريا. وتستمر قائمة النباتات الطبية التي تستخدمها الرئيسيات، حيث يقوم كل نوع بتطوير دستور الأدوية الخاص به على مدى ملايين السنين من التطور.

ولكن ما الذي يدفع هذه المخلوقات الذكية لاستكشاف محيطها لأغراض طبية؟ هل هي التجربة والخطأ، أم أن هناك فهمًا أعمق للعالم الطبيعي الذي يلعب دوره؟ يعتقد العلماء أن العديد من أنواع الرئيسيات قد طورت فهمًا فطريًا للنباتات التي يجب استخدامها للأغراض الطبية. غالبًا من خلال الملاحظة والتجريب. ويتم بعد ذلك تمرير هذه المعرفة عبر الأجيال، مما يسمح للأنواع بالتكيف والازدهار في بيئاتها.

بطبيعة الحال، لا يقتصر استخدام النباتات الطبية على الرئيسيات فقط. وقد لوحظ أن العديد من أنواع الحيوانات، من الطيور إلى الحشرات، تستخدم النباتات لعلاج الأمراض المختلفة. ومع ذلك، فإن التعقيد في العلاج الذاتي للرئيسيات، كما رأينا في حالة إنسان الغاب راكوس، يميز هذه المخلوقات الذكية عن غيرها من الحيوانات.

الكشف عن أسرار شفاء الجروح لدى إنسان الغاب

راكوس، ذكر إنسان الغاب السومطري، تمت ملاحظته وهو يستخدم نباتًا طبيًا، أكار كونينج (فيبراوريا تينكتوريا)، لعلاج جرح مفتوح في وجهه. ولكن ما الذي يجعل هذا السلوك مميزًا للغاية، وما هي الأسرار التي يمكننا كشفها حول قدرات شفاء الجروح لدى هذه المخلوقات الذكية؟

لفهم سلوك راكوس، نحتاج إلى الخوض في عالم كيمياء النبات الرائع. وقد تم توثيق الخصائص الطبية لأكار كونينغ بشكل جيد في الطب التقليدي، حيث تم استخدامه لعلاج الجروح والسكري والدوسنتاريا والملاريا. كشف تحليل التركيب الكيميائي للنبات عن خصائص مضادة للبكتيريا، ومضادة للالتهابات، ومضادة للفطريات، ومضادة للأكسدة – وهو مزيج قوي من عوامل الشفاء.

من المحتمل أن يكون راكوس قد اكتشف تأثيرات أكار كونينج في تخفيف الألم بالصدفة أثناء تناول النبات. وربما لاحظ أن النبات خفف من الانزعاج الناتج عن الجرح، مما دفعه إلى تكرار السلوك عدة مرات. تعتبر عملية الاكتشاف هذه أمرًا بالغ الأهمية في فهم أصول التطبيب الذاتي عند الحيوانات.

يثير سلوك راكوس أيضًا تساؤلات حول تعلم ونقل المعرفة المتعلقة بشفاء الجروح لدى إنسان الغاب. هل تعلم هذا السلوك من والدته أو من أعضاء المجموعة الآخرين، أم أنه اكتشفه بشكل مستقل؟ نظرًا لأن إنسان الغاب يتفرق عن مجموعات ولادته بمجرد وصوله إلى مرحلة النضج، فمن الممكن أن يكون راكوس قد أحضر معه هذه المعرفة من مجموعته الأصلية.

من الألم إلى الراحة: رحلة راكوس إلى الشفاء الذاتي

كان راكوس، إنسان الغاب واسع الحيلة، يتعامل مع جرح مفتوح مؤلم في وجهه، نتيجة معركة شرسة مع ذكر آخر. قاده بحثه عن الإغاثة إلى اكتشاف الخصائص العلاجية لنبات أكار كونينغ، وهو نبات طبي موطنه الغابات المطيرة الإندونيسية. لكن كيف تمكن راكوس، بذكائه وطبيعته الغريزية، من تجاوز تعقيدات التئام الجروح، وماذا يمكننا أن نتعلم من رحلته الرائعة؟

عندما قام راكوس بوضع لب أكار كونينج على جرحه، أظهر فهمًا واضحًا لخصائص النبات المسكنة والمضادة للبكتيريا. ومن خلال التطبيقات المتكررة، تمكن من تخفيف الألم والانزعاج المرتبط بإصابته. يثير هذا السلوك المتعمد تساؤلات حول المعرفة الفطرية لإنسان الغاب بطب النبات وقدرته على التكيف مع المواقف الجديدة.

ما الذي دفع راكوس للبحث عن أكار كونينج على وجه التحديد؟ هل كانت رائحة النبات القوية النفاذة، أم طعمه المرير، هو الذي ربما يشير إلى خصائصه الطبية؟ ربما لاحظ راكوس أن إنسان الغاب الآخر يستخدم النبات لأغراض مماثلة. مهما كان السبب، فإن تصرفات راكوس تُظهر مستوى من الوعي الذاتي وقدرات حل المشكلات لا تقل عن كونها رائعة.

كشف جذور الطب البشري

بينما نتعمق أكثر في عالم التطبيب الذاتي الحيواني الرائع، نبدأ في الكشف عن العلاقات المعقدة بين البشر والحيوانات والعالم الطبيعي. إن اكتشاف سلوك راكوس في علاج الجروح هو أكثر من مجرد حكاية رائعة – إنه نافذة على تطور الطب البشري.

يثير استخدام نباتات إنسان الغاب والرئيسيات الأخرى للنباتات الطبية تساؤلات مهمة حول أصول الطب البشري. إذا كانت القردة العليا مثل إنسان الغاب، والشمبانزي، والغوريلا تستخدم النباتات لعلاج أمراضها لملايين السنين، فمن أين تعلم البشر هذا السلوك؟ هل اكتشفنا النباتات الطبية بشكل مستقل، أم أننا تعلمنا من أبناء عمومتنا الرئيسيات؟

قد تكمن الإجابة في تاريخنا التطوري المشترك. لقد اختلف البشر والقردة العليا عن سلف مشترك منذ حوالي 6-8 ملايين سنة. خلال هذا الوقت، من المحتمل أن أسلافنا عاشوا على مقربة من بعضهم البعض، وتبادلوا المعرفة والسلوكيات. من الممكن أن يكون البشر الأوائل قد تعلموا عن النباتات الطبية من خلال مراقبة وتقليد سلوكيات أبناء عمومتهم من الرئيسيات.

الآثار المترتبة على هذا الاكتشاف عميقة. إذا تعلم البشر في الواقع عن النباتات الطبية من القردة العليا، فهذا يعني أن فهمنا للطب البشري يرتبط بشكل أساسي بالعالم الطبيعي وتراثنا الرئيسي. وهذا يتحدى نظرتنا التقليدية للطب البشري باعتباره اختراعًا بشريًا بحتًا، مما يسلط الضوء على أهمية الترابط بين البشر والعالم الطبيعي.

لماذا تلتهم أنثى فرس النبي شركائها الذكور؟

حشرة فرس النبي هي رمز للجمال والهدوء. فمنظرها تطفو على ورقة أو زهرة -بجسدها الأخضر أو البني النحيل، لابثة بلا حراك، منتظرة بصبر وجبتها التالية- منظر ساحر ويدعو إلى البهجة. ولكن هناك جانب مظلم لهذه الحشرة استحوذ على خيال العلماء وهو أكلها الشريك الجنسي. تشتهر أنثى فرس النبي بأنها تلتهم شركائها الذكور أثناء التزاوج أو بعده. لكن لماذا تنخرط أنثى فرس النبي في هذا السلوك الذي يبدو شنيعًا؟ سنتعرف أكثر على الفرضيات التي تفسر هذا السلوك وأمثلة أخرى مشابهة في عالم الحيوان في هذا المقال.

تناول الشريك يزيد الخصوبة الجنسية

درس العلماء سلوك التكاثر الوحشي لدى فرس النبي لعقود من الزمن، وقد اقترحوا العديد من الفرضيات لتفسير ذلك. واحدة من أكثر النظريات شيوعًا هي أن أكل اللحوم الجنسي يزيد من لياقة الأنثى ويزيد خصوبتها الجنسية. من خلال تناول الذكر، تكتسب الأنثى كمية كبيرة من العناصر الغذائية التي يمكن أن تساعدها على إنتاج المزيد من البيض أو النسل الأكثر صحة.

حاول الباحثون دعم هذه الفرضية من خلال ما اكتشفوه من أن الإناث اللواتي يأكلن الذكور يكتسبن كتلة جسم أكبر من الإناث اللواتي منعوا عنهن الذكور. وأيد الباحثون هذه الفرضية عندما وجدوا أن الإناث التي تتغذى بشكل جيد كانت أقل احتمالية لأكل رفقائها مقارنةً بالإناث سيئة التغذية. وسميت هذه الفرضية بفرضية استراتيجية البحث عن الطعام. [1]

فيديو يوضح طريقة التزاوج المتضمنة لالتهام الشريك لدى فرس النبي

فرضية اختيار الشريك

تقول هذه الفرضية بأن التهام أنثى فرس النبي للشريك الجنسي لا يتأثر بالجوع كما افترضت فرضية استراتيجية البحث عن الطعام. بل هي استراتيجية للتخلص من الأزواج غير الجذابين. ودعم الباحثون هذه الفرضية بدليل أن الذكور الأصغر هم أكثر عرضة للالتهام من الذكور الأكبر حجمًا، على افتراض أن الحجم الصغير هو سمة سلبية في الذكور. [1]

تعمل الإناث بهذا السلوك على تصطفية الذكور الأقوى والأضخم للحفاظ على استمرارية النوع، من خلال التهام الذكور الضعاف وذوي الحجم والكتلة الصغيرين. نشر ريتشارد دوكينز عام 1976 تلك الفكرة بصورتها الأعم في كتابه الجين الأناني يقول بأن الهدف الوحيد لأشكال الحياة البيولوجية هو نقل الحمض النووي الخاص بها من جيل إلى آخر. من هذا المنظور، قد لا تكون الأجساد التي نعيش فيها أكثر من أوعية للمعلومات الجينية التي تحتويها. وبمجرد أن يتم نشر هذه الجينات للجيل التالي، فإن الجسد المادي ليس له فائدة تذكر. [3]

لكن تم دحض هذه الفرضية بعد أن أثبتت الأبحاث اللاحقة أنّ إناث فرس النبي لا تكترث بحجم الذكر الذي تلتهم رأسه بعد كل جماع، بل على العكس هي تأكل الذكر أيًا كان حجمه. ووجدت أيضًا فرضية أخرى تعزز مفهوم اصطفاء القوة لدى فرس النبي، وهي فرضية الانتشار العدواني.

فرضية الانتشار العدواني

تعزز أنثى فرس النبي استنادًا إلى طرح هذه الفرضية مهاراتها الدفاعية، حيث أنّها تعرضت لهيمنة أو عنف الشريك الذكر. مما دفعها إلى التطور عبر الزمن وصولًا إلى سلوكها العنيف في التزاوج. أي يساعد هذا السلوك إناث فرس النبي على تجنب التحرش أو الإكراه من قبل الذكور. وبذلك قد يكون التهام الشريك وسيلة أنثى فرس النبي لتأكيد هيمنتها وتثبيط التقارب الجنسي غير المرغوب فيه. وإضافة إلى كونه سلوكًا دفاعيًا، تفترض هذه الفرضية أنّ سلوك التهام الشريك قد يعزز مهارات الصيد لدى الأنثى. [1]

وساد الاعتقاد بأنّ سبب تناول الأنثى للشريك، ناتج عن عدوانيتها المفرطة التي تدفعها للخلط بين الشريك والفريسة. فنتيجة لتمرس الأنثى على الصيد أو ممارسة السلوك العنيف بشكل مفرط كآلية دفاعية، أصبح ذلك دافعًا لها لممارسة الالتهام.[3] لكن تم دحض هذه الفرضية عندما تبين أنّ العدوانية ليست شرطًا أساسيًا في الإناث التي تلتهم شركائها. كما لم يثبت علميًا حتى الآن أن زيادة العنف لدى إناث فرس النبي يحدث تغييرًا واضحًا في سلوكها اتجاه الذكور خلال التزاوج أو قبله. ولكن كل ذلك يطرح تساؤلًا هامًا، هل يحاول الذكور التملص من تلك العدوانية أم أنّهم يقبلونها طواعية؟

تفسير قبول ذكور فرس النبي للافتراس

فرضية الانتحار الكيفي

تقول هذه الفرضية بأن قبول ذكور فرس النبي بهذا السلوك الجنسي العنيف نابعة عن أنّهم يضحون بأنفسهم أو يستثمرون بأنفسهم في سبيل استمرارية النسل. أي أنّهم يتقبلون هذه الخاتمة البائسة على اعتبار أنّها ستحقق مكاسب أكبر من ناحية الحفاظ على نسلهم أو أن يكونَ أكثر صحة. مما يدفع ذكور فرس النبي إلى تقديم أنفسهم طوعًا كوجبة دسمة للإناث. [1]

لكن ناقضت الأبحاث تلك الفرضية، فالذكور يحاولون التملص من الإناث خلال العلاقة الجنسية. ولا ترتفع عتبة المغامرة إلّا في حالات الذكور الذين لم يتعرضون لمواجهات عديدة مع الإناث، نتيجة نقص في عدد الإناث في محيط الذكر الحيوي. أي أن سلوك أنثى فرس النبي الجنسي غير تكيفي كما يعتقد. ورغم أنّ الافتراضات كثيرة إلّا أنّ أنثى فرس النبي قد أثبتت أنّها حشرة شرسة ليس فقط بسبب سلوكها الجنسي العنيف مع الشركاء من نفس نوعها، بل بسبب قدرتها على تناول الطيور أيضًا. [1]

أنثى فرس النبي في مواجهة طائر الطنّان

نعلم جميعًا أنّ الحشرات تعدّ الوجبة الرئيسية التي تتغذى عليها الطيور، وتساهم بنسبة كبيرة في تغذيتها. ولن يلفت انتباهنا أبدًا منظر طائر يحمل حشرة في فمه حتى وإن كانت أكبر منه. لكنّ وعلى العكس، قد تدفعنا مشاهدة صورة كالتي في الأسفل، إلى مسح نظاراتنا وفرك أعيننا. فلا ريب أنّ رؤية رقبة طائر الطنّان اللطيف بين ملاقط أنثى فرس النبي منظر غريب ومثير للدهشة.

أنثى فرس النبي تصطاد طائر طنان

تشير أوصاف مختلفة إلى أنّ أنثى فرس النبي قادرة على أن تتغذى على طائر الطنان عبر إمساكه في بطنه. وقد تقوم بمباغتته وليّ عنقه، وثم التغذي على رأسه. ورغم أنّ العلماء قد رصدوا هذا السلوك العنيف من فرس النبي منذ زمن طويل، إلّا أنهم لم يلحظوا مهاجمته لطائر آخر. مما يعني أنّ طائر الطنّان هو الضحية الوحيدة التي تم رصدها حتى الآن. وربما يعود السبب إلى تقارب حجم فرس النبي مع طائر الطنّان.[2] لكن هل سلوك التهام الشريك الجنسي شائع في عالم الحيوان، أم هو حكر على فرس النبي؟

حيوانات أخرى تلتهم شركاءها خلال أو بعد التزاوج

منحت عنكبوت الأرملة السوداء اسمها المشهور وذائع الصيت بسبب سلوكها الجنسي أيضًا. فهي تتناول شريكها بعد العلاقة وتطعم جسده لأطفالها أيضًا. ولكن الأكثر إثارة للدهشة هو ذكور العناكب ذات الظهر الأحمر الذين يؤدون ما يصفه العلماء بأنه شقلبة مباشرة في أفواه الإناث بعد التزاوج! أداء جمباز مميت، ولكنه فعّال أيضًا، فالذكور الذين يضحون بأنفسهم ينجبون ضعف عدد الأطفال.

كما أنّ تناول الشريك ليس حكرًا على الحشرات أو العناكب فحسب، فأفعى الأناكوندا العملاقة قد تخنق شريكها أيضًا وتتغذى عليه. إذ أن أنثى الأناكوندا أكبر حجمًا من الذكر، مما يسهل عليها المهمة. [3] تبدو الإناث شريرة تمامًا في عالم الحيوان، أليس كذلك؟ فهل سلوك التهام الشريك الجنسي حكرٌ على الإناث أم تحتوي مملكة الحيوان نموذجًا منصفًا للطرفين؟

الذكور والإناث في معركة الحفاظ على الذات

تشارك متساويات الأقدام ” Isopods” -وهي نوع من القشريات- في سلوك التهام الشريك الجنسي. رغم أنه في حالتها يسير الأمر في كلا الاتجاهين. حيث شوهد كلٍ من الذكور والإناث يأكلون شركائهم بعد ممارسة الجنس.

ورغم أنّ الباحثين ليسوا متأكدين تمامًا من سبب أكل الذكور للإناث في بعض الأحيان، إلّا أنّ الذكور قد واجهوا مشكلة تكوين نسل معهن. ويقول العلماء إنه قد يحدث ذلك فقط عندما تموت الإناث بعد فترة وجيزة من التزاوج، أو عندما يعاني الذكور من نقص خطير في الطعام. ولذلك ربما لا يكون هذه النموذج منصفًا للذكور حقًا. [3]

في الختام، بغض النظر عن الأسباب التطورية وراء سلوك تلك الكائنات، يظل تناول الشريك الجنسي جانبًا مثيرًا للجدل في سلوك ال. في حين أن بعض الناس يجدونها مثيرة للاشمئزاز أو مزعجة، يرى آخرون أنها تعبير طبيعي عن غرائز أنثى فرس النبي المفترسة وسعيها الدؤوب للبقاء والتكاثر. وبينما يواصل العلماء استكشاف أسرار هذه الحشرة الغامضة، هناك شيء واحد مؤكد. ستستمر أنثى فرس النبي في أسرنا وإثارة اهتمامنا بجمالها وجانبها المظلم.

المصادر:

1- Adaptive Value (reed.edu)
2- Praying Mantis Devours Hummingbird in Shocking Photo (nationalgeographic.com)
3- Sexual Cannibalism: Why Females Sometimes Eat Their Mates After Sex | Discover Magazine

ما هي تقنية النانو وكيف بدأت؟

غالبًا ما تؤدي الأحلام والخيال البشري الخصب إلى ظهور علوم وتقنيات جديدة تماماً. ومن رحم هذه الأحلام كانت تقنية النانو ملتقى الخيال العلمي مع الحقيقة. فما هو النانو؟ وما هي تقنية النانو؟ كيف بدأت؟ وإلى أين تتجه اليوم في القرن الحادي والعشرين؟

ما هو النانو “NANO”؟

قبل أن نبدأ الحديث عن تقنية النانو لنلقي نظرة عن مفهوم النانو. تُشتق البادئة “nano” من الكلمة اليونانية القديمة “nanos” والتي تعني القزم. أما اليوم فتستخدم على مستوى العالم كبادئة تعني عامل بالشكل (9-)^10. وإذا قرنت كلمة نانو مع كلمة متر ستجلب مصطلح النانو متر والذي يشير إلى وحدة قياس مكاني تساوي جزء واحد من مليار جزء من المتر أو من (وحدة القياس).

اقتُراح مفهوم “النانومتر” لأول مرة من قبل “ريتشارد أدولف زيجموندي – Richard Adolf Zsigmondy”، الحائز على جائزة نوبل عام 1925 في الكيمياء، لوصف حجم الجسيمات.

ريتشارد أدولف زيجموندي

لمساعدتكم في تخيل النانومتر نستعرض المثال التالي:

لنفرض أننا قطعنا متراً إلى 100 قطعة متساوية، فسيكون حجم كل قطعة سنتيمتراً واحداً هذا يعادل حجم مكعب السكر. إذا قطعنا السنتيمتر إلى مائة قطعة متساوية، فستكون كل قطعة مليمترًا واحدًا. يتراوح حجم حبة الرمل من 0.1 مم إلى 2 مم. ويمكن رؤية الأشياء الصغيرة مثل المليمتر بالعين المجردة ولكن عندما تقل أبعاد الجسم عن المليمتر فقد يكون من الصعب تمييزها.

إذا قمنا بتقطيع المليمتر إلى مائة قطعة متساوية فسيكون طول كل قطعة ميكرومتراً. ويبلغ قطر الشعرة من 40 إلى 50 ميكرومتراً. وعادة لا يمكن رؤية الأشياء على هذا المقياس بأعيننا، بل يمكن تصورها باستخدام عدسة مكبرة أو مجهر ضوئي.

إذا قطعنا ميكرومتراً إلى ألف قطعة متساوية، فسيكون طول كل قطعة نانومتراً! وعندما تكون الأشياء صغيرة إلى هذا الحد لا يمكننا ملاحظتها بأعيننا أو بالمجهر الضوئي. وتتطلب هذه الأشياء الصغيرة أداة خاصة للتصوير. إذ يبلغ الحمض النووي 2 نانومتر، والذرات تكون أصغر من نانومتر. فالذرة الواحدة تبلغ قرابة 0.1-0.3 نانومتر، اعتمادًا على نوع العنصر.

توضيح لمقياس النانومتر مقارنة بحجوم المواد

ما هي تقنية النانو؟

تعرف بأنها أي تقنية تتم على مواد من المقاييس النانوية، فهي العلوم والهندسة والتكنلوجيا التي يتم إجراؤها على نطاق 1 – 100 نانومتر. وتتيح فهم المواد والتحكم بخواصها على المستوي الذري والنووي للتخطيط لعناصر جديدة تنتج ظواهر جديدة لتطبيقات جديدة. حيث تظهر المواد المعدلة على المستوي النانوي خصائص (فيزيائية، وبصرية، وحرارية، وميكانيكية، وكهربائية، وإلكترونية، وغيرها…) فريدة وجديدة تماماً.

تقسم المكونات النانوية إلى هياكل بحسب أبعادها كالتالي:

  • العناقيد النانوية: هي هياكل تتراوح من 1 إلى 100 نانومتر في كل بُعد مكاني. يتم تصنيف هذه الهياكل على أنها هياكل نانوية صفرية البعد 0D.
  • الأنابيب النانوية والأسلاك النانوية: لها قطر بين 1 و100 نانومتر وطول يمكن أن يكون أكبر من ذلك بكثير. ويتم تصنيف هذه الهياكل على أنها هياكل نانوية أحادية البعد 1D.
  • السطوح ذات النسيج النانوي أو الأغشية الرقيقة: يتراوح سمكها بين 1 و100 نانومتر، في حين أن البعدين الآخرين أكبر بكثير. ويتم تصنيف هذه الهياكل على أنها هياكل نانوية ثنائية الأبعاد2D .
  • أخيرًا، المواد الضخمة: ذات الأبعاد التي تزيد أبعادها الثلاث عن 100 نانومتر من الهياكل السابقة تسمى الهياكل النانوية ثلاثية الأبعاد 3D.
أنواع الهياكل النانوية بحسب أبعادها.

ما مقدار أهمية تقنية النانو اليوم؟

تعلمنا تقنية النانو فهم العالم الذي نعيش فيه وتمكننا من فعل أشياء مثيرة للاهتمام عندما ننتقل للمقاييس النانوية.

فعلم النانو وتقنياته يمكن أن يساعدا في إعادة تشكيل العالم من حولنا. إذ نعلم أن كل شيء من حولنا يتكون من ذرات _ الطعام، الملابس، الأبنية، وأجسادنا _ مرتبة بطريقة محددة لتقوم بوظائف محددة، يمكننا أيضًا باستخدام علوم وتقنيات النانو التلاعب وإعادة ترتيب الأجزاء في المواد المختلفة لإنتاج نماذج محددة تقوم بوظائف محددة.

وهناك قضية مهمة لنأخذها في الحسبان وهي أن خصائص الأشياء تتغير عندما تصبح أصغر. بالتالي، عندما يتم التلاعب بالمادة وإعادة تنظيمها على مقياس النانو، سيتمكن العلماء من ضبط خصائص المادة بدقة.

تاريخ تقنيات النانو

منذ حوالي النصف قرن لم تكن تقنية النانو أكثر من مجرد خيال علمي، ثم في عام 1959 قدم الفيزيائي ريتشارد فاينمان الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء خلال اجتماع للجمعية الفيزيائية الأميركية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (CalTech) محاضرة عن مفهوم التلاعب بالمادة والتحكم بها على المستوي الذري. خلق فاينمان بذلك نهجًا جديدًا للتفكير، وبدأت رحلة إثبات صحة فرضياته منذ ذلك الحين. ولهذا السبب يعتبر المؤسس الأول لتقنية النانو.

ريتشارد فاينمان

بعد أكثر من عقد من الزمان، صاغ البروفيسور ” Norio Taniguchi ” مصطلح تقنية النانو (nano-technology).

Norio Taniguchi

ومع ذلك، فإن العصر الذهبي لتقنية النانو بدأ فقط في عام 1981، عندما تم تطوير واستخدام مجهر المسح النفقي الذي مكننا من رؤية الذرات الفردية. وشهدت بداية القرن الحادي والعشرين اهتمامًا متزايدًا بالمجالات الناشئة في علم وتقنيات النانو. ففي الولايات المتحدة دعا الرئيس السابق بيل كلينتون إلى تمويل الأبحاث في هذه التقنية الناشئة خلال خطاب ألقاه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في 21 يناير 2000.

وبعد ثلاث سنوات وقع الرئيس جورج بوش على قانون البحث والتطوير في مجال تكنولوجيا النانو للقرن الحادي والعشرين. وقد جعل هذا التشريع لأبحاث تقنيات النانو أولوية وطنية وخلق مبادرة تقنية النانو الوطنية (National Nanotechnology Initiative) (NNI) والتي لا زالت قائمة حتى اليوم.

حاضر ومستقبل تقنيات النانو

في إطار زمني يقارب النصف قرن، أصبحت تقنية النانو الأساس لتطبيقات صناعية رائعة.

اليوم:

تؤثر تقنية النانو على حياة كل إنسان، والفوائد المحتملة منها كثيرة ومتنوعة. ونرى أنها تدخل في العديد من القطاعات مثل:

  • إدارة وسلامة الغذاء والصناعات الغذائية ومستحضرات التجميل لتحسين الإنتاج ومدة الصلاحية والتوافر البيولوجي وغيرها…
  • إدارة البيئة وتنظيفها وهي واحدة من أكبر مشاكل العالم الحقيقي وأكثرها إلحاحا. ستساعد تقنية النانو في حماية البيئة والمناخ من خلال توفير الطاقة والمياه وتقليل الغازات الدفيئة والنفايات الخطرة مع زيادة متانة المواد التي تدوم لفترة أطول وتقلل إنتاج النفايات، وإنتاج الطاقة المتجددة والمستدامة.
  • قطاع التقنيات الرقمية وتعتبر المدخل الرئيسي لعالم رقمي أصغر وأكثر كفاءة.
  • القطاعات الصحية فهي اليوم تستخدم للوقاية التشخيص والعلاج. وتزيد تقنية النانو من فعالية التصوير الطبي التشخيصي مما يجعل العلاجات أكثر فعالية.
  • ونرى اليوم الكثير من المحاولات لتطوير أنظمة توصيل الدواء للعديد من الأمراض وخاصة دون المستوي الذري. حيث يساعد تغليف الجسيمات النانوية على توصيل الدواء مباشرة للخلايا السرطانية. كما يقلل مخاطر تلف النسج السليمة، مما يغير بشكل جذري الطريقة الحالية المتبعة لعلاجات السرطان. ويقلل بشكل كبير من الآثار السامة للعلاج الكيميائي.

في المستقبل:

فيعتبر العصر الناشئ في الطب هو ” طب النانو” وحصرًا عصر ” الروبوتات النانوية ” التي يمكنها إكمال المهام بطريقة آلية. وتتمتع الروبوتات النانوية بالقدرة على الاستشعار وتمييز الصديق من العدو والاستجابة بتقديم حمولاتها الدوائية وذلك كله على مستوى النانو.

وتسخر تقنية النانو اليوم التقدم الحالي في الكيمياء والفيزياء وعلوم المواد والتقنيات الحيوية لإنشاء مواد جديدة لها خصائص فريدة بفعل هياكلها المحددة على مقياس النانومتر.

كما أدت البحوث العلمية في هذه الأفكار وغيرها على مستوى النانو إلى ابتكارات مثيرة للاهتمام. ورغم ذلك لا تزال تقنية النانو في مرحلة الاستكشاف المبكرة جداً، ولكنها تتطور بشكل سريع. فرغم أن آليات مكافحة الأمراض دون الذرية كانت خيالًا علميًا لعقود من الزمن، فقد اقتربنا اليوم من جعل هذه الفكرة حقيقة. وعلى الرغم من الطبيعة المعقدة للمواد النانوية إلا أن مستقبل تقنية النانو يبدو مشرقاً جداً.

المصادر:

.Haick, P. H. (2013). Nanotechnology and Nanosensors
JE Hulla, S. S. (2015). Nanotechnology: History and future. Human and Experimental Toxicology, p. 42
.kohler, J. M. (2021). Challenges for Nanotechnology. Encyclopedia
.Sakhare, D. (2022). Nanotechnology Applications in Science and Technology

 

هل تمتلك الحيوانات مشاعر الانتقام؟

ضجت الأخبار في الآونة الأخيرة بقصة القرود في الهند التي قتلت 250 كلبًا انتقامًا لقرد رضيع قتلته الكلاب في الهند. حيث قامت عشرات القرود بمهاجمة الكلاب بشكل وحشي واختطفتهم من الشوارع وألقتهم من أماكم مرتفعة!

نشرت وسائل الإعلام صورة لأحد القرود وهو يمسك جروًا صغير ويصعد به إلى مكان مرتفع ويقذفه إلى أسفل. وحينما حاول الأطفال والأهالي حماية الكلاب وجهت القردة غضبها نحو السكان؛ وأُصيب بعضهم بجروح حينما هاجمت القرود طفلًا في الثامنة من عمره وجرّته بعيدًا، إلا أن الأهالي تمكنوا من إنقاذه قبل أن تقتله القردة الغاضبة.

دفعنا هذا الحدث للتساؤل عن مشاعر الانتقام؟ وما تأثيرها على أدمغتنا؟ وهل الانتقام صفة إنسانية خاصّة، أم أنه صفة تطورية تمتلكها باقي الحيوانات أيضًا؟

تفسير الانتقام عند البشر

رغم قسوة الانتقام، إلا أن العلم قد أظهر أن الدماغ البشري يمكن أن يستمتع بأنواع معينة منه. حيث كشفت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي(MRI) أن التفكير في الانتقام ينشط مركز المكافأة. إذ يزيد إنتاج الدوبامين -الناقل العصبي الذي يُشعرك بالرضا- بنفس الطريقة التي يزيد بها عندما تتناول الحلوى أو المخدرات.

في هذا السياق، علينا أن نكون دقيقين جدًا في تمييز أنواع السلوك التي تُعتبر انتقامًا. كما علينا التفكير في السلوكيات التي تولدها الآليات النفسية المصممة للوظائف البيولوجية وفق «مايكل ماكولو- Michael McCullough» أستاذ علم النفس ومدير مختبر التطور والسلوك البشري.

قد تتساءل لم علينا أن نقوم بمثل هذا التمييز بين السلوكيات؟ حسنًا، هناك سلوكيات يمكن أن تبدو كأنها انتقام، ولكنها ليست كذلك. لنأخذ على سبيل المثال شعورك بنشوة الانتقام عند موت قاتل أبيك، هل كان راحة؟ أم إحساسًا بالعدالة؟ أم متعةً بسيطة للانتقام؟

ستسمع الناس يقولون أشياء تبدو صحيحة: إنها تصحيح خطأ ما، أو خدمة العدالة، لكن كل هذا حقًا غير كافٍ ليُسمى انتقامًا. فالانتقام لا يتمحور حول رغبة الإنسان بتحقيق العدالة.

لتعريف الأمثل للانتقام هو رغبتك بجعل مكاسب الأشخاص الذين قاموا بإيذائك أقل، كأن تصل إلى أعمق نقطة منهم وتُغير شعورهم الجيد الذي حققوه عند إيذائك.

أحد أهداف الانتقام هو تغيير حوافز عدونا لمواصلة الكفاح العنيف ضدنا. ترتفع رغبتك بالانتقام عندما يشاهد أشخاص آخرين تعرضك للإهانة، لأنك في تلك الحالة تفكر أنك إذا لم تنتقم ستُصبح لقمة سائغة في فم الجميع.[1[

هل يجب أن يكون الفعل قويًا ليُعتبر انتقامًا؟

ليس من الضروري حقًا أن يكون الفعل قويًا، مثلًا عندما تقود سيارتك ويصادفك سائق يتصرف معك بأسلوب متبجّح، قد تختار الصراخ أو الشتم. سبابك لن يدفع  السائق الآخر للخوف منك أو تحاشيك ولكنه نوعًا ما سيجعلك تشعر أن ذلك السائق لم يستطع إيذائك دون أن ينال عقابه.

قد يبدو السلوك غير فعال في العالم الحديث، ولكنه كان ليكون فعالًا جدًا في الوقت الذي ضُبطت فيه عقولنا حيث كان عدد الناس والمجموعات أقل مما هو عليه الآن.

ما هي آثار مشاعر الانتقام على الدماغ؟

نحن لا نشعر بالانتقام من أي شخص، ولكن نشعر بالرغبة في الانتقام حصرًا عندما يأتي الأذى من شخصٍ نهتم به ونعرفه جيدًا. لذا كغريب يشاهد الأحداث لن تشعر بشيء. فعندما يتعرض شخص ما للإهانة أو سوء المعاملة، لا ينشط نظام المكافأة في الدماغ فحسب، بل تنشط قشرة الفص الجبهي الأمامية للدماغ أيضًا.

تنشط هذه المنطقة عندما تخطط لتحقيق هدفٍ ما. لنقل أن هناك شيء تريد العمل عليه، مثل التدريب للماراثون القادم. حين نخطط لهذه الأنواع من الأهداف، نرى نشاطًا مختلفًا في القشرة الأمامية اليسرى. يهدف هذا النشاط إلى التخطيط لكيفية وصولنا إلى ما نريده. يبدو الانتقام في دماغنا كرغبة في الحصول على شيء نريده بشدة. [1[

هل نتشارك مشاعر الانتقام مع غيرنا من الكائنات الحية وفقًا لمسارنا التطوري؟

أحد المفاهيم التي اعتقد بعض الباحثين أنها فريدة من نوعها عند البشر هي فكرة الإنصاف، أي أن الجميع يجب أن يحصلوا على نفس المزايا والعيوب. وللتحقق مما إذا كانت الشمبانزي تؤمن بالإنصاف، درس الباحثون كيفية استجابتها لما قد يعتبره البشر حالات غير عادلة.

قام العلماء بوضع الشمبانزي واحدًا تلو الآخر في أقفاص، حيث يمكنها الحصول على الطعام من طاولة منزلقة خارج القفص. وكان لكل شمبانزي حبل يمكنه أن يرمي الطعام على الأرض عند سحبه. لم يقم أيًا من الشمبانزي بسحب الطاولة عندما كانوا يأكلون، ولكن عندما سرق أحد الشمبانزي الطعام من الآخر من خلال شدّ الحبل قام الأول بعدها بسحب الحبل 50% من المرات. تعتبر هذه التجربة دليلًا على أنهم يغضبون عندما يتم إيذائهم ويقومون بالانتقام حقًا.

هل يختلط انتقام القرود بالحقد؟

حسب التجربة السابقة نفسها، عندما وضع الباحثون الطعام أمام الشمبانزي ومنعوهم من الأكل، لم يسحبوا الحبل أو يرموا الطعام لمجرد رؤية القردة الأخرى تأكل منه. وهذا يشير إلى أن الشمبانزي ليس حاقدًا، فهم لم يعاقبوا باقي القردة لحصولهم على ما لا يمكنهم هم أنفسهم الحصول عليه. [2]

ما هي آلية انتقام القرود من بعضها؟

لا تعبث مع قرد، لأنك إذا فعلت ذلك، قد ينتقم من عائلتك وأصدقائك! ففي دراسة أُجريت على قرود المكاك اليابانية، ظهر أنها تجمع المعلومات عن شركاء بعضها البعض لتستفيد منها عندما يحين وقت الانتقام. اهتم الباحثون بمسألة كيفية حصول المكاك على مثل هذه الدراية الاجتماعية والاستفادة منها، لذا قرر الباحثون التركيز على نوبات العدوان.

اطلعت المجموعة البحثية على أكثر من 500 ساعة من تسجيلات الفيديو التي تظهر التبادلات التي جرت في مجموعة من 57 قرد مكاك يعيشون في حديقة حيوانات روما. ثم قاموا بتحليل حوالي 15,000 حلقة من العدوان التي خاضها القرود، منتبهين إلى العلاقات بين الأفراد المعنيين.

أولًا، أكد الباحثون أن القرود التي تجد نفسها في الطرف المعتدَى عليه تميل إلى الالتفاف ورد العدوان على طرف ثالث. وغالبًا ما يوجه هذا الانتقام إلى أحد أقارب المعتدي الأصلي. ولكن كيف تحدد القرود من هم الأقرباء؟

حسنًا، قد تعتقد أن الإجابة تكمن في أنهم كانوا متواجدين لفترة كافية ليكبروا سويًا، ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال. عندما نظر الباحثون في الصراعات التي تنطوي على القرود الأكبر سنًا، تبين أن الأقارب لم يتم استثنائهم من الانتقام. حيث بدا أن الضحايا سيستهدفون شركاء مهاجمهم (القرود الأخرى المرافقون له). إن لم يكونوا أقاربه، فهم على الأرجح المقربون منه.

ومن المثير للاهتمام، أن هناك فائدة لضرب أفراد الأسرة في سبيل تحقيق العدالة. كانت قرود المكاك التي بحثت عن أقارب القرود التي أرادت تسوية الحساب معهم أقل عرضة للإيذاء مرة أخرى في المستقبل. في حين بدا أن النحيب على الأصدقاء لم يقدم سوى ارتياح فوري، ولكن لن يضمن الحماية في المستقبل. [3]

المصادر

  1. scientific american
  2. live science
  3. scientific american

اختبار مقدمة في علم النفس التطوري

هذه المقالة هي الجزء 10 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

املأ الاستمارة من فضلك في نهاية الاختبار، فستساعدنا في استخراج شهادة بإتمامك قراءة مقالات المساق.

هذا المساق متاح للأعضاء المسجلين فقط، سجل عضوية في موقعنا وسيتاح لك إكمال الاختبار للحصول على شهادة.


السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

تعيش الطفيليات على كائنات أخرى تسمى المضيفات، ويعتمد بقائها على انتقالها من مضيف إلى آخر، وعلى الرغم من أنه من الممكن أن يعيش الطفيل على المضيف من دون أن يسبب له ضررًا إلا أنه في كثير من الأحيان يكون مضر، ويصل هذا الضرر إلى قتل المضيف، ولا يقتصر هذا الضرر على أجسام المضيفات فقط بل طورت بعض الطفيليات القدرة على التحكم بدقة في سلوك مضيفاتها بطرق تعزز انتقال جينات الطفيل في الجيل القادم لتضمن استمرار وجوده. على سبيل المثال يصيب طفيل «toxoplasma gondii» الفئران فيستحث جاذبية قوية ومميتة في الفئران للقطط، فتدخل هذه الطفيليات لأجسام القطط بعد تناول الفئران لتكمل هناك دورة حياتها؛ إنه انتحار فعلي للفأر نتيجة تلاعب هذا الطفيل متناهي الصغر في سلوكه!.

في الحقيقة عالم الطفيليات مليء بالكثير من هذه الأمثلة، وفي هذا المقال سنتعرف على العديد منها، وعلى بداية البشرية في فهم كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟، وسنحاول أيضًا معرفة إذا ما كان يمكن للطفيليات أن تتلاعب بسلوك الإنسان أيضًا. [2]

في عام 1982 وضع ريتشارد دوكينز مصطلح النمط الظاهري الممتد لأول مرة، والّذي ينص على أن السلوك الذي نلاحظه في الحيوانات ليس فقط بسبب التعبير عن جيناتهم، ولكن أيضًا بسبب التعبير عن جينات الطفيليات التي تعيش بداخلهم، وفي هذه الحالة التلاعب بسلوك المضيف هو النمط الظاهري الممتد للطفيل. [1]

يتلاعب الطفيل بسلوك المضيف عن طريق التحكم في الجهاز العصبي للمضيف وبالتالي هناك فرع ناشيء من العلوم يعرف بعلم الطفيليات العصبية، ويوفر هذا الفرع إمكانية اكتشاف كيف يمكن للطفيل أن يعدل في شبكة عصبية معينة للمضيف وبالتالي في سلوكيات معينة. توفر مثل هذه التفاعلات بين الطفيليات والمضيفات التي تطورت على مدى ملايين السنين أدوات فريدة يمكن من خلالها تحديد كيف ينظم التعديل العصبي صعودًا أو هبوطًا لسلوكيات معينة. [2]

لماذا أهتم العلماء بدراسة تلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

لقد ولدت قدرة الطفيليات على تغيير سلوك المضيفات مؤخرًا اهتمامًا غير عادي لكل من العلماء وغير العلماء، وكان هذا الاهتمام مدفوعًا جزئيًا بالأمثلة المكتشفة حديثًا والتي كانت غريبة ومثيرة، ولكن هناك أسباب أخرى أيضًا دفعت العلماء لدراسة هذه الظاهرة مثل: فهم دورة حياة الطفيل بشكل أفضل، وحقيقة أن هذا الطفيل يمكن أن يعمل «كمهندس عصبي-neuroengineer» عند سيطرته على سلوك المضيف. [1]

يكون الطفيل قادرًا على السيطرة على الجهاز العصبي المركزي للمضيف، ويتطور بشكل يجعله قادرًا على التحكم في سلوك هذا المضيف، فيمثل تجربة مستقلة في التطور حيث تكون فيها جينات إثنين من الكائنات الحية_الطفيل والمضيف_ تسيطر على نفس الدماغ _دماغ المضيف. سبب آخر للتركيز المتزايد هو تغيير الطفيل لسلوك مضيفه بطريقة تشير إلى اختطاف قدرته على إاتخاذ القرارات، وهذا من شأنه أن يوفر رؤى أساسية في البيولوجيا العصبية للسلوك. على الرغم من أن فهمنا للآليات العصبية للتلاعب الطفيلي لا يزال غير كامل إلا أنه كان هناك تقدمًا كبيرًا على مدى السنوات القليلة الماضية، وكانت معظم الدراسات للحالات التي تتلاعب فيها الطفيليات بالحشرات، و يتراوح تنوع الطفيليات التي يمكنها التلاعب بسلوك الحشرات من الفيروسات إلى الديدان وتشمل أيضًا الحشرات الأخرى. في هذا المقال سننظر للإدراك بمعنى واسع باعتباره قدرة الحشرات على التصرف ليس فقط مثل الإنسان الآلي، ولكن قدرتها على اتخاذ قرارات مستنيرة وسلوك موجه نحو الهدف في بيئة ديناميكية.

تُظهر الأدلة المتراكمة الحديثة أن الحشرات هي أكثر من مجرد إنسان آلي وقادرة على التعبير عن أنماط السلوك العفوي التي تم إنشاؤها داخليًا. على سبيل المثال عندما يطير ذباب الفاكهة في ساحة بيضاء خالية تمامًا من الملامح، فإنها تعبر عن أنماط ذاتية المنشأ من السلوك التلقائي. [2]

ماهي طرق تلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟

بشكل عام قام العلماء بتصنيف هذه الطرق إلى ثلاث فئات رئيسية:

1. الطريقة التي تؤثر على تنقل المضيف ومن ثم تؤدي إلى سلوك انتحاري-suicidal behavior .

2. تحفيز ما يسمى بسلوك الحارس الشخصي-bodyguard behavior.

3. الطريقة اللتي تؤثر على دافع المضيف للتحرك-motivation to move.

بالإضافة إلى هذه الطرق الرئيسية هناك طرق أخرى مثل التلاعبات التي تؤثر على المضيف في سياق اجتماعي كون أن بعض أنواع الحشرات اجتماعية وتعيش في مستعمرات، وبالتالي هذا التلاعب يجعل الحشرة عند إصابتها تُظهِر سلوكًا غير اجتماعي. [2]

السلوك الانتحاري-suicidal behavior

تتلاعب بعض الفطريات والديدان الطفيلية بالنظام المِلاحي لمضيفها بأكثر الطرق غرابة، وينتهي هذا التلاعب بانتحار المضيف نتيجة لوضعه في أماكن تهدد حياته مثلما ذكرنا في المثال السابق للtoxoplasma gondii.

يقع النمل أيضًا ضحية لهذا النوع من التلاعب عندما يصاب بطفيل «Dicrocoelium dendriticum». يعيش هذا الطفيل في البداية في النمل من ثم ينتقل لبعض أنواع الثدييات مثل الأبقار إلا أن طريقة انتقاله يدفع النمل ثمنها حياته. عندما يصيب الطفيل النملة فإنه يتحكم بسلوكها بجعل هذه النملة تغادر المستعمرة مساءً وتتحرك صعودًا إلى قمة العشب، وبمجرد وصولها هناك تثبت فكها السفلي على الجزء العلوي من النصل وتبقى في انتظار أن تلتهمها البقرة. إذا نجت النملة أثناء الليل فإنها تعود إلى الأرض في النهار وتتصرف بشكل طبيعي، وعندما يأتي المساء مرة أخرى يتولى الطفيل السيطرة على سلوك النملة مجددًا ويرسلها إلى العشب لمحاولة أخرى حتى تتجول بقرة راعية، وتأكل العشب بالنملة المتواجدة عليه، وهكذا تبدأ دورة جديدة للطفيل عند دخوله لجسم البقرة.

يمكن أن تقع الصراصير والحشرات الأرضية الأخرى ضحية لديدان الشعر، والتي تتطور داخل أجسامها وتؤدي بها إلى الانتحار في الماء مما يتيح خروج الطفيل إلى بيئة مائية مناسبة لتكاثره. [2]

رعاية النسل

على الرغم من أن الحشرات المنفردة لا توفر الرعاية والأمان لنسلها، إلا أن أحد أكثر التلاعبات السلوكية الرائعة للطفيليات هو إجبار العائل _أي الحشرة_ على رعاية نسل الطفيل. يُعرف هذا التلاعب في طفيليات الحشرات، واللذي يتمثل في إجبار العائل على توفير الحماية لنسل الطفيل من الحيوانات المفترسة بتلاعب «الحارس الشخصي-bodyguard behavior». على سبيل المثال تبدو التفاعلات بين اليرقة « Narathura japonica»ونمل ال«Pristomyrmex punctatus» وكأنها علاقة تبادل منفعة_ارتباط بين كائنين من أنواع مختلفة تعود بالنفع على كلاهما_ ولكن بإلقاء نظرة فاحصة فإن اليرقة تزود النمل بمادة مفرزة غنية بالسكر مما يجعل النمل أكثر عدوانية، وعندما يكون أكثر عدوانية تقل احتمالية ابتعاد النمل بعيدًا عن اليرقة مما يقلل من فرص استهداف اليرقة من قبل الحيوانات المفترسة، وكأن النمل يعمل حارس شخصي لهذه اليرقات. [2]

تأثير الطفيليات على مجتمعات المضيفات

يتضمن تنظيم المجتمع للحشرات الرعاية التعاونية وتقسيم العمل بحيث يكون لكل منها مهمة محددة لصالح المجتمع، ولكن يمكن اختراق هذا التنظيم المعقد من قبل الطفيليات الاجتماعية؛ أحد هذه الطفيليات هو (Maculinea rebeli) الذي يحاكي كيمياء سطح النمل (Myrmica schencki) والأصوات التي يستخدمها للتواصل مما يسمح له باختراق مستعمرات النمل دون اكتشافها. يقع النمل أيضًا ضحية الذباب الطفيلي الناري (Pseudacteon tricuspis) اللذي تضرب أنثاه النملة، وتحقن البيضة في جسم نمل ال (Solenopsis invicta). بعد أن تفقس اليرقة في جسم النملة تتحرك إلى رأسها، وتتغذى في الغالب على الدملمف _ما يعادل الدم في الحشرات_ حتى ما قبل التشرنق مباشرة. ثم تلتهم اليرقة محتويات رأس النملة والتي يسقط عليها الرأس عادةً خاليًا من الجسم، ومن ثم تخرج الذبابة البالغة من رأس هذه النملة. على عكس النمل غير المصاب بالطفيليات واللذي يموت داخل العش، فإن تلك التي تتطفل عليها يرقات الذباب تترك العش قبل وقت قصير من قطع رأسها، ومع ذلك عندما يغادر النمل عشه قبل قطع الرأس فإن سلوكه لا يمكن تمييزه عن النمل غير المصاب بالطفيليات. من الواضح أن دماغ المضيف لا يزال سليمًا عندما يغادر النمل المستعمرة حيث يلتهم الطفيل آخر مرة. [2]

كيف تسيطر الطفيليات على المضيفات؟

بالإضافة إلى الرهبة التي نلاحظ بها التلاعبات الطفيلية المذهلة الموصوفة في هذا المقال هناك حاجة لاستقصاء الآليات لمثل هذه التلاعبات السلوكية. على الرغم من أن فهمنا للآليات العصبية للتلاعب بالطفيليات لا يزال في مهده إلا أنه تم إحراز بعض التقدم الكبير، وقد تبين أنه يمكن أن يكون هذا التلاعب عن طريق تغيير الكيمياء العصبية للدماغ عند تواجد الطفيل بداخل المضيف، أو أن يقوم الطفيل بحقن السم مباشرة في دماغ المضيف من دون الدخول لجسده، ويلعب أحيانًا التلاعب في الأساس الجيني للمضيف دورًا هامًا أيضًا. [1]

هل يمكن للطفيليات أن تتلاعب بسلوك الإنسان؟

اقترح بعض العلماء أن العدوى بُطفيل «toxoplasma gondii» يمكن أن تغير السلوك البشري نظرًا لأن الطفيل يصيب الدماغ وبالتالي يُشتبه في أنه يجعل الناس أكثر تهورًا بل إنه مسؤول عن حالات معينة من الفصام، ومع ذلك لا تزال هذه الفرضية مثيرة للجدل إلى حد كبير وستتطلب المزيد من التحقيقات والدراسات. اليوم البشر المعاصرون ليسوا مضيفات وسيطة مناسبة لأن القطط الكبيرة لم تعد تفترسهم ومن ثم يمكن أن تمثل التعديلات السلوكية في البشر تلاعبًا متبقيًا تَطوّر في مضيفات وسيطة مناسبة. تنص فرضية بديلة على أن هذه التغييرات ناتجة عن قدرات التلاعب بالطفيليات التي تطورت عندما كان أسلاف البشر لا يزالون يُفتَرسون من قبل القطط الكبيرة. [2]

خاتمة مصادر السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟:

إن تلاعب الطفيل بسلوك المضيف شيء يدعو للقلق خاصة في حالة إثبات حدوثه لدى الإنسان أيضًا، ولكنه شيء يدعو للتأمل أيضًا فكيف يمكن لكائن متناهي الصغر أن يجعل كائن آخر يتحرك عكس غريزة البقاء لديه ملبيًا رغبات هذا الطفيل، وعلى الرغم من إنجاز العلماء في فهم هذا التلاعب إلا أننا لازلنا في بداية استكشافنا للطفيليات اللتي طورت التلاعب التكيفي لسلوك المضيف كآلية للتنقل في البيئة.

اقرأ أيضًا: الملاريا من السحر والخرافات إلى نوبل في الطب

مصادر السيطرة على العقل: كيف تتلاعب الطفيليات بسلوك مضيفاتها؟:

  1. cell.com
  2. Frontiers

لماذا تتكاثر أغلب الكائنات الحية جنسيًا؟

لماذا تتكاثر أغلب الكائنات الحية جنسيًا؟

مقدمة

يعد التكاثر الجنسي من أكثر المواضيع المثيرة في الطبيعة. وقد سماه عالم البيولوجيا «جرهام بيل – Graham Bell» «تحفة الطبيعة – The masterpiece of nature» في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه. قد يبدو التكاثر اللاجنسي -من النظرة الأولى- أبسط وأكفأ وأقل كلفة بالمقارنة مع التكاثر الجنسي. يشارك الكائن الحي بنصف عدد چيناته في أي عملية تكاثر جنسي بعكس التكاثر اللاجنسي الذي ينقل فيه الكائن الحي كامل جيناته إلى الجيل الجديد فيما يعرف بـ «ضعف تكلفة الجنس – two-fold cost of sex». ومع ذلك فإن التكاثر الجنسي يعد هو النوع السائد من التكاثر في أغلب الكائنات. وإذا كنا قد تعلمنا من نظرية التطور شيئًا، فمن المؤكد أن هذه العملية المرهقة تمت محابتها لأن لها مميزات أكثر تساعد الكائن على التكيف. فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا التكاثر الجنسي؟ وفيما يلي نستعرض بعض الأسباب التي قد تفسر لماذا يعد التكاثر الجنسي ميزة عن التكاثر اللاجنسي. [2]

دعم الطفرات النافعة

تندر الطفرات النافعة في البيئة المستقرة. يعني حدوث طفرة نافعة بمقاييس الانتخاب الطبيعي وجوب مساعدتها الكائن الحي على التكيف مع تغير البيئة. ففي التكاثر اللاجنسي، لا يمكن دمج طفرتين حدثتا في كائنين مختلفين في كائن جديد. مما يعني أن الطفرات يجب أن تحدث على التوالي، الواحدة تلو الأخرى. أما في التكاثر الجنسي، تندمج طفرات كائنين مختلفين في كائن جديد، مما يعني أن الطفرات تحدث على التوازي. وهذه أحد أهم مزايا التكاثر الجنسي. فالطفرة النافعة تنتشر أسرع وسط أفراد النوع مما يعني تكيفًا أسرع مع بيئة متغيرة. [1] قد يستنتج البعض خطًأ بأن التكاثر الجنسي يؤدي إلى تنوع أكبر في الچينات، ولذا وجب التأكيد على أن هذا غير ضروري. فلنفترض أن هناك چين مسؤول عن الطول A وآخر مسؤول عن القصر a في كائن حي. ولنفترض أيضًا أن طول الكائن يؤدي إلى أن يكون أكثر عرضة للافتراس. فعندها نظرًا لأن أغلب الأفراد الحاملين لجين A سيصبحون وجبات سهلة، فإن الجين a سيسود ضمن أفراد هذا النوع. [3]

تجميع الطفرات النافعة في وجود الطفرات الضارة

أحيانًا ما تحدث طفرة نافعة قد تفيد النوع في أحد أضعف أفراد هذا النوع. فإذا ما حدث هذا مع كائن يتكاثر لاجنسيًا فإن الطفرة النافعة قد لا تكون نافعة بدرجة كافية وسط مجموعة من چينات لا تصنف على أنها أكفأ الچينات. وقد تختفي نتيجة ضعف هذه الچينات مع التكيف مع البيئة. لكن إذا ما حدثت طفرة نافعة في أحد أضعف أفراد النوع وتكاثر هذا الفرد جنسيًا مع فرد آخر يحمل جينات أكفأ، فإن هذه الطفرة ستكون وسط چينات تُبرز ميزتها التكيفية مع البيئة المحيطة. فالتكاثر الجنسي يعني أنه حتى لو حدثت الطفرة في أضعف أفرد النوع، فإنها قادرة على أن تكون موجودة في الأجيال القادمة مع چينات أكثر كفاءة. [1]

التخلص من الطفرات الضارة

في مجتمع لاجنسي، عدا المجتمعات الكبيرة، لا يوجد فرد واحد خالي تمامًا من الطفرات الضارة. ولذا قد يكون أكثر الكائنات كفاءة هو من يمتلك طفرة واحدة ضارة. فعندما يتكاثر هذا الكائن لاجنسيًا فإن الأجيال القادمة سيحدث لها طفرات مختلفة. وإذا كان أحد هذه الطفرات ضارة أيضًا سيكون إجمالي عدد الطفرات الضارة أصبح اثنين. ومن هذه النقطة فإن عدد الطفرات الضارة نتيجة التكاثر اللاجنسي سيزداد ولا يمكن أن يقل. ولكن في التكاثر الجنسي فإنه ليس بالضرورة انتقال الطفرات الضارة من جيل إلى الجيل الذي يليه. فإذا كان أكثر الكائنات كفاءة يمتلك طفرة واحدة ضارة فإن الأجيال التالية قد تتخلص من هذه الطفرة عن طريق دمج الجينات مع الشريك الجنسي، مما يعني أن عدد الطفرات الضارة قد يزداد وقد يقل. [1]

لا ضرورة لوجود وفرة في الغذاء

على الرغم من أن التكاثر الجنسي قد يبدو مكلفًا، ولكن مع ذلك فإن الكائنات التي يمكنها التكاثر جنسيًا ولاجنسيًا تتكاثر لاجنسيًا عندما يكون هناك وفرة في الغذاء. أما عندما يقل الغذاء وتبدأ هذه الكائنات بالجوع فإن هذه الكائنات تبدأ بالتكاثر الجنسي، إذ كلما قل الغذاء أصبح التكاثر اللاجنسي محدودًا. وهذه ميزة أخرى للتكاثر الجنسي فهو لا يحتاج إلى وجود وفرة في الغذاء ففي البيئات القاسية سيكون التكاثر اللاجنسي محدودًا. [3]

استعرضنا سويًّا بعض الأسباب التي قد تفسر تميز التكاثر الجنسي عن التكاثر اللاجنسي ومع ذلك فإن هذه الأسباب لا تشرح لماذا بدأ التكاثر الجنسي من الأساس. كما تختلف ميكانيكية التكاثر الجنسي باختلاف حجم الكائنات الحية. لذا لا يمكن اعتبار أن هذه هي كافة الأسباب التي دفعت لانتشار التكاثر الجنسي في عدد كبير من الكائنات. وهناك الكثير من الفرضيات المطروحة التي تحاول تفسير ذلك التفاوت في الأنواع المختلفة. لا يمكن الجزم بشكل قاطع بسبب بدء التكاثر الجنسي وأسباب تفوقه، لكن ما يمكن الجزم به هو حدوثه منذ مليارات السنين، وأنه مستمر حتى الآن في أكثر صور الحياة تعقيدًا. وما زلنا في انتظار الكثير من الأبحاث والكثير من الدراسات لتكمل باقي القصة. [1]

المصادر

[1] onlinelibrary

[2] Springer

[3] BBC

ردود على نقد التطور

هذه المقالة هي الجزء 12 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

بعد عرض أدلة التطور والرد على الطرح المضاد للتطور الذي يروج له الخلقيون، يحين موعدنا مع الرد على أشهر انتقادات وجهت لنظرية التطور.

التشابه ليس دليلًا على التطور

يعترض الخلقيون قائلين أن التشابه بين تراكيب الكائنات الحية ليس دليلًا على التطور. هذا ادعاء صحيح إلى حد ما، فليست كل التشابهات بين الكائنات الحية يمكن استخدامها على أنها دليل على تطورها من بعضها البعض بشكل مباشر.

على سبيل المثال، يمتلك كل من الطيور والحشرات الطائرة أجنحة، ولكن هذا لا يمكن أن يستخدم كدليل على انحدارهم من سلف مشترك امتلك أجنحة. في الواقع هذا ادعاء خاطئ، فقد طوّر كل منهم تركيبة الأجنحة بشكل منفصل. ولكن كيف يعرف العلماء ما إن كانت هذه التراكيب منحدرة من سلف مشترك أم تطورت بشكل منفصل؟

تكمن الإجابة في معرفة التركيبة والوظيفة للأعضاء التي نقارنها. فمثلًا، لدى كل من الخفافيش والطيور أجنحة، ولكنها مختلفة تمامًا في التركيبة على الرغم من تأديتهم لنفس الوظيفة. فعلى سبيل المثال، يتكون جناح الخفاش من غشاء يمتد بين أصابعه، بينما لا نرى ذلك في أجنحة الطيور.

حقوق الصورة: Macmillanhighered

ولكن عندما نأتي مثلًا لنرى زعانف الحيتان مقارنة بذراع الإنسان، نرى أنهما يتبعان نمطًا واحدًا كما ناقشنا في الجزء الأول من السلسلة. فعلى الرغم من امتلاكهم لوظائف مختلفة تمامًا، فنحن نرى نفس التركيبة. بالإضافة إلى أن زعانف الحوت لا تشبه زعانف الأسماك، ولكنها كما قلنا تتبع نمط الأطراف الأمامية لدى الثدييات. وهو ما يتوافق مع كونها ثدييات أصلًا.

باختصار، نوع التشابه الذي يستخدم للدلالة على التطور من سلف مشترك هو التشابه غير الضروري في تركيبة الأعضاء على الرغم من اختلاف الوظيفة. [1]

وجود فجوات في السجل الأحفوري

ينتقد الخلقيون نظرية التطور باعتبارها تفتقد لاكتمال السجل الأحفوري. فعندما يرون الكم الهائل من الأدلة التي تؤيد التطور من السجل الأحفوري، يقولون أن السجل الأحفوري غير مكتمل.

بالطبع هذا الادعاء صحيح، ولكنه لا يصلح لاستخدامه في نقد التطور. فتكوّن الحفريات عملية نادرة للغاية، ونحن على الأرجح لن نحصل على سجل أحفوري مكتمل في يوم من الأيام. ولكن هذا لا يصلح لمواجهة الكم الهائل من الحفريات التي عثرنا عليها، حيث أن كل حفرية من الحفريات الموجودة في السجل الأحفوري كانت “حلقة مفقودة” في مرحلة ما. على سبيل المثال، كان الاعتقاد سائدًا منذ زمن بعيد أن الإنسان والشيمبانزي متشابهان، ولكن لم تكن هناك حفريات انتقالية لتدعيم فكرة انحدار الإنسان والشيمبانزي من سلف مشترك. أصبح لدينا اليوم سجل أحفوري يزخر بالحفريات الانتقالية التي تحكي لنا قصة تطور الإنسان.

إذًا فمجرد وجود فجوات في السجل الأحفوري لن ينفي وجود عدد كبير من الحفريات الانتقالية المكتشفة بالفعل، ولا يصلح كنقد للتطور. يمكن اعتبار وجود فجوات في السجل الأحفوري دعوة مفتوحة للجميع للمشاركة في سد تلك الفجوات بممارسة البحث العلمي والحملات الاستكشافية لاكتشاف المزيد من الحفريات.

الانفجار الكمبري

ليس لدى الخلقيين حجة أفضل الانفجار الكمبري ليستخدموها في نقد التطور. إلا أنها مبنية على أساس نفس الادعاء السابق كما سنوضح. تتلخص حجتهم أن في مرحلة ما من تاريخ الأرض، ظهر عدد ضخم من الكائنات الحية بشكل “مفاجئ” في السجل الأحفوري. وأن داروين نفسه اعترف بندرة الحفريات مما قبل العصر الكمبري، مما يثبت فرضيتهم عن الخلق المباشر.

ولكن هذا ادعاء غير صحيح بالمرة، فالحياة لم تبدأ في العصر الكمبري. ولكن يمكننا اقتفاء أثر للحياة مما قبل الانفجار الكمبري بحوالي 3 بليون سنة! وصحيح أن الحفريات ما قبل الانفجار الكمبري كانت نادرة في عصر داروين، ولكن هذا كان في عصر داروين فقط!

وجد العلماء العديد من الحفريات مما قبل الكمبري، والتي تعتبر نماذجًا أولية لأشكال الحياة التي عاشت في العصر الكمبري. مثل «بارفانكورينا-Parvancorina»، والتي تُشبه «الترايلوبايت-Trilobites» التي عاشت في العصر الكمبري إلى حد كبير. ولا يمكننا معرفة ما إذا كانت هي الأسلاف الحقيقية للترايلوبايت، ولكننا نرى التشابه في الصفات التشريحية كما تتنبأ نظرية التطور بالضبط. كما عُثر عليها في نفس الطبقات الرسوبية التي يتنبأ التطور بوجودها فيها! [2]

حقوق الصورة: Research Gate

كما عثر العلماء على «الكمبريلا-Kimbrella»، والتي تشابه الرخويات بدرجة كبيرة. ومجددًا، في نفس الطبقات الرسوبية التي تتنبأ بها نظرية التطور. [3] وغيرها الكثير من أشكال الحياة البدائية التي يمكننا العثور عليها مما قبل الانفجار الكمبري، وهذا يقودنا إلى استنتاج مفاده أن الانفجار الكمبري ليس “انفجارًا” حقًا.

أضف إلى علمك أن الانفجار الكمبري استمر لحوالي 20 مليون سنة، وهو ليس بالرقم الصغير! فمهما حدث من تنوع حيوي، فقد حدث على مدار 20 مليون سنة! [4]

في الواقع، لدينا أمثلة على تحولات تطورية كبيرة في فترات أقل بكثير من هذه، فلدينا سجل أحفوري جيد جدًا يوثق تطور الحيتانيات مثلًا. حتى أن نوعًا جديدًا من الحيتان البدائية اكتشف في وادي الحيتان في مصر في 2021 [5]، وأطلق عليه مكتشفوه اسم «فيوميسيتس أنوبيس-Phiomicetus Anubis». ونحن نعلم أن هذا التحول الكبير من حيوانات برية إلى الحيتان حدث في أقل من 10 مليون سنة فقط! [6]

إذًا فالعثور على حفريات انتقالية قبل الانفجار الكمبري تعد صورًا أولية للكائنات التي ظهرت فيه. ومعرفة أن الانفجار الكمبري استمر 20 مليون سنة، تكفي للإطاحة بحجة الانفجار الكمبري، وإثبات أنها لم تعد تصلح لاستخدامها في نقد التطور.

التطور يحدث داخل نفس النوع

يعترض الكثيرون قائلين أن التطور يحدث في نفس النوع فقط، ويتخيلون أن كل أمثلة التطور المرصود هي مجرد تكيفات ولا تصلح لاستخدامها كدليل على التطور. وللرد على هذا الادعاء علينا أولًا معرفة تعريف «النوع-species».

وفقًا للموسوعة البريطانية، النوع هو مجموعة من الكائنات الحية تضم أفرادًا يمتلكون خصائص متشابهة ويمكنهم التزاوج. [7]

والواقع أن هناك تجربة شهيرة توضح حدوث «الانتواع-Speciation»، مباشرة أمام أعيننا. حيث قامت «دايان دود-Diane Dodd» بتجربة بسيطة قامت فيها بعزل مجموعتين من ذباب الفاكهة، ووضعت كل مجموعة في قفص مغلق. قامت دايان بتغذية مجموعة منهم على طعام مكون بشكل أساسي من سكر «المالتوز-Maltose»، بينما غذّت المجموعة الأخرى بطعام مكوّن بشكل أساسي من «النشاء-Starch». وبعد فترة، أطلقت المجموعتين على بعضهما البعض لترى أنماط التزاوج التي سيتخذونها، وهنا كانت المفاجأة!

تزاوج ذباب المالتوز مع ذباب المالتوز، وذباب النشاء مع ذباب النشاء. هذا مثال على الانتواع يحدث أمام أعيننا، فقد أدى الانعزال والعيش في ظروف مختلفة لفترة من الزمن إلى ظهور نوعين من ذباب الفاكهة. [8] ولكنهم يقولون أن الذباب ظل ذبابًا، ولم يصبح أي كائن آخر. أجل، فهل تقول نظرية التطور أن الذباب سيبيض عصافيرًا مثلًا؟

ما يخبرنا به التطور أن التغيرات الصغيرة تتراكم على مدى زمني طويل لتصير تغيرات كبيرة ملحوظة. وكل التغيرات الصغيرة التي نرصدها في المعمل أو خارج المعمل ما هي إلا خطوات صغيرة إذا استمرت وتراكمت، ستصير الكائنات بشكل مختلف تمامًا. فتراكم السنتيمترات (على الرغم من صغرها) سيعطينا عاجلًا أم آجلًا كيلومترات، ولا يمكنك إنكار هذا لأنه لا يعجبك. وهنا قد تتساءل إذا لم يكن التطور الكبير مرصودًا فكيف للعلماء أن يعرفوا حدوثه؟

يعرف العلماء حدوثه من السجل الأحفوري الذي يوثق تطور أنواع كثيرة. كما يعرفونه من علم الأجنة الذي يوفّر أدلة قوية على التطور. وكذلك يعرفونه من الجينوم الذي أثبت حدوث التطور بأدلة قاطعة كما بينت كثيرًا في هذه السلسلة بطولها.

لوسي قرد عادي

نعم، هذا صحيح تمامًا، فالتصنيف العلمي لي ولك وللشيمبانزي والغوريلا والأورانجوتان هو «القردة العليا-Great Apes». وكذلك كان الأوسترالوبيثيكاس (لوسي)، ولكن ليس هذا ما يعنيه الخلقيون، ما يقصدونه هو أن لوسي مجرد شيمبانزي وليست ضمن الخط التطوري للبشر.

وهذا غير صحيح لأننا نجد صفات بشرية لدى لوسي ليست لدى القرود غير البشرية، مثل المشي المنتصب. نعرف أن لوسي قد مشيت منتصبة عن طريق معرفة زاوية تمفصل عظمة الفخذ مع عظمة الحوض في الحفرية. كما عثرنا على حفريات لآثار أقدامها، وهي مشابهة لآثار البشر كما ناقشنا بتفصيل أكثر في الجزء الخاص بالسجل الأحفوري.

رسومات إرنست هيكل

يقولون أن خط الأدلة من علم الأجنة مبني على رسومات إرنست هيكل التي اكتشف لاحقًا أنها مزيفة. حيث رأى هيكل أن الجنين يمر بمراحل أثناء تكونه يكون مشابهًا فيها لأسلافه في مرحلة البلوغ، فيما يُعرف ب«التلخيص-Recapitulation» وهذا لأن الجنين -وفقًا لرأي هيكل- يُلخّص تاريخه التطوري أثناء مراحل تكونه. فعلى سبيل المثال، سيبدأ الجنين البشري بكائن أحادي الخلية، ثم سمكة، ثم يصير كائنًا برمائيًا، وهكذا إلى أن يصل إلى الهيئة البشرية (وفقًا لفرضية هيكل).

وهذا مجرد هراء، فقد قمنا بتخطئة نظرية هيكل في أول فقرة من مقال علم الأجنة. كما دعّمنا الأدلة التي أوردناها من علم الأجنة بصور فوتوغرافية لا علاقة لها برسومات هيكل من قريب أو بعيد. وقد تجاوز العلم رسومات هيكل بسنوات من البحث والتدقيق والتمحيص. ولكن يبقى الخلقيون مولعون بالبحث في ركام الفرضيات العلمية التي قام المجتمع العلمي نفسه برفضها لينتقدوا بها العلم الحديث، وفي هذا تدليس واضح.

عدد كروموسومات الإنسان

يردد الخلقيون عن جهل هذا المثال كثيرًا، فيقولون كيف للإنسان أن يمتلك عددًا مختلفًا من الكروموسومات عن القردة العليا إن كان منهم؟ والحقيقة أن الكروموسوم 2 لدى الإنسان عبارة عن كروموسومين ملتحمين كما أثبتنا بشكل أكثر تفصيلًا في مقال أدلة الجينوم. هذا بغض النظر عن وجود حالات مرضية لتغير عدد الكروموسومات داخل نفس النوع، فلدينا نحن البشر مجموعة من التغيرات الكروموسومية بالفعل:

• «متلازمة داون-Down syndrome»، وتنتج عن وجود كروموسوم زائد مماثل للزوج رقم 21، وبالتالي فإن كل خلايا الجسم تحتوي على 47 كروموسوم بدلًا من 46.
• «متلازمة كلاينفلتر- Klinefelter syndrome»، وتنتج عن وجود كروموسوم X زائد في الحيوان المنوي، فتصبح كروموسومات الجنين XXY.
• «متلازمة تيرنر-Turner syndrome»، وتحدث في الإناث نتيجة عدم نقص وجود كروموسوم X بشكل كلي أو جزئي. [9]

كما أن الأبحاث العلمية أثبتت بشكل قطعي أن الكروموسوم 2 عبارة عن كروموسومين ملتحمين، لذا فلا فائدة من نكرانه أو محاولة الهروب منه. فليتعامل الخلقيون مع ذلك!

«سمكة السيليكانث-Ceolacanth»

يحتج الخلقيون بأن سمكة السيليكانث لم تتطور على مدى ملايين السنين وهذا يجعل منها «أحفورة حية-Living fossil»، وأن هذا يعارض التطور. وهو ادعاء باطل من وجهين:

أولًا، لا تحتم نظرية التطور على كل الكائنات أن تستمر في التغير، فالانتخاب الطبيعي يحافظ على الصفات المناسبة لبيئتها بشكل كافٍ. لذا فوجود أي كائن لم يتغير على مدى سنين كثيرة لا يُعد حجة لتستخدم في نقد التطور.

ثانيًا، لا تعد السيليكانث أحفورة حية أصلًا، فالسجل الأحفوري يزخر بأقرباء السيليكانث المنقرضين مثلما نرى في هذه الصورة (سمكة Latimeria هي نوع السيليكانث الموجود حاليًا). [10]

حقوق الصورة: Ecologica

منذ أن خرجت نظرية التطور إلى النور وهي مبحث مهم من مباحث العلم الحديث. لذا فقد رأينا أن نعرض لكم أبرز أدلة التطور وأكثرها شيوعًا، مع العلم بأن هناك عدد أكبر من الأمثلة في كل خط من خطوط الأدلة التي ناقشناها. ويستمر البحث في نظرية التطور، وتستمر الأدلة في الزيادة، ونستمر في إطلاعكم بكل جديد في مجال العلوم.

المصادر

[1] Berkeley
[2] Fossil Fandom
[3] Nature
[4] Springer
[5] Royal Society
[6] Whales
[7] Britannica
[8] Berkeley
[9] About Kids Health
[10] Ecologica

التصميم الذكي في ميزان العلم

هذه المقالة هي الجزء 11 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

يلقى التصميم الذكي تأييدًا واسعًا لدى معارضي التطور، حيث يلجأون إليه في تفسير تنوع الكائنات الحية. لكن هل تصمد هذه الفكرة أمام نظرية التطور حقًا؟ سرعان ما يظهر تفوق التطور في توفير تفاسير علمية حقيقية للطبيعة، واليوم سنضع التصميم الذكي في ميزان العلم للرد عليه وعلى الادعاءات غير العلمية التي يرددها مؤيديه.

ليس غرضنا من هذا المقال التعرض لمسألة خلق الحياة من قريب أو من بعيد، فالتطور لا يناقش فكرة الخلق. التطور غير معنِي أصلًا بتلك المسائل أو بتفسير نشأة الحياة، وإنما يسعى لتفسير التنوع الحيوي بعد أن نشأت الحياة أصلًا. إن كنت تبحث عما يعارضه التطور، فالتطور يعارض مفهوم الخلق الخاص لكل نوع بشكل منفصل عن الأنواع الأخرى بالتحديد. وقد وجب التنبيه لكي لا يُساء فهم مغزى المقال.

هل فكرة التصميم الذكي علمية؟

يحاول الخلقيون إقحام التصميم الذكي كتفسير علمي للتنوع الحيوي. ولكن سرعان ما ينهار أمام معايير الفرضية العلمية، وهذا لأن من معايير الفرضية العلمية أن تكون:

1- تركز على العالم الطبيعي المادي. إذ يطرح مؤيدو التصميم الذكي الفرضية كتفسير للتنوع الحيوي الطبيعي، والصفات التشريحية والجزيئية المادية لدى بعض الكائنات.

2- تسعى لتفسير العالم الطبيعي. ويدعي الخلقيون أن التصميم الذكي يفسر العالم الطبيعي ولكنه سرعان ما يكون مختصرًا للغاية في تفسيراته. على سبيل المثال، يفسر التصميم الذكي وجود السوط البكتيري بأنه بفعل مصمم ما ذكي، ولكنه يفشل في توفير أي معلومات عن طبيعة هذا المصمم أو عن كيفية تصميمه للسوط البكتيري.

3- تستخدم أفكارًا قابلة للاختبار. إذ يجب على أي فرضية علمية تقديم توقعات وتنبؤات بشأن الملاحظات التي نرصدها في العالم الطبيعي لتأييد أو دحض الفرضية. ولكن نظرًا لأن التصميم الذكي لا يعطي تفسيرًا لكيفية التصميم أو ماهية المصمم، فإنه يفشل في توفير تنبؤات دقيقة من شأنها أن تساعدنا على معرفة مدى صحة هذه الفكرة. باختصار، التصميم الذكي غير قابل للاختبار. أي لا يمكن أن يضع مؤيدوه شروط يمكن حينها إسقاط فرضية التصميم الذكي، بالتالي تفقد فرضية التصميم الذكي ركن أساسي في بنائها العلمي.

4- تقوم على الأدلة

نظرًا لكون التصميم الذكي غير قابل للاختبار فهو يفشل في طرح أدلة لدعمه. ولكن داعمو هذا الطرح يعمدون إلى الاستدلال على طرحهم بتوجيه الانتقادات للتطور (مثل فكرة التعقيد غير القابل للاختزال)، والتي تم اختبارها ودحضها علميًا كما سنبيّن بعد قليل.

5- تشمل المجتمع العلمي

لا ينشر مروجو التصميم الذكي أبحاثهم في المجلات العلمية المرموقة. ويقاومون تعديل أفكارهم لمواءمة تدقيق المجتمع العلمي والبيانات العلمية، ولكن لهم مجتمعًا خاصًا بهم. وهو مجتمع مسخّر لدعم أفكارهم، وليس لمحاولة فهم وتفسير العالم الطبيعي.

6- تساهم في حركة البحث العلمي

حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، لم يساهم التصميم الذكي في أي اكتشاف علمي جديد. بالطبع يستمر مؤيدو هذا الطرح في الكتابة عن هذه الفكرة ولكنه عمل غير إنتاجي، لا يساعد في تقديم أي تفسيرات دقيقة للعالم الطبيعي. [1] بالإضافة طبعًا إلى كون التصميم الذكي قائم على أكتاف أيدولوجيات دينية مبنية على تأويلات وفهم معين لبعض النصوص الدينية، مما يلقي به خارج سياج الفرضيات العلمية.

خلاصة ما سبق، إن فرضية التصميم الذكي هي أبعد ما تكون عن الفرضية العلمية. حتى لو كانت تسعى لتفسير العالم الطبيعي. وعلى الرغم من تقديم داعمي هذه الفرضية بعض الادعاءات قابلة للاختبار (وخاطئة) بشأن التطور، فالتصميم الذكي نفسه غير قابل للاختبار وفق المنهجية العلمية.

«التعقيد غير القابل للاختزال-Irreducible complexity»

التعقيد غير القابل للاختزال هو مصطلح صاغه «مايكل بيهي-Michael Behe» عام 1996 في كتابه «صندوق داروين الأسود-Darwin’s Black Box». وهو مصطلح يشير إلى الأنظمة الحيوية التي – من وجهة نظر بيهي – تعتمد في عملها على مجموعة من الأجزاء التي تعمل في تناسق مع بعضها البعض. ولا يمكن للنظام أن يعمل إذا تم استبعاد أحد هذه الأجزاء منه، وأن كل جزء في هذه الأنظمة لن يؤدي أي وظيفة بذاته. وبالتالي استحالة أن تكون هذه الأنظمة تطورت تدريجيًا، وإنما تحتاج إلى مصمم من وجهة نظر بيهي.

تكاد هذه الفكرة أن تصبح الدليل الوحيد القابل للمناقشة والتي يقدمها مروجو التصميم الذكي. وعلى الرغم من أن هذا الادعاء يعتمد على فجوات معرفية متوهَمة في العلم ليقحم فيها تفسيراته الأيديولوجية. وعلى الرغم من إثبات خطأ هذا الادعاء علميًا، إلا أنه ما زال يتردد على مسامعنا حتى اليوم. ولهذا رأينا أن نناقشه ونستعرض بعض أمثلتهم للرد عليها.

العين البشرية

بقع العين في الإيوجيلينا. مصدر الصورة: reference.com

يرى مروجو هذا الطرح أن العين البشرية معقدة للغاية، وتتكون من عدد من الأجزاء لا يمكن أن تعمل العين بدون إحداها. إذا فالعين لا يمكن أن تكون قد تطورت تدريجيا وإنما تحتاج إلى مصمم قام بخلقها بشكل مباشر. أليس كذلك؟

يبدو الطرح منطقيًا، لكنه غير صحيح على الإطلاق. فأبسط صور العيون في الطبيعة هي «بقع العين-Eyespots»، وهي عبارة عن بروتينات بسيطة حساسة للضوء. وتمتلك الكائنات البسيطة وحيدة الخلية مثل الإيوجلينا بقع العين، وعلى الرغم من عدم قابليتها لتكوين صورة، إلا أنها تساعد الإيوجلينا على رصد الضوء لتجنب مفترساتها.

أيضًا «كؤوس العين-Cup eyes» هي شكل أكثر تعقيدًا بقليل من بقع العين. تتكون كؤوس العين من سطح منحني من بقع العين، وهذا الانحناء يساعد على تحديد اتجاه الضوء. ويمكننا أن نجدها في «الديدان البلاناريانية-Planarian worms».

وباستمرار انحناء كcوس العين نرى ما يُعرف بPin eye، والتي تمتلكها كائنات مثل «النوتيلوس-Nautilus»، وهي تساعد على تكوين صورة مشوشة.

ومن ثم تأتي المرحلة الآتية وهي إضافة العدسة عند فتحة العين، والتي تمتلكها حيوانات كثيرة من ضمنها البشر، وتقوم هذه العدسة بتركيز أشعة الضوء عن طريق «الانكسار الضوئي-Light refraction».

هناك مقطع فيديو رائع لعالم الأحياء ريتشارد داوكينز يقوم فيه بشرح تطور العين يمكنك مشاهدته من هنا.

في الواقع، تطورت العيون في الكائنات الحية حوالي 40 مرة بشكل منفصل. وخلاصة القول في تطور العيون أنه حتى أبسط أجزاء العين البشرية موجودة في كائنات مختلفة وهي وظيفية وتوفر الرؤية لهذه الكائنات. يمكننا أن نرى كيف أن كائنات مختلفة تمتلك تراكيب مختلفة، وتفتقر إلى بعض أجزاء العين البشرية. ولكنها ما زالت تعمل (باختلاف درجة الجودة بالطبع)، وبهذا نرى أن العين ليست كما يدعي مؤيدو التصميم الذكي “غير قابلة للاختزال”. [2]

«الخنفساء القاذفة-Bombardier beetle»

الخنفساء القاذفة هي حشرة مميزة، وحظيت بهذا الاسم لكونها تقذف مزيجًا من الكيماويات ذات درجة الحرارة العالية تجاه مفترساتها. ويحدث هذا عن طريق عملية معروفة، تقوم فيها الخلايا بإنتاج «الهيدروكوينونات-Hydroquinones» و«بيروكسيد الهيدروجين-Hydrogen peroxide» (وبعض الكيماويات الأخرى حسب النوع). يقوم جسد الخنفساء بتجميع تلك الكيماويات في خزان، وينفتح هذا الخزان عن طريق صمام يتحكم فيه عضلات ويحجزها في غرفة تفاعل ذات جدران سميكة. جدران هذه الغرفة مبطنة بخلايا تفرز إنزيمات «الكاتالاز-Catalase»، و«البيروكسيداز-peroxidase». وتقوم الإنزيمات بتكسير بيروكسيد الهيدروجين بسرعة وتُسرع عملية أكسدة الهيدروكوينونات إلى “p-quinones”. وينتج عن هذه التفاعلات كميات من الأوكسجين وما يكفي من الحرارة لرفع درجة حرارة هذه الكيماويات إلى درجة الغليان. يتبخر حوالي 20% من الكيماويات، وتحت ضغط الغازات الناتجة عن هذه التفاعلات، ينغلق الصمام وتندفع الكيماويات الحارقة عن طريق فتحات في بطن الخنفساء.

ويرى مروجو التصميم الذكي أن هذه الآلية الدفاعية لا يمكن أن تكون قد تطورت بشكل تدريجي، وإنما يجب أن تكون أعصابها وعضلاتها والكيماويات التي تقذفها قد ظهرت في وقت واحد. لنرى صحة هذا الادعاء!

هذا الادعاء خاطئ أيضًا، إذ أننا أمام سيناريو لتطور هذه الآلية الدفاعية، خطوة بخطوة. لنرى:

1- تنتج خلايا بشرة الخنفساء الكوينونات، وهذا موجود في كثير من «المفصليات-Arthropods» الأخرى.
2- تستقر الكوينونات على بشرة الحشرة جاعلة منها سيئة المذاق بالنسبة لمفترساتها (تستخدم العديد من المفصليات الكوينونات كآلية دفاعية بالفعل).
3- تنشأ انبعاجات صغيرة في البشرة بين «الخلايا الخشبية-Scleritis»، وهذا يسمح للحشرة بإطلاق المزيد من الكوينونات إلى السطح عندما تهتز.
4- يزداد عمق الانبعاجات، وتتحرك العضلات قليلًا للسماح لها بإطلاق الكوينونات (لدى بعض أنواع النمل مثل هذه الغدد).
5- يزداد عمق انبعاجين (الخزانات الآن)، حتى تصبح بقية الانبعاجات غير مهمة بالمقارنة بهما.
6- تظهر كيماويات دفاعية أخرى بجانب الكوينونات في كثير من الحشرات التي تعيش اليوم لتساعدها ضد مفترساتها التي طورت مقاومة للكوينونات. إحدى هذه الكيماويات الدفاعية الجديدة هو الهيدروكوينون.
7- تكوّن الخلايا المنتجة للهيدروكوينون طبقات على الخزان لتنتج المزيد من الهيدروكوينون. وتسمح القنوات الموجودة بين الخلايا لكل الطبقات بنقل الهيدروكوينون إلى الخزان.
8- تصير القنوات أنبوبًا مخصصًا لنقل الكيماويات، وتنسحب الخلايا الإفرازية من سطح الخزان لتكون عضوًا منفصلًا. جدير بالذكر أن هذه المرحلة (الغدد الإفرازية المتصلة بالخزانات عن طريق أنابيب) موجودة بالفعل في كثير من أنواع الخنافس غير الخنفساء القاذفة.
9- تتكيف العضلات لإغلاق الخزان، كي تمنع تسرب الكيماويات خارجه في غير وقت الحاجة.
10- يختلط بيروكسيد الهيدروجين (وهو منتج ثانوي، يتم إنتاجه بشكل طبيعي أثناء عملية الأيض) مع الهيدروكوينونات، لتكوين مزيج يمكن استخدامه للدفاع في وقت الحاجة.
11- تظهر الخلايا المنتجة لإنزيمات الكاتالاز والبيروكسيداز، على طول الممر الخارج من الخزان. وهذا يضمن وجود المزيد من الكوينونات في الإفرازات الدفاعية.
الكاتالاز موجود في جميع الخلايا تقريبًا، والبيروكسيداز كذلك شائع لدى النباتات والحيوانات والبكتيريا. مما يعني أن هذه الإنزيمات لا تحتاج إلى صناعتها من الصفر، ولكن فقط تركيزها في مكان محدد.
12- ينتج المزيد من الكاتالاز والبيروكسيداز، لتزيد من حرارة السائل المقذوف. كما تزيد كذلك من سرعة قذفه نتيجة لوجود الأوكسجين الذي يُوّلد نتيجة التفاعل. تعتبر خنفساء Metrius contractus مثالًا جيدًا على الخنافس القاذفة التي تمتلك إخراجًا رغويًا، وليس على شكل نفاثات.
13- تصبح جدران الممر أقوى لتحمل الحرارة والضغط الناتجين عن التفاعل.
14- يستمر إنتاج المزيد من الكاتالاز والبيروكسيداز، كما تزداد جدران الممر قوة وسُمكًا حتى تأخذ شكل غرف التفاعل الموجودة في الخنافس القاذفة اليوم.
15- يزداد طول طرف بطن الخنفساء ويصبح أكثر مرونة للسماح لها بتصويب السائل في اتجاهات متعددة.

ونلاحظ من هذا السيناريو أن كل هذه الخطوات هي خطوات بسيطة وتحقق منفعة للخنفساء، لذا سيسمح الانتخاب الطبيعي بتمريرها. وقد يتساءل الخلقيون عن كيفية معرفتنا لهذا السيناريو، في الواقع، هذا مجرد سيناريو افتراضي قد يكون غير حقيقي أصلا!

فالفكرة ليست في كون السيناريو حقيقي، وإنما في توضيح إمكانية تأدية بعض أجزاء النظام لوظائف جزئية. أي بطلان فكرة التعقيد غير القابل للاختزال. بالإضافة إلى توافر آليات مشابهة في كائنات أخرى بشكل أبسط. ففي كل خطوة من السيناريو المفترض، حافظ النظام على وظيفته الأساسية وهي الحماية والدفاع. وفي كل خطوة، تطورت آلية الخنفساء الدفاعية بشكل أفضل.

مجددًا، لا يهم إن كان هذا هو السيناريو الحقيقي أم لا، المهم هو إمكانية تطور هذا النظام بشكل تدريجي مع الاحتفاظ بوظيفته في كل خطوة كما وضحنا. وهذا كافٍ لنعلم أنه ليس “غير قابل للاختزال” كما يروج داعمو التصميم الذكي. [3]

«السوط البكتيري-Bacterial flagellum»

السوط البكتيري هو تركيبة تشبه الذيل، حيث تعتبر وظيفته الأساسية هي مساعدة البكتيريا على التحرك. يرى الخلقيون أن السوط البكتيري مصنوع من مجموعة بروتينات لا يمكن أن يؤدي كل بروتين منها أي وظيفة وحده. وهذا يجعل السوط البكتيري غير قابل للاختزال في نظرهم، فهل ادعائهم صحيح؟

حقوق الصورة: youtube


هذا ادعاء خاطئ لأبعد درجة، فالطبيعة مليئة بنماذج أولية وظيفية للسوط البكتيري (تذكروا ادعاءهم بأن أي نموذج أولي لأي نظام غير قابل للاختزال هو نموذج غير وظيفي)، بل ووظيفة كافية لتسبب خطرًا على حياة الإنسان.

من المعروف أن بعض أنواع البكتيريا تسبب الأمراض للكائنات التي تضيفها، والتي تعرف باسم «المضيف-Host». ولتتمكن البكتيريا من إصابة المضيف، عليها أن تحقن خلايا الكائن المضيف بالمواد السامة. ولكي تفعل البكتيريا ذلك تستخدم جهازًا يُدعى «الجهاز الإفرازي من النوع الثالث-Type III secretory system»، والذي يُرمز له بTTSS. تستخدم البكتيريا ال TTSS لتحقن السموم مباشرة في السيتوبلازم الخاص بخلية المضيف.

وقد تتساءل عن علاقة الTTSS بالسوط البكتيري الذي نتحدث عنه. أظهرت الدراسات أن قاعدة السوط تتشابه في البروتينات التي تكوّنها إلى حد كبير مع البروتينات التي تكون الTTSS. بالطبع، خبر غير سار لداعمي التصميم الذكي! إذ أن فكرة التعقيد غير القابل للاختزال قائمة على أنه بإزالة جزء واحد من النظام سيفقد النظام وظيفته. لكن هذا غير صحيح، فإذا أزلنا معظم أجزاء السوط البكتيري سيتبقى لنا جهاز إفرازي من النوع الثالث، وهو جهاز وظيفي كما ذكرنا.

TTSS. حقوق الصورة: Researchgate


يُعد وجود الTTSS في عدد كبير من أنواع البكتيريا المختلفة دليلًا على أن جزءًا صغيرًا من نظام “غير قابل للاختزال” (كما يتوهم الخلقيون) لا يزال يؤدي وظيفة بيولوجية مهمة لدى البكتيريا. وهذا يعني أن ادعاءهم بأنه على السوط البكتيري أن يتم تجميعه بشكل كامل قبل أن يصبح أي جزء منه ذو وظيفة هو ادعاء خاطئ. وهو ما يعني أن السوط البكتيري ليس “غير قابل للاختزال” كما يدعون. [4] ، [5]

وخلاصة القول في التعقيد غير القابل للاختزال أنه مجرد دليل متهافت مبني على فهم منقوص لعلم الأحياء اخترعه مايكل بيهي ليدعم فرضية التصميم الذكي. وأن كل أمثلته كما ذكرنا ليست غير قابلة للاختزال، ويمكنها أن تتطور تدريجيًا وهو ما نتوقعه من التطور. فالانتخاب الطبيعي لا يبدأ من الصفر، وإنما يعمل على أجهزة وظيفية موجودة من الأساس ليكسبها وظيفة جديدة أو يعزز وظيفتها الأصلية.

دحض التصميم الذكي

والآن بعد أن أوضحنا مدى تهافت دليل التعقيد غير القابل للاختزال، والذي بانهياره ينهار التصميم الذكي ويصبح كرماد تذروه الرياح بلا أي دليل ليدعمه. نأتي الآن بنيان الخلقيين من القواعد، حيث أن الأمثلة التي سنذكرها بعد قليل لا يمكن تفسيرها في ضوء التصميم الذكي. كذلك لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء التطور.

«العصب الحنجري المتكرر-Recurrent laryngeal nerve»

العصب الحنجري هو العصب الذي يصل بين الحنجرة والدماغ. وعلى الرغم من قرب المسافة بين الحنجرة والدماغ إلا أنه يأخذ مسارًا على شكل حرف U في الأبجدية الإنجليزية بدلًا من أن يسلك مسلكًا مباشرًا. يلتف العصب الحنجري في جسد الإنسان من تحت الشريان «الأبهر-Aorta»، ثم يصعد مجددًا ليصل إلى الحنجرة. إلا أن الأمر يصبح أكثر غرابة عندما نأتي لحيوان كبير في الحجم مثل الزرافة. فيقوم هذا العصب بقطع مسافة تبلغ 15 قدم (حوالي 5 أمتار) ليلتف على شكل حرف U داخل عنق الزرافة!

العصب الحنجري. حقوق الصورة: The Bite Stuff

وكما نرى، فهذا التصميم ليس ضروريًا على الإطلاق. فليس بهذا العصب حاجة ليقطع كل هذه المسافة ويلتف من تحت الأبهر ثم يصعد مجددًا لبلوغ وجهته. فما هو التفسير الممكن لهذه الظاهرة وفقًا لنظرية التطور؟

يكمن السبب في أننا تطورنا من أسماك، حيث أن فرع العصب الحائر يمتد في الأسماك من الأعلى للأسفل بجانب الوعاء الدموي القوسي الخيشومي السادس. يظل العصب بهذا الشكل في الأسماك الناضجة ليصل المخ بالخياشيم ليساعدها على ضخ المياه.

العصب الحائر في الأسماك. حقوق الصورة: Art Station

أثناء تطورنا، فقدنا الوعاء الدموي من القوس الخامس. وتحركت الأوعية الدموية من الأقواس الرابع والسادس إلى الأسفل لتكوين الشريان الأبهر وشريانًا يصل الأبهر بالرئتين. ولكن كان على العصب الحنجري أن يظل متصلًا بالبِنى الجنينية التي ستكون الحنجرة، والتي ظلت بالقرب من المخ.

ولأن الشريان الأبهر تطور إلى الوراء باتجاه القلب، كان على العصب الحنجري أن يلتف من تحته. ويمكنك مشاهدة مقطع فيديو قصير يوضح تطور هذه العملية من هنا.

في الواقع، نمتلك نفس التكوين السمكي للأعصاب والأوعية الدموية أثناء النمو الجنيني. ولكن ينتهي بنا المطاف بهذا التصميم للعصب الحنجري. [6]

الجهاز الهضمي للباندا

على الرغم من اعتماد دببة الباندا على نبات البامبو بشكل أساسي في الغذاء، إلا أن جهازها الهضمي ليس متكيفًا مع هذا النمط الغذائي. تقضي الباندا 14 ساعة يوميًا في أكل المزيد والمزيد من البامبو، لكنه لا يستطيع الاستفادة إلا من 17% من كمية البامبو التي يأكلها، فلماذا؟

يرجع السبب إلى امتلاك الباندا جهازًا هضميًا متكيفًا أكثر مع أكل اللحوم. فجهازها الهضمي يعاني من غياب البكتيريا التي تفرز إنزيمات لهضم السيليلوز مثل بكتيريا Ruminococcaceae الموجودة في الحيوانات آكلة النباتات الأخرى.

لا يمكننا تفسير هذا في ضوء التصميم الذكي لجهاز الباندا الهضمي، ولكن يمكننا تفسيره في ضوء تطور الباندا من دببة آكلة للحوم. الأمر منطقي، فجميع أنواع الدببة الأخرى آكلة للحوم، وبالتالي فقد ورث الباندا جهازه الهضمي من الدببة التي تعتمد في غذائها بشكل أساسي على اللحوم. [7] بينما يغض الخلقيون البصر عن هذا المثال الذي لا يترك مجالًا لفرضيتهم، فالجهاز الهضمي للباندا غير مصمم بشكل خاص بوضوح.

الولادة البشرية

عملية الولادة البشرية مؤلمة بشكل لا يحتمل، وسببت الوفاقة قبل تطور الطب الحديث لعدد كبير من النساء مع أجنتهم أثناء الولادة. وتكمن المشكلة في أننا طورنا دماغًا كبيرًا نسبيًا، هذا الدماغ أكبر من فتحة الحوض التي يمر من خلالها رأس الجنين. احتاجت فتحة الحوض إلى أن تكون ضيقة لتبقي على خاصية المشي المنتصب لدى البشر، وهو ما يتسبب للمرأة بهذا الألم الشنيع أثناء الولادة.

فإذا كان الإنسان مصممًا بشكل خاص، لم يكن ليستخدم نفس آلية الولادة التي تستخدمها باقي الحيوانات بطريقة أقل ألمًا (والتي لا تناسبنا بسبب رؤوسنا الكبيرة). ولكننا محكومون بتاريخنا التطوري كغيرنا من الكائنات. [6]

لا يصلح التصميم الذكي كفرضية علمية، يقف اليوم بلا أي أدلة حقيقية تصلح لإعلانه بديل عن نظرية التطور بأي حال.

المصادر

[1] Berkeley
[2] Nature
[3] Talk Origins
[4] NCBI
[5] Miller
[6] Why Evolution Is True?, By Jerry Coyne
[7] BIO M

العنف وجين المحارب The Warrior Gene، علاقة الجينات بالسلوكيات العنيفة؟

على مدى عقود يدرس العلماء ارتباط الجينات بالسلوكيات المختلفة. ولا يزال هناك عديد من التساؤلات حول ارتباط الجينات بهذه السلوكيات وحول تأثير البيئة والظروف المختلفة التي يتعرض لها الفرد على تحفيز هذه الجينات ليظهر السلوك. فكما ذكرنا مسبقاً في حديثنا عن الجينات الأنانية وكيف يفسر بعض العلماء سلوكيات مثل التضحية والإيثار في ضؤئها. فإن جين المحارب والجينات المماثلة له يُرجح العلماء أن تكون شديدة الارتباط بسلوك العنف لدى كثير من البشر.

جين المحارب

تلعب السيالات العصبية على سبيل المثال: الدوبامين والسيروتونين والنورأدرينالين دوراً محورياًً في التأثير على الحالة المزاجية للإنسان وقدرته على التعلم والتذكر ومشاعره تجاه من حوله.
يتم التحكم في مستويات هذه السيالات العصبية عن طريق إنزيم أوكسيداز أُحادي الأمين-أ (ماو-أ) Monoamine oxidase-A (MAO) والذي يقوم بتكسير هذه السيالات عند زيادتها عن الحد المعتدل. ويعتبر جين ماو-أ هو الجين الأساسي المسئول عن وظيفة إنزيم ماو-أ. ويقع هذا الجين على الكروموسوم الأنثوي إكس X Chromosome. ولكن تحوراً من هذا الجين يكون منخفض النشاط. من ثم لا ينتج الإنزيم بكميات كافية. وقد لوحظ أن حمل هذه النسخة منخفضة النشاط مرتبط بزيادة احتمال العنف او الجرأة على المخاطرة. يشار إلى هذا الجين المتحور بجين المحارب. [2]

إنزيم ماو-أ ينظم مستويات السيالات العصبية في الجسم. [3]
يشار إلى تحور جين ماو-أ ذو النشاط المنخفض بجين المحارب. [4]

الرابط بين العنف وجين المحارب في الدراسات العلمية

ارتباط جين المحارب ومستويات انزيم ماو-أ المنخفضة بالسلوك العنيف في البشر

في عام 1990 ميلادية ربطت دراسة بين قلة مستويات إنزيم ماو-أ والقيام بسلوكيات مضادة للمجتمع. خصوصاً لدى الأشخاص الذين تعرضوا لضغوطات وظروف صعبة في طفولتهم. [2] بينما في عام 1993 قام باحثون بتتبع جين المحارب في عائلة هولندية مشهورة بأفراد ذوي سلوك عدواني وتأخر في القدرات العقلية. وقد لاحظوا انتشار الجين بين ذكور العائلة. ومن هذه الدراسة تم اكتشاف أن هذا التحور من جين المحارب مسئول عن السلوك العنيف لدى المصابي بمتلازمة برونر Brunner Syndrome.
[5]

كذلك أُجريت في 2008 دراسة في الولايات المتحدة على أطفال في سن من 7 وحتى 12 سنة. وقد وجدت هذه الدراسة أن الأطفال الذين يمتلكون نسخة من جين ماو-أ ينتج عنها قلة إنتاج الإنزيم يكونون أكثر عدائية وعنف من أقرانهم الذين يمتلكون نسخة نتنج الإنزيم بكميات كافية. لكن ذلك يرتبط بأن يكون الطفل تعرض لظروف معيشية صعبة. تشمل على سبيل المثال: المشاكل الأسرية، قلة الأصدقاء بالمدرسة والرسوب في الامتحانات. [2]

لاحظت بعض الدراسات انتشار جين المحارب لدى الأطفال العدوانيين. [6]

بدا من دراسة أجراها باحثون على مجرمين في فنلندا وجود علاقة بين جين المحارب وارتكاب جرائم القتل. كما لاحظوا أن احتمال ارتكاب تلك الجرائم عند هؤلاء الأشخاص يزداد عندما يتعاطوا مواد مثل الكحول والأمفيتامينات. حيث تتسبب تلك المواد في زيادة الدوبامين ومن ثم يؤدي وجود جين المحارب إلى ضعف قدرة الجسم على تكسيره. لذلك ربما يكون ذلك سبب زيادة احتمالية ارتكاب هؤلاء الأشخاص تلك الجرائم. كما تمكنوا من اكتشاف جين آخر يرتبط بالعنف هو سي دي إتش 13 CDH13.
[7]

يبدو أن جين المحارب منتشراً بين المجرمين الخطرين. [8]

التجارب على الفئران تعضد الربط بين جين المحارب والعنف

كذلك فإن الدراسات المجراة على الفئران والتي تم تعديلها جينياً بحيث تم تعطيل جين ماو-أ بها كانت عدائية وغير اجتماعية. بينما أظهرت الفئران التي تم تعطيل الجين فيها جزئياً نشاطاً اجتماعياً أقل وإن كانت لم تظهر سلوكاً عنيفاً متزايداً كما في حالة التعطيل الكلي للجين. [5]

يؤدي غياب وظيفة ماو-أ إلى سلوكيات عدوانية في فئران التجارب. [9]

تأثير جين المحارب يظهر في تصويرالمخ بالأشعة

على صعيد آخر وجدت دراسة أن تأثير امتلاك نسخة من جين المحارب تظهر جلية على تركيب المخ. حيث أن الترابط بين المناطق المسئولة عن التحكم بالعواطف أظهر نمطاً مختلفاً عن الطبيعي. [5]

هل جين المحارب مسئول وحده عن العنف؟

تميل معظم الأبحاث المنشورة في هذا المجال إلى أن كون الشخص يحمل جين المحارب لا يكفي لكوّن الشخص سلوكاً معادياً للمجتمع وعنيفاً. وإنما ترى أنه ينبغي أن يصاحب ذلك تأثير من البيئة المحيطة. حيث وجدت دراسة أن احتمال تكوين شخصية عنيفة يزداد في حال تعرض الأطفال الذكور الحاملين لجين المحارب في طفولتهم لمعاملة أو ظروف سيئة. [10]

تميل العديد من الدراسات إلى أن الظروف التي ينشأ فيها الفرد قد تبرز أثر جين المحارب ومن ثم لا ترى ان حمله كافٍ وحده لتوليد سلوك عنيف. [11]

جينات أخرى مرتبطة بالعنف

في حقيقة الأمر تم رصد أكثر من جين يزيد حمل أشكال متحورة منها احتمالية تكوين شخصية عدائية وعنيفة. على سبيل المثال:

  1. جين دات1 DAT1 gene:
    هذا الجين مسئول عن تكوين ناقل للدوبامين يقوم بتعطيله ومن ثم السيطرة على كمياته وتأثيراته حتى لا تزيد عن الحد. [2]
  2. جين دي آر دي2 DRD2 gene:
    هذا الجين مسئول عن تكوين المستقبلات التي يرتبط بها الدوبامين. من ثم تساهم في تحفيز مركز المكافآت بالمخ. وقد وجد العلماء أن بعض تحورات هذا الجين قد تتسبب في زياة احتمالية تكوين شخصية عدوانية. ليس هذا فحسب، بل وجدوا أيضا أنها قد تزيد من احتمالية أن يكون الشخص مدمناً. [2، 12]
  3. جين مستقبل الأندروجن Androgen receptor gene:
    وجد العلماء تحورات لهذا الجين تتسبب في زيادة احتمالية أن يكون الشخص عنيفاً. [2]

ايجابيات دراسة جين المحارب وغيره من الجينات المرتبطة بالسلوك العنيف

  1. زيادة فهمنا لتأثير البيئة والظروف والتنشئة على تطور السلوك العنيف لدى حاملي هذه الجينات.
  2. تطوير أدوات فحص جينية قد تساعدنا في تشخيص الحالات التي تحمل الجينات المسئولة عن العنف.
  3. تطوير علاجات تساعد من يحملون تلك الجينات على السيطرة على السوك العنيف وتحسين قدراتهم الاجتماعية. [5]

تبعات اجتماعية لربط جين المحارب بالعنف

التأثير على أحكام القضاء

يرى البعض أن هذا الربط قد يستخدم كذريعة لتخفيف الأحكام على المجرمين. أو زيادة فترة حجزهم لتقليل خطرهم. حيث أجرى باحثون دراسة على 181 قاضٍ بالولايات المتحدة. عرضوا فيها على القضاة قضايا مختلفة تم فيها تقديم طلب بتخفيف الحكم على المجرم بحجة أنه يحمل جين المحارب. وكانت النتيجة أنه بشكل عام أدى عرض الدليل البيولوجي بالقضاة إلى تخفيف العقوبة. [13]

يخشى كثيرون من أن يستخدم جين المحارب كذريعة أمام القضاء للنجاة من العقاب. [14]

ربما بدت لك عزيزي القاريء تلك المخاوف نظرية. لذلك دعني أحدثك عن قصة فتاة إيطالية قامت بقتل أختها وحرق جثتها. ثم حاولت قتل والديها. وفي المحكمة طالب الدفاع من القاضي فحصها نفسياً. لكن الفحص النفسي أتى بنتائج متعارضة. من ثم طالب الدفاع بفحصها جينياً وبإجراء أشعة على المخ. وبالفعل تبين أنها حاملة لجينات تزيد احتمال تكوين سلوك عنيف. كما بينت الأشعة انها تعاني من خلل في بعض مناطق التحكم بالمشاعر. ونتيجة لذلك تم تخفيض عقوبتها من المؤبد إلى 20 عاماً. [15]

وهذه ليست الحالة الوحيدة. ففي خمس سنوات فقط كان هنا 20 حالة مماثلة. ويعترض بعض العلماء على استخدام مثل تلك االفحوصات كأداة للتبرير للمجرمين كون الأمر لا تحكمه الجينات وحدها. كذلك فإن مستويات الجين المحارب في جزء من الدماغ لا تستطيع أن تعبر عن كل أجزاء الدماغ. [17]

القلق من قبول الحتمية الجينية

بالإضافة لذلك يخشى البعض من التمييز بين البشر على أساس جيني. لكن أشد هذه المخاوف وأكثرها عمقاً هو خشية البعض من أن يؤدي ذلك إلى تقبُل فكرة الحتمية الجينية. [17]

لربما تثير تلك النتائج التي تربط بين السلوكيات والجينات في أنفسنا قلقاً حول إرادتنا الحرة وحرية الاختيار. لكننا ندعوك إلى عدم التسرع عزيزي القاريء. فمثل تلك النتائج لا تقطع بالحتمية الجينية أو بمعنى آخر لا تعني أننا أسرى لجيناتنا التي ورثناها دون اختيار. فحتى يومنا هذا يعتقد أغلب العلماء أنه من المبكر استخدام تلك النتائج في القطع بالحتمية الجينية. خصوصاً وانه كما ذكرنا سابقاً لا تزال الدراسات غير كافية والأمر معقد ومتداخل. ففي كثير من الأحيان يلعب أكثر من جين دوراً في الصفة الواحدة. كذلك التجارب التي نتعرض لها والبيئة التي ننشأ فيها وعادات جديدة نضيفها لجدولنا بل حتى الطعام الذي نتناوله قد يؤثروا في آلية عمل جيناتنا.

كما أن كثير من البشر استطاعوا التغيير في حالتهم المزاجية والجسدية وسلوكياتهم عن طريق إدخال تغييرات بسيطة تدرجية على نمط حياتهم كما ذكرنا في التغذية الجينومية في مقال القرصنة البيولوجية. ولربما شاهدت عزيزي القاريء بعض هؤلاء المحاربين الذين تمكنوا من خسارة وزنهم وانتصروا على استعدادهم الجيني للسمنة. ولذلك يميل عدد كبير من العلماء إلى الاعتقاد بحرية الإرادة وأن الإنسان قادر نسبياً على التحرر من قيود تركته الجينية.

المصادر:

  1. مصدر الصورة البارزة:
    Chasing the ‘warrior gene’ and why it looks like a dud so far – Genetic Literacy Project
  2. The genetics of violent behavior (jax.org)
  3. Schematic diagram of major routes of inactivation of the monoamine… | Download Scientific Diagram (researchgate.net)
  4. Japanese Samurai Warrior PNG Free Image | PNG All
  5. From warrior genes to translational solutions: novel insights into monoamine oxidases (MAOs) and aggression (nih.gov)
  6. Supporting a child with aggressive or difficult behaviour – Barefoot Social Work (weebly.com)
  7. Genetic background of extreme violent behavior | Molecular Psychiatry (nature.com)
  8. Silhouette Aggressive Criminal Attacking with Knife Dangerous Man Using Weapon by stockbusters (videohive.net)
  9. Drug calms violent rats | Nature
  10. MAOA, Childhood Maltreatment, and Antisocial Behavior: Meta-analysis of a Gene-Environment Interaction – Biological Psychiatry (biologicalpsychiatryjournal.com)
  11. Child abuse in Hong Kong escalating as pandemic sees children and stressed parents spending more time at home, expert says | South China Morning Post (scmp.com)
  12. The DRD2 gene in psychiatric and neurological disorders and its phenotypes – PubMed (nih.gov)
  13. The Double-Edged Sword: Does Biomechanism Increase or Decrease Judges’ Sentencing of Psychopaths? (science.org)
  14. Criminal Waiting For Courts Ruling Stock Photo – Download Image Now – iStock (istockphoto.com)
  15. Italian court reduces murder sentence based on neuroimaging data : News blog (nature.com)
  16. Stefania Albertani folle? Battaglia in aula – Homepage, Cirimido (laprovinciadicomo.it)
  17. Lighter sentence for murderer with ‘bad genes’ | Nature

أدلة التطور من الجينوم

هذه المقالة هي الجزء 10 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

في مقال اليوم نتعرف على أقوى خط من خطوط أدلة التطور، إذ سنتحدث عن أدلة التطور من الجينوم. الأدلة الجينومية هي نوع حديث نسبيًا من أنواع الأدلة على التطور، حيث أن كل ما سنذكره في مقال اليوم من أدلة لم يكن معروفًا قبل القرن الماضي. لقد تطورت علوم الجينوم بقوة وأصبحت ركيزة أساسية في علوم الطب والصحة والبيولوجيا. توقع الكثيرون أنها ستوجه ضربة قاضية لنظرية التطور، ولكنها على العكس، وجهت ضربة قاضية لكل ما يخالف التطور. لقد ظهرت جينات الأعضاء الضامرة بوضوح، بل وكيف ضمرت جينيًا. أصبح بالإمكان رسم شجرة التطور بواسطة الحواسيب من خلال تحليل تتابعات متعدد لجين معين ومعرفة رحلته التطورية عبر الكائنات الحية. والآن لنستعرض الأدلة، ولكن علينا أولًا أن نفهم بعض أساسيات علم «الأحياء الجزيئية-Molecular Biology».

ما هو ال DNA؟

قواعد الدنا النتيروجينية. حقوق الصورة: Medical News Today

تتكون كل الكائنات الحية التي تعيش على كوكبنا من خلايا، فالخلية هي الوحدة الأساسية لبناء الكائن الحي. وفي نواة الخلية، نجد جزيئات معقدة تُدعى «الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين-Deoxyribonucleic acid» وهي ما نرمز له ب “DNA”.

ويتكون ال DNA من تسلسل حروف هي A,C,T,G وكل حرف منهم يرمز إلى مركب كيميائي، حيث أن:

• حرف A يرمز إلى «أدينين-Adenine»
• حرف C يرمز إلى «سيتوزين-Cytosine»
• حرف T يرمز إلى «ثيامين-Thymine»
• حرف G يرمز إلى «جوانين-Guanine»

وتُدعى هذه المركبات الأربعة ب «القواعد النيتروجينية-Nitrogenous bases». عند اتحاد القواعد النتيروجينية مع جزيء «سكر خماسي الكربون-Pentose sugar»، و«مجموعة فوسفات-Phosphate group» تكون «النيوكليوتيدات-Nucleotides»، وهي وحدة البناء الأساسية لل DNA.

ما هي الجينات؟ وكيف تعمل؟

الجين هو قطعة لها بداية ونهاية من شريط الDNA، بمعنى أدق، هو تسلسل محدد من الحروف A,C,T,G. يحمل هذا التسلسل الأوامر اللازمة لإنتاج بروتين محدد، كأنها حروف في كتيب تعليمات لتركيب أجزاء المروحة. وفقًا لترتيب تلك الحروف، تترتب الأجزاء معًا وينتج في النهاية مروحة تعمل بكفاءة. ولكن كيف تعمل الجينات؟

يتم نسخ تسلسل حروف الجين الموجودة على شريط الDNA إلى تسلسل حروف آخر يُسمى «RNA رسول-Messenger RNA» ويُرمز له ب”mRNA”. ينتقل جزيء الmRNA هذا من نواة الخلية إلى «الريبوسوم-Ribosome» (أحد العُضيّات الموجودة داخل الخلية)، ويعمل الريبوسوم كآلة لإنتاج البروتين، حيث يقوم بقراءة تسلسل حروف الmRNA. تعطي كل 3 حروف الأمر لاختيار أي نوع من أنواع «الأحماض الأمينية-Amino Acids» بالتحديد ليضعه الريبوسوم في السلسلة. على سبيل المثال، الحروف “CAA” تخبر الريبوسوم أن يختار «الجلوتامين-Glutamine» (أحد الأحماض الأمينية). وعند الانتهاء من قراءة الmRNA تكون عملية تكوين البروتين قد تمت، ويمكنك مشاهدة مقطع يوضح هذه العملية الرائعة من هنا. [1]

وبعد هذه المقدمة التمهيدية البسيطة، ننتقل إلى استعراض أدلة التطور من الجينوم.

وحدة الشيفرة الجينية

كما ذكرنا، تستخدم كل الكائنات الحية على الأرض الDNA لتشفير معلوماتها الوراثية. كما تستخدم نفس طريقة صنع البروتين، حيث تعطي نفس الثلاث حروف الأمر للريبوسوم لوضع نفس الحمض الأميني في سلسلة الأحماض الأمينية لصنع البروتين في كل الكائنات الحية، ولكن ما هو تفسير هذا؟

وقد يتساءل القارئ عما إن كان هذا يتطلب تفسيرًا أصلًا، ولكن صدق أو لا تصدق عزيزي القارئ، شيفرة الDNA ليست الشيفرة الوحيدة الممكنة.

أظهرت الأبحاث باستخدام برامج الحاسوب إمكانية تشفير المعلومات الوراثية بما يزيد عن مليون شيفرة جينية ممكنة غير الDNA. بل أن بعضها قد يؤدي وظيفته بشكل أفضل بكثير من الDNA، فلماذا تستخدم كل الكائنات نفس الشيفرة؟ [2] , [3]

لا يمكننا فهم هذا إلا في ضوء نظرية التطور من أصل مشترك. فنظرية التطور تخبرنا أن جميع هذه الكائنات ورثت شيفرتها الوراثية من نفس الكائن الأولي.

ولا يمكننا أن نفهم سر وحدة الشيفرة في ضوء فكرة الخلق الخاص. لو كانت كل الكائنات قد خُلقت بشكل منفصل لما كان هناك حاجة لتكون هناك شيفرة موحدة. بل على العكس، فوجود شيفرات مختلفة في الكائنات المختلفة كان ليمنع انتقال الفيروسات بين الحيوانات المختلفة، مثل إنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور والكورونا التي تصيب البشر، وغيرها من الفيروسات.

نسبة التشابه الجيني بين الرئيسيات

لا تتشارك الكائنات نفس الشيفرة فحسب، بل تتشارك في كمية كبيرة من الجينات. وتختلف نسبة التشابه الجيني بين الكائنات وفقًا لقربها أو بعدها عن بعضها البعض تطوريًا.

تبلغ نسبة الاختلاف الجيني بين البشر نسبة ضئيلة تُقدر ب 0.1%، وتستخدم نسبة التشابه في معرفة الأنساب وتحديدها قضائيًا اليوم. أما بيننا وبين أولاد عمومتنا من الشيمبانزي وقرود البونوبو تبلغ نسبة التشابه حوالي 1.2%، بينما تصل إلى 1.6% بيننا وبين الغوريلا. والأهم من ذلك، هو أن كل من البشر والشيمبانزي والبونوبو يتشاركون نفس نسبة الاختلاف الجيني عن الغوريلا. أي أن الشيمبانزي والبونوبو أقرب إلى الإنسان منهم إلى الغوريلا.

وتختلف طرق حساب نسبة التشابه والاختلاف الجيني، وباختلاف الطريقة تختلف النسبة. حيث أنه بأخذ الجينوم الكامل بالحسبان، تُظهر النتائج أن هناك مناطق من الDNA قد حُذفت، أو تمت مضاعفتها مرات ومرات. أضيف بعضها في أماكن أخرى من الجينوم أيضًا. وعند الأخذ بكل هذه الاختلافات، قد تصل نسبة الاختلاف الجيني بين الإنسان والشيمبانزي إلى ما بين 4% و5%. ومهما اختلفت طرق الحساب فالنتيجة واحدة، وهي أن الإنسان والشيمبانزي والبونوبو أقرب إلى بعضهم منهم إلى الغوريلا أو أي من الرئيسيات الأخرى. وهذا يخبرنا بحقيقة مدهشة وبديهية في الأوساط العلمية اليوم، وهي أننا لسنا فقط أقارب القردة العليا، بل نحن منهم!

وتتيح لنا دراسة نسب التشابه الجيني بين الكائنات بناء شجرة عائلة تربط هذه الكائنات ببعضها البعض. والمفاجأة أن هذه الشجرة تطابق ما يخبرنا به كل من التشريح المقارن ودراسة الحفريات في ضوء نظرية التطور. [4]

حقوق الصورة: Human Origins


يعترض بعض المشككين قائلين أن التشابه الجيني لا يعني وحدة الأصل. لكن الواقع يقول أن الجينات لا تنتقل بين الكائنات الحية إلا بالتكاثر، فكون الكائنات تمتلك نفس الجينات يعني انحدارها من نفس الأصول. وكما تثق في تحليل الDNA الذي يخبرك إذا ما كان الطفل ابنك البيولوجي أم لا، عليك أن تثق بنتائج تلك الأبحاث التي تخبرك عن علاقتك التطورية بينك وبين أبناء عمومتك من الشيمبانزي والبونوبو وباقي الرئيسيات. علمًا بأن تحليل الDNA يتم بنفس الطرق التي قيست بها هذه النسب.

الكروموسوم 2

لدى الإنسان 23 زوجًا من الكروموسومات (46 كروموسوم)، بينما تمتلك القردة العليا الأخرى (الشيمبانزي، والأورانجوتان، والبونوبو، والغوريلا) 24 زوجًا (48 كروموسوم). غالبًا ما يلجأ المشككون لهذه المعلومة لدحض التطور، فيقولون إذا كان الإنسان من القردة العليا، فلماذا يختلف عنهم في عدد الكروموسومات؟

وتكمن الإجابة في أن تسلسل الDNA على الكروموسوم 2 لدى الإنسان متطابق تقريبًا مع كروموسومين منفصلين لدى الشيمبانزي. اقترح العلماء أن سبب اختلاف عدد الكروموسومات وفقًا لنظرية التطور هو أن الكروموسوم 2 عبارة عن كروموسومين مندمجين من كروموسومات القردة العليا، ولكن كيف نختبر هذه الفرضية؟

تُدعى أطراف الكروموسومات «تيلوميرات-Telomeres»، كما أن هناك منطقة تقع في منتصف الكروموسومات تُدعى «سنترومير-Centromere». يحتوي الكروموسوم الطبيعي على 2 تيلومير (نهايتين) وسنترومير واحد. فإذا كان الكروموسوم 2 في الإنسان عبارة عن اندماج في كروموسومين في القردة العليا، فعلينا أن نعثر على آثار لهذا الالتحام.

وجد العلماء آثار هذا الالتحام بالفعل، فقد أظهرت الأبحاث وجود بقايا تيلومير في منتصف الكروموسوم 2 (ناتج عن التحام تيلوميري الكروموسومين)، وبقايا سنترومير كذلك. هذا ما يثبت أن الكروموسوم 2 هو بالفعل عبارة عن اندماج كروموسومين من كروموسومات القردة العليا بشكل قاطع ولا يمكن تفسيره إلا باندماج كروموسومين. يدل هذا بما لا يدع مجال للشك على أصولنا المشتركة مع القردة العليا الأخرى. [5] , [6]

التحام الكروموسومين لتكوين كروموسوم 2. حقوق الصورة: Wikipedia

تكرار CMT1A الأقرب

على الكروموسوم 17 في الإنسان يقع جين PMP-22 الذي يشفر لإنتاج بروتين (Peripheral nerve protein-22)، محاطًا بنسختين من جين CMT1A، وهما «تكرار CMT1A الأقرب-Proximal CMT1A-REP»، و«تكرار CMT1A الأبعد-Destal CMT1A-REP».

ويؤدي «تعابُر الكروموسومات-Chromosome crossover» غير المتساوي، الناتج عن سوء اصطفاف التكرارين الأبعد والأقرب للجين CMT1A إلى مرضين عصبيين شائعين هما:
• Charcot-Marie-Tooth disease type (1A) (CMT1A)
• Hereditary Neuropathy with liability to Pressure Palsies (HNPP).

وبهذا نعتبر وجود نسختين من جين CMT1A خطأً وراثيًا، إذ يتسبب هذا التكرار غير الضروري بالإصابة بالأمراض العصبية، ولكن كيف يدل هذا على التطور؟

أظهرت تحاليل الDNA للرئيسيات امتلاكها جميعها لتكرار CMT1A الأبعد، ولكن فقط الإنسان والشيمبانزي وحدهما يمتلكان تكرار CMT1A الأقرب جنبًا إلى جنب مع التكرار الأبعد. أي أن هذا الخطأ الوراثي موجود فقط في الإنسان والشيمبانزي، ويمكننا تفسير هذا بحدوث عملية تضاعف للجين CMT1A في آخر سلف مشترك للإنسان والشيمبانزي.

لا يمكننا تفسير وجود هذا الخطأ لكل من الشيمبانزي والإنسان إلا وفق نظرية التطور. إذ ستتضاءل احتمالية حدوث نفس الخطأ لدى كل من النوعين بشكل منفصل دونًا عن بقية الرئيسيات التي أجريت عليها التحاليل. يصبح الأمر منطقيًا وفقًا لشجرة العائلة التطورية للقردة العليا. [7]

«الجينات الزائفة-Pseudogenes»

أثناء عملية التطور، تحدث طفرات لبعض الجينات متسببة في تعطيلها وتحويلها إلى جينات غير مشفرة للبروتين. تسمى هذه الجينات بالجينات الزائفة، لأنها لا تؤدي وظيفتها. تعتبر تلك الجينات الزائفة من أوضح الأمثلة على نظرية التطور، إذ لا يوجد ما يفسرها سوى النظرية. فهل من أمثلة؟

تنتج أجسام جميع الثدييات فيتامين C. إلا أن أجسام «الرئيسيات جافة الأنف-Haplorhini» (مجموعة تشمل قرود العالم القديم، وقرود العالم الجديد، والقرود العليا ومنها الإنسان) لا تستطيع صنع فيتامين C. تحصل الرئيسيات جافة الأنف علي فيتامين سي من غذائها، وفي حال عدم حصولها على الكميات الكافية، تُصاب بداء «الأسقربوط-Scurvy». يرجع هذا إلى عدم قدرتها على تصنيع إنزيم “l-gulono-gamma-lactone oxidase”، نظرًا لتعطل جين GULO المسئول عن إنتاج هذا الإنزيم.

المثير في الأمر هو أن جين GULO معطّل في جميع الرئيسيات جافة الأنف لنفس السبب، وهو فقدان «الإكسونات-Exons» (نطاقات مشفرة في الجينات) أرقام 1,2,3,5,6,8,11. وهو ما لا يمكننا فهمه إلا في ضوء انحدار الرئيسيات جافة الأنف من سلف مشترك.

ولا تصمد فكرة الخلق الخاص أو التصميم الذكي في محاولة تفسير الجينات الزائفة. فلا داعي لوجود جين GULO في تلك الأنواع إن كان معطلًا أصلًا. كما أنه لا داعي لأن يتم تعطيل الجين بفقدان نفس الإكسونات بين مختلف أنواع الرئيسيات جافة الأنف. إذ أن نفس الجين معطل في «خنزير غينيا-Guinea pig»، ولكن لأسباب مختلفة وهي فقدان الإكسون 5 وجزء من الإكسون 6. مما يعني أن هذا الجين قد تعطل لديه بشكل منفصل عن المسار التوري للرئيسيات جافة الأنف التي ينتمي إليها البشر. وبالتالي، لا يمكن تفسير تعطل جين GULO إلا في ضوء نظرية التطور من سلف مشترك. [8]

وكذلك حيوان «البلاتيبوس-Platypus»، الذي لا يمتلك معدة حقيقية، وعلى الرغم من ذلك، يمتلك جينين زائفين مرتبطين بصنع إنزيمات هضمية. [9]

وعلى الرغم من عدم امتلاك الحيتان البالينية للأسنان، فهي تمتلك جين MMP20 معطل يشفر لصنع بعض البروتينات التي تدخل في تركيبة الأسنان. وكما ذكرنا في الجزء الخاص بتطور الحيتانيات، تنمو لدى أجنة الحيتان البالينية براعم أسنان بالفعل. [10] كما تمتلك الطيور (وهي حيوانات بلا أسنان) جينات معطلة لتكوين أسنان! [11]

ووجود هذه الجينات الزائفة يعد من أقوى أدلة التطور من الجينوم، كما أنه دعم الأدلة التشريحية للتطور.

كيس المُح

نشترك نحن والزواحف والدجاج في امتلاكنا للبيض (البويضة في حالة إناث البشر). إلا أن الطيور (مثل الدجاج) لديها قشرة تحمي البيضة، كما تمتلك كيس المُح، والذي يقوم بتوفير الغذاء للجنين لمساعدته على النمو. ولكن بويضة الإنسان أصغر بكثير من بيض الدجاج، وليس فيها قشرة أو مُح حتى. ولكن تكون الأجنة البشرية كيس مح فارغ يختفي أثناء فترة الحمل، فهل من تفسير جيني؟

تمتلك كل الفقاريات التي تبيض بروتين Vitellogenin، مما يعني وجود جين يشفر لصنع هذا البروتين، فماذا تظهر الأبحاث؟

تظهر الأبحاث وجود قطع من DNA المُح في الجينوم البشري، مطابقة تماما للجينات الأصلية التي لدى الدجاج. ليس هذا وحسب، بل إنه عند مقارنة جينوم الإنسان بجينوم الدجاج يتضح أن هذه القطع محاطة بنفس الجينات لدى كل من الإنسان والدجاج. يعد هذا أحد أدلة التطور من الجينوم. [12] , [13]

جين NANOG

جين NANOG هو أحد «الجينات الزائفة المعالَجة-Processed pseudogenes». وهي جينات تنشأ نتيجة خطأ أثناء عملية نسخ حروف الDNA إلى mRNA. فبدلًا من أن تكتمل عملية إنتاج البروتين بشكل طبيعي، يُعاد بالخطأ نسخ الmRNA إلى الDNA لتكوين نسخة زائفة من الجين الأصلي في مكان آخر في الجينوم. هذا ما حدث مع NANOG، حيث نجد على الجينوم الخاص بنا 10 نسخ زائفة من هذا الجين بالإضافة إلى النسخة الأصلية التي تعمل. فكيف يكون هذا دليلًا على التطور؟

تكمن المفاجأة في أننا نتشارك 9 نسخ زائفة من جين NANOG مع أبناء عمومتنا من الشيمبانزي. بينما النسخة NANOGP8 حصرية لدى جينوم الإنسان. والأدهى، أن هذه النسخ ال 9 موجودة على جينوم الشيمبانزي في نفس الأماكن التي توجد فيها على جينوم الإنسان! إن احتمالية حدوث نفس الأخطاء 9 مرات في نفس المكان لدى النوعين بشكل منفصل احتمالية غاية في الضآلة. وأن تصدف هذه الاحتمالية شديدة الضآلة بين كائنين تصفهم نظرية التطور بالأقرابة يصعب الأمر على منكرين التطور. المشكلة لدى منكري التطور هو في إيجاد تفسير آخر خارج نظرية التطور لتلك الأدلة الحاسمة.

وهذا يعني أننا ورثنا 9 نسخ NANOG زائفة من آخر سلف مشترك بيننا وبين الشيمبانزي، أما عن النسخة المتبقية وهي NANOGP8، فهي وجدت في جينوم الإنسان بعد انفصاله عن الشيمبانزي، وهذا يعد أحد أقوى أدلة التطور من الجينوم. [14]

«سيتوكروم سي-Cytochrome C»

هناك جينات تتشاركها كل الكائنات الحية على اختلافها، لأنها تؤدي وظائف أساسية للغاية. جينات تتشاركها كل الكائنات ابتداء من أشكال الحياة وحيدة الخلية وحتى الإنسان، وتُعرف هذه الجينات ب «الجينات واسعة الانتشار-Ubiqitous genes».

وهذه الجينات ليس لها دخل بالصفات الخاصة بكل نوع، إذ أنها كما قلنا أعلاه، مسئولة عن وظائف أساسية للغاية تتشاركها معظم أشكال الحياة. ولا يُشترط أن تكون هذه الجينات بنفس تسلسل الحروف، إذ أن هناك عدد كبير من التسلسلات التي تؤدي نفس الوظيفة الحيوية الكيميائية.

والوراثة كما ذكرنا في أمثلة كثيرة أعلاه، تسمح بتمرير تسلسلات الجينات حتى وإن لم يكن لهذه التسلسلات فائدة وظيفية. وعلى هذا، فلا يمكننا تفسير وجود نفس التسلسل في هذه الجينات بين نوعين إلا بالوراثة؛ ذلك لأنهم لا يحتاجون نفس التسلسل إن كان كل منهم قد وجد بشكل منفصل كما يدعي المنكرون. يكفي وجود جين مكافئ يؤدي وظيفة مشابهة وهو أمر يحدث في الطبيعة بالفعل.

على سبيل المثال، نحن نعلم أن الإنسان والشيمبانزي متشابهين في كثير من الصفات. فيمكننا البناء على هذا، وتنبؤ استخدامهم لبروتينات متشابهة، بغض النظر عن ما إذا كانت تجمعهم علاقة وراثية أم لا. يصبح الأمر أكثر غرابة عندما نقارن بين تسلسلات جينية غير مؤثرة على خصائص أي من النوعين، فعلام نتحدث؟

نحن نتحدث عن بروتين «سيتوكروم سي-Cytochrome C»، وهو بروتين واسع الانتشار، إذ يوجد في كل أنواع الكائنات الحية بما في ذلك البكتيريا. وهو موجود في الميتوكندريا، حيث يقوم بنقل الإلكترونات في عملية أيض أساسية تُدعى ب «الفسفرة المؤكسدة-Oxidative phosphorylation».

ومما سبق يمكننا استنتاج أن امتلاك كل الكائنات لنفس تركيبة سيتوكروم سي شيء غير ضروري بالمرة، إذ يكفي فقط امتلاكها لبروتين مكافئ يؤدي نفس الوظيفة.

كما أظهرت الأبحاث أن سيتوكروم سي الخاص بالإنسان يعمل لدى الخميرة التي تم حذف نسخة سيتوكروم سي الخاصة بها. على الرغم من أن نسبة الاختلاف بين تركيبة السيتوكرومين تبلغ 40%.

في الواقع، سيتوكروم سي الخاص بالتونا (أسماك)، والحمام (طيور)، والأحصنة (ثدييات)، وذباب الفاكهة (حشرات)، والفئران (ثدييات)، جميعها تعمل في الخميرة التي تم حذف سيتوكروم سي الخاص بها!

علاوة على ذلك، أثبت تحليل جيني شامل لسيتوكروم سي أن أغلب الأحماض الأمينية الموجودة في تسلسل هذا البروتين غير ضرورية. وأنه فقط حوالي ثلث الأحماض الأمينية ال100 الموجودة في سيتوكروم سي كافية للقيام بوظيفته، وذلك لأن معظم الأحماض الأمينية في سيتوكروم سي هي أحماض «مفرطة التغيير-Hypervariable». والأحماض المفرطة التغيير يمكن استبدالها بعدد كبير من الأحماض الأمينية الأخرى التي ستكون قادرة على إتمام نفس الوظيفة.

تجربة هوبرت

والغريب في الأمر هو قيام الفيزيائي Hubert P. Yockey بحساب عدد تسلسلات الأحماض الأمينية الممكنة لتكوين البروتينات المكافئة لسيتوكروم سي، والقادرة على القيام بنفس تلك الوظيفة الأساسية. تبيّن أن عدد هذه التسلسلات الممكنة هو 10⁹³ × 2.316، وهو عدد مهول يزيد عن عدد الذرات في الكون المعروف بأكثر من بليون مرة! ومما سبق نستنتج أن تشابه تركيبة سيتوكروم سي بين الكائنات ليس ضروريًا على الإطلاق، فهل يخبرنا المنكرون سبب حدوثه إن كانت نظرية التطور خاطئة؟

ولكن العجيب هو أن الإنسان والشيمبانزي يتشاركون نفس تركيبة سيتوكروم سي، بلا أي اختلاف، واحتمالية حدوث هذا إذا أنكرنا العلاقة الوراثية بين الإنسان والشيمبانزي أقل من 10^-93 (1 من 10⁹³)، ويختلف كل من الإنسان والشيمبانزي عن باقي الثدييات الأخرى ب10 أحماض أمينية في تسلسل سيتوكروم سي فقط، وفرصة حدوث هذا إذا أنكرنا علاقتهم التطورية هي 10^-29 (1 من 10²⁹).

والخميرة أحد أبعد الكائنات «حقيقيات النوى-Eukaryotic» عن الإنسان، إلا أنها تختلف عنّا في تركيبة سيتوكروم سي ب51 حمض أميني فقط، وفرصة حدوث هذا دون وجود علاقة وراثية بيننا وبين الخميرة أقل من 10^-25 (1 من 10²⁵). [15]

ومن كل ما سبق نستنتج أن التشابه في تركيبة سيتوكروم سي بين الكائنات الحية إنما هو نتيجة انحدارها من أسلاف مشتركة بينها، وكلما كانت الكائنات أبعد في الشجرة التطورية عن بعضها البعض، كلما زادت الاختلافات في تركيبة بروتين سيتوكروم سي، وكل هذا يجعل من سيتوكروم سي أحد أقوى أدلة التطور من الجينوم.

تشفير DNA زائد عن الحاجة

كما هو الحال مع سيتوكروم سي، هناك جينات أخرى واسعة الانتشار. لا تحتاج الكائنات نفس التسلسل الجيني لإنتاج نفس البروتين، ولن نترك المثال السابق، فسنتحدث أيضًا عن الجين المسئول عن إنتاج بروتين سيتوكروم سي.

على الأقل، هناك ثلاث «كودونات-Codons» مختلفة يمكنها إعطاء الأمر للريبوسوم لاختيار نفس الحمض الأميني لوضعه في تسلسل البروتين. (الكودون هو الثلاث حروف من الDNA التي يقرأها الريبوسوم لاختيار الحمض الأميني). وهذا يعني أنه في حالة سيتوكروم سي، هناك حوالي 3¹⁰⁴ أو ما يزيد عن 10⁴⁶ تسلسل جيني مختلف يمكنهم إنتاج نفس البروتين بنفس تسلسل الأحماض الأمينية للقيام بنفس الوظيفة.

وبالتالي فاستخدام الكائنات المختلفة لنفس التسلسل لا يمكن تفسيره وفقًا لفكرة الخلق الخاص ولا التصميم الذكي لكل نوع بشكل منفرد. إذ يمكن لكل كائن أن يستخدم تسلسلًا جينيًا مختلفًا. والعجيب، والمتوقع وفق نظرية التطور، أننا عند فحص التسلسل الجيني المسئول عن إنتاج سيتوكروم سي لكل من الإنسان والشيمبانزي، نجد اختلافًا في 4 نيوكليوتيدات فقط (حوالي 1.2%)، على الرغم من وجود 10⁴⁶ تسلسل جيني ممكن.

في حالة سيتوكروم سي، سنجد أن التشابه في تسلسل الأحماض الأمينية غير ضروري! وكذلك في الجين المسئول عن تشفيره! مما يجعله دليلًا مزدوجًا من أدلة التطور من الجينوم. [15]

«الفيروسات القهقرية-Endogenous Retroviruses»

لا تستطيع الفيروسات التكاثر بذاتها، فعندما يُصاب الكائن بعدوى فيروسية، يقوم الفيروس بإدخال حمضه النووي إلى الحمض النووي الخاص بالخلية، فتقوم الخلية بصنع المزيد من الفيروسات من نفس النوع.

ولكن إذا أصاب الحمض النووي الفيروسي حيوانًا منويًا أو بويضة فسينتقل الحمض النووي الفيروسي إلى الأبناء. هذا لا يعني بالضرورة موت الإبن، إذ أن بعض الطفرات قد تحدث في الجين الفيروسي لتعطيله.

إذا فجينات الفيروسات القهقرية هي جينات موجودة في الجينوم الخاص بك، أتت إليك عندما أصيب أحد أسلافك بهذه الفيروسات ونقل جيناتها إليك على مدى أجيال. تعمل الفيروسات القهقرية كسجل تاريخي لك ولأسلافك من الكائنات الحية التي أصابتها من قبل.

يجب أن تكون الفيروسات القهقرية اختبارًا قويًا لنظرية التطور، أليس كذلك؟ فإذا كنا نحن والرئيسيات الأخرى انحدرنا من سلف مشترك فيجب أن نعثر على جينات فيروسات قهقرية من فيروسات أصابت أسلافهم قبل انفصال الرئيسيات عن بعضها البعض. كما يجب أن نعثر عليها في نفس المكان في الجينوم، إذ أن احتمالية أن يقوم الفيروس بإدخال الجين في نفس المكان على الجينوم لدى نوعين مختلفين دون افتراض وجود علاقة وراثية بينهما هي احتمالية غاية في الضآلة! تخيل أن تراكم عدد هائل من الاحتماليات شديدة الضآلة في كل الكائنات الحية لتفسير الأمر بالصدفة، يصبح تفسيرك مضحك للغاية بحق!

إن كان كل نوع من الرئيسيات قد خُلق بشكل خاص، فلا يجب أن تتشارك الرئيسيات جينات نفس الفيروسات في نفس الأماكن على الحمض النووي الخاص بها بالطبع. تسامحًا مع المنكرين، قد نعثر على نفس الفيروسات، ولكن ليس في نفس الأماكن أبدًا. إذ أن الفيروس عندما يصيب كائنًا ما، فهناك عدد كبير جدًا من الأماكن على الجينوم التي قد يُدخل حمضه النووي فيها. فقد أظهرت دراسات شاملة أن هناك ما يزيد عن 10 مليون مكان ممكن على الجينوم الخاص بالإنسان!

عند مقارنة الجينوم الخاص بالإنسان وذلك الخاص بالشيمبانزي، فاحتمالية عثورنا على جين فيروسي في نفس المكان بين النوعين، وأن يكون الجين عائدًا إلى نفس الفيروس، هي احتمالية أقل من 1 في 10 مليون.

قام العلماء بالبحث عن فيروس HERV-W لدى 12 نوع من الرئيسيات. ويمتلك الشيمبانزي من فيروس HERV-W عدد 208 نسخة، بينما يمتلك الإنسان 211 نسخة، فماذا وجدوا؟

أظهرت الدراسات أن الإنسان والشيمبانزي يتشاركون 205 نسخة من نفس هذا الفيروس في نفس المكان على جينوم كل منهما! [16] أنت الآن أمام دليل لا يدع مجال للشك أمام أي متخصص.

صورة توضيحية فقط وليست موضحة لأماكن الفيروسات، ولكنها لتبسيط الفكرة فقط. حقوق الصورة: Stated Clearly

إذا فقد ورث كل من الإنسان والشيمبانزي 205 نسخة من هذا الفيروس من آخر سلف مشترك لهما قبل انفصالهما. بينما ال 6 نسخ الحصرية لدى الإنسان وال 3 نسخ لدى الشيمبانزي، على الأرجح قد ظهرت بعد انفصال المسارات التطورية لكل منهما.

وهذا بحد ذاته كافٍ لتنحية فكرة الخلق الخاص أو التصميم الذكي. إذ أن احتمالية إصابة كلا النوعين بنفس الفيروس في نفس الأماكن على الجينوم بهذا العدد من النسخ بشكل منفصل هو احتمال ضئيل يبلغ 1 في 10¹⁴¹⁸ × 5.88. [17] وهذا يجعل من الفيروسات القهقرية دليلًا بالغ القوة من أدلة التطور من الجينوم.

جين ACYL3

نختتم كلامنا عن أدلة التطور من الجينوم بالحديث عن جين ACYL3 من باب التعديد وليس الإثبات، فما سبق أكثر من كاف. يعمل جين ACYL3 في كل الثدييات على كوكب الأرض (بما في ذلك الغوريلا والأورانجوتان) باستثناء نوعين فقط، وهما الإنسان والشيمبانزي. مما يعني تعطله في آخر سلف مشترك بين الإنسان والشيمبانزي، وهو ما يؤكده كون هذا الجين مُعطل لدى النوعين لنفس السبب بالضبط وهو حدوث طفرة أبدلت الجوانين بالأدينين. فبدلًا من أن يكون التسلسل هو TGG، والذي عند ترجمته يعطي الأمر للريبوسوم باختيار الحمض الأميني «تريبتوفان-Tryptophan»، جعلته الطفرة TGA، والذي عند ترجمته يعطي الأمر للريبوسوم بالتوقف ففسد الجين لدى هذين النوعين فقط. [18]

ولا يمكن تفسير تعطل الجين لدى نوعين فقط بنفس السبب إلا في ضوء نظرية التطور من سلف مشترك. وهو ما يجعله أحد أقوى وأبسط أدلة التطور من الجينوم.

قمنا في هذه السلسلة بسرد عدد كبير من أدلة التطور، وكلها كانت على سبيل المثال لا الحصر. فهناك عدد كبير من الأدلة التي لا يمكننا حصرها في سلسلة مقالات، بل أن هناك أدلة تظهر مع المزيد من الأبحاث يوميًا. فبعض الأدلة الواردة في هذا المقال مأخوذة من أبحاث لم يمر على نشرها 4 سنوات حتى، أي أن الأدلة في تزايد مع استمرار الأبحاث العلمية. فمجال التطور من أكثر المجالات التي تُنشر فيها الأبحاث العلمية. وبعد أن انتهينا من سرد أدلتنا، ننتقل في الجزء القادم إلى تفنيد دعاوى الخلقيين والرد عليهم بخصوص “التصميم الذكي”.

المصادر

[1] The Tech Genetics
[2] Livescience
[3] The Genetic Code: What Is It Good For? An Analysis of the Effects of
Selection Pressures on Genetic Codes, by Olivia P.Judson, Daniel Haydon
[4] Human Origins
[5] PNAS
[6] Springer
[7] Oxford
[8] Inactivation dates of the human and guinea pig vitamin C genes, by Marc Y. Lachapelle, Guy Drouin
[9] Bio med central
[10] Royal Society
[11] Bio med central
[12] PLOS
[13] Pubmed
[14] NCBI
[15] Talk Origins
[16] Pubmed
[17] Google.Docs
[18] PLOS

الجين الأناني، أحد وسائل تفسير الإيثار والتضحية في ضوء نظرية التطور

يرى البعض أن سلوكيات كالإيثار والتعاون مثيرة للحيرة من الناحية التطورية، حيث تتناقض مع سعي الفرد للبقاء. وقد فسرها البعض أنها تطور على مستوى مجموعات الكائنات. فوجود ذلك السلوك يجعل تلك المجموعات أكثر قدرة على البقاء. لكن البعض الآخر فسرها على أنها نزعة لجينات أنانية نحملها للبقاء بغض النظر عن الفرد وهو ما يعرف بمفهوم الجين الاناني. ترى ما هية هذه الجينات الأنانية؟ وكيف تؤثر على الفرد بشكل قد يؤدي إلى تفوقه أو يهوي به إلى هلاكه؟

لا شك أن غالبيتنا سمع بشكل أو بآخر عن نظرية التطور. والتي تشير بشكل عام إلى وجود أصول مشتركة بين الأنواع المختلفة. وأن محرك قوي يسمى الانتخاب الطبيعي هو الذي حدد بقاء أنواع أو انتشارها أكثر من غيرها وفناء انواع أخرى.
لطالما اعتقد المختصون أن عملية الانتخاب الطبيعي تتم على مستوى الكائن. إلى أن ظهر مفهوم جديد ثوري حول حدوث الانتخاب الطبيعي على مستوى المورثات (الجينات). وقد تحدث عنه عدد من العلماء. أشهرهم هو عالم الأحياء التطورية ريتشارد دوكينز Richard Dawkins وذلك في كتابه الجين الأناني The Selfish gene والذي أثار فيه فكرة الرؤية الجينية للتطور. [1]

الرؤية الجينية للتطور:

كما ذكرنا وكما هو معروف للجميع فإن النظرة التي كانت سائدة في دراسة تطور الكائنات الحية كانت تدور حول ان التنافس عل ىالبقاء يتم على مستوى أفراد النوع وبفعل الانتخاب الطبيعي يتم الانتقاء. لكن اقترح بعض العلماء على رأسهم ريتشارد دوكينز طريقة أخرى للنظر إلى عملية التطور. حيث أوضح ان التنافس يكون على مستوى الجينات وما الأفراد إلا حوامل فقط للجينات. وفي هذه العملية تسعى الجينات إلى التنافس وإكثار نسخها بغض النظر عن كون ذلك يؤدي إلى نجاة الفرد وبقائه أو فنائه. [2]

تاريخ مفهوم الجين الأناني:

في الحقيقة لم يكن مفهوم وجود جينات تسعى إلى الانتشار والتكاثر حديثاً وقت طرح ريتشارد له في كتابه. فقد بدأ ظهور المفهوم عام 1928 في ورقة بحثية عن المحرك وراء انتشار الكرموزوم إكس في نوع من ذباب الدورسوفيلا (ذباب الفاكهة). تلى ذلك وصف عالم النبات السويدي أويسترجرين Östergren مجموعة من الكروموزمات في النباتات تسمى كروموزومات ب B Chromosomes بأنها كروموزومات طفيلية. حيث أنها وعلى العكس من الكروموزومات أ A Chromosomes لا تحمل فائدة وظيفية للعائل. ومع ذلك تسعى لنشر وإكثار نفسها. [1، 2]

لكن صياغة المفهوم نفسه وشهرته كانت على يد العالم جورج وليامز George Williams في كتابه التكيف والانتخاب الطبيعي Adaptation and Natural Selection والعالم ريتشارد دوكينز Richard Dawkins في كتابه المُصنف ضمن الكتب الأكثر مبيعاً الجين الأناني The Selfish Gene.
[1]

صورة توضح: من اليمين كتاب التكيف والانتقاء الطبيعي لجورج ويليامز، ريتشارد دوكينز(وسط)، وكتاب الجين الأناني لريتشارد دوكينز (يسار). [3]

أمثلة على الجين الأناني في الطبيعة:

هناك نوعان من الصراع بين الجينات. صراع بين جينات الفرد الواحد Intraindividual conflict وصراع بين جينات الأفراد Interindividual conflict. كلا الصراعان هدفه إكثار وبقاء جينات دوناً عن غيرها.


1- الجينات القافزة والعناصر الجينية المتنقلة Transposable element and mobile genetic elements:

تتميز تلك العناصر الجينية على قدرتها على الانتقال من موقع لآخر على نفس الجينوم أو إلى موقع آخر في جينوم آخر. وقد تحتوي شفرة لإنزبمات تساعدها على التنقل عن طريق قص ولصق نفسها وقد لا تحتويها. وفي الحالة الأخيرة قد تعتمد على جينات اخرى تساعدها على التنقل. سواء كانت تلك الجينات هي الأخرى متنقلة أم لا.

2- الجينات الموجِهة للانقسام الميوزي Meiotic driver genes:

بشكل عام فإن الانقسام الميوزي عملية عادلة في إعطاء احتمالات متساوية لنسختي الكروموزومات في الوقوع في خلية جنسية فاعلة أو في أخرى غير فاعلة. تمتلك بعض الجينات الأنانية القدرة على إخراج الانقسام الميوزي عن حياده وتوجيهه بحيث تقع في القطب الذي سينتج الخلية الجنسية الفاعلة. ومن ثم تزيد من فرص انتشارها. فعلى سبيل المثال تضمن كروموزومات ب الانتقال إلى خلية جنسية (مشيج) فاعلة عن طريق توجيه نفسها نحو القطب الذي سينتجها أثناء الانقسام. [2]

3- جينات تُسبب تشوهات ما بعد التوزيع Post segregation distortion:

بعض الجينات الأنانية لا تكتفي بزيادة انتشارها وإنما تقضي أيضاً على الجينات المنافسة. حيث تقوم بقتل الخلايا الجنسية التي نتجت عن انقسام ميوزي ولم تكن تحتوي هذا الجين الأناني. هذه الجينات تُعرف بقاتلة الأمشاج (الخلايا الجنسية) Gamete killers. على سبيل المثال: بعض الميكروبات تحتوي بلازميدات قاتلة مسئولة عن إفراز سم يقتل الخلايا غير الحاملة للبلازميد. وبذلك يضمن البلازميد بقاء الخلايا التي تنقله لذريتها ويضمن عدم استبداله ببلازميد منافس. حيث أنه بفقده تفقد الخلية دفاعاتها ضد السم وتموت منه.[2، 5]

صورة توضح آلية عمل الجينات الأنانية القاتلة للجاميتات. [6]

4- تأثير اللحية الخضراء Green Beard Effect:

يعتبر سلوك هذا النوع من الجينات الأنانية مثيراً للاهتمام. حيث تتمكن هذه الجينات من تمييز عائلها بعلامة تمكن غيره ممن يحملون نفس الجينات من التعرف عليه. ومن ثم يتعاونون معاً لزيادة مكاسبهم على حساب باقي الأفراد غير الحاملة للجين. يطلق العلماء على هذه الظاهرة تأثير اللحية الخضراء The Green Beard Effect.
[7]
على سبيل المثال: جينFLO1 الموجود لدى بعض فصائل فطر الخميرة ييمزها بعلامة تجعل الخلايا الحاملة للجين قادرة على التكتل معأً دوناً عن باقي الخلايا غير الحاملة للجين. و يمكنها هذا التكتل من التعاون والاستفادة من الوسط المحيط وتقليل ضغط البيئة المحيطة بها بشكل يشبه ما تفعله البكتيريا في البيوفيلم. [8] مثال آخر هو نمل النار حيث تقتل الشغالات الحاملة للجين جي بي-9 Gp-9 المسئول عن إنتاج البروتين العام-9 General protin-9 الملكات غير الحاملات للجين. [7]

صورة لشغالات نمل النار تحمل الجين جي بي-9 تقتل ملكة تحمله. [7]

تأثير الجين الأناني على الكائن الحي:

إن الآثار التي قد تنتج عن حمل العائل لهذا النوع من الجينات الأنانية تتراوح بين أن تكون حيادية أو نافعة (تساعد في نجاة وتنافسية العائل) أو ضارة تؤثر بالسلب على بقاء العائل.


فعلى سبيل المثال قد تتسبب الجينات الأنانية في:
1- خلل في وظائف الخلية: قد تتسبب الجينات القافزة في إضطراب في الشفرة الوراثية ينتج عنه خلل في وظائف الخلية مما يعهدد بقاءها.

2- زيادة التنافسية وفرص البقاء: بعض العناصر الجينية المتنقلة تمنح العائل قدرة على النجاة لم تكن لديه. كما تفعل بعض هذه العناصر مع بعض الخلاي الميكروبية فتجعلها مقاومة لبعض المضادات الميكروبية.

3- تكوّن أجناس جديدة: قد ينتج عن نشاط وتنقل العناصر الجينية المتنقلة أجناس جديدة.

4- انقراض الكائن: في بعض الدراسات وجد العلماء أن كثرة العناصر الجينية المتنقلة قد تؤدي إلى انقراضات في بعض الطيور والنباتات والزواحف لكن ليس الثديات. [2]

جدل علمي حول طبيعة الجينات الأنانية:

لا يزال هناك جدال قائم مستمر حول ما إذا كانت بعض هذه الجينات الأنانية حافظت على وجودها بسبب قدرتها على إكثار نفسها أم بسبب أهميتها البيولوجية لبقاء الكائن الحي. وذلك رغم كثرة الادلة التي ترجح أن هذه الجينات طفيلية طريقتها في الانتشار هي التي تحافظ على بقاءها بالأساس. [2]

المصادر:

1- Selfish genetic elements (plos.org)
2- Selfish genetic elements, genetic conflict, and evolutionary innovation | PNAS
3- Amazon.com and Wikipedia
4- Meiotic Drivers: Cheaters divide and conquer | eLife (elifesciences.org)
5- Genetic Villains: Killer Meiotic Drivers. – Abstract – Europe PMC
6- A MUTANT KILLER PLASMID WHOSE REPLICATION DEPENDS ON A CHROMOSOMAL “SUPERKILLER” MUTATION | Genetics
7- The greenbeard effect (cell.com)
8- FLO1 Is a Variable Green Beard Gene that Drives Biofilm-like Cooperation in Budding Yeast ScienceDirect

كيف يفسر علم النفس السلوكيات المتعلّقة بالجوع والطعام؟

من البديهي القول أن الحاجة إلى الطعام هي واحدة من الحاجات الفيزيولوجية الأساسية للحياة. لذلك فإن هذه الحاجة لم تحافظ فقط على الحياة البشرية، بل لعبت دورًا أساسيًا في صقل  سلوكيات الإنسان الحديث عبر التطور لملايين السنين. في القرن العشرين، بدأت محاولات علم النفس في تفسير السلوكيات المتعلقة بالطعام. فما هي أبرز النظريات حول ماهية الجوع؟ وكيف يفسر علم النفس السلوكيات المتعلّقة بالجوع والطعام؟

نظريات النقطة المحددة:

يعتقد غالبية الأشخاص أن الجوع ينتج عن نقص في الطاقة، بحيث أن جسدنا يطلب الطعام للحفاظ على مستوى الطاقة لديه. ويسمّى هذا الاعتقاد ب”Set-point assumption – اعتقاد النقطة المحددة”. وهو يقارن الجسم بالمنظم الحراري (الترموستات) الذي يعطي الحرارة أو التبريد بحيث تصبح حرارة المنزل أقرب إلى النقطة المحددة (Set-point).

وقد طرح العلماء نوعين من نظريات النقطة المحددة هما:

  • نظرية توازن السكري: تعتبر هذه النظرية أن هدف تناول الطعام الأساسي هو الحفاظ على توازن مستوى السكري. وتصف هذه النظرية بشكل رئيسي شعوري الجوع والشبع وتربطهما بمستوى السكر في الدم. إذ تعتبر أننا نشعر بالجوع عند انخفاضه، وننهي وجبتنا عند استعادة مستواه الطبيعي.
  • نظرية توازن مستوى الدهون:  تعتبر أن كل شخص يملك مستوى دهون، وأن أي انحراف عن هذا المستوى يقابله تعديلات في نسب الأطعمة، وتصف هذه النظرية عملية تنظيم وزن الجسم (على الأمد الطويل).

إذًا فإن هاتين النظريتين لا تتعارضان، بل هما تتكاملان في وصف عمليات الجوع والشبع (بدء الوجبة وإنهائها) من جهة، ووصف تنظيم وزن الجسم من جهة أخرى.

نقد نظريات النقطة المحددة:

واجهت نظريات النقطة المحددة العديد من الانتقادات بحيث اعتبرها الكثير من الباحثين غير كافية لتفسير سلوكيات تناول الطعام.

لا تفسّر هذه النظريات اضطرابات الأكل المنتشرة حول العالم، كالسمنة مثلًا. إذ تدل هذه الاضطرابات أن الأشخاص يميلون إلى الأكل بالرغم من وجود مخزون كافٍ من الطاقة (الدهون) في جسدهم.

كذلك فإن هذه النظريات غير قابلة للتطبيق في حالة  أسلافنا، الذين كانوا يمرون بفترات متقطعة من توفر الطعام بكثرة أحيانًا وفترات أخرى من نقص الطعام الحاد. لذلك كانوا بحاجة لتناول أكبر كمية ممكنة من الدهون خلال توفرها لتخزينها لفترات لاحقة.

بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الباحثون أن نقص مستوى السكر في الدم نادرًا ما يحفز الشعور بالجوع. إذ إن الشخص يحتاج لحقن إبرة الأنسولين (مادة تخفّض مستوى السكر في الدم)، لكي يشعر بالجوع.

كما أن الكثيرين من الباحثين يعتبرون أن هذه النظريات تتجاهل الكثير من العوامل التي تؤثر في سلوكيات الأكل كالتذوق والتعلم والعادات الاجتماعية وغيرها.

نظريات الجوع والطعام الحديثة:

نظرية الحافز الإيحابي للطعام:

على عكس نظريات النقطة المحدّدة، تعتبر نظرية الحافز الإيجابي أن الذي يدفعنا لتناول الطعام ليس هو نقص مخزون الطاقة بل توقع اللذة التي تنتج عن الطعام. وقد أثبتت العديد من الدراسات ثبات هذه النظرية عند البشر وعند الحيوانات. نذكر منها دراسة أُجريت عام 1980 على فئران بحيث تم إضافة وجبات من الشوكولا والخبز على وجباتها الأساسية (الكافية أساسًا). وبيّنت النتائج زيادة بنسبة 84% في كمية السعرات الحرارية، وازداد وزنها بحوالي 48% بعد 120 يوم.

أثبتت الدراسات كذلك أن العديد من العوامل تؤثر في كمية الطعام المتناولة؛ مثل نكهات الأطعمة وتوقيت الوجبات ووجود العائلة أو الأصدقاء خلال الوجبة، وغيرها من العوامل.

نظرية وودز- Woods :

عارض الباحث ستيفن وودز نظرية النقطة المحددة أيضًا، واعتبر أن تناول الطعام يشوش التوازن في الجسد. إذ أن بعد تناول وجبة طعام، تتدفق كمية كبيرة من الدم إلى الجهاز الهضمي، وترتفع نسبة السكر في الدم، كما ترتفع حرارة الجسم.

لذلك اعتبر وودز أنه من الصحي تناول العديد من الوجبات الصغيرة ( 6 إلى 7 مرات في اليوم) بدل تناول 3 وجبات كبيرة.

النظرية التطورية للجوع والطعام:

بحسب النظرية التطورية للطعام، طوّرت الثدييات نظام تغذية لتجنب فقدان مخزون الطاقة، وذلك لأن الثدييات (وأسلافنا من البشر) عاشت في محيط ذي كميات طعام غير ثابتة. لذلك يميل البشر إلى تناول كميات كبيرة من السكريات والدهون والأطعمة المالحة، بهدف تخزين كميات من الطاقة. يمكننا بهذا فهم سبب تفاقم اضطراب السمنة في المجتمعات الحديثة حيث الأطعمة متوفرة بشكل دائم وبكميات كبيرة.

المصادر:

edx

University of British Columbia

إقرأ أيضًا: ما هو الدافع (الحافز) في علم النفس

Exit mobile version