تمرد كريول

عندما نذكر العبيد يأتي في مخيلتنا رهطٌ من الأفارقة مكبلين بالأصفاد، يركبون سفن الاتجار بهم بإذلالٍ وانكسار. فقد صورتهم لنا بعض الكتابات كأنهم خلقوا عبيدًا، ولم تكن لهم رغبة في التحرر. بل ينسب فضل التحرر عادة لمن أجبروهم منذ بادئ الأمر على تلك الحياة. ورغم ذلك، فتاريخ العبيد خاصةً عبيد الولايات المتحدة مليء بحالات التمرد والثورات. ورغم تلقيهم للتعنيف الجسدي والنفسي جراء ذلك التمرد، إلا أن حملاتهم المتتالية في الحصول على حريتهم لم تتوقف يومًا. ونجد في تمرد سفينة كريول خير مثالٍ على ذلك.

يتم تصنيف تمرد سفينة كريول على أنه واحد من أشهر حالات التمرد الناجحة، والتي ثابر فيها 135 عبد لاقتناص حريتهم. انطلقت سفينة الكريول في رحلة من رحلاتها المعتادة لتجارة العبيد عام 1841، بدأت مسيرتها من ميناء ريتشموند محملة بـ 103 عبد. وعند مرورها بمدينة هامبتون رودز حمّلت 32 عبد آخرين. إضافة لذلك كان هناك بعض تجار العبيد مع عبيدهم الثمانية، وتبغ مرسل لأجل التجارة وتبادل السلع. إضافة إلى زوجة القبطان وابنته. كان خط سير السفينة يبدأ بريتشموند ليصل إلى نيو أورليانز لإيصال حمولة العبيد كالمعتاد. ولكن شيئًا ما غير مسار تلك الرحلة ومصير من عليها، لم يكن مخطط له. [1]

كيف بدأ التمرد على سفينة كريول؟

في السابع من نوفمبر عام 1841 وبعد حوالي أسبوع من انطلاق الرحلة التجارية تمرد 19 عبدًا على متن سفينة كريول الأمريكية. لم يكن العبيد على سفينة كريول مكبلين كباقي السفن، بل تم الاكتفاء بوضعهم في زنازين داخل المركب واحدة للرجال وأخرى للنساء. حيث دارت مشاورات بين 19 عبدًا حول إمكانية تحررهم، إما الآن أو يبقوا عبيدًا للأبد. ترأس تلك المجموعة عبد يدعى ماديسون واشنطن، حيث كان يرأس مطبخ العبيد. وكان لذلك أفضلية له في استكشاف السفينة بحرية، والوصول كذلك للأسلحة. [2]

 بدأت الاشتباكات بين العبيد التسعة عشر وطاقم السفينة بعد أن اكتشف زيفانيا جيفورد الرقيب الأول على متن السفينة واشنطن في قسم النساء. فطالبه بالكشف عن هويته لتعجبه من وجود رجلٍ في سجن النساء الممنوع عليهم. ليجره إلى السطح ويبدأ الاشتباك بينهما فيصاب الرقيب بجروح بليغة ويفر هربًا لتحذير طاقم السفينة. وهنا نادى واشنطن العبيد في الأسفل قائلًا: “هيّا يا رجال، لقد بدأنا الطريق ويجب علينا المضي قدمًا”. [2]

ليصعد 3 عبيد آخرين بقيادة بِين بلاكسميث إلى جون هيويل أحد أشهر تجّار العبيد ويجهزوا عليه. وأصابوا بعدها القبطان وعدد من طاقمه. وجراء ذلك الاشتباك أصيب أحد العبيد بجروح بليغة ليموت بعد ذلك. [1]

ماديسون واشنطن

كان أبرز هؤلاء العبيد هو ماديسون واشنطن، وهو عبد ولد في العبودية وتذوق الحرية للمرة الأولى قبل عامين من حادثة تمرد كريول عندما هرب إلى كندا. التقى واشنطن في طريق هربه بالمناضل الأمريكي روبرت بورفيس، فاستضافه خلال رحلة هربه ليتشاركا الحلم ذاته بالتحرير. افتتن واشنطن بآرائه حول إلغاء العبودية وقانون الإعدام، وألهمته قصص التمرد الناجحة التي حكاها بورفيس كتمرد أميستاد. [2]

كان لقاء واشنطن و بورفيس نقطة تحول أخرى في حياة العبد المحرر، والذي لم يلبث في ذلك الوضع كثيرًا. حيث عاد بحثًا عن زوجته، محاولًا تحريرها كما تحرر هو، ليقع في شباك الحكومة الأمريكية ليصبح بعد ذلك شعلة تمرد كريول. [2]

سيطرة العبيد على السفينة

بعد أن تصاعد التوتر على متن كريول أجبر العبيد مشرف الطاقم ويليام ميرت بالسلاح على الإبحار بهم بعيدًا عن سواحل أمريكا. واحتجزوا القبطان وأفراد عائلته في مقدمة السفينة مع اثنين من العبيد كحراسة لهم. اقترحوا حينها أن يبحر بهم ميرت إلى ليبيريا الواقعة في غرب أفريقيا. ولكن بسبب نقص المؤونة أخبرهم المشرف باستحالة تلك الخطة.[1]

وبعد أن احتدمت النقاشات اقترح بلاكسميث أن يبحروا إلى وجهة ليس للسلطة الأمريكية إمرة عليها. فكانت وجهتهم إلى سواحل الجزر الغربية الهندية الكامنة تحت وصاية الانتداب البريطاني. ولم يكن ذلك الاقتراح فقط لكون جزر الباهاما مستعمرة بريطانية، بل لعلمهم بأن عبيد هيرموسا قد حصلوا على حريتهم في العام السابق بموجب قرار بريطاني. فتنامى الأمل على سفينة كريول، وأبحر العبيد بحثًا عن حريتهم.[1]

ما مصير العبيد على متن السفينة؟

رست السفينة في جزيرة ناسو عاصمة الباهاما، ليطأ ربان ناسو وطاقمه من السكان السود المحليين سفينة كريول ويعلن نهاية ذلك التمرد. و قبل أن يزف إليهم خبر حريتهم بموجب القانون البريطاني لعام 1833، والذي ينص على منع تجارة العبيد على الأراضي البريطانية.استطاع المشرف ابلاغ القنصل الأمريكي بما حدث من تمرد عبيد الكريول عن طريق حرس السواحل، وما أسفرت عنه من إصابة قبطانها وقتل أحد التجار.[1]

ليرسل الحاكم البريطاني فرانسيس كوكبيرن 25 جندي إلى السفينة ليمنعوا التسعة عشر عبدًا المحركين لذلك التمرد، والمتسببين كذلك في تلك الحادثة من النزول حتى يتم التحقيق معهم. ولكن ليس بواسطة السلطة المحلية، بل بإرسال تقرير للحكومة الرئيسية في لندن لتنظر ماذا تفعل بالجناة. ورفض كذلك كوكبيرن طلب القنصل الأمريكي بالتحفظ على السفينة حتى تأتي قوة عسكرية أمريكية وتتعامل معهم كونها سفينة أمريكية مختطفه. بل وتحرر بعد ذلك من تبقى من العبيد غير المشاركين في الحادث، وسمح لهم بالخروج وممارسة حياتهم الطبيعية مرة أخرى.[2]

قرر بعض المحررين أن يكملوا حياتهم في جزر الباهاما، وقرر البعض الآخر السفر إلى جزيرة جمايكا. ولكن ليس كل اختيار يعني حرية. فهنالك خمسة من العبيد أختاروا أن يعودوا مرة أخرى إلى العبودية، وكانت حريتهم في عبوديتهم. وفي إبريل من العام التالي تم الإفراج عن 17 عبد من المحتجزين الباقين على قيد الحياة من بينهم شعلة التمرد واشنطن، ليحصل مرة أخرى على حريته ولكن تلك المرة للأبد. وتحول بذلك واشنطن كأيقونة للحرية في تاريخ العبيد، وأصبح تمرد كريول أحد أبرز وأنجح حركات العبيد التحررية والتي أثمرت عن حرية 128 عبد اقتنصوا حريتهم بأيديهم.[1]

الخلافات الأمريكية البريطانية حول سفينة كريول

احتدمت الخلافات الأمريكية البريطانية بسبب القانون البريطاني لتحرير العبيد، ليس لاعتراض أمريكا على قناعة البريطانيين بتحرير العبيد. بل لتطبيق قانون تحرير العبيد على السفن الأمريكية التي تحمل ما اعتبرته أمريكا ملكية لها من عبيد، واعتبروا ذلك تعدٍ واضح على ممتلكاتهم الخاصة. وتفاقمت النزاعات القضائية في المحاكم الدولية حول قانون تحرير العبيد، ومدى صلاحيته في القانون الدولي عبر الحدود والقارات.[2]

فبعد وصول أخبار سفينة كريول إلى وزير الخارجية الأمريكي دانييل ويبستر، استشاط غضبًا واعتبر ما حدث من الحكومة البريطانية انتهاك لقانون أمريكا بالتعدي على ممتلكاتها. ولكن لم يسفر ذلك إلا عن استهجان بريطانيا لذلك ودحضها لذلك القانون الأميريكي بقانونها المعني بإلغاء العبودية. وأنها لا تملك الحق باحتجاز أي إنسان دون تهمة جنائية. [2]

لم يكن تمرد كريول حدثًا عابرًا، بل تسبب في احتدام الخلافات بين الحكومتين. حيث سافر وفد بريطاني بقيادة اللورد أشبورتون إلى أمريكا لحل الأزمة الحدودية بين الأراضي والمستعمرات البريطانية الكندية، وأراضي أمريكا الشمالية. ولكن لم تسفر المفاوضات عن شيء فاضطر أشبرتون بالتعهد بعدم المساس بالسفن التجارية الأمريكية. [2]

وقامت اللجنة المسؤولة عن تسوية القضية بمنح أصحاب العبيد المحررين تعويضًا بقيمة 110,330 دولار. وتم ترسيم الحدود لتحصل أميريكا على نصف الأراضي المزعومة من كندا بموجب شروط معاهدة ويبستر- أشبرتون. وأخيرًا تعهدت الحكومات المشاركة في المعاهدة بمنع تجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي، لتنتهي بذلك التجارة العالمية للعبيد وتستمر التجارة المحلية في أميركا حتى منتصف القرن التاسع عشر. [2]

المصادر:

1- BlackPast.org

2- History.com

من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟

من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟ ما بين صرخة مارتن لوثر كينج الإبن: “عندي حلم :I have a dream”، وصرخة جورج فلويد تحت أقدام الشرطي الأمريكي في 25 مايو 2020: “لا أستطيع التنفّس :I can’t breath” أكثر من نصف قرن، تخللتها أحداث كبرى، اعتقد البعض فيها أن العنصرية قد انتهت بالكامل، لتوقظ صرخات جورج أمريكا على كابوس مُفزع حاول السياسيون الأمريكيون واحدًا تلو الآخر حجبه عن الشعب الأمريكي بشتى الطرق. الواقع الأمريكي يقول أن المساواة قد أصبحت كاملة بين البيض والسود، إذ وصل باراك أوباما الأمريكي من أصول أفريقية للحكم في 2009 ليصبح الرئيس رقم 44 للبلاد وقضى فترتين رئاسيتين حتى 2017، فكيف وصلنا إلى جورج فلويد؟ أو كما يُعنون مقالنا، من جورج فلويد إلى الدمى السوداء، هل تحققت المساواة حقًا في أمريكا؟ دعونا نضع الأمور في نصابها أولاً، ونفهم سبب الانتفاضة الحالية.

خطبة مارتن لوثر كينج جونيور i have a dream

لماذا انتفض الأمريكيين من أصل أفريقي الآن تحديدا؟

بجانب حادث فلويد، هناك عوامل اقتصادية أيضًا، فالكورونا تلقي بظلالها على الأحداث. فقد ملايين الأمريكيين وظائفهم، إذ وصل معدّل البطالة في أبريل 2020 حوالي 14.7% وبالطبع كان للأمريكيين من أصول أفريقية نصيب أكبر من غيرهم، فهم يعانون من التمييز بسبب العرق في الوظائف، فبالرغم من أن السود يمثلون 1 إلى 8 من السكان، إلا أنهم يمثلون رُبع الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية. فمن لا يملك مدخرات كافية تساعده بعد فقدان وظيفته سيعاني بشده حتى يحصل على وظيفة جديدة لقلة المعروض، وهو ما يمثل ضغطًا شديدًا على الكثير من الأسر الأمريكية من أصل أفريقي أكثر من غيرها، لكن هل هو الجانب الاقتصادي وحده أم أن هناك جوانب أخرى تحتاج لتسليط الضوء عليها؟ هل المشكلة في القوانين؟ أم في التركيبة السكانية؟ أم هو اليمين الأمريكي المحافظ؟ أم هي التركيبة النفسية للجماهير؟

التعليم

قد تتعدد المشكلات والأسباب وراء حادث جورج فلويد، لكن دعنا نضع أصابعنا في هذا المقال على جانب قد يغيب على الكثيرين، ألا وهو التعليم. وللتعليم في أمريكا أصول عنصرية قديمة وغريبة، وكما قال الرئيس الأمريكي جونسون في أحد مقولاته:

“التعليم ليس المشكلة، لكنه الفرصة”

إذن كيف أضاعت أمريكا تلك الفرصة؟

الفرصة التي أتاحتها الدمى السوداء

ليندا براون وطفليها

دائمًا ما نجد الدمى في محلات الألعاب أو بين أيدي الأطفال، ولكن دخلت بعض الدمى إلى واحدة من أكبر قاعات المحاكم احترامًا في الولايات المتحدة، وذلك في قضية تُعرف باسم “براون ضد مجلس التعليم” أو “Brown v. board of education”، القضية التاريخية لعام 1954 التي ألغت في نهاية المطاف الفصل العنصري تحت شعار “منفصل لكن متساوي” في الولايات المتحدة، سمع قضاة المحكمة العليا الحجج والمرافعات الشفوية وبحثوا في ملفات القضايا، لكن لم يمنعهم كل ما سبق من أن يعتبروا دمى لطفلين، أحدهما بيضاء والأخرى سوداء – أسلحة غير متوقعة في معركة مكافحة التمييز العنصري. كانت الدمى جزءًا من مجموعة من التجارب النفسية الرائدة التي قام بها الثنائي مامي وكينيث كلارك، وهما فريق يتكون من زوج وزوجة من علماء النفس الأمريكيين الأفارقة الذين كرّسوا عمل حياتهم لمكافحة التمييز العنصري ضد الأطفال وعلاجهم من آثاره.

سبب تسمية القضية يعود لفتاة تُدعى ليندا براون والتي قرر والدها أوليفر براون أن يقدّم لها في مدرسة صيفية للبيض فقط في توبيكا وهو ما قوبل بالرفض، مما دعاه لرفع القضية.

التجربة

أظهرت غالبية الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي تفضيلهم للدمى البيضاء بدلاً من الدمى السوداء خلال “اختبار الدمى”، وهو ما اعتبره كلاركس نتيجة للتأثيرات الضارة للفصل العنصري. ساعد عمل آل كلاركس وشهادتهما في القضية -التي أصبحت معروفة تاريخيًا باسم “قضية براون ضد مجلس التعليم”- قضاة المحكمة العليا بل والعالم كله على فهم بعض الآثار الباقية للفصل العنصري على الأطفال المتضررين. بالنسبة لكلاركس، أظهرت النتائج آثار مُدمّرة للحياة في مجتمع رافض للأمريكيين من أصل أفريقي. كانت تجربتهم، التي تضمنت دمى ذات بشرة بيضاء وأخرى سوداء، بسيطة بشكل مخادع ولم يتوقعه أحد.

د.دينيث كلارك يتابع أحد الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي وهو يختار في تجربة الدمي

كان على كلاركس دهن دمية بيضاء باللون البني من أجل الاختبارات، إذ لم تُصنع الدمى الأمريكية الأفريقية في ذلك الوقت بعد، ثم طُلب من الأطفال تحديد الدمى الأفضل بعدد من الأسئلة مثل: تلك التي يرغبون في اللعب بها، أو تلك التي تبدو “بيضاء”، أو “ملونة”، أو “زنجية”، أو “جيدة” أو “سيئة”. أخيرًا، طُلب منهم تحديد الدمية التي تشبههم تمامًا.

جميع الأطفال المُختبرين كانوا من السود بالطبع، وجميعهم باستثناء مجموعة واحدة التحقوا بمدارس منفصلة أي مدارس للسود فقط وفقا لقوانين عُرفت باسم قوانين جيم كرو للفصل العنصري، وتحديدًا قرار المحكمة المعروف باسم “براون الثاني”. فَضّل معظم الأطفال الدمية البيضاء عن الدمية الأفريقية. كان بعض الأطفال يبكون ويهربون من الغرفة عندما يُطلب منهم تحديد الدمية التي تشبههم، وهذه النتائج أزعجت الزوجين كلاركس لدرجة أنهم أخّروا نشر استنتاجاتهم.

هل كان قرار براون الثاني ضد الفصل العنصري أم معه؟

كان قرار براون الثاني مُصاغا للقضاء على التمييز العنصري وإلزام المقاطعات بمنح فرص تعليمية متساوية لمواطنيها دون تمييز عرقي، لكن بسبب ديباجة النص الفضفاضة ” … بأقصى سرعة ممكنة” والتي استخدمها بعض المتعصبين من أجل وقف تنفيذ القرار لسنوات والإضرار بالمواطنين الأمريكيين من أصل أفريقي.

كان لدى الزوجة مامي كلارك صلات مع النضال القانوني المتنامي لمكافحة الفصل العنصري، فقد عملت في مكتب أحد المحامين الذين ساعدوا في إرساء أسس قضية “براون ضد مجلس التعليم”. وعندما علمت (الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين أو الأفارقة الأمريكيين) NAACP بعمل آل كلاركس، طلبوا منهم المشاركة في قضية ستُدرج لاحقًا في الدعوى الجماعية المرفوعة حينها إلى المحكمة العليا. لذا توجه الزوج كينيث كلارك إلى مقاطعة كلارندون بولاية كارولينا الجنوبية لتكرار تجربته مع الأطفال السود هناك. وذكر في وقت لاحق أنها كانت تجربة مرعبة، خاصة عندما تعرّض مضيفه NAACP للتهديد في حضوره. وقال د.كينيث كلارك عن تلك التجارب: “كان علينا أن نختبر هؤلاء الأطفال”. “لقد رأى هؤلاء الأطفال أنفسهم أقل شأنًا وقبلوا الدونية كجزء من الواقع”.

لم يكن إجراء تجربة الدمى بالمحكمة أمر سهل

كان ثورغود مارشال حريصًا على استخدام تجربة آل كلاركس في أكبر قضية جماعية وهي “براون ضد مجلس التعليم”، ولكن لم يقتنع الجميع. وكتبت المؤرخة مارثا مينو ما قاله المحامي الحقوقي سبوتسوود روبنسون وهو ممثل NAACP: “من الجنون والإهانة إقناع محكمة بدمى سخيفة”. لكن المحكمة لم توافقه الرأي. شهد كينيث كلارك في ثلاث من المحاكمات وساعد في كتابة ملخص لجميع استشهادات العلوم الاجتماعية للمحاكمات الخمس التي استُخدمت في قضية المحكمة العليا. وأخبر القضاة والمحلفين أن تفضيل الأطفال الأمريكيين من أصل أفريقي للدمى البيضاء يمثّل ضررًا نفسيًا عززه الفصل العنصري. وقال أمام هيئة المحلفين في قضية بريجز (إحدى القضايا المتفرعة من القضية الرئيسية “براون ضد مجلس التعليم”، “أرى أن التأثير الأساسي للفصل هو ارتباك وتضارب المفاهيم لدى الأفراد عن أنفسهم وصورهم الذاتية”. وآمن بأن الشعور بالنقص الناجم عن الفصل كان له عواقب حقيقية مدى الحياة – عواقب بدأت قبل أن يتمكن الأطفال من معرفة أي شيء حول العِرق. كان عمل وشهادة آل كلاركس جزءًا من قضية أوسع نطاقا جمعت خمس حالات وغطت تقريبًا كل جانب من جوانب الفصل العنصري المدرسي – بالرغم من ذلك، يعتقد بعض المؤرخين بأن اختبارات الدمى لعبت دورًا ضئيلًا نسبيًا في قرار المحكمة. لكن أصداء نتائج تجربة الدمى تكمن في الرأي الجمعي لقضاة المحكمة العليا.

قرار تاريخي

كتب رئيس المحكمة ايرل وارن في حكمه التاريخي: “فصل الأطفال السود من نفس العمر والمؤهلات عن الآخرين فقط بسبب العرق، يولّد شعورًا بالدونية فيما يتعلق بوضعهم في المُجتمع، وهو ما قد يؤثر على قلوبهم وعقولهم بطريقة يمكن أن تصبح غير قابلة للمحو”. ساعد عمل كلاركس في القضاء على الفصل العنصري في الولايات المتحدة. اليوم، تُعرض إحدى الدمى السوداء في موقع براون التاريخي ضد مجلس التعليم في كانساس. لكن تبقى التحيزات العنصرية التي وثقها الزوجان في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين موجودة.

فرصة مُهدرة!

في عام 2010 ، نفّذت الـ CNN نسخة حديثة من الدراسة باستخدام صور كرتونية للأطفال وشريط ألوان أظهر مجموعة من درجات لون البشرة – ووجدت نتائج مشابهة بشكل مذهل للنتائج التي أظهرتها تجربة كلاركس. في الاختبار الجديد، اختبرت باحثة تنمية الطفل مارجريت بيل سبنسر 133 طفلاً من مدارس تحوى مزيج عرقي وشرائح دخل مختلفين. نظرت الدراسة هذه المرة إلى الأطفال البيض أيضًا. وعلى الرغم مما بدا أن الأطفال السود لديهم وجهات نظر أكثر إيجابية تجاه الدمى السوداء، إلا أن الأطفال البيض حافظوا على انحياز شديد تجاه الصور البيضاء. تقول سبنسر للسي إن إن: “ما زلنا نعيش في مجتمع يقلل من قيمة السود ويرفع من قيمة البيض” . قد لا تكون قوانين جيم كرو العنصرية موجودة في نصوص القانون ومحاكم الولايات المتحدة اليوم، ولكن التحيز العرقي ما زال موجودًا ونرى آثاره ممتدة عبر الأجيال. أهدرت الولايات المتحدة نصف قرن منذ تلك التجربة لمعرفة أهمية القضاء على التمييز العنصري للمجتمع الأمريكي ومستقبله.

عنصرية الألفية الثالثة

تغيّرت بالطبع ثقافة الإنكار لدى الأمريكّيين العاديّين بشكلٍ كبير، وهو ما أثبتته دراسات استقصائيّة على مدى عقود عديدة ماضية، تُخبرنا بأنّ هناك قطّاعات كبيرة من الأمريكيّبن تعترف بتبنّي وجهات نظرٍ تمييزيّة حتّى في أمريكا الحديثة، فعلى سبيل المثال، واحد من كل عشرة أمريكييّن أقرّ بتحيزه ضد الأمريكيين من الأصول المختلفة. كما وجد استطلاع الإيكونومست عام 2018 أنّ 17٪ من الأمريكيين يعارضون الزواج بين عرقين مختلفين، و19٪ يعارضون الزواج من المجموعات العرقية “الأخرى”، و 18٪ يعارضون الزواج من السود، و17٪ يرفضون الزواج من البيض، و15٪ يرفضون الزواج من اللاتينيين. بل ويعتقد البعض أن قوانين المجمّع الانتخابي والمسؤولة عن انتخاب الرئيس الأمريكي هي بذاتها قوانين عنصرية، فهي تمنح بعض الولايات رغم عدد السكان الكبير وزن أقل في انتخاب الرئيس بالطريقة غير المباشرة بسبب نشأتها القديمة العنصرية. كما أن فرص العائلة الأمريكية من أصول أفريقية للمعاناة من الفقر هي ضعف فرص العائلات الأمريكية البيضاء أو الأمريكيين الأسيويين، وهو ما ينعكس بالطبع على الفرص التعليمية المتاحة لهم. تلك النتائج إن تدل، فهي تدل على عنصرية متجذّرة تحتاج لمواجهة مستمرة وإجراءات أقوى للقضاء عليها، قد تتباطأ فيها الولايات المتحدة وتحتاج لمحررين جدد للقيام بهذا الدور.

لا نعتقد بأن الأمر يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن يحتاج الأمر لسرد في مقال آخر، فما رأيك عزيزي القارئ؟ إذا أجريت تجربة الدمى على أطفالك في بلدك أينما كنت، فأيهما سيختار، الدمية البيضاء أم السوداء؟

Exit mobile version