شرح مبسط لجائزة نوبل في الفيزياء 2022 وسبب الفوز بها

باستخدام التجارب الرائدة، أظهر كلا من آلان أسبكت وجون كلاوزر وأنتون زيلينجر، الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء 2022، إمكانية التحقيق والتحكم في الجسيمات الموجودة في حالات التشابك. حيث ما يحدث لجسيم واحد في زوج متشابك يحدد ما يحدث للآخر حتى لو كان أحدهما بعيدًا عن الآخر على نحو كبير جدًا. فما طوره العلماء الحائزين على نوبل في الفيزياء 2022 للأدوات التجريبية بمثابة الأساس لعصر جديد من تكنولوجيا الكم.

قوة التشابك الكمي هو سر نوبل في الفيزياء 2022

لا تمثل ميكانيكا الكم مجرد نظرية أو قضية فلسفية! بل هناك بحث وتطوير مكثف للاستفادة من الخصائص الخاصة بأنظمة الجسيمات الفردية. كل ذلك يصب في مصلحة بناء حواسيب كمية وتحسين القياسات وبناء شبكات كمية وإنشاء اتصال آمن مُشفر كميًا. وتعتمد الكثير من التطبيقات على تقنية الكم، إذ تسمح لجسيمين أو أكثر بالوجود في حالة متشابكة وذلك بغض النظر عن مدى تباعد كلا منهما عن الآخر. يُعرف ذلك باسم «التشابك-Entanglement» والذي أثار جدل واسع في ميكانيكا الكم منذ أن صيغت النظرية.

تحدث ألبرت أينشتاين عن تلك الحركة الخفية عن بُعد. كما قال إروين شرودنجر إنها أهم سمة لميكانيكا الكم. وهذا العام استكشف الفائزون بجائزة نوبل في الفيزياء 2022 هذه الحالات الكمية المتشابكة. ووضعت تجاربهم الأساس للثورة القائمة حاليًا في تكنولوجيا الكم.

ما هو التشابك الكمي؟

حين يتشابك جسيمان كميًا، يمكن للشخص الذي يقيس خاصية لجسيم واحد أن يحدد على الفور نتيجة قياس مكافئ للجسيم الآخر. يحدث الأمر دون الحاجة إلى التحقق، فهو مضمون. وقد يكون ذلك عجيب على مسامعك بالبداية! لكن إذا فكرنا في الكرات بدلاً من الجسيمات. فيمكننا تخيل تجربة يتم فيها إرسال كرة سوداء في اتجاه ما وكرة بيضاء في الاتجاه المعاكس. ويمكن للمراقب الذي يمسك كرة ويرى أنها بيضاء أن يعرف على الفور أن الكرة التي تحركت في الاتجاه الآخر سوداء.

فما يجعل ميكانيكا الكم مميزة هو أن مكافئتها للكرات ليس لها حالات محددة حتى يتم قياسها. قد يبدو الأمر كما لو أن كلتا الكرتين ذو لون رمادي، حتى ينظر شخص ما إلى أخر. بعد ذلك، يمكن أن يأخذ بشكل عشوائي كل الأسود الذي يمكن لزوج الكرات الوصول إليه أو يمكن أن يظهر أنه أبيض. فتتحول الكرة الأخرى على الفور إلى اللون المعاكس.

ولكن كيف يمكن معرفة أن الكرات لم يكن لها لون محدد من البداية؟ حتى لو بدت رمادية اللون، فربما كانت تحتوي على ملصق مخفي بالداخل. يشير إلى اللون الذي يجب أن تصبح عليه عندما ينظر إليها شخص ما.

هل هناك لون ما من الأساس في حالة غياب المراقبة؟

كي نفهم الأمر، يمكن مقارنة الأزواج المتشابكة لميكانيكا الكم بآلة ترمي كرات ذات ألوان متناقضة في اتجاهات متعاكسة نحو طفلين وهما بوب وأليس. وعندما يمسك “بوب” الكرة ويرى أنها سوداء، يعرف على الفور أن “أليس” قد التقطت كرة بيضاء.

نظريًا، عند استخدام المتغيرات الخفية بدلًا من الألوان المحددة من البداية، بدا أن الكرات تحتوي دائمًا على معلومات خفية حول اللون الذي يجب إظهاره لبوب أو أليس. وعلى الرغم من ذلك، تقول ميكانيكا الكم أن الكرات كانت رمادية اللون بشكل ما، إلى أن نظر إليها أحدهما. وعندما تحولت إحداهما إلى اللون الأبيض بنظر أليس إليها، أصبحت الأخرى سوداء. وتفترض مبرهنة بيل لعدم التساوي أن هناك تجارب يمكن أن تفرق بين هذه الحالات. ولكن ما سنراه لاحقًا، أن تلك التجارب أثبتت أن وصف ميكانيكا الكم هو الصحيح وليس مبرهنة بيل.

المتغيرات الخفية وميكانيكا الكم

سبب منح جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022

يُعدّ جزء مهم مما تمت مكافأة العلماء الثلاثة عليه بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2022 هو الإطاحة بمبرهنة عدم التساوي لبيل. إذ تسمح مبرهنة عدم التساوي لبيل بإمكانية التفريق بين “اللا تحديد المسبق للجسيمات في ميكانيكا الكم” من جهة و”الوصف البديل باستخدام تعليمات سرية أو متغيرات خفية” من جهة أخرى. حيث أظهرت التجارب أن الطبيعة تتصرف كما تنبأت ميكانيكا الكم وليس كما توضح المبرهنة. فالكرات رمادية اللون، وبدون معلومات سرية، والمصادفة وحدها هي التي تحدد اللون الأسود والأبيض في التجربة. أي أنه لا توجد حالة أساسية محددة للون الكرات قبل إطلاقها!

طرق جديدة من خلال الحالات الكمية

يمكننا من خلال الحالات الكمية المتشابكة إيجاد طرق جديدة لتخزين المعلومات ونقلها ومعالجتها. وتحدث أشياء مثيرة للاهتمام إذا كانت الجسيمات في زوج متشابك وتتحرك في اتجاهين متعاكسين. فإذا التقى أحدهما بجسيم ثالث بطريقه تصبح متشابكة معهم. ثم يدخلون مع بعضهم في حالة مشتركة جديدة. فيفقد الجسيم الثالث هويته، لكن خصائصه الأصلية انتقلت الآن إلى الجسيم المنفرد من الزوج الأصلي.

هذه الطريقة لنقل حالة كمية غير معروفة من جسيم إلى آخر تسمى النقل الآني الكمي. كان هذا النوع من التجارب أجراه أنتون زيلينجر وزملاؤه في عام 1997. ومن اللافت للنظر أن النقل الآني الكمي هو الطريقة الوحيدة لنقل المعلومات الكمية من نظام لآخر دون أن يفقد أي جزء منها. حيث من المستحيل تمامًا قياس جميع خصائص النظام الكمي ثم إرسال المعلومات إلى المستلم الذي يريد إعادة بناء النظام. وذلك لأن النظام الكمي يمكن أن يحتوي على عدة نسخ من كل خاصية في وقت واحد، حيث يكون لكل نسخة احتمالية معينة للظهور أثناء القياس. وبمجرد إجراء القياس، تبقى نسخة واحدة فقط، وهي النسخة الذي قرأتها أداة قياس. لقد اختفى الآخرون ومن المستحيل معرفة أي شيء عنهم. وعلى الرغم من ذلك، يمكن نقل الخصائص الكمية غير المعروفة تمامًا باستخدام النقل الآني الكمي وتظهر سليمة وكاملة دون فقدان في جسيم آخر، مع ملاحظة أنها تُدمر في الجسيم الأصلي.

هل أمكننا تطبيق الانتقال الآني عمليًا؟

بمجرد عرض الانتقال الآني بشكل تجريبي، كانت الخطوة التالية هي استخدام زوجين من الجسيمات المتشابكة. فإذا تم تجميع جسيم واحد من كل زوج معًا بطريقة معينة، فيمكن للجسيمات غير المضطربة في كل زوج أن تتشابك على الرغم من عدم ملامستها أبدًا لبعضها البعض. تم توضيح تبادل التشابك هذا لأول مرة في عام 1998 من قبل مجموعة أنتون زيلينجر البحثية.

تمكن الفريق من إرسال أزواج الفوتونات المتشابكة وجزيئات الضوء في اتجاهين متعاكسين من خلال الألياف الضوئية لتعمل كإشارات في شبكة كمية. ويتيح التشابك بين الزوج من تمديد المسافات في مثل هذه الشبكة. فهناك حد للمسافة التي يمكن أن ترسل فيها الفوتونات عبر الألياف الضوئية قبل امتصاصها أو فقدان خصائصها. كما يمكن تضخيم الإشارات الضوئية العادية. لكن هذا لم يحدث مع الأزواج المتشابكة. إذ يجب على المضخم أن يلتقط ويقيس الضوء الذي يكسر التشابك. ومع ذلك، فإن تبادل التشابك يعني أنه من الممكن إرسال الحالة الأصلية إلى أبعد من ذلك، وبالتالي نقلها عبر مسافات أطول مما كان ممكنًا.

أجسام تتشابك دون اتصال!

ينبعث زوجان من الجسيمات المتشابكة من مصادر مختلفة. حيث يتم تجميع جسيم واحد من كل زوج معًا بطريقة خاصة تجعلهم متشابكين مع بعضهم البعض، ثم يتشابك الجسيمان الآخران (مثل 1 و 4 في الرسم التخطيطي) أيضًا. على هذا النحو، يمكن أن يتشابك جسيمان لم يكونا على اتصال مطلقًا.

من التناقض إلى اللا مساواة

أينشتاين أخطأ

نحن نسلم بأنه لا يمكن أن يتأثر شيء ما بحدث يقع في مكان آخر دون أن تصل إليه أي إشارة أولًا؟ كما لا يمكن للإشارة أن تنتقل أسرع من الضوء. هذا المبدأ، الذي يسميه الفيزيائيون بالمحلية، كان يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه افتراض أساسي حول قوانين الفيزياء. لكن ميكانيكا الكم دائمًا مبهرة وعجيبة! فقال ألبرت أينشتاين أن ميكانيكا الكم تسمح “بعمل مخيف عن بعد” -وهو التشابك الكمي-، على حد تعبير أينشتاين. في ميكانيكا الكم، لا يبدو أن هناك حاجة لإشارة لتوصيل الأجزاء المختلفة لنظام ما. حيث أن التشابك الكمي كسر تصور لازمية وجود إشارة وأن تكون أسرع من الضوء، لإنه بالفعل يحدث بسرعة كبيرة. وهذا التناقض مع المحلية محير بالنسبة لإينشتاين وغيره، نظرًا لعدم معرفة ماهية هذا التشابك.

قدم أينشتاين وزملائه منطقهم في عام 1935، بأنه لا يبدو أن ميكانيكا الكم تقدم وصفًا كاملاً للواقع. وذلك أصبح يسمى بمفارقة EPR -الاسم من عدد الأحرف الأولى من أسماء الباحثين-. كما وضحوا أن هناك «متغيرات خفية محلية-local hidden variables».

ما هي المتغييرات الخفية؟

لنفرض أن لديك زوج من الإلكترونات والذي إجمالي دورانهما يساوي صفر وذلك يعني أنه عند قياس دوران أي منهم على طول محور معين سيؤول لنتائج معاكسه للآخر، نظرًا لدورانهما عكس بعضهم البعض. وعلى الرغم من أن الدوران الكلي له قيمة محددة لكن الدوران الفردي لكل إلكترون غير محدد.

الآن لنفرض أنك فصلت هذه الإلكترونات المتشابكة ونقلتها إلى مختبرات بعيدة عن بعضها وأن فرقًا من العلماء في هذه المختبرات يمكنها إجراء قياسات الدوران. فعندما يقيس كلا الفريقين على طول نفس المحور، فإنهما يحصلان على نتائج معاكسة بنسبة 100٪ أيضًا.

يقترح أينشتاين أنه يمكن أن يأتي كل زوج من الإلكترونات مع مجموعة مرتبطة من “المتغيرات الخفية” -كما وضحنا- التي تحدد دوران الجسيمات على طول جميع المحاور في وقت واحد. لكن هذه المتغيرات الخفية غائبة عن الوصف الكمي للحالة المتشابكة، حيث يمكن للمتغيرات الخفية أن تفسر لماذا تؤدي قياسات المحور نفسه دائمًا إلى نتائج معاكسة دون أي انتهاك للمحلية -والمحلية توضح أنه لا يوجد شيء أسرع من الضوء-، قياس إلكترون واحد لا يؤثر على الآخر ولكنه يكشف فقط عن القيمة الموجودة مسبقًا لمتغير خفي.

بيل يستبعد المتغييرات الخفية

أثبت الفيزيائي جون بيل أنه يمكن استبعاد المتغيرات الخفية المحلية أي استبعاد الموقع تمامًا، عن طريق قياس دوران الجسيمات المتشابكة على طول محاور مختلفة. إذ أنه أليس من الممكن أن يكون السبب في النتائج المعاكسة دائمًا هم الأشخاص ذاتهم، ففي المثال السابق علماء المختبر هم المتحكمين في الدوران وقد يتفقوا على قياسات معينة. كما وضح اختلاف عالم الكم عن العالم الكلاسيكي، وأن ميكانيكا الكم غير متوافقة مع المتغييرات الخفية المحلية، لإن التشابك الكمي كسر مبدأ المحلية في العالم الكلاسيكي. ووضح كل ما ذكرناه من خلال مبرهنته عدم التساوي أو عدم المساواة والتي تبيّن أن جميع النظريات ذات المتغيرات الخفية، يكون الارتباط بين نتائج القياسات أقل من قيمة معينة أو مساوي لها على الأكثر. وهذا ما يسمى عدم التساوي لبيل. وعلى الرغم من ذلك، يمكن لميكانيكا الكم أن تنتهك المبرهنة والتنبؤ بقيم أعلى للارتباط بين النتائج مما هو ممكن من خلال المتغيرات الخفية.

تجارب لاختبار عدم التساوي لبيل

أصبح جون كلاوزر مهتمًا بأساسيات ميكانيكا الكم عندما كان طالبًا في الستينيات، ولم يستطع التخلص من فكرة جون بيل بمجرد أن قرأ عنها. في نهاية المطاف، تمكن هو وباحثين آخرين من تقديم اقتراح لنوع واقعي من التجارب يمكن استخدامه لاختبار عدم التساوي لبيل.

تتضمن التجربة إرسال زوج من الجسيمات المتشابكة في اتجاهين متعاكسين. في الممارسة العملية، يتم استخدام الفوتونات التي لها خاصية تسمى الاستقطاب. فعندما تنبعث الجسيمات، يكون اتجاه الاستقطاب غير محدد، وكل ما هو مؤكد هو أن للجسيمات استقطاب متوازي.

يمكن التحقق من ذلك باستخدام مرشح يسمح بالاستقطاب الموجه في اتجاه معين. هذا هو التأثير المستخدم في العديد من النظارات الشمسية، والذي يحجب الضوء الذي تم استقطابه في مستوى معين.

إذا تم إرسال كلا الجسيمين في التجربة نحو المرشحات التي يتم توجيهها في نفس المستوى على نحو عمودي، وانزلق أحدهما عندئذٍ سيمر الآخر أيضًا. إذا كانوا في زوايا قائمة لبعضهم البعض، فسيتم إيقاف أحدهم بينما يمر الآخر. الحيلة هي القياس باستخدام المرشحات الموضوعة في اتجاهات مختلفة بزوايا منحرفة، إذ يمكن أن تختلف النتائج بعد ذلك. فمثلًا، أحيانًا ينزلق كلاهما وأحيانًا واحدًا فقط وأحيانًا لا شيء. يعتمد عدد المرات التي يمر فيها كلا الجسيمين عبر المرشح على الزاوية بين المرشحات.

فتؤدي ميكانيكا الكم إلى ارتباط بين القياسات. تعتمد احتمالية الحصول على جسيم واحد على زاوية المرشح، التي اختبرت استقطاب شريكه على الجانب الآخر من الإعداد التجريبي. هذا يعني أن نتائج كلا القياسين في بعض الزوايا، تنتهك تساوي بيل ولها ارتباط أقوى مما لو كانت النتائج محكومة بمتغيرات خفية وتم تحديدها مسبقًا عند انبعاث الجسيمات.

انتهاك عدم التساوي

بدأ جون كلاوزر على الفور العمل على إجراء هذه التجربة. قام ببناء جهاز يُصدر فوتونين متشابكين في وقت واحد، وكل منهما باتجاه مرشح يختبر استقطابهما. في عام 1972، مع طالب الدكتوراه ستيوارت فريدمان (1944-2012)، كان قادرًا على إظهار نتيجة تمثل انتهاكًا واضحًا لعدم التساوي لبيل واتفق مع تنبؤات ميكانيكا الكم.

في السنوات اللاحقة، واصل جون كلاوزر وغيره من الفيزيائيين مناقشة التجربة وحدودها. كان أحدها أن التجربة كانت عمومًا غير صحيحة. حيث تم أيضًا ضبط القياس مسبقًا مع وجود المرشحات عند زوايا ثابتة. لذلك كانت هناك ثغرات، حيث يمكن للمراقب أن يشكك في النتائج وأنه ماذا لو الإعداد التجريبي بطريقة ما اختار الجسيمات التي تصادف أن يكون لها ارتباط قوي ولم تكتشف الجسيمات الأخرى؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد لا تزال الجسيمات تحمل معلومات خفية.

كان القضاء على هذه الثغرة بالذات أمرًا غاية في الصعوبة. لأن الحالات الكمية المتشابكة هشة للغاية ويصعب إدارتها، ومن الضروري التعامل مع الفوتونات الفردية. بعدها قام طالب الدكتوراه الفرنسي آلان أسبكت ببناء نسخة جديدة من الإعداد قام بتحريرها على عدة تكرارات. في تجربته، تمكن من تسجيل الفوتونات التي مرت عبر المرشح وتلك التي لم تمر. هذا يعني أنه تم اكتشاف المزيد من الفوتونات وكانت القياسات أفضل.

في النهاية، كان قادرًا أيضًا على توجيه الفوتونات نحو مرشحين مختلفين تم ضبطهما في زوايا مختلفة. تمثلت البراعة في الآلية التي غيرت اتجاه الفوتونات المتشابكة بعد تكوينها وانبعاثها من مصدرها. كانت المرشحات على بعد ستة أمتار فقط، لذا يجب أن يحدث التبديل في بضعة أجزاء من المليار من الثانية. إذا كانت المعلومات حول أي فوتون سيصل إليه، أثرت في كيفية انبعاثه من المصدر، فلن تصل إلى هذا المرشح. ولا يمكن أن تصل المعلومات المتعلقة بالمرشحات الموجودة على جانب واحد من التجربة إلى الجانب الآخر وتؤثر على نتيجة القياس هناك.

بهذه الطريقة، أغلق آلان أسبكت ثغرة مهمة وقدم نتيجة واضحة جدًا، وهي أن ميكانيكا الكم صحيحة ولا توجد متغيرات خفية.

شرح لتجارب كلا من جون كلوزر وآلان أسبكت وأنتون زيلينجر بالرسوم

  • استخدم جون كلاوزر ذرات الكالسيوم التي يمكن أن تصدر فوتونات متشابكة بعد أن أضاءها بضوء خاص. أقام مرشحًا على كلا الجانبين لقياس استقطاب الفوتونات، وبعد سلسلة من القياسات، كان قادرًا على إظهار أنها انتهكت عدم التساوي لبيل.
تجربة جون كلاوزر
  • طور آلان أسبكت هذه التجربة، باستخدام طريقة جديدة لإثارة الذرات بحيث تنبعث منها فوتونات متشابكة بمعدل أعلى. يمكنه أيضًا التبديل بين الإعدادات المختلفة، لذلك لن يحتوي النظام على أي معلومات مسبقة يمكن أن تؤثر على النتائج.
تجربة آلان أسبكت
  • أجرى أنتون زيلينجر في وقت لاحق المزيد من الاختبارات حول عدم التساوي لبيل. حيث قام بإنشاء أزواج متشابكة من الفوتونات عن طريق تسليط ليزر على بلورة خاصة. واستخدم أرقامًا عشوائية للتبديل بين إعدادات القياس. استخدمت إحدى التجارب إشارات من مجرات بعيدة للتحكم في المرشحات والتأكد من أن الإشارات لا يمكن أن تؤثر على بعضها البعض.
تجربة أنتون زيلينجر

في النهاية

وضعت هذه التجارب والتجارب المماثلة التي سبقتها الأساس للبحث المكثف الحالي في علم المعلومات الكمي. حيث تتيح لنا القدرة على معالجة الحالات الكمية وإدارتها والوصول إلى أدوات ذات إمكانات غير متوقعة. هذا هو أساس الحساب الكمي ونقل وتخزين المعلومات الكمية وخوارزميات التشفير الكمي. الأنظمة التي تحتوي على أكثر من جسيمين وكلها متشابكة وقيد الاستخدام الآن، وكان أنتون زيلينجر وزملاؤه أول من استكشفها.

فتعمل هذه الأدوات المحسنة بشكل متزايد على تقريب التطبيقات الواقعية من أي وقت مضى. حيث تم الآن إظهار حالات الكم المتشابكة بين الفوتونات التي تم إرسالها عبر عشرات الكيلومترات من الألياف الضوئية وبين قمر صناعي ومحطة على الأرض.

يمكنك أيضًا قراءة: ما هو الانتقال الآني الكمي؟

المصدر: موقع جائزة نوبل.

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

ماذا يحدث عندما يفسر أشخاص مختلفون التجربة نفسها بطرق مختلفة؟ هم لم ينفوا التقرير التجريبي ذاته، أي أنهم لم ينفوا حقيقة أن استخراج الهواء من مضخة الهواء، سيبقي قطعتا الرخام ملتصقتين في الهواء. لكن ما سبب الجدل والخلاف بينهم هو افتراض بويل نفسه!

بالنسبة لبويل، لم تنفصل قطعتا الرخام عن بعضهما نظرًا لاختلاف ضغط الهواء في قمة قطعتي الرخام وفي القاع. كانت هذه نظرية بويل عن الزنبرك أو مرونة الهواء. ومع ذلك، فإن أشخاصًا آخرين -بسبب معتقداتهم اللاهوتية أو الميتافيزيقية- لم يقبلوا رأيه.

شرح الآخرون ما حدث في مضخة الهواء بطرق مختلفة. لم يقبل فرانسيس لينوس مثلًا نظرية مرونة الهواء. إذ افترض لينوس أن بعض الهواء المخلخل كان يشغل المساحة الكاملة في مضخة الهواء بالفعل لكن هناك شيء آخر مثل الخيط يحافظ على قطعتي الرخام ملتصقتين في الهواء. [1]

هنري مور وروبرت بويل

كذلك هنري مور، الذي انتقد ادعاء بويل بافتراض أنه إذا حدث امتصاص للهواء من مضخة الهواء حقًا، فستميل الطبيعة لإعادة ملئه بمجرد غياب قوة تعيقه. واعتبر أن هذا ينطوي على افتراض أساسي مفاده أن المادة ستعيد ملء الفراغ. اعتقد هنري مور أن الفلسفة الميكانيكية وحدها -كالتي اعتمدت عليها نظرية مرونة بويل- لا يمكنها تفسير الظواهر.

ظن هنري أن وجود كائن غير مادي ضروري لشرح الظواهر التي تلاعبت بها بمضخة الهواء. في هذا المثال، يمكننا أن نرى كيف يمكن لمعتقدات المرء أن تؤثر على الطريقة التي يصف بها الظاهرة ذاتها. لم تكن تلك سمة من سمات العلم الحديث، بل هي سمة من سمات العلم بشكل عام. تعتبر العلاقة بين النظرية والتطبيق من أكثر القضايا تعقيدًا في النهج العلمي. [2]

لفترة وجيزة، اعتبر أن التجارب الحديثة المبكرة تستخدم فقط لاختبار الفرضيات والنظريات. هذا يعني أنها صُممت خصيصًا لتأكيد أو رفض الادعاء النظري، كما رأينا بالفعل في مثال تجربة المثانة لتأكيد الفرضية القائلة بأن الهواء يتحول إلى ماء بسبب البرد. بعد ذلك، أصبح للتجارب -حتى في الفترة الحديثة المبكرة- وظائف أكثر من مجرد اختبار للفرضيات. غالبًا ما تستخدم التجارب للإجابة على الأسئلة المفتوحة وصياغتها بشكل مختلف. بعبارة أخرى، صممت التجارب خصيصًا لتوفير معلومات حول ظاهرة ما؛ معلومات لم تكن موجودة في السؤال الأولي المطروح وهو أمر جديد حقًا بالنسبة للعلماء حينها. لكن هذا لا يعني أن التجارب مستقلة تمامًا عن النظرية. لا تزال التجارب مصممة للإجابة على سؤال معين، مما يجعلها مصممة للنظرية. [4]

بين بويل ونيوتن و نقد الفرضية العلمية

قَبِل بويل استخدام الفرضيات إذا كانت مؤقتة. واعتبر أن التجارب ستوفر معلومات كافية في النهاية لتوضيح المعرفة النظرية المثبتة. من ناحية أخرى، اعترض نيوتن على استخدام الفرضيات في الفلسفة الطبيعية، واعتقد بضرورة البحث في الطبيعة دون أي التزامات نظرية. ومع ذلك، استندت تحقيقاته الخاصة إلى بعض الفرضيات الأساسية، مثل النظرية الجسيمية للمادة.

اعتقد روبرت بويل أنه يمكن للفرضيات أن تصبح جزءًا من الفلسفة التجريبية إذا كانت تخمينية، ورأى أن التجربة ستخلق في النهاية معرفة يقينية. لكن رفض إسحاق نيوتن قبول الفرضية في الفلسفة التجريبية، معتبرًا إياها عائق على التحقق العلمي. واختلفا في أن المعرفة النظرية الوحيدة المقبولة هي تلك التي يجب أن تكون مستنبطة بالكامل من النتائج التجريبية.

الفرضية العلمية بين الأمس واليوم

تقدم مناهجنا الحديثة اليوم الطريقة العلمية كمرادف لاختبار الفرضيات. ومع ذلك، فإن الفرضيات هي مجرد أفكار حول كيفية عمل الطبيعة، أو ما أسماه العالم والفيلسوف ويليام ويويل من القرن التاسع عشر “التخمينات السعيدة”. وتنظم الفرضيات تفكيرنا بشأن ما قد يكون صحيحًا، بناءً على ما لاحظناه حتى الآن. فإذا كان لدينا تخمين حول كيفية عمل الطبيعة، فإننا نجري تجارب لاختبار التخمين.

في العلوم الكمية، يتمثل دور النظرية في إيجاد نتائج التخمين بالاقتران مع الأشياء التي نعرفها. ربما تكون الفرضية الأكثر شهرة في كل العلوم هي أن الأنواع الجديدة تنشأ من فعل الانتقاء الطبيعي على الطفرات العشوائية. بنى تشارلز داروين فرضيته على ملاحظة بعض الأنواع خلال رحلته الشهيرة إلى جزر غالاباغوس. فرضية داروين -عندما كانت مجرد فكرة- تنطبق على كل أشكال الحياة، في كل مكان وفي جميع الأوقات، مشحونة بقوة تنبؤية.

اختبرت أجيال من علماء الأحياء فرضية داروين تلك وبنت عليها مع مجموعة واسعة من الاكتشافات الجديدة. أصبحت نظرية التطور الآن راسخة باعتبارها الركيزة المركزية لعلم الأحياء، وكذلك مدعومة بالأدلة مثل أي نظرية في العلوم. ولكن ما الذي كان سيكتبه داروين لو أنه اضطر إلى كتابة مقترح بحثي لتمويل رحلته على متن سفينة بيجل الشهيرة؟ لم تكن لديه فرضية الانتقاء الطبيعي حينها بالطبع، أي قبل الرحلة. لقد نشأت فرضيته من الملاحظات ذاتها التي ينوي القيام بها. إذا كتب، بصدق، أن “الجزر المعزولة التي سنزورها هي مختبرات طبيعية ممتازة لمراقبة ما سيحدث للأنواع الوافدة إلى منطقة جديدة”، فسيُحكم على مقترحه البحثي وفقًا لمعايير اليوم باعتباره مقترح رحلة صيد بدون فرضية قوية. [3]

هل استخدم نيوتن الفرضية العلمية رغم نقده لها؟

ماذا عن نيوتن نفسه رغم احتجاجه على استخدام الفرضية؟ حدد نيوتن المتغيرات الصحيحة لمشكلة حركة الكواكب وهي القوة والزخم. لكن إذا وضعنا أنفسنا مكان نيوتن لنقرأ مقترحه البحثي بعيون اليوم، سنجده يكتب مثلاً: “أفترض أن العزم والقوى هي المتغيرات الصحيحة لوصف حركة الكواكب. أقترح تطوير طرق رياضية للتنبؤ بمداراتها، وسأقارنها مع الملاحظات الحالية “.

أعمال نيوتن لم تكن تخمينًا حول كيفية عمل الطبيعة، ولكنها أفضل طريقة لوصف الحركة رياضيًا، والتي من خلال نجاحها الواسع رسّخت مفاهيم بديهية للقوة والزخم والطاقة.

“لم أتمكن حتى الآن من اكتشاف سبب خصائص الجاذبية هذه من الظواهر، ولن أضع فرضيات. فكل ما لم يتم استنتاجه من الظواهر يجب أن يسمى فرضية؛ والفرضيات، سواء كانت ميتافيزيقية أو مادية، أو قائمة على صفات غامضة أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية. ففي هذه الفلسفة يتم استنتاج افتراضات معينة من الظواهر، وبعد ذلك يتم تحويلها إلى عامة عن طريق الاستقراء.”

إسحاق نيوتن

دوامات الجاذبية لرينيه ديكارت وكريستيان هيغنز

كتب نيوتن ردًا على نظريات دوامة الجاذبية التي وضعها رينيه ديكارت وكريستيان هيغنز. إذ تخيلا أن ما يسمى بالفضاء الفارغ مليئًا في الواقع بدوامات من الجسيمات غير المرئية التي اجتاحت الكواكب في مداراتها. فكرة الدوامة هي بالتأكيد تخمين حول كيفية عمل الجاذبية. لكنه ليس التخمين المفيد للغاية. إن فكرة الجسيمات غير المرئية التي تكشف عن نفسها فقط من خلال التأثيرات على الكواكب البعيدة التي يصعب الوصول إليها هي فكرة مطاطة وليست محددة بما يكفي لتقديم تنبؤات قابلة للاختبار. بلغة فيلسوف العلوم في القرن العشرين كارل بوبر، لا يمكن دحضها بسهولة.

لم يقدم نيوتن قصة عن آلية خيالية تفسر سبب الحفاظ على الزخم أو كيفية نشوء الجاذبية. بدلاً من ذلك، صاغ قواعد بسيطة تصف كيفية تحرك الكواكب. وكما تبين فيما بعد أنها تفسر كيف يتحرك كل شيء تقريبًا في الظروف العادية. وكما كانت رؤية نيوتن قوية، فإن وصفه للجاذبية كان أيضًا ذو خاصية مقلقة تتمثل في ذلك “الأثر المخيف الذي يقع” من الشمس على الكواكب، وفي الواقع من كل كتلة على كل كتلة أخرى.

الفرضية بين نيوتن وأينشتاين والعلم الحديث

استغرق الأمر 250 عامًا أخرى لشرح الأصل المادي للجاذبية. فكانت فرضية ألبرت أينشتاين حول الجاذبية ميكانيكية، بخلاف نيوتن، حيث تحني الكتلة الفضاء. ونتيجة لذلك، تنحني الخطوط المستقيمة بالقرب من الأجسام الضخمة، بما في ذلك مسار الضوء من النجوم البعيدة التي تمر بالقرب من الشمس في طريقها إلى تلسكوباتنا. لقد استغرق أينشتاين سنوات لتطوير معادلات رياضيات لإظهار أن وصف نيوتن، الذي كان متسقًا مع العديد من الملاحظات، كان مجرد تقدير. كما استغرق سنوات لصياغة تنبؤات مذهلة للأشياء التي تحدث للكتل الضخمة مثل الانهيار في الثقوب السوداء أو عندما تتحرك الكتل الكبيرة بسرعة هائلة مثل موجات الجاذبية.

فلماذا يتركز التمويل البحثي الحديث في يومنا هذا على البحث المبني على الفرضيات؟ إن التصميم التجريبي القائم على الفرضيات هو الأنسب لبعض المجالات المؤثرة، وخاصة البيولوجيا الجزيئية والطب. يدرس الباحثون في تلك المجالات أنظمة معقدة وغير قابلة للاختزال (كائنات حية)، ولديهم تحقيقات تجريبية محدودة، وغالبًا ما يُجبرون على العمل بمجموعة بيانات صغيرة. لا مفر من أن يكون البروتوكول التجريبي الأكثر شيوعًا في هذه المجالات هو الضغط على نظام حي معقد من خلال إعطائه عقارًا أو مادة كيميائية ثم قياس بعض الاستجابة غير المباشرة ذات الصلة. ويعتقد البعض أن هذه التجارب تعيش وتموت من خلال الاختبار الإحصائي، مما دفعهم إلى نقد الفرضية العلمية.

عن نقد الفرضية العلمية اليوم

يعتقد البعض أن هذا نموذج ضيق للغاية لما يمكن أن تكون عليه التجارب. ففي العلوم الفيزيائية، يصبح الباحثون أكثر قدرة على التعامل مع النظام المهتمون بدراسته وتبسيطه. كما يتمتعون أيضًا بتقنيات تجريبية أقوى من نواحٍ عديدة وتعتبر امتدادات لحواس الإنسان. تسمح تلك التقنيات برؤية المادة، والاستماع إلى كيفية رنينها استجابة لتعرضها لضغوط من المجالات الكهرومغناطيسية، ليشعر الباحث بكيفية استجابتها للدفع الحساس على مقياس النانو.

حين تتمكن من القيام بهذه الأشياء، يمكن أن تصبح التجارب أكثر بكثير من مجرد اختبار فرضيات، أي اختبار ما إذا كان تغيير X يؤثر على Y بدلالة إحصائية. في الواقع، يمكن النظر إلى تاريخ العلم باعتباره تطورًا لطرق جديدة لاستكشاف الطبيعة. لم يكن تلسكوب هابل الفضائي مدفوعًا بفرضية بل رغبة في النظر بعيدًا في عمق الكون. تمكّن الأرصاد والبيانات المأخوذة من هابل والتلسكوبات الحديثة الأخرى من صياغة واختبار فرضيات جديدة حول الكون المبكر. غالبًا ما يعتمد التقدم في العلم على التقدم في كيفية قياس شيء مهم. وبعد قرن من أينشتاين، أكدت أجهزة الكشف فائقة الحساسية توقعه لموجات الجاذبية.

تعتمد هذه الكواشف على أفكار ذكية لاستخدام الليزر وقياس التداخل لقياس تغيرات طفيفة للغاية في المسافة بين نقطتين على الأرض. ما كان لهذا العمل أن يصبح مدفوعًا بالفرضية، إلا بالقول بأن النسبية العامة تتنبأ بموجات الجاذبية. وبالمثل، غالبًا ما يعتمد التقدم في العلوم الكمية على التقدم في قدرتنا على حساب عواقب الفرضيات الموجودة بالفعل.

في تقييم مقترحات البحث اليوم، يعتقد البعض أنه يجب يكون المعيار الرئيسي هو ما إذا كان المقترح البحثي سيساعدنا في الإجابة عن سؤال مهم أو الكشف عن سؤال جديد كان يجب طرحه. فهل تتفق مع نقد الفرضية العلمية اليوم كمعيار في المقترحات البحثية أم أنها ضرورية حقًا؟

المصادر:
[1] Journals Index copernicus
[2] Jstor
[3] Physics Today
[4] Futurelearn: The Roots of the scientific Revolution

لماذا تسمى نظرية التطور وليس قانون التطور؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

غالبًا ما نسمع السؤال الآتي: “لماذا لا يوجد قانون للتطور إن كانت حقيقة علمية لا جدال فيها؟” أو “نظرية التطور مجرد نظرية”، وهذا يشير إلى سوء فهم للغة العلمية، فدلالات كلمات مثل “نظرية” و”فرضية” و”قانون” تختلف في لغة العلم عن دلالتها في لغتنا الدارجة، تعالوا معنا نتعرّف على آلية عمل العلم.

كيف يعمل العلم؟

أول خطوة من خطوات المنهج العلمي هي «المشاهدة-Observation»، وهي ما نستخدم فيه الحواس مثل السمع والشم والبصر، بالطبع لا تعتمد كل طرق المشاهدة على الحواس البشرية بشكل مباشر، ولكن دعونا نفترض ذلك على سبيل التبسيط.

ثاني خطوات البحث العلمي هي تكوين «الفرضية-Hypothesis»، وهي ما نفترضه لتفسير المشاهدات التي نرصدها، وقد تكون الفرضية خاطئة، وهذا طبيعي، فالعلم يقوم على وضع الفرضيات واستبعاد الفرضيات الخاطئة للخروج بالتفسيرات الصحيحة، لنأخذ مثالًا:

استيقظت في ذات يوم وفتحت النافذة، فرأيت الضوء يدخل إلى غرفتك (مشاهدة)، فقمت بالتفكير ببعض التفسيرات الممكنة (وضع الفرضيات):
• هناك انفجار نووي في الخارج
• هناك مركبات فضائية
• هذا ضوء الشمس

وهنا يأتي دور الخطوة الثالثة في البحث العلمي وهي «التجربة-Experiment»، ويتم فيها التحقق من صحة الفرضيات الموضوعة، فتقوم بالخروج إلى شُرفتك، ولا تجد انفجارًا نوويًا، فيتم استبعاد الفرضية الأولى، ولا توجد مركبات فضائية، فيتم استبعاد الفرضية الثانية، ثم تنظر إلى الأعلى وترى الشمس، لذا فالفرضية الثالثة صحيحة.

وعند التحقق من عدد كبير من الفرضيات والقيام بالكثير من التجارب يمكننا تكوين النظرية العلمية، فالنظرية العلمية ليست مجرّد رأي، وإنما هي صرح ضخم من التفسيرات يقف على أساس كبير من التجارب والفرضيات والتنبؤات التي أثبتت صحتها مرات ومرات باستخدام المنهج العلمي.

إشكالات اللغة الدارجة واللغة العلمية

تكمن المشكلة في الفرق بين اللغة الدارجة التي نستخدمها في حياتنا بشكل يومي وبين اللغة المستخدمة داخل المعامل، ففي لغتنا الدارجة لا يوجد تفرقة بين مفهوم النظرية والفرضية، فتجد المتحدث يقول عن النظرية ما يُقال عن الفرضية، فتراه يرى شيئًا غير مألوف، فيقول “عندي نظرية تقول كذا”، وهذا القول في لغة العلم ما هو إلا مجرد فرضية تنتظر خطوة التجربة للتحقق من صحتها، ولا ترقى لتكون نظرية علمية.

نظرية التطور

يُساء استخدام لفظ “نظرية التطور” في كثير من الأحيان، فالتسمية الصحيحة هي “نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي”، حيث أن تطور الكائنات الحية حقيقة لا غبار عليها، ولكن نظرية داروين (الانتخاب الطبيعي) هي ما تفسّر هذه الحقيقة وتفسّر آلية عمل التطور، وقد وُجدت العديد من الفرضيات لتفسير تطور الكائنات الحية على مر التاريخ وتم تخطئتها وهو ما ناقشناه في مقال آخر يمكنك قراءته من هنا.

الفرق بين النظرية والقانون

يأتي السؤال غالبًا على النحو التالي: “لماذا توجد نظرية التطور ولا يوجد قانون التطور؟ إذا كانت حقيقية سيكون لها قانون مثل قانون الجاذبية”.

وهنا يجب علينا التفرقة بين معنى القانون العلمي وبين معنى الحقيقة، فالجاذبية ليست قانونًا وحسب، بل هي قانون ونظرية، وهذا لا يجب أن يثير الدهشة، فالقانون العلمي يختلف تمامًا عن النظرية العلمية في المفهوم والوظيفة، دعونا نوضّح.


القانون العلمي هو علاقة (رياضية في الغالب) تصف آلية حدوث ظاهرة طبيعية ما، بينما النظرية معنية بتفسير هذه الظاهرة وبيان أسباب حدوثها، القانون يخبرنا بكيفية الحدوث، بينما النظرية تخبرنا بسبب الحدوث، لنأخذ مثالًا:

إذا أسقطت القلم من يدك، سيسقط على الأرض بفعل الجاذبية، وهنا يأتي دور قانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن ليصف سرعة سقوط القلم باتجاه الأرض.

ولكن القانون لا يخبرنا بسبب سقوط القلم، وهنا يأتي دور نظرية الجاذبية، وهو شيء تطوّر على مدى قرون طويلة، حتى وصلنا إلى نظرية النسبية التي وضعها أينشتاين لتفسير سقوط الأجسام باتجاه بعضها البعض.

ومما يبدو جليًا، فاللغة العلمية تختلف عن لغتنا التي نستخدمها يوميًا، ولا يجب علينا الحكم على المفاهيم العلمية باللغة الدارجة، فدلالات اللفظ الواحد تختلف بين اللغتين.

المصادر

brittanica
brittanica
livescience
livescience

5 تنبؤات صحيحة قام بها أينشتاين

إذا سألت الناس عن أذكى رجل في التاريخ، سيجيبك معظمهم عن أينشتاين، ذلك الرجل الذي غيّر مفاهيمنا عن الكون بطريقة ثورية.
ولا يمكن ذكاء أينشتاين في نظرياته واكتشافاته وحسب، بل أنه قد تنبأ بأشياء اكتُشفت بعد وفاته، وسنتعرف اليوم على أبرز 5 تنبؤات له.

«الطاقة المظلمة-Dark energy»

عندما صاغ أينشتاين معادلات نظرية النسبية العامة، اكتشف أن وجود الكُتل الكبيرة على نسيج الزمكان ستؤدي مع الوقت إلى سقوط بعضها نحو بعض، فافترض وجود طاقة تتسبب في تمدد الكون، لتؤدي إلى التوازن الذي يمنع الكون من الانهيار على نفسه، ولكن المجتمع العلمي رفض هذه الفرضية، إلا أنه في عام 1998 اكتُشفت الطاقة المظلمة، وهي الطاقة التي تتسبب في تسارع تمدد الكون، أي أن أينشتاين كان على صواب حتى عندما أخطأ!

تمدد الكون

«تمدد الزمن-Time dilation»

تنبأت نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين بأن الوقت يتحرك بشكل أبطأ عند التحرك بسرعة أكبر، فإذا كان الجسم أ يتحرك بسرعة أعلى من الجسم ب، فإن الوقت يمر بشكل أبطأ على الجسم أ من مروره على الجسم ب، كما كان في فيلم Interstellar، وهو ما أُثبت في تجربة العالمين «جوزيف هافل-Joseph Hafele» و«ريتشارد كيتينج-Richard Keating»، حيث قاما بوضع ساعة ذرية في طائرة، وساعة ذرية أخرى على الأرض، وعند هبوط الطائرة وُجد فرق في حساب الوقت بالفعل.

تمدد الزمن

«عدسة الجاذبية-Gravitational lensing»

عندما يأتينا الضوء من النجوم أو المجرات البعيدة فإننا نراها في مكانها (على افتراض أنها ثابتة)، ولكن ماذا يحدث إذا كان هناك جسم ذو كتلة كبيرة بيننا وبين الشيء الذي نرصده؟

سيجذب هذا الجسم أشعة الضوء القادمة من الجسم المرصود، وبالتالي انحناء أشعة الضوء وهذا يؤدي بدوره لتشوه الصورة القادمة إلينا، فنرى الجسم في غير مكانه، أو نحصل على صورة مشوّهة، كان هذا ما تنبأت به نظرية النسبية العامة لأينشتاين، وهو ما أثبتته المشاهدات مرارًا وتكرارًا.

شرح ظاهرة عدسة الجاذبية
صورة مشوهة لمجرة

«الثقوب السوداء-Black holes»

الثقوب السوداء هي أجسام ذات كتلة كبيرة وكثافة عالية وبالتالي قوة جاذبية كبيرة، تؤدي إلى تشوه نسيج الزمكان، ولا يستطيع أي شيء الهروب من جاذبيتها بما في ذلك الضوء.

كانت نظرية النسبية العامة لأينشتاين هي أول ما تنبأ بوجود مثل هذه الأجسام وتنبأت بتأثيراتها الغريبة على الضوء، ولا نحتاج إلى القول بوجود الثقوب السوداء، فقد التُقطت أول صورة لثقب أسود عام 2019، لتثبت وبدون شك صدق تنبؤات أينشتاين.

أول صورة لثقب أسود

«موجات الجاذبية-Gravitational waves»

افترض أينشتاين قبل 100 عام حدوث تموجات في نسيج الزمكان إثر تصادم أجسام ذات كتلة كبيرة، وهو ما أُثبت في عام 2016 في مرصد «ليجو-LIGO»، حيث رصد الباحثون أثر موجات جاذبية ظلت تُسافر في الفضاء لمدة 1.3 بليون سنة، نتيجة لتصادم اثنين من الثقوب السوداء في الماضي السحيق.

موجات الجاذبية

قوة العلم

لم تكن تنبؤات أينشتاين -والتي تزيد عن الخمسة المذكورة أعلاه- نتيجة لقدرات سحرية، وإنما هو سحر العلم والرياضيات، واللذان عن طريقهما ندرس ما كان، لنتنبأ بما هو آت.

المصادر

earthlymission
nasa
worldscientific

التاريخ الكبير: مم يتكون الكون؟

سلسلة التاريخ الكبير: مم يتكون الكون؟ لطالما سحرنا الكون بغموضه، لكن في القرن الماضي، تمكن العلماء من إزالة بعض من الغموض الذي يحيط بالكون، كما اكتشفنا بعض الأمور المثيرة، على سبيل المثال علمنا أن الفراغ ليس عدمًا كاملًا، ولكنه يحوي «تقلبات كمومية-Quantum fluctuations» تُنشئ جزيئات ومضاداتها، ليتحد الجزيء و مضاده ليعودوا كما كانوا فراغًا، ولكن هذا الاكتشاف المثير قد يدفعك للتساؤل عن ماهية المادة من الأساس، في الواقع، نحن نعرف الكثير، دعونا نناقش في سلسلة التاريخ الكبير: مم يتكون الكون؟

1- الالكترونات

كما نعلم جميعا تدور الالكترونات حول نوى الذرات بسرعة تقارب سرعة الضوء، وهذا لا يسمح لنا بقياس سرعته و تحديد مكانه في نفس اللحظة، تقف قوانيننا عاجزة أمام هذا الجزيء الصغير ذو الشحنة السالبة.

2- «الكواركات-Quarks»

تحتوي نواة الذرة على البروتونات والنيوترونات، واللذان بدورهما يوجد بداخلهما جزيء أصغر، يدعى بالكوارك، وحجم الكوارك أصغر من حجم البروتون بألف مرة، إذ أن كل بروتون يحتوي على ثلاث كوراكات، وكل نيوترون يحتوي على ثلاثة أيضًا، كما أن للكواركات أنواع مثل : «الكوارك العلوي-Up quark»، «الكوارك السفلي-Down quark»، وغيرهم، إلا أن هذان النوعان هما ما يكوّنان المادة التي في كوننا، و يحتوي البروتون على كواركان علويان وكوارك سفلي، بينما يحتوي النيوترون على كواركان سفليان وكوارك علوي.

3- «الالكترون نيوترينو-Electron neutrino»

ليس مكونًا من مكونات الذرة، لكنه يغمر كوننا بجسيماته طوال الوقت، جسيماته القادرة على اختراق كل شيء دون أن نشعر بها، إذ أن في الثانية الواحدة يخترق مئة بليون من هذا الجسيم إبهامك!
لا تزال خصائص النيوترينو مجهولة لدى المجتمع العلمي، كما أننا لا نعرف أي دور يلعب في بناء كوننا، ربما نجيب عن هذه الأسئلة في المستقبل القريب.

4- «المادة المضادة-Antimatter»

كانت المادة المضادة افتراضًا تنبأت به معادلات العالم «بول ديراك-Paul Dirac» في عام 1926، إلا أننا استطعنا إنتاجها في المعامل، كما رصدناها في التقلبات الكمومية، إذ أن الالكترون له جسيم مضاد بشحنة موجبة ويدعى بال «بوزيترون-Positron»، كما أن للبروتون جسيمًا مضادًا كذلك، ويدعى بال «البروتون المضاد-Antiproton»، فلكل جسيم من جسيمات المادة جسيمًا مقابلًا من جسيمات المادة المضادة.

عندما يلتقي جزيء بنظيره من المادة المضادة، يتحدان سويًا ليفنيا ويتحولا إلى طاقة وفقًا لمعادلة ألبرت أينشتاين الشهيرة E=MC^2، التي تنص على أن المادة والطاقة ما هما إلا وجهان لعملة واحدة، وهذه بالضبط هي فكرة «المسرعات الجزيئية-Particle Accelerators»، حيث يقوم الفيزيائيون بتسريع الجسيمات لتصطدم ببعضها منتجةً طاقة هائلة، وبحسب كمية الطاقة تنشأ جسيمات جديدة، إذ اكتشفنا نوعًا أثقل من الكواركات، وهو «الكوارك القمي-Top quark»، ونوعا أثقل من الالكترونات، وهي «الميونات-Muons»، ونوعا أثقل من النيوترونات، وهي ال «ميون نيوترينو-Muon neutrino»، وكل هذا عن طريق مصادمة الجزيئات ببعضها البعض، لتنتج طاقة، ومن ثم تتركز هذه الطاقة لتتحول إلى جسيمات جديدة.

ولكن لماذا لا نجد المادة المضادة بوفرة في الطبيعة مثل المادة؟ ولماذا هذه الجسيمات بالتحديد؟ وهل توجد جسيمات أخرى؟

كل هذه أسئلة لا نعرف لها إجابة في الوقت الحالي، لكن لربما كنت أنت أيضًا المجيب عليها، والفائز القادم بجائزة نوبل في الفيزياء.

من كورس ل Coursera مقدم من «جامعة أمستردام-Amsterdam university».

لقراءة الجزء الأول من هنا

تسارع تمدد الكون: خطأ أينشتاين الأعظم ومعضلتنا الكبرى

تسارع تمدد الكون: خطأ أينشتاين الأعظم ومعضلتنا الكبرى

منذ ما يزيد على القرن كان أينشتاين قد وضع نموذجاً للكون في معادلاته للنسبية العامة في العام 1917م، ينص على أن الكون ساكن لا يتمدد ولا ينكمش ولا نهائي زمانياً وأن كان محدوداً مكانياً. ولكن لم يدم هذا طويلاً إذ اكتشف الفلكي الأمريكى إدوين هابل في عشرينات القرن الماضي أن المجرات تسير مبتعدة إحداها عن الآخرى بسرعة متزايدة باستمرار، وهو ما يؤكد على أن الكون ديناميكي وليس مجموعة ساكنة من النجوم كما تصور الوسط العلمي من قبل. ويُؤرخ هذا الاكتشاف كأحد أهم الاكتشافات الفلكية في التاريخ، ويلي ما قام بطرحه الفلكي البولندي كوبرنيكوس بأن الأرض تدور حول الشمس وليست مركز الكون. وفي العام  1998م اكتشف العلماء أن الكون لا يتمدد فحسب بل أنه يتسع ويتسارع بفعل قوة مجهولة تفوق قوة الجاذبية. أطلق العلماء على تلك الطاقة الغامضة “الطاقة المظلمة”.

في العام ١٩٢٩م تم اقتراح ثابت لمعدل تسارع تمدد الكون وهو ما يُعرف بثابت هابل والذى ينص على وجود علاقة تناسبية طردية بين المسافات بين المجرات وسرعة تبعادها عن بعض البعض. في عام 2001م قد استنتج فريق بحثي تابع لجامعة شيكاغو أن قيمة ثابت هابل يبلغ 72 كيلومتراً لكل ثانية لكل ميجابارسك، واعتمد في حساباته على نوع من النجوم المتغيرة تعرف بالنجوم القيفاوية وهي نجوم تتمدد وتنكمش خلال فترة زمنية قصيرة ويتم حساب بعد لنجم قيفاوي بقياس معدل التغير في لمعانه.

في العام 2009م تم إطلاق القمر الصناعي بلانك التابع للوكالة الأوروبية لأبحاث الفضاء، والذي ركز في رصده على إشعاع الخلفية الكونية الميكروي لتفسير ما بعد الانفجار العظيم وعمر الكون، بالإضافة إلى وضع ما يعرف النموذج القياسي لعلم الكونيات والذي يشير إلى أن كوننا بدأ في التوسع بسرعة، ومن ثم تباطأ بسبب قوى جاذبية ما يعرف بالمادة المظلمة، قبل أن يتسارع أخيراً مرة أخرى بفعل الطاقة المظلمة. ومنه استنتج أن سرعة التمدد هي 67.4 كيلومتراً لكل ثانية لكل ميجابارسك.

ولكن في شهر أبريل لهذا العام خلصت دراسة تابعة لمرصد هابل التابع لوكالة ناسا 74 كيلومتراً لكل ثانية لكل ميجابارسك اعتماداً على دراسة 70 نجم من نوع النجوم القيفاوية إلى أن كوننا يتمدد بمعدل أسرع بنسبة 9% من نتائج النموذج القياسي لعلم الكونيات. وفي دراسة نشرت مؤخراً لمجلة “أستروفيزيكال جورنال” لفريق بحثي بجامعة شيكاغو اعتماداً على رصد نجوم تعرف بالعمالقة الحمراء في مجرتنا كالشمس، فإن قيمة ثابت هابل قدرت ب 70 كيلومترا في الثانية لكل ميغابارسك.

وفي تخمين مقترح من قبل عالم الفيزياء النظرية ماسيمو سيردونيو بجامعة بادوا الإيطالية أن سر تضارب تلك القياسات يرجع إلى  تغير كمية وكثافة المادة المظلمة ما يؤدي إلى تغير في تسارع تمدد الكون مع الزمن والتي مع الأسف الشديد ما زال الوسط العلمي عاجز عن تفسير ماهيتها وعن رصدها.

 

المصادر

مواضيع ذات صلة: بيانات هابل الجديدة وثابت جديد لمعدل توسع الكون اللانهائي

كيف غير جايمس بيبلز الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء رؤيتنا للكون ؟

كيف غير جايمس بيبلز الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء رؤيتنا للكون ؟

تكافئ جائزة نوبل في الفيزياء لسنة 2019 المفاهيم الجديدة لبنية الكون وتاريخه. إذ ساهم الفائزون هذا العام في الإجابة على أسئلة جوهرية حول وجودنا. تعالوا معنا في هذا المقال لنعرف كيف غير جايمس بيبلز الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء رؤيتنا للكون ؟ وماذا حدث في مرحلة طفولة الكون المبكرة؟

فوز العالم جيمس بيبلز بجائزة نوبل في الفيزياء 2019

جايمس بيبلز

تحدى جايمس بيبلز-James Peebles الكون ببلايين مجراته و عناقيده. حيث طور إطار نظري منذ منتصف الستينات ليصبح حجر الأساس لأفكارنا المعاصرة حول تاريخ الكون، أي منذ الإنفجار العظيم حتى يومنا هذا. وقد أدت اكتشافات بيبلز إلى تغيير رؤيتنا لمحيطنا الكوني والذي تُمثل فيه المادة المعروفة خمسة في المائة فقط من كل المادة والطاقة الموجودة في الكون! أما الـ95 في المائة المتبقية فهي مخفية عنا. وتعتبر لغزا وتحديا حقيقيا للفيزياء الحديثة!

الانفجار الكبير وبداية الكون

كانت العقود الخمسة الماضية عصراً ذهبياً لعلم الكونيات ودراسة أصل الكون وتطوره. في ستينيات القرن العشرين، أقر تحويل علم الكونيات من مجرد تخمينات إلى العلم. وكان الشخص الرئيسي في هذا التحول هو جيمس بيبلز الذي ساعدت اكتشافاته الحاسمة في وضع علم الكونيات على الخريطة العلمية بشكل ثابت، وهو الأمر الذي أدى إلى إثراء ميدان البحوث العلمية في هذا المجال. لقد ألهم كتابه الأول، علم الكونيات الفيزيائي (1971)، جيلًا جديدًا من علماء الفيزياء للمساهمة في تطور الموضوع، ليس فقط من خلال الاعتبارات النظرية بل أيضا من خلال الملاحظات والقياسات.

إنه العلم وحده القادر على الإجابة عن الأسئلة الأبدية حول المكان الذي أتينا منه و إلى أين نحن ذاهبون. وبهذا تحرر علم الكونيات من مفاهيم بشرية مثل الإيمان والمعنى. وقد نتذكر في هذا السياق كلمات ألبرت أينشتاين التي تقول أن سر العالم هو إمكانية فهمه. إن قصة الكون، أي الرواية العلمية لتطور الكون، لم تكن معروفة إلا في المائة عام الماضية فقط. قبل ذلك، اعتُبر الكون ثابتاً وأبدياً، ولكن في عشرينات القرن الماضي اكتشف علماء الفلك أن كل المجرات تبتعد عن بعضها البعض وتبتعد عنا أيضا. فالكون ينمو، ونعلم الآن أن كون اليوم يختلف عن كون الأمس وكون الغد سيكون مختلفا بدوره.

الثابت الكوني بين جيمس بيبلز وأينشتاين!

إن ما رصده الفلكيون في السماوات سبق أن تنبأت به نظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين منذ سنة 1916، النظرية التي تعتبر اليوم أساس كل الحسابات للكون. وعندما اكتشف آينشتاين أن النظرية تؤدي الى إستنتاج مفاده أن الكون يتمدد، أضاف ثابتة إلى معادلاته (الثابتة الكونية) ليوازن تأثيرات الجاذبية ويجعل الكون ثابتا بالرغم من ذلك. وبعد أكثر من عقد، أصبحت الثابتة غير ضرورية بعد ملاحظة تمدد الكون. اعتبر أينشتاين هذا أكبر خطأ في حياته ولم يكن يعلم أن الثابتة الكونية ستشكل عودة رائعة إلى علم الكونيات في الثمانينات، على الأقل من خلال مساهمات جيمس بيبلز.

الإنفجار الكبير وتمدد الكون اللانهائي

الأشعة الأولية للكون تكشف عن كل شيء

إن توسع الكون يعني أنه كان يوماً ما أكثر كثافة و سخونة. في أواسط القرن العشرين، سُميت ولادة الكون بالإنفجار العظيم. لا أحد يعرف حقيقة ما حدث في البداية، لكن الكون الباكر كان مليئاً بحساء من جسيمات مضغوطة وحارة ومبهمة. ارتدت في ذلك الحساء الجزيئات الضوئية والفتونات.

استغرق التمدد ما يقارب 400 ألف سنة لتبريد هذا الحساء البدائي ببضعة آلاف من درجات الحرارة. وكانت الجسيمات الأصلية قادرة على الاندماج، مكونة غازاً شفافاً يتألف في الأساس من ذرات الهيدروجين والهليوم. وبدأت الفوتونات تتحرك بحرية وأصبح الضوء قادرا على الإنتقال عبر الفضاء. وهذه الأشعة الأولية ما زالت تملأ الكون. أما تمدّد الكون، فقد أدى إلى إمتداد الموجات الضوئيّة المرئيّة. لذا انتهى بها المطاف في نطاق الموجات الصغيرة غير المرئيّة بطول موجيّ يبلغ بضعة مليمترات.

توهج ميلاد الكون

في عام 1964، التقط اثنان من علماء الفلك الراديوي الفائزين بجائزة نوبل في عام 1978-أرنو بنزياس وروبرت ويلسون- التوهج الناجم عن ميلاد الكون. لم يتمكنا من التخلص من الضجيج المستمر الذي يلتقطه جهاز الاستشعار من كل مكان في الفضاء. لذا بحثا عن تفسير في عمل باحثين آخرين بما في ذلك جيمس بيبلز، الذي أجرى حسابات نظرية لهذا الإشعاع الأساسي السائد في كل مكان. وبعد ما يقرب من 14 مليار عام، انخفضت درجة حرارته إلى ما يقارب الصفر المطلق (273- درجة مئوية). وحدث تقدم مفاجئ كبير عندما أدرك بيبلز أنه بإمكان درجة حرارة الإشعاع توفير معلومات عن كمية المادة التي تكونت في الإنفجار العظيم. وأدرك بيبلز أن إطلاق هذا الضوء قد لعب دورًا حاسمًا في كيفية تكتل المادة لاحقًا لتشكل المجرات والعناقيد مجرية التي نراها الآن في الفضاء.

عصر جديد من الفيزياء الكونية

كان اكتشاف إشعاعات الموجات الدقيقة بشرى لقدوم عصر جديد من علم الكونيات الحديث. فالإشعاع القديم من المرحلة المبكرة للكون أصبح منجم ذهب لعلماء الكون، حيث يحتوي على إجابات لكل شيء يرغبون بمعرفته. إذ أمكنهم طرح أسئلة ما كان لهم القدرة على طرحها مسبقًا مثل: كم عمر الكون؟ ما هو مصيره؟ كم من المادة و الطاقة موجودة؟

أصبح بإمكان العلماء العثور على آثار اللحظات الأولى للكون في هذا التوهج حيث تنتشر أشكال صغيرة مثل الموجات الصوتية من خلال هذا الحساء البدائي المبكر Early Primordial Soup. بدون هذه الاختلافات الصغيرة لكان الكون قد برد من كرة نار ساخنة إلى فراغ بارد وموحد. نحن نعرف أن هذا لم يحدث، لأن الفضاء مليئ بالمجرات التي تتجمع غالبا وتشكل عناقيد مجرية. أما الإشعاع الخلفي فهو سلس كسطح المحيط الناعم والأمواج مرئية عن قرب، كما أن التموجات تكشف الاختلافات في الكون المبكر.

قيادة جيمس بيبلز للعصر الجديد

قاد جيمس بيبلز تفسير هذه الآثار الأحفورية من عصور الكون المبكرة. فاستطاع علماء الكونيات أن يتنبأوا بالاختلافات في الإشعاعات الخلفية بدقة مذهلة. كما عرفوا كيفية تأثيرها في المادة والطاقة في الكون.

حدث أول تقدم رئيسي في مجال الرصد في أبريل من سنة 1992، عندما عرض المحققون الرئيسيون في مشروع الأقمار الصناعية الأمريكي COBE صورة لأول أشعة ضوئية في الكون. حازت أعمالهم على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2006 لجون ماثر وجورج سموت.

المادة المظلمة والطاقة المظلمة: أعظم أسرار علم الكونيات

منذ ثلاثينيات القرن العشرين، كنا ندرك أن كل ما نستطيع أن نراه ليس هو ذاته كل شيء في الكون. تشير قياسات سرعة دوران المجرات إلى أنها يجب أن تبقى متماسكة بواسطة الجاذبية من المادة الخفية، وإلا ستتمزق. كما أعتُقد أيضا أن هذه المادة المظلمة قد لعبت دورًا مهما في أصل المجرات قبل أن يخفف الحساء البدائي-Primordial Soup قبضته على الفوتونات بزمن طويل.

يبقى تركيب المادة المظلمة هو أحد أعظم الألغاز في علم الكونيات، ولطالما اعتقد العلماء أن النيوترينات المعروفة مسبقًا يمكن أن تُشكل هذه المادة المظلمة، ولكن العدد الهائل من النيوترينات ذات الكتل المنخفضة التي تمر عبر الفضاء بسرعة الضوء تقريبا هي سريعة جدًا لتساعد على مسك المادة معا. وبدلاً من ذلك، في عام 1982، اقترح بيبلز أن الجزيئات الثقيلة والبطيئة من المادة المظلمة الباردة قادرة على القيام بهذه المهمة. وما زلنا نبحث عن هذه الجسيمات المجهولة من المادة المظلمة الباردة، التي تتجنب التفاعل مع مادة معروفة بالفعل وتشكل 26 في المائة من الكون.

الطاقة المظلمة بين جيمس بيبلز وأينشتاين في جائزة نوبل 2019

وفقًا لأينشتاين

وفقاً لنظرية النسبية العامة لآينشتاين، فهندسة الفضاء ترتبط بالجاذبية. فكلما زادت الكتلة والطاقة التي يحتوي عليها الكون، كلما أصبح الفضاء أكثر انحناءً. عند القيمة الحاسمة للكتلة والطاقة فالكون لا ينحني. وهذا النوع الذي لا يمكن أبدا لخطين متوازيين أن يتقاطعا فيه ويدعى عادة مسطحًا. وهناك خياران آخران يتمثلان في كون ذي مادة ضئيلة للغاية. وهو ما يؤدي إلى كون مفتوح تتباعد فيه الخطوط المتوازية في نهاية المطاف. أو كون مغلق بمادة أكثر مما ينبغي أن تتقاطع فيه الخطوط المتوازية في نهاية المطاف.

إن المادة المظلمة والطاقة المظلمة هما الآن من أعظم الألغاز في علم الكونيات، فهي لا تكشف عن نفسها إلا من خلال التأثير الذي تحدثه على محيطها. تسحب إحداهما وتدفع الأخرى. وإلا فلا يُعرف عنهما الكثير. ما هي الأسرار المخفية في هذا الجانب المظلم من الكون؟ ما هي الفيزياء الجديدة المخفية خلف المجهول؟ ماذا سنكتشف أيضاً في محاولاتنا لحل ألغاز الفضاء؟ دعونا لا نستبق الأحداث، فالباحثون أمثال بيبلز وأينشتاين قد يغيروا من مفاهيمنا، بشرط أن نبقى على استعداد دائمًا لقلب تلك المفاهيم رأسًا على عقب. كل ما ننتظره هو الأدلة والتفسيرات المدعومة علميًا. أليس كذلك؟

شاهد أيضًا، كيف تم كشف فراغ ضخم داخل الهرم الأكبر باستخدام الآشعة الكونية!

المصدر
Noble Prize Website

Exit mobile version