أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

إن الاجوبة التي قدمها فلاسفة ملطية لا تمثل أهمية فلسفية بقدر السؤال الذي اخترقوا من خلاله تخوم التصور القبفلسفي. إن الخطوة الملطية بإتجاه الفلسفة كانت الأكثر جرأة ذلك لأنها نزعت الصفة المقدسة عن الكون. كأن العالم قد وضع كل ثروته الروحية والأخلاقية على هذا الرهان البدائي، فلم يبقى من شيء إلا وصار نحو/من الفلسفة. إن فقدان مصادر تلك الفلسفة الأصلية تحول بيننا وبين حقيقة ما كتبوه -كأجوبة- بيد أن السؤال الملطي الأول يبرز بقوة ويعلن عن ذلك الحضور الجليل. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بيار فرنان عن تلك الحقبة: “يعود تاريخ أفول المعتقدات الخرافية إلى اليوم الذي وضع فيه الحكماء الأوائل النظام الإنساني موضع النقاش وسعوا إلى تعريفه في ذاته، وإلى ترجمته في صيغ تكون في متناول الفكر”(1). في هذا المقال سوف نسلط الضوء على أناكسيمينس وكيف قام بإعادة تدوير عجلة الأصول.

ما يشبه سيرة ذاتية للفيلسوف أناكسيمينس

المعلومات المتوفرة حول أناكسيمينس قليلة جدًا، كان قد ولد في مدينة ملطية (التركية حاليًا) عام 585ق.م. فهو إبن يورستراتوس الملطي (Eurystratos of Miletus) ويقال بأنه قد تلمذ على يد أناكسيماندر وكذلك بارمنيدس وثمة من يقول بأنه قد تأثر بفيثاغورس أيضا. عاش تحت الحكم الفارسي لفترة وشاهد على النزاعات التي كانت موجودة بين أيونيا والسلطة اليونانية.

وفقًا لكاتب سير فلاسفة اليونان، ديوجين لايرتيوس، الذي عاش في القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، إن أناكسيمينس كان قد كتب آراءه الفلسفية في كتاب كان موجودًا حتى في العصر الهلنستي، إلا أن هذا الكتاب لم ينجو منه شيئًا. (2)

المبدأ الأول عند أناكسيمينس

إن الهواء في الأدبيات الإغريقية المبكرة، لم يكن يعتبر كعنصر طبيعي وحسب، بل روح العالم. لذا نجد بأن أناكسيمينس يتعامل مع الهواء على أساس أن كل ما هو موجود كان في البداية هواءا، وصار الهواء نارًا وحجارة وناسًا. ويرجع اختلاف ماهية الأشياء إلى الاختلاف الكمي في الهواء. (3)

التخلخل والتكثيف عند أناكسيمينس

وفقًا لأناكسيمينس، يختلف الهواء في جوهره عن أي شيء آخر حسب ندرته أو كثافته. فالهواء في أضعف حالاته يتحول إلى نار وعندما يتكثف يصير ريحًا، فغيمة وإن تكثف أكثر تحول إلى ماء فتراب ومن ثم حجارة. بإستخادم عمليتي التخلخل والتكثيف يفسر صيرورة الوجود المادي. التخلخل في الهواء يؤدي إلى الأشياء الأكثر خفة في حين أن عملية التكثيف تخلق ما هو أكثر سماكة.(3)

ما يعطي اعتبارًا فلسفيًا لآراء أناكسمينس هو أنه لم يستثني موجودًا كحالة خاصة في الوجود. ففي التصور الخرافي كان الإنسان يمثل وضعًا مميزًا في عملية الخلق. بل حتى الطبقات الإجتماعية لم تتمتع بنفس المزايا بحجة أنه ثمة فروق جوهرية بين طبقة وأخرى. الفلسفة الملطية رغم طابعها المادي المحض أثرت في الجوانب الإجتماعية أيضًا، فكون كل موجود مادة وحسب وكل إنسان يحمل الجوهر ذاته فلا مبرر لوجود طبقات تعطي رتب وجودية لطبقة دون غيرها ولفرد دون سواه.

الصيرورة بين أناكسيمينس وأناكسيماندر

إن صيرورة أناكسيماندر تحدث في زمن لانهائي، مكان بلا حد وماهية غير متعينة. إذ أن الأبيرون يفتقر إلى كل صفة من شأنها أن تعينه، سوى صفة الحركة. أما الصيرورة التي يفترضها أناكسيمينس تحدث داخل الهواء نفسه، وتعطيه الهوية في معادلة كمية. والاختلاف الآخر يكون على المستوى الأنطولوجي. إن الوجود حسب أناكسيماندر ضربة من العصيان والخروج عن الكيان السرمدي، الأبيرون، لذا فأن الوجود يحمل معنى سلبيًا في نظريته. في حين أن الوجود عند أناكسيمينس يحمل معنى إيجابيًا، الحضور الأوحد والأكثر إمكانًا ومعقولية.

إقرأ أيضا الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

وجود الآلهة عند أناكسيمينس

مع أن أناكسيمينس سعى إلى اكتشاف السبب الأول للوجود وتنوع الظواهر والموجودات دون الاستعانة بأي خرافة أو إله. بيد أنه لم ينكر وجود الآلهة، إلا أن الآلهة هي بدورها قد وجدت من الهواء جنب إلى جنب باقي الموجودات. لكن إن صح هذا الادعاء فلا نعرف ما هو دور الآلهة تحديدًا طالما أن الوجود يصير وفقًا لعمليتين ماديتين، التخلخل والتكثيف.(4)

في كتابه مدينة الله، يبين القديس أغستينيوس أن أناكسيمينس لم ينكر وجود الله ولم يصمت حيال هذا الأمر. لكنه يؤكد بأن الآلهة قد ولدت هي نفسها من الهواء ولا يذكر أغستينيوس وظيفة الإله في عملية الخلق الأناكسيمنسية.(4)

يشير شيشرون (106-43 ق.م) إلى أن “أناكسيمينس قال بأن الهواء هو الإله وأنه يأتي إلى الوجود وهو لا يقاس ولانهائي ودائم الحركة”. (4)

تأثيره على الفلاسفة اللاحقين:

يرى البعض بأن تخبط اناكسيمانس الفلسفي كان بمثابة نكسة، خطوة إلى الوراء مقارنة بما قام به معلمه أناكسيماندر. فبعد أن استبعد الأخير الماء/العنصر الطاليسي كمبدأ أولي وأصيل القى التلميذ عنصرًا آخرًا، الهواء، أصلًا للعالم في فضاء التفلسف.

إن نظرية أناكسيمينس حول التغيير المتعاقب للمادة من خلال التخلخل والتكاثف لاقت رواجًا بين الكثير من الفلاسفة. قام هيراكليتس ببعض التطورات في النظرية وتناولها بارمنيدس نقدًا. وتبنى انكساغوراس جزئية نشأة المادة الأولية من نظرية أناكسمينس رغم الاختلافات الجذرية بينهما فيما يتعلق بماهية المادة. وجد أفلاطون في نظرية أناكسمينس تفسيرًا منطقيًا للتغيير أما في نظرية الأمراض لأبيقراط بات الهواء الأناكسمينسي حجر الأساس فيها وكذلك نظرية ديوجين الأبولوني(3).

ما تركه أناكسيمينس

أناكسيمينس (586-626ق.م) ترك خلفه كتابًا فقدناه مبكرًا، أي قبل ألفي عام. لا نعرف عنه الكثير، لا عن حياته ولا عن فلسفته، وما نعرف عنه يعود إلى كتابات أرسطو وأفلاطون وشيشرون وديوجين. فسر العالم تفسيرًا ماديًا محضًا، لم يترك للإله دورًا يلعبه في عملية الخلق رغم أنه لم ينكر وجوده. نظريته الأهم هي التي تقول بأن الوجود قائم على عمليتي التخلخل والتكثيف، وأن كل الموجودات لها الجوهر ذاته وهو الهواء الذي يتحرك ويصير بلا نهاية وبلا زمن.

المصادر:

  1. جان بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ترجمة سليم حداد،ط2، مؤسسة مجد، 2008، ص118.
  2. https://www.philosophybasics.com/philosophers_anaximenes.html
  3. https://iep.utm.edu/anaximen/
  4. https://www.ancient.eu/Anaximenes/

10 مفاهيم اجتماعية يجب عليك معرفتها

علم الاجتماع هو علم يهتم بدراسة العلاقات الانسانية والتفاعل بين البشر، والمؤسسات. فهو علم مُعقد وبحره ضخم. يقوم بدراسة جوانب متعددة من المجتمع، كما أن علم الاجتماع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلوم اجتماعية أخرى كعلوم السياسة والاقتصاد وعلم النفس، ويتقاطع معها في مجالات متعددة. في هذه المقالة سنتناول أهم 10 مفاهيم اجتماعية يجب عليك معرفتها .

10- التصنيف الاجتماعي

مفهوم الطبقة الاجتماعية

الطبقة الاجتماعية هي مجموعة من الأشخاص داخل المجتمع يمتلكون نفس الوضع الاجتماعي والاقتصادي. فهم  يتشاركون ظروفًا اقتصادية متشابهة على نطاق واسع.

أما عن التصنيف الطبقي الاجتماعي، فهو مفهوم يعني تمايز مجموعة سكانية ما إلى طبقات متراكبة هرميًا. ويتجلى ذلك في وجود طبقات اجتماعية عليا ودُنيا. ويتكون أساسها وجوهرها في التوزيع غير المتكافئ للحقوق والامتيازات والواجبات والمسؤوليات والقيم الاجتماعية و الحرمان والسلطة الاجتماعية والتأثيرات بين أفراد المجتمع. التصنيف الاجتماعي هو مصطلح أو مفهوم صاغه عالم الاجتماع والعالم الإنساني الشهير Pitirim A. Sorokin ويُعد أحد أكثر التعريفات شمولاً للطبقات الاجتماعية.

يركز تعريف سوروكين على التوزيع غير المتكافئ لجميع جوانب المكافآت أو الحقوق في المجتمع، وليس الجوانب المالية فقط. يمكن أن تأتي “المميزات” أيضًا في شكل المكانة (الاحترام والسمعة) ، وفرصة الحراك الاجتماعي والمكانة الاجتماعية والصلات الموروثة، وأشكال أخرى من الامتيازات والسلطة.

يمكن توريث الخصومات أيضًا، سواء ماليًا في شكل ديون عائلية أو اجتماعيًا من خلال أنظمة القمع والتمييز المختلفة. العرق والجنس والتوجه الجنسي والدين ومستوى التعليم والطبقة الاقتصادية، كل هذه الفروق وغيرها، يمكن أن تؤثر على “الكثير في الحياة” للشخص قبل ولادته.

يُعتبر موضوع التصنيف الطبقي الاجتماعي موضوع مُعقد للغاية. فهو ظاهرة وأصل العديد من القضايا الاجتماعية في جميع أنحاء العالم. كما أنه مجال دراسي رائع ومهم بالنسبة لطالب علم الاجتماع. يمكن لعلماء الاجتماع اكتساب العديد من الأفكار من الفحص الدقيق للطبقات الاجتماعية بأشكالها المتعددة. ويمكن استخدام هذه الأفكار لتشكيل استراتيجيات تقدمية ومبادئ توجيهية لصنع السياسات والتنظيم بهدف معالجة أسوأ حالات عدم المساواة الاجتماعية الحالية.

9- الحِراك الاجتماعي

يُشير الحِراك الاجتماعي إلى التحول في الوضع الاجتماعي للفرد من حالة إلى أخرى. يمكن أن يكون التحول إما أعلى أو أقل أو بين جيل واحد أو بين الأجيال، ولا يمكن بالضرورة تحديد ما إذا كان التغيير جيدًا أم سيئًا. وفقًا لسوروكين، لا يوجد مجتمعان متماثلان من حيث الحركة المسموح بها والهبوط، وأن سرعة الحِراك الاجتماعي يمكن أن تتغير من فترة زمنية إلى أخرى. ويعتمد  ذلك على مدى تطور المجتمع. يمكن أن يحدث مثل هذا التحول المجتمعي بمرور الوقت حيث ينتقل الأفراد من موقع إلى آخر بسبب التفاعلات الاجتماعية المختلفة. ويوفر التنقل بشكل أو بآخر فوائد للناس حيث تحفزهم عوامل مختلفة  في المجتمع  ويعملون للوصول إلى أدوار جديدة توفر لهم مستوى معيشيًا أفضل ومكافآت أكبر. يتنافس الناس ويتعاونون مع الآخرين في المجتمع للارتقاء في سلم الحراك الاجتماعي. كان الحِراك الاجتماعي أحد الموضوعات المهمة للتاريخ الاجتماعي خلال بداياته في الستينيات والسبعينيات. يستكشف المؤرخون الحراك الاجتماعي لسببين:

الأول: يريدون دراسة السؤال العام لتاريخ تكافؤ الفرص الاجتماعية.  فقد كانت مسألة ما إذا كانت المجتمعات الحديثة قد وسعت أو قللت من فرص الصعود الاجتماعي للرجال والنساء على حد سواء ، مسألة جذابة للمؤرخين. فالانفتاح المتزايد وتزايد أو تناقص فرص الحِراك الاجتماعي التصاعدي للرجال والنساء من الطبقات الدنيا والمهاجرين والأسرالفقيرة والمجموعات العرقية وتوسيع أو تقليص الوصول إلى قنوات الصعود الاجتماعي مثل التعليم والمهن في الأعمال التجارية أو البيروقراطية العامة والسياسة ودور الشبكات العائلية، كلها موضوعات محورية.

الثاني: يناقش المؤرخون تاريخ الحِراك الاجتماعي من منظور مقارن.

فالحِراك الاجتماعي يرتبط بقدرة الأفراد على نقل وضعهم الاجتماعي، ويُعتبر التعليم هو الآلية الرئيسية للحراك الاجتماعي لأنه يغير الوضع الاجتماعي للأفراد والجماعات من خلال قدر أكبر من الاستقرار المالي.

أنواع الحِراك الاجتماعي

كما ذكرنا يمكن أن يتخذ الحِراك الاجتماعي أشكالًا مختلفة، ويمكن للناس تجربة أنواع مختلفة من التنقل في مراحل مختلفة من حياتهم. أنواع الحركات مستقلة عن بعضها البعض ويمكن أن تتداخل في كثير من الأحيان. يُمييزها العلماء فقط لغرض التحليل والدراسة.

1- التنقل الأفقي

يحدث هذا عندما يغيرالشخص مهنته ولكن وضعه الاجتماعي العام يظل دون تغيير. على سبيل المثال، إذا انتقل الطبيب من ممارسة الطب إلى التدريس في كلية الطب، فقد تغيرت المهنة ولكن من المحتمل أن تظل مكانتهم ومكانتهم الاجتماعية كما هي. يصف سوروكين التنقل الأفقي بأنه تغيير في التحولات الدينية أو الإقليمية أو السياسية أو التحولات الأفقية الأخرى دون تغيير في الوضع الرأسي.

2- التنقل الرأسي

يشير هذا إلى تغيير في الوضع المهني أو السياسي أو الديني للشخص الذي يسبب تغييرًا في وضعه المجتمعي. ينتقل الفرد من طبقة اجتماعية إلى أخرى. يمكن أن يكون التنقل العمودي تصاعديًا أو تنازليًا. ينطوي التنقل الرأسي على انتقال الفرد من مجموعة في طبقة أدنى إلى طبقة أعلى أو إنشاء مجموعة مماثلة ذات موقع اجتماعي أعلى، بدلاً من أن تكون جنبًا إلى جنب مع مجموعتها الحالية. يحدث التنقل التنازلي، على سبيل المثال، عندما يتكبد رجل أعمال خسائر في عمله ويضطر إلى إعلان إفلاسه، مما يؤدي إلى الانتقال إلى طبقة أدنى من المجتمع.

3- الحركة التصاعدية

يحدث هذا عندما ينتقل الشخص من منصب أدنى في المجتمع إلى موقع أعلى. يمكن أن يشمل أيضًا الأشخاص الذين يشغلون مناصب أعلى في نفس المجموعة المجتمعية. ومع ذلك ، فإن الحركة التصاعدية، على الرغم من اعتبارها شيئًا جيدًا، يمكن أن تصبح عبئًا وتأتي أيضًا بتكلفة للأفراد. عندما يتحرك الشخص لأعلى، غالبًا ما يحتاج إلى ترك محيط مألوف خلفه مثل الأسرة والأماكن. قد يحتاجون أيضًا إلى تغيير طريقة تفكيرهم وسلوكهم. سيحتاج الفرد إلى التكيف مع البيئة الجديدة نتيجة لحركته التصاعدية واعتماد سلوكيات مختلفة للتكيف مع المجتمع الجديد.

4- الحركة الهبوطية

يحدث التنقل الهبوطي عندما ينتقل الشخص من منصب أعلى في المجتمع إلى منصب أدنى. يمكن أن يحدث عندما يتم القبض على شخص يقوم بعمل غير مشروع يمكن أن يؤدي إلى فقدان المركز الذي يشغله حاليًا. يمكن أن يكون التنقل الهابط مرهقًا للغاية بالنسبة للأشخاص الذين يواجهون تدهوراً سريعاً في وضعهم الاجتماعي. قد يجدون صعوبة في التكيف مع البيئة الجديدة، لأنها لا تشبه مستوى المعيشة الذي اعتادوا عليه. يعد التنقل إلى أسفل مثالاً على المدى الذي يقدر فيه المجتمع تكافؤ الفرص والبنية.

5- التنقل بين الأجيال

يحدث التنقل بين الأجيال عندما يتغير الوضع الاجتماعي من جيل إلى آخر. يمكن أن يكون التغيير لأعلى أو لأسفل. على سبيل المثال، كان الأب يعمل في مصنع بينما تلقى ابنه تعليمًا أتاح له أن يصبح محامياً أو طبيباً. يؤدي هذا التغيير المجتمعي أيضًا إلى تبني الجيل لطريقة جديدة للعيش والتفكير. يتأثر التنقل بين الأجيال بالاختلافات في تربية الوالدين وأنجالهم والتغيرات في السكان والتغيرات في المهنة.

6- التنقل بين أفراد الجيل الواحد

يحدث التغيير داخل الأجيال في الوضع المجتمعي خلال عمر جيل واحد. يمكن أن يشير أيضًا إلى تغيير في الموقف بين الأشقاء. إحدى الطرق هي عندما يصعد شخص ما سلم الشركة في حياته المهنية. على سبيل المثال، يبدأ الفرد حياته المهنية ككاتب وينتقل خلال حياته إلى منصب رفيع مثل مدير. قد يحقق أحد الأشقاء أيضًا مكانة أعلى في المجتمع من مكانة أخيه أو أخته.

8- الماركسية

الماركسية هي نظرية اجتماعية واقتصادية وسياسية للنضال المستمر. فهي مففهوم تحليلي يتعلق بالفلسفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تدرس الطبيعة  الإشكالية للرأسمالية على الاقتصاد. ظهرت الماركسية لأول مرة في دائرة الضوء العام عام 1848 من خلال وثيقة  أطلق عليها اسم البيان الشيوعي، صاغها Karl Marx-كارل ماركس بمساعدة Friedrich Engels-فريدريك إنجلز، تهدف إلى فهم الأبعاد المخفية بشكل منهجي في المجال الاقتصادي.

تفترض النظرية الماركسية للصراع الطبقي أن الصراع الطبقي هو قانون تاريخي وعوامل تسرع التنمية الاقتصادية. وفقًا للماركسية ، يعمل قانون التاريخ جيدًا لكل مجتمع يتكون من طبقات اجتماعية ، يناضل من أجل دور أعلى في مجال الإنتاج. رأى ماركس أن كل مجتمع مقسم اجتماعيًا، بحيث يكون وجود أو غياب وسائل الإنتاج بمثابة أساس للفصل بين المجموعات. كان يعتقد أن هناك نوعين فقط من الطبقات في المجتمع الرأسمالي، البرجوازية (أصحاب الأعمال) الذين لديهم وسائل الإنتاج والبروليتاريا (العمال) الذين يحولون الموارد إلى منتجات. وبما أن البرجوازيين يحتكرون وسائل الإنتاج، فإنهم أكثر قوة اقتصاديًا وتأثيرًا سياسيًا من نظرائهم البروليتاريين. فالرأسمالية تسمح للبرجوازية باستغلال البروليتاريا.

إذًا، فتشير الماركسية إلى أن الصراعات الطبقية  خاصة بين البروليتاريا والبرجوازية هي نقيض غير متكافئ في الاقتصاد الرأسمالي، وستتوج  حتما بثورة بسبب الاستغلال المادي. وفقًا لهذا المفهوم، ستنخفض البرجوازية أولاً وتفقد قوتها السياسية، بينما سيزداد عدد العمال للاستيلاء على وسائل الإنتاج.

7- الرأسمالية

الرأسمالية وتسمى أيضًا اقتصاد السوق الحرأواقتصاد المؤسسة الحرة، وهي نظام اقتصادي قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. يضمن هذا النظام تجميع غالبية الأرباح في أيدي فئة مالك الأقلية التي تسمى البرجوازية. في حين أن الذين يعانون ويعملون هم الأغلبية من الطبقة العاملة، وتسمى البروليتاريا. تدعم الرأسمالية مؤسسات السوق الحرة والملكية الخاصة والعمل المأجور. تعتمد الطبقات البرجوازية على البروليتاريا لتحويل المواد الخام إلى مواد ذات قيمة اقتصادية باستخدام قوة عملهم. يجادل النقاد بأن النظام الرأسمالي يؤدي إلى استغلال الطبقة العاملة.

تعزى النظرية الرأسمالية الحديثة إلى أطروحة عالم الاقتصاد السياسي الاسكتلندي Adam Smith-آدم سميث، ويمكن وضع أصول الرأسمالية كنظام اقتصادي في القرن السادس عشر. فمن القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر في إنجلترا أدى تصنيع المؤسسات الجماهيرية  – كصناعة القماش- إلى ظهور نظام استثمر فيه رأس المال المتراكم لزيادة الإنتاجية -لُب الرأسمالية-. ومع ذلك، لا يمكن القول بأن شخصًا واحدًا قد اخترع الرأسمالية، وأن الأنظمة الرأسمالية السابقة كانت موجودة منذ العصور القديمة.

6- الخيال الاجتماعي

التخيل أو الخيال الاجتماعي هو ممارسة القدرة على “التفكير في أنفسنا بعيدًا” عن الروتين المألوف في حياتنا اليومية للنظر إليها بعيون جديدة وناقدة. عرّف عالم الاجتماع C. Wright Mills-سي رايت ميلز، الذي ابتكر المفهوم، الخيال الاجتماعي بأنه “وعي حي للعلاقة بين التجربة والمجتمع الأوسع”.

فالخيال الاجتماعي هو القدرة على رؤية الأشياء اجتماعيًا وكيفية تفاعلها وتأثيرها على بعضها البعض. للحصول على خيال اجتماعي، يجب أن يكون الشخص قادرًا على الابتعاد عن الموقف والتفكير من وجهة نظر بديلة. هذه القدرة هي مركزية لتطوير المرء من  منظور اجتماعي على العالم .

من هذا المنطلق، يتيح لك استخدام الخيال الاجتماعي النظر إلى نفسك وثقافتك كطرف ثالث مراقب. الهدف ليس أن تكون نزيهًا وبعيدًا، بل أن ترى نفسك كجزء من أنظمة أكبر. فيسمح النظر في السياق الاجتماعي للأفراد بمساءلة المجتمع وتغييره بدلاً من مجرد العيش فيه. عندما نفهم السياقات التاريخية والاجتماعية، نكون أكثر استعدادًا للنظر في أفعالنا وأفعال مجتمعنا كنتيجة للأنظمة – التي يمكن تغييرها – وليس باعتبارها متأصلة في الإنسانية.

5- الحقيقة الاجتماعية

الحقيقة الاجتماعية هي نظرية طورها عالم الاجتماع Emile Durkheim-إميل دوركهايم لوصف كيف تتحكم القيم والثقافة والمعايير في تصرفات ومعتقدات الأفراد والمجتمع ككل.

فقد أوضح دوركهايم في كتابه “قواعد المنهج الاجتماعي” الحقائق الاجتماعية، وأصبح الكتاب أحد النصوص التأسيسية لعلم الاجتماع. عرّف دوركهايم علم الاجتماع على أنه دراسة الحقائق الاجتماعية، التي قال إنها تصرفات المجتمع. الحقائق الاجتماعية هي السبب الذي يجعل الناس داخل المجتمع يختارون القيام بنفس الأشياء الأساسية. على سبيل المثال،  أين يعيشون، وماذا يأكلون، وكيف يتفاعلون. فالمجتمع الذي ينتمون إليه يشكلهم للقيام بهذه الأشياء، ويجعلهم منتمون دائمًا لتلك الحقائق.

أمثلة على الحقائق الاجتماعية المشتركة

استخدم دوركهايم العديد من الأمثلة لإثبات نظريته في الحقائق الاجتماعية، منها:

الزواج: تميل المجموعات الاجتماعية إلى أن يكون لها نفس الأفكار والعادات تجاه الزواج، مثل السن المناسب للزواج والشكل الذي يجب أن يبدو عليه الاحتفال. المواقف التي تنتهك تلك الحقائق الاجتماعية، ينظر إليها المُنتمون لهذا المجتمع باشمئزاز.

اللغة: يميل الأشخاص الذين يعيشون في نفس المنطقة إلى التحدث بنفس اللغة. فيمكنهم تطوير لهجاتهم وتعابيرهم الخاصة ونقلها كذلك. عبر الاجيال والسنون، يمكن لهذه المعايير تحديد شخص ما على أنه ينتمي لمجتمع أو منطقة معينة.

الدين: تشكل الحقائق الاجتماعية كيف ننظر إلى الدين. المناطق المختلفة لها معاقل دينية مختلفة، حيث يعتبر الإيمان جزءًا أساسيًا من الحياة، وتعتبر الأديان الأخرى غريبة.

4- النظرية النسوية

تُعرَّف النظرية النسوية بأنها امتداد للحركة النسوية، وهي الإيمان بالمساواة بين الجنسين. من وجهة نظر اجتماعية أو فلسفية. فهي مسعى علمي يهدف إلى فهم طبيعة المساواة أو عدم المساواة بين الجنسين . فتتناول مجالات مثل التحليل النفسي والفلسفة والأنثروبولوجيا والبيولوجيا والأدب والتعليم والاقتصاد والعديد من المجالات الأخرى. تشمل مجالات التركيز الرئيسية في النظرية النسوية التمييز والإقصاء والسلطة القمع، باإضافة لأدوار الجنسين بشكل عام.

ظهرت النظرية النسوية لأول مرة في كتاب “دفاع عن حقوق المرأة” بقلم Mary Wollstonecraft-ماري ولستونكرافت. بهدف الإطاحة بالنظام الأبوي. تنظر إلى جميع القضايا الاجتماعية من منظور جنساني. على سبيل المثال. تقول النظرية النسوية أن النساء لم يولدن نساء، والتنشئة الاجتماعية تجعلهن يتصرفن بطريقة “أنثوية”. من خلال المكافآت والعقوبات الاجتماعية، يتم تعليمهم ما هي الطريقة المناسبة لتصرف جنسهم.

إن مصطلح “النسوية”  له استخدامات مختلفة وكثيرا ما تكون معانيه محل نزاع. على سبيل المثال، يستخدم بعض الكُتاب مصطلح “النسوية” للإشارة إلى حركة سياسية محددة تاريخيًا في الولايات المتحدة وأوروبا. بينما يستخدمه كتاب آخرون للإشارة إلى الاعتقاد بوجود مظالم ضد المرأة، على الرغم من عدم وجود إجماع على القائمة الدقيقة لهذه المظالم.

3-  مفهوم الوظيفية

النظرية الوظيفية في العلوم الاجتماعية تستند إلى فرضية أن جميع جوانب المجتمع – المؤسسات والأدوار والمعايير،إلخ..- تخدم غرضًا وأن جميعها لا غنى عنها لبقاء المجتمع على المدى الطويل. اكتسب هذا النهج مكانة بارزة في أعمال علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر، وخاصة أولئك الذين نظروا إلى المجتمعات على أنها كائنات حية. جادل عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم بأنه من الضروري فهم “احتياجات” الكائن الاجتماعي الذي تتوافق معه الظواهر الاجتماعية. واستخدم كتاب آخرون مفهوم الوظيفة ليعني العلاقات المتداخلة لأجزاء داخل النظام، أو الجانب التكيفي لظاهرة ما أو عواقبها التي يمكن ملاحظتها. في علم الاجتماع، الوظيفية تلبية الحاجة إلى طريقة التحليل. بينما تقدم بديلاً للنظرية التطورية وتحليل انتشار السمات في الانثروبولوجيا.

2- نظرية الإجهاد

تنص نظريات الإجهاد على أن بعض الظروف أو الضغوطات تزيد من احتمالية ارتكاب الجريمة. تؤدي هذه التوترات إلى مشاعر سلبية مثل الإحباط والغضب. تخلق هذه المشاعر ضغوطًا من أجل اتخاذ إجراءات تصحيحية ، والجريمة هي أحد الردود المحتملة. يمكن استخدام الجريمة لتقليل التوتر أو الهروب منه، أو السعي للانتقام من مصدر التوتر أو الأهداف ذات الصلة، أو تخفيف المشاعر السلبية. على سبيل المثال ، قد ينخرط الأفراد الذين يعانون من البطالة المزمنة  في السرقة أو بيع المخدرات للحصول على المال، أو الانتقام من الشخص الذي أطلق النار عليهم، أو تعاطي المخدرات غير المشروعة  في محاولة للشعور بالتحسن.

وضع عالم الاجتماع الأمريكي الشهير Robert King Merton-روبرت كينج ميرتون ركائز نظرية الإجهاد الاجتماعي. يشير مصطلح “الإجهاد” إلى التناقضات بين الأهداف المحددة ثقافيًا والوسائل المؤسسية المتاحة لتحقيق هذه الأهداف.

اقترح ميرتون تصنيفًا للانحراف يعتمد على معيارين:

1-  دوافع الشخص أو التزامه بالأهداف الثقافية

2- إيمان الإنسان بكيفية تحقيق أهدافه.

ووفقًا لميرتون، هناك خمسة أنواع من الانحراف بناءً على هذه المعايير: المطابقة، والابتكار، والطقوس والتراجع، والتمرد.

1- التغيير الاجتماعي

يمكن تعريف التغيير الاجتماعي على أنه الطريقة التي تتغير بها التفاعلات البشرية والعلاقات وأنماط السلوك والمعايير الثقافية بمرور الوقت.

ويعرّف علماء الاجتماع التغيير الاجتماعي على أنه تغييرات في التفاعلات والعلاقات البشرية التي تحول المؤسسات الثقافية والاجتماعية. هذه التغييرات والتحولات ليست بالضرورة جيدة أو سيئة، لكنها عميقة ظاهريًا.

تحدث هذه التغييرات بمرور الوقت وغالبًا ما يكون لها عواقب عميقة وطويلة الأجل على المجتمع. نتجت الأمثلة المعروفة عن مثل هذا التغيير من الحركات الاجتماعية في الحقوق المدنية ، وحقوق المرأة، وغيرها من الأمثلة.

إن التغيير الاجتماعي فريد من نوعه بالنسبة للبشر. نظرًا لبيولوجيتنا وقدرتنا على التكيف والتعلم والمرونة-خاصة مع تغير بيئتنا من حولنا- فنحن قادرون على إلهام التغيير الاجتماعي باستمرار، حتى لو تسببنا في ذلك في البداية. ومن ثم، النظام الاجتماعي المتغير.

تلك كانت هي بعض أهم 10 مفاهيم اجتماعية يجب عليك معرفتها

المصادر

springer
thoughtco
sciencedirect
onlinedegrees
snhu
thoughtco
socialsci
britannica
britannica

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

يحاول زكي نجيب محمود في كتابه “نظرية المعرفة” أن يعرض أبرز مشاكل المعرفة وكيف تعاطى معها الفلاسفة على مر العصور على اختلاف مذاهبهم الفكرية، فقام بحصر مشاكل المعرفة في ثلاثة أسئلة رئيسية:
1- ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟
2- ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟
3- هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟

وأفرد زكي نجيب محمود لكل سؤال منهم بابًا من الكتاب ليتحدث عنه سنناقشهم فيما يلي.

الباب الأول: طبيعة المعرفة

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الأول “ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟”، فقام بتقسيمه إلى ثلاثة فصول.

طبيعة المعرفة عند الواقعيين

• الواقعية الساذجة

إذا قلنا “على المكتب مصباح مضيء” فكلمة “مكتب” تكوّن في ذهنك صورة للمكتب، وكلمة “مصباح” تكوّن صورة مصباح، وكلمة “مضيء” تشير إلى الضوء المنبعث من المصباح، وكلمة “على” تشير إلى العلاقة بين المكتب والمصباح.
فيخلصون إلى حقيقة أن العالم موجود بذاته بغض النظر عن وجودنا، والدليل على ذلك هو أنك حين توجّه بصرك للنظر إلى شيء ما، فهذا الشيء كان موجودًا سواء نظرت إليه أم لم تنظر، كونك توجّه نظرك إليه دليل على وجوده المستقل غير المحتاج إلى وجودك.

ومن هنا يرى أصحاب نظرية الواقعية الساذجة في المعرفة أن معرفة الشيء هي صورة مطابقة للشيء المعروف.

ولكن هناك مشكلة، وهي أنك أنه وفقًا لهذه النظرية فإن معرفتك بالمكتب الذي أمامك ليست بالضرورة هي حقيقة المكتب، فقد تلمس المكتب فتشعر بصلابته، ثم يأتي عالم ليخبرك أن المكتب ما هو إلا مجموعة من الذرات التي يتكون مُعظم كل ذرة منها من الفراغ، فهنا ما ترصده بحواسك ليس بالضرورة هو الحقيقة.

كما أن رصد الشيء يتغير بتغير موقع الراصد أو زمان الرصد، فإذا أحضرنا 10 رسامين وأجلسناهم حول منضدة وطلبنا من كل منهم أن يرسم ما يراه، فسيرسم كل منهم ما يراه من المنضدة من زاوية نظره، فينتج لدينا 10 رسومات مختلفة للشيء نفسه.

وبالتالي فنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة بحاجة إلى تعديل يزيد من دقتها.

• الواقعية النقدية

تكمن مشكلة الواقعية الساذجة في أنها تلغي دور العقل البشري في المعرفة فتجعله مجرد متلقي لما يراه، إلا أن هذا ليس دقيقًا، فإذا رأيت برتقالة فأنت تعرف أنها برتقالة، ولكن كيف هذا؟

حدث هذا نتيجة لرؤيتك العديد من البرتقالات المختلفة في اللون والاستدارة والمذاق، إلا أن عقلك استطاع توحيد هذه الفروقات في صورة واحدة وقام بطرح الاختلافات ليسهل عليك التعرف على البرتقال متى رأيته.

فعندما ترى جسمًا مستديرًا ذا لون برتقالي وملمس معين تستطيع القول بأنه برتقالة، إلا أن هذه الصفات ليست على قدم المساواة، فبعضها صفات أولية، وهي صفات موجودة في الشيء بذاته. البعض الآخر صفات ثانوية وهي الصفات التي تنشأ من تفاعل الإنسان مع الشيء، فالبرتقالة مستديرة سواء نظرت إليها أم لم تنظر أو لمستها أم لم تلمسها، إذا فهذه صفة أولية.

لكن أشياء كلون البرتقالة ليست صفة أساسية في البرتقالة بذاتها، فلون البرتقالة لا يتكون إلا بعد سقوط الضوء عليها وانعكاسه إلى عينك، ومن ثم يتكون اللون في دماغك، كما أن طعم البرتقالة كذلك، فهو ينشأ عند اتصال البرتقالة بلسانك ليتكون الطعم في دماغك، وهذا يفسّر اختلاف طعم الأشياء وقت مرضك.

فبعض الصفات هي صفات ثانوية لا معنى لها إلا بوجود متلقي، فلا معنى للألوان بدون وجود عين ترى، ولا معنى للأصوات بدون وجود أذن تسمع، ولا معنى للحلاوة أو المرارة بدون لسان يتذوق.

وبالتالي فالواقعية النقدية ترى وعي الإنسان جزءًا من عملية المعرفة.

طبيعة المعرفة عند البراجماتيين

يرى البراجماتيون أن المعرفة هي الفكرة التي يترتب عليها فعل في الواقع العملي، فإذا لم يكن للفكرة فائدة عملية فإنها لا ترقى لأن تكون معرفة، ويمكن أن تكون لدينا فكرتين صحيحتين، ولكن واحدة فيهم أصح من الأخرى، وهذه الأصح هي الحقيقة التي تقدم أكبر إفادة لنا، أي أنني إن أخبرتك بوجود تنين خارج الكون لا يمكنني أن أراه أو أسمعه أو أتواصل معه، فإن هذه في نظر البراجماتيين ليست معرفة، فلا يترتب على علمي بأمر هذا التنين فعل أفعله.

طبيعة المعرفة عند المثاليين

المعرفة من منظور المثاليين مصدرها العقل، فهم لا يعترفون بوجود العالم الخارجي بشكل مستقل عن الإنسان – كما يرى الواقعيون والبراجماتيون -، فالعالم بالنسبة للمثاليين هو ما يدور في عقل الإنسان، مثال:

إذا رأيت شجرة في الطريق فكل ما تملكه هو صورة هذه الشجرة في ذهنك، وليس الشجرة نفسها.

فلا وجود إلا لما يدركه العقل، وأي شيء لا يدركه العقل مستحيل الوجود.

الباب الثاني: مصدر المعرفة

يجيب زكي نجيب محمود في هذا الباب عن السؤال الثاني، “ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟”.

مصدر المعرفة عند التجريبيين

يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هي الحواس البشرية التي عن طريقها يختبر الإنسان العالم، فكل فكرة لا يمكن إرجاعها إلى حاسة من الحواس لا تعتبر حقيقية، كالسببية على سبيل المثال، إذ أنه لا يمكن إرجاع السببية إلى شيء تختبره الحواس، فكل ما نراه هو حوادث يرتبط بحدوثها حدوث حوادث أخرى، وليس هناك سبب حسّي لادعاء رابط سببي بينهما.

كذلك هو الحال مع الجوهر (الشيء مستقل عن صفاته)، والذات (الإنسان مستقل عن صفاته وحالاته)، إذ أن كل ما تراه هو الإنسان بحالاته أو الشيء بصفاته، ولا يمكنك إرجاع مفاهيم مثل الجوهر أو الذات إلى شيء مرصود بالحواس البشرية.

مصدر المعرفة عند العقليين

يخالف العقليون التجريبيون في تحديد مصدر المعرفة، فبينما يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هو الحواس فقط، يرى العقليون أن الحواس قد تخدع، وليس كل ما ترصده بحواسك يكون حقيقيًا، ولكن إن قلت “(أ) أكبر من (ب)، و(ب) أكبر من (ج)، إذن (أ) أكبر من (ج)”، فهذا لا يمكن أن يكون غير حقيقي، إذ أنه مستند على العقل وليس الحواس التي يمكنها خداعك، وبالتالي يرى العقليون أن مصدر المعرفة هو العقل.

مصدر المعرفة عند النقديين

بينما يكون مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فقط، ومصدرها عند العقليين هو العقل، فمصدرها عند النقديين هو الحواس والعقل معًا، حيث وقف النقديون من المعرفة موقفًا بين الواقعيين والمثاليين، فلم ينكروا أن معرفة الإنسان قائمة على ما يدركه في العالم الخارجي، ولكن اعتبروا العقل البشري هو القالب الذي يستقبل ويترجم هذه المدركات الحسية لتكون ذات معنى، مثال:

إذا قُلنا “النار أحرقت الورقة” فنحن هنا نشير إلى مدركات حسية وهي النار والورقة، ولكننا أيضًا نشير إلى مبدأ من صنع العقل البشري (أو من فطرته إن صح التعبير) وهو السببية، فيرى النقديون أن رصد عملية الاحتراق (المدرك الحسي) ضروري للمعرفة، إلا أن هذا المدرك لم يكن ليكون ذو معنى إن لم تحكمه علاقة السببية (المنتج العقلي)، فالنار هي ما تسبب بإحراق الورقة.

فبينما أشياء مثل السببية والجوهر والذات ليست مدركات حسية، إلا أنها ضرورات لفهم المدركات الحسية وجعلها ذات معنى، فهي من الأشياء التي زُوّدت بها فطرة الإنسان لتفهم العالم الخارجي.

مصدر المعرفة عند المتصوفة

خلصنا إلى أن رؤية التجريبين للحواس كمصدر وحيد للمعرفة، وبينما يرى العقليون العقل المصدر الوحيد للمعرفة، ويجمع النقديون بين العقل والحواس كمصادر للمعرفة، نجد أن المتصوفة لهم مصدر مختلف للمعرفة وهو الحدس.

ويرتبون درجات المعرفة من الأعلى إلى الأسفل، حيث تكون الحواس أدناها، والعقل أوسطها، والحدس أعلاها.

وبينما يسعى المتكلمون والفلاسفة لإثبات وجود الله باستخدام حجج وبراهين عقلية، يرى المتصوفة أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى الله تكون عن طريق الحدس.

فيقول زكي نجيب محمود في هذا الفصل:

“وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان – كما يقول المتصوفة – أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودًا مباشرًا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده.”

الباب الثالث: إمكان المعرفة وحدودها

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الثالث وهو “هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟”

الاعتقاديون والشُّكاك

يرى الاعتقاديون من أنصار المذهب التجريبي والمذهب العقلي أنه لا حدود للمعرفة التي يمكن للإنسان الحصول عليها، فما دامت المعرفة مصدرها هو العقل عند العقليين فلا يوجد شيء في العالم الخارجي يمكنه أن يضع حدًا لهذه المعرفة، وما دام مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فلا شيء يعوق معرفة الإنسان إذا لم يكن هناك ما يعوق اتصال الحواس بالمحسوسات.

أما الشُّكاك فيرون استحالة أن يعرف الإنسان الحقيقة الموضوعية لأي شيء، فكل ما يعرفه الإنسان نسبي، وحتى إن أراد أن ينقل معرفته هذه إلى غيره فإنه ينقلها عن طريق الكلام، ولن تعبّر الألفاظ عن حقيقة الشيء.

وتجب هنا التفرقة بين الفيلسوف الشاك، وبين الفيلسوف الذي يتبع منهج الشك، فالأول يشك في إمكان حصول الإنسان على المعرفة، بينما يؤمن الثاني بإمكانية المعرفة ولكنه يحتاج إلى حذر وحرص للحصول على المعرفة اليقينية.

حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين

لما كانت الحواس هي الشرط اللازم للمعرفة عند النقديين كما ناقشنا أعلاه، كانت معرفة الإنسان ممكنة طالما هي في حدود المدركات الحسّية، إذ أن ما يجاوز هذه المدركات لا يمكن للإنسان معرفته (في رأيهم).

فإذا تساءل الإنسان عن محدودية المكان في الكون أم أنه لا نهائي وجد نفسه أمام تناقض، فلا يمكن للعقل تصور نهاية للمكان، إذ أن كل مكان هناك ما هو أبعد منه، وكذلك لا يمكنه تصور مكان لا نهائي، وهذا التناقض سببه هو أن الإنسان حاول أن يتناول بمعرفته ما وراء المدركات الحسّية.

ويوافق الوضعيون النقديين في رأيهم فيرون وجوب الوقوف بمحاولاتنا للمعرفة عند الظواهر التي يمكن أن نشاهدها ونجري التجارب عليها، أما أن نجاوز الطبيعة المنظورة إلى ما وراء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة.

للمزيد من ملخصات الكتب اضغط هنا.

للمزيد من المعلومات عن زكي نجيب محمود اضغط هنا

فلسفة العدالة، كيف وصلنا لقوانين اليوم؟

فلسفة العدالة، كيف وصلنا لقوانين اليوم؟ من أين بدأنا؟ لم بعض الحقوق لا يمكن التصويت عليها؟ ما الفلسفة وراء تلك القوانين؟ إنها فلسفة العدالة. نقدم لكم سلسلة مقالات تناقش فلسفة العدالة وكيف وصلنا لقوانين اليوم؟

معضلة القطار

السؤال الأول: تخيل أنك انطلقت بعربة قطار –أنت سائقها- تجاه 5 عمال بسرعة كبيرة لتصدمهم ومكابحك مُعطّلة، أنت متأكد أنك ستقتلهم جميعا بتلك السرعة، ولكنك تلاحظ على يمين السكة وجود طريق فرعي يمكنك الدخول فيه، وفي نهاية ذلك الطريق الفرعي عامل واحد فقط، والمقود يعمل ويمكنك تحويل اتجاه عربة القطار من هذا الطريق لذلك الطريق الفرعي، فتقتل شخص واحد بدلا من 5 أشخاص! كيف ستتصرف؟ (خذ وقتك في التفكير ولا تنتقل إلى السطر التالي قبل اتخاذ قرارك الخاص).

يبرر أصحاب «تغيير الطريق للفرعي» موقفهم بأنه من الأخلاقي أن تقتل شخص واحد فقط بدلا من أن تقتل 5 أشخاص. فهو نفس المبدأ الذي تعتبر به الشعوب الطيارين أبطالًا إذا فضّلا الاصطدام بطائراتهم المدنية في الحقول عن إسقاطها فوق رأس مدنيين آخرين وقتل عدد أكبر.

بينما يبرر أصحاب «عدم تغيير مسار العربة» موقفهم أن تغييرهم لمسار العربة هو لا يختلف عن مفهوم الديكتاتوريات والفاشيات لحياة الناس، فيمكنهم إبادة عرق لإنقاذ عرق آخر، وقد تبدو إجابة منطقية، لكن هل نقاوم الديكتاتورية والفاشية بقتل 5 أشخاص مقابل شخص واحد إذن؟

تكمن صعوبة السؤال في أنك صاحب القرار، في أنك أنت ذلك الشخص الجالس خلف عجلة القيادة. كل الإجابات المثالية لن تُجدي، خذ قرارك، إما الـ 5 أو الـ 1!

يصوت أغلب الأفراد لصالح تغيير عجلة القيادة بالطبع وإنقاذ الـ 5 أشخاص مقابل قتل شخص، أليس كذلك؟ فلننتقل للمرحلة التالية.

المستوى الثاني لمعضلة القطار

السؤال الثاني: ماذا لو لم تكن أنت السائق، وكنت مشاهدا للموقف من فوق جسر، وترى العربة تتجه لتقتل الـ 5 أشخاص مباشرة، وأمامك شخص بدين جدًا متكئ على حافة الجسر. لو دفعت هذا الشخص فمن المؤكد أنه سيوقف العربة المندفعة تجاه الـ 5 أشخاص وبالتالي تكون النتيجة هي نفس النتيجة السابقة، إنقاذ 5 أشخاص مقابل شخص واحد، ماذا ستفعل؟ هل ستدفعه من على الجسر؟ (خذ قرارك قبل الانتقال للسطور التالية).

تأتي إجابة الأغلبية معاكسة للسؤال الأول، فلا أحد يرضى بدفع الرجل البدين عن الجسر، رغم أن النتيجة واحدة! ماذا حدث لمبدئنا القائل بأن «إنقاذ 5 بدلا من 1»!

لماذا نجد صعوبة في تبرير القتل مقارنة بالإنقاذ؟

يبرر البعض موقفه بأن عدم إلقاء الشخص البدين سببه هو أن الرجل البدين لم يكن طرفا في المشكلة أصلا، وأننا قمنا بالاختيار بدلا منه بأن نلقيه من فوق الجسر لينقذ حياة غيره من الأفراد، وهو ما يفوق الموقف الأول إجراما. لكن يبدو أن الإجابة غير منطقية بعض الشيء، لأن العامل على الطريق الفرعي في الموقف الأول لم يكن متداخلا تماما مثل الرجل فوق الجسر ولم يختر أحدهم التضحية بحياته، لكنك أنت من اختار ذلك بدلا عنهما، فلماذا اختلف اختيار الأغلبية في الموقفين؟

يرى البعض أنه كان طرفا مباشرا في الموقف الأول فكان لابد له من الاختيار، أما الموقف الثاني فهو مشاهد فقط، لذلك لا يجب أن يضحي بحياة شخص آخر، لكن ما زالت الإجابة غير مقنعة بعض الشيء، لأن النتيجة واحدة في الموقفين، فكلاهما سيموت بلا ذنب!

النفعية

نتحدث هنا عن «التبرير الأخلاقي بناء على العواقب-Consequentialist». يرفض البعض التصرف –تحويل المقود- بسبب تحليلهم للتصرف ذاته لا عواقبه «Categorical»، فرفضوا قتل شخص بريء بهدف الحفاظ على حياة 5 أشخاص أبرياء أيضا لأنهم وضعوا التصرف في إطار محدد من الواجبات والحقوق التي لا يجب تجاوزها بغض النظر عن العواقب، ويمثّل «التبرير الأخلاقي بناء على العواقب-Consequentialist» مبدأ شهير يسمى «النفعية-Utilitirianism» والذي أوجده الفيلسوف السياسي الإنجليزي «جيرمي بنثام» في القرن الثامن عشر والذي يختلف معه «إمانويل كانط» الفيلسوف الألماني الشهير ممثلا للجهة الأخرى. [1]

تكمن قضيتنا في رفض بعضنا لتقييم الأفعال وفقا للعواقب فقط، ولكن صب الاهتمام على الفعل ذاته إن كان أخلاقيا من الأساس أو لا، حتى لو كانت عواقبها جيدة فهي ستظل تصرفات خاطئة.

جيرمي بنثام والنفعية

عرّف «بنثام» نظريته النفعية باعتبار أن التصرف الأصوب هو الذي يعمل على زيادة المنفعة إلى الحد الأقصى ويقصد بالمنفعة هنا هو الموازنة بين السعادة والمعاناة، فجميعنا نحب السعادة ونكره المعاناة، وبذلك سنسعى جميعا كأفراد وكمجتمع لزيادة السعادة إلى الحد الأقصى، أي أن «المصلحة الأكبر للعدد الأكبر من الناس». ولكن لنواجه في السطور التالية قضية حقيقة مثّلت تهديدًا لمبدأ النفعية الخاص بـ «بنثام».

قضية أكل لحوم البشر

نظر القضاء البريطاني في القرن التاسع عشر قضية مثيرة للاهتمام وهي تناقش كثيرا في كليات الحقوق، والتي تحكي باختصار نجاة بحارة يخت «مينيونيت-Mignonette» والذي غرق في جنوب المحيط الأطلسي عام 1884. [2]

يتكون طاقم المركب من القبطان «دودلي» و«ستيفنز» المساعد الأول، و«بروكس» بحارا ورابعهم الغلام «ريتشارد باركر» ذو الـ 17 عام، كان «ريتشارد» يتيما بلا أسرة وتعتبر هذه الرحلة أول رحلاته. ضربت اليخت عاصفة قوية فأغرقته، فهرب الطاقم كاملا في قارب صغير للنجاة ومعهم علبتين من اللفت المعلب بلا ماء عذب.

بقى طاقم السفينة أول 3 أيام دون أكل، ثم في اليوم الرابع فتحوا واحدة من علبتي اللفت وأكلوها، واصطادوا سلحفاة لتساعدهم على البقاء أحياء بالإضافة لعلبة اللفت الباقية لعدة أيام قليلة، وبعد ذلك ظلوا لـ 8 أيام بلا أكل أو مياه عذبة، فقام «ريتشارد» بشرب ماء البحر ليروي ظمأه بمخالفة نصيحة الطاقم ليرقد مريضا على سطحه بلا قدرة على الحراك، وبدا أنه على وشك الموت.

وفي اليوم التاسع عشر، اقترح القبطان «دودلي» القيام بقرعة لاختيار أحدهم ليموت ويأكله البقية ليتمكنوا من النجاة، ولكن رفض «بروكس» بشدة، وربما ذلك لخوفه على حياته. طلب «دودلي» في اليوم التالي من «بروكس» أن يشيح بصره بعيدا، ثم أمر «ستيفنز» أن يقتل الغلام، وفعل بخنجره، ثم أكل كل أعضاء الطاقم بما فيهم «بروكس» الذي عارض سابقا.

ظلوا على حالهم لـ 4 أيام يشربون دماؤه ويأكلون لحمه إلى أن ظهرت سفينة ألمانية أنقذتهم وسلمتهم للساحل الإنجليزي ليتم اعتقالهم وتسليمهم للمحاكمة، وتحول «بروكس» لشاهد بينما تم اتهام كلا من القبطان «دودلي» ومساعده «ستيفنز» بتهمة القتل، لكنهما بررا تصرفهما بأن الجريمة تمت وفق الحاجة الشديدة وتلخصت الحُجة في أن موت شخص واحد أفضل من موت 3 أشخاص!

يرى البعض أن التصرف سليم أخلاقيا بحُجة أن الحاجة عند تجاوزها حدود معينة تتحول إلى الضرورة الواجبة التنفيذ، فعند تعرضهم للظروف القاسية لمدة 19 يوم تستوجب قيامهم بفعل مشابه للحفاظ على حياتهم، طالما أن العواقب لمصلحة الأغلبية!

بينما يختلف آخرون معهم ويرونه تصرف غير سليم أخلاقيا بحُجة أن لا أحد يملك السلطة على حياة الآخرين، حكما على الموقف ذاته بغض النظر عن عواقبه!

الموافقة

لكن ماذا لو أن «ريتشارد» وافق على أن يموت في سبيل إنقاذ أفراد الطاقم طالبا منهم قتله؟ هل سيصبح الفعل مناسب أخلاقيا؟

يرفض البعض ذلك أيضا بحُجة أنه في حالة قتل «ريتشارد» فلا يوجد ضمانة على عدم تكرار نفس الفعل مع «بروكس» ثم «ستيفنز» ويطال القتل الجميع دون توقف، فلا أحد يعلم متى ستأتي السفينة!

وتحجج آخرون بأن أكل لحوم البشر هو فعل غير أخلاقي من الأساس ولا يجوز الدفاع عنه بأي حال!

القُرعة

ماذا لو تم إجراء قرعة وكانت نتيجتها قتل «ريتشارد»؟ هل القرعة تجعل قتله أكثر قبولا وتمثل فارقا جوهريا؟

قد تعتبر المشكلة في أن «دودلي» و«ستيفنز» قد قررا أن حياتهما أكثر أهمية من حياة «ريتشارد» وهنا تكمن الجريمة الأخلاقية في حقه، أليس كذلك؟ وقد يعتبر آخرون أن المشكلة تكمن في عدم أخذ موافقته وأن القرعة ستتسبب في إكراه أحدهم على أن يُقتل من أجل الآخرين، وبينما رفض آخرون قيام «ريتشارد» بالتضحية بنفسه حتى لو كان هذا هو اختياره باعتباره تصرف غير سليم أخلاقيا، وأن أي تعاطف مع «دودلي» و«ستيفنز» سواء بسبب عائلاتهم التي تنتظرهم في انجلترا وأطفالهم الذين سيتيتمون من بعدهم -«ريتشارد» لن يفتقده أحد لأنه يتيم- فتصرفهم غير سليم ولا بد من معاقبتهم وحجتهم هنا هي أن أي شخص يقرر قتل شخص آخر للتحسين من وضعه بأي شكل من الأشكال، فلا يختلف من يقتلك ليسرقك عن من يقتلك ليأكلك! وهي حُجة قوية ولها وجاهتها فعلا!

خطأ نفعية بنثام

هكذا ثبت خطأ مبدأ «بنثام» فوفقا له فإن طاقم السفينة لم يخطئ، وهو ما يرفض أن يتقبله الجميع حتى من وجد الحجج المبررة لتصرفهم، ليصمد رفض القتل رفضا مطلقا أيا كانت مبرراته أو أسبابه. ولكن دعونا نتعمق أكثر في ما وراء «نفعية بنثام»!

لماذا نرفض القتل؟ هل هناك حقوق أساسية لا يمكن حرمان الجميع منها حتى اليتيم «ريتشارد»! ولماذا؟

بالنسبة لمن تشجع لاختيار طريقة القرعة، فهل الطريقة العادلة تبرر أي نتيجة؟

ثالثا، بالنسبة لمن تأثر بفكرة موافقة «ريتشارد»، فما الدور الأخلاقي الذي ستضفيه الموافقة على العمل؟

المصادر

[1] Stanford Encyclopedia of philosophy
[2] Nytimes

هذه السلسلة مستقاة من محاضرات البروفيسور مايكل ساندل عن فلسفة العدالة في جامعة هارفارد

أساطير نشأة الكون، أنواعها وسماتها

أسطورة الخلق، وتسمى أيضًا أسطورة نشأة الكون، وهي صياغة فلسفية ولاهوتية لأسطورة الخلق البدائية داخل مجتمع ديني. يشير مصطلح الأسطورة هنا إلى التعبير التخيلي في شكل سردي لما يتم اختباره أو إدراكه كحقيقة أساسية. يشير مصطلح الخلق إلى بداية الأشياء، سواء بإرادة وفعل كائن خارق، أو عن طريق الانبثاق من مصدر نهائي، أو بأي طريقة أخرى. في هذا المقال سنتعرف على أساطير نشأة الكون، أنواعها وسماتها

أنواع أساطير نشأة الكون:

لم يظهر العالم كمعنى وقيمة بنفس الطريقة لجميع الحضارات البشرية. لذلك، هناك عدد من الأساطير حول نشأة الكون تقريبًا يساوي عدد الثقافات البشرية. حتى وقت قريب جدًا، كان تصنيف هذه الأساطير على مقياس تطوري، من الثقافات القديمة إلى الثقافات الغربية المعاصرة (أي من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا) هو النمط السائد لترتيب هذه الأساطير. ومع ذلك، فقد بدأ علماء القرن العشرين الحديثون في النظر إلى الأنواع المختلفة من الأساطير من حيث الهياكل التي تكشف عنها بدلاً من اعتبارها على نطاق تطوري يمتد من ما يسمى البسيط إلى المعقد

الخلق من قبل كائن سامي:

رأى علماء القرن التاسع عشر الذين أجروا مسحًا تطوريًا للثقافة والدين البشريين (على سبيل المثال، السير جيمس جورج فريزر والسير إدوارد بورنيت تايلور) أن فكرة خلق العالم بواسطة كائن أعلى لم تحدث إلا في أعلى مرحلة من تطوير الثقافة. تحدى أندرو لانج، وهو عالم فولكلوري اسكتلندي، هذا المفهوم لتطور الأفكار الدينية، لأنه وجد في كتابات علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأعراق والمسافرين دليلاً على الإيمان بكائن أو إله سامي بين الثقافات التي تم تصنيفها على أنها الأكثر بدائية. تم تبني هذا الموقف وتوضيحه من قبل الكاهن النمساوي الأنثروبولوجي، فيلهلم ماتيوس شميدت، الذي عكس النظرية التطورية، معتبراً أن هناك فكرة أساسية عن كائن سامي، وهو نوع من التصور الفكري والديني الأصلي لإله خالق واحد، التي تدهورت في المراحل الثقافية اللاحقة. على الرغم من أن نظريات شميدت للمراحل التاريخية الثقافية والانتشار والوحي الأصلي قد تم فقدان مصداقيتها والتخلي عنها في معظمها، إلا أن وجود الإيمان بالكائن السامي بين الشعوب البدائية (وهو مفهوم اكتشفه أندرو لانج) قد تم إثباته وشهد عليه مرارًا وتكرارًا من قبل محققين من ثقافات عديدة. تم العثور على هذا الاعتقاد بين ثقافات إفريقيا، وجزر الأينو في جزر اليابان الشمالية، والهنود الحمر، وجنوب وسط أستراليا، الفوجيون في أمريكا الجنوبية، وفي جميع أنحاء العالم تقريبًا.

الخلق من خلال الانبثاق:

على النقيض من الخلق من قبل إله السماء السامي، هناك نوع آخر من أسطورة الخلق يبدو فيه أن الخلق يظهر من خلال قوته الداخلية من تحت الأرض. في هذا النوع من الأسطورة، يظهر النظام المخلوق تدريجيًا في مراحل متواصلة. إنه مشابه لميلاد أو تحول العالم من حالته الجنينية إلى مرحلة النضج. إن رمزية الأرض أو جزء منها كمستودع لكل الأشكال المحتملة بارزة في هذا النوع من الأسطورة. تمامًا كما تشكل أسطورة الإله الأعلى الخالق تناظرًا للسماء، فإن أسطورة الظهور تشكل تجانسًا مع الأرض والمرأة التي تنجب. في كثير من الحالات، يكون ظهور النظام المخلوق مماثلاً لنمو الطفل في الرحم وانبعاثه عند الولادة. من منظور آخر، فإن أسطورة الظهور تماثل البذرة. عندما يشار إلى البذرة، يتبادر إلى الذهن معنى الخصوبة والموت في الحال. يجب أن تموت البذرة قبل أن تولد من جديد وتحقق إمكاناتها.

الخلق بواسطة والدي العالم:

ترتبط ارتباطا وثيقا بنوع الأسطورة المذكورة أعلاه هي الأسطورة التي تنص على أن العالم مخلوق كنسل لأم وأب أوليين. الأم والأب رمزان للأرض والسماء على التوالي. في الأساطير من هذا النوع، يظهر والدي العالم عمومًا في مرحلة متأخرة من عملية الخلق حيث توجد الفوضى بطريقة ما قبل ظهور آباء العالم. في بعض الأساطير، الخلق هو نتيجة القوى التناسلية لوالدي العالم الأولي. غالبًا ما يتم تصوير ولادة الأبناء من والدي العالم على أنه نشاط غير واعي. حتى العناق الجنسي للوالدين في العالم يكون بدون عاطفة أو نية. لا يظهر الاحتضان الجنسي نتيجة رغبة أو نية، إنها ببساطة الطريقة التي تسير بها الأمور. في الأساطير من هذا النوع، هناك ممانعة من جانب الزوجين الأساسيين للانفصال عن هذا العناق. العناق ليس له بداية أو ذروة. إنه دائم والوالدين في العالم غير مبالين أو غير مدركين للنسل الناتج عن هذا العناق.

الخلق من البيضة الكونية:

البيضة هي رمز الكلية التي يأتي منها كل الخلق. إنه مثل الرحم الذي يحتوي على بذور الخلق. داخل البيضة توجد احتمالات الخلق الكامل (أي خلق كائنات مخنثة). البيضة، بالإضافة إلى كونها بداية الحياة، هي أيضًا رمز الإنجاب والولادة الجديدة والحياة الجديدة.

الخلق بواسطة غواص الأرض (Earth-diver):

في أساطير غواص الأرض، يشكل الماء المادة الأولية للبداية. يغطي الماء، بشكله غير المتمايز، كل شيء بطريقة فوضوية. يغوص البطل، عادة ما يكون حيوانًا، في المياه البدائية في محاولة لإحضار جزء من الرمل أو الطين أو الأرض، أي شكل جوهري من المادة يمكن من خلاله إنشاء نظام أكثر استقرارًا. العديد من الحيوانات تقوم بالمحاولة وتفشل ولكن أخيراً ينجح أحد الحيوانات في استخراج قطعة من التراب أو الطين أو الرمل. وعند وصوله إلى سطح الماء، يتوسع جزئ المادة إلى أبعاد ضخمة، مما يشكل مساحة اليابسة في العالم التي ستعيش عليها جميع الكائنات. تنتشر أساطير غواص الأرض على نطاق واسع، ولكن هناك غلبة لها في ثقافات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية. في هذه الثقافات، تعد الأساطير جزءًا من دور البطل المحتال المتحول فيها. هذا النوع من الشخصيات الثقافية فريد إلى حد ما في الأساطير من هذا النوع. في هذه الأساطير، يتم توضيح التضاد والتوتر بين الإله الخالق والبطل في شكل حيوان أو إنسان. إنه خفي وغير مباشر وخفيف ولكنه مع ذلك حاد. من الواضح أن هناك رغبة من جانب البطل في خلق عالم مختلف في وضع مختلف عن عالم الإله الخالق.

سمات أسطورية أساسية:

الأولية:

ورد في العديد من الأساطير أن المادة الأولية للخلق كانت شكلاً من أشكال المادة غير المتمايزة (على سبيل المثال، الماء، أو الفوضى، أو الوحش، أو البيضة). من هذه المادة غير المتمايزة يتطور العالم أو يصنع. في حالة رموز البيضة والوحش، يبدو أن هناك مفهوم عن شكل أصلي محدد، لكن البيضة غير متمايزة لأن شكلها مبهم وجنيني، وشكل الوحش الذي يحتوي على جميع أشكال الفوضى بطريقة رهيبة يعبر عن الفكرة القائلة بأن الفوضى ليست فقط سلبية (مثل الماء) ولكنها تقاوم عملية الخلق. على الرغم من أن الخلق ينتج كتعديل للمادة الأولية، إلا أن هذه المسألة هي التي تحدد وتضع حدود امتداد العالم في المكان والزمان. وهكذا، في المجتمعات التي تجد فيها أساطير من هذا النوع، هناك فترات من تجديد الأسطورة الطقسي في فترات دورية معينة يعود فيها العالم إلى فوضى أصلية ليخرج مرة أخرى من هذه الحالة الأولية. عندما يُقال أن الكائن الأعلى خلق العالم وأنه لم يكن هناك مادة بدائية قبل وجوده، فإن تحديد العالم يكون في عقل الإله وإرادته. يؤدي هذا إلى استنتاجات مميزة فيما يتعلق بمصير العالم والإنسانية. وهكذا فإن نهاية ومعنى العالم لا تحددها المادة البدائية بل الإله الذي خلق العالم. إنه وحده الذي يقرر الحفاظ على العالم وصيانته ونهايته.

الثنائيات والعداوة:

في أساطير الانبثاق، يبدو أن هناك انتقال سهل من مرحلة الخلق إلى المرحلة التالية، ولكن كما هو موضح في أسطورة قبيلة نافاجو، يوجد في كل مستوى تحت الأرض نوع من العداء بين المخلوقات الجنينية النامية. وهذا من أسباب انفصال المخلوقات والانتقال إلى مستوى آخر. على الرغم من أن أساطير الانبثاق تصور أخف أشكال هذا العداء، إلا أنها لا تزال موجودة في أساطير من هذا النوع. في أساطير والدي العالم، هناك عداء بين الأبناء والأبوين. هذا صراع بين الأجيال، يعبر عن رغبة الأطفال في تحديد مكانهم وتوجههم في الوجود ضد سلبية الوالدين. تم العثور على الازدواجية والعداء مرة أخرى في أساطير البيضة الكونية، خاصة في الأساطير التي تحتوي فيها البيضة على توائم. يرغب أحد التوأمين في الحصول على الفضل في إنشاء العالم وحده، مما يقطع النمو المتناغم داخل البويضة قبل النضج. الخلق الخاطئ من قبل هذا التوأم الشرير يفسر الطبيعة الغامضة للعالم وأصل الشر. تنطبق هذه الملاحظة بالتساوي على البنية الثنائية في بعض إصدارات أساطير غواص الأرض. ينتقل الشيطان في نسخ مختلفة من هذه الأسطورة من رفيق الإله إلى خصمه، ويمتلك القدرة على تحدي الإله.

عملية الخلق والتضحية:

في العديد من أساطير نشأة الكون، يروي السرد قصة التضحية وتقطيع أوصال كائن بدائي. ثم يتم إنشاء العالم من جسد هذا الكائن. في أسطورة Enuma Elish، يقسم الإله مردوخ جسد الأم الأولية تيامات، بعد هزيمتها، إلى جزأين، جزء واحد يشكل السماء والآخر يشكل الأرض. في أسطورة غرب إفريقيا، يجب التضحية بأحد التوأمين من البيضة الكونية لتحقيق عالم صالح للسكن. في أشكال التضحية هذه، يُقترح شيء مشابه لتوصيف مسألة الخلق غير المتمايز، لأنه كما يجب التمييز بين العناصر الأولية للخليقة قبل ظهور العالم، فإن التضحية بالكائنات الأولية هي تدمير الكلية الأولية من أجل من أجل خلق معين.

لماذا توجد أساطير لنشأة الكون؟

قدم الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم السبب الحقيقي وراء كون أساطير الخلق شبه عالمية. لاحظ هيوم أنه بدون فكرة عن السبب والنتيجة، سنكون غير قادرين تمامًا على فهم العالم من حولنا. ومع ذلك، فإن المشكلة هي أن كل ما نلاحظه هو شيء واحد تلو الآخر. نحن لا نرى شيئًا في الواقع يسبب شيئًا آخر، كما أننا لا نملك أسبابًا منطقية وجيهة للقفز من ملاحظة الانتظام إلى استنتاج مفاده أن شيئين مرتبطين ببعض الارتباط الضروري.

لحسن الحظ، قامت الطبيعة بسد هذه الفجوة المنطقية والتجريبية بالنسبة لنا. إن فكرة الارتباط الضروري بين الأحداث هي شيء يفرضه العقل على تصوراته. ولكن نظرًا لأن هذه غريزة عميقة وتلقائية، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن الروابط السببية قد تمت ملاحظتها في الواقع، ولم تفرضها عقولنا. نظرًا لأن عقولنا منشغلة في فرض نظام سببي على تصوراتنا، فغالبًا ما ينتهي بنا المطاف برؤية الأسباب حيث لا توجد أسباب. على سبيل المثال، نلمس أرنبًا محظوظًا قبل أن نشتري تذاكر اليانصيب الخاصة بنا وإذا فزنا، فإننا ننسب النصر إلى الأرنب. يبدو الأمر كما لو أننا جشعون أتجاه السببية، مفضلين تفسيرًا سيئًا على لا شيء على الإطلاق. لذلك نسأل بشكل طبيعي من أين يأتي الكون، وفي غياب أي طريقة موثوقة لاكتشاف الإجابات الحقيقية، فإننا نخمن أفضل تخمين محتمل، والذي يعني عادةً وصف الخلق الكوني بطرق مماثلة للأشكال الأكثر شيوعًا، مثل الولادة أو عمل خالق هادف.

المصادر:

  1. britannica
  2. the guardian
  3. encyclopedia

فلسفة الرياضيات | ما هي مفارقة نيوكومب؟

فلسفة الرياضيات | ما هي مفارقة نيوكومب؟

إذا وُضع أمامك صندوقان، صندوق صغير وآخر كبير. ثم قيل لك أن الصندوق الصغير بداخله ألف دولار. أما الصندوق الكبير إما يحتوي على مليون دولار أو لا شيء. وعُرض عليك خياران:

  • الخيار الأول: أن تحتفظ بمحتويات الصندوقين.
  • الخيار الثاني: تحتفظ بمحتويات الصندوق الكبير، وتترك الصندوق الصغير.

حيث تم إغلاق الصناديق قبل دخولك الغرفة، وخيارك لن يُغير من محتويات الصناديق، فماذا ستفعل وأيهما ستختار؟ في حين تفكيرك أيهما ستختار. هيا بنا في رحلة معرفية جديدة تربط الفلسفة بالرياضيات في فلسفة الرياضيات | ما هي مفارقة نيوكومب؟

ما هي مفارقة نيوكومب؟

مفارقة نيكومب كان في مقدورها أن تشير إلى أن ٢ + ٢ = ٥؛ لأنه يمكننا استنتاج أي شيء من التناقض والتي تفترض وجود لعبة من الأصل!

«مفارقة نيوكومب-Newcomb’s paradox» أو مشكلة نيكومب: هي مشكلة في نظرية القرار. إذ ينتهي القرار العقلاني بنتيجة أسوأ من القرار الذي يبدو غير عقلاني. تتمثل المفارقة في شكل لعبة ومكافآت شخص يمنحها لك، وبناءً على كيفية توقعه أنت تتصرف! وتلك المفارقة مرتبطة بمشكلات التنبؤ والسببية والقرارات والإدارة الحرة. ابتكرها «ويليام نيوكومب-William Newcomb» ونشرها «روبرت نوزيك-Robert Nozick» لأول مرة و«مارتن غاردنر-Martin Gardner».

أي الصندوقين نختار؟

الجواب واضح، يجب أن تأخذ كلا الصندوقين! كيف يمكن أن تترك مليون دولار وراءك؟ سواء كان الصندوق الكبير يحتوي على المليون دولار أم لا. سينتهي بك الأمر بالمزيد من المال إذا أخذت الصندوق الصغير أيضًا.

لكن إذا قررت أن تأخذ كلا الصندوقين، فمن شبه المؤكد أن الصندوق الكبير سيكون فارغًا! أما إذا قررت ترك الصندوق الصغير، فمن شبه المؤكد أن الصندوق الكبير بداخله المليون دولار!

الآن تعلم أنك إذا اخترت الصندوق الكبير، فمن شبه المؤكد ستحصل على مليون دولار. أما إذا أخذت الصندوقين فستحصل على ألف دولار فقط، لكن هل يجب أن تختار الصندوقين حقًا؟ ولماذا؟

تلك فكرة بديهية عن السبب الذي يجعل مفارقة نيوكومب تبدو محيرة. الآن سأعطيك عزيزي القارئ ما يوضح ذلك اللغز، وأقدم لك محور المفارقة وهي نظرية القرار السببي.

ما هي نظرية القرار السببي؟

تتبنى نظرية القرار السببي مبادئ الاختيار العقلاني، وتهتم بعواقب الفعل، وتؤكد أن حساب الاختيار العقلاني يجب أن يستخدم السببية التي تجعل الاختيار منطقيًا. إذ توصي بخيار يزيد المنفعة إلى أقصى حد، أي خيار تعادل منفعته أو تتجاوز منفعة كل خيار آخر موجود.

ووفقًا للصيغة الأكثر وضوحًا لنظرية القرار، يجب أن تتخذ قرارك وفقًا لمبدأ تعظيم القيمة المتوقعة أي أقصى منفعة كما ذكرنا. تخبرنا نظرية القرار المبنية على تعريف القيمة المتوقعة أن الشيء الصحيح الواجب فعله هو اختيار الصندوقان.

الفرق بين الاعتماد السببي والاحتمالي

من المهم أيضًا أن نمييز بين الاعتماد السببي والاعتماد الاحتمالي.

الاعتماد السببي:

حدثان مستقلان سببيًا إذا لم يكن أي منهما سببًا للآخر. خلاف ذلك، فإن التأثير يعتمد سببيًا على السبب.

مثلًا: لا يمكننا القول أن مبيعات الآيس كريم تسبب الطقس الحار. كذلك يمكن العثور على نفس الارتباط بين النظارات الشمسية ومبيعات الآيس كريم ولكن السبب لكليهما هو درجة الحرارة الخارجية.

الاعتماد الاحتمالي:

حدثان مستقلان احتماليًا إذا كان الافتراض بحدوث أحدهما لا يؤثر على احتمالية حدوث الآخر. خلاف ذلك، كل واحد منهم يعتمد احتماليًا على الآخر.

مثلًا: عند رمي عملة، احتمال ظهور وجه “الكتابة” هو 1/2. لكن ماذا إذا كان اليوم هو الثلاثاء؟ هل سيغير من احتمالية الحصول على وجه “الكتابة”، بالطبع لا. لذا فالنتيجة أن رمي العملة ويوم الثلاثاء هما حدثان مستقلان، مع العلم أن يوم الثلاثاء لم يغير من احتمالية الحصول على وجه “الكتابة”.

يمكننا استخدام مثال لتوضيح الفرق بين هذين النوعين:

 من المحتمل أن يعتمد وجود أرصفة رطبة على استخدام المظلات، لأن الافتراض بأن الناس يستخدمون المظلات يزيد من احتمالية الأرصفة الرطبة.

 إن وجود أرصفة مشاة رطبة أمر مستقل سببيًا عن استخدام المظلات، لأن استخدام المظلات لا يتسبب في رطوبة الأرصفة ولا تسبب الأرصفة المبتلة استخدام المظلات (ما لدينا هنا هو مسبب شائع يتلخص في أن: المطر يتسبب في كل من الأرصفة الرطبة واستخدام المظلات).

السببية  في معضلة نيوكومب 

إذا كان الصندوق الكبير يحتوي على مليون دولار أم لا. يعتمد بشكل احتمالي على اختيارك لصندوق واحد أو صندوقين، لأن افتراض أنك ستختار صندوق واحد يزيد من احتمالية احتواء الصندوق الكبير على المال.

سواء أكان الصندوق الكبير يحتوي على مليون دولار أم لا، فهو مستقل سببيًا عن اختيارك؛ لأن اختيارك لا يتسبب في احتواء الصندوق على المال فيه ومبلغ المال في الصندوق لا يسبب اختيارك (هنا أيضًا لدينا سبب مشترك: دافعك النفسي يتسبب في قرارك وتوقع المتنبئ).

يمكن أن تنفصل نظرية القرار السببي عن نظرية القرار الإرشادي عندما ينفصل الاعتماد السببي والاحتمالي. لكنهم دائمًا يقدمون نفس النتائج في الحالات التي لا ينفصل فيها الاعتماد السببي والاحتمالي.

لماذا نختار الخيار الأول؟

 يعتقد الفلاسفة أن الخيار الأول غير عقلاني، وبالتالي يجب رفض شكل نظرية القرار، مهما بدا الأمر طبيعي.

تستند حجة مهمة للخيار الثاني، وهي في حالة أن هناك مسألة رئيسة واحدة لا يمكننا التحكم فيها، مثلًا إذا ما كان الصندوق الكبير ممتلئًا أم لا. بغض النظر عن كيفية ظهور هذا الأمر، سيكون أفضل إذا كنت اخترت الصندوقين بدل من صندوق واحد.

  • إذا كان الصندوق الكبير فارغًا، فستكون أفضل حالًا إذا كنت تستخدم صندوقين بدلاً من صندوق واحد.
  •  إذا كان الصندوق الكبير ممتلئًا، فستكون أفضل حالًا إذا كنت تستخدم صندوقين بدلاً من صندوق واحد.

حقيقة أن الخيار الأول هو المهيمن على الخيار الثاني هي حجة قوية للتفكير في أنه يجب عليك أخذ الصندوقين.

طريقة أخرى

هناك إحدى الطرق التي تبيّن ذلك، هي أن تتخيل أن لديك صديقًا لديه اهتماماتك المفضلة، ومن يعرف إذا كان الصندوق الكبير فارغًا أم لا؟ كيف يريد صديقك أن تختار؟

إذا كان الصندوق الكبير فارغًا، فسيتمنى صديقك أن تحصل على صندوقين، بحيث تحصل على الأقل على 1000 دولار. من جهة أخرى، إذا كان الصندوق الكبير ممتلئًا، فسيكون صديقك سعيدًا، لأنه يعرف أنك ستكون غنيًا مهما قررت. لكنه سيتمنى أن يكون لديك صندوقين، حتى تحصل على 1000 دولار إضافية.

المتنبئ هو من يحدد

ما تدور حوله المفارقة في النهاية: يوجد متنبئ محترف ولاعب، إذا توقع المتنبأ أن اللاعب سيأخذ كلا الصندوقين A و B فإن الصندوق B لا يحتوي على أي شيء.

‏ إذا توقع المتنبئ أن اللاعب سيأخذ الصندوق B فقط، فإن الصندوق B يحتوي على 1،000،000 دولار.

اقرأ أيضًا:

المصادر

مفارقة إيكاروس، كيف يقتلك ما كان السبب في نجاحك؟

بالتأكيد العمل الدؤوب والاجتهاد هو الطريق للنجاح، ولكن ماذا لو كانت مسببات النجاح هي التي ستؤدي للفشل الذريع؟  هذا ما طرحه داني ميلر في كتابه مفارقة إيكاروس، ليوضح سبب سقوط الشركات الناشئة بعد فترة من النجاح والازدهار.

إيكاروس في الميثولوجيا الإغريقية:

تروي الأسطورة أن إيكاروس هو ابن ديدالوس، المعماري الذي بنى المتاهة التي احتوت وحش المينوتور “نصف انسان ونصف ثور” . وكان في جزيرة كريت التي حكمها الملك مينوس، وحُكِم على ديدالوس وابنه بالسجن في برجٍ في جزيرة كريت.

حاول إيكاروس وأبيه الهروب وذلك بصناعة أجنحة وتشكيلها من الشمع والريش. ولكن نبه ديدالوس ابنه بألا يطير عاليًا فيقترب من الشمس ويذوب الشمع في أجنحته، وألا يطير منخفضًا فيبتل الريش بالماء ويغرقه.

ولكن إيكاروس كان مزهوًا بأجنحته وفخورًا بحريته، فحلق عاليًا إلى أن اقترب من الشمس فأذابت الشمع وحرقت أجنحته، وهوى إلى البحر ومات غرقًا فيه.

مفارقة إيكاروس:

طرح داني ميلر في عام 1990 مفهوم مفارقة إيكاروس؛ موضحًا أن الشركات الناشئة التي تبالغ في ثقتها بقدراتها بعد نجاح مزدهر وسريع سيكون مصيرها مماثلًا لمصير إيكاروس، الفشل بسبب نفس العوامل التي أدت لنجاحها الباهر.

تؤدي العوامل المسببة في النجاح السابق؛ مثل استراتيجيات متبعة سابقًا عند استخدامها بشكل زائد عن حده إلى انخفاض المبيعات والأرباح إلى أن تصل للإفلاس.
ويحدث هذا عندما يتخذ المدراء نفس الأساليب أملًا في الحصول على نتائج مشابهة للنجاح القديم. وذلك لثقتهم العمياء فيها، وأحيانًا بسبب الغطرسة والثقة الزائدة بنجاحها.

عوامل فشل الشركات:

يقول ميلر إن انتصارات الماضي هي التي تخدع صناع القرار في الشركات وتدفعهم للإيمان بأنهم وصلوا لبر الأمان وحققوا النصر في مبيعاتهم، ويدفعهم ذلك إلى اتباع طرقهم التقليدية ذاتها، بسبب إيمانهم بأنها الطرق الناجحة كونها طرق مجربة.

عند توقع نتائج المشاريع المحفوفة بالمخاطر يقع المدراء في ما يسميه علماء النفس “مغالطة التخطيط”، ويتخذون قراراتهم بناءً على تفاؤل وهمي بدلًا من الحساب العقلاني للمخاطر والمكاسب المحتملة. ويسعون وراء أهداف غالبًا ما تفشل.

عبر الزمن، تركز الشركات على العامل الوحيد الذي ساعد في نجاحها، ولكن على حساب عوامل أخرى تهملها الشركات ولا تتكيف مع التطورات مثل وجود منافسين جدد، تغير الطلب المحلي، وجود تكنولوجيا جديدة.

أمثلة على مفارقة إيكاروس:

هناك أمثلة على ذلك أهمها شركة تيسكو بمحاولتها دخول السوق الأمريكية عام 2007. بالرغم من نجاحها البالغ في المملكة المتحدة، فشلت في دخول السوق الأمريكية وذلك لتطبيقها نفس الاستراتيجية المتبعة في المملكة المتحدة بدون مراعاة فروق العادات الاستهلاكية للمواطن الأمريكي. ما أدى لخسارات بالغة تقارب 1.8 مليار دولار وانخفاض أرباحها بمعدل 96%.

مقترحات ميلر:

يرى ميلر بضرورة تطوير المديرين لما يسميه “المرايا” أو القدرة على الوعي بالسلوك والتفكير الذاتي. ويؤكد على أهمية التطوير ومراجعة الاستراتيجيات خصيصًا التي مرّ زمن على العمل بها. بالإضافة لضرورة استخدام عدة مصادر من المعلومات عن المنافسين ومتطلبات السوق المحليّ، ومتابعة المنتجات المنافسة. حتى تتمكن الشركة من الصمود أمام تغيرات السوق يتوجب التغيير المستمر في الاستراتيجيات المتبعة للنجاح، حتى لا ينتهي بها الأمر مثل إيكاروس.

المصادر:






أساطير نشأة الكون وخلق الإنسان

كيف بدأ الخلق؟ سؤال طرحه الإنسان دائمًا منذ قديم الأزل في الحضارات المختلفة محاولًا إيجاد إجابة معقولة، وقد ظهرت أساطير مختلفة لمحاولة الإجابة على هذا السؤال. في هذا المقال بعنوان أساطير نشأة الكون وخلق الإنسان سنتناول أشهر الأساطير التي فسرت كيفية نشأة الكون.

أسطورة الخلق، وتسمى أيضًا أسطورة نشأة الكون، هي صياغة فلسفية ولاهوتية لأسطورة الخلق البدائية داخل مجتمع ديني. يشير مصطلح الأسطورة هنا إلى التعبير التخيلي في شكل سردي لما يتم اختباره أو إدراكه كحقيقة أساسية. ويشير مصطلح الخلق إلى بداية الأشياء، سواء بإرادة وفعل كائن متعال، أو عن طريق الانبثاق من مصدر نهائي، أو بأي طريقة أخرى. تشير أساطير الخلق إلى العملية التي يتم من خلالها تمركز العالم وإعطائه شكلاً محددًا داخل الواقع كله. كما أنها بمثابة أساس توجيه البشر في العالم. يحدد هذا التمركز والتوجه مكان البشرية في الكون والاعتبار الذي يجب أن يحظى به البشر تجاه البشر الآخرين والطبيعة والعالم غير البشري بأسره؛ يضعون النغمة الأسلوبية التي تميل إلى تحديد جميع الإيماءات والأفعال والهياكل الأخرى في الثقافة.

خصائص أساطير نشأة الكون

أساطير نشأة الكون وخلق الإنسان (أصل العالم) هي الأسطورة بامتياز. بهذا المعنى، فإن الأسطورة شبيهة بالفلسفة، ولكنها على عكس الفلسفة، تتكون من نظام من الرموز؛ ولأنه أساس أي فكر ثقافي لاحق، فهو يحتوي على أشكال عقلانية وغير عقلانية. هناك نظام وهيكل للأسطورة، ولكن لا ينبغي الخلط بين هذا الترتيب والبنية وبين النظام والهيكل الفلسفي والعقلاني. تمتلك الأسطورة نوعًا مميزًا من النظام. تتمتع أساطير الخلق بطابع مميز آخر من حيث أنها توفر نموذجًا للتعبير غير الأسطوري في الثقافة ونموذجًا للأساطير الثقافية الأخرى. بهذا المعنى، يجب على المرء أن يميز بين الأساطير الكونية وأساطير نشأة التقنيات الثقافية والصناعات الإنسانية. بقدر ما تروي الأسطورة الكونية قصة خلق العالم، فإن الأساطير الأخرى التي تروي قصة تقنية معينة أو اكتشاف منطقة معينة من الحياة الثقافية تأخذ نماذجها من البنية الأسلوبية لأسطورة نشأة الكون. قد تكون هذه الأساطير الأخيرة مسببة (أي شرح الأصول)؛ لكن أسطورة نشأة الكون ليست أبدًا مجرد مسببات، لأنها تتعامل مع الأصل النهائي لكل الأشياء.

نشأة الكون في الميثولوجيا الإغريقية

يمكن العثور على اختلافات في قصة الخلق في الأساطير اليونانية في العديد من النصوص القديمة. المثال الأكثر اكتمالا هي «الثيوغونيا-Theogony» للشاعر اليوناني هسيودوس، الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد تقريبًا. يجمع عمله بين جميع الأساطير والتقاليد اليونانية القديمة حتى وقته. وفقًا للثيوغونيا، في البداية كانت «الفوضى-chaos» و«الفراغ-void» فقط موجودان في جميع أنحاء الكون بأسره. تجدُر الإشارة هنا إلى أن الكلمة اليونانية «chaos» ليس لها نفس المعنى الذي تحمله اليوم – إنها تعني ببساطة “مساحة فارغة أو فراغ مظلم”. تبع الفوضى «جايا-Gaia» (التي تعني الأرض) و«إيروس-Eros» (الذي يعني الحب). لم يتم تحديد ما إذا كان جايا و إيروس قد ولدا من الفوضى أو ما إذا كانا موجودان مسبقًا، ومع ذلك، يذكر هسيودوس أن جايا ظهرت إلى الوجود لتصبح موطنًا للآلهة. أنجبت الفوضى «إيريبوس-Erebus»، الذي كان ظلام العالم السفلي، و«نيكس-Nyx» (الليل) وأنجبت جايا أورانوس، من هناك، تصف الأسطورة اليونانية كيف تزاوج الآلهة مع بعضها البعض لإكمال الخليقة بأكملها. أصبح أورانوس وغايا أول آلهة حكمت. تزاوج أورانوس مع جايا وأنتجوا ثلاثة «صقاليب-cyclops» و 12 جبابرة (جنس من العمالقة). كان كرونوس  أحد الجبابرة. ومن هنا تبدأ ملحمة آلهة الأساطير اليونانية الشهيرة.

كان أورانوس يشعر بالغيرة من أطفاله وحكم عليهم بالبقاء داخل جايا. لقد سد رحمها (الكهوف) وهذا ما أثار غضب جايا. وهكذا طلبت جايا من أطفالها المساعدة في مقاومة والدهم. صعد أحد الجبابرة، كرونوس، إلى الأمام وعاقب أورانوس بخصيه بمنجل أعطته إياه جايا. أُلقيت الأعضاء التناسلية لأورانوس في البحر وسقط دمه على الأرض وخلق المزيد من الأطفال وهم أفروديت وإرينيس (الغوريون) والعمالقة والحوريات. حذر أورانوس وجايا كرونوس من أن مشاكله لم تنته لأنه في يوم من الأيام سيطيح به أحد أبنائه. نتيجة لذلك، قرر كرونوس ابتلاع أطفاله. لكن جايا كانت قادرة على إنقاذ الطفل زيوس، الذي نشأ في جزيرة كريت اليونانية إلى أن جعل كرونوس، بمساعدة ميتيس (واحدة من الجبابرة)، يتقيئ الأطفال المبتلعين. بقيادة زيوس، تمرد الأشقاء الستة (ديميتر، هيرا، هيستيا، هاديس، وبوسيدون) ضد والدهم. تُعرف سنوات المعركة باسم «حرب الجبابرة-titanomachy». بدت المعركة وكأنها لن تنتهي أبدًا، ولكن بعد ذلك خطرت لدى زيوس فكرة. أطلق سراح أعمامه، و السيكلوب، و«هيكاتونكاريز-Hecatooncheires» من تارتاروس وساعدوه في قلب مجرى الحرب عن طريق صناعة صواعق لزيوس ورمي حجارة ضخمة على أعدائه. انتصر زيوس وحلفاؤه وألقوا كرونوس في تارتاروس إلى الأبد.

كان هناك ثلاثة جبابرة لم يدعموا كرونوس في المعركة: بروميثيوس وإبيميثيوس وأوكيانوس. انضم بروميثيوس لاحقًا إلى زيوس. وتم إرسال جميع الجبابرة إلى تارتاروس (العالم السفلي)، باستثناء بروميثيوس وإبيميثيوس. بعد ذلك، قسمت آلهة اليونان القديمة المتمردة الكون فيما بينهم. أُعلن أن زيوس هو الإله الأعلى، ويسيطر على كل الآخرين. لقد عاشوا جميعًا في قمة جبل أوليمبوس في اليونان – لكن ليس بسلام. خلق بروميثيوس الإنسان من الأرض (الطين)، ونفخت الإلهة أثينا الحياة في خليقته. هنا نرى نمطًا شائعًا آخر يتكرر في أساطير الخلق القديمة وهو إعطاء الروح للجسد حتى يصبح حيًا.

نشأة الكون في الحضارة المصرية القديمة

بالنسبة للمصريين القدماء، بدأت الرحلة بخلق العالم والكون من الظلام والفوضى العارمة. ذات مرة لم يكن هناك شيء سوى الماء الداكن اللامتناهي بدون شكل أو غرض. يوجد في هذا الفراغ «حكا-Heka» (إله السحر) الذي انتظر لحظة الخلق. من هذا الصمت المائي المسمى بنوو ارتفع التل البدائي، المعروف باسم بن بن، الذي وقف عليه الإله العظيم «أتومAtum» (أو في بعض إصدارات الأسطورة، بتاح). نظر أتوم إلى العدم وتعرّف على وحدته، وهكذا تزاوج مع ظله من خلال السحر لينجب طفلين، شو (إله الهواء) وتفنوت (إلهة الرطوبة). أعطى شو للعالم المبكر مبادئ الحياة بينما ساهم تيفنوت في مبادئ النظام.

ترك شو وتفنوت والدهم على بن بن، وشرعوا في تأسيس العالم. بمرور الوقت، أصبح أتوم قلقًا لأن أطفاله قد ذهبوا لفترة طويلة وأزال عينه وأرسلها بحثًا عنهم. بينما اختفت عينه، جلس أتوم وحيدًا على التل وسط الفوضى والخلود. عاد شو وتفنوت بعيون أتوم (التي ارتبطت لاحقًا بعيون أوجات، عين رع، أو العين التي ترى كل شئ) وأذرف والدهما، ممتنًا لعودتهما الآمنة، دموع الفرح. هذه الدموع، التي سقطت على أرض بن بن الخصبة المظلمة، ولدت الرجال والنساء.

ومع ذلك، لم يكن لهذه المخلوقات المبكرة مكان تعيش فيه، ولذا تزاوج شو وتيفنوت وأنجبتا جب (الأرض) ونوت (السماء). على الرغم من أن جيب ونوت أخ وأخت، فقد وقعوا في حب عميق وكانا لا ينفصلان. وجد أتوم أن سلوكهم غير مقبول ودفع نوت بعيدًا عن جب، عالياً في السماء. كان العاشقان قادرين على رؤية بعضهما البعض إلى الأبد ولكنهما لم يعودا قادرين على التلامس. كانت نوت حاملًا بالفعل من قبل جب، ومع ذلك، فقد أنجبت في النهاية أوزوريس وإيزيس وست ونفتيس وحورس – الآلهة المصرية الخمسة التي غالبًا ما تم التعرف عليها على أنها أقدم أو على الأقل أكثر التمثيلات المألوفة لكبار الشخصيات الإلهية. أظهر أوزوريس نفسه إلهًا مدروسًا وحكيمًا وتم إعطائه حكم العالم من قبل أتوم الذي ذهب بعد ذلك للاهتمام بشؤونه الخاصة.

نشأة الكون في الحضارة البابلية

القصة، وهي واحدة من أقدم القصص في العالم، إن لم تكن أقدمها، تتعلق بميلاد الآلهة وخلق الكون والبشر. في البداية، كان هناك ماء غير متمايز يحوم في فوضى. ومن هذه الدوامة، قسمت المياه إلى مياه حلوة وعذبة، تُعرف باسم الإله «أبسو-Apsu»، ومياه مالحة ومرة تعرف باسم الإلهة «تيامات-Tiamat». وبمجرد التفريق بين هذين الكيانين، ولد من اتحاد هذين الكيانين الآلهة الشابة. ومع ذلك، كانت هذه الآلهة الشابة صاخبة للغاية، مما أدى إلى إزعاج نوم أبسو في الليل وصرف انتباهه عن عمله في النهار. بناءً على نصيحة وزيره، مومو، قرر أبسو قتل الآلهة الشابة. عندما سمعت تيامات عن خطتهم، حذرت ابنها الأكبر، «إنكي-Enki» (أحيانًا إيا) الذي قام بتنويم أبسو وقتله. من بقايا أبسو، أنشأ إنكي منزله. تيامات، التي كانت ذات يوم مؤيدة للآلهة الشابة، تشعر الآن بالغضب لأنهم قتلوا رفيقها. وقامت بالتشاور مع الإله «كوينجو-Quingu» الذي نصحها بشن حرب على الآلهة الشابة. فكافأت تيامات كوينجو بأقراص القدر، التي تضفي الشرعية على حكم الإله وتتحكم في الأقدار، وقام بارتدائها بفخر كدرع على صدره. مع كوينجو كبطل لها، تستدعي تيامات قوى الفوضى وتخلق أحد عشر وحشًا رهيبًا لتدمير أطفالها.

يقاتل إيا وإنكي والآلهة الأصغر سنا ضد تيامات بلا جدوى حتى يظهر من بينهم البطل مردوخ الذي أقسم أنه سيهزم تيامات. مردوخ يهزم كوينجو ويقتل تيامات بإطلاق النار عليها بسهم يقسمها إلى قسمين وتجري من عينيها مياه نهري دجلة والفرات. من جثة تيامات، خلق مردوخ السماوات والأرض، وقام بتعيين الآلهة في واجبات مختلفة وربط كائنات تيامات الأحد عشر بقدميه كجوائز (إلى حد كبير من التملق من الآلهة الأخرى) قبل وضع صورهم في منزله الجديد. كما أنه أخذ ألواح القدر من كوينجو، مما يضفي الشرعية على حكمه. بعد انتهاء الآلهة من مدحه لانتصاره العظيم وفن خلقه، يتشاور مردوخ مع الإله إيا (إله الحكمة) ويقرر خلق البشر من بقايا الآلهة التي حرضت تيامات على الحرب. تم اتهام كوينجو بأنه مذنب وقتل، ومن دمه، خُلِق «لولو-Lullu»، الرجل الأول، ليكون مساعدًا للآلهة في مهمتهم الأبدية المتمثلة في الحفاظ على النظام والحفاظ على الفوضى.

نشأة الكون في الأساطير الصينية الداوية

«بان كو-Pangu» هو شخصية بارزة في أساطير الخلق الصينية. حتى يومنا هذا، يغني شعب تشوانغ أغنية تقليدية عن بان كو الذي يخلق السماء والأرض. لقد تمت مناقشة أصل أسطورة بان كو كثيرًا. يعتقد الكثيرون أنها نشأت مع «شو شينغ-Xu Zheng»، وهو مؤلف صيني من القرن الثالث الميلادي، حيث كان أول كاتب معروف بتسجيله؛ يقترح البعض أنها نشأت في أساطير شعب مياو أو ياو في جنوب الصين، بينما يرى البعض الآخر أنها موازية لأساطير الخلق الهندوسية القديمة.

في أساطير الخلق الداوية الصينية. يُقال إن الرجل الأول بان كو قد خرج من الفوضى (بيضة) بقرنين وأنياب وجسم مشعر. تنسب إليه بعض الحسابات فصل السماء عن الأرض، ووضع الشمس والقمر والنجوم والكواكب في مكانها، وتقسيم البحار الأربعة. لقد شكل الأرض من خلال حفر الوديان وتكديس الجبال. تم تحقيق كل هذا من معرفة بان كو «بالين واليانج-yinyang»، المبدأ الذي لا مفر منه للازدواجية في كل الأشياء. تؤكد أسطورة أخرى أن الكون مشتق من جثة بان جو العملاقة. أصبحت عيناه الشمس والقمر، وشُكلت الأنهار بدمه، ونما شعره إلى الأشجار والنباتات، وتحول عرقه إلى الأنهار، وصار جسده ترابًا. علاوة على ذلك، تطور الجنس البشري من الطفيليات التي أصابت جسم بان جو. تعود أساطير الخلق هذه من القرن الثالث إلى القرن السادس. تصور التمثيلات الفنية بان كو في كثير من الأحيان على أنه قزم يرتدي أوراق الشجر.

نشأة الكون في الحضارة الإسكندنافية

تتلخص النظرة الإسكندنافية للعالم كما يمكننا استخلاص أفضل من المصادر المختلفة إلى الفكرة العامة التالية. كانت هناك أربع مراحل: العملية التي نشأ فيها العالم وكل ما فيه، مرحلة ديناميكية يبدأ فيها الوقت، تدمير العالم في راجناروك، وظهور عالم جديد من البحر.

وفقًا «لسنوري-snorri» (مؤرخ أيسلندي)، قبل وجود أي شيء آخر، كانت هناك العوالم المتعارضة مثل «نيفلهايم-Niflheim» الجليدية و«موسبلهايم-Muspelheim» النارية. على الرغم من أن الفراغ المسمى «بغينونغاغاب-Ginnungagap» يفصل بينهما بأمان، إلا أن البرودة والحرارة امتدتا لتلتقي بعد كل شيء، مما أدى إلى إذابة حريق موسبلهايم للجليد، والذي ظهر منه اثنتان من الأشكال الرطبة: العملاق يمير والبقرة «أويثمبلا-Audhumla». كان يمير مخنث ويمكنه التكاثر لاجنسيًا. عندما نام، قفز المزيد من العمالقة من رجليه ومن عرق إبطه. لقد غذت البقرة يمير بحليبها، وتغذت بدورها من الملح في الجليد. كشفت لعقات البقرة ببطء «بوري-Buri»، الأول من مجتمع «الأيسر-Aesir» للآلهة. كان لبوري ابن اسمه بور، تزوج بستلا، ابنة العملاق بولثورن. كان الأطفال نصف الآلهة ونصف العمالقة من بور وبيستلا هم أودين، الذي أصبح رئيس آلهة الأيسر، وشقيقيه، فيلي وفي (Vili and Ve).

قتل أودين وإخوته يمير وشرعوا في بناء العالم من جثته. لقد صنعوا المحيطات من دمه، والتربة من جلده وعضلاته، ونباتات من شعره، وسحب من دماغه، وسماء من جمجمته. وكان هناك أربعة أقزام يمثلون الاتجاهات الأربعة الأساسية، حملوا جمجمة يمير عالياً فوق الأرض. شكلت الآلهة في النهاية الرجل والمرأة الأوائل، آسك وإمبلا، من جذعين من الأشجار، وبنوا سورًا حول موطنهم المسمى «بمدجارد-Midgard»، لحمايتهم من العمالقة.

الخلاصة

إن أساطير نشأة الكون وخلق الإنسان تختلف من حضارة لأخرى ولها أنواع مختلفة سوف نناقشها في الجزء الثاني من أساطير نشأة الكون وخلق الإنسان

المصادر:

ancient-origins

ancient.eu

ancient.eu

britannica

ancient-origins

ancient.eu

norse mythology

britannica

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

إن الخوض في بدايات الفلسفة يكون مقلقًا لعدم وجود مصادرها بين أيدينا، إلا أن هذه المجازفة لا تخلو من المتعة. فحين نقطع مسافة زمنية من ألفي وخمسمائة عام نكون قد وصلنا إلى المعركة الأشرس للفكر ضد الأسطورة. شهدت بلاد الإغريق الكثير من الحروب، الأهلية تارة ومع الفرس تارة أخرى، إلا أن الحرب الأهم والأكثر إثارة كانت تلك التي أدت إلى بزوغ شمس التفلسف في ظلمة الإيمان. كان الفيلسوف أناكسيماندر قد رفع سقف الحرب إلى مستوى الأبيرون، حيث الموجود ينزع نفسه من العدم. في المقال هذا سنفتح أفق السؤال الفلسفي على دوامة اللانهائي لولادة المزيد من المعرفة بالفيلسوف الملطي الثاني.

الطريق إلى أناكسيماندر

عاش أناكسيماندر ما بين عامي (546_610) ق.م. تقريبًا، وكان معاصرًا لطاليس ويصغره سنًا. لا توجد سوى قطعة واحدة باقية ومنسوبة إلى أناكسيماندر فضلًا عن تعليقات من الآخرين مثل أرسطو الذي عاش من بعده، بقرنين من الزمن تقريبًا.(1)

هو أول فيلسوف قد كتب أطروحة فلسفية وكانت تسمى (حول الطبيعة). فُقد هذا الكتاب مع أنه كان متاحًا في زمن أرسطو و(ثيفراستوس-Theophrastus). يُقال قد عثر على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الإسكندرية، وتفيد بعض الأدلة بأنه كان متوفرًا في مكتبة تاورمينيا في صقلية.(2)

حاله حال طاليس، كان قد انشغل بالبحث العلمي أيضًا، وينسبون إليه الفضل في تصميم خريطة للعالم وكان يرى بأن الأرض أسطوانية الشكل.

أناكسيماندر ضد طاليس

كان يعتقد مواطنه طاليس بأن الماء أصل العالم وما الظواهر المختلفة إلا صور لحالات الماء. اعترض أناكسماندر وكانت حجته في ذلك أن العنصر الأولي لا يمكن أن يكون الماء ولا عنصرًا آخر غير الماء؛ لأنه لو كان بين هذه العناصر عنصر أولي لاكتسح العناصر الأخرى. يروى عنه أرسطو أنه قال: إن هذه العناصر المعروفة لنا  يعارض بعضها بعضًا؛ فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، وعلى ذلك فلو كان أحد هذه العناصر لانهائيًا لزالت العناصر الباقية اليوم، وإذن فلا بد أن يكون العنصر الأولي محايدًا في هذا الصراع الكوني.(3)

الأبيرون

إن الكائن الحقيقي [المبدأ الأول] لا يمكن أن يملك أية صفة محددة، وإلا فأنه يكون قد ولد ويصبح بذلك محكومًا بالزوال والموت ككل الأشياء الأخرى. ولكي لا تنقطع الصيرورة، فلا بد للكائن الأصلي إلا أن يكون غير محدد. فخلود الكائن الأصلي يقوم على خلوه من الصفات المحددة التي تقود إلى الموت.(4)

المبدأ الذي يفترضه الفيلسوف أناكسماندر هو الأبيرون، وهو يعني حرفيًا، اللانهائي على المستوى الزماني، اللامحدود من حيث المكان، اللامتعين من حيث الماهية. إن الأبيرون الذي يمتلك صفات إلهية، يحرك دوامة الوجود الدائرية بشكل أبدي، والموجودات تظهر بانفصالها وخروجها من تلك الدوامة.

إن عملية الانفصال هذه أبدية بالضرورة، وذلك لأن دوامة الأبيرون لا نهاية لها، وبالتالي فالموجودات والعوالم لا تكف عن الولادة والفناء في الأبيرون من جديد. (2). ومن الجدير بالذكر هو أن هذه الفكرة تؤدي إلى الإمكانات غير المحددة للأبيرون في خلق الأكوان والعوالم.

العدالة الكونية:

ما هو مربك في نظرية الخلق عند أناكسيماندر، هو أن الوجود/الحياة يمثل الخروج من قرار الأبيرون ومشيئته، فالأبيرون دون أن يقول (كن) تكون الكائنات، وبالتالي فالوجود خطيئة، والكائن/الموجود محكوم عليه بالعودة إلى الأبيرون والفناء فيه. إن كل الصيرورة طريقة مذنبة للتحرر من الوجود الأبدي، وهي ظلم يجب التكفير عنه بالموت.(5).

يؤمن الفيلسوف أناكسيماندر بعدالة الأبيرون المطلقة وكذلك بالصراع المتأصل في الوجود. فكل عنصر من العناصر لا يكف عن السعي في سبيل اتساع رقعة مُلكه، غير أن ثمة نوعًا من الضرورة أو القانون الطبيعي لا ينفك يرد التوازن إلى حيث كان. العدالة هنا معناها عدم مجاوزة الحدود المفروضة منذ الأزل.

أناكسيماندر ونظرية التطور:

قبل داروين ولامارك، كان الحديث عن تطور الكائنات سيبدو جنونًا، إلا أن أناكسيماندر كان قد فجر فكرة التطور في الوسط الإغريقي قبل ألفين وخمسمائة عام في سياق تناوله لفكرة الخلق والأبيرون. ما لدينا مما قاله في التطور قليل جدًا، لكن مع ذلك تستحق الفكرة التأمل فيها.

يقول بأن الأرض في البداية كانت عبارة عن سائل، بدأت الأرض بالتجمد مع الوقت، وبفعل الحرارة تبخر البعض من سائلها مشكلًا طبقات الهواء. نتيجة تفاعل الضدين، الحرارة والبرودة، تكونت أولى الكائنات الحية. كانت الكائنات بسيطة في البداية ومن ثم تطورت وتأقلمت مع البيئة. فسلف الإنسان كان سمكة وبعد انحسار الماء تأقلمت بعض الأسماك مع البيئة الجديدة. (6) إذ أن التطور بدأ من البحر بإتجاه اليابسة.

اقرأ أيضًا الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

أناكسيماندر علامة فلسفية بارزة

رغم قلة معرفتنا بفلسفة أناكسيماندر إلا أنه يعد علامة فلسفية بارزة، ففكرة الأبيرون ما زالت تحتفظ ببريقها ولو بشكل شاعري. يعلق نيتشه على أسلوبه قائلًا: فكره وأسلوبه يشكلان حدودًا قصوى على طريق الحكمة الفائقة. ما يميز طرح أناكسيماندر حول الخلق والكون يمكن تأويله في سياق أخلاقي أيضًا، وكان نيتشه أول من توقف عند ذلك بإعجاب.

المصادر:

  1. غنار سكيربك ونلر غيلجي، تاريخ الفكر اليوناني، ترجمة د.حيدر حاج اسماعيل، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص47.
  2. https://iep.utm.edu/anaximan/
  3. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية،الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص65.
  4. فردريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، ط2، المؤسسة الجامعية، 1983، ص51.
  5. محمد حسن النجم، السفسطائية في الفكر اليوناني، ط1، بيت الحكمة العراقي 2008، ص35.
  6. https://www.famousscientists.org/anaximander/

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

إن البحث في فلسفة فيلسوف ما يمثل مشقات كبيرة، منها صعوبة إيجاد رأس الخيط في فلسفته والقبض على قلبها النابض. لكن في حالة فيلسوف لا نكاد نعرف عنه شيئا تتحول الصعوبة إلى نوع من الاستحالة والخيوط إلى طين وماء. كل البدايات تركت خلفها علامات دالة وكأنها كانت على وعي بما ستفعل بها الصيرورة، ومن خلال تلك العلامات تستمر في ترديد قولها لتجذب إلى نفسها المحاولات البحثية. غير أن بداية الفلسفة لم تترك لنا سوى ما يشبه أنين يصعب الكشف عنه وسط صراخ التاريخ وصخب جريان الزمن. في هذا المقال سنسعى إلى عرض بداية القول الفلسفي والفيلسوف طاليس.

جدل البداية

تثير موضوعة بداية الفلسفة في الجدالات الفكرية والتاريخية خصامات ثقافية وحتى سياسية في تحديد هوية المولود الفلسفي الأول. معظم فلاسفة الغرب ينسبون الفلسفة إلى الإغريق حتى وهم يتحدثون عن تأثير الثقافات الشرقية في الحضارة الإغريقية وفكرها. من أبرز الأصوات الداعمة لهذا الاتجاه، أرسطوطاليس، وهيغل، ونيتشه، وهايدغر، وراسل، ودولوز. في حين يشك بعض المؤرخين والمفكرين في هذا التحديد ويزعمون أن الفلسفة قد شقت خطاها من الشرق.

يذكر تلميذ فيثاغورس “يمليخيا” إن معلمه قد زار طاليس، وبعد أن وجده لا يشبه الشباب الآخرين، حثه على الإبحار إلى مصر والاختلاط، بالدرجة الأولى، في ممفيس وديوسبول، مع الكهنة حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيمًا(1). وتؤكد جميع المصادر أن طاليس نفسه كان قد سافر إلى مصر وبابل وفيهما تعلم الحكمة.

على جانب زيارات الفلاسفة الأوائل إلى الشرق، يتحجج البعض بأن الفلسفة والفكر الشرقي قد سبقا الفكر الإغريقي بقرون، فالألواح التي وصلت إلينا من بلاد الرافدين ومصر إلى جانب الكتابات المقدسة كآفستا والعهد القديم تحتوي على حكمة ومعرفة واسعة جدا في الأخلاق وعلم الطبيعة ومبحث المعرفة. غير أن فلاسفة الغرب يعتبرون الفكر الشرقي مجرد درب من دروب الإيمان، وحجتهم حول الأصل الغربي للفلسفة هي أن الفلسفة عكس ذلك تماما. يقول نيتشه: “يبرز طاليس كمعلم مبدع بدأ بسبر غور الطبيعة دون الاستعانة بالروايات الخيالية…فهذا هو بالتحديد الخط الذي يتميز به الفكر الفلسفي”.(2)

محاولة البحث عن طاليس

لا نعرف بعد إلا القليل عن حياة طاليس. المقتطفات الواردة عنه في كتابات أرسطو وهيرودوت وغيرهما من الفلاسفة والمؤرخين لا يأخذها أغلبية الباحثين على محمل الجد. كأية شخصية قديمة، هناك روايات أسطورية حول طاليس ولا تفتح لنا أي أفق في حياة الفيلسوف الأول. حسب المؤرخ ديوجين لايرتيوس (Diogenes Laërtius) ولد طاليس في دورة الألعاب الأولمبية التاسعة والثلاثون، حوالي 624 ق.م وتوفي في الدورة الثامنة والخمسين، حوالي 545 ق.م (3).

كانت انشغالات طاليس واسعة، فكان باحثًا في جميع مجالات المعرفة والفلسفة والتاريخ والعلوم والرياضيات والسياسة والجغرافيا والفلك. قدّم نظرياته في شرح العديد من الظواهر الطبيعية والجوهر الأساسي وشكل الأرض (4)

إن غياب الأدلة المباشرة لا يعني إنه لم يكن فيلسوفًا وعالمًا متميزًا. فمن جهة، نستنتج من اهتماماته ورحلاته إلى الشرق بأنه كان كثير المعرفة وواسع الإطلاع وشديد الشغف بهما. من جهة أخرى، فكون طاليس مؤسس المدرسة الطبيعية يعني أنه كان ذو تأثير كبير على التفكير الإغريقي.

التحرر من التصور الأسطوري

بداية القول الفلسفي هي  تحرر العقل من الأسطورة، ومن الأسئلة التي تلقي بظلالها على النقاش الفلسفي هو ماهية مصادر طاليس المعرفية. زار طاليس كل من بابل ومصر، ويقال بأن فكرته الرئيسة التي تقول بأن الماء هو المبدأ الأول كانت فكرة معروفة لدى البابليين (5). إلا أن ما يميز طاليس كما يؤكد أرسطوطاليس ويضعه في مرتبة الفيلسوف الأول هو أنه قد انتقل من التصور الأسطوري إلى التفكير المنطقي. في بلاد الأغريق شأنها شأن باقي امصار العالم، كان يُعتقد بأن الكون مخلوق وله خالق ولم يفكر الإغريق في طبيعة الكون إلا في سياق إيمانهم بالآلهة. أما طاليس فقدم تفسيرات قائمة على الملاحظة حول أصل الكون والمبدأ الأول (4).

فلسفة طاليس

المبدأ الأول عند طاليس

 كل ما نعرفه عن فلسفة طاليس هو أنه قال بأن المبدأ الأول هو الماء، أي أن الماء هو الأصل وأن العالم بتنوعه ما هو إلا حالات الماء. يقول نيتشه عن ذلك: “إن ما دفعه إلى ذلك إنما هو مسلمة ميتافيزيقية…إنها مسلمة أن (الكل هو واحد)”.

هذا المبدأ يؤكد بأنه لا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء وذاك، فالماء يصعد في الفضاء بخارًا ومن ثم يعود إلى الأرض مطرًا ويصيبه برد الشتاء فيصير ثلجًا. فكان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود (6).

حسب راسل فأن قول طاليس بأن كل شيء مصنوع من الماء يمكن اعتباره فرضًا علميًا (7). بينما نيتشه له قول آخر، فيقول عن هذا المبدأ:

أولًا لأن هذه الجملة (الماء أصل كل الأشياء) تتناول بطريقة ما أصل الأشياء. ثانيًا لأنها منعزلة عن السرد الخيالي. ثالثًا لأنها تتضمن فكرة أن الكل واحد. حسب السبب الأول، ما زال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينيين والخرافيين، لكنه يخرج عن هذه الطائفة للسبب الثاني ويظهر لنا كمفكر في الطبيعة، أما السبب الثالث يجعل منه أول فيلسوف يوناني.(8)

الأخلاق عند طاليس

إن مبحث الأخلاق لم يلق اهتمامًا كبيرًا قبل سقراط رغم أن الأساطير اليونانية وقصائد هومر وهزيود ركزت على الأخلاق كثيرًا. لكن، ثمة إشارة واضحة في كتاب يمليخيا (فيثاغورس – حياته وفلسفته) على نظرية طاليس في الأخلاق. فيقول يمليخيا: ” تلقى (فيثاغورس) من طاليس عددًا من النصائح المفيدة، لا سيما تقدير الوقت، والامتناع عن النبيذ واللحوم وتلافي التخمة وضرورة الاعتدال في تناول الأطعمة اللذيذة”(9).

هذه النصائح والتي صارت بعد ذلك بمثابة نهج أخلاقي في فلسفة فيثاغورس، تقدم لنا صورة عن أخلاقيات طاليس. فيظهر كأنه أشبه بحكيم ومتصوف شرقي منه إلى فيلسوف يوناني.

اقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

تحمل الفلسفة هوية غربية، نظرًا لما تملك من خصائص لم تتوفر في الشرق. لا يعني ذلك بأن الشرق لم يكن يفكر، إذ قدمت الحضارات الشرقية إسهامات كبيرة في شتى المجالات المعرفية والعلمية، إلا أن التفلسف لا يعني التفكير كما يقول دولوز. يبدأ القول الفلسفي مع طاليس، بسيطًا وغامضًا في آنٍ، طافيًا على السطح وعميقًا بنفس الرهبة. من تلك البساطة والعفوية بدأت الفلسفة تتوغل في مفاصل حضارتنا البشرية وتكشف الأسرار تارة وتلقي بالمعروف في المجاهل تارة اخرى.

المصادر

  1. يمليخا، فيثاغورس حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، دار أمل الجديدة، ط1، 2017، ص17-18.
  2. نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية، ط2، 1983، ص49.
  3. brittannica
  4. internet Encyclopedia of Philosophy
  5. ancient
  6. زكي نجيب، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017، ص22-23.
  7. برنارد راسل، تاريخ الفلسفة الغربية – الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص63.
  8. نيتشه، مصدر سابق، ص46.
  9. يمليخا، مصدر سابق، ص19

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

حين نلقي نظرة في تراثنا المعرفي، نستسلم لغبطة كبيرة لما بين أيدينا من كتب استطاعت الصمود لأكثر من ألفي عام. لا يزال بإمكاننا تسجيل حضورنا في بلاد أوروك لنقرأ كلكامش، ونسير مع سقراط في أثينا وهو يجادل الفلاسفة والسفسطائيين. أثرت تلك الكتب بشكل رهيب في واقعنا الثقافي، غير أن النظرة لو طالت سيأخذنا الحزن بعيدًا. ملايين الكتب كان مصيرها الفناء بسبب حروب سياسية ودينية وعوامل بيئية، فالكثير من الأسماء اختفت من ذاكرة التاريخ. كان أبيقور قد ألف 300 كتابًا، لم يصلنا منها سوى بعض الشذرات والرسائل. المصدر الأكثر أهمية في فلسفة أبيقور بين أيدينا الآن هو قصيدة لوكريتوس (حول الطبيعة). في هذا المقال سنسلط الضوء على ثلاثة مباحث من فلسفة أبيقور.

لمحة عن أبيقور ومدرسته

ولد أبيقور في (ساموس – Samos) عام 342 ق.م من عائلة فقيرة جدًا. وفي ساموس كان قد استمع إلى فيلسوف أفلاطوني يدعى (بامفيلوس – Pamphilus)  وبعد ذلك إلى (نوزيفان – Nousiphanes) من أتباع ديمقريطس(ص 535 تاريخ). إلا أن أبيقور يتباهى بأنه طفق يتفلسف وهو في الرابعة عشرة من العمر(1).

أسس أبيقور مدرسته عام 306 ق.م (311 حسب راسل) تزامنًا مع تأسيس المدرسة الرواقية. بينما سارت الرواقية تتطور في مذهبها الفلسفي في طريق طويل من مراحل التطور(2)، بقت المدرسة الأبيقورية قائمة نحوًا ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله ولم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة ولا غيروا من آرائه (3).

لم يكن أبيقور يمثل مؤسسًا لمدرسة حاله حال زينون وحسب. ففي حين نجد في الرواقية من تجاوز بداياتها على نحو ديمقراطي وأضاف عليها، كان أبيقور يمثل شخصية مقدسة بالنسبة لأتباعه. بعد مرور مئتي سنة من وفاة المعلم وصفه لوكريتوس بالإله في أبيات شعرية:

(كان إلهًا، أجل إلهًا، فهو أول من اكتشف ذلك الاسلوب في الحياة الذي يقال له اليوم الحكمة، وهو من نجانا بفنه من عواصف عاصفة ومن ليل دامس وجعل حياتنا تدور في هدوء وضياء عظيمين.(4).

وكما كان بسيطًا في فلسفته، كان بسيطًا جدًا وهو يواجه الموت، ففي اليوم الأخير له في الحياة كتب لأحد اتباعه: “أكتب إليك في نهاية يوم سعيد من أيام حياتي، فأوصابي لا تفك طوقها عني وما عاد في مقدورها أن تزيد عما هي عليه؛ كل ذلك أقابله بفرح الذي أسكنته في نفسي ذكرى مناقشتنا الماضية.(5)

إقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

أصل المجتمع:

إن النظرية التي يفسر فيها أبيقور أصل المجتمع واللغة والدين والقانون والملكية قريبة جدًا من الطرح الماركسي حول هذه المسائل.

في البداية، كان يعيش البشر في عزلة ويتكاثرون عشوائيًا، وما كان بإمكانهم أن يتواصلوا لفظيًا ولا كانت لهم مؤسسات إجتماعية. ويعزو أبيقور نجاة الإنسان من ويلات الطبيعية إلى القوة الجسدية الجبارة التي امتلكها عصرئذ، حيث كان في صراعات مستمرة. بفضل اكتشاف النار وظهور الأسرة والمشاعر الحارة تجاه الأزواج والذرية خفت حدة الصراعات تلك. في المرحلة هذه كان البشر في وضع يسمح لهم بالإتحاد ليكونوا في مأمن من أخطار الطبيعة كالوحوش البرية. فقاموا بتطوير أنواع مختلفة من المهارات التقنية، مثل الزراعة، بناء المنازل وكذلك اللغة.(6)

أن الأسماء في البداية نشأت بشكل طبيعي، بحيث كلما تعرض الإنسان إلى مثير من المثيرات، اطلق صوتًا معبرًا له. ونظرًا لإختلاف خصائص الإنسان الفيزيائية من بيئة لأخرى اختلف الاصوات التي انتجها الإنسان إستجابة للمثيرات، وذلك يعلل وجود لغات مختلفة. والنقاشات النظرية أدخلت مفردات جديدة في اللغة حتى وصلت لحالة متقدمة وهذا ما ساعد الناس في تكوين صداقات وتحالفات جديدة مما حقق المزيد من الأمن الإجتماعي.(6)

لم تكن هناك منافسة على السلع بعد، وبالتالي لم تكن هناك هناك صراعات وحروب. ومن جهة أخرى كانت المفردات اللغوية ما زالت تتوافق مع موضوعاتها البدائية ولم تكن بعد مصدرًا للإرتباك العقلي. ولكن بفضل التراكم التدريجي للثروة ، جاء الصراع على السلع ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ، وظهر ملوك أو طغاة حكموا على الآخرين ليس بحكم قوتهم الجسدية ولكن بفضل الذهب. تم الإطاحة بهؤلاء المستبدين بدورهم، وبعد فترة من الفوضى العنيفة، وجد الناس أخيرًا حكمة العيش في ظل حكم القانون.(6)

الأخلاق:

حالها حال الرواقية، تختصر الأبيقورية الفلسفة في الأخلاق، وتعتبر الأخلاق كممارسة حياتية سليمة للوصول إلى حياة سعيدة خالية من الألم. يترتب على ذلك ابتعاد المدرسة هذه من كافة أشكال التعقيد وإبعاد الآلهة والتصورات الميتافيزيقية والمفاهيم المجردة عن الحالة الإنسانية.

تدور الأخلاق الأبيقورية حول فكرتين محوريتين: اللذة و(الطمأنينة-Ataraxia)، بشكل، تكون الطمأنينة تابعة للذة التي هي غاية. غائية اللذة وضعت الفلسفة الأبيقورية في مرمى الانتقادات ابتداءًا من الرواقية إلى يومنا هذا، فاللذة كانت ولا زالت قرينة الشر. غير أن أبيقور كان قد برر موقفه: “عندما نقول أن اللذة غاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والمجانين”(7).

يجعل أبيقور من الرغبات مراتب؛ فهناك الطبيعية والضرورية كالرغبة في الاكل، وهناك طبيعية وغير ضرورية كالرغبة في نوع معين من الطعام، وهناك رغبات لا هي طبيعية ولا ضرورية كالرغبة في تاج أو تمثال. والحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإشباع النوع الأول من الرغبات. (7)

وحول علاقة اللذة بالسعادة والخير يقول أبيقور: “إننا نؤكد أن اللذة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرفنا على ذلك على أنه الخير الأول، الفطري فينا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه”(8).

وكون اللذة غاية لذاتها، لا يعني أن الفضائل الأخرى ليس لها أي اعتبار بل أن اللذة متجذرة فيها. فيقول عن ذلك: “ليس من الممكن أن نعيش في سعادة دون أن نعيش على نحو شريف، وعادل وحكيم، كما لا يمكن أن نعيش على نحو شريف وعادل وحكيم دون أن تكون سعيدًا. فالرجل العادل هو أكثر الناس تحررًا من القلق والإنزعاج، أما الرجل الظالم فهو فريسة دائمة لهذا القلق والإنزعاج”(9).

الميتافيزيقيا:

كان أبيقور شديد الحذر من إدخال دور الآلهة في فلسفته وشؤون الناس، لكنه درس ظاهرة الدين ووجود الآلهة دراسة دقيقة. فسر السلوك البشري البدائي وعلاقته بظهور الحالة الدينية وتطورها. فالظواهر الطبيعية كالرعد والبرق تُفسر على أن الآلهة غاضبة على خطايا البشر، في حين أن الناس البدائيين في مراحل ما قبل ظهور المجتمع رغم شعورهم بالرعب إزاء الظواهر الطبيعية وتفسيرهم لها بأنها من صنع الآلهة لم يحسبوها كعقوبة. رغم أن موقف أبيقور من الآلهة غير واضح لكنه أقرب إلى بروتوغوراس، فهو ينفي تدخل الآلهة في شؤون البشر.(6).

بسبب موقفه الحاد من الآخرة والعناية الإلهية وخلود النفس وعقاب الآلهة، كان يتم إتهامه بالإلحاد. أن أبيقور لا ينفي وجود الآلهة، لكن يضعها في عزلة تامة عن البشر وحياتهم. الآلهة كما يتصورها أبيقور، مختلفة عن المفهوم الشائع، فهو يقول بأن الآلهة خالدة في الفضاء البعيد ولا تهتم بأمرنا.(10)

نجد أن هذا الاهتمام الذي يعطيه أبيقور للآلهة آت عبر تفسيره الرئيس للألم ومشكلة اجتناب الخوف. يرى بأن الدين والخوف من الموت هما من أكبر مصادر الخوف، وهما متصلان أحدهما بالآخر. فالدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء. أما أبيقور يجد في تدخل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع وأن الخلود يقضي على كل أمل في النجاة من الألم.(11)  

الخلاصة:

إن المدرسة الأبيقورية استمرت لستة قرون إلا أن روح المذهب بقت كما هي، وظل التلاميذ يدافعون عن نظريات المعلم المبارك. هذه المدرسة يمكن القول بأنها مطبخ  السعادة البشرية، فهي لم تخوض معاركها في تخوم المنطق والرياضيات والمعرفة الخالصة. قالت قولها في الحياة ببساطة مفرطة، إن الحياة السعيدة هي تحقيق اللذة وتثبيط الألم، واللذة تكون في أبسط صورها. هذه اللذة مثلت الخيط الذي يربط كافة المباحث ببعضها، لا سيما المباحثة الثلاثة الرئيسة في فلسفة أبيقور.

المصادر:

  1.  امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص94.
  2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة 2010، ص375.
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص182.
  4. اميل برهييه، مصدر سابق، ص96-97.
  5. نفس المصدر، ص 124.
  6. https://plato.stanford.edu/entries/epicurus/#SociTheo
  7. اميل برهييه، مصدر سابق،ص110.
  8. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص542.
  9. نفس المصدر، ص544.
  10. https://iep.utm.edu/epicur/#SH3e
  11. برتراند راسل، مصدر سابق، ص382.

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

إن الفلسفة تتخطى دومًا التخوم الذي يتم رسمه لها، ولا أمل بمستقبل أي تحديد، فهي تجد فريستها في الغاب المجهول. يساعدنا الشمول الفلسفي في إيجاد أي طريق للوصول وإلى أي أين نقصده. الفلسفة الرواقية هي من الفلسفات التي من شأنها أن تفند الإدعاءات التي ترى في الفلسفة كهوة وقطيعة مع الواقع المعاش. فالفلسفة الرواقية تقدم وصفة لحياة سعيدة إن صح التعبير.

في العصر الهلنستي شديد الخصوصية تبرز الرواقية على نحو مختلف في الفضاء الفلسفي العام المحتكر أفلاطونيًا وأرسطيًا. تجر الرواقية الفلسفة إلى شؤون حياة الفرد العامة حيث هواجس الإنسان الأصيلة المتمثلة بعيش حياة مستقرة لا أكثر. نحاول في هذا المقال أن نتناول المباحث الأهم في الفلسفة الرواقية.

لمحة عن العصر الهلنستي:

بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 320 ق.م. تبدأ مرحلة جديدة في بلاد الإغريق وأسقاع مختلفة من العالم، الحقبة الهلنستية. الطرق التي فتحها الفلاسفة الإغريق تصبح مؤهلة لخطوات أقدام جديدة وغير إغريقية. هذه الحقبة التي أمست فيها الثقافة اليونانية ملكًا مشتركًا بين جميع بلدان البحر الأبيض؛ بعد وفاة الإسكندر وحتى الفتح الروماني انتشرت الثقافة اليونانية رويدًا رويدًا، أمتدادًا من مصر وسوريا ووصولا إلى روما وأسبانيا. كانت أداة هذه الثقافة هي القونية وهي لهجة دارجة من اللغة اليونانية.(1)

في هذه الحقبة، ظلت أثينا مركزًا للفلسفة؛ لكن ليس بين هؤلاء الفلاسفة أثيني واحد، ولا حتى إغريقي واحد. فجميع الرواقيين المعروفيين بهذا الإسم في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا من الأغراب والدخلاء قد قدموا من الأمصار الواقعة عند تخوم الحضارة اليونانية.(2)

معنى الرواقية:

الرواقية (ٍStoicism) مدرسة فلسفية من الحقبة الهلنستية أسسها زينون القبرصي حوالي 300 ق.م(3). لغةً، اشتقت من كلمة الشرفة أو الرواق (stoa poikilê) في أثينا وكانت  مزينة بلوحات جدارية حيث كان اعضاء المدرسة الرواقية يجتمعون ويقدمون محاضراتهم.(4)

الرواقيون:

 زينون هو مؤسس المدرسة وهو من قبرص، وخلف زينون في رئاسة المدرسة كليانتس، وخلفه كرسبوس. وبعد وفاة هذا الأخير خلفاه كل من زينون الطارطوسي وديوجينس السلوقي.(5) أما بالنسبة للرواقية الرومانية فمن أبرز أعلامها سينيكا و شيشرون وبانيتسوس وبوسيدونيوس.(5)

مصادر معرفتنا عن الرواقية:

ثمة مشكلة كبيرة نواجهها بهذا الخصوص، فليس بحوزتنا عمل واحد كامل من اعمال رؤساء المدرسة الرواقية الثلاثة: زينون، كلينتاس وكريسبوس(4). يقال بأن كريسبوس وحده قد ألف 165 كتابًا، ولم يبقى من كل تلك الأعمال سوى شذرات. الأعمال الكاملة التي لدينا الآن من التراث الرواقي تعود إلى الفترة الرومانية، سينيكيا، أبيكتيتوس والإمبراطور ماركوس وهي أعمال أخلاقية صرفة(4).

الفلسفة والحياة:

رغم التأثير الأفلاطوني الواضح على بلاد الإغريق عصرئذ، إلا أن الرواقية قد شقت طريقًا جديدًا في الفلسفة. لا تعتبر الرواقية الفلسفة تسلية ممتعة أو حتى هيئة معرفية خالصة، إنما كطريقة عيش أو ممارسة حياتية مفيدة وذات معنى(4). لذلك، نجد بأنها تعارض كل من الأفلاطونية والأرسطية.

العلاقة التي تؤسسها الرواقية مع المعرفة تنطلق من كون أن المعرفة والسلوك في إرتباط وثيق، فمعرفتنا الصادقة بالعالم تؤدي إلى سلوكيات مناسبة. كما ذهبوا إلى أن مبحثي الفلسفة، المنطق والفيزياء مرتبطان وتركيزهما الأساسي هو الأخلاق(6).

وإذا ما تأملنا حياة الرواقيين نجد بأنهم كانوا أكثر إنشغالًا بالفضيلة لا بالمعرفة المحض كما هي الحال في التراث الفلسفي. وعلى ذلك يقول سينيكا: “الفلسفة ليست أي شيء، إنما هي العلة الطبيعية للحياة، أو المعرفة الحلوة بالحياة، أو هي فن تنظيم الحياة الطبيعية. لن تخطأ إذا قلت أن الفلسفة هي قانون الحياة”(7)

نظرية المعرفة:

إن الرواقية تختار الجبهة المضادة للجبهة الأفلاطونية، فهي تستبعد أن يكون الواقع محض ظلال كما ذهب أفلاطون. فالبنسة للرواقية معرفة الواقع ممكنة وذلك من خلال التجربة المباشرة معه وذلك من خلال الإدراك الحسي.

خلال التاريخ الفلسفي، كانت الحقيقة تمثلًا هاجسًا كبيرًا، فمن الفلاسفة من قال بإستحالة الوصول إليها ومنهم من توكل على العقل. إلا أن الرواقية لا تحسب حسابًا كبيرًا للحقيقة طالما أنها مستقرة في الإدراك الحسي ولا تتطلب صفة لا تتوافر لدى الفرد العادي(8). غير أن هذا لا يعني بأن نظرية المعرفة لدى الرواقيين واضحة جدًا، فهم أولًا يرفضون الإستقلال الذاتي للمواضيع الفلسفية، وثانيًا يرفضون إمكانية تحقيق المعرفة في حقل معين دون غيره، ويزعمون بأن الشخص الخير هو الذي يفهم الطبيعيات وجيد في المنطق أيضًا.

المعرفة تنطلق من الشيء الحسي الذي يترك صورة في النفس، وهذه الصورة قد تكون مموهة أحيانًا. ففي تلك الحالة التمثيل المحيط هو المعيار الذي بإمكانه إدراك الصورة الصادقة وللوصول إلى إدراك أعمق فالعلم هو السبيل. كما تزعم بأن الشيء الحقيقي تبعث فينا شعورًا قويًا وواضحًا وإعتقادًا بأنها حقيقة. ما يجعل من هذه النظرية ألا تبدو متماسكة جدًا هو أنها تارة تبدو حسية وتارة تجريبية وتارة أخرى حدسية.(6)

الأخلاق:

الإعتبارات الرواقية للأخلاق تتسم بطابع مركزية الأخلاق في الفلسفة، لكونها تمثل الجهاز التنظيمي في فن العيش. لو شئنا أن نطرح في المدرسة الرواقية السؤال عن كيفية عيش حياة سعيدة، سيكون جواب زينون (الجريان الحسن للحياة) أو (العيش في وفاق) وسيجيب كريبسيبوس (العيش وفقًا ما تشاء الطبيعة)(4). النظرة الرواقية هذه آتية من الرؤية التي تفيد بأن الكون معقول والسلوك الجيد هو بدوره معقول.

يدعي الرواقيون أن ما هو خير مفيد لمالكه في كل الظروف، ولتفادي التناقض تصنف الرواقية بعض الأشياء بين الجيد والسيء. أما الفضائل الكبرى التي من شأنها أن تتضمن حياة خيرة فهي: الحكمة، العدالة، الشجاعة والإعتدال.(4)

قاعدة العيش وفقًا للطبيعة:

التصور الرواقي هذه يختلف عن التصور الكلبي القديم، ذلك لأن تصور الكلبية للطبيعة كان تصورًا بدائيًا وغريزيًا. في حين أن الرواقية تجد في الكون ضربة من العقل، أي هو معقول لكونه محكومًا بالقانون الإلهي، وهذا القانون لا يمكن أن يكون غير صحيحًا. فالخضوع للنظام الطبيعي هو الخضوع للعقل الإلهي. يمكن القول بأن أخلاق الرواقية تتسم بطابع الحتمية، ذلك طالما أن الإنسان جزء من النظام الطبيعي فلا يمكن له أن يخطأ، فذهب زينون إلى أن أكل لحم الإنسان، وزنا المحارم والمثلية الجنسية ليس خطأ في ذاتها(9). لكن ما هو ليس بخطأ لا يعني أنه من الفضائل، فالأمور الطبيعية هذه لا هي من الخيور ولا الشرور. فالإنسان يختلف عن سائر الموجودات لكونه يمتلك عقلًا، وهذا العقل هو الذي يؤدي إلى الفضيلة، وهذا يعني إن مفهوم الفضيلة إنسانوي بحت.

الخلاصة:

تقدم لنا الفلسفة معونة كبيرة عندما يتعلق الأمر بكيفية طرح أسئلتنا، كما تساعدنا في الحصول وابتكار الأجوبة. غير أن ذلك قد لا يحدث في الفضاء العمومي وبالنسبة لمن هم لا يهتمون بالشأن الفلسفي. بيد أن الفلسفة الرواقية تأخذ منعطفًا جديدًا، فهي تختزل الفلسفة في علاقتها مع الحياة المعاشة بصورة مباشرة. ذلك لا يعني أن الرواقية تهمل المباحث الأخرى أو تتاكسل في الحديث الفلسفي التقليدي، إنما تأتي بطرح تكون الحياة هي النقطة المركزية في كل المباحث.  

إقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

المصادر:

  1. امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص34
  2. نفس المصدر، ص37
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص169.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/stoicism/#Eth
  5. https://www.britannica.com/topic/Stoicism/Ancient-Stoicism
  6. https://iep.utm.edu/stoicism/#H3
  7. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص528
  8. اميل بريهييه، ص54.
  9. فردريك كوبلستون، ص 530

هل الدماغ البشري عبارة عن آلة ذكية؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

هل الدماغ البشري عبارة عن آلة ذكية؟

محرِّكات بحث، آلات قيادة السيارات، تلسكوبات استكشاف الكواكب الجديدة.. وآلات ذكية في كل مكان! أصبحت الآلات الذكية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وهي قادرة على القيام بوظائف صعبة ومعقدة. فهل تستطيع هذه الآلات “التفكير”؟ وإلى أي مدى يشبه الدماغ البشري هذه الآلات الذكية التي صنعناها بأنفسنا؟ هل الدماغ البشري عبارة عن آلة ذكية؟

تورينغ والآلات الذكية

كثيرًا ما تبهرنا الوظائف المعقدة التي تستطيع الآلات الذكية تأديتها. فبإمكان أي آلة أداء وظيفتها بإتباع مجموعة محددة وثابتة من الأوامر. أما الآلة الذكية، فهي إضافًة إلى ذلك، قادرة على تمييز المعلومات والتفاعل معها من خلال ما نسميه بالـ«حساب – Computation». والمقصود بالحساب هو طريقة لحل المسائل تتم باتباع سلسلة تعليمات تسمّى بالـ«خوارزمية – Algorithm». وتتكوّن الخوارزمية من سلسلة خطوات بسيطة وسهلة جدًا، لكن تتابعها وتراكمها قادرٌ على صنع سلوك معقّد وذكي.

يعتبر عالم الرياضيات البريطاني «ألان تورينغ – Alan Turing» من أكثر المؤثرين في عالم الحساب والذكاء الاصطناعي اليوم. فقد تمكن تورينغ من تصميم نموذج بسيط يحاكي عمل الحاسوب، قادر على القيام بأي مهمة وحل أي مسألة مهما زاد تعقيدها، بشرط أن يعطى النمط أو الخوارزمية اللازمة، مع المساحة والذاكرة الكافية. وبذلك، تم اختصار صعوبة إنجاز السلوكيات المعقدة بإيجاد الخوارزمية المناسبة لها. يعرف هذا النموذج بآلة تورينغ. 

ولكن ما هي الخوارزميات القادرة على خلق السلوكيات الذكية؟

لسنين عديدة، ظلت الخوارزميات المعتمَدة هي تلك التي تحتوي على قواعد وعناصر لغوية. ثم أصبحت مؤخرًا تحتوي على شبكات من الخلايا الرقمية المتشابكة، المستوحاة من طريقة عمل الدماغ. تسمى تلك الشبكات بـ«شبكة اتصال – Connectionist network».

من هنا، وُلد تساؤل جديد حول عمل الدماغ: هل للسلوكيات المعقدة والذكية التي يصدرها الدماغ البشري آلية مماثلة لتلك الموجودة في الآلات الذكية؟ هل يمكن اعتبار الدماغ البشري آلة ذكية شديدة التعقيد؟

النظرية الحاسوبية للعقل

لم تقتصر النظرية الحاسوبية على طريقة لبناء آلات ذكية لتسهيل حياتنا. بل هي أيضًا تقترح أن نعيد النظر فيما نعرفه عن عقلنا البشري، فقد يكون العامل الذي يجعل آلة ما ذكية، هو نفسه العامل الذي يخولنا أن نكون أذكياء. وبذلك تكون النظرية الحاسوبية ليست مجرد أداة هندسية، بل هي وسيلة لفهم طريقة عمل الدماغ. من هنا، نشأت «النظرية الحاسوبية للعقل –Computational Theory of mind ».

في عام 1943، اقترح العالمان الأميركيان «وارين ماك كولوتش – Warren McCulloch» و«والتر بيتس- Walter Pitts» أن نموذج آلة تورينغ قد يكون نموذجًا جيدًا لوصف الدماغ.

وفي الستينيات، أصبحت هذه النظرية مركزية في العلوم الناشئة في مجال العلوم المعرفية. وفي العام 1967، طرح الفيلسوف الأميركي «هيلاري بوتنام – Hilary Putnam» النظرية الحاسوبية بشكلها الحديث.

في السبعينات، اعتبر عالم الأعصاب البريطاني «ديفيد مار – David Marr» أن النظرية الحاسوبية للعقل تفسر وتجيب عن ثلاثة أسئلة أساسية متعلّقة بالعقل. الأسئلة هي: “ما هي المهمة التي ينجزها العقل؟ لماذا ينجزها؟ وكيف؟”.

علاقة النظرية الحاسوبية للعقل بمعضلة الوعي

تعتبر النظرية الحاسوبية للعقل أن طريقة عمل شبكات الخلايا العصبية كآلة تورينغ ليست مسؤولة فقط عن القدرات المعرفية للدماغ، بل أيضًا عن تجربة الوعي التي نختبرها كبشر، وقد تكون هذه النظرية عبارة عن إجابة لمشكلة الوعي الصعبة في الفلسفة.

يجدر الإشارة إلى أن النظرية الحاسوبية للعقل تلتبس أحيانًا بالتشبيه المجازي الذي يعتبر أن الدماغ يشبه الحاسوب الحديث. وهذا فعليًا لا يعكس حقيقة النظرية. فالتشبيه بالحاسوب يوحي بأن الدماغ مبرمج تمامًا كالحاسوب. بينما النظرية تعتبر أن الدماغ يستخدم قواعد مشتركة مع الحاسوب، وبالتالي هو بنفسه نظامًا حاسوبيًا.

ختامًا، إن الدماغ البشري هو أكثر العناصر تعقيدًا في الكون. وبالتالي، فمن الطبيعي أن تتعدّد النظريات المُفسّرة لطريقة عمله. وقد تكون النظرية الحاسوبية من أكثر هذه النظريات انتشارًا اليوم، ولكن يبقى السؤال، ما الذي يجعلنا، ككائنات ذكية، مختلفين عن الآلات؟ وهل النظرية الحاسوبية كافية لتفسير كل مكونات الدماغ من أفكار ومشاعر واعية وغير واعية؟

المصادر:

Coursera
Stanford encyclopedia of philosophy

فلسفة الرياضيات | من هو العبقري جورج كانتور؟

فلسفة الرياضيات | من هو العبقري جورج كانتور؟

هل لك أن تتخيل كيف ستكون حياتك إن لم يكن هناك طريقة لتمثيل الأعمار والوزن والوقت والنتائج والحسابات المصرفية وأرقام الهواتف؟ بالطبع مستحيلة. تُستخدم الأرقام الرياضية، لتحديد كل هذه الكميات.

فمازلنا مستمرين في حديثنا في سلسلة «فلسفة الرياضيات»، وموضوعنا اليوم عن العبقري «جورج كانتور-Georg Cantor» الذي له تأثير كبير في مفهوم اللا نهائية.

لكن ما رأيك قبل أن نتعرف على ذلك العبقري المُؤثر في مفهوم اللانهائية. أن نلقي نظرة على تاريخ الأعداد التي من الواجب أن نعرفها، إذ أن للأرقام قصة مع عالمنّا في إحدى نظرياته!

بداية من سومر

حيث الكتابة والزراعة والقوس والمحراث والري والعديد من الابتكارات في مهد الحضارة سومر -منطقة من بلاد ما بين النهرين، العراق حاليًا-. ظهرت الرياضيات السومرية قبل الرياضيات المصرية وكما هو الحال في مصر، ظهرت استجابة للاحتياجات البيروقراطية عندما استقرت حضارتهم وطوروا الزراعة. إذ أنهم احتاجوا إلى وصف أعدادًا كبيرة جدًا أثناء محاولتهم رسم مسار السماء ليلًا أو تطوير تقويمهم القمري…

ربما كانوا أول من قاموا بتعيين رموز لمجموعات من الكائنات لتسهيل وصف الأعداد الكبيرة. انتقلوا من استخدام الرموز المميزة أو الرموز المنفصلة لتمثيل حزم القمح، وأواني الزيت وما إلى ذلك، إلى استخدام رموز لأرقام محددة لأي شيء.

يوجد أدلة عدة على تطوير نظام مُعقد للقياس في سومر منذ حوالي 3000 قبل الميلاد وجداول الضرب والقسمة وجداول المربعات والجذور التربيعية والجذور التكعيبية والتمارين الهندسية. كذلك تغطي الألواح البابلية التي يرجع تاريخها إلى حوالي 1800 إلى 1600 قبل الميلاد مواضيع متنوعة مثل الكسور والجبر وطرق حل المعادلات الخطية والتربيعية وحتى بعض المعادلات التكعيبية…

من هو جورج كانتور؟

ولد «جورج كانتور_Georg Cantor» في مارس 1845م في سانت بطرسبرغ بروسيا. تُوفي في 6 يناير 1918م في ألمانيا. هو عالم رياضيات ألماني أسس نظرية المجموعات وأثبت أن الأرقام الحقيقة أكثر من الأرقام الطبيعة. كذلك جادل بأن الأعداد اللانهائية لها وجود فعلي.

حياته

كان أبويه دنماركيين، إذ كانت والدته كاثوليكية من عائلة موسيقية وكان والده بروتستاننيًا وتاجرًا. عندما مرض والده في عام 1856م، انتقلت العائلة إلى فرانكفورت. ظهرت مواهب كانتور في الرياضيات قبل سن الخامسة عشر. عندما كان يدرس في المدارس الخاصة في دارمشتات ومن ثم انتقل إلى فيسبادن. في النهاية تغلب على اعتراضات والده الذي كان يُود منه أن يصبح مهندسًا.

بعد الالتحاق لفترة قصيرة بجامعة زيورخ، انتقل كانتور عام 1863م إلى جامعة برلين، ليتخصص في الفيزياء والفلسفة والرياضيات. تعلم على يد علماء في الرياضيات كـ “كارل ويرستراس، وإرنست إدوارد كومر، وليوبولد كرونيكر”. بعد فصل دراسي واحد في جامعة غوتنغن عام 1866م، كتب كانتور أطروحة الدكتوراه في عام 1867م حول معادلات الدرجة الثانية غير المحددة. قضي كانتور فترة قصيرة في التدريس في مدرسة للبنات في برلين. ثم انضم إلى هيئة التدريس في جامعة «هاله_Halle»، ثم أستاذًا مساعدًا في عام 1872م، ومحاضرًا وأستاذًا أساسي في عام 1879م.

عشر ورقات

في سلسلة من 10 أوراق بحثية من عام 1869م إلى 1873م، وضح كانتور أولًا نظرية الأعداد. إذ كان مولعًا بالموضوع ودراساته عن غاوس وتأثير كرونيكر. بناء على اقتراح زميل له في «هاله_ Halle» الذي كان مدركًا قدراته. اتجاه كانتور إلى نظرية السلسلة المثلثية التي وسع فيها مفهوم الأعداد الحقيقية. بداية من العمل على المتسلسلة المثلثية وعلى وظيفة المتغير المعقد التي وضعها عالم الرياضيات الألماني «برنارد ريمان_Bernhard Riemann» في عام 1854م.

أظهر كانتور في عام 1870م أنه يمكن تمثيل المتغير بطريقة واحدة فقط من خلال سلسلة مثلثية. بعد ذلك، حدد كانتور الأرقام الغير منطقية حيث المتواليات المتقاربة للأرقام المنطقية (حاصل الأعداد الصحيحة) ثم بدء عمله الرئيس. ألا وهو نظرية المجموعات ومفهوم الأعداد العابرة للحدود في عام 1872م.

نظرية المجموعات

كانت الرسائل المتبادلة بين عالم الرياضيات «ريتشارد ديديكيند-Richard Dedekind» في معهد برونزويك التقني، والذي كان صديقه وزميله طوال حياته بمثابة بداية لأفكار كانتور حول نظرية المجموعات. اتفق كلاهما أن المجموعة هي سواء كانت محدودة أو غير محدودة، فالمجموعة عبارة عن مكونات مثال: الأعداد الصحيحة {0، ± 1، ± 2، …} تشترك في خاصية معينة بينما يحتفظ كل مكون منهم بخواصه.

أثبت كانتور في عام 1873م أن الأعداد المنطقية على الرغم من أنها غير محدودة، يمكن حصرها. أن مجموعة الأعداد الحقيقة المكونة من أرقام غير منطقية كانت لا نهائية وغير معدودة. لكن تلك الورقة التي طرح فيها كانتور هذه النتائج تم رفض نشرها، وبمداخلة من ديديكيند، تم نشرها في عام 1874 باسم «خاصية مميزة لجميع الأعداد الجبرية الحقيقية».

تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي

تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي

تتبع الحجج المُقنعة هيكلًا وتركيبًا معينًا، لذلك من السهل عادةً معرفة ما إذا كنت تستمع إلى حُجة مُقنعة أم لا. والهيكل المنطقي للحُجة بسيط جدًا ولكنه قوي جدًا في ذات الوقت. نجمع الأشياء التي نعرفها، أو نعتقد أنها صحيحة حول قضية ما، ثم نحاول وضع هذه الأشياء معًا بطريقة متماسكة في ترتيب معيّن بحيث تقودنا إلى نتيجة.

الأشياء التي نعتقد أنها قد تكون صحيحة تسمى “مقدمات منطقية – PREMISES”. نُدرجها بالتسلسل المنطقي الذي نعتقد بسهولة فهم الآخرين له. وينتهي هذا التسلسل بـ “الخلاصة-CONCLUSION”، فهو نقطة نهاية منطقنا، على الأقل لتلك الحجة بعينها.

تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي

ندعو التحرك من المقدمة إلى الخلاصة “بالاستنتاج-REFERRING”، فلو عدنا لمثال السمك الطائر كمحاججة سنجد أن “أ” لديه مقدمتين، الأولى هي أن “زعانف السمكة أطول وأخف وتتصل بعضلات أقوى” والثانية هي أن “ذيل تلك السمكة يضرب الماء بقوة تدفعها خارج الماء لأمتار قليلة”، وتلك المقدمتين هما اللتين دفعتانا إلى الاستنتاج بأن السمك الذي يأكله “ب” يمكنه الطيران!

الآن نعلم بأن حُجة “أ” لها مقدمة وخلاصة قادتا عملية الاستنتاج، ولكن كيف نعرف أنها حُجة صحيحة؟

يمكننا تقييم الحجج بطريقتين، هيا بنا لنعرفهما.

1. فحص المقدمات

المقدمة الأولى

لنتأكد من صحة المقدمات التي استخدمها “أ” في مثاله إن كانت حقيقة أم لا، هل “زعانف السمكة أطول وأخف وتتصل بعضلات أقوى”، تدفعنا تلك الحُجة لطرح عدة أسئلة، فهل طول وخفة الزعانف تساهم بالأساس في عملية الطيران؟ وإن كانت كذلك، فهل طول وخفة زعانف تلك الأسماك كافي حقًا للطيران؟ كيف نعرف أن العضلات التي تتصل بتلك الزعانف أقوى؟

المقدمة الثانية

ولننظر للمُقدمة الثانية التي استخدمها “أ”، “ذيل تلك السمكة يضرب الماء بقوة تدفعها خارج الماء لأمتار قليلة”، ستدفعنا تلك المقدمة أيضًا لطرح عدة أسئلة، مثل كيف نقيس قوة ضرب ذيل تلك السمكة بالماء لنقييّمها؟ وهل يعتمد طيران السمكة فوق الماء على قوة ضربة الذيل فقط أم أن اتجاه الضربة يساهم أيضًا بدفعها خارج الماء؟ هل تضرب السمكة الماء في الاتجاه الصحيح كي تتمكن من الطيران؟ وغيرها من الأسئلة.

إن وضع المقدمات تحت المنظار وتقييمها وطرح الأسئلة حول مدى صحتها بهذا الشكل هو ما سيمكننا من تقييم تلك الحُجة.

2. قوة المسار بين المقدمات والخلاصة

هل استخلصنا النتيجة أو الخلاصة بسهولة من المقدمات؟
إن كانت المقدمات صحيحة فربما لدينا بعض الثقة في النتيجة أو الخلاصة، أي أن صحة المقدمات وانسياب النتيجة منطقيًا منها سيؤدي إلى “حُجة صالحة”، لكن إن لم يحدث هذا فـ “الحُجة باطلة”.

إن كانت الحُجة كالآتي مثلا:
– مقدمة أولى: “زعانف السمكة أطول وأخف وتتصل بعضلات أقوى”
– مقدمة ثانية: “ذيل تلك السمكة يضرب الماء بقوة تدفعها خارج الماء لأمتار قليلة”
– النتيجة / الخلاصة: “تلك السمكة طعمها سيء!”

فمن الواضح أن الحُجة باطلة، فلا مسار منطقي يدفعك لهذه النتيجة بداخل المقدمتين المذكورتين!

إن كانت الحجة ذات مقدمات صحيحة، وتنساب عبر مسار منطقي من التسلسل إلى النتيجة أو الخلاصة، فهي “حجة صالحة وتبدو صحيحة”، بالتالي فهي حجة مقبولة.

مصطلحات فلسفية

كما قرأت بالأعلى، فهناك مجموعة مصطلحات مكنتنا من الحُكم على الحُجة التي نسمعها، مثل:
– مقدمات
– نتائج
– تسلسل منطقي
– حجة:
– صالحة / باطلة
– تبدو صحيحة/تبدو خاطئة
– مقبولة/مرفوضة

مثال من نقاش يومي

  • ليلى: “يا إلهي، لقد سقطت القهوة على ملابسي!”
  • آدم: “تفضلي هذا المنديل، لا تقلقي، فسقوط القهوة يجلب الخير”

    كما سمعت، لا علاقة بين المقدمات والنتيجة، ويمكن منح آدم لقب “صاحب الحُجة الحمقاء” فهو يتفاءل بأشياء غير منطقية ولا يجب التعامل مع تفاؤله بجدية بأي حال من الأحوال.

مصادر:

Thoughco
Futurelearn
Coursera
Edx

Exit mobile version