ما هي معضلة التقسيم العادل؟

ما هي معضلة التقسيم العادل؟

تقطيع الكعك هو استعارة لمجموعة واسعة من المشاكل في عالمنا مثل تقسيم قطعة أرض وهناك طريقة معروفة منذ القدم للتقسيم والتي تعتمد على مبدأ (أنا أقطع، وأنت تختار). لكن هذا المبدأ خاضع لتفضيلات شخصية مثل تصرف والدتك حينما تعطي لأخيك قطعة كعك أكبر منك مثلًا، فهل يمكن للرياضيات تحقيق العدل وتقسيم كعكة على نحو متساوٍ دون تدخل التفضيلات الشخصية للفرد؟

ما هي معضلة التقسيم العادل؟

تتمثل معضلة التقسيم العادل في التعاملات البشرية في أشياء عدة حولنا وهي معضلة قديمة منذ الأربعنيات عندما بدأ (هوغو شتاينهاوس- Hugo Steinhaus) في دراسة تلك المعضلة وتحليلها. ولتلك المعضلة روابط بالعديد من الموضوعات مثل الاستقراء الرياضي ونظرية الرسم البياني والخوارزميات والطبولوجيا وغيرها.

أنا أقطع، وأنت تختار

كيف يمكن لهذا المبدأ أن يخرج الطرفين راضيين وسعداء؟ لنفهم ذلك، بداية وجب مراعاة التفضيلات للأشخاص والتي في كل الأحوال مختلفة في الغالب. فقد يفضل الشخص في الكعكة جزء الشكولا والآخر جزء الكريمة والفراولة.

إضافة إلى التفضيلات المختلفة، توجد طرق عدة لتفسير الإنصاف. فتقسيم الكعكة بين اثنين نسبي، إذا كان كلا الشخصين يعتقدا أنهما تلقيا على الأقل نصف الكعكة. فهذا التقسيم مُرضي وخالٍ من الحسد. فطبقًا لهذا المبدأ يمكننا التعميم بأنه إذا كان التقسيم بين عدد n من الأشخاص وكل منهم يعتقد أنه تلقى القطعة الأكبر والأفضل من وجهة نظره؛ فإنه التقسيم مُرضي للجميع. إذًا جميع التقسيمات المُرضيّة متناسبة (متساوية)، لكن هل جميع التقسيمات المتناسبة مرضية؟

هل جميع التقسيمات المتناسبة مرضية؟

لدينا كعكة، نريد تقسيمها على ثلاثة أشخاص A,B,C بحيث كل منهم يقتنع بأنه يمتلك 1/3 الكعكة، ولدينا سكين معلقة، يبدأ A بلفها ببطء. حينما يتيقن أي منهم أن التقسيم متساو أي 1/3الكعكة من وجهة نظره؛ يصرخ بأقطع. والذي يصرخ أولًا يأخذ القطعة جانبًا وإذا صرخ عدة أشخاص فيمكن الاختيار من بينهم عشوائيًا. وتستمر عملية السكين المتحرك مع الشخصين الباقين. ولنحلل صراخ شخصين والثالث صمت، قد تلقى الآن كل منهم القطع التي بنظرهم تساوي 1/3 أما الشخص الثالث فيعتقد أن القطعة المتبقية أقل من 1/3 وهذا مثال على أن التقسيمات قد تكون ليست مرضية لبعض الأشخاص أحيانًا. يمكنك ملاحظة مثل هذا المثال حولك أو من موقف مشابهة قد تعرضت له. لأن ذلك خاضع لإدراك الأشخاص وتفضيلاتهم، فهنا تتمثل المعضلة ما بين التقسيم المرضي وغير العادل والتقسيم العادل غير المرضي.

المثال السابق يقودنا لسؤال: هل هناك تقسيم مرضي بين أكثر من اثنين؟

في عام 1960، ابتكر علماء الرياضيات خوارزمية بإمكانها إخراج الكعك على نحو متساوٍ ومرضٍ لثلاثة أشخاص. وفي عام 1995، كان أفضل ما توصل إليه العلماء لأكثر من ثلاثة أشخاص خوارزمية غير محدودة من قِبل عالم السياسة (ستيفن برامز- Steven Brams) وعالم الرياضيات (آلان تايلور- Alan Taylor) وخاضع لتفضيلات كل شخص؛ لذا فعملية التقسيم غير محدودة بين أكثر من ثلاثة ويمكنها أن تصل لمليون أو مليار مرة. فكانت اللامحدودية عيبًا. على مدار الخمسين عام الماضين، أقنع علماء الرياضيات أنفسهم أنه ربما لا توجد خوارزمية محدودة ومرضية لأكثر من ثلاثة.

أخيرًا، خوارزمية لأكثر من ثلاثة!

تحدى اثنان من علماء الحاسوب -(هاريس عزيز- Haris Aziz) و(سيمون ماكنزي- Simon Mackenzie)- تلك التوقعات بشأن عدم وجود خوارزمية مرضية لأكثر من ثلاثة أشخاص. فنشرا ورقة بحثية على الإنترنت في عام 2016. تصف خوارزمية مرضية لأربعة أشخاص.

الخوارزمية معقدة ووضح الباحثون أن هناك الكثير من العمل ينتظرهم لجعلها أبسط وأسرع. تعتمد الخوارزمية الجديدة على إجراء، ابتكره عالما الرياضيات جون سلفريدج وجون كونواي على نحو مستقل في حوالي عام 1960؛ لتقسيم الكعكة على ثلاثة أشخاص.

خوارزمية سلفريدج-كونواي (Selfridge-Conway)

هناك ثلاثة أشخاص A, B, C، ستطلب الخوارزمية من الشخص C تقطيع الكعكة لثلاث قطع على نحو متساوٍ من وجهة نظره. من ثم يُطلب من الشخصين A, B اختيار قطعتهم المفضلة ويأخذ C الشريحة المتبقية وهكذا انتهى الأمر. إذا كان كل منهم يريد نفس القطعة، سيُطلب من B قطع جزء صغير من تلك الشريحة بحيث يكون ما تبقى مساويًا لشريحته المفضلة الثانية. يوضع الجزء المقتطع جانبًا؛ لجعلهما متساويين. ويختار A قطعته المفضلة ومن ثم B (بشرط إذا لم يختار A الشريحة التي قُطع منها؛ فعلى B اختيارها) ويأخذ C المتبقية. هكذا يخرج كل منهم راضٍ. هنا لا يحسد أحد منهم الأخر حيث اختار A أولًا وB حصل على واحدة من الاثنين وC أخذ المتبقية لأنه هو الذي قسّم؛ فهو راضٍ تمامًا.

ماذا سنفعل في الجزء المتبقي؟

إذا كان A حصل على القطعة التي أُخذ منها جزء، فإن الخوارزمية تستمر كالتالي. يقطع B الجزء المتبقي لثلاثة قطع متساوية من وجهة نظره. ثم يختار A أولًا ثم C ونهاية B. الآن الكل سعيد؛ لأن A هو من اختار أولًا وC حصل على الشريحة المحببة لديه والتي هي أفضل من شريحة B برأيه ولم يكن يهتم لأمره وB في نظره الكل متساوي لأنه هو من قطع. دون الدخول في دوره لانهائية من التقطيع.

يعد C هو المهيمن، استخدم برامز وتايلور مفهوم الهيمنة (دون تسميته ذلك وقتها) في تصميم خوارزمية عام 1995، لكنهما لم يتمكنا من جعلها محدودة.

خوارزمية عزيز وماكينزي

لم يتمكن الباحثان من توسيع الخوارزمية على الفور لأكثر من أربعة أشخاص وكما الحال في خوارزمية سلفريدج-كونواي، حيث كما سبق تُقطع الكعكة من قبل شخص ويُطلب من الآخرين ضبط الحواف واختيار القطع مع وضع احتمالات إذا لم يختر الشخص الذي ضبط القطعة وهكذا. وتنفذ الخوارزمية خطوات أخرى مع زيادة علاقات الهيمنة.

إذ تسمح علاقات الهيمنة بتقليل تعقيد المشكلة. مثلًا إذا سيطر ثلاثة لاعبين على جميع اللاعبين الآخري، فيمكن طرد هؤلاء الثلاثة بعيدًا بشرائحهم. حيث سيكونون سعداء بغض النظر عمن سيحصل على الباقي (الأجزاء من عملية الضبط). الآن هناك عدد أقل من اللاعبين الذين يجب القلق بشأنهم، وبعد عدد محدود من هذه الخطوات، كان الجميع راضين وتم توزيع كل الكعكة.

فليس من المستغرب أن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن يعثر شخص ما على واحدة، وهناك الكثير من العمل لتبسيط الخوارزمية ولا يمكن تعميم ذلك الحل على كل شيء.

لا تقطيع الكعك عادل ولا الرياضيات!

كما وضحنا سابقًا، كيف استطاع اثنان من علماء الحاسوب في عمل خوارزمية لتقطيع الكعك على نحو خال مرضي بين أربعة أشخاص والتي قد ينتج عنها عدد كبير من القطع نظرًا لكثرة احتمالات تفضيلات الأشخاص وبالطبع كلما زادو عن أربعة أشخاص؛ أصبحت العملية معقدة. عد الرضى هو مجرد مفهوم من عدة مفاهيم متنافسة للعدالة مثل الإنصاف. وإذا حققنا مفهوم فليس شرطًا أن يتحقق البقية.

فمبدأ أنا أقطع، وأنت تختار فاشل في تحقيق الإنصاف والكفاءة. وذلك يعني أنه قبل تنفيذ أي خوارزمية عادلة، يجب أن يتفقوا ويقررو مفهوم العدالة بالنسبة إليهم. فالرياضيات لا يمكنها تقرير ذلك. فعند تقسيم الميراث، هل وجب إعطاء لوحة ثمينة للشخص المحب للفن أم بيعها وتقسيم الأموال؟ لا توجد إجابة صحيحة، الأمر متروك للأشخاص.

المصادر

  1. Scientific American
  2. Brilliant
  3. Quanta Magazine

فلسفة العدالة، كيف وصلنا لقوانين اليوم؟

فلسفة العدالة، كيف وصلنا لقوانين اليوم؟ من أين بدأنا؟ لم بعض الحقوق لا يمكن التصويت عليها؟ ما الفلسفة وراء تلك القوانين؟ إنها فلسفة العدالة. نقدم لكم سلسلة مقالات تناقش فلسفة العدالة وكيف وصلنا لقوانين اليوم؟

معضلة القطار

السؤال الأول: تخيل أنك انطلقت بعربة قطار –أنت سائقها- تجاه 5 عمال بسرعة كبيرة لتصدمهم ومكابحك مُعطّلة، أنت متأكد أنك ستقتلهم جميعا بتلك السرعة، ولكنك تلاحظ على يمين السكة وجود طريق فرعي يمكنك الدخول فيه، وفي نهاية ذلك الطريق الفرعي عامل واحد فقط، والمقود يعمل ويمكنك تحويل اتجاه عربة القطار من هذا الطريق لذلك الطريق الفرعي، فتقتل شخص واحد بدلا من 5 أشخاص! كيف ستتصرف؟ (خذ وقتك في التفكير ولا تنتقل إلى السطر التالي قبل اتخاذ قرارك الخاص).

يبرر أصحاب «تغيير الطريق للفرعي» موقفهم بأنه من الأخلاقي أن تقتل شخص واحد فقط بدلا من أن تقتل 5 أشخاص. فهو نفس المبدأ الذي تعتبر به الشعوب الطيارين أبطالًا إذا فضّلا الاصطدام بطائراتهم المدنية في الحقول عن إسقاطها فوق رأس مدنيين آخرين وقتل عدد أكبر.

بينما يبرر أصحاب «عدم تغيير مسار العربة» موقفهم أن تغييرهم لمسار العربة هو لا يختلف عن مفهوم الديكتاتوريات والفاشيات لحياة الناس، فيمكنهم إبادة عرق لإنقاذ عرق آخر، وقد تبدو إجابة منطقية، لكن هل نقاوم الديكتاتورية والفاشية بقتل 5 أشخاص مقابل شخص واحد إذن؟

تكمن صعوبة السؤال في أنك صاحب القرار، في أنك أنت ذلك الشخص الجالس خلف عجلة القيادة. كل الإجابات المثالية لن تُجدي، خذ قرارك، إما الـ 5 أو الـ 1!

يصوت أغلب الأفراد لصالح تغيير عجلة القيادة بالطبع وإنقاذ الـ 5 أشخاص مقابل قتل شخص، أليس كذلك؟ فلننتقل للمرحلة التالية.

المستوى الثاني لمعضلة القطار

السؤال الثاني: ماذا لو لم تكن أنت السائق، وكنت مشاهدا للموقف من فوق جسر، وترى العربة تتجه لتقتل الـ 5 أشخاص مباشرة، وأمامك شخص بدين جدًا متكئ على حافة الجسر. لو دفعت هذا الشخص فمن المؤكد أنه سيوقف العربة المندفعة تجاه الـ 5 أشخاص وبالتالي تكون النتيجة هي نفس النتيجة السابقة، إنقاذ 5 أشخاص مقابل شخص واحد، ماذا ستفعل؟ هل ستدفعه من على الجسر؟ (خذ قرارك قبل الانتقال للسطور التالية).

تأتي إجابة الأغلبية معاكسة للسؤال الأول، فلا أحد يرضى بدفع الرجل البدين عن الجسر، رغم أن النتيجة واحدة! ماذا حدث لمبدئنا القائل بأن «إنقاذ 5 بدلا من 1»!

لماذا نجد صعوبة في تبرير القتل مقارنة بالإنقاذ؟

يبرر البعض موقفه بأن عدم إلقاء الشخص البدين سببه هو أن الرجل البدين لم يكن طرفا في المشكلة أصلا، وأننا قمنا بالاختيار بدلا منه بأن نلقيه من فوق الجسر لينقذ حياة غيره من الأفراد، وهو ما يفوق الموقف الأول إجراما. لكن يبدو أن الإجابة غير منطقية بعض الشيء، لأن العامل على الطريق الفرعي في الموقف الأول لم يكن متداخلا تماما مثل الرجل فوق الجسر ولم يختر أحدهم التضحية بحياته، لكنك أنت من اختار ذلك بدلا عنهما، فلماذا اختلف اختيار الأغلبية في الموقفين؟

يرى البعض أنه كان طرفا مباشرا في الموقف الأول فكان لابد له من الاختيار، أما الموقف الثاني فهو مشاهد فقط، لذلك لا يجب أن يضحي بحياة شخص آخر، لكن ما زالت الإجابة غير مقنعة بعض الشيء، لأن النتيجة واحدة في الموقفين، فكلاهما سيموت بلا ذنب!

النفعية

نتحدث هنا عن «التبرير الأخلاقي بناء على العواقب-Consequentialist». يرفض البعض التصرف –تحويل المقود- بسبب تحليلهم للتصرف ذاته لا عواقبه «Categorical»، فرفضوا قتل شخص بريء بهدف الحفاظ على حياة 5 أشخاص أبرياء أيضا لأنهم وضعوا التصرف في إطار محدد من الواجبات والحقوق التي لا يجب تجاوزها بغض النظر عن العواقب، ويمثّل «التبرير الأخلاقي بناء على العواقب-Consequentialist» مبدأ شهير يسمى «النفعية-Utilitirianism» والذي أوجده الفيلسوف السياسي الإنجليزي «جيرمي بنثام» في القرن الثامن عشر والذي يختلف معه «إمانويل كانط» الفيلسوف الألماني الشهير ممثلا للجهة الأخرى. [1]

تكمن قضيتنا في رفض بعضنا لتقييم الأفعال وفقا للعواقب فقط، ولكن صب الاهتمام على الفعل ذاته إن كان أخلاقيا من الأساس أو لا، حتى لو كانت عواقبها جيدة فهي ستظل تصرفات خاطئة.

جيرمي بنثام والنفعية

عرّف «بنثام» نظريته النفعية باعتبار أن التصرف الأصوب هو الذي يعمل على زيادة المنفعة إلى الحد الأقصى ويقصد بالمنفعة هنا هو الموازنة بين السعادة والمعاناة، فجميعنا نحب السعادة ونكره المعاناة، وبذلك سنسعى جميعا كأفراد وكمجتمع لزيادة السعادة إلى الحد الأقصى، أي أن «المصلحة الأكبر للعدد الأكبر من الناس». ولكن لنواجه في السطور التالية قضية حقيقة مثّلت تهديدًا لمبدأ النفعية الخاص بـ «بنثام».

قضية أكل لحوم البشر

نظر القضاء البريطاني في القرن التاسع عشر قضية مثيرة للاهتمام وهي تناقش كثيرا في كليات الحقوق، والتي تحكي باختصار نجاة بحارة يخت «مينيونيت-Mignonette» والذي غرق في جنوب المحيط الأطلسي عام 1884. [2]

يتكون طاقم المركب من القبطان «دودلي» و«ستيفنز» المساعد الأول، و«بروكس» بحارا ورابعهم الغلام «ريتشارد باركر» ذو الـ 17 عام، كان «ريتشارد» يتيما بلا أسرة وتعتبر هذه الرحلة أول رحلاته. ضربت اليخت عاصفة قوية فأغرقته، فهرب الطاقم كاملا في قارب صغير للنجاة ومعهم علبتين من اللفت المعلب بلا ماء عذب.

بقى طاقم السفينة أول 3 أيام دون أكل، ثم في اليوم الرابع فتحوا واحدة من علبتي اللفت وأكلوها، واصطادوا سلحفاة لتساعدهم على البقاء أحياء بالإضافة لعلبة اللفت الباقية لعدة أيام قليلة، وبعد ذلك ظلوا لـ 8 أيام بلا أكل أو مياه عذبة، فقام «ريتشارد» بشرب ماء البحر ليروي ظمأه بمخالفة نصيحة الطاقم ليرقد مريضا على سطحه بلا قدرة على الحراك، وبدا أنه على وشك الموت.

وفي اليوم التاسع عشر، اقترح القبطان «دودلي» القيام بقرعة لاختيار أحدهم ليموت ويأكله البقية ليتمكنوا من النجاة، ولكن رفض «بروكس» بشدة، وربما ذلك لخوفه على حياته. طلب «دودلي» في اليوم التالي من «بروكس» أن يشيح بصره بعيدا، ثم أمر «ستيفنز» أن يقتل الغلام، وفعل بخنجره، ثم أكل كل أعضاء الطاقم بما فيهم «بروكس» الذي عارض سابقا.

ظلوا على حالهم لـ 4 أيام يشربون دماؤه ويأكلون لحمه إلى أن ظهرت سفينة ألمانية أنقذتهم وسلمتهم للساحل الإنجليزي ليتم اعتقالهم وتسليمهم للمحاكمة، وتحول «بروكس» لشاهد بينما تم اتهام كلا من القبطان «دودلي» ومساعده «ستيفنز» بتهمة القتل، لكنهما بررا تصرفهما بأن الجريمة تمت وفق الحاجة الشديدة وتلخصت الحُجة في أن موت شخص واحد أفضل من موت 3 أشخاص!

يرى البعض أن التصرف سليم أخلاقيا بحُجة أن الحاجة عند تجاوزها حدود معينة تتحول إلى الضرورة الواجبة التنفيذ، فعند تعرضهم للظروف القاسية لمدة 19 يوم تستوجب قيامهم بفعل مشابه للحفاظ على حياتهم، طالما أن العواقب لمصلحة الأغلبية!

بينما يختلف آخرون معهم ويرونه تصرف غير سليم أخلاقيا بحُجة أن لا أحد يملك السلطة على حياة الآخرين، حكما على الموقف ذاته بغض النظر عن عواقبه!

الموافقة

لكن ماذا لو أن «ريتشارد» وافق على أن يموت في سبيل إنقاذ أفراد الطاقم طالبا منهم قتله؟ هل سيصبح الفعل مناسب أخلاقيا؟

يرفض البعض ذلك أيضا بحُجة أنه في حالة قتل «ريتشارد» فلا يوجد ضمانة على عدم تكرار نفس الفعل مع «بروكس» ثم «ستيفنز» ويطال القتل الجميع دون توقف، فلا أحد يعلم متى ستأتي السفينة!

وتحجج آخرون بأن أكل لحوم البشر هو فعل غير أخلاقي من الأساس ولا يجوز الدفاع عنه بأي حال!

القُرعة

ماذا لو تم إجراء قرعة وكانت نتيجتها قتل «ريتشارد»؟ هل القرعة تجعل قتله أكثر قبولا وتمثل فارقا جوهريا؟

قد تعتبر المشكلة في أن «دودلي» و«ستيفنز» قد قررا أن حياتهما أكثر أهمية من حياة «ريتشارد» وهنا تكمن الجريمة الأخلاقية في حقه، أليس كذلك؟ وقد يعتبر آخرون أن المشكلة تكمن في عدم أخذ موافقته وأن القرعة ستتسبب في إكراه أحدهم على أن يُقتل من أجل الآخرين، وبينما رفض آخرون قيام «ريتشارد» بالتضحية بنفسه حتى لو كان هذا هو اختياره باعتباره تصرف غير سليم أخلاقيا، وأن أي تعاطف مع «دودلي» و«ستيفنز» سواء بسبب عائلاتهم التي تنتظرهم في انجلترا وأطفالهم الذين سيتيتمون من بعدهم -«ريتشارد» لن يفتقده أحد لأنه يتيم- فتصرفهم غير سليم ولا بد من معاقبتهم وحجتهم هنا هي أن أي شخص يقرر قتل شخص آخر للتحسين من وضعه بأي شكل من الأشكال، فلا يختلف من يقتلك ليسرقك عن من يقتلك ليأكلك! وهي حُجة قوية ولها وجاهتها فعلا!

خطأ نفعية بنثام

هكذا ثبت خطأ مبدأ «بنثام» فوفقا له فإن طاقم السفينة لم يخطئ، وهو ما يرفض أن يتقبله الجميع حتى من وجد الحجج المبررة لتصرفهم، ليصمد رفض القتل رفضا مطلقا أيا كانت مبرراته أو أسبابه. ولكن دعونا نتعمق أكثر في ما وراء «نفعية بنثام»!

لماذا نرفض القتل؟ هل هناك حقوق أساسية لا يمكن حرمان الجميع منها حتى اليتيم «ريتشارد»! ولماذا؟

بالنسبة لمن تشجع لاختيار طريقة القرعة، فهل الطريقة العادلة تبرر أي نتيجة؟

ثالثا، بالنسبة لمن تأثر بفكرة موافقة «ريتشارد»، فما الدور الأخلاقي الذي ستضفيه الموافقة على العمل؟

المصادر

[1] Stanford Encyclopedia of philosophy
[2] Nytimes

هذه السلسلة مستقاة من محاضرات البروفيسور مايكل ساندل عن فلسفة العدالة في جامعة هارفارد

Exit mobile version