وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

إن الأخلاق هي نظام سلوكياتنا، فكل ما نقوم به يكاد يكون تطبيقًا لما نؤمن به أخلاقيًا ولو بشكل غير واعي. لذلك تعد نظرية الأخلاق نقطة مركزية في كل نسق فلسف. منذ آلاف السنين ويحاول المصلحين والفلاسفة بناء نظرية أخلاقية من شأنها أن تفسر سلوكياتنا وتوجهها أحسن توجيه. نظرية المنفعة أو النفعية حاولت وتحاول بدورها تقديم إجابات لأسئلتنا الكثيرة حول الأخلاق وما زالت تواجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات. هذه النظرية قديمة، دافع عنها بروتوغوراس جزئيًا وتبناها أبيقور واجتهد فيها، كما استمرت الاجتهادات عبر العصور. يعتبر جون ستيوارت ميل من أهم منظري الفلسفة النفعية. ولنتعرف على هذه النظرية نقدم في هذا المقال أهم كتاب في النفعية ألا وهو كتاب المنفعة لجون ستيوارت ميل.

صراع المدارس:

يقسم ميل المدارس الفلسفية الأخلاقية بين الحدسية والاستقرائية وكلاهمها يتفق على أن أخلاقية الفعل الفردي لا تختص بالإدراك المباشر، بل تخص تطبيق القانون على حالة فردية معينة. يأخذ ميل على المدرستين التمسك الحاد بوجود مبادئ عامة للأخلاق. الحدسية تؤكد على وجود مبادئ أخلاقية بديهية بصفة ما قبلية بينما تعول الاستقرائية وجود مبادئ عامة تم كشفها عن طريق التجربة. كلتا المدرستين تقومان على أساس ميتافيزيقي. لذا يرى ميل بأن كل المبادئ العامة بما فيها مبادئ الريضايات فيها نوع من الوهم. بعيدًا عن المبادئ العامة يقول ميل بأن قواعد الفعل الأخلاقي يجب أن تأخذ طابعها ولونها من الغاية التي تكون في خدمة تحقيقها.

ماهية نظرية المنفعة:

منذ بداياتها وتواجه نظرية المنفعة السخرية من منتقديها، إذ يعتقدون أنها تركز على اللذة المحض بأبشع أشكالها الحيوانية. يفند ميل هذا الإعتقاد، فاللذة لا تعني الانغماس في اللذات الجسدية الآنية، بل أن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الخالص، وأن النفعية ترفع من شأن اللذات الذهنية بالمقارنة مع اللذات الجسدية. لذلك فأن نظرية المنفعة لا تتوقف عنذ اللذة بل تجد بأن هدف الإنسان هو السعادة وتخفيف الألم.

السعادة التي تهدف إليها النفعية لا تعني الأنانية، أي سعادة الفرد ولو على حساب سعادة الآخرين. بل هي على عكس ذلك تمامًا. يقول ميل بأن السعادة التي تمثل المقياس النفعي لما هو خير في ما يتعلق بالسلوك ليست متمثلة في السعادة الخاصة للفاعل، بل هي متعلقة بسعادة الجميع. بل تذهب النفعية أبعد من ذلك إذ ترى بأن التضحية بالسعادة الشخصية لأجل سعادة الآخرين تعد أرقى فضيلة.

النفعية كأخلاق عالمية:

يعتقد ميل بأنه يمكن القضاء على أكثر الظواهر العالمية فتكًا مثل المرض والفقر. فمع تطوير العلم والتربية الصحية يمكن تقليض رقعة الأمراض بشكل غير نهائي ومن خلال حكمة المجتمع يمكن القضاء على الفقر نهائي.

النفعية متفائلة بخصوص المستقبل، ذلك لأن طبيعة الإنسان قابلة للتعديل والتصحيح، والتجربة على مدى العصور علمتنا الكثير حول السلوكيات الحسنة. لذا يمكن تحسين طبيعة البشر والبيئة المحيطة عن طريق توجيه سلوكياته نحو غايات فاضلة.ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

السعادة والرضى:

هناك لذات جسدية وأخرى ذهنية، لا شك أن الأخيرة أصعب من الأولى. ذلك لأن صاحب الملكات الأرقى يتطلب الكثير ليصل إلى السعادة المرجوة وعادة ما تكون مرهقة أو صعبة المنال. لذلك قد يلتجأ إلى اللذات الجسدية لتعويض ذلك. لهذا فأن الذي يسعى إلى اللذات الدنيا لديه فرصة أكبر للوصول إلى الرضى المطلوب. فالمشاعر السامية هي في معظم الطبائع، نبتة رقيقة جدًا وسهلة الفناء.

لكن تفضيل لذة على أخرى يعود بالدرجة الأساس إلى التجربةو فالشخص الذي لم يجرب اللذات الفضيلة سيفضل اللذات الآنية، كما أن للبيئة والتربية أثر كبير في تفضيلات الشخص، غير أن الذي يجرب الأثنين سوف يفضل اللذات الذهنية.

النفعية ليست فلسفة زاهدة، فهي لا تنفي حقيقة وجود ميول مختلفة في الفرد، فهو لا يهدف دائما إلى اللذات الراقية، بل له الحق في طلب الأخرى أيضا وذلك جزء من طبيعتنا.

الفعل أم الدافع:

يرى ايمانويل كانط بأن الأخلاقي هو الدافع وليس الفعل، فالكذب مهما كانت نتيجته فهو شر. غير أن ميل ينظر إلى الفعل مباشرة، فحتى السلوكيات غير المرغوبة إذا ما أدت إلى نتيجة خيرة فهي تكون خيرة. فمثلًا إنقاذ شخص من الغرق بدافع الحصول على المال أو الشهرة يعد فعلًا أخلاقيًا، لأن الفرد لا يُحاسب على نيته إنما فعله وأثر الفعل.

النفعية والدين:

إن صدق الأعتقاد القائل بأن الله يرغب فوق كل اعتبار في سعادة مخلوقاته، هو ما كان غرضه في خلقها، فإن النفعية لن تكون نظرية دون إله، بل ستكون نظرية دينية في أعماقها.

عقوبات أخلاق المنفعة:

كل قانون أخلاقي هو قانون يربط بيني وبين الآخرين، أي أن الأخلاق تحدد علاقتنا معهم. ولمحافظة على كل قانون لابد من وجود رادع أو سلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أم بشرية. نظرية المنفعة الأخلاقية تستند إلى سلطتين وهما السلطة الداخلية والسلطة الخارجية:

السلطة الخارجية:

كل القوانين الإلهية والوضعية التي تعاقب وتكافأ الإنسان على سلوكياته. فالبشر يرغبون ويؤمرون بكل ما سيقوم به الآخرون تجاههم وحيث يعتقدون أن سعادتهم ستزداد به.

السلطة الداخية:

لكل فرد حس أخلاقي وهو جوهر الضمير كما يقول ميل، لكن هذا الحس أو الضمير لا يقع خارج الطبيعة الإنسانية إنما حاصل تجربة الإنسان في العالم ومع الآخرين. تجارب الطفولة، الإحساس الديني، حبنا وتعاطفنا وتقديرنا للآخرين ولأنفسنا وكل ما اختبرناه يشكل ما نطلق عليه بالضمير. إذا ما ارتكبنا خطأ ما فهذا الضمير سيدفعنا للشعور بتأنيب الضمير، ذلك لأننا تعلمنا بأن هكذا أخطا تضر بمصلحتنا وسعادتنا وسعادة الآخرين، وترفض النفعية وجود قوة خفية أخرى وراء حسنا الأخلاقي. أما الشخص الذي لم يتلقى تربية حسنة لن يشعر بأي ذنب إذا ما اقترف خطأ ما وهذه الحالة تفرض وجود سلطة خارجية لتهذيب السلوك.

دليل النفعية:

كل نظرية ملزمة لتقديم دليلها على صحة طروحاتها، بالنسبة للنفعية فأنها تفترض أن شيئا ما مرغوب فيه لأن الناس يرغبون فيه بالفعل، فدليلنا على أن شيئا ما يمكن رؤيته هو أن الناس يمكنهم بالفعل رؤيته. وفقًا لميل فأن السعادة هي كل ما يرغب به الإنسان ولا شيء سواها، فالسعادة هي غاية الفعل ومقياس الأخلاق أيضًا.

بالنسبة النظريات التي قالت بأن الفضيلة هي الغاية، تقر النفعية بأن الفضيلة هي جزء من السعادة، وهي تساعدنا للحصول على سعادة أكبر وألم أقل. كما أن بعض الأمور الأخرى قد تتحول إلى غايات بعد أن كانت وسائل، فالمال، الشهرة والسلطة على سبيل المثال، في البداية كانت وسيلة للوصول إلى الغايات تحولت إلى غايات في حد ذاتها.

لفهم هذه الجزئية يجدر بنا تفسيرها وفقًا لنظرية الاشتراطية التقليدية (Classical Conditioning)، فالمال مثلًا لا قيمة له، لكنه عندما يساعدنا في تحقيق غاياتنا، يتحول بذاته إلى غاية لكونه ينتج نفس المشاعر التي انتجتها غاياتنا، ولكن إذا ما فشل المال في تحقيق سعاتدنا سيخسر المال قيمته، وتسمى هذه الحالة بالإنطفاء.

النفعية والعدل:

يذهب ميل إلى شرح مفهوم العدل لغةً، وفقًا فأن لفظة عدل في البداية كانت تعني طريقة القيام بالأشياء ومن ثم صارت تعني الطريقة التي يؤمر بها يعني على السلطات القيام بتطبيقها. يقول ميل على ذلك: “أن الفكرة الأصيلة في تكوين مفهوم العدل كانت تتمثل في مطابقة القانون”.

الشعور بالعدل:

يتسائل ميل إذا كان الشعور بالعدل يعد شعورًا خالصًا كما الشعور بالألوان وغيرها من المشاعر الخالصة أو أنه نعمة من نعم الطبيعة، أي شعور طبيعي. يرى ميل أن العنصرين المكونين الأساسيين للشعور بالعدل هما الرغبة في عقاب الشخص المتسبب للضرر، والاعتقاد بأن هناك شخصًا معينًا أوأشخاصًا معينين ألحق بهم الضرر، الرغبة في الانتقام رد فعل تلقائي نابع من نوعين من المشاعر الطبيعية وهما الدفاع عن النفس والتعاطف. التعاطف مع الآخرين والذكاء المتطور يساعدان الإنسان لتحقيق المصالح المشتركة. يقول ميل عن ذلك بأن الشعور بالعدل هو الرغبة الحيوانية بالإنتقام بسبب الإساءة الملحقة بالنفس أو الملحقة بمن تعاطف معهم.

الإرادة الحرة:

الإنسان هو نتيجة بيئته الخارجية والداخلية، التربية السيئة ستخلق المجرمين على سبيل المثال، وبالنسبة للبيئة الداخلية، فوجود أمراض قد يدفع بالمرء ارتكاب الجرائم، لذا العقاب القاسي لا يكون مبررًا لطالما أن الشخص غير مسؤول عن تكوينه الأخلاقي، فالعدل إذن عليه ألا يكون إجراميًا بدوره بل عليه أن يكون تصحيحيًا.

العدالة الإجتماعية:

رغم أنه تم ربط النفعية بأبشع أشكال الرأسماية إلا أننا نجد عند ميل ميوله الإشتراكية، لا يُقصد هنا الإشتراكية العلمية (الشيوعية) بل الإشتراكية بمعنى عام، هذا الميل هو الذي تسبب له بمشاكل عائلية أيضًا، لطالما كان والده يكره الإشتراكية. فهو يرى بأن العدالة تقتضي أن تدفع الأثرياء وفقًا لدخلهم.

فهو يتحدث عن العدل بوصفه ضمانًا قانونيًا لحقوق الجميع دون أي إستثناء. فالقانون العادل هو الذي يحمي مصلحة الجميع. فنحن على صلة طبيعية بكل الكائنات البشرية، وهذه الصلة تعد بمثابة وثيقة أخلاقية ومخلفتها أعظم الشرور. والقانون يجب أن يتمتع بالحياد والمساواة وعلى المجتمع كله أن يعامل كل الأفراد معاملة حسنة بشكل مطلق.

اقرأ أيضافلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

ما هي النفعية؟

هل يمكن أن يبرر هتلرالمحرقة؟ لأن النهاية أو الغاية كانت لتنقية الجنس البشري؟ أو يمكن أن يبرر ستالين ذبحه للملايين لأنه كان يحاول تحقيق يوتوبيا شيوعية؟ أيمكن للأميركيين في القرن الثامن عشر تبرير العبودية على أساس أنها قدمت نتيجة جيدة لغالبية الأمريكيين؟ من المؤكد أن الغالبية استفادت من عمل الرقيق الرخيص، على الرغم من أن حياة العبيد السود كانت غير إنسانية! هل يمكن أن تصبح عبدًا لمعبودًا أكبر يسمى ” الصالح العام”؟ من يحظى بالقيمة الأكبر؟ أنت (كوحدة بناء المجتمع) أم الصالح العام؟ وهل هناك من يمكن أن يستحق الإزدراء؟ هل الغاية تبرر الوسيلة؟ وما هي النفعية؟

تخيل أن هناك رجلاً يُدعى “مراد”، رجل فقير وعاطل عن العمل في إحدى أحياء القاهرة الكبرى. يعول أسرة مكونة من أربع أفراد أُخر. زوجته “سارة” ذات الصحة الهزيلة، فهي مريضة بمرض مزمن، تكلفها أدويته قرابة 300 جنيهُا مصريًا كل أسبوع. وأطفالهم الصغار س، ص، ع لم يستطيعوا الحصول على أدوات التعليم الكافية كأقرانهم لمحدودية دخل والدهم. فلا يستطيعون تلقي دروسًا خاصة لتحسين مستواهم الدراسي- انتظر، إن ظروفهم تلك تمنعم من الانتظام بالدراسة في المدرسة أساسًا.

لا يوجد مصدر دخل لمراد، ليس لديه أملاك أو حيازات يمكنه بيعها مقابل المال. بل ليس لديه أي أصدقاء يمكنهم مساعدته، فقد قطع صديقه الوحيد “عادل” كل السُبل بينهما لكونه كثير المشاكل والشكوى والاقتراض.

الآن يجب عليه التصرف لكونه مسئولاً عن تلك الأرواح -على الأقل-.

تحدثت إليه نفسه، قائلة: لا يوجد لديك سوى بديلين: إما أن يتركهم لتدركهم رحمات الله. أو أن يحصل على المال عن طريق السرقة، فيسرق من صديقه عادل ما يغطي احتياجات أسرته.

دعنا نضع هذا الموقف أمام معيارين. بالأحرى مبدأين.

الأول نعلم جميعًا أن السرقة خطأً أخلاقيًا. فإن فعل -من هذا المبدأ- سنقول أن ما فعله مُراد- السرقة من صديقه عادل- خطأ أخلاقيًا!

المبدأ الثاني، سيخبرك بأن ما فعله مراد جائز وصحيح أخلاقيًا!

ما رأيك أنت الآن، وإلى أي مبدأ ستنتمي؟

فكر، أليس فعل السرقة خطأ؟

ألا يلحق بالضرر على الآخر؟

أحاجة عادل للمال بنفس قدر حاجة مراد إليه؟

الفعل ورد الفعل

بالنسبة للمنتمي للمبدأ الثاني، فإن فعل السرقة في حد ذاته ليس سيئ أو جيد، فهو فعل عادي. فما يجعله سيئ أو جيد هو العواقب التي تنتج عنه.

ففي المثال السابق ذكره، سرق مراد من شخص واحد ( صديقه عادل)  لديه حاجة أقل للمال. ومن ثم، أنفقه على ثلاثة أشخاص لديهم حاجة أكبر إليه. إذًا فإن سرقة مراد من عادل هي وسيلة إن استُخدمت الأموال في علاج سارة والرسوم الدراسية لـ س وص وع. يستند هذا التبرير على أن فوائد السرقة تفوق الخسائر الناجمة عنها. ففعل مراد من السرقة هو حق أخلاقيًا لأن إيجابياته  أكثر من سلبياته. وبعبارة أخرى، أنتجت السرقة المزيد من المتعة أو السعادة من الألم أو التعاسة، هذه هي النفعية.

ما هو مبدأ النفعية؟

النفعية هي شكل من أشكال التبعية. من أجل التبعية، يعتمد الصواب الأخلاقي أو الخطأ في الفعل على العواقب التي ينتجها. وبناءً على ذلك، فإن الفعل الذي تفوق عواقبه السلبية النتائج الإيجابية يعتبر خطأً أخلاقيًا. في حين أن الفعل الذي تفوق عواقبه الإيجابية النتائج السلبية يعتبر صحيحًا أخلاقيًا. على أسس نفعية، فإن الأفعال التي تفيد قِلة من الناس وتضر بمزيد من الناس ستعتبر خاطئة أخلاقيًا. بينما تُعتبر الأفعال التي تضر بعدد أقل من الناس وتفيد عدد أكثر من الناس صحيحة أخلاقيًا.

يمكن وصف المنفعة والضرر بأكثر من طريقة؛ بالنسبة للنفعيين الكلاسيكيين مثل جيريمي بنثام– Jeremy Bentham وجون ستيوارت ميل-John Stuart Mill، تُعرف النفعية من حيث السعادة/التعاسة والمتعة/الألم. من هذا المنطلق، فإن السلوكيات التي تسبب ألمًا/ تعاسة أقل، ومتعة/سعادة أكثر يمكن اعتبارها  صحيحة أخلاقيا، والعكس صحيح.

على الرغم من أن المتعة والسعادة يمكن أن يكون لهما معانِ مختلفة، إلا أنه في هذا السياق سنعاملهما على أنهما مترادفان.

أين القلق إذًا؟

قلق النفعيين هو كيفية زيادة الفائدة. فتستند نظريتهم الأخلاقية على مبدأ المنفعة الذي ينص على أن “العمل الصحيح أخلاقيًا هو العمل الذي ينتج خيرًا أكثر”

العمل الخاطئ أخلاقيًا هو الذي يؤدي إلى الحد الأقصى من الخير. على سبيل المثال، قد يجادل النفعي أنه على الرغم من أن بعض اللصوص المسلحين سرقوا أحد البنوك في عملية سرقة، طالما أن هناك عددا أكبر من الأشخاص الذين يستفيدون من السرقة  أكثر من الأشخاص الذين يعانون من السرقة فإن السرقة ستكون صحيحة أخلاقيا وليست خطأ أخلاقي. وعلى هذه الفرضية النفعية, إذا كان المزيد من الناس يعانون من السرقة بينما يستفيد منها عدد أقل من الناس, ستكون السرقة خطأً أخلاقيًا!

ما الفرق بين القاعدة النفعية والقاعدة الأخلاقية؟

من الملاحظ أن النفعية تعارض علم الأخلاق، فالنظرية الأخلاقية تقول أنه كعوامل أخلاقية لدينا واجبات أو التزامات معينة، يتم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الواجبات أو الالتزامات من حيث القواعد. الفرق بين القاعدة النفعية والقاعدة الأخلاقية هو أنه وفقا للقاعدة النفعية، فإن التصرف وفقا للقاعدة صحيح، فإن قبلت واتُبعت على نطاق واسع، ستنتج الأكثر فائدة. ووفقًا لعلم الأخلاق، ما إذا كانت عواقب أفعالنا إيجابية أو سلبية لا تحدد صوابهم الأخلاقي أو الخطأ الأخلاقي. ما يحدد صوابهم الأخلاقي أو خطأهم الأخلاقي هو ما إذا كنا نتصرف أو لا نتصرف وفقا لواجبنا (إذ يستند الواجب إلى قواعد لا تبررها في حد ذاتها عواقب قبولها واتباعها على نطاق واسع).

ما هي بعض أنواع النفعية؟

كل ما ذكر أعلاه هو وصف عام، وفي الواقع هناك عدة وجهات نظر من النفعية يمكن تمييزها كالآتي:

النفعية السلبية

هذا النوع من النفعية يتطلب تعزيز أقل قدر من المعاناة لأكبر عدد من الناس. هذا على النقيض من جميع أنواع النفعية الأخرى (النفعية العامة أو “الإيجابية”) التي تستند إلى القاعدة العكسية تقديم أكبر قدر من المتعة لأكبر عدد من الناس. ويأتي تبرير النفعية السلبية بأن أكبر الأضرار هي أكثر تبعية (الضرر هو نتيجة أكبر من المتعة) من أعظم المتعة، وبالتالي يجب أن يكون لها تأثير أكبر على صنع القرار.

إذًا تخيل أن تؤدي بنا النفعية السلبية إلى اتباع أقل الطرق إيلامًا لقتل جميع البشر، هذا لأنه بعد وفاة الجميع، لن يكون هناك المزيد من المعاناة على الإطلاق للبشرية، مما يضمن وجود أقل قدر من الألم في العالم، ذلك هو الانتقاد الموُجهة لتلك الرؤيةز أما الحجة المضادة لهذا هو أن للألم والمعاناة الأولوية على المتعة. ولكن يثير ذلك مسألة كم من الألم يستحق أو يعادل كم من المتعة وكيف يمكن تحديد ذلك؟

النفعية الواعية   

هذا هو النوع من النفعية الذي يعطي الاعتبار على قدم المساواة لجميع الكائنات الحية -ليس البشرفقط-. لذلك، يمكن أن تشمل هذه النظرة النفعية  الآخرين -عند النظر في نوع من النفعية، يجب أن تسأل عما إذا كانت تراعي الحيوانات الأخرى غير البشر أم لا، سواء كانت تلك “الواعية” أم لا. فالكائنات الحية جميعها (قرودًا، وكلابًا وقططًا… وسائر الحيوانات الأخرى) تعتبر واعية وتشعر بالألم. وبالتالي، يجب أن نوليها اعتبار متساو.

يجادل النقاد بأن احتياجات البشر أكثر أهمية من احتياجات الحيوانات الأخرى لأن البشر أكثر ذكاء ، وذكائهم هو الذي يجلب السعادة للجميع.

الحجة المضادة لذلك هي أن هذه الفكرة ستنطبق أيضا على البشر أنفسهم، فستصنف احتياجات البشر الأكثر ذكاء على أنها أكثرأهمية من تلك الأقل ذكاء!

فهل تلك هي فكرة مقبولة؟ وستتقدم النفع للجميع بشكل متكافئ؟

متوسط النفعية

دعنا نسأل مرة أخرى، إذا كانت تعتمد النفعية على تحقيق النفع والسعادة مقابل آلام ومعاناة أقل، فكيف نقرر مقدار أو متوسط “المنفعة” التي يجب يتمتع بها المجتمع حتى نتمكن من المقارنة وتحديد أفضل طريقة للتصرف؟

يشير متوسط النفعية إلى أننا نقيس الفائدة للأفراد عن طريق حساب متوسط المنفعة (معرفة فائدة جميع الناس ثم القسمة على عدد الأشخاص) من هؤلاء الأفراد.

مثلاً، حدد للأفراد متوسط فائدة/سعادة هو 90 (حيث الحد الأقصى للشخص هو100). معظم الناس هنا سعداء جدا، لذلك إذا قمت بإضافة شخص ما مع متوسط فائدة/سعادة فقط 80 (لا يزال سعيدًا جدًا)، متوسط النفعية ستقضي بأن ذلك عمل غير أخلاقي، لأن أقل 80 من شأنه أن يجلب متوسط فائدة (90) من الآخرين.

متوسط النفعية يدعو إلى إزالة جميع الأفراد الذين هم أقل من المتوسط في السعادة/النفع. وهذا من شأنه أن يخلق دوامة، فمن بعد إزالة المتوسط أدناه سيكون هناك متوسط جديد، وبالتالي بعض الناس الذين كانوا فوق المتوسط (قبل أن تصبح أقل من المتوسط) سيزالوا. سيستمر هذا حتى لا يكون هناك سوى عدد قليل من أسعد الأفراد على حد سواء!

حجة مضادة لهذا هو أنه من خلال إزالة الناس حزينة بعيدا عن الأفراد أكثر سعادة، فإن متوسط فائدة/السعادة للمجتمع تنخفض، فسيكون هناك شعور المجتمع من الخسارة والشفقة على تلك الفئة التي أزيلت.

النفعية الكلية

هذه وجهة نظر بديلة لمتوسط النفعية وتتحول من مجرد مفارقة الإضافة إلى القياس الأفضل للسعادة/المنفعة وذلك من خلال المنفعة/السعادة الكلية التي يمتلكها المجتمع.

ومع ذلك، فإن هذا النوع تشوبه بعض الشوائب، على سبيل المثال، المجتمع الذي يحتوي على 1 مليون شخص لديهم جميعا فائدة منخفضة، دعنا نقول فقط 1 من أصل 100، سيكون له فائدة إجمالية قدرها 1 مليون والتي ستكون أكثر تفضيلا لمجتمع من 1,000 شخص فقط سعداء جميعا بفائدة 100 لكل منهم.

الاستنتاج هنا هو أن المجتمع الأكبر سكانًا ولكن في المتوسط أقل سعادة هو أكثر تفضيلاً من مجتمع أكثر سعادة ولكنه أقل سكانًا.

النفعية الدافعة

يتضمن هذا النوع من النفعية دوافع الناس لأفعالهم ويعطي لها وزنا عند تحديد ما إذا كان الإجراء صحيحا أو خاطئًا أخلاقيًا. إذا كان من المعروف أن شخصا ما يقوم بعمل جيد على ما يبدو بدوافع غير أخلاقية، فقد يعتبر هذا الإجراء غير أخلاقي عند استخدام النفعية الدافعة. تشير النفعية الدافعة أيضا إلى غرس الدوافع التي ستكون ذات قيمة عملية في أنفسنا من خلال التدريس حتى نفعل الشيء الصحيح عندما يتعلق الأمر به.

باختصار، تعتبر النفعية الدافعة الحالة النفسية للبشرعند الرغبة في أو القيام بأفعال معينة.

القاعدة النفعية

القاعدة  النفعية تتعلق بالقواعد الأخلاقية العامة التي يجب عليك اتباعها عند اتخاذ القرارات. من المفترض أن تسهل هذه القواعد العمل الأخلاقي الذي يزيد من المتعة بغض النظر عن كيفية تطبيقها. فإذا كانت القاعدة العامة لا تقوم بالدور المطلوب، توضع قواعد فرعية أو قواعد استثنائية عامة بحيث تعمل لصالح تعظيم السعادة/المنفعة.

على سبيل المثال، قد تكون القاعدة العامة المتبعة هي عدم قتل إنسان مطلقا، وقد يكون الاستثناء من هذه القاعدة أن القتل مقبول عندما يتم دفاعا عن النفس. ألا ترى أن هذا يجعل النفعية أكثر عملية  وقابلية للاستخدام في حياتنا اليومية؟ إذ لا توجد حاجة إلى حسابات طويلة أو تحليل نقدي. ومع ذلك، فإن العديد من المواقف الصعبة  لن يكون لها قواعد. وربما لن نكون قادرين على وضع قواعد كافية لاستيعاب جميع الحالات إذا حاولنا. يجادل العديد من النقاد بأن تحليل القواعد العامة الأصلية من أجل إضافة المزيد من قواعد الاستثناء العامة الأخلاقية هو نفس عملية النفعية.

الفعل النفعي

من منظور الفعل النفعي، نحن مطالبون بتعزيز تلك الأعمال التي ستؤدي إلى أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس. فعواقب فعل إعطاء المال للجمعيات الخيرية ستعتبر صحيحة في النفعية، لأن المال يزيد من سعادة كثير من الناس، بدلا من نفسك فقط.

كما تتطلب هذه الرؤية من النفعية أخذ كل حالة على حدة وأن تجرى الحسابات المناسبة لكل منها. فتُحسب احتمالات العواقب لكل إجراء محتمل ومن ثم يجب اختيار الإجراء الذي من المحتمل أن يؤدي إلى أكبر قدر من السعادة.

النفعية ذات المستويين

النفعية على مستويين هي نظرية النفعية للأخلاق، فيجب أن تستند القرارات الأخلاقية للشخص إلى مجموعة من القواعد الأخلاقية. إلا في بعض الحالات النادرة التي يكون فيها من الأنسب الانخراط في مستوى “حَرِج” من التفكير الأخلاقي.

المستوى الأول يستخدم القاعدة النفعية (على أساس الحدس لدينا) لأنها فعالة (في كل من الوقت والتأثير) . ومع ذلك، يستخدم المستوى الثاني من النفعية عندما يتطلب الموقف المزيد من التفكير والتفكير الفعال.

هذا النظام من استخدام القواعد الأخلاقية العامة للقرارات البسيطة اليومية و التحليل الجاد والحساب للقرارات هو الأكثر أهمية إذ يحاول اتخاذ أفضل ما  في المستويين  من النفعية وجعلها أكثر عملية. المشكلة الواضحة لهذه النفعية تكمن في تحديد متى نستخدم القاعدة النفعية ومتى نستخدم الفعل النفعي.

انتقادات

إن إنتاج أكبر قدر من الخير لأكبر عدد أمر جيد طالما أنك لا تؤذي شخصا تحبه حقا في هذه العملية, فما هي بعض الانتقادات الموجهة لمثل هذا المبدأ؟ هناك بالفعل انتقادات فمثلاً، عندما تتقابل النفعية مع المشاعر تنتج المشاكل، إليك بعض تلك الانتقادات.

1-  كثير من الناس يعتقدون أنه من الصعب قياس السعادة. ومن الصعب جدًا مقارنة مستويات الناس مختلفة من السعادة.

الرأي المضاد لهذا: هو أن هناك تقديرات تقريبية في الحياة الحقيقية. فنحن نستطيع إدراك ما إن كان شخص ما حزين أو سعيد أو أكثر سعادة من خلال الطريقة التي يتصرف بها.

2- يعتبر البعض في بعض أشكال النفعية، أن متعة السادي تساوي متعة الإيثار.

الرأي المضاد: في الواقع، ينتج عن السادية متعة قصيرة المدى ولكن على المدى الطويل يؤدي إلى معاناة وألم. وبالتالي فإن السماح بأي نوع من المتعة السادية سيؤدي في الواقع إلى متعة أقل في المستقبل. من ناحية أخرى، تؤدي الأفعال الإيثارية إلى المتعة والرضا على المدى القصير والطويل، وبالتالي لا يجب أن يعطيا نفس الوزن.

3- يقول البعض أنه على الرغم من أهمية السعادة، إلا أن هناك أشياء أخرى يجب مراعاتها عند اتخاذ قرارات مثل المساواة والعدالة.

قد يجادل النفعيون بأن الغرض الرئيسي من السعي لتحقيق أي عواقب أخرى مثل المساواة والعدالة. سيكون في الأساس تحقيق أقصى قدر من السعادة، لأن معظم الناس يشعرون بالسعادة عندما يشعرون بأنهم متساوون ويلمسون وجود العدالة في حياتهم.

مقياس السعادة

عندما تواجه قرارا أخلاقيا، كيف يمكنك معرفة مسار الفعل الذي سيزيد من السعادة؟ نحن لا نرى ما في أذهان الآخرين (الجماعة)، لذلك لا يمكننا معرفة ما إذا كانوا سعداء حقًا أو ما إذا كانوا يقولون أنهم كذلك. وحتى لو استطعنا إدراك السعادة، كيف يمكننا التنبؤ بما قد يسببها؟ على سبيل المثال، يعتقد الكثير من الناس أن كسب الكثير من المال سيجعلهم سعداء. لذا فإن أفضل خيار نفعي هو التأكد من أن كل شخص لديه وظيفة جيدة ومناسبة. ومع ذلك، يمكن القول بأن المال يجلب السعادة فقط على المدى القصير، وأنه قد يكون الخيارالأفضل لبعض الناس الآخرين. في الحقيقة نحن كبشر، لا نعرف كيف نجعل أنفسنا سعداء. فكيف يمكننا أن نثق بأنفسنا لاتخاذ قرارات أخلاقية على هذا الأساس.

هل الغاية تبرر الوسيلة؟

نود أن نختتم تلك المقالة بإعادة طرح وإعادة النظر في السؤال الذي بدأنا به: هل الغاية تبرر الوسيلة؟

لقد تناولنا النفعية لمحاولة الإجابة من وجهة نظرها، فيمكن الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. في حين أن الجواب معقول وصحيح للنفعيين، إلا أنه غير قابل للتصديق من قِبل آخرين، ولا سيما بالنسبة لعلماء الأخلاق.

المصادر

utilitarianism
utilitarian
journals
stanford
lumenlearning
corporatefinanceinstitute
tamu
stanford

فلسفة العدالة، كيف وصلنا لقوانين اليوم؟

فلسفة العدالة، كيف وصلنا لقوانين اليوم؟ من أين بدأنا؟ لم بعض الحقوق لا يمكن التصويت عليها؟ ما الفلسفة وراء تلك القوانين؟ إنها فلسفة العدالة. نقدم لكم سلسلة مقالات تناقش فلسفة العدالة وكيف وصلنا لقوانين اليوم؟

معضلة القطار

السؤال الأول: تخيل أنك انطلقت بعربة قطار –أنت سائقها- تجاه 5 عمال بسرعة كبيرة لتصدمهم ومكابحك مُعطّلة، أنت متأكد أنك ستقتلهم جميعا بتلك السرعة، ولكنك تلاحظ على يمين السكة وجود طريق فرعي يمكنك الدخول فيه، وفي نهاية ذلك الطريق الفرعي عامل واحد فقط، والمقود يعمل ويمكنك تحويل اتجاه عربة القطار من هذا الطريق لذلك الطريق الفرعي، فتقتل شخص واحد بدلا من 5 أشخاص! كيف ستتصرف؟ (خذ وقتك في التفكير ولا تنتقل إلى السطر التالي قبل اتخاذ قرارك الخاص).

يبرر أصحاب «تغيير الطريق للفرعي» موقفهم بأنه من الأخلاقي أن تقتل شخص واحد فقط بدلا من أن تقتل 5 أشخاص. فهو نفس المبدأ الذي تعتبر به الشعوب الطيارين أبطالًا إذا فضّلا الاصطدام بطائراتهم المدنية في الحقول عن إسقاطها فوق رأس مدنيين آخرين وقتل عدد أكبر.

بينما يبرر أصحاب «عدم تغيير مسار العربة» موقفهم أن تغييرهم لمسار العربة هو لا يختلف عن مفهوم الديكتاتوريات والفاشيات لحياة الناس، فيمكنهم إبادة عرق لإنقاذ عرق آخر، وقد تبدو إجابة منطقية، لكن هل نقاوم الديكتاتورية والفاشية بقتل 5 أشخاص مقابل شخص واحد إذن؟

تكمن صعوبة السؤال في أنك صاحب القرار، في أنك أنت ذلك الشخص الجالس خلف عجلة القيادة. كل الإجابات المثالية لن تُجدي، خذ قرارك، إما الـ 5 أو الـ 1!

يصوت أغلب الأفراد لصالح تغيير عجلة القيادة بالطبع وإنقاذ الـ 5 أشخاص مقابل قتل شخص، أليس كذلك؟ فلننتقل للمرحلة التالية.

المستوى الثاني لمعضلة القطار

السؤال الثاني: ماذا لو لم تكن أنت السائق، وكنت مشاهدا للموقف من فوق جسر، وترى العربة تتجه لتقتل الـ 5 أشخاص مباشرة، وأمامك شخص بدين جدًا متكئ على حافة الجسر. لو دفعت هذا الشخص فمن المؤكد أنه سيوقف العربة المندفعة تجاه الـ 5 أشخاص وبالتالي تكون النتيجة هي نفس النتيجة السابقة، إنقاذ 5 أشخاص مقابل شخص واحد، ماذا ستفعل؟ هل ستدفعه من على الجسر؟ (خذ قرارك قبل الانتقال للسطور التالية).

تأتي إجابة الأغلبية معاكسة للسؤال الأول، فلا أحد يرضى بدفع الرجل البدين عن الجسر، رغم أن النتيجة واحدة! ماذا حدث لمبدئنا القائل بأن «إنقاذ 5 بدلا من 1»!

لماذا نجد صعوبة في تبرير القتل مقارنة بالإنقاذ؟

يبرر البعض موقفه بأن عدم إلقاء الشخص البدين سببه هو أن الرجل البدين لم يكن طرفا في المشكلة أصلا، وأننا قمنا بالاختيار بدلا منه بأن نلقيه من فوق الجسر لينقذ حياة غيره من الأفراد، وهو ما يفوق الموقف الأول إجراما. لكن يبدو أن الإجابة غير منطقية بعض الشيء، لأن العامل على الطريق الفرعي في الموقف الأول لم يكن متداخلا تماما مثل الرجل فوق الجسر ولم يختر أحدهم التضحية بحياته، لكنك أنت من اختار ذلك بدلا عنهما، فلماذا اختلف اختيار الأغلبية في الموقفين؟

يرى البعض أنه كان طرفا مباشرا في الموقف الأول فكان لابد له من الاختيار، أما الموقف الثاني فهو مشاهد فقط، لذلك لا يجب أن يضحي بحياة شخص آخر، لكن ما زالت الإجابة غير مقنعة بعض الشيء، لأن النتيجة واحدة في الموقفين، فكلاهما سيموت بلا ذنب!

النفعية

نتحدث هنا عن «التبرير الأخلاقي بناء على العواقب-Consequentialist». يرفض البعض التصرف –تحويل المقود- بسبب تحليلهم للتصرف ذاته لا عواقبه «Categorical»، فرفضوا قتل شخص بريء بهدف الحفاظ على حياة 5 أشخاص أبرياء أيضا لأنهم وضعوا التصرف في إطار محدد من الواجبات والحقوق التي لا يجب تجاوزها بغض النظر عن العواقب، ويمثّل «التبرير الأخلاقي بناء على العواقب-Consequentialist» مبدأ شهير يسمى «النفعية-Utilitirianism» والذي أوجده الفيلسوف السياسي الإنجليزي «جيرمي بنثام» في القرن الثامن عشر والذي يختلف معه «إمانويل كانط» الفيلسوف الألماني الشهير ممثلا للجهة الأخرى. [1]

تكمن قضيتنا في رفض بعضنا لتقييم الأفعال وفقا للعواقب فقط، ولكن صب الاهتمام على الفعل ذاته إن كان أخلاقيا من الأساس أو لا، حتى لو كانت عواقبها جيدة فهي ستظل تصرفات خاطئة.

جيرمي بنثام والنفعية

عرّف «بنثام» نظريته النفعية باعتبار أن التصرف الأصوب هو الذي يعمل على زيادة المنفعة إلى الحد الأقصى ويقصد بالمنفعة هنا هو الموازنة بين السعادة والمعاناة، فجميعنا نحب السعادة ونكره المعاناة، وبذلك سنسعى جميعا كأفراد وكمجتمع لزيادة السعادة إلى الحد الأقصى، أي أن «المصلحة الأكبر للعدد الأكبر من الناس». ولكن لنواجه في السطور التالية قضية حقيقة مثّلت تهديدًا لمبدأ النفعية الخاص بـ «بنثام».

قضية أكل لحوم البشر

نظر القضاء البريطاني في القرن التاسع عشر قضية مثيرة للاهتمام وهي تناقش كثيرا في كليات الحقوق، والتي تحكي باختصار نجاة بحارة يخت «مينيونيت-Mignonette» والذي غرق في جنوب المحيط الأطلسي عام 1884. [2]

يتكون طاقم المركب من القبطان «دودلي» و«ستيفنز» المساعد الأول، و«بروكس» بحارا ورابعهم الغلام «ريتشارد باركر» ذو الـ 17 عام، كان «ريتشارد» يتيما بلا أسرة وتعتبر هذه الرحلة أول رحلاته. ضربت اليخت عاصفة قوية فأغرقته، فهرب الطاقم كاملا في قارب صغير للنجاة ومعهم علبتين من اللفت المعلب بلا ماء عذب.

بقى طاقم السفينة أول 3 أيام دون أكل، ثم في اليوم الرابع فتحوا واحدة من علبتي اللفت وأكلوها، واصطادوا سلحفاة لتساعدهم على البقاء أحياء بالإضافة لعلبة اللفت الباقية لعدة أيام قليلة، وبعد ذلك ظلوا لـ 8 أيام بلا أكل أو مياه عذبة، فقام «ريتشارد» بشرب ماء البحر ليروي ظمأه بمخالفة نصيحة الطاقم ليرقد مريضا على سطحه بلا قدرة على الحراك، وبدا أنه على وشك الموت.

وفي اليوم التاسع عشر، اقترح القبطان «دودلي» القيام بقرعة لاختيار أحدهم ليموت ويأكله البقية ليتمكنوا من النجاة، ولكن رفض «بروكس» بشدة، وربما ذلك لخوفه على حياته. طلب «دودلي» في اليوم التالي من «بروكس» أن يشيح بصره بعيدا، ثم أمر «ستيفنز» أن يقتل الغلام، وفعل بخنجره، ثم أكل كل أعضاء الطاقم بما فيهم «بروكس» الذي عارض سابقا.

ظلوا على حالهم لـ 4 أيام يشربون دماؤه ويأكلون لحمه إلى أن ظهرت سفينة ألمانية أنقذتهم وسلمتهم للساحل الإنجليزي ليتم اعتقالهم وتسليمهم للمحاكمة، وتحول «بروكس» لشاهد بينما تم اتهام كلا من القبطان «دودلي» ومساعده «ستيفنز» بتهمة القتل، لكنهما بررا تصرفهما بأن الجريمة تمت وفق الحاجة الشديدة وتلخصت الحُجة في أن موت شخص واحد أفضل من موت 3 أشخاص!

يرى البعض أن التصرف سليم أخلاقيا بحُجة أن الحاجة عند تجاوزها حدود معينة تتحول إلى الضرورة الواجبة التنفيذ، فعند تعرضهم للظروف القاسية لمدة 19 يوم تستوجب قيامهم بفعل مشابه للحفاظ على حياتهم، طالما أن العواقب لمصلحة الأغلبية!

بينما يختلف آخرون معهم ويرونه تصرف غير سليم أخلاقيا بحُجة أن لا أحد يملك السلطة على حياة الآخرين، حكما على الموقف ذاته بغض النظر عن عواقبه!

الموافقة

لكن ماذا لو أن «ريتشارد» وافق على أن يموت في سبيل إنقاذ أفراد الطاقم طالبا منهم قتله؟ هل سيصبح الفعل مناسب أخلاقيا؟

يرفض البعض ذلك أيضا بحُجة أنه في حالة قتل «ريتشارد» فلا يوجد ضمانة على عدم تكرار نفس الفعل مع «بروكس» ثم «ستيفنز» ويطال القتل الجميع دون توقف، فلا أحد يعلم متى ستأتي السفينة!

وتحجج آخرون بأن أكل لحوم البشر هو فعل غير أخلاقي من الأساس ولا يجوز الدفاع عنه بأي حال!

القُرعة

ماذا لو تم إجراء قرعة وكانت نتيجتها قتل «ريتشارد»؟ هل القرعة تجعل قتله أكثر قبولا وتمثل فارقا جوهريا؟

قد تعتبر المشكلة في أن «دودلي» و«ستيفنز» قد قررا أن حياتهما أكثر أهمية من حياة «ريتشارد» وهنا تكمن الجريمة الأخلاقية في حقه، أليس كذلك؟ وقد يعتبر آخرون أن المشكلة تكمن في عدم أخذ موافقته وأن القرعة ستتسبب في إكراه أحدهم على أن يُقتل من أجل الآخرين، وبينما رفض آخرون قيام «ريتشارد» بالتضحية بنفسه حتى لو كان هذا هو اختياره باعتباره تصرف غير سليم أخلاقيا، وأن أي تعاطف مع «دودلي» و«ستيفنز» سواء بسبب عائلاتهم التي تنتظرهم في انجلترا وأطفالهم الذين سيتيتمون من بعدهم -«ريتشارد» لن يفتقده أحد لأنه يتيم- فتصرفهم غير سليم ولا بد من معاقبتهم وحجتهم هنا هي أن أي شخص يقرر قتل شخص آخر للتحسين من وضعه بأي شكل من الأشكال، فلا يختلف من يقتلك ليسرقك عن من يقتلك ليأكلك! وهي حُجة قوية ولها وجاهتها فعلا!

خطأ نفعية بنثام

هكذا ثبت خطأ مبدأ «بنثام» فوفقا له فإن طاقم السفينة لم يخطئ، وهو ما يرفض أن يتقبله الجميع حتى من وجد الحجج المبررة لتصرفهم، ليصمد رفض القتل رفضا مطلقا أيا كانت مبرراته أو أسبابه. ولكن دعونا نتعمق أكثر في ما وراء «نفعية بنثام»!

لماذا نرفض القتل؟ هل هناك حقوق أساسية لا يمكن حرمان الجميع منها حتى اليتيم «ريتشارد»! ولماذا؟

بالنسبة لمن تشجع لاختيار طريقة القرعة، فهل الطريقة العادلة تبرر أي نتيجة؟

ثالثا، بالنسبة لمن تأثر بفكرة موافقة «ريتشارد»، فما الدور الأخلاقي الذي ستضفيه الموافقة على العمل؟

المصادر

[1] Stanford Encyclopedia of philosophy
[2] Nytimes

هذه السلسلة مستقاة من محاضرات البروفيسور مايكل ساندل عن فلسفة العدالة في جامعة هارفارد

Exit mobile version