وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

في كتابه خلاصة القرن، يبدأ بوبر في حوار معه، بطرح مشكلة النظام الشيوعي وفلسفة ماركس التي بدأ بانتقادها في مراهقته. ومن ثم يحلل انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الشيوعية. ويتضمن الكتاب بعض من دراسات كارل بوبر حول دولة القانون ومشكلاتها المتعلقة بالحرية والمراقبة والتدخل. وكأنك قرأت خلاصة القرن لكارل بوبر حلقة من سلسلة وكأنك قرأت لتقديم أهم الكتب الفلسفية.

بوبر الفأر في فخ الشيوعية:

يروي بوبر بأنه كان يحلم دومًا بعالم يسود فيه السلام، خاصة في فترة مراهقته، حيث نظم قصيدة وآمن بأن الحق سينتصر والسلام سيتحقق، بحيث سيعود الجنود المحتلين إلى ديارهم. تأثر بوبر بخطابات تروتسكي بشكل خاص حول بناء عالم بلا عنف. ذات مرة ذهب إلى مقر الحزب الشيوعي وهناك التقى بأبناء الفيلسوف النمساوي رودولف إسلر (هانز، فريتي وجيرهارد) كان لهم مكانة بارزة في الحزب الشيوعي وعاملوه بلطف كما يروي. لم تمر فترة طويلة حتى بدأ بوبر يشك في الخطاب الشيوعي، خاصة بعد حادثة مقتل ستة شبان في مظاهرة للشيوعيين من قبل الشرطة في فيينا، شعر أنه يحمل جزء من مسؤولية قتلهم. قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره وجد أنه من الضروري نقد أطروحة ماركس والشيوعية.

بوبر ينتقد ماركس:

اعتقد ماركس أنه الرأسمالية وصلت إلى مرحلة بحيث هي نفسها صارت أزمة، لا مجال لإصلاحها بل يجب تدميرها. كما وجد ماركس بأنه ظروف العمال تزداد سوءًأ, غير أنه لم يرد تجريم الرأسماليين شخصيًا لطالما هم ضحايا النظام. حذر ماركس من “الشيوعية المبتذلة”. رأى بوبر أن أطروحة ماركس بعيدة عن الواقعين، واقع الرأسمالية وواقع الحزب الشيوعي. فالحزب دعم الشيوعية المبتذلة، حيث أن الرأسماليين شخصيًا يتحملون المسؤولية ويحب القضاء عليهم. ومن جهة اخرى يرفض بوبر كون الرأسمالية غير قابلة للإصلاح، كانت هناك إصلاحات جذرية حتى في زمن ماركس، ويبدو له أن ماركس بالغ في تقدير الرأسمالية وما يجب فعله، فالرأسمالية التي وصفها ماركس لم تكن سوى خيال شيطاني. وفي سياق آخر رأى بوبر أن ماركس بالغ في الاعتماد على الاقتصاد كآلة تفسيرية شاملة، فعناصر أخرى مثل الدين والمؤسسات لها دور كبير في تحديد شكل المجتمعات.

إقرأ أيضًا مفهوم الإنسان عند ماركس

انحطاط الاتحاد السوفيتي:

وفقًا لبوبر فأن حقبة خروشوف كانت هي بداية انحطاط الاتحاد السوفيتي، حيث لم يأخذ قادة السوفييت الماركسية بجدية سوى كاداة لبقاء النظام، أي فكرة تدمير الدول الرأسمالية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. يتحدث بوبر عن خروشوف ومحاولة القضاء على أمريكا من خلال الصواريخ النووية الهائلة التي ارسلها الروس إلى كوبا. كان العالم أمام كارثة عالمية غير أن الصواريخ لم تكن جاهزة كفاية لضرب أميركا، هكذا خسر السوفييت الرهان وأنهار النظام الشيوعي لأسباب عسكرية بحتة.

دولة القانون:

مع أن بوبر كان ليبراليًا، إلا أنه ينتقد بعض المبادئ الرئيسية في الدولة الليبرالية وأهمها السوق الحر وحرية التعبير. فلأجل بناء دولة القانون يجب أن تتدخل الدولة في السوق كما عليها مراقبة وسائل الإعلام. فالسوق الحر، بشكل أو بآخر يشجع السرقة والفساد، فضلًا عن التلاعب بآالية السوق. يرى بوبر أنه يتحتم وجود سوق حر دون تدخل الدولة. يضع بوبر قائمة من الأولويات لبناء دولة القانون:

  • السلام العالمي: أن تكون الأسلحة النووية بيد الشعوب المتحضرة لأجل تحطيمها والإحتفاظ بكمية قليلة فقط.
  • وضع حد للإنفجار السكاني.
  • التربية: يجب أن نربي الأطفال على اللاعنف، فهم غريزيًا ضد العنف، غير أن وسائل اللإعلام هي من تفسدهم لذلك ثمة حاجة للمراقبة من قبل الدولة. وفي حديثه عن الحرية يجد بوبر بأن الحرية المطلقة سخيفة لذلك يدعو إلى ضمان حرية الآخر، ذلك لأن الحرية المطلقة تكون تعسفية غالبًا بحيث تحرم الآخر من حريته. بذلك يتبنى مفهوم كانط للحرية “ما نحن في حاجة إليه هو مجتمع حيث حرية الفرد متعادلة مع حرية الآخرين، حريتي ليست متعادلة معك إلا عندما نرفض معًا استعمال العنف، أنا لا أضربك وأنت لا تضربني”. فالقاعدة في دولة القانون هي حمايتنا من الجريمة والعنف.

وفي حديثه عن دولة القانون، يدعو بوبر إلى التعاون مع الدين والمؤسسات الأخرى وخاصة التيارات غير المتشددة في الديانات المختلفة، ذلك لأنه يؤمن بأن الدين نفسه ليس مع العنف. كما يرى بأن الخطر الحقيقي يأتي اليوم من الوطنية، حيث هوية عرقية تدعي أنها الهوية الحقة، على الدولة حماية الأقليات وضمان حقوقهم لطالما أنه من المستحيل أن يكون لكل شعب دولة.

الكتب والديمقراطية:

في أثينا وابتداءً من عام 530 ق.م وجد أول سوق للكتب في التاريخ لبيع المخطوطات، خاصة الملحمتين الشهيرتين لهوميروس، الإلياذة والأوديسا. الذي أمر بتدوين قصائد هوميروس كان الطاغية بيزيسترات، كما هو من فتح المسارح. تحول الشعب الأثيني إلى شعب يقرأ هوميروس كأنجيل أثيني. بدأ الفلاسفة والكتاب مثل أناكساغوراس وهيرودوت يأتون إلى أثينا لنشر أعمالهم. فوفقًا لبوبر سوق الكتب يفسر الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلادي، هما حدثان مرتبطان. يقارن بوبر بين اختراع جوتنبرغ لآلة الطباعة وبين إنشاء سوق الكتب في أثينا، فسوق الكتب هو عامل مهم في بناء مجتمع يوناني ديمقراطي متطور فكريًا وأدبيا، وأختراع جوتنبرغ أدى إلى ثورة ثقافية وإزدهار في الفنون، وحسب بوبر فأن اختراع آلة الطباعة مرتبط بثورتي الإصلاح في إنكلترا عام 1648 و1688.

الديمقراطية ليست حكم الشعب:

وفقًا لأفلاطون هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسلطة:

الملكية: حكم رجل واحد

الأرستقراطية: حكم مجموعة من الأشخاص

الديمقراطية: حكم الشعب

كان يتسائل أفلاطون، إلى من يجب أن تعود قيادة الدولة؟ الأفضل حسب أفلاطون وحسب ماركس البروليتارية وقال هتلر أنا. يطرح بوبر المشكلة بشكل مختلف، هل توجد أشكال حكومة التي هي لأسباب أخلاقية جديرة بالعقاب؟ هل توجد أشكال حكومية تسمح لنا بالتخلص من الحكومة السيئة؟ هذه الأسئلة هي قاعدة الديمقراطيات.

يرفض بوبر أن تكون الديمقراطية سلطة بيد الشعب، ذلك غير ممكن، فهي بإختصار تساعدنا على التخلص من الدكتاتورية دون إراقة الدماء، سواء عن طريق الانتخابات أو البرلمان.

الحرية ودولة حد أدنى:

إن حماية الحرية مسؤولية مشتركة، نتشارك فيها جميعًأ، بمعنى أن حريتي عندما تبدأ يجب ألا تنهي حريتك, لذلك فأن الإسراف في الحرية يؤدي إلى التعسف والعنف. يعبر بوبر بشكل جميل عن ثنائية الحرية-الدولة بقوله: “نحن بحاجة إلى الحرية لمنع الدولة من التعسف في سلطتها ونحن بحاجة إلى الدولة لمنع تعسف الحرية”. يقترح بوبر وجود محكمة دستورية لمنع التعسف الناتج من الحرية.

كما يناقش بوبر آراء الفلاسفة هوبز، كانط، هامبلدنت وميل حول مفهومي الدولة والحرية. عند هوبز أن الإنسان من دولة سيكون ذئبًا لأخيه الإنسان. عند كانط الدولة عليها أن تضمن أكبر حرية ممكنة للفرد مع ضمان حرية الآخرين بنفس الدرجة. تبنى كل من ميل وهامبلدنت فكرة كانط، أي دولة حد أدنى. هذه الدولة مهمتنا الرئيسية هي الاعتراف بحقنا في الحرية والحياة ومساعدتنا على حماية حقوقنا. كما من مهمات الدولة الاهتمام بالفئات المستضعفة والشباب ومنع وسائل الاعلام من بث الاخبار الكاذبة.

الديمقراطية محكمة الشعب:

الديمقراطية هي النظام الأفضل بين الأشكال الأخرى للنظام، غير أن الديمقراطية ليست واضحة تمامًا. لطالما أن أغلبية الشعب تحدد الحكومة، فمن المحتمل أن تختار الأغلبية حكومة ديكتاتورية كما حدث مع هتلر. وفقًا لسقراط فالذي يحكم هو الذي يعرف نفسه والذي لا يعرف شيئًا، بمعنى أن اختيار الصحيح صعب جدًا. يقول بوبر أن الانتخابات التي يصوت فيها الشعب يجب أن تكون بمثابة معاقبة الحكومة المنتهية حكمها وليس إعطاء شرعية للحكومة الجديدة. فمن السهل جدا أن ينتخب الشعب حكومة دكتاتورية حيث الإنسان يصبح نصف إنسان. يحتار بوبر أمام مفارقة الانتخابات ويعترف بذلك. كما يحذرنا بوبر من الحكومة التي يشكلها اتلاف او كتلة من الاحزاب حيث لا أحد يتحمل المسؤولية، فوجود احزاب أقل يجعل من الحكومة تشعر بمسؤوليتها أكثر.

السلطة والمثقف:

المثقف يستطيع أن يفعل الكثير، فهم الذين يبدعون الأفكار ومن واجبهم أن يأتوا بما هو خير لمواجهة الأفكار الشريرة وخاصة التي تؤمن بها الجماعات المتطرفة. يأخذ بوبر على الفلاسفة الذين يستغلون الثغرات أو لأجل غايات شعبوية ويقومون بشيطنة النظام الغربي، الذي هو أفضل نظام في التاريخ. لا يعني بوبر بأنه نظام كامل، لكمنه يدعو المثقفين إلى قول الحقيقة وتغير ما يجب تغيره بدلًا من التمويه ونشر أفكار لا أصل لها.

مفهوم الإنسان عند ماركس

مفهوم الإنسان عند ماركس:

تمتلك الماركسية، كأي أيدولوجيا، ترسانة معرفية هائلة، غير أنها تعدو أن تكون تراكمات مفاهيمية في الكتب. في فترات طويلة جدًا سيطرت أنظمة قمعية على مساحات شاسعة من العالم تحت غطاء الماركسية وصور ماركس. لم يكن ماركس محظوظًا رغم كل هذا الاهتمام به، فتحول عند البعض إلى تجسيد شيطاني، وتم تفسير فلسفته من قبل البعض على أنها فلسفة مثالية وآخرون حملوه مسؤولية كل ما قامت به السلطات الشيوعية الاستبدادية. يقدم إريك فروم في كتابه “مفهوم الإنسان عند ماركس” تفسيرًا مغايرًا وموضوعيًا لأكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه في فلسفة ماركس.

أسباب تزييف مفاهيم ماركس:

يتساءل فروم عن الأسباب التي دفعت المجتمع الغربي لتكوين صورة مزيفة لفلسفة ماركس رغم تظاهره بالموضوعية والصدق في البحث. مفهوم “المادية” على سبيل المثال من أكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه. حيث يُعتقد بأن ماركس كان يؤمن أن الدافع السايكولوجي الأعظم في الإنسان هو ميله للكسب المالي دون إعطاء أي اعتبار للحاجات الروحية.

كما تم تفسير نقده للدين بوصفه نوعًا من العدمية الأخلاقية. راح هذا التفسير ليبين أن الماركسية هي فردوس من الأشخاص الذين تنازلوا عن فرديتهم وحريتهم ليعملوا مثل الروبوتات. يشير فروم إلى وجود بعض التناقض في هذه الرؤية الرأسمالية؛ حيث أن الرأسمالية تتهم تارة الماركسية بأنها مادية وتارة أخرى بأنها مثالية/غير واقعية.

يعرض فروم بعض الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة المعرفية دون ترتيب. أحدها الجهل وعدم العودة إلى كتابات ماركس وعدم ترجمة بعض من أعماله، خاصة (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية). وسبب آخر هو أن الشيوعيين الروس قد طبقوا رؤيتهم المحتقرة للفردية والقيم الإنسانية تحت غطاء مفاهيم ماركس. تصور الروس –على حد قول فروم- أن الاشتراكية ليست مجتمعًا مختلفًا إنسانيًا عن الرأسمالية، بل شكلًا من الرأسمالية الذي تحصل فيه الطبقة العاملة على مكانة اجتماعية أرقى. كما كانت هناك أسباب غير عقلانية وراء ذلك التحريف، مثل العداء الثقافي المتجذر في العلاقة الروسية-الغربية.

مفهوم المادية:

إن المادية ببساطة هي المنهج الذي اعتمد عليه ماركس في تحليله للوجود الإنساني. جاءت مادية ماركس لمواجهة المثالية الألمانية والمادية البرجوازية الميكانيكية. فالمثالية المتمثلة بهيجل تفترض مقدمًا روحًا مطلقة أو مجردة، تتطور بحيث لا يكون الإنسان فيها سوى كتلة لحم تحمل هذه الروح. أما المادية البرجوازية فهي مادية استاتيكية جامدة، ترجع كل مظاهر الحياة الإنسانية الروحية والعاطفية إلى عمليات فسيولوجية في الجسم. حسنًا، ما هي مادية ماركس؟

مادية ماركس تتميز بطابع الصيرورة والديناميكية، بحيث تركز على علاقة الإنسان بالطبيعة. لفهم ذلك، يجب أن نفهم أنه لدى الإنسان غرائز ثابتة وأخرى نسبية، الأخيرة نابعة من تنظيم اجتماعي معين. أما الغرائز الثابتة هي التي تحتاج التركيز. يحتاج الإنسان إلى المأوى والطعام والجنس… إلخ، فيستدعي ذلك أن يقوم الإنسان بعملية الإنتاج، لإنتاج ما يحتاجه. وليس الإنتاج نفسه هو المهم، إنما إسلوب الإنتاج، لأنه يحدد كينونة الإنسان وأفكاره.

يقول ماركس: إن شروطًا اقتصادية محددة، كتلك الموجودة في الرأسمالية، تخلق كحافز رئيسي الرغبة في المال والملكية. بينما نجد أن أوضاعًا اقتصادية أخرى تولد رغبات معاكسة تمامًا، كالزهد واحتقار الثروة الدنيوية كما هو ملاحظ في كثير من الثقافات الشرقية.

مفهوم الوعي:

يعد مفهوم الوعي من المفاهيم المتشظية في تاريخ الفلسفة، وغالبًا ما يُنظر إلى الوعي ككيان مستقل ومتعال. لكن ماركس يضعه في سياق العملية الإنتاجية. فالوعي الإنساني الجمالي والقانوني والسياسي والأخلاقي يحدده أسلوب الإنتاج الذي يتبعه. إن إنتاج الأفكار متمازج بشكل مباشر مع الفعالية المادية ومع علاقات البشر المادية. لكن يجب أن نفهم أن الوجود الإنساني ليس بوجود سلبي، فالإنسان في علاقة إيجابية مع الطبيعة؛ أي الظروف الخارجية. يقول ماركس أن الإنسان هو من يصنع وجوده من خلال العمل، أي فعالية علاقتنا مع الطبيعة. إن توافق عملية تغيير الظروف مع الفعالية الإنسانية أو التغيير الذاتي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه ممارسة ثورية.

اقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

مفهوم الاغتراب:

يؤكد ماركس دومًا على أصالة علاقة الإنسان بالطبيعة؛ أن الإنسان يحوز كينونته الفعالة من خلال تفاعله الإيجابي مع الطبيعة. إن الإنسان يصنع نفسه في تلك العلاقة في سياق التاريخ. إلا أن مفهوم الإنسان لا يمكن فهمه بمعزل عن إشكالية الاغتراب.

يقوم فروم بمقاربة مثيرة بين مفهوم الاغتراب عند ماركس ومفهوم الوثنية. تعني الوثنية عبادة الإنسان وخضوعه لشيء أو كيان قام هو نفسه بصنعه، عبادة التماثيل على سبيل الذكر. الإنسان حين يخلق شيئًا ما، فبدلًا من أن يمارس ذاته كفرد خالق، فإنه يكون في حالة تواصل مع ذاته عبر عبادة ذلك الشيء، أي الوثن.

وتمثل اللغة شكلًا من أشكال الاغتراب المعقدة عند ماركس. إن اللغة تحول الكلمة من علامة لغوية دالة إلى شيء قائم بذاته، فعندما أقول (أحبك) فهذه الكلمة تمتلك حياتها الخاصة، فحينئذ نهتم بفكرة الحب التي انبثقت من اللغة بدلًا من الاهتمام بحدث الحب نفسه. رغم الاعتبار العظيم للغة في فلسفة ماركس إلا أنه يحذرنا من خطر أن تكون بديلًا عن التجربة الحية.

كما أن الاغتراب قد يتجلى في مواضيع فنية وأدبية وفكرية، فيمكن أن نذعن لنص شعري أو لوحة فنية أومفهوم إلى حد الاغتراب عن ذواتنا.

لنفهم مفهوم الاغتراب علينا البحث في مسألة العمل، فتجربة العمل هي التجربة الأهم بالنسبة لماركس في تحقيق الانسان لذاته الفردية أو لذاته الكونية، أي تمثيله للنوع الإنساني. بيد أن تجربة العمل باتت تجربة مغرَّبة في عصر الرأسمالية. تحت شروط الإنتاج الرأسمالي يُقصى الإنسان عن قواه المبدعة كما أن الأشياء التي انتجها هي التي تتعالى عليه وتتحكم به.

ثمة سوء فهم شائع حتى بين الاشتراكيين، فلم يدعو ماركس إلى التساوي في الدخل أو أن يحصل العامل على أجر أعلى بل دعا إلى تحرير الإنسان من ذاك النوع من العمل الذي يدمر فرديته، والذي يحوله إلى شيء ويجعله عبدًا للأشياء.

العمل المغرِّب هو الذي ينزل بالإنسان إلى مستوى الآلة أو أقل، حيث يفقد الفرد رغبته في العمل ويشعره بالبؤس. ولأن العلاقة الانتاجية هي محرك تاريخ تحقيق الإنسان لذاته، فالاغتراب لا يكون واقعة طارئة في زمن العمل ومكانه بل يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وأخيه الإنسان وعن الطبيعة.

الاشتراكية والحرية:

الصورة الرسمية للاشتراكية في الفضاء العمومي العالمي هي صورة لمجموعة كبيرة من الأشخاص البائسين يعملون تحت مراقبة شديدة. ساهم الاعلام الرأسمالي في تقديم تلك الصورة، كما عملت سلطة ستالين على ترسيخها في مخيلة الناس. بيد أن الاشتراكية التي دعا ماركس إليها مختلفة عن تلك الصورة والتأويلات الشائعة. إذن ما هي الاشتراكية؟

الاشتراكية هي المجتمع الذي يعمل فيه الأفراد بطريقة مشتركة، لا تنافسية، بطريقة عقلانية وغير مغرَّبة. يقول الفيلسوف باول تيليش بأن الاشتراكية هي حركة احتجاج ضد تدمير الحب في الواقع الاجتماعي.

الحاجات في المجتمع الاشتراكي:

إن الاشتراكية وفقًا لماركس هي المجتمع الذي يلبي حاجات الفرد الإنسانية، لكن مفهومه للحاجات فيه بعض التحديد. ثمة حاجات زائفة وأخرى حقيقية، الحاجات الزائفة تؤدي إلى الاغتراب في حين الحاجات الحقيقية تؤدي إلى تحقيق الفرد لجوهره. ما يميز حقيقة الحاجة عن زيفها هو طبيعة الإنسان، بعكس المجتمع الرأسمالي الذي يخلق كمية هائلة من الحاجات الزائفة، فإن الاشتراكية هي تحقيق حاجات حقيقية وأصيلة.

هدف الاشتراكية:

إن هدف الإشتراكية هو الإنسان، إنها تهدف إلى خلق نمطًا من الإنتاج، ونظامًا للمجتمع، يصبح فيه بإمكان الإنسان قهر الاغتراب عن نتاجه، وعن عمله، وعن أخيه الإنسان، وعن ذاته وعن الطبيعة. والاشتراكية ترفع شعار التصالح والانسجام مع الطبيعة وليس السيطرة عليها واستغلالها لأجل فائدة أكبر كما هي حال الرأسمالية.

الحرية:

يتخيل الناس –ولهم مبرراتهم- المملكة الاشتراكية على أنها الجانب المقابل للحرية، أي استحالة الحرية. في حين أن الاشتراكية تهدف إلى مجتمع حر وإنسان حر. الحرية هنا هي أن يبني الأفراد علاقة عقلانية مع الطبيعة، وأن يتعاملوا مع ثرواتها بشكل مشترك، بدلًا من أن يكونوا محكومين بها كقوة عمياء. كتب ماركس في (رأس المال): “عهد مملكة الحرية لا يبدأ، حتى تنقضي المرحلة التي يكون فيها العمل القائم على قسر الضرورة والمنفعة الخارجية متطلبًا”.

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

تثير حول بدايات الفلسفة الكثير من التساؤلات الجوهرية، خاصةً فيما يتعلق بهوية الفلسفة وإشكال الأصول والمصادر الرئيسة. إلا أن الرابط الكائن بين الفلسفة والعلم يعد من أبرز الجوانب التي تحتاج إلى الإحاطة والتحليل؛ فالفلسفة لم تقدم علمًا إنما عاشت لحظات علموية. إحاطتنا بتلك اللحظات من شأنها أن تكون منعطفًا أنطولوجيًا، إذ أن علاقة العلم بالفلسفة لا تنكشف بالتناول التقليدي المألوف. تجربة فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس, إذا ما حررناها من الإطار التاريخي ستساعدنا لأن نقترب من التوتر الموجود بين الفلسفة والعلم. مؤرخو العلم يركزون على تلك العلاقة الحميمة في اللحظات التي تجلى العلم بمفرده في القول الفلسفي. بينما مؤرخو الفلسفة يقدمون الفلسفة بوصفها الكينونة الأم للعلم والمعرفة، يتعاملون مع العلم على أنه الابن الضال للفلسفة. نحاول في هذا المقال أن نبين التواصل الدائم بين مسطحي المحايثة والمرجعي (على حد تعبير دولوز).

حول الفيلسوف الضاحك ديمقريطس

يُعرف عن ديمقريطس بأنه كان يثمن الابتهاج والسعادة في الحياة؛ فسُمي بالفيلسوف الضاحك. حسب بعض المصادر, ولد ديمقريطس في عام 460 ق.م. في أبديرا. بينما تزعم مصادر أخرى بأنه ولد في عام 490 ق.م. في مدينة ملطية-ميليتوس (ونيفري). حسب المصادر الموثوقة، كان قد سافر كثيرًا إلى الشرق، وعاش لفترة طويلة في مصر وبلاد الفارس قبل أن يعود إلى أبديرا. ولنعرف أكثر عن سيرته الفلسفية لا بد أن نشير إلى ثلاثة محاور هامة في حياته. (1)

علاقة ديمقريطس مع الموروث

كان يافعًا عندما كان انساغوراس شيخًا، بهذا فهو يعد بمثابة حلقة وصل بين ما يسمى بالفلسفة القبسقراطية والأفلاطونية. فمذهبه الذري فيه الكثير من روح الموروث وفيه ما يكفي من التحديث ليؤثر على الفلاسفة اللاحقين مثل أبيقور.

السفسطائية

إن حركة السفسطائية تعد من الحركات المثيرة للجدل والاعجاب في تاريخ الفلسفة، نظرًا لانتقاداتها اللاذعة بوجه الموروث الإغريقي الروحي والتقليدي الفلسفي. فهي التي أسست للعدمية البدائية والنسبية الأخلاقية على نحو واسع، بحيث تبرز في سياق مختلف تمامًا من السياق الفلسفي الإغريقي. ونظرًا لأنها كانت أكثر شعبية وتأثيرًا في المجتمع الإغريقي فمن المستحيل ألا يكون لهم تأثير بالغ في فلسفة ديمقريطس. اقرأ أيضًا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

أفلاطون وسقراط

يتبين من معظم المصادر بأنه كان قد عاصر سقراط, علاقته مع سقراط غير واضحة, لكن اهماله من قبل أفلاطون قد يكون نتيجة وجود توتر حاد بينهما. يذكر المؤرخ ديوجين لاتيريوس بأن أفلاطون كان يكرهه كثيرًا ويتمنى ولو تُحرق كل كتبه. من النادر أن نجد أي فيلسوف غفل عنه أفلاطون في محاوراته، لكنه لم يذكر ديمقريطس ولو لمرة واحدة.

فيزياء ديمقريطس

مع أن الفلسفة بدأت من خلال فك ارتباط التفكير بالأسطورة, غير أن التفكير اللاهوتي او المنطق اللاهوتي ظل سائدًا. حتى فلاسفة الصيرورة احتاجوا إلى عنصر ميتافيزيقي وعزوا إليه الأصول، لكن مع ديمقريطس حدثت قفزة نوعية. كانت الصيرورة عند الملطيين وهيراكليطس تبدأ من الاصل الميتافيزيقي نحو ظلال الطبيعة. وهناك فلاسفة وقعوا في أسر اشكال الصيرورة وقالوا بأن التغير يستدعي وجود العدم، والعدم يستحيل أن نقول فيه شيئا أو أن نفكر فيه.

استطاع ديمقريطس أن ينفي ادعاء بارمنيدس من خلال تقديم مفهومين مهمين وهما الذرات والفراغ. الذرات هي اللبنات الأساسية في كل تكوين, بما في ذلك تكوين النفس البشرية, وهذه الذرات تتحرك في الخلاء/الفراغ. كما يقول راسل، فان الطرح الديمقريطي أقرب إلى البحث العلمي, ذلك لأنه اراد أن يفسر العالم دونما حاجة إلى فكرة العلة الغائية أو السببية (2).

إن التفكير الغائي لا يتوقف في ارجاع كل شيء إلى شيء سابق له ومن ثم يطرح الشيء -الله- الذي يغير ولا يتغير. إلا ان ديمقريطس فكر كما يفكر عالم, قال ببساطة أن الأشياء جميعها تتغير لأن الذرات تغير اماكنها.

إن الذرات هذه يستحيل فناؤها، فهي كانت منذ الأزل وستظل إلى الأبد في حركة دائمة، وهناك عدد لا نهائي من الذرات (3). إن الذرات تتصادم وتتنافر وتترابط مع بعضها لتشكيل الأجسام. فوجود أشياء متغيرة ومتباينة ما هو في الأصل إلا اختلاف في الارتباط بين الذرات (4).

في الأخلاق والسعادة عند ديمقريطس

عكس نظريته الفيزيقية, لا تتمتع أخلاقيات ديمقريطس بوجود نسق فلسفي أصيل, فهي على الأغلب ملاحظات عامة حول السعادة. يشير ديمقريطس إلى الحتمية المتأصلة في الطبيعة، فيقول: الضرورة عينت سلفًا كل الأشياء الكائنة والتي تكون والتي ستكون. إذا ما طبقنا فكرته هذه على حقل الأخلاقيات فأننا سنكون أمام معضلة أخلاقية ووجودية كبيرة، فإذا ما كانت سلوكيات الإنسان محكومة بالحتمية فأنه لا يتحمل مسؤولية افعاله. وفقًا للسفسطائية فأن السلوكيات ايضًا جزء من العالم الجاري, لذا فأنها تؤسس لعدمية أخلاقية, لكن ديمقريطس بدلًا من أن يورط نفسه مع العدمية فضل أن يناقض نفسه.

تشكل الصدفة في مبحث الأخلاق أهمية بارزة، وكأنها الفسحة التي يستطيع الإنسان التنفس منها, ويمارس حريته، فهو يقول في الصدفة بأنها تمنح الهبة العظمى للأمل (5). كما هي الحال مع أبيقور فأن ديمقريطس يضفي على الأخلاق صفة القصدية، ذلك لأن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها إنما تهدف إلى بلوغ السعادة.

إن مفهوم السعادة عند ديمقريطس غير واضح تمامًا, يعتقد البعض أن السعادة الديمقريطية هي نفسها السعادة الأبيقورية , بينما يشير آخرون إلى عكس ذلك. فكما يقول المؤرخ ديوجين فأن السعادة ليست هي اللذة ولكنها حالة تحيا فيها النفس بهدوء وأمان غير مزعجة بالخوف والخرافة. يؤكد ديمقريطس في شذرة بأن نفس الشيء خير وحقيقي بالنسبة للجميع لكن اللذة تختلف من فرد لآخر. (6)

ولإحاطة أكبر بمفهوم السعادة لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين: السعادة حالة عقلية معرفية وليست حالة جسدية كما هو الوضع مع الأبيقورية. إن ما يمنح السعادة هو نفسه ما يمنح الجمال فيقول عن ذلك: اللذات العظيمة تشتق من التأمل في الأعمال الجميلة. (7)

فضلًا عن الجانب الجمالي للأخلاق فثمة صفة أخرى ملاصقة بالنظرية الأخلاقية ألا وهي العلم, فأننى نسعى إلى الجميل أي إلى السعادة من خلال التعليم والمعرفة. تأكيدًا على ذلك يقول: الجها بالأحسن هو علة الفعل الخاطئ.

طريق المعرفة عند ديمقريطس

لم يُحسم النقاش حول تحديد النسق المعرفي في فلسفة ديمقريطس, لا يعود السبب إلى نقص المصادر إنما إلى التنوع التأويلي. يصنفه أرسطو كفيلسوف ظاهري, بينما سكستوس يعتبره شكوكيًا في حين يعد فيلسوفًا حسيًا وفقًا لثيوقراسطوس.

يقول ديمقريطس في إحدى شذراته:

“على المرء أن يتعلم بأن وصول الحقيقة مستحيل”.

هذا الطرح يتطابق مع المقترب السفسطائي الأبستومولوجي, كما يؤمن مثل السفسطائيين بالصيرورة المعرفية ومبدأ الاتفاق. يقول في شذرة أخرى “نحن لا نعلم شيئا حقيقيًا عن أي شيء فكل رأي في حالة التغيير”.

ويمكننا أن نجانب أرسطو في تفسيره, فقوله في التغيير لا يعني غياب أي ثابت أو جوهر كما هي حال السفسطائية. إنه لا يقصي الحقيقة بل يعتبرها متوارية في اعماق الشيء/الظاهرة, وظاهر الشيء يقدم بعض المعطيات للعقل بحيث المعرفة من دونها غير ممكنة. فالحواس/التجربة هي بداية المعرفة لكنها ليست كلها, وهذا ما يؤكده كانت ايضًا.

كما يمكن اعتباره فيلسوفًا عقليًا لتأكيده على دور العقل الفاصل في العملية المعرفية, فهو يربط السعادة بالعقل وكذلك المعرفة.

مستويات المعرفة

وفقًا لسكستوس، للمعرفة مستويين عند ديمقريطس:

  • المعرفة غير الشرعية: وهي المعرفة التي نحصل عليها من الحواس, فهي غير شرعية لأن الحواس لا تستطيع أن تتعدى صفات الشيء والتي هي في الأساس خبرات حسية ولا وجود لها حقيقة. على سبيل المثال, نقول عن شيء ما بأنه مالح, فالملوحة نفسها غير موجودة في كيان الشيء.
  • المعرفة الشرعية: وهي المعرفة التي يقدمها العقل؛ لقدرته على تجاوز ظاهر الشيء إلى باطنه وجوهره.

لا ينكر ديمقريطس دور الحواس كما ذهب بعض الفلاسفة، لكنه لا يتمسك بها ايضًا، فهو يبين التواصل الموجود بين العقل والحواس. ذلك التواصل يؤدي إلى المعرفة، فأن الحواس تكون بمثابة بوابة العقل، فهو يستقبل منها المعطيات الرئيسة لتكوين معرفة صادقة وسليمة.

مكانة ديمقريطس في الفلسفة

ثمة الكثير من الآراء المتباينة حول فلسفة ديمقريطس، يعتقد البعض بأنه قد استلم نظريته من لوقيبوس وهناك من يؤيد أصالته. ما يهم هو أنه قاد حركة علمية أصيلة في الفلسفة اليونان القديمة، فهو الذي رفع الغطاء الميتافيزيقي عن العالم. حتى وإن لم نستطيع أن نقول بأن ديمقريطس هو فيلسوف الذرة الأول فيستحيل إقصاء فلسفته فهي فلسفة رائدة في إيقاظ وتنشيط التفكير العلمي.

قدم ديمقريطس نظرية متماسكة حول بنى الطبيعة، وقدم بعض الحكم والملاحظات الأخلاقية حول السعادة. كما أن نظرية الأبستومولوجيا لديه تمتاز بدقة علمية وفلسفية مميزة. فضلًا عن ذلك اسهاماته في علم الاجتماع وأصل المجتمع والدولة واللغة وأثرت في الأبيقورية وتركت بصمة مهمة في فلسفة ماركس، فقد كان موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه.

المصادر:

  1. https://www.universetoday.com/60058/democritus-atom/
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية, الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية 2010, ص128.
  3. نفس المصدر, ص127.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/democritus/
  5. علي سامي النشار, ديمقريطس, الهيئة المصرية, ص106.
  6. نفس المصدر, ص109.
  7. نفس المصدر, ص103.

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

حين نلقي نظرة في تراثنا المعرفي، نستسلم لغبطة كبيرة لما بين أيدينا من كتب استطاعت الصمود لأكثر من ألفي عام. لا يزال بإمكاننا تسجيل حضورنا في بلاد أوروك لنقرأ كلكامش، ونسير مع سقراط في أثينا وهو يجادل الفلاسفة والسفسطائيين. أثرت تلك الكتب بشكل رهيب في واقعنا الثقافي، غير أن النظرة لو طالت سيأخذنا الحزن بعيدًا. ملايين الكتب كان مصيرها الفناء بسبب حروب سياسية ودينية وعوامل بيئية، فالكثير من الأسماء اختفت من ذاكرة التاريخ. كان أبيقور قد ألف 300 كتابًا، لم يصلنا منها سوى بعض الشذرات والرسائل. المصدر الأكثر أهمية في فلسفة أبيقور بين أيدينا الآن هو قصيدة لوكريتوس (حول الطبيعة). في هذا المقال سنسلط الضوء على ثلاثة مباحث من فلسفة أبيقور.

لمحة عن أبيقور ومدرسته

ولد أبيقور في (ساموس – Samos) عام 342 ق.م من عائلة فقيرة جدًا. وفي ساموس كان قد استمع إلى فيلسوف أفلاطوني يدعى (بامفيلوس – Pamphilus)  وبعد ذلك إلى (نوزيفان – Nousiphanes) من أتباع ديمقريطس(ص 535 تاريخ). إلا أن أبيقور يتباهى بأنه طفق يتفلسف وهو في الرابعة عشرة من العمر(1).

أسس أبيقور مدرسته عام 306 ق.م (311 حسب راسل) تزامنًا مع تأسيس المدرسة الرواقية. بينما سارت الرواقية تتطور في مذهبها الفلسفي في طريق طويل من مراحل التطور(2)، بقت المدرسة الأبيقورية قائمة نحوًا ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله ولم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة ولا غيروا من آرائه (3).

لم يكن أبيقور يمثل مؤسسًا لمدرسة حاله حال زينون وحسب. ففي حين نجد في الرواقية من تجاوز بداياتها على نحو ديمقراطي وأضاف عليها، كان أبيقور يمثل شخصية مقدسة بالنسبة لأتباعه. بعد مرور مئتي سنة من وفاة المعلم وصفه لوكريتوس بالإله في أبيات شعرية:

(كان إلهًا، أجل إلهًا، فهو أول من اكتشف ذلك الاسلوب في الحياة الذي يقال له اليوم الحكمة، وهو من نجانا بفنه من عواصف عاصفة ومن ليل دامس وجعل حياتنا تدور في هدوء وضياء عظيمين.(4).

وكما كان بسيطًا في فلسفته، كان بسيطًا جدًا وهو يواجه الموت، ففي اليوم الأخير له في الحياة كتب لأحد اتباعه: “أكتب إليك في نهاية يوم سعيد من أيام حياتي، فأوصابي لا تفك طوقها عني وما عاد في مقدورها أن تزيد عما هي عليه؛ كل ذلك أقابله بفرح الذي أسكنته في نفسي ذكرى مناقشتنا الماضية.(5)

إقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

أصل المجتمع:

إن النظرية التي يفسر فيها أبيقور أصل المجتمع واللغة والدين والقانون والملكية قريبة جدًا من الطرح الماركسي حول هذه المسائل.

في البداية، كان يعيش البشر في عزلة ويتكاثرون عشوائيًا، وما كان بإمكانهم أن يتواصلوا لفظيًا ولا كانت لهم مؤسسات إجتماعية. ويعزو أبيقور نجاة الإنسان من ويلات الطبيعية إلى القوة الجسدية الجبارة التي امتلكها عصرئذ، حيث كان في صراعات مستمرة. بفضل اكتشاف النار وظهور الأسرة والمشاعر الحارة تجاه الأزواج والذرية خفت حدة الصراعات تلك. في المرحلة هذه كان البشر في وضع يسمح لهم بالإتحاد ليكونوا في مأمن من أخطار الطبيعة كالوحوش البرية. فقاموا بتطوير أنواع مختلفة من المهارات التقنية، مثل الزراعة، بناء المنازل وكذلك اللغة.(6)

أن الأسماء في البداية نشأت بشكل طبيعي، بحيث كلما تعرض الإنسان إلى مثير من المثيرات، اطلق صوتًا معبرًا له. ونظرًا لإختلاف خصائص الإنسان الفيزيائية من بيئة لأخرى اختلف الاصوات التي انتجها الإنسان إستجابة للمثيرات، وذلك يعلل وجود لغات مختلفة. والنقاشات النظرية أدخلت مفردات جديدة في اللغة حتى وصلت لحالة متقدمة وهذا ما ساعد الناس في تكوين صداقات وتحالفات جديدة مما حقق المزيد من الأمن الإجتماعي.(6)

لم تكن هناك منافسة على السلع بعد، وبالتالي لم تكن هناك هناك صراعات وحروب. ومن جهة أخرى كانت المفردات اللغوية ما زالت تتوافق مع موضوعاتها البدائية ولم تكن بعد مصدرًا للإرتباك العقلي. ولكن بفضل التراكم التدريجي للثروة ، جاء الصراع على السلع ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ، وظهر ملوك أو طغاة حكموا على الآخرين ليس بحكم قوتهم الجسدية ولكن بفضل الذهب. تم الإطاحة بهؤلاء المستبدين بدورهم، وبعد فترة من الفوضى العنيفة، وجد الناس أخيرًا حكمة العيش في ظل حكم القانون.(6)

الأخلاق:

حالها حال الرواقية، تختصر الأبيقورية الفلسفة في الأخلاق، وتعتبر الأخلاق كممارسة حياتية سليمة للوصول إلى حياة سعيدة خالية من الألم. يترتب على ذلك ابتعاد المدرسة هذه من كافة أشكال التعقيد وإبعاد الآلهة والتصورات الميتافيزيقية والمفاهيم المجردة عن الحالة الإنسانية.

تدور الأخلاق الأبيقورية حول فكرتين محوريتين: اللذة و(الطمأنينة-Ataraxia)، بشكل، تكون الطمأنينة تابعة للذة التي هي غاية. غائية اللذة وضعت الفلسفة الأبيقورية في مرمى الانتقادات ابتداءًا من الرواقية إلى يومنا هذا، فاللذة كانت ولا زالت قرينة الشر. غير أن أبيقور كان قد برر موقفه: “عندما نقول أن اللذة غاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والمجانين”(7).

يجعل أبيقور من الرغبات مراتب؛ فهناك الطبيعية والضرورية كالرغبة في الاكل، وهناك طبيعية وغير ضرورية كالرغبة في نوع معين من الطعام، وهناك رغبات لا هي طبيعية ولا ضرورية كالرغبة في تاج أو تمثال. والحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإشباع النوع الأول من الرغبات. (7)

وحول علاقة اللذة بالسعادة والخير يقول أبيقور: “إننا نؤكد أن اللذة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرفنا على ذلك على أنه الخير الأول، الفطري فينا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه”(8).

وكون اللذة غاية لذاتها، لا يعني أن الفضائل الأخرى ليس لها أي اعتبار بل أن اللذة متجذرة فيها. فيقول عن ذلك: “ليس من الممكن أن نعيش في سعادة دون أن نعيش على نحو شريف، وعادل وحكيم، كما لا يمكن أن نعيش على نحو شريف وعادل وحكيم دون أن تكون سعيدًا. فالرجل العادل هو أكثر الناس تحررًا من القلق والإنزعاج، أما الرجل الظالم فهو فريسة دائمة لهذا القلق والإنزعاج”(9).

الميتافيزيقيا:

كان أبيقور شديد الحذر من إدخال دور الآلهة في فلسفته وشؤون الناس، لكنه درس ظاهرة الدين ووجود الآلهة دراسة دقيقة. فسر السلوك البشري البدائي وعلاقته بظهور الحالة الدينية وتطورها. فالظواهر الطبيعية كالرعد والبرق تُفسر على أن الآلهة غاضبة على خطايا البشر، في حين أن الناس البدائيين في مراحل ما قبل ظهور المجتمع رغم شعورهم بالرعب إزاء الظواهر الطبيعية وتفسيرهم لها بأنها من صنع الآلهة لم يحسبوها كعقوبة. رغم أن موقف أبيقور من الآلهة غير واضح لكنه أقرب إلى بروتوغوراس، فهو ينفي تدخل الآلهة في شؤون البشر.(6).

بسبب موقفه الحاد من الآخرة والعناية الإلهية وخلود النفس وعقاب الآلهة، كان يتم إتهامه بالإلحاد. أن أبيقور لا ينفي وجود الآلهة، لكن يضعها في عزلة تامة عن البشر وحياتهم. الآلهة كما يتصورها أبيقور، مختلفة عن المفهوم الشائع، فهو يقول بأن الآلهة خالدة في الفضاء البعيد ولا تهتم بأمرنا.(10)

نجد أن هذا الاهتمام الذي يعطيه أبيقور للآلهة آت عبر تفسيره الرئيس للألم ومشكلة اجتناب الخوف. يرى بأن الدين والخوف من الموت هما من أكبر مصادر الخوف، وهما متصلان أحدهما بالآخر. فالدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء. أما أبيقور يجد في تدخل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع وأن الخلود يقضي على كل أمل في النجاة من الألم.(11)  

الخلاصة:

إن المدرسة الأبيقورية استمرت لستة قرون إلا أن روح المذهب بقت كما هي، وظل التلاميذ يدافعون عن نظريات المعلم المبارك. هذه المدرسة يمكن القول بأنها مطبخ  السعادة البشرية، فهي لم تخوض معاركها في تخوم المنطق والرياضيات والمعرفة الخالصة. قالت قولها في الحياة ببساطة مفرطة، إن الحياة السعيدة هي تحقيق اللذة وتثبيط الألم، واللذة تكون في أبسط صورها. هذه اللذة مثلت الخيط الذي يربط كافة المباحث ببعضها، لا سيما المباحثة الثلاثة الرئيسة في فلسفة أبيقور.

المصادر:

  1.  امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص94.
  2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة 2010، ص375.
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص182.
  4. اميل برهييه، مصدر سابق، ص96-97.
  5. نفس المصدر، ص 124.
  6. https://plato.stanford.edu/entries/epicurus/#SociTheo
  7. اميل برهييه، مصدر سابق،ص110.
  8. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص542.
  9. نفس المصدر، ص544.
  10. https://iep.utm.edu/epicur/#SH3e
  11. برتراند راسل، مصدر سابق، ص382.
Exit mobile version