كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

تُعتبر إشكالية الوعي من أعقد الإشكاليات العلمية. رغم أننا كبشر نختبر الوعي ونعرفه بطبيعتنا، إلا أن تفسيراتنا الفلسفية والعلمية في مجال الوعي ما زالت مبتدئة. ففي حين اعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الوعي حقيقة بديهية وصافية ندركها بالعقل، إلا أن مفهوم الوعي ما زال غامضًا وما زلنا بعيدين عن فهم تفسير مفهوم الوعي وأسبابه العلمية. فما هو تعريف الوعي؟ وكيف تناول الفلاسفة هذا المفهوم المعقّد ؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع الوعي والفلسفة؟

مفهوم الوعي وتعاريفه المختلفة

نستخدم كلمة “وعي” ومشتقاتها في حياتنا اليومية لنعبّر عن مفاهيم مختلفة (فنقول مثلًا فقد فلان وعيه أو لم أكن واعيًا،…). لذلك يسمّي الفلاسفة الوعي بـ«المفهوم الشعبي – Folk concept»، أي أنه متجذّر في اهتماماتنا اليومية ونابع منها.

ولكن الملفت أيضًا هو أن استخدام كلمة الوعي لا يرد في سياق واحد، أي أنها تحمل معانٍ مختلفة.

المعنى الأول للوعي هو «الإحساس –Sentience  »، أي الإدراك الحسّي والقدرة على التفاعل مع المحيط.  ويُستخدم مفهوم الوعي أيضًا بمعنى «اليقظة – Wakefulness»، فنعتبر أن الكائن واعي بمجرّد أنه غير نائم أو مخدّر، ويكون الوعي بهذا المعنى حالة من حالات الحياة العقلية التي نحظى بها.

أما المعنى الثالث للوعي هو ما يسمّيه الفيلسوف الأميركي «نيد بلوك – Ned Block» بـ«الوعي الوصولي –Access consciousness » وهو ببساطة الأفكار التي تدور في رأسنا في لحظة معينة، وتتفاعل مع بعضها وتؤثر بشكل مباشر على سلوكنا. وقد اعتقد الكثيرون قبل القرن العشرين أن كل أفكارنا متاحة لوعينا، غير أن المدرسة التحليلية في علم النفس التي تأسّست على يد فرويد بيّنت أن الأفكار والسلوكيات الواعية ليست إلا جزءًا صغيرًا من حياتنا العقلية والنفسية، وهي تخبئ الكثير من الأفكار والعواطف اللاواعية والتي تؤثر بشكل لاواعٍ على تصرفاتنا.

وأخيرًا، المعنى الرابع للوعي هو ما يسمّى بـ«الوعي الهائل أو الخبرة الذاتية – Phenomenal consciousness (Qualia)»، وهي حالة الوعي الشاملة التي لا تقتصر على كل المعارف والمعلومات والإدراكات الحسية والذكريات والرغبات والمخططات الموجودة في العقل، بل تشمل أيضًا التجربة الذاتية والمشاعر الشخصية التي يعيشها كلٌّ منا في معظم أوقاتنا. فمن الممكن أن تميز آلة معينة بين أطعمة ذات مذاقات مختلفة أو أي إدراكات حسية مختلفة. ورغم أن هذه الآلة تملك قدرات معرفية لكنها لا تعيش ما تعيشه أنت، ككائن واعٍ، من تجربة شخصية عند تذوق كل من الأطعمة، وبالتالي لا تملك الوعي.  

كيف تناول الفلاسفة مفهوم الوعي عبر التاريخ؟

يُقال أن تساؤلاتنا كبشر حول الوعي والعقل بدأت منذ زمن بعيد. فكان لحضارات العصر الحجري الحديث و ما بعدها ممارسات عقائدية وروحية تبين حدًا أدنى من التفكير والتساؤل حول مفهوم الوعي.

غير أن آخرين يعتبرون أن مفهوم الوعي كما نعرفه حاليًا يُعد حديث نسبيًا، أي أنه لم يبدأ قبل العصر الهوميري (أي تقريبًا في العام 750 قبل الميلاد). حتى أن اللغة الإغريقية القديمة لم تكن تحتوي على كلمة مرادفة للوعي، رغم اهتمام الإغريق بالكثير من الإشكاليات العقلية.

قفزة الوعي في منتصف القرن السابع عشر

ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر، بدأ الحديث عن الوعي بشكل كبير، وتم اعتباره موضوعًا مركزيًا في أي حديث عن العقل، حتى أن ديكارت عرّف “الفكرة” نفسها على أنها الوعي بحدوثها. وفي نهاية القرن السابع عشر، لاقاه الفيلسوف البريطاني «جون لوك – John Locke» في أفكار مشابهة عن الوعي، بحيث اعتبر أنه أساسي ليس فقط للفكرة، بل أيضًا للهوية الذاتية.

ثم أتى عالم المنطق والرياضيات والفلسفة الألماني «ليبنيز – Leibniz» ليقدم نظرية عقلية، اعتبر فيها أن الوعي مُجزأ إلى درجات لا متناهية، حتى أنه طرح احتمالية أن تكون بعض الأفكار لا واعية. كما كان من أوائل الذين ميّزوا بين «الإدراك – Perception » و«الإدراك بالترابط – Apperception» وبين الوعي والوعي الذاتي.

وبقيت «المدرسة الترابطية –Associanism  »التي بدأت مع لوك  مسيطرة على كل النظريات المتعلقة بالفكر والوعي لمدة قرنين، وهي تؤمن أن كل العمليات العقلية مترابطة ، وأن كل معرفة تبدأ عن طريق الحواس. وقد تبع هذه المدرسة الفيلسوف الاسكتلندي «ديفيد هيوم – David Hume» في القرن الثامن عشر وبعده الفيلسوف الاسكتلندي «جيمز ميل- James Mill» في القرن التاسع عشر، فاكتشفا مبادئ ترابط الأفكار وتفاعلها.

في المقابل، انتقد الفيلسوف الفرنسي ايمانويل كانت المدرسة الترابطية، بحيث اعتبر أن الوعي الهائل لا يمكن أن ينتج فقط عن ترابط الأفكار، بل هو يستلزم بنية عقلية غنية ومنظمة.

في كل هذه الفترة، كانت العلاقة بين الوعي والدماغ البشري غامضة جدًا بالنسبة للباحثين.

بدأت تتكشف هذه العلاقة في القرن العشرين مع بداية المدرسة السلوكية في علم النفس، ومن بعدها بشكل أكبر مع صعود علم النفس المعرفي الذي وضع أسسًا علمية لكيفية عمل الدماغ ومعالجة المعلومات والعمليات العقلية.

ولكننا حتى الآن، لم نتوصّل بعد إلى إيجاد الإجابات حول الكثير من الأسئلة حول الوعي. مثل ما الذي يجعلنا بالتحديد كائنات واعية، وإمكانيات وجود الوعي عند كائنات أخرى غير بشرية. والأهم أن العلاقة بين الفلسفة والعلوم المعرفية ما زالت تحمل حلقات ناقصة، لذلك تحدّث الفلاسفة عن وجود «مشكلة الوعي الصعبة – The hard problem of consciousness».

مشكلة الوعي الصعبة

مشكلة الوعي الصعبة تكمن في تفسير وجود الوعي الذاتي (الخبرة الذاتية أو الكواليا). وهنا السؤال الأساسي: ما الذي يجعل منا، ككائنات جسدية ومادية، كائنات واعية؟

إذا أردنا تشريح هذه المشكلة يمكن النظر إلى الوعي الذاتي من زاويتين مختلفتين.

من الزاوية الأولى، نحن نعرف أننا نملك الوعي، بكل بساطة لأننا نختبره. من خلال هذه النظرة الذاتية، يمكن وصف تجاربنا الشخصية المختلفة مع كل المشاعر الواعية التي تصحبها.

في المقابل، إذا نظرنا إلى الوعي الذاتي من منظور خارجي، يصعب تحديد الوعي وتعريفه. فلننظر مثلًا إلى الدماغ كعضو مادي، نعرف أنه عضوًا فائق التعقيد مع أكثر من مئة مليار خلية عصبية متصلة ومتشابكة. كما نعرف أنه قادر على تخزين المعلومات والتمييز بين المحفزات الحسية والتخطيط والسيطرة على سلوكياتنا. لكننا لا نملك أدنى فكرة كيف يمكن لهذا النشاط الدماغي أن يصنع الوعي الذاتي.

هل يستطيع العلم حل معضلة الوعي؟

يعتبر عدد من الفلاسفة أمثال «فرانك جاكسون – Frank Jackson» و«ديفيد تشالمرز – David Chalmers»  أن العلم لن يستطيع حل مشكلة الوعي الصعبة، ولن يستطيع اختصار الوعي بتفسيرات العلوم المعرفية والنشاط العقلي. ويعطي فرانك جاكسون هذا المثال كدليل على ذلك. تخيّل أن “ماري” هي عالمة أعصاب عبقرية، لكنها وُلدت في غرفة خالية من الألوان، وكل ما من حولها بالأبيض والأسود. استطاعت ماري من داخل غرفتها تعلم كل المعلومات عن نشاط الدماغ، بما فيها قدرة الدماغ على تمييز الألوان. تخيّل أن ماري خرجت في يوم من الأيام إلى العالم الملوّن. في هذا اليوم، رغم معرفة ماري السابقة عن كل المعلومات المتعلقة بالألوان ومعالجتها، فهي اكتسبت خبرة جديدة لمجرد رؤيتها للألوان. وبالتالي، فإن فهم النشاط الذهني غير كافي لتفسير الوعي.

ختامًا، تبقى إشكالية الوعي عصية حتى الآن على التفسير العلمي والفلسفي. لكن استطاع العلم قبل ذلك أن يشرح الضوء بخصائص فيزيائية رغم اعتقاده عصيًا على هذا الشرح. فهل سيتوصّل العلم إلى تفسير الوعي خصوصًا مع صعود العلوم العصبية في عصرنا؟

المصادر
Coursera
Stanford Encyclopedia of Philosophy

إقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

فلسفة الرياضيات | ما هو فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية؟

فلسفة الرياضيات | ما هو فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية؟

قال «جاليليو جاليلي_Galileo Galilei» في عام 1638م بكتابه «علمان جديدان»: “كل مربع له جذره الخاص وكل جذر له مربعه الخاص، بينما لا يوجد مربع له أكثر من جذر واحد ولا يوجد جذر له أكثر من مربع واحد”.

الأعداد المربعة: 2^1-2^2-2^3-2^4… وجذورها الموجبة: 1-2-3-4… لكن ما هو الأكثر: الجذور أم المربعات؟

يمكننا الإجابة بأن كل مربع هو جذر بعض الأعداد الصحيحة الموجبة. لكن ليس العكس (الرقم 2، هو جذر 4، لأن 4=2^2. لكن 2 ليس مربع عدد صحيح موجب).

تترك لنا ملاحظة جاليليو مفارقة -المفارقة: رأي أو بيان مخالف للرأي العام ولكنه ربما يكون صحيح-. يبدو أن لدينا أسبابًا للاعتقاد بأن الجذور أكثر من المربعات، ولكن أيضًا هناك أسباب للاعتقاد بأن هناك العديد من الجذور مثل المربعات.

إن مفارقة جاليليو هي أكثر المفارقات إثارة للاهتمام، ولكن بعد قرنين من كتاب «علمان جديدان». نشر عالم الرياضيات الألماني «جورج كانتور_Georg Cantor» مقالًا يصف منهجية صارمة لمقارنة أحجام المجموعات اللانهائية وتنتج استنتاجًا لافتًا يشير إلى وجود أحجام مختلفة من اللانهاية.

لكن ماذا فعل كانتور بالتحديد وهل هو الوحيد؟ وما علاقة ذلك بالفسلفة… هذا ما سنعرفه في سلسلة «فلسفة الرياضيات». سنناقش فيها مواضيع عدة حول الرابط الجامع لكل من الفلسفة والرياضيات بشكل سلس. في بداية الأمر علينا أولًا أن نعرف القليل عن تلك العلاقة، ومن ثم ما هو فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية؟ فهيا بنا.

علاقة وطيدة منذ القدم

حينما كان «رينيه ديكارت_René Descartes» بعمر 31 عامًا في عام 1627م. بدأ في كتابة بيان حول الأساليب الصحيحة للتفلسف. كان عنوانه «Regulae ad Directionem Ingenii_قواعد توجيه العقل». قدم فيه ديكارت 36 قاعدة مقسمة بالتساوي إلى ثلاثة أجزاء. وكانت القواعد مهتمة بالجانب الفلسفي من المفترض! لكن سرعان ما تتخذ منعطفًا رياضيًا، فتتدخل الحسابات.

تشبه قراءة القواعد الخاصة بديكارت الجلوس لقراءة مقدمة عن الفلسفة، ومن ثم تجد نفسك بعد ساعة في وسط كتاب مدرسي لمادة الجبر!

لكن في عصر الإغريق القدماء كان مفهوم الرياضيات مقتصر على أنه علم للأحجام -أي يشمل دراسة الأشياء التي يمكن عدها وهي ما نسميها بالمقادير المنفصلة، وكذلك دراسة المقادير المستمرة وهي الأشياء التي يمكن تمثيلها على أنها أطوال-.

لكن يمكننا العثور على إشارات حول العلاقة بين الفلسفة والرياضيات في العصور القديمة. يوجد مقولة لفيثاغورث ألا وهي أن “كل شيء هو رقم”. اكتشاف فيثاغورث بأن الجذر التربيعي لـ”2″ غير عقلاني بَشّر بميل الفلسفة الغربية من خلال الكشف عن حد أساسي في نهج وقياس تجاربنا وفتح الباب أمام مفهوم أكثر ثراءً للقياس والعدد. كذلك كان أفلاطون يُقدر بشكل كبير في الرياضيات، وكذلك أكد سقراط على أن الرياضيات لها تأثير عظيم وهائل فهي تجذب العقل نحو الحقيقة وتخلق روح الفلسفة.

العالم غاليليو وضح الارتباط بين الفلسفة والرياضيات. إذ أنه لفهم الفلسفة لابد من فهم لغة الرياضيات التي بدونها يصعب على المرء فهم كلمة واحد، ينتهي به المطاف بدون فهمها في متاهة مظلمة. الرياضيات لا تمثل علم فحسب، بل أيضًا الأخلاق والميتافيزيقا ومعرفة الله والروح. كانت المناهج الدراسية التي اعتمدها كل من ديكارت وجاليليو ونيوتن ولايبنيز تقدمًا فلسفيًا كبيرًا.

علماء المنطق يوفون بالوعد!

بلغت فلسفة الرياضيات مبلغ النجوم في منتصف القرن العشرين. إذ دُعمت بنجاحات العقود السابقة في المنطق الرياضي. بدأ علماء المنطق في الوفاء بوعد لايبنيز بحساب الفكر، وتطوير أنظمة من البديهيات والقواعد التي هي معبرة بما يكفي لتفسير الغالبية العظمى من الجدل الرياضي. كذلك أثبت العالم النمساوي «كورت جودل_Kurt Gödel» نتائج مهمة تُعرف باسم “نظرية عدم الاكتمال” والتي تضع الحدود لقدرة الطريقة البديهية على تسوية جميع الحقائق الرياضية أي هناك بديهيات لا يمكن إثباتها.

لأن العلوم كسلسلة يُكمل كل منهم الأخر، فقد جلب المنطق تقدمًا فلسفيًا مثل طبيعة الحقيقة. في ثلاثينيات القرن الماضي، قدم عالم المنطق البولندي «ألفريد تارسكي_Alfred Tarski» تحليلًا رياضيًا للحقيقة، وقدم مرة أخرى حسابًا إيجابيًا مع تحديد الحدود المتأصلة في نطاق قابلية تطبيقه في نفس الوقت.

جلبت الثلاثينيات أيضًا تحليلًا رياضيًا واضحًا لمفهوم الحوسبة. قدم هذا تحليلًا مقنعًا لطبيعة أنواع الأساليب الحسابية التي سعى إليها أمثال ديكارت ولايبنيز. منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، هيمن على العلوم المعرفية الذكاء الاصطناعي (AI) وهو نهج يعتمد على التمثيلات الرمزية والخوارزميات المنطقية.

لكن في الثمانينيات أظهر الباحثون أنه يمكن تدريب الشبكات العصبية على التعرف على الأنماط وتصنيف الصور دون خوارزمية واضحة أو ترميز الميزات التي من شأنها تفسير أو تبرير القرار. أدى هذا إلى ظهور مجال التعلم الآلي.

فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية

ما رأيك عزيزي القارئ في رحلة لمناقشة بعض الأدوات المهمة للتفكير في اللانهائية والتي سنستخدمها لتوضيح أن بعض اللانهايات أكبر من غيرها! ولنبدأ الرحلة مع فندق هيلبرت وهو فندق خيالي سُمي على اسم عالم الرياضيات الألماني «ديفيد هيلبرت_David Hilbert».

الآن أطلق لخيالك العنان وهيا بنا… هذا هو فندق هيلبرت وهو على عكس أي فندق أخر، فهو يحتوي على عدد لا نهائي من الغرف. حيث يحتوي على غرفة “0”، وغرقة “1”، وغرفة “2”… وهكذا.

لنفترض أن تلك الغرف ممتلئة تمامًا، إذ كل غرفة بها شخص واحد. لتبسيط الأمر، دعونا نرقم كذلك الأشخاص في خيالنا. الآن لدينا شخص في كل غرفة والفندق ممتلىء ولا توجد طريقة لإحضار شخص إضافي إلى فندقنا.

ميزة الفنادق اللانهائية

لكن الميزة الغريبة للفنادق اللانهائية، أنها يمكنها استيعاب أشخاص إضافيين. لكن كيف ذلك؟ بكل بساطة، أن يطلب مدير الفندق من الجميع أن ينقل غرفة واحدة على اليمين. ذلك يعني أن الشخص”0″ ينتقل للغرفة “1”، والشخص”1″ إلى غرفة “2” وهكذا…هنا لدينا نتيجتين وهما:

  • أولًا، أن الغرفة صفر فارغة لأن ساكنها خرج.
  • ثانيًا، حصل الجميع على غرفة. لأنه بالنسبة للشخص n كانت الغرفة n+1 متاحة لأنها كانت خالية بواسطة شخص n+1 الذي انتقل للغرفة n+2.

الآن لاحظ معي ما يلي، لنفترض أنه بدلاً من محاولة شخص واحد الانضمام إلى الفندق الممتلئ بالفعل، حاول هذه المرة خمسة مليارات شخص الانضمام إليه، سيكون من السهل استيعابهم. إذ كل ما نحتاج إلى فعله هو أن نطلب من كل شخص نقل خمسة مليارات غرفة إلى اليمين. يؤدي ذلك إلى إخلاء خمسة مليارات غرفة حتى نتمكن من استيعاب ضيوفنا الجدد.

هنا يتضح أن من الممكن استيعاب عدد لا نهائي من الضيوف الجدد، وكل ما علينا إخبار كل ضيف أصلي بالانتقال إلى ضعف رقم غرفته الحالية، وسيؤدي ذلك إلى ترك فجوات في كل رقم فردي حيث يمكننا من استيعاب العدد اللامتناهي من الضيوف الجدد.

يحصل كل شخص على رقم فردي!

في النهاية، نعني أنه في ظل التوزيع، أن كل شخص ينظر إلى رقم الغرفة، وإذا كان رقم الغرفة هو “n”، فسيذهب إلى الغرفة”2n”. إذ يبقي “0” لأن “2” ضرب “0” يساوي “0”. لذا فإن الشخص “0” موجود هناك. الشخص “1” يتحرك لأن “1” ضرب “2” هو “2”. لذلك الشخص” 1″ ينتقل إلى الغرفة “2”. الشخص”2″ سينتقل إلى “4” لأن “2+2” يساوي “4”. الشخص “3” سينتقل إلى “6”، والشخص”5″ إلى “10” وهكذا…

بشكل عام، سينتهي الأمر بكل شخص بالحصول على رقم فردي من الأشخاص الجدد. يمكننا فقط أن نقول لضيوفنا الجدد، إذا كنت ضيفًا جديدًا ورقمك هو “n”، فيرجي أن تنتقل إلى الغرفة “2n+1”.


التناقض في فندق هيلبرت!

دعنا الآن عزيزي القارئ ، نفترض أن” ضيوفنا القدامى” هم الضيوف الذين كانوا يقيمون في الفندق قبل أي وصول فرد جديد، وأن “الضيوف الجدد” هم الضيوف القدامى. إذ من ناحية، نريد أن نقول أن هناك ضيوفً جدد أكثر من الضيوف القدامى. من ناحية أخرى، نريد أن نقول إن عدد الضيوف الجدد يساوي عدد الضيوف القدامى.

ستلاحظ أن هذه المشكلة هي نفس المشكلة الخاصة بالمربعات والجذور، إذ أن هناك جذورًا أكثر من المربعات ومن ناحية أخرى هناك عددًا من الجذور يساوي عدد المربعات. كما قال جاليليو: “كل مربع له جذره وكل جذر له مربعه الخاص، بينما لا يوجد مربع له أكثر من جذر واحد ولا يوجد جذر له أكثر من مربع واحد”.


منطقيان ولكن غير متوافقين

يتضح أن هناك مبدأن يبدو كل منهما منطقيًا إلى حد كبير، لكن يتضح أنهما غير متوافقين مع بعضهما البعض في وجود مجموعات لانهائية.

المبدأ الأول: المجموعات الفرعية

افترض أن كل شيء في “A” موجود أيضًا في “B”، لكن ليس العكس. إذن،”A,B” ليسا من نفس الحجم ويحتوى”B” على عناصر أكثر من “A”.

مثال: افترض أن “A” هي مجموعة حيوانات الكنغر و”B” هي مجموعة الثدييات. نظرًا هنا أن كل كنغر من الثدييات ولكن ليس العكس، فإذن مبدأ المجموعات الفرعية يخبرنا أن مجموعة الكنغر ومجموعة الثدييات ليست من نفس الحجم. فهناك ثدييات أكثر من الكنغر.

المبدأ الثاني: التحيز

المجموعة “A” لها نفس حجم المجموعة “B”، إذا كان هناك تحيز بين”A وB”. لكن ما هو التحيز؟ افترض أن لديك خنافس وبعض الصناديق، وأنك قمت بوضع كل خنفساء في صندوق مختلف ولم تترك أي صندوق فارغ (أي يتم تعيين كل عنصر “A” لعنصر مختلف من “B” ولا يتم ترك أي عنصر من “B” بدون تعيين من “A”).

كلا المبدأين صحيح عزيزي القارئ ولكن المبادئ لا يمكن أن تكون صحيحة عندما يتعلق الأمر بالمجموعات اللانهائية، كما وضحنا أن مبدأ التحيز يستلزم أن يكون لمجموعة الضيوف القدامى والجدد نفس الحجم، لكن مبدأ المجموعات الفرعية يستلزم أنهم ليسوا كذلك.

إن الطريقة المُثلى لتطوير نظرية لانهائية هي التخلي عن مبدأ المجموعات الفرعية والحفاظ على مبدأ التحيز. إذ اكتشف عالم الرياضيات الألماني جورج كانتور عام 1873م، أن هناك مجموعات لا نهائية لا يمكن أن تخضع لمبدأ التحيز. قد وصف ديفيد هيلبرت عمل كانتور على اللانهائي بأنه “أفضل منتج للعبقرية الرياضية وأحد الإنجازات العليا للنشاط البشري الفكري”.


المصادر

  1. edx
  2. britannica
  3. aeon.

علم النفس التطوري: عقل العصر الحجري في جماجمنا الحديثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

حاول العلماء والباحثون والفلاسفة عبر الزمن البحث عن أسباب أفكارنا و مشاعرنا وأصول سلوكياتنا وتصرفاتنا. وتعدّدت المدارس والفروع العلمية والنظريات، إلا أن أحدثها بدأ يتعمّق في دور الجينات في تحديد حاجاتنا ورغباتنا. من هنا، بدأ الحديث عن علم النفس التطوري الذي يدرس تأثير التطور ودوره في تشكيل عقلنا البشري الحالي. فما هو علم النفس التطوري؟ وماذا يخبرنا عن دماغنا؟

الصراع الفلسفي القديم

منذ أيام أفلاطون، وُجد صراع قديم في الفلسفة حول ما إذا أننا نملك معرفة غير  مُكتسبة أم أن معارفنا تأتي حصرًا من اختبارنا للعالم. فقد اعتبر الفيلسوف «جون لوك-John Locke» أن أدمغتنا تولد معنا كصفحة بيضاء، وأن كل ما نعرفه اكتسبناه عن طريق التجربة. في المقابل، عارضه الفيلسوف «جوتفريد ليبنيز – Gottfried Leibnez» الذي اعتبر أن بعضًا من معرفتنا وُلد معنا ويُعتبر جزءًا من بنيتنا. أما اليوم، فبتنا نعلم أن رغم أننا نكتسب الكثير من خلال تجاربنا الحسية والتنشئة الاجتماعية، فإننا نولد مع خصائص معينة اكتسباها عبر الوراثة. من هنا، نشأ علم النفس التطوري الذي يدرس تطور العقل البشري كما نعرفه اليوم من خلال الانتقاء الطبيعي.

الانتقاء الطبيعي وتطور العقل البشري

من أهم عناصر تطوّر الكائنات الحية هي عملية الانتقاء الطبيعي التي تسمح بالبقاء للكائنات التي تملك الخصائص الأكثر تكيفًا مع محيطها، وتنقلها هذه الكائنات إلى الأجيال اللاحقة.

لذلك، تتميّز الكائنات بما يسمى بالـ “تكييفات – Adaptations” وهي عبارة عن خصائص جسدية أو سلوكية موروثة، ومفيدة لناحية التناسل أو البقاء على قيد الحياة. وكما تتأثر الكائنات بالبيئة المحيطة بها، فهي بالمقابل تساهم أيضًا بنفسها في تغيير الظروف البيئية التي تتعرض لها وتتكيف لأجلها.

علم النفس التطوري

ما زال السؤال الفلسفي نفسه يُطرح اليوم في العلوم المعرفية: إلى أي مدى يتأثر الدماغ بالخصائص الموروثة عبر الانتقاء الطبيعي؟ وإلى أي مدى يتأثر بالتنشئة الاجتماعية؟

يمكن تعريف علم نفس التطور أنه فرع من علم النفس يدرس السلوكيات والأفكار والمشاعر من وجهة نظر تطورية. وهو علم حديث، نشأ في نهاية الثمانينيات، وقد أتى كنتيجة للعديد من المجالات العلمية الأخرى من الإيثولوجيا (علم سلوك الحيوان) وعلم النفس المعرفي وعلوم الأحياء التطورية والأنثروبولوجيا (علم الأنسنة) وعلم النفس الاجتماعي.

علم نفس التطور قائم على أربعة اعتبارات أساسية هي التالية

– يعتبر علم النفس التطوري أن الدماغ البشري هو نتيجة لعملية الانتقاء الطبيعي.
– تكيف دماغنا ليتأقلم مع المحيط الذي عاش فيه أسلافنا، وليحل المشاكل التي واجهوها.
– القدرات الذهنية التي طوّرها أسلافنا لمجابهة مشاكلهم والبقاء على قيد الحياة في محيطهم هي قدرات قابلة للوراثة، أي أنها تنتقل جينيًا من جيل إلى آخر.
– أدمغتنا البشرية كما نعرفها الآن هي أدمغة أجدادنا التي راكمت التطور على مدى كل العصور التي سبقتنا.

عقل العصر الحجري

يُعتبر الزوجان، «ليدا كوسميدس-Leda Cosmides» عالمة النفس الأميركية وعالم الأنثروبولوجيا الأميركي «جون توبي-John Tooby»، مؤسّسا علم النفس التطوري. وانتشرت لهما عبارة شهيرة تقول:

«جماجمنا العصرية تأوي عقل العصر الحجري – Our modern skulls house a Stone Age mind».

فبحسب علماء النفس التطوري، إن معظم تاريخ جنسنا البشري قضيناه كمجموعات عشائرية صغيرة في السافانا الأفريقية، في ظروف بيئية حارة جدًا. وذلك منذ حوالى مليون و 800 ألف سنة حتى 10 آلاف سنة قبل الآن، وكانوا معتمدين على الصيد بشكل أساسي. لذلك يعتبر العلماء أن هذه الفترة هي المسؤولة عن القسم الأكبر من تطور الدماغ البشري، وسمّوا تلك البيئة بـ «بيئة التكيف التطوري – Environment of evolutionary adaptation».

لم تبدأ الزراعة حتى قبل خمسة آلاف سنة، أما الثورة الصناعية فهي حدثت منذ مئتي عام فقط. هذه الفترة لا تتعدى الواحد بالمئة من إجمالي التاريخ البشري، لذلك فإن التكييفات التي اكتسبناها ناتجة عن الفترة التي سبقتها.

ولكن إلى أي مدى تتناسب التكييفات التي حافظت على حياتنا في العصر الحجري أساليب حياتنا اليوم؟ لا شك أننا نمتن بالكثير للانتقاء الطبيعي الذي جعل أدمغتنا بأشكالها الحالية. إلا أن بعض التكييفات التي ورثناها أصبحت غير مفيدة، أو حتى مضرة أحيانًا للجنس البشري وتسمّى بالـ«Mal adaptations». نذكر مثلًا أن الرغبة في تناول كميات كبيرة من الملح والسكر كانت حاجة أساسية في ذلك العصر لتأمين الحاجة من الطاقة الأساسية للعيش. أما تناول هذه الكمية في أيامنا هذه، مع انتشار الأطعمة المالحة والحلوة وتوفرها الدائم، أصبح يشكل خطرًا على صحة الإنسان الذي يعيش في البيئة الحضارية.

يعطي عالم النفس الكندي «ستيفن بينكر – Stephen Pinker» مثالًا آخرًا على هذا النوع من التكيفات “Mal adaptations”. وهو الخوف الغريزي والحشوي  من الأفاعي والعناكب. رغم أنها لم تعد قاتلة وخطيرة على حياة الإنسان، ولا تقتل العدد الذي تقتله القيادة دون حزام أمان سنويًا، إلا أن ردة فعلنا الغريزية ناتجة عن الخطر الذي كانت تمثله هذه الكائنات على حياة البشر في العصر الحجري.

إذًا باختصار، أدمغتنا تشبه أدمغة أسلافنا الذين عاشوا في العصر الحجري أكثر بكثير مما نتوقع. هذه نبذة صغيرة عمّا توصّل إليه علم النفس التطوري، لكنه ما زال في خطواته الأولى في البحث عن أصولنا الفكرية والعقلية والسلوكية.

المصادر
Britannica
Coursera : Philosophy and the sciences, The University of Edinburgh

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

يجب ألا ننظر إلى كل فلسفة باعتبارها حالة تراكمية أو مجموعة من التأملات المجردة التي لا أثر لها في الواقع. كل فلسفة تتأثر بعصرها وتؤثر فيه، إذ يمكن أن نقول بأن الفلسفة لا تفسر العالم وحسب بل تشارك في تغييره أيضًا. ففلسفة التنوير من الفلسفات التي غيرت وجه العالم على نحو جذري وقادت محاولات تفكيك الخطاب المقدس. في القرن الثامن عشر برزت حركة التنوير بشكل مدهش في أوربا وقضت على معظم السرديات التأسيسية في السياسة والفلسفة والاخلاق. في هذا المقال سنسلط الضوء على أهم جوانب وافكار فلسفة التنوير وتداعياتها.

مفهوم التنوير:

في النصف الأول من القرن الثامن عشر، جاء جان جاك روسو بسردية فلسفية سرعان ما تحولت إلى شبح يهدد أوربا. لم تكن سردية التنوير وليدة الصدفة أو حادث عرضي من تاريخ التخبط الفلسفي، إنما كانت مدفوعة بروح الثورة العلمية آنذاك. فكانت للاكتشافات العلمية والتقدم الصناعي دور بارز في حث العالم نحو إيجاد منهجية جديدة لتفسير العالم، إذ أن الحجة الدينية التقليدية كانت تسقط أمام الدليل العلمي. لهذا، نجد في أولى كتابات التنوير الشغف الكبير بالعلم، ففي كتابه (رسائل فلسفية) يتحدث فولتير عن نيوتن بإجلال. حيث اثبتت قوانين نيوتن بإن العالم قابل للتفسير والوصول إلى الحقائق القطعية ممكن.  شعر الإنسان بأن مفاتيح الأسرار الكونية لم تعد بيد السلطة الدينية؛ وهذا ما دفعه للتمرد ضد كافة اشكال التبعية ولإعادة النظر في مكانته.

يحمل التنوير دلالتين ثوريتين: كينونة الإنسان عابرة للهويات الوطنية والدينية والقومية، وبالتالي له وجود كوني. قدرة العقل الإنساني على بناء عالم مضيء ومتنور، بالتالي الإنسان مشروع التنوير. ففي الدلالة الأولى اطاح التنوير بالقوالب الدينية والطبقية التي وضع فيها الإنسان واعلن القطيعة مع التراث القديم. وفي الدلالة الثانية ايقظ القدرة الفكرية للفرد لمعارضة الدور الدين الإرشادي في الفكر والعمل(1).

التنوير الفرنسي:

حمل الفلاسفة الفرنسيون قضية التنوير نحو الأمام مثل مونتسكيو وفولتير وروسو وديدرو وكويسناي وألمبيرت، ولعبوا دورًا بارزًا في زرع روح التفكير المستقل وعرض العقلانية. كما هاجموا عدم المساواة والقسوة والاستغلال في المجتمع الفرنسي وبشروا بمستقبل ليبرالي وتقدمي حر(2). والثورة الفرنسية كانت ثمرة هذه الجهود الفلسفية.

مونتسكيو:

ردًا على الطروح القومية التي تنظر إلى الآخر نظرة دونية وعدائية يقول مونتسكيو بأنني إنسان بالضرورة وفرنسي بالصدفة (3). وسخر من المجتمع الفرنسي وهاجم نظام الحكم المطلق الذي انشأه لويس الرابع عشر والكنيسة الكاثوليكية وجميع طبقات المجتمع(4). في كتابه (روح القوانبين) دعا مونستكيو إلى نظام دستوري من شأنه أن يخدم مصالح الشعب الفرنسي، كما أكد على أن حرية الافراد لا يمكن أبدًا أن تكون آمنة بدون فصل سلطات الحكومة إلى ثلاثة أجهزة مستقلة – تشريعية وقضائية وتنفيذية(2).

فولتير:

يعد فولتير من الفلاسفة الأكثر ارتباطًا بالتنوير ليس فقط لما له من أطروحات تنويرية، فدخوله السجن كان بمثابة توقيع فلسفي على الثورة الفرنسية. هاجم نظام الحكم رغم الاستبداد والعادات والمفاهيم السائدة في المجتمع واعتبر الكنيسة الكاثوليكية كوكر للخرافات ومركزًا للتعصب وترسيخ العبودية(2).

روسو:

فتح جبهته أولًا ضد العقلانية المتمثلة بديكارت، وأسس لعقلانية خصبة قادرة على مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية. ودافع عن الحريات والحقوق المدنية وحق التمرد ضد النظام حين يفشل في خدمة الناس(2).

التنوير الإنكليزي:

يمثل التنوير الإنكليزي الحجر الأساس لفلسفة التنوير، فاكتشافات نيوتن العلمية هي التي الهمت فلاسفة التنوير الفرنسي. كان لتوماس هوبز وديفيد هيوم وآدم سميث حضورًا مميزًا في بلورة فكرة التنوير على جميع الاصعدة. شارك هوبز في إرساء العقد الاجتماعي والنظام السياسي. أما هيوم فكان رائد التجريبية ونقد الدين، ففسر هيوم الحالة الإنسانية في ضوء العلم التجريبي. وانطلاقًا من دراساته التجريبية انتقد هيوم اللاهوت والمعجزات والتفسيرات الأسطورية. بينما آدم سميث فهو مهندس النظام الاقتصاد السياسي(5).

التنوير الألماني:

وصل التنوير ألمانيا متأخرًا مقارنة مع فرنسا وبريطانيا، كمان أن التنوير الألماني كان يختلف كثيرًا عن باقي الحركات التنويرية لقربه الشديد من الميتافيزيقيا. كان كانط من أبرز فلاسفة التنوير في ألمانيا. حول مفهوم التنوير يقول كانط “التنوير هو انعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك”(6). فكانط كان من انصار الحرية الفردية، بوصفها الأفق المناسب لفهم العالم.

موقف التنوير الديني:

لم يكن لفلسفة التنوير طرح موحد حول مسألة الإيمان، لكن كان هناك تأويل موحد للأساطير والخرافات الدينية. رفض التنوير العقل الأسطوري والخرافات وسلطة الكنيسة المطلقة.  كانت هناك أربعة اشكال للدين في عصر التنوير: الربوبية، دين القلب، الإيمانية والإلحاد.

الربوبية:

تمثل الربوبية الشكل الديني الأكثر ارتباطًا بعصر التنوير، ووفقًا لها، فأنه بإمكاننا أن نستدل إلى الخالق من خلال العقل وهذا الخالق هو الذي يدير الكون وله خطة، ولا يتدخل الخالق في شؤون الخلق. كما رفضت الربوبية الإيمان الأعمى بالمعجزات وكذلك رفضت ألوهية المسيح بل اعتبرته معلمًا صالحًا(2).

دين القلب:

رفض هذا الاتجاه الطرح الربوبي بحجة أنه يخلق هوة بين الخالق والمخلوق، ويصور الخالق على أنه مجرد مهندس للكون. كان روسو من مؤمني دين القب، فوفقًا لروسو الدين قائم على المشاعر الإنسانية(2).

الإيمانية:

كان كانط من الفلاسفة المؤمنين، وهو أكثر فيلسوف ساهم في نقد الدين التقليدي. يؤمن هذا الإتجاه بإلوهية المسيح وقيامته، فضلًا عن الإيمان بالكتاب المقدس. بالنسبة لوجود الله فهو يقع في حدود المعرفة القبيلة، بحيث يصعب على الإنسان الوصول إلى الكينونة الإلهية السامية على العالم سواء عن طريق التجربة أو العقل. لكن نجد لدى كانط بأنه كان يستدل إلى وجود الله من خلال تصميم الكون والضمير.

الإلحاد:

يعلن الإلحاد حضوره في التنوير الفرنسي بشكل أكبر، فطبقًا لدينيس ديدرو يجب أن نبحث في مبادئ النظام الطبيعي داخل العمليات الطبيعية وليس في كائن خارق متعال على العالم(2).

موقف التنوير الاخلاقي:

قبل عصر التنوير، في الغرب كان التفكير الاخلاقي يتمحور حول العقيدة الدينية المتعلقة بالله والحياة الآخرة. لكن مع بزوغ نجم التنوير، تم قطع اوصال الاخلاق مع تلك الحياة الافتراضية وربطوها بالحياة الدنيا نفسها، داخل الإطار الفلسفي بشكل عام وداخل المجتمع إلى حد ما. فالسعادة بعدما كانت تتحقق برضى السماء والزهد صارت خاصية لعلاقات الإنسان في سياق العالم الحسي.

كانت للحروب المذهبية والقومية في فترة ما قبل التنوير دلالات اخلاقية خطيرة، إذ أن الاخلاق الدينية فشلت في وقف سفك دماء ملايين البشر بل كانت تبرر لتلك الجرائم أحيانًا، ومن هنا برزت الحاجة لإرساء أسس اخلاقية علمانية قادرة على احتواء الإشكالات الاخلاقية.

واجه فلاسفة التنوير تحديات كبيرة في تحديد النظام الاخلاقي، لهذا كان هناك تباين بين الآراء التي ناقشت المسألة الاخلاقية. توماس هوبز كان يميل إلى الاخلاقية الذاتية، ربط بين القيمة الاخلاقية والموضوع الاخلاقي من خلال الانطباع الفردي. فما هو خير هو  موضوع الرغبة أو الشهية، وما هو شر هو موضوع الكراهية والنفور، ورفض هوبز وجود ما هو خير بذاته أو العكس(2). هذه الفكرة فيها نوع من التناقض مع روح التنوير الداعية للعقلانية والموضوعية.

في الطرف المقابل كان كل من صامويل كلارك وإيريل شافتسيري يرفضان نظرة هوبز ويؤكدان على أن ذاتية هوبز تتناقض مع حرية الآخر. وأكدا على اخلاقية موضوعية، بحيث ما هو خير هو ما يحقق مصلحة الجميع(2).

في ألمانيا كان الطرح الاخلاقي مختلفًا، كانت الاخلاق ما زالت تتألق في سماء الميتافيزيقيا. كان يعتبر كانط الحكم الاخلاقي من الاحكام القبلية. رفض كانط النسبية الاخلاقية، فالكذب مثلًا، غير اخلاقي مهما كانت الظروف والاسباب.

اقرأ ايضًا: فلسفة الجنس والجنسانية

موقف التنوير السياسي:

كانت الثورات الإنكليزية (1688) والأمريكية (1877-1783) والفرنسية (1789-1799) قد تأثرت وأثرت في الحركة الفلسفية آنذاك. ففلاسفة التنوير كانوا ينظرون إلى الانظمة السياسية والاجتماعية عصرئد على أنها هشة بما يكفي لتسقط أمام النقد العقلاني؛ لكونها محاطة بالأساطير الدينية والتقاليد الغامضة(2). كان يصعب في عصر تكتشف فيه القوانين التي تحكم الكون أن يؤمن الإنسان بسلطة تفرض عليه العبودية بحجج واهية. كانت تطلعات التنوير تتجه نحو بناء مجتمع يحترم حرية الفرد والمساواة والتنوع الديني والعقائدي. وكان كتاب توماس هوبز اللفياثان يعد كتابًا تأسيسيًا لنظرية التنوير السياسية، ومع أن هوبز كان مناصرًا للسلطة المطلقة إلا أنه كان يؤمن بسلطة يشارك فيها الجميع وتحقق مصلحة الافراد.

 لكن آراء روسو كانت الأكثر إثارة لكونها كانت تمس علاقة الفرد مع السلطة على أساس أن الإنسان غاية والسلطة وسيلة. رأى روسو بأن الديمقراطية الخالصة هي الشكل الوحيد للحكومة التي يمكن من خلالها أن يحقق فيها الفرد حريته. وحرية الفرد تكون ممكنة من خلال الإرادة العامة التي هي إرادة الجهاز السياسي العام، وهذا الجهاز يختاره ويحدده الأفراد بكامل إرادتهم(2).   

موقف التنوير الجمالي:

حسب ما يلاحظه كاسيير فأن القرن الثامن عشر لم يكن عصر الفلسفة وحسب بل هو عصر النقد ايضًا، إذ كان النقد مركزيًا في عصر التنوير. كان لازدهار الجماليات علاقة طردية مع ميول العصر، ألكسندر بومغارتن يعد مؤسس منهجية الجماليات للتنوير، وبالنسبة لومغارتن علم الجماليات هو علم الحواس أو الإداراك الحسي. لم يعول التنوير على الجماليات النومينية والمثالية، إنما بحث في العلاقة الجمالية بين الموضوع الجميل والذات المدركة والمتعة الناتجة منها(2).

وفي ألمانيا أسس كريستان وولف لعقلانية ميتافيزيقية للتفكير الجمالي، ويؤكد على أن الجمال حقيقة مدركة من خلال الشعور بالمتعة. يرى وولف بأن الجمال هو الكمال الموجود في الموضوع، فالموضوع فيه نسق وترتيب وانسجام، وبالتالي فأننا نقول عن شيء ما جميل لما له من الانسجام والكمال. لذا، طبقًا لوولف الجمال هو الإداراك الحسي للكمال(2).  

الخلاصة:

منذ أن سادت الفلسفة الأرسطية العالم -المسيحي خاصة- لم تحدث ثورة فلسفية تضاهي ثورة التنوير. فعصر النهضة لم يحقق الكثير إلا على المستوى الفني والجمالي، والعقلانية ابت أن تتحرر من المنطق القديم. ما حققه التنوير أثر في كل العالم، سواء من خلال إعادة تأويل وتفكيك النص المقدس أو نقد الخطاب السياسي والإجتماعي أو تبنيه المنهجية العلمية. كما يقدم التنوير تحديات قاسية لكل مجتمع يدعو إلى التغيير، فكل محاولة إصلاحية تلازمها ضرورة إعادة هيكلة الخطاب الديني والسياسي، لا يمكن لأي تقدم أن يحصل فعليًا دون أن تكون العقلانية والمنهجية العلمية أداةً لها. إذ أن التنوير هو دعوة إلى تفكيك كل خطاب ديني ودنيوبي.

المصادر:

  1. https://plato.stanford.edu/entries/enlightenment/#RatEnl
  2. https://www.historytuitions.com/world-history/french-revolution/#Role_of_Philosophers_in_French_Revolution
  3. https://plato.stanford.edu/entries/montesquieu/
  4. https://www.encyclopedia.com/humanities/culture-magazines/french-literature-during-enlightenment
  5. https://www.encyclopedia.com/religion/encyclopedias-almanacs-transcripts-and-maps/enlightenment-philosophy
  6. http://www.columbia.edu/acis/ets/CCREAD/etscc/kant.html

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

يمثل تاريخ اليونان القديم خصوبة معرفية مميزة في مسيرة الإنسان المعرفية. قليلًا ما نجد من حديث أو حوار ثقافي إلا ويسجل الإغريق القدماء حضورهم. كأن كل بداية فعلية هي إغريقية بالضرورة بغض النظر عما قدمته الحضارات الشرقية من إسهامات ومشاركات في الثقافة البشرية. فالفلسفة وإن لم نتفق مع التطرف الغربي بشأن أصلها اليوناني فهي تألقت في سماء تلك البلاد أكثر من غيرها. وربما لولا الإغريق لما دخلت الفلسفة في الفضاء العمومي بهذا الثقل ولما دار كل هذا الجدل حولها. لكن ثمة هناك مفارقة في البحث المعرفي ألا وهي تهميش التراث السفسطائي بشكل واضح ومزعج، وكأن السفسطائية هي شجرة الفلسفة المحرمة. بالكاد نجد له حضورًا في الكتب التي تبحث في تاريخ الفلسفة رغم طابع هذا التراث من حيث حداثته وفرادته عن كل تداول فلسفي آخر. فسنخصص هذا المقال لمناقشة آراء السفسطائية حول مواضيع محددة لفتح حوار مختلف مع تاريخ الفلسفة ولإعادة النظر في ملف السفسطائيين.

معنى السفسطائية

لغةً، تعني لفظة السفسطائي الشخص الحكيم، وهي تقابل لفظة الفيلسوف والتي يعنى بها الشخص الذي يحب الحكمة. السفسطائي يدعي أنه الحكيم، وكان بروتوعوراس هو أول من تجرأ ليطلق على نفسه الحكيم رغم التحديات الكثيرة. فالحكيم في التراث الإغريقي كان يطلق على هوميروس وهزيود والحكماء السبعة والانبياء(1)، فالسفسطائي يردم الهوة بين الإنسان والحكمة، عكس الفيلسوف الذي يجد في نفسه محبًا للحكمة وحسب وكأنها محرمة عليه أو يستحيل الوصول إليها. وذلك لكون الآلهة ومن يتواصلون معها مباشرة يحملون شعلة الحكمة، والفيلسوف هو الذي يتوق إليها.

مفهوم السفسطائي والسفسطة واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات من قبل الفلاسفة لا سيما أفلاطون. حتى تحول هذا المفهوم إلى نوع من الاستخفاف في يومنا هذا، فيُطلق على كل ما هو بديء سفسطة، فيصنفهم هيغل في الخانة المضادة للفلسفة أو اللا فلسفة(2). غير أن السفسطائية تمثل حركة تنويرية بطروحها الجريئة ومواقفها الإنسانية المدافعة عن الحقوق الكونية للإنسان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، فهي الأصل الحقيقي للحداثة وتشعباتها.

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

السفسطائيون ونتاجاتهم

فقدنا الكثير من الكتب القيمة من جميع الحضارات نتيجة تدمير المكتبات لأسباب سياسية والتغيرات البيئية التي تسببت بتلف الكثير من المخطوطات والكتابات، وكانت لكتابات السفسطائيين حصة الأسد من التدمير، فهم كانوا منبوذين ومطاردين حتى من قبل الإغريق نفسهم وتعرضت معظم كتاباتهم للحرق. بجانب عدد بسيط جدا مما وصل إلينا من كتاباتهم الخاصة، لمحاورات أفلاطون دور مهم في الكشف عن افكارهم، وسوف نستعرض بعضًا من الاعمال المنسوبة إليهم وفقًا لمتبقيات تاريخية:

  • بروتوغوراس: في الحقيقة، حول الآلهة، حول بنية المجتمع الأصيلة، حول العالم الآخر، حول الفضائل وحول الدستور.
  • جورجياس: هيلين، بالاميد،الخطبة الأولمبية، الخطبة الجنائزية وحول اللا وجود.
  • بروديكوس: حول الوجود وطبيعة الإنسان.
  • أنتيفون: الحقيقة، السياسة وتفسير الاحلام.
  • هيبياس: الطروادة، نصائح، اسماء الشعوب وسجل ابطال الأولمبياد.
  • ثراسيماخوس: النص العظيم، الخطابة، الدستور والشفقة.

ثورة السفسطائية ضد التراث الإغريقي القديم

 الاساطير الأغريقية حول نشأة الكون والحقيقة وطبيعة الإنسان وكذلك قصائد هوميروس وهزيود تمثل التراث الإغريقي الأصيل الذي لم يتجرأ أحد المساس بها أو الخروج عن ظلها. فهذا التراث يؤكد بعض الحقائق المدعية، كالأصل الإلهي للعالم، والأصل الإلهي للقوانين والتشريعات. في حين، يزعم السفسطائيون بأن العالم ما هو إلا مادة لا دخل للآلهة والأرواح بها, وأن القوانين شأن بشري. فيقول السفسطائي كريتياس بأن البشر هم من اخترعوا الآلهة لترهيب الناس عند الخروج عن التقليد(2). وحول أصل القوانين، يدعي بروتوغوراس بأن القوانين تُخترع وتُعدل من قبل البشر بما يناسب منفعتهم. ويقول أيضًا بأن حياة الإنسان البدائية كانت وحشة ولا تخضع لأي قانون مما دفع بالبشر إلى سن القوانين لوقف العدوان المتبادل بينهم. ونظرًا لأن القوانين بحد ذاتها لم تكن فعالة إلا بعد الكشف عن الجريمة فقالوا بوجود آلهة ترى كل شيء وتعاقب المجرم (3).

كما كان للسفسطائيين رأي مخالف لرؤية هزيود وهومر والأساطير الإغريقية حول مجرى التاريخ والزمن. فكان الإيمان الراسخ هو أن التاريخ عبارة عن دورات، من الأفضل إلى الاسوأ. فكان يُعتقد بأن الدورة الأولى كانت تمثل سلالة ذهبية، بحيث لم تكن هناك حروب وسلوكيات شريرة ومؤذية. ومن ثم جاءت الدورة الفضية والتي كانت اسوأ من الذهبية وأفضل من البرونزية التي تلتها وهي بدورها كانت أحسن من الدورة الحديدية. فيقول هيزيود: “ليتني لم أكن من بشر الجيل الخامس بل متتُ قبله فالسلالة التي توجود الآن هي سلالة حديدية”. رفض السفسطائيون هذا التفسير، وقالوا بأن الماضي يمثل حالة وحشية وأن الإنسان يتقدم نحو الأفضل دوما، وأن الحاضر لا يخضع للماضي وأن المستقبل مفتوح.

ثورة السفسطائية ضد الفلسفة الطبيعية

يُقال بأن ديمقريطس قد فقأ عينيه ليبرهن بأن الحواس غير ضرورية لمعرفة الصدق والحقيقة. كما كان بارمنيدس و هيراكليتس وانكسيمانس وانكسيماندرس يرفضون دور الحواس في الوصول إلى الحقائق. وكان العقل هو الوسيط الوحيد بين الإنسان والحقيقة. بينما يؤكد السفسطائيون بأنه فقط من خلال الحواس المعرفة ممكنة. فيقول جورجياس بأن العقل الخالص من حيث هو مختلف عن الادراك الحسي او حتى كمعيار صحيح كالادارك الحسي محض خرافة(4). وبالنسبة للجوهر، كان فلاسفة ما قبل سقراط يزعمون بأن الظاهر لا يعبر عن حقيقة الأشياء إنما الجوهر أو الباطن، إلا أن السفسطائيون تمسكوا بالظاهر على أنه موضوع البحث، كما رفضوا إمكانية وجود حقائق ثابتة.

منهج البحث عند السفسطائية

قال أمبادوقليس أن الشبيه يدرك الشبيه، وزعمت المدرسة الذرية بأن الموضوع يأتي أولًا في المعرفة. وبعضهم قال بأن للأشياء حقيقة وكيفية ثابتة ومستقلة عن الذات. لكن السفسطائي بروتوغوراس يجد بأن المعرفة شأن إنساني وللذات الإنسانية الدور الأهم في الموقف الإدراكي. وله قول شهير في ذلك: “الإنسان هو مقياس الأشياء جميعا، مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها(3). ويرى السفسطائيون بأن المعرفة لا تتعلق بالموضوع المعروف وحده بل بالذات العارفة أيضًا(5). إذن، فالإنسان هو نقطة الانطلاق في الوصول إلى المعرفة. لكن هذا لا يعني بأنهم من دعاة الذاتية الذين رفضوا وجود عالم مستقل عن ادراكنا.

طبيعة وإمكانية المعرفة

لم تكن السفسطائية مذهبًا لتروج لحكمة معينة، لذا، ثمة خلاف بين السفسطائيين حول الأبستومولوجيا. فقال جورجياس باستحالة المعرفة، إذ أكد بأنه “لا يوجد شيء على الإطلاق، وإن وجد لا يمكن فهمه، وإن فُهم لا يمكن نقله للآخرين”. لكن بروتوغوراس كان يؤمن بإمكانية المعرفة. بيد أن المعرفة عند بروتوغوراس لا تشمل الميتافيزيقيا بل تقتصر على العالم المادي الموضوعي من حيث ظهوره لنا. وهذا الظهور ليس بظهور ثابت. فالعالم يظهر لي بشكل ويظهر لغيري بشكل مختلف. فيقول بروتوغوراس بأن الأشياء تكون بالنسبة لي كما تبدو لي إنما تكون لغيري كما تبدا لهم”(3).

والنبسية كما فهمها السفسطائيون -على الأقل بعضهم-  تختلف عن النسبية التي شاعت بين الاوساط العدمية. فما يجعل من معرفة العالم نسبية هو كون العالم في حالة حركة وصيرورة مستمرة والإنسان نفسه جزء من عالم الصيرورة. فكلا من العالم والإنسان يصيران. وبهذا الصدد يقول بروتغوراس: “لا شيء يوجد بذاته أو يكون في ذاته وأنك لا تستطيع بأي حال من الاحوال أن تعبر عن شيء ما تعبيرًا صحيحًا، فما أن نفسر شيء ما يتحول إلى شيء آخر من حيث الكيفية” (6).

كان الفيلسوف هيراكليتس يقول بأنه لا يمكن أن تنزل في النهر نفسه مرتين وذلك لأن النهر قد تغير في المرة الثانية. لكن السفسطائي كاريتليوس تجاوز هيراكليتس بقوله “لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر حتى مرة واحدة طالما أن الصيرورة تجرف كل شيء”( 7). السفسطائية ترى في كل رأي بأنه صادق لأن الرأي لا يحتمل الكذب كيفما كان. فالكذب هو التعبير عن اللا وجود بالتالي فهو بدوره غير موجود وأن كل رأي يعبرعن الوجود فهو صادق بالضرورة. لكن كيف يكون لرأي ونقيضه نفس الدرجة من الصدق؟ هنا، تأتي السفسطائية بمفهوم التلاؤم. العالم يصير والإنسان يصير وهناك لقاءات مستمرة بين الإنسان والعالم وفي كل لحظة لقاء هناك تلاؤم ويظهر العالم بكيفية معينة للمدرك. وليس هناك رأي اصدق بل هناك الرأي الأحسن الذي يكون في خدمة الإنسان والمجتمع البشري أكثر.

وجود ومعرفة الآلهة

بالنسبة للآلهة يقول بروتوغوراس من المستحيل أن نعرف إذا كان هناك إله أم لا نظرًا لما يكتنفه الموضوع من الغموض ولقصر العمر. هذا الرأي اللاأدري لم يمر مرور الكرام فتم إحراق كتبه وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الإلحاد، فهرب منهم ومات غرقًا(6). ويجد أمبريكوس بأنه لو شاءت الصدفة لشخص ما أن يعرف حقيقة الآلهة بشكل تام فسيظل هو نفسه على غير علم بصواب رأيه(8). وعن شكل وتجسيد الآلهة. يقول كسينوفون بأن كل شعب تصور آلهة على الشكل الذي يريده ولو تمكنت الخيول أن تصف الآلهة لوصفتها على شكلها(3). ويقول بروديكوس بأن البشر استنتجوا وجود الآلهة من أشياء ذات معنى في حياتهم مثل الشمس والانهار والنار، فديونيزوس ليس بإله الخمر إنما هو الخمر نفسه(3). تأرجحت السفسطائية بين الإلحاد واللاادرية في هذه القضية. ولهذه الآراء بصمة واضحة في الفلسفات المعاصرة.

الحرية والفضيلة

كان للإغريق نظرة دونية تجاه الآخرين ويسمون كل من هو غير أغريقي بالبربري، ورأوا في أنفسهم نوع مميز من البشر. كما كان التراث الإغريقي الروحي والفلسفي يؤمن بأن الإنسان يولد حرًا أو عبدًا وبالتالي المساوة بين جميع البشر والطبقات غير ممكنة كان هوميروس يعتبر بأن الاقدار السماوية شاءت أن يكون هناك عبيد واحرار ولا يمكن لأحد أن يتجاوز تلك الاقدار، وديمقريطس نفسه دعم هذا الرأي. غير أن السفسطائية انزلت القوانين من السماء إلى الأرض وقوضت فرضية التراث حول الاحرار والعبيد. فيقول هيباس أننا نحن والبرارة أخوة في الطبيعة. ورفض أنتيفون التمييز بين الإغريقي والبربري وقال قوله الشهير”خلقنا الخالق احرارًا وليس هناك من هو عبد بالطبيعة”(4).

وبالنسبة للفضيلة، لم تكن السفسطائية تؤمن بوجود فضيلة ثابتة، بل نظرت في المسألة نظرة منفعية براغماتية. أي ما يقع في حدود الفضيلة هو ما يخدم المجتمع الإنساني وهاجم السفسطائيون الأخلاق التقليدية اليونانية لكونها قائمة على أسس متناقضة مع الطبيعة.

مكانة الثورة السفسطائية في التاريخ الفلسفي

الرأي الشائع عن السفسطائية هو أنها كانت حركة من الدجالين الذين يلعبون بالكلمات والحجج لإقناع الناس بأمور لا قيمة لها. وحين نقرأ محاورات أفلاطون نجد بأنهم كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر أمام سقراط لضعف حججهم. في حين السفسطائية يمكن أن تعتبر فلسفة تنويرية لجرأتهم على تقويض الكثير من الأفكار الفلسفية والدينية آنذاك، دفعوا ارواحهم ثمن آرائهم الإنسانية. كما أن التراث السفساطئي كان غنيًا لدرجة أن الفلسفات الحديثة مثل الوجودية والبراغماتية والهرمونوطيقية قد تشربت منه. فهذه الشجرة المحرمة تستحق أن نجازف بعض الشيء للوصول إلى ثمارها

اقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

المصادر:

  1. https://iep.utm.edu/sophists/
  2. https://www.britannica.com/topic/Sophist-philosophy/Humanistic-issues
  3. https://plato.stanford.edu/entries/sophists/
  4. محمد حسين النجم، السوفسطائية في الفكر اليوناني، منشورات الحكمة 2008 ص119
  5. http://etheses.dur.ac.uk/4023/
  6. https://plato.stanford.edu/entries/protagoras/#MythProt
  7. https://aeon.co/ideas/can-you-step-in-the-same-river-twice-wittgenstein-v-heraclitus
  8. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محمود، ص76.
  9. حامد خليل، الإنسان عند السفسطائيين، المجلة العربية للعلوم،ص32.

فلسفة الجنس والجنسانية


فلسفة الجنس والجنسانية

ما هو مثير في الجنس هو وجوده خارج الأمور العادية طيلة التاريخ، لم يُعتبر قط كنشاط عادي يُمارس خارج الاعتبارات الأخلاقية. حيث كان ولا يزال موضوع الخلافات العظمى والجوهرية.

يمثل الجنس حالة غريبة في تاريخ التحريم والتقديس، كأنه من المحال أن يؤخذ الجنس دون شروط وملاحظات مسبقة. كما يقع الجنس غالبًا على التخوم الفاصلة بين الرؤى والمذاهب والتوجهات الفكرية والدينية والسياسية.

كان الجنس قديمًا كواهب الكينونة تارة، ومفسدها تارة أخرى. حيث نجد شعوبًا قد قامت بتقديس الجنس وبناء المعابد للأعضاء التناسلية، ونجده لدى شعوب أخرى وهو في خانة الشر الكبير.

منذ القِدم وإلى الآن وجدلية التحريم والتقديس مستمرة، ففي عالمنا اليوم هناك معسكرين:

  • المعسكر الذي يجد في الجنس وسيلة للانجاب والتكاثر وممارسته تكون ضمن شروط وتحديدات دينية.
  • المعسكر الآخر يرى في الجنس حق شخصي يحدده الفرد بإرادته الحرة، بل ويمثل ركناً رئيسًا في الحداثة.

    في هذا المقال سنبين بعضاً من جوانب فلسفة الجنس أو الجنسانية، و سنناقش الطروحات المختلفة حول هذا اللغز الكوني.

الجنس في الحضارات القديمة


نقرأ في ملحمة جلجامش كيف تمكنت بغيٌ من ترويض الوحش أنكيدو الذي كان” يجوب السهوب والتلال ويأكل العشب ويرعى الكلأ مع حيوانات البر ويسقى معها عند مورد الماء “(1). ومن ثم بعد أن “تعلم الوحش فن المرأة، فانجذب إليها، ولبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة ايام وسبع ليال“(1).

ثمة الكثير من الإشارات المهمة في هذا النص، إذ أن الجنس قادر على تغير التصميم أو الماهية. فإنكيدو صنعته الآلهة وحشًا؛ حتى حولته بغيٌ إلى إنسان يشعر ويحب ويصادق بواسطة الجنس.

وفي الحضارة الرومانية كان الجنس جانبًا طبيعيًا من جوانب الحياة، ولم يكن هناك تمييز بين الجنس المغاير أو الجنس المثلي -لم يكن هناك حتى اعتراف لغوي بأن المثلية الجنسية تختلف عن الجنس المغاير- والتي يمكن الاستمتاع بها طالما أن طرفيها مشاركين برغبتهما(2). كما كانت هناك مهرجانات خاصة بالجنس مثل مهرجان (Lupercalia).

لوحة جدارية من مدينة بومبي الرومانية، تعود للقرن الأول الميلادي، مكتشفة في غرفة نوم منزل سينتناريو.


في معظم الحضارات القديمة كانت هناك آلهة للخصوبة والولادة والجنس، وهذا ما يدلنا إلى كونية الجنس في الخطاب الإنساني.
ففي الصين القديمة كان هناك (هو تيابانو–Hu Tiabano) إله المثلية الجنسية. والإله (يو لوي–Yue Loe) كان يساعد الأفراد في إيجاد الزوج وكانت في يده خيوط القدر.

الإلهة أفروديت تركب عربة يجرها الإلهان أريوس وهايميروس_ 400_450ق.م

ولدى الأغريق كان هناك أيروس بن أفروديت وهو المسؤول عن الرغبات والجاذبية الجنسية، وفي الهند كانت راتي إلهة الانجذاب الجنسي(3).

تاريخ فلسفة الجنس والجنسانية

تقتضي ضرورة التوضيح أن نفرق بين الجنس كموضوع رئيس في الفلسفة وبين الجنس كعنصر من عناصر الحياة الزوجية.

الحضارة الإغريقية

نجد في فلسفة ما قبل سقراط بعض الإشارات إلى الجنس ضمن قالب العلاقة الزوجية كما هو الحال مع فيثاغورس وأرخميدس وبعض السفسطائيين، لكنهم لم يتطرقوا إليه كمسألة فلسفية بحتة.

بدأ أفلاطون يفلسف الجنس في محاورتي الندوة وفيدروس، ووصفه بأنه شغف قوي لامتلاك ما هو خير وجميل. أما تلميذه أرسطوطاليس لم يحسن الحديث عن أيروس بشكل مستقل، واكتفى بضمه إلى موضوع الفضيلة والعفة في كتابه (الأخلاق النيقوماخية)(4).

العصر الهنلستي

وفي العصر الهيلنستي، كات ثمة هناك مدرستين: الأبيقورية والرواقية.

تصنف الأبيقورية الجنس ضمن الرغبات الطبيعية غير الضرورية، بحيث يجب اشباعها بشكل معتدل دون أن تسيطر تلك الرغبات على الإنسان(5).

أما الرواقية لم تجد في الجنس ما هو ضروري، لذا فضلت الحب النقي والصداقة على النشاط الجنسي.

العصور الوسطى

أما في العصورالمظلمة حسب تعبير فرانشيسكو بتراركا، يصف القديس أوغسطين الجنس كغواية وشر عظيم، ويدعو إلى عدم ممارسة الجنس إلا بهدف الإنجاب لأن الأطفال هم الثمرة الوحيدة المهمة للنشاط الجنسي(6).

ولدى الأكويني الجنس وسيلة طبيعية للتكاثر داخل إطار زواج شرعي، وكل نشاط جنسي آخر يعتبررذيلة وضد إرادة الله(7).

عصر النهضة

حرر الفن الجسد من الاتهامات الدينية وارتفع به إلى فضاءات أيروتيكية وجمالية مختلفة، بحيث صار للجسد العاري نوعاً من الفضيلة. ولم يكن الفن يُمارس بمعزل عن الدين إنما في بيوت الدين نفسها، لذا نجد بدايات تصوير ونحت الأجساد العارية في الكنيسة. حيث تم تصويرالمسيح والأنبياء والقديسين على جدران الكنائس(8).
ومع بداية من القرن السادس عشر صار الجنس يشكل موضوعًا ذو شأن في الخطاب الفلسفي، ناقش ميشيل دي مونتين النشاط الجنسي في كتابه(قوة الخيال).

كما ذكر ديكارت في (عواطف الروح)، وديفد هيوم في رائعته (مقال في الطبيعة البشرية) أن العلاقة الجنسية تتكون من ثلاثة عناصر متنافرة: اللطف والشهوة والاستجابة الجمالية.

عصر التنوير

ناقش روسو الموضوع في سياق حياته في كتاب الاعترافات. بينما وصف كانط الجنس كرغبة شريرة ومدمرة للطبيعة البشرية. بينما حرر ماركيز دي ساد الجنس من كل القيود الممكنة وأباحه بشكل عام.

ودافع جون ستيورات ميل عن تعدد الزوجات والحرية الجنسية وبيوت الدعارة. بيد أن نيتشه لم يبالي بموضوع الجنس كثيرًا بل انتقد الحرية الجنسية لكونها تفسد طبيعة الإنسان.

القرن العشرين

كانت كتابات فرويد الأكثر جرأة في مجال الجنس، واعتبره الحجر الأساس في بناء الشخصية(4). أما برتراند راسل كان أقرب في بداية كتاباته إلى ستيورات ميل، وفي النهاية لم يكن مع الممارسات الجنسية خارج الزواج.

أما سارتر ربط بين حرية الآخر والجنس. ولكن العلاقة الجنسية وفقًا لسارتر تنتهي بالسادية أو المازوشية وبالتالي النشاط الجنسي يكون بمثابة انتهاك حرية الآخر(4).

أما ميشيل فوكو كان الأكثر إثارة للجدل، فقد كان مثلي الجنس من جهة وربط بين الجنس والسلطة من جهة أخرى. حيث ميز بين الجنس والجنسانية وفقًا للسياق الذي تجد فيه السلطة نفسها، ففرق بين التجارب الثلاث في تطور موضوع الجنس.

في اليونان القديمة كانت تجربة الجنس هي تجربة الذات. وفي المسيحية كانت تجربة الجسد، وفي الغرب ظهرت التجربة الجنسانية ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر(9). في حين وصف بول ريكور الجنس بأنه نهر الحياة.

الميتافيزيقيا المعادية للجنس

تدعي الميتافيزيقيا المتشائمة بأن الشخص الذي يرغب جنسيًا بشخص آخر، يجعل من ذاك الشخص موضوعًا للجنس قبل وأثناء النشاط الجنسي.

يقول كانط في (المحاضرات الأخلاقية): “يحول الجنس المحبوب إلى موضوع للشهية وهذا بحد ذاته يعد تدميرًا للطبيعة البشرية“(10). ويُقام هذا الادعاء على أن الوجود الإنساني سامي أو على حد تعبير كانط غاية -لا وسيلة.


حين يتحول الإنسان إلى موضوع يصبح كأي شيء آخر، بحيث يجوز ممارسة الكثير من الخداع للوصول إليه. وبعد قضاء الحاجة الجنسية، يصبح المحبوب شيئا مستهلكًا يمكن الاستغناء عنه.

فيصف برنارد بريم الأمر: “التفاعل الجنسي هو في الأساس تلاعب جسدي وعاطفي ونفسي وحتى عقلي“(10).إن هذا التفاعل يعد انتهاكًا بحق ذات الآخر، وذلك لأن الجوانب الجنسية منه تكون هدفًا لرغبتنا مع إهمال كل جانب آخر.

وهنا يقول كانط: “الجنس ليس ميل إنسان نحو إنسان آخر، بل فقط نحو جنس الآخر، أي الجانب الجنسي وحده يكون موضوع الرغبة”(10). علاوة على ذلك، يفقد الطرفين شخصيتهما، وذلك لأن الطرف الأول يفقد إرادته بخضوعه لرغبته الجنسية وبالتالي يستهدف الطرف الآخر إلى أن يفقد هو بدوره شخصيته إلى حد الاستهلاك.

يذهب كانط بعيدًا في هذا الاتجاه ويقول: “إذا كان الرجل يريد اشباع رغباته، وتريد المرأة اشباع رغبتها؛ يثير كل منهما رغبة الآخر، وهنا تتلاقي ميولهما، لكن الهدف ليس الطبيعة البشرية إنما الجنس، فيذهب كل منمها إلى افساد طبيعة الآخر البشرية، ويجعلان من الإنسانية أداة لإشباع شهواتهما وميولهما، وبالتالي ينزلان بالإنسان إلى مستوى الطبيعة الحيوانية“(10).

الميتافيزقيا الداعمة للجنس


تفترض الميتافيزيقيا المتفائلة أن الجنس هو آلية ترابط، تجمع الناس معًا بشكل طبيعي جنسيًا ولا جنسيًا في نفس الوقت.

ويتضمن النشاط الجنسي إرضاء الذات والآخر، ويولد تبادل المتعة كلاً من الامتنان والمودة، والتي بدورها تعمّق العلاقات الإنسانية وتجعلها أكثر جوهرية عاطفيًا.

كما يرى هذا الاتجاه في الجنس أكثر من مجرد جماع بين زوجين، بل يمثل الجنس قيمة كونية حتى خارج الزواج ودون أن يكون الهدف هو الانجاب، وهنا يدافع راسل عن الجنس بأنه يحافظ على كرامة الإنسان وطبيعته(11).

ويبين بول ريكور بأنه “حين يتعانق كائنان، هما لا يعرفان ماذا يفعلان، لا يعرفان ماذا يريدان، لا يعرفان عما يبحثان، لا يعرفان ماذا يجدان…الجنس بلا معنى لكنه يمتاز بكونه يعيد ربط الكائن البشري بقوة كونية“. ويضيف “أن الحياة وحدها بعينها كونية، كلية لدى الكل، وأن شأن البهجة الجنسية أن تجعلنا نشارك في هذا اللغز“(12).

الحق الطبيعي عند توما الأكويني


يستنتج توما الأكويني بأن ما هو طبيعي في النشاط الجنسي هو دافع الانخراط في الجماع عند الجنسين، ويعتبر الجماع آلية صممها الله لضمان الحفاظ على الأنواع الحيوانية بما فيها البشر.

وبالتالي فإن ممارسة هذا النشاط هو التعبير الطبيعي الأساسي عن الطبيعة الجنسية للإنسان. لأن الله صمم كل عضو من أعضاء الجسم لتأدية وظيفة معينة، فالعضوين الذكري والأنثوي هما من صنع الله ووظيفة الأول هو زرع الحيوانات المنوية في الثاني. وأن ايداع الحيوانات المنوية في أي مكان آخر غير العضو الأنثوي يعد خروجًا عن التصميم الذي أراده الله والحكمة الإلهية(10).

ويعتبر الأكويني الاستمناء والمثلية واستخدام أعضاء غير جنسية في الفعل الجنسي أنشطة مخلّة ومهينة وشاذة. وذلك لأنه كما الهدف من أعضاء الجسم واضح فإن الغاية من الجنس واضحة أيضًا وهي الإنجاب.

الأخلاق العلمانية عند توماس ناجل

يرفض توماس ناجل أخذ الأكويني بما هو مشترك بين الإنسان والحيوان، لذا نجد ناجل يركز على ما هو مختلف بين الإنسان والحيوان. أي ما يميز حياة الإنسان الجنسية عن الحياة الجنسية للحيوان.

ويجادل ناجل بأن الانحراف الجنسي لدى البشر يجب أن يُفهم على أنه ظاهرة نفسية وليست فيسيولوجية تشريحية كما ذهب الأكويني. وذلك لأن الجانب النفسي للإنسان هو الذي يميزنا عن الحيوان، وبالتالي فإن كل حساباتنا حول النشاط الجنسي الطبيعي يجب أن تعترف بأن نفسية الإنسان فريدة ومميزة(10).

إن النفسية الطبيعية للإنسان تكون واضحة حينما يستجيب كل طرف بإثارة جنسية حين يلاحظ الإثارة الجنسية للطرف الآخر (10). أي العلاقة الطبيعية، هي أن يشعر الطرفين بالإثارة الجنسية، وفي هذا اللقاء يكون كل طرف مدركًا بنفسه وفي نفس الوقت يدرك الطرف الآخر على أنهما يمثلان ذاتًا وموضوعًا في تجربتهما الجنسية المشتركة، بمعنى ألا يكون أحدهما إلغاءً ونفيًا للطرف الآخر. بذا، فأن الانحراف الجنسي هو غياب هذا الوعي المشترك بدور الطرفين في العملية.

ولا يعتبر ناجل المثلية أو الجنس الشرجي أو استخدام الأعضاء غير الجنسية والأدوات والجنس غير الهادف للانجاب نشاطًا شاذا، طالما تتحقق رغبة الطرفين الواعية. أما الاستمناء والاغتصاب من الانحرافات الجنسية وذلك لعدم تحقيق رغبة الطرف الآخرأوغيابه.

الخلاصة

في البداية اتخذ الجنس موقعًا خاصًا في الخطاب الأسطوري للحضارات القديمة، ومع بداية التفلسف اليوناني تحول إلى موضوع خاص لمناقشات عقلية.

وفي العصور المظلمة استسلم للنقاش اللاهوتي والحكم الكنسي. ومع عصر النهضة صار الجنس موضوعًا فنيًا في السياقات الجمالية، إلى أن صار مسألة من مسائل الفلسفة من جديد ابتداءً من القرن السادس عشر.

وبات بات له مكانة في الحقل العلمي مع فرويد. ومع بروز الحركات النسوية والمثلية وتطور البحوث السايكولوجية والاجتماعية والانتروبولوجية وحتى الفزيولوجية في موضوع الجنس، صار للجنس مكانة مختلفة في الخطاب الفلسفي وحتى الديني.

لكن الإشكال الجنسي سيظل قائمَا في الخطاب الإنساني نظرًا لما يحمله من قيمة في صنع السرديات الحداثية أو في خلق جدالات أخلاقية.

المصادر

1- طه باقر، ملحمة كلكامش، ص41-42.

2- ancient.eu

3- theoi

4- encyclopedia

5- themontrealreview

6- thebodyissacred

7- theo.kuleuven.b

8- bbc

9- plato.stanford

10- iep.utm.edu

11- russell-j

12- فتحي المسكيني، هجرة إلى الإنسانية، الطبعة الأولى 2016، منشورات الاختلاف،ص58-59

معنى الحياة في الرهان المعرفي

معنى الحياة في الرهان المعرفي

جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!

يثير إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم أكثر القضايا قدمًا في تاريخ السؤال البشري. اعتاد الإنسان أن يستفسر عن معنى وجوده في سياقات متباينة ووضع فرضيات كثيرة للوصول إلى إجابة مقنعة، بحيث يمكن وصف المسيرة البشرية بأنها مسيرة موجهة نحو إيجاد معنى للحياة.

وحتى تبدو الحياة ذات قيمة ومعنى، كان على الإنسان أن يتجاوز ظاهرها المادي ويدعي بأنه ثمة هناك جوهر يسكن العالم/الوجود. وهذا ما دفعه إلى تصورات أسطورية في البداية، فقام بأسطرة كل شيء وعرَفه في ظل قوى خفية.

لكن مع مرور الوقت لم يكف الناس عن طرح هذا السؤال بل احدثوا بعض التغيرات في سياقها وحسب. فمنهم من ادعى بأن المعنى يكمن في علاقاتنا الروحية، ومنهم من انزل المعنى إلى مستوى الجسد وقال بأن حياة ذات معنى تتحقق بتحقيق رغباتنا الشخصية. في حين رأى بعضهم في صنع معنى من قبل الفرد كحل حاسم، لكن اخذ اليأس بعضهم من هذا السؤال وقالوا بأن الحياة تفتقر إلى القيمة والمعنى أساسًا.

وفي هذا المقال، سوف نسلط الضوء على النظريات التي ناقشت معنى الحياة.

المنظور الديني:

مسألة معنى الحياة من المسائل المفضلة في النقاش الديني. وقد يحدث أن يتفرد الدين في تقديم الإجابة؛ وذلك لأن الدين نفسه قائم على وجود معنى للحياة سلفًا. ويتمادى في هذا الجانب ويرى في تلك الغاية قيمة أكثر مما تحمله الحياة، لأن تلك الغاية تسبق الحياة ومتقدمة عليها.
على رغم من وجود ديانات كثيرة تتنازع فيما بينها في أكثر القضايا جوهريةً، إلا أن هناك وجهة نظر بهذا الخصوص. وهي: حياة ذات معنى تتطلب وجود الله والإيمان به. بمعنى أن وجود الله جنبًا إلى جنب مع الارتباط المناسب به ضروريين وكافيين لتأمين حياة ذات معنى(1).

يرى الدين في حياة الفرد على أنها جزء من خطة الله في خلق الكون، وما يجعل من حياته ذات قيمة كبيرة ومعنًى نهائي هو أنه يساعد لله في تحقيق تلك الخطة وذلك القصد الإلهي، وإذا ما فشل الفرد في فعل ما يريده الله، يسود اللا معنى في حياته(2).

وفي هذا الصدد يكتب الفيلسوف بليز باسكال: “هذه الهاوية اللانهائية لا يمكن ملؤها إلا بما هو لا متناه وثابت، أي بالله نفسه”. ويعترف القديس أوغسطينيوس: “لقد صنعتنا لنفسك. وقلوبنا مضطربة إلى أن تستقر فيك”(1).

المنظور العلمي:

السؤال عن معنى الحياة إذا ما طُرح في سياق علمي سيحدث الكثير من المغالطات لسببين على الأقل.

أولًا: هناك شيء من الأنانية البشرية في هذا السؤال، إذ نبحث عن معنى يتوافق مع مصالحنا الإنسانية. وهذا السؤال يفترض مسبقًا بأن المعنى يُقاس على الإنسان. أي الإنسان هو العنصر المحكي في تحديد المعنى؛ والعلم لا يمكنه التعامل مع مسألة كهذه. فالإنسان مجرد حلقة تطورية وكيان حيوي كسائر الكائنات.

ثانيًا: لا يتعامل العلم مع غاية الأشياء بالمعنى الذي نريده إنما مع آلية عملها، واستنتاج قيمة أو معنى من هذه الآلية لا يعدو أن يكون أكثر من تأويل فلسفي أو ديني.

ويخبرنا العلماء أن الوجود نشأ من تفاعل عشوائي بين المواد الكيميائية والغازات، وإذا كان له معنى فهو كئيب وضيق جدًا.

فالإنسان حاله حال الأميبا وغيرها من الكائنات، معنى حياته هو انتشار المادة الجينية، هذا صحيح وفي نفس الوقت مؤسف(3). تشبه الحياة لعبة، الهدف منها هو الإستمرار في اللعب.

استطاعت بعض الجينات والأنساب النبيلة من البقاء في اللعبة لفترة أطول، ولكن أين هو المعنى في لعبة لم يسن قواعدها أحد، وفي النهاية لا يمكن الفوز بها. إذن ليس هناك ثمة معنى جوهري للبقاء على قيد الحياة(4). ويعلق لورانس كراوس على ذلك ويقول: “حقيقة تطورنا على هذا الكوكب هي مجرد حادث كوني، والاشخاص الذين يعتقدون بخلاف ذلك من المحتمل أنهم يعانون من وهم ديني”(5).

الطبيعانية أو المذهب الطبيعي:

هناك طبيعانية ذاتية وأخرى موضوعية. الأولى تتميز بكونها متفائلة، فهي تدعي بأن حياة ذات معنًى قوي ممكنة حتى ولو لم يكن هناك إله أو عالم ما بعد الحياة أو فوقها.

وهي تسلم بأن حياة ذات معنى تختلف من شخص لآخر وتقوم على حصول الفرد ما يريده بقوة أو من خلال تحقيق أهداف محددة ذاتيًا أو من خلال تحقيق ما يعتقد المرء أنه مهم حقًا، كما الاهتمام بشيء ما أو حبه بصدق من شأنه أن يجعل الحياة ذات معنى(1).

لكن يؤخذ على هذا المذهب تطرفه الذاتي، فتطبيقه سيكون بمثابة تبرير لكل الأفعال الشنيعة والوحشية طالما أن الأشخاص الذين يقومون بهكذا أفعال يجدون راحة وطمأنينة فيها.

في الطرف المقابل هناك، الطبيعانية الموضوعية. يحاول المذهب الموضوعي معالجة الفجوات التي تتخلل المذهب الذاتي، وهو يؤكد بأن حياة ذات معنى تتأسس على التواصل الفعال والمناسب مع الحقائق الموضوعية المستقلة عن عقل الفرد(1).

ومن الجدير بالقول هو أن الموضوعية لا ترفض الذاتية دائمًا. بل نجد أحيانا أنها ترى في الجانب الذاتي كشرط مهم لتحقيق حياة ذات معنى، وبهذا الصدد تقول سوزان وولف: “ينشأ المعنى عندما يلتقي الانجذاب الذاتي مع الجاذبية الموضوعية”(2).

المنظور الوجودي:

يقسم البعض الوجودية إلى وجودية دينية وأخرى ملحدة، لكن كما يقول بول ريكور التصنيف شأن بيداغوغي وليس معرفي.

ومن جانب آخر يرفض كبار الوجوديين فكرة التمذهب، أي لا يدعون وجود فلسفة وجودية أو موجودية بحتة. لكن هناك نوع من التوافق بين ما نطلق عليهم فلاسفة الوجودية حول إشكال المعنى.

فهم يرفضون وجود معنى للحياة، أي معنًى جاهز، لكنهم يعولون على إمكانية خلق معنى ما في سياق الحرية الفردية. وهذه الحرية كما يقول سارتر، يتم تحديدها بمعزل عن أي تحديد مسبق من قبل الإله أو من خلال قيم أو معرفة موجودة سلفًا”(6).

ولأن الوجودية تخرج الإنسان إلى سياق مختلف عن سياق وجود باقي الكائنات. فهي تركز على الوجود الإنساني على أنه نمط خاص من الكينونة كما يقول هايدغير. فالإنسان حين يلقى في الوجود لا يحمل معه أي معنى أو جوهر، بل هو من يقوم بصنع معنى لوجوده بعد أن يدركه على نحو خاص(6).

وهنا يقول هايدغر في كتابه الأهم (الكينونة والزمان): “السؤال عن معنى الحياة هو السؤال حول كيفية عيش حياة أصيلة، حياة تكون حياتنا نحن دون أن تكون محددة مسبقًا في المجتمع، وأن تعيش حياة أصيلة هي أن تختارها بنفسك”(7).

ولنيتشه فكرة مشابهة، فهو يرسم صورة الإنسان على أنه جسر لا هدف، ويؤكد على أنه مهما كان معنى الحياة أو سيكون، فهو معنًى أرضي وليس سماويًا، ومعنى الحياة هو أن يتم خلقه لا اكتشافه(7).

المنظور العدمي:

ما هو جدير بالإشارة إليه في البداية، أن ما يجعل العدمية مختلفة عن الوجودية هو كونها ترفض حتى إمكانية خلق المعنى.

فهي لا ترفض وجود معنى جاهز وحسب بل تشك حتى في مزاعم الوجودية حول إمكانية صنع معنًى ما؛ وذلك لأنه حياة ذات معنى غير ممكنة على الإطلاق. تركز العدمية على عنصرين مهمين في حياة الإنسان، الشعور بالملل وعدم الرضى، بحجة أن الملل يصف الحياة بشكل كاف على أنها بلا معنى، كما أن حياة الإنسان تفتقر إلى القدر المطلوب من الرضى ليمنحها معنى(1).

وتؤكد بأن ما من شأنه أن يجعل الحياة ذات قيمة إما لا يمكن أن يوجد أو لا يمكن الحصول عليه. كما تزعم بوجود شيء ما في الحالة الإنسانية تمنع المعنى من الظهور(2).

خلاصة:

معنى الحياة من القضايا التركيبية كما يقول أدوارد مور. فمهما حاولنا أن نجعل منها قضية موضوعية نسقط في فخ الذاتية. حكمنا على طبيعة الأشياء لا يتعدى كونه تأويلًا شخصيًا منا، وحتى تلك الاحكام تتغير حسب الزمن وتأخذ مكانها أحكام أخرى. لكن مع ذلك، من الضروري أن يستمر الإنسان في بحثه عن المعنى، وقد يكون البحث هو نفسه المعنى. لا يمكن التغاضي عن أهمية البحث طالما أن السؤال لا يتوقف عن الظهور، ويعد من الاسئلة الحاضرة على الدوام في ظل عالم لا يسكت فيه صوت الحرب. في الوقت ذاته قد يساعدنا هذا السؤال لأن نعيد النظر في الكثير من السرديات التي تربطنا بالعالم وبالآخرين وبأنفسنا.

المصادر:

تعريف الحركة النسوية وتاريخها

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

نتمتع كنساء في يومنا هذا بالعديد من الحقوق، من حق التصويت والترشح إلى حق القيادة والتعلم والعمل. وقد يخيّل إلينا أن هذه الحقوق مُكتسبة لجميع البشر بطبيعتها. لكن الحقيقة أن هذه الحقوق جاءت نتيجة لعناء طويل من النضال النسوي. في المقابل، نواجه في حياتنا اليومية الكثير من مواقف التهميش والتمييز والتحرش والعنف تجاه المرأة، ممّا يؤكد حاجتنا إلى المزيد من النضال النسوي. فما هو تعريف الحركة النسوية؟ كيف نشأت؟ وما هو تاريخها؟

ما هي الحركة النسوية؟

تُعرّف الحركة النسوية (المعروفة بالـFeminism) بالحركة السياسية والاجتماعية والثقافية الداعية إلى المساواة بين الرجل والمرأة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ومحاربة جميع أنواع التمييز الجندري. وهي لا تشمل فقط النضال الحقوقي المباشر، بل أيضًا الفلسفة النسوية التي تؤمن بالمساواة والتي تُلهم النساء حول العالم للدفاع عن حقوقهن.

رغم أن الحركة النسوية نشأت في الغرب، إلا أنها توسّعت في جميع مناطق العالم، وتأثرت بمختلف التيارات الثقافية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، ممّا خلق العديد من المدارس الفكرية النسوية (الراديكالية، الاشتراكية-الماركسية، الرأسمالية، الأناركية، …) تقع كلها تحت مظلة الأيدولوجية النسوية، ولكنها تختلف في الأهداف والاستراتيجيات.

حاربت الحركة النسوية في سبيل الحقوق المدنية للنساء (حقوق الملكية والتصويت والتعليم والعمل)، بالإضافة إلى حماية المرأة من العنف المنزلي والتحرش والاغتصاب، وحرية التصرف بالجسد والحصول على الرعاية الإنجابية وصولًا إلى تحسين شروط العمل والحق في إجازة الأمومة والأجور العادلة، وغيرها الكثير من القضايا التي تتعرض فيها المرأة للتمييز.

تاريخ الحركة النسوية

رغم أن كلمة “النسوية” لم تنتشر قبل السبعينيات إلا أن الأفكار النسوية نشأت منذ زمن قديم، نتيجة التمييز ضد المرأة الذي كان سائدًا في المجتمعات القديمة. وتقسم الحركة النسوية إلى موجات أربع أساسية، كانت مسبوقة بنضالات نسائية عديدة.

كان أفلاطون من أوائل الـ”نسويين”، فقد اعتبر في كتابه “الجمهورية” أن النساء يمتلكن قدرات مماثلة لقدرات الرجال، وهنّ قادرات على الحكم والدفاع عن بلادهنّ.

في روما القديمة، منع القانون النساء من وراثة الذهب والتزين به كما وضع القانون قيودًا على حركة النساء ولباسهن. فقادت النساء تظاهرات عارمة اعتراضًا على القانون. وكان ذلك في القرن الثالث قبل الميلاد.

لكن بقت هذه الأزمنة، حتى العصور الوسطى، دامسة ومظلمة في مجال حقوق النساء. وبقت الأصوات المُطالبة بالمساواة خافتة.

تعتبر الفرنسية «كريستين دو بيزان- Christine de Pizan » الفيلسوفة النسوية الأولى التي رفعت الصوت، في أوائل القرن الخامس عشر، في وجه كراهية المرأة وتهميشها. أما في بريطانيا، فقد بدأ الحديث عن حقوق المرأة في القرن السادس عشر، فحين انتشرت مقاطع تسخر من المرأة. نشأت في المقابل حركة أدبية نسوية تدافع عن حق النساء في التعليم والعمل.

كريستين دو بيزان

تأثّرت الحركة النسوية بعصر التنوير الذي نشر مبادئ العدالة والحريات والحقوق. رغم أن فلاسفة التنوير تناولوا الصراع الطبقي وأهملوا التمييز ضد المرأة، إلا أن المفكرات في عصرالتنوير سرعان ما أثرن قضايا النساء. أطلقن بدورهن “إعلان حقوق المرأة والمواطنة” على غرار “إعلان حقوق الرجل والمواطن” الذي لم يعترف بحقوق النساء. أطلقت الكاتبة ماري ولستونكرافت كتابها “دفاعًا عن حقوق المرأة”، الذي طرحت فيه حق المرأة في تساوي فرصها مع الرجل في مجالات العمل والتعلم والسياسة.

الموجة الأولى من الحركة النسوية

انطلقت الموجة الأولى في الحركة النسوية بين القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن تأثر المفكرون بفلاسفة عصر التنوير والمناهضة لنظام العبودية.

حاربت الحركة النسوية في موجتها الأولى من أجل الحق في الملكية ومعارضة زواج المتعة وتملّك المرأة والأولاد من قبل الرجل. ثم انتقلت إلى تعزيز قوة المرأة السياسية، فطالبت بالحق في التصويت والمشاركة في القرار السياسي.

في بريطانيا، أدت النضالات النسوية لإعطاء حق التصويت للنساء (اللواتي يبلغن ال21 سنة) في العام 1928. أما في الولايات المتحدة الأميركية، فقد ضمنت الحق التصويت للنساء في كل الولايات في العام 1919. ظهرت الموجة الأولى من النسوية أيضًا في إيران واليابان وألمانيا وأوستراليا ونيوزيلندا وغيرها من البلدان، وطالبت النساء بحقهن في التصويت في مختلف مناطق العالم.

الموجة الثانية من الحركة النسوية

بدأت هذه الموجة في أوائل الستينيات وامتدت حتى أواخر الثمانينيات. وقد ركزت الحركة النسوية في هذه الفترة على المفاهيم الثقافية الذكورية التي تعيق تحرر المرأة وحمايتها. فقد استمر التمييز الذي يحصر المرأة في دورها النمطي في التدبير المنزلي ورعاية الأطفال.

في العام 1974، أطلقت المنظمة الدولية للنساء حملة لتحقيق العدالة القانونية بين النساء والرجال. كما أن انتشر شعار “الشخصي سياسي” الذي أطلقته الكاتبة النسوية “كارول حانيش”، والذي أعاد تعريف السياسة في معنى أوسع وأشمل، ألقت الضوء على العلاقة الوثيقة بين التجارب الشخصية والخاصة وبين البنى السياسية والاجتماعية لمجتمع معين.

أدت الموجة الثانية إلى دخول المرأة في مجالات عمل واسعة وقوننة حق المرأة في الصحة الإنجابية وتكريس حقوقها المدنية.

إعلان لمسيرة مسائية في اليوم العالمي لعام ١٩٧٥

الموجة الثالثة من الحركة النسوية:

في بداية التسعينات، بدأت الموجة الثالثة من الحركة النسوية. رغم أنها استمدّت قوتها من الموجة الثانية التي خلقت للمرأة أسس استقلاليتها الاقتصادية وتحررها الثقافي من المفاهيم النمطية، إلا أن الموجة الثالثة أتت لتصحح أخطاء الموجة الثانية، والتي تمثلت بحصرية الحركة النسوية بالمرأة ذات البشرة البيضاء من الطبقة الوسطى والعليا (خصوصًا في الولايات المتحدة الأميركية). فأتت الحركة النسوية في موجتها الثالثة لتشمل النساء من مختلف الأعراق والإثنيات، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية.

وعملت الموجة الثالثة لتعزيز صورة المرأة ككائن قوي، بدل من تصويرها بصورة نمطية ضعيفة وخاضعة أو محصورة بالإثارة الجنسية والتسليع، وذلك من خلال الأفلام والبرامج التعليمية للأطفال وغيرها. كذلك أعادت الموجة الثالثة تعريف الجندر (أي الهوية الجنسية) المختلف عن الجنس البيولوجي.

الموجة الرابعة من الحركة النسوية:

رغم عدم الاتفاق على وجود الموجة الرابعة، يعتبر العديد من علماء الاجتماع والمفكرين أن الموجة الرابعة بدأت في سنة 2012، مع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة قضايا النساء ونشر الأفكار النسوية. وقد أثارت قضية فتاة هندية تعرضت لاغتصاب جماعي (وتوفيت إثر الحادثة) غضبًا عارمًا للنساء حول العالم. وبدأت هذه الموجة بالتركيز على قضايا حماية النساء من التحرش والاغتصاب والتنمر الجسدي (body shaming).

رغم التقدم الكبير الذي أحرزته النساء في المجال الحقوقي في القرن الأخير، إلا أن وضع النساء في العالم متفاوت جدًا بين مختلف الدول والطبقات الاجتماعية. وتوضح أرقام منظمة الأمم المتحدة التمييز ضد المرأة في الكثير من المجالات، بحيث لا تتعدى مشاركة النساء في المجالس الدولية نسبة 23%، وتتعرض الملايين من الفتيات للزواج المبكر (قبل 18 سنة)، وتتعرض مرأة من كل خمس نساء في العالم للعنف الجسدي و/أو الجنسي من شريكهن. وتثبت هذه الأرقام أن الحركة النسوية ما زالت حاجة ملحة لضمان وصول المرأة إلى أدنى حقوقها الإنسانية.

مصادر:

Britannnica
History.com
UN Women

إقرأ أيضًا: اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة

قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

لم تعد الفلسفة تشكل رؤية معرفية وحسب في سعينا للوصول إلى الحقائق واليقينيات. فهي صارت رؤيا جمالية في سياق تعاملنا مع ذواتنا ومع أشياء العالم. فهي لا تمثل تراكم معرفي بقدر ما تكون تراثًا روحيًا نحمله معنا كمصدر من مصادر أنفسنا العميقة؛ لذا، فعلاقتنا مع الفلسفة تحمل مفارقة عجيبة، فرغم أن الفلسفة غالبًا ما تشير إلى ما هو عصي على القراءة، سرديات فيها الكثير من الالتباس، مقولات تحيل واقعنا الحسي إلى أفق مجرد ومثالي ولغة بالكاد تفهم، إلا أننا نشعر بأن الفلسفة هي من تصون ذواتنا وعلاقاتنا.
الحديث عن موت الفلسفة لا يشبه الحديث عن الميتات التي جاءت بها الحداثة وما بعد الحداثة كموت الإله أو موت المؤلف أو موت الناقد. ففي هذا المقال سنسلط الضوء على مبررات هوكنغ وتايسون وكراوس وغيرهم من العلماء الذين ادعوا بأن الفلسفة ميتة وغير نافعة في عالمنا الذي يتقدم فيه العلم، كما سنبين الرؤى المدافعة عن الفلسفة والقضايا التي يمكن للفلسفة وحدها طرحها ومناقشتها.

حول ماهية الفلسفة والعلم وحدودهما:

بعض الفلسفات نفت وجود عقل مجرد وبعضها ركزت على الحدس وأخرى وثقت بإمكانية الحواس في الوصول إلى الحقيقة وأخرى لجأت إلى التجربة في مساعيها المعرفية. رغم ذلك، الفلسفة هي شيء والعلم شيء آخر، لكل منهما أدواته وطرقه ومنهجيته. يمكن تعريف الفلسفة على أنها استخدام العقل المجرد لفهم الأشياء مثل طبيعة العالم والوجود (1). في حين أن العلم هو الدراسة الدقيقة لبنية وسلوك العالم المادي من خلال الملاحظة والقياس والتجربة وتطوير النظريات لوصف نتائج هذه الأنشطة(2) . لكن هذا التحديد المفاهيمي يتلاشى في الكثير من النقاط التي تتداخل فيها الفلسفة مع العلم أو العكس. من السهل أن نقول بأن إسهامات فيثاغورس وديكارت وباسكال في علم الرياضيات كانت علمية بحتة. لكن كيف يمكن تحديد هوية الانشغال الفلسفي – الإغريقي على سبيل الذكر- في قضايا علمية، مثل طبيعة العالم، أصل الحياة، بنية المادة، المسائل الاجتماعية والنفسانية؟ هناك من الفلاسفة (أنكسيماندر مثلا) من قالوا بأن الكائنات انحدرت من أصل واحد، ومنهم من قال أن الموجودات تتكون من ذرات مثل ديمقريطس، وهناك من ذهب ليقول بأن النجوم هي عبارة عن شموس تدور حولها كواكب كالارض وعليها حضارات. ومن جانب آخر، هل يمكن أن نسلم بسهولة بأن كل ما يكتبه العلماء هو بالضرورة علم؟ ثمة علماء ناقشوا مسائل أخلاقية، اجتماعية، ثقافية وسياسية دون الاعتماد على التجربة والقياس. يرى لورانس كراوس بأن انشغال الفلاسفة في القضايا الفيزيائية هو علم ولا قيمة أو تأثير للفلسفة في التطور العلمي الحالي(3). بينما الفيزيائي الشهير فيكتور ستينجر قبل فترة وجيزة من وفاته، قال بأنه عندما يتحدث علماء الفيزياء حول الكون فأنهم يشاركون في تقليد فلسفي عظيم يعود لآلاف السنين؛ فلا مفر من أن الفيزيائيين هم أيضا فلاسفة (4). والفيلسوف كارل ياسبرس يؤكد على استقلالية كل من الفلسفة والعلم، غير أنه لا يرى في تلك الاستقلالية نوع من الانفراد والانفصال التام، فثمة علاقة جوهرية بين العلم والفلسفة، إذ يقول بأن طريق العلم لا غنى عنه للفلسفة، لأن وحدها المعرفة بهذا الطريق تمنع الفلسفة من تقديم ادعاءات غير سليمة وذاتية لفهم الواقع وفي الجانب الآخر فإن الوضوح الفلسفي لا غنى عنه لحياة ونقاء العلم الحقيقي ولا يستطيع العلم أن يفهم نفسه من دون الفلسفة(5).

العلم وموت الفلسفة:

يقول ستيفن هوكنغ في مقدمة كتاب التصميم العظيم بالنص: الفلسفة ماتت ولم تحافظ على صمودها أمام تطورات العلم الحديثة، وخصوصًا في مجال الفيزياء. وأضحى العلماء هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلة التنقيب وراء المعرفة (6). ما قاله هوكنغ فتح جبهة ربما كانت متوقعة بين العلم والفلسفة. وصف الفيلسوف جوليان باجيني هذه المزاعم بأنها طموحات العلم الامبريالية، فثمة هناك قضايا تمس الوجود الإنساني لا شأن للعلم بها(4). في حين يأتي لورانس كراوس ليعلق على هذا التوتر بين الفلسفة والعلم ويقول بأنه من الطبيعي أن يشعر المهتمين بالشأن الفلسفي بالتهديد ولهم كل الحق في أن يشعروا بالتهديد طالما العلم وحده يتقدم، ويؤكد بأنه في النهاية المصدر الوحيد للحقائق هو الاكتشاف العلمي(4). سارا كل من نيل ديغراس تايسون والحاصل على جائزة نوبل ستيفن وينبرغ على خطى هوكنغ وكراوس، فيقول الأول بان العلم يمضي قدمًا وتبقى الفلسفة غارقة وعديمة الفائدة، فهي ميتة بالفعل، ويزعم الثاني بأن الفلسفة غير فعالة بشكل غير معقول(4).

ما يمكن للفلسفة وحدها أن تقوله:

انزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض – على حد تعبير شيشرون- بعد أن وضع الذات الإنسانية في مرمى السؤال الفلسفي. بمجرد أن قال سقراط “اعرف نفسك” صارت هذه النفس أو الذات مسألة لا تقل غموضا عن أصل العالم، المسألة التي فجرتها الفلسفة الطبيعية. ربما، الأسئلة البدائية وجدت لنفسها من يطرحها في عالمنا اليوم، لكن هل إعادة التفلسف إلى السماء عبر التلسكوب، تشكل تهديدًا على السؤال السقراطي القديم؟ إذا ما توقفنا قليلًا عند حجة هوكنغ، نلاحظ بأنه لا ينظر إلى الفلسفة أكثر من مجرد أسئلة طرحها بعض الفلاسفة قبل أكثر من ألفي عام حول طبيعة العالم المادي وأصله، وبالتالي فالفيزياء لا تحتاج إلى صحبة الفلسفة في إيجاد الأجوبة. لكن ثمة سؤال يلوح في الأفق، حتى ودون أن يعلن هوكنغ موت الفلسفة. ماذا بإمكان الفلسفة وحدها أن تقوله اليوم؟

الواقع:

اعتبر أفلاطون عالم الصيرورة أي عالمنا المحسوس ما هو إلا ظل عالم حقيقي، وكل ما هو موجود نسخة غير أصلية من المثل. في حين زعم الواقعيون بأن العالم المحسوس هو العالم الوحيد الحقيقي وللأشياء وجود مستقل عنا والصورة التي نكونها عنها تعبر تماماً عن ماهيتها، هذا بالنسبة للفلسفة. أما بالنسبة للعلم فهناك طروح في غاية الغرابة، فبحسب المبدأ الهولوغرافي فإن عالمنا رباعي الأبعاد مجرد ظلال على حدود زمكان أكبر وخماسي الأبعاد. كما أن هوكنغ نفسه يفلسف هذه المسألة في فصل “ما الواقع” من كتابه التصميم العظيم ويجد بأنه يمكن معرفة الواقع وما هو عليه الوجود من خلال الواقعية المعتمدة على النموذج. مع أن هوكنغ لا يستخدم العقل وحده في تفسير الواقع، لكنه مع ذلك يتفلسف في هذا الشأن، لأن البحث في ماهية الواقع ولو في سياق علمي يعد مشاركة في التراث الفلسفي بالنسبة لإشكال الماهية.

علاقتنا بالعالم:

قبل فترة وجيزة من وفاته خرج هوكنغ بتصريحات خطيرة ومرعبة حول مصير الأرض، وحذر العالم من نهاية وشيكة للحضارة البشرية وذلك بسبب الحروب النووية والتغير المناخي وتطور الذكاء الاصطناعي. أن هذه التصريحات فيها دعوة إلى التفلسف؛ طالما أن العلم ليس لديه ما يقوله بشأن تلك الكوارث. فالحرب والتسبب بالتغير المناخي والقلق بشأن الذكاء الاصطناعي تعد من الإشكالات الأخلاقية وبالتالي الفلسفية. يدعو الفيلسوف لوتشيانو فلوريدي إلى إعادة النظر في مهمة الفلسفة، فهو ينتقد الحركة الفلسفية الحالية لانشغالها عن العالم الرقمي والانصراف في مناقشة قضايا لا تمت إلى العالم بصلة، ويؤكد على ضرورة إعادة تأويل انطولوجيا الأشياء والبحث في قضايا تخص العالم الرقمي وضمن شروطه(7). ما يمكننا استنتاجه مما قاله هوكنغ، هو أن العالم موجه نحو كوارث حقيقية وما نستنتجه مما يقوله فلوريدي هو أن مهمة الفلسفة هي منع وقوع تلك الكوارث من خلال تقديم تفسير جديد للعالم؛ فكل كارثة تعبر عن نوع العلاقة التي تربطنا بالعالم، وهذه العلاقة تُفسر وتُصحح فلسفيًا لا علميًا. إذ، يمكن للفلسفة تحشيد الجهود في زيادة التفاهم المتبادل في المجتمع لمعالجة القضايا المشتركة ذات أهمية سواء في التعليم أو السياسة أو البيئة(8).

ثالوث المعنى والقيمة والحقيقة بين الفلسفة والعلم:

نجد بأن الكثير من العلماء يدافعون عن المثلية الجنسية، ومنهم من يرفع شعارات حقوق المرأةً، فضلا عن دفاعهم عن الحريات. فكيف لهذه المسائل أن تكون ذات معنى في حدود العلم؟ القيمة التي نضيفها على الأشياء حتى وإن كانت لها أبعاد منفعية فهي تخرج عن كل سياق علمي بل وعليه أيضًا. ثمة أسئلة كثيرة نواجهها اليوم وهي تشكل أهم أركان العالم المدني المعولم. متى يكون القتل الرحيم أمرًا صحيحًا؟ ما هي الحقوق العالمية التي يجب أن يتمتع بها البشر؟ هل للحيوانات حقوق؟ هذه الأسئلة مهمة، لكن لا يستطيع البحث العلمي تقديم جواب علمي صِرف، يمكن للعلم أن يساعدنا في التعرف على الأمراض المزمنة وتاريخ حقوق الإنسان والحيوان، وهذه المعرفة من شأنها أن تكون مصدر إلهام لآرائنا وقراراتنا، لكن العلم نفسه لا يستطيع أن يصدر أي أحكام حول ما إذا كانت هذه الحالات صحيحة أم خاطئة (8)، فهي تدخل في مجال فلسفة الأخلاق. وثمة الكثير من القضايا الأخرى التي لا يستطيع العلم مناقشتها مثل الحكم الجمالي والهدف من الحياة ومعنى أن نكون ونحيا.

خلاصة:

التقدم العلمي على مر العصور لم يقتصر على تقديم صورة واضحة ودقيقة لأول مرة في تاريخنا عن العالم وعن أنفسنا، بل أثر حتى في الجانب الروحي والوجداني والأخلاقي ولو بشكل غير مباشر؛ فنظرية التطور مثلًا، دفعتنا لأن نعيد طرح السؤال السقراطي – اعرف نفسك – في سياق جديد. كما أن علم الكونيات قدم مواد ومواضيع جمالية ألهمت الكثير من الأدباء. في الطرف الآخر، نحن البشر كائنات تتفلسف غريزيًا، إذ، نطرح من تلقاء أنفسنا اسئلة حول معنى حياتنا وحقيقة الأشياء وقيمتها. ربما لا تستطيع الفلسفة أن تكتشف كواكب أخرى صالحة للحياة ولا شأن لها في إيجاد لقاح ضد فايروس كورونا، لكنها بالفعل مسؤولة عن تفسير حياتنا وتقلباتها وأزماتها في ظل جائحة كورونا على سبيل الذكر. وإذا ما اردنا أن ندرك حقيقة حاجتنا للفلسفة من الضروري أن نطرح بعض الاسئلة ونتأملها، على سبيل المثال، في ظل التقدم العلمي السريع على كافة مستوياته لماذا تفاقمت أزماتنا ومشاكلنا، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الجماعي؟

المصادر:


1- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/philosophy
2- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/science
3- https://www.scientificamerican.com/article/the-consolation-of-philos/
4- https://www.scientificamerican.com/article/physicists-are-philosophers-too/
5- http://inters.org/jaspers-philosophy-existence
6- Hawking, Stephen. The Grand Design. P10
7- https://valenzine.medium.com/luciano-floridi-philosophy-439cd5014235
8- https://www.nature.com/articles/s41599-018-0163-z
9- https://undsci.berkeley.edu/article/0_0_0/whatisscience_12

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

لم تعد تكتفي ذات الإنسان الفرد بمواجهة مجتمعها وقضاياه، فهي صارت ذات عالمية. كما أن العالم لم يعد مجرد مجموعة من الدول والثقافات المغلقة على نفسها، فهو عالم واحد في مشكلاته بالنسبة لكل فرد منا. شهد العالم حربين عالميتين حصدتا أرواح ملايين البشر، غير أن من لم يشهدوا المعارك لم يفكروا في تلك الحربين، والكثيرين منهم لم يسمعوا بهما حتى. لكن الآن، تغريدة واحدة قادرة على هز كيان ملايين البشر، كل صغيرة وكبيرة في العالم باتت تخصنا حيثما كنا. هذا وفضلا عن الأزمات الاقتصادية ومشاكل التفاوت الطبقي وخطابات الكراهية وبروز قيم جديدة تناقض موروثنا الثقافي والأخلاقي. في عالم كهذا، غالبا ما نشعر باللا جدوى من محاولاتنا في تغيير يومنا للأفضل، نواجه صعوبة في تغطية مصاريفنا اليومية، نشعر بأن اللا معنى يكتسح العالم. نستطيع القول بأننا نعاني من مشاكل وجودية بحتة؛ لذا، فإن العلاج الوجودي قد يستطيع مساعدتنا في إضفاء معنى لحياتنا وتفعيل إمكاناتنا لمواجهة المعاناة المستمرة.

العلاج النفسي الوجودي:

حسب فيلسوف القرن العشرين باول تيليش، يواجه العلاج النفسي الوجودي هواجس الحياة المطلقة المتمثلة بالوحدة والمعاناة وانعدام المعنى ضمن قالب من العدل والصدق والتي يمكن تشخيصها في كل فرد منا وذلك لكونها متجذرة في تجاربنا الشخصية(1). فهذا النوع من العلاج لا يبحث في ماضي الفرد والتاريخ المرضي في العائلة. وبدلًا من إلقاء اللوم على أحداث من الماضي فالعلاج الوجودي يرى فيه بصيرة لتصبح أداة لتعزيز الحرية والإصرار(2). وأغلب الأساليب المستخدمة في العلاج الوجودي تركز على المسؤولية وحرية الاختيار وذلك لأن الكينونة التي تعاني من المشاكل اختيرت لأن تكون ذلك، بمعنى أن الفرد قد اختار هذه المعاناة أو الطريقة المؤدية إليها، لذا، فالمعالج النفسي كما يقول إرفين يالوم هو رفيق درب المريض، يساعده من خلال التعاطف والدعم لاستنباط البصيرة وتحديد الاختيارات وتهيئة أفق مناسب لملاقاة الذات.
يعتمد العلاج الوجودي على بعض الأفكار الرئيسة الكامنة وراء الوجودية كفلسفة، وهي:

  • نحن مسؤولون عن اختياراتنا الشخصية.
  • الاختيارات التي نتخذها تجعلنا أفرادًا مميزين، ونحن نعيد تشكيل أنفسنا باستمرار من خلال تلك الخيارات.
  • نحن من نصنع لنا معنى في الحياة.
  • القلق خاصية طبيعية في حياة الإنسان.
  • يجب أن نتصالح مع القلق لنعيش بشكل أصيل(3).

رواد العلاج الوجودي:

كان أوتو رانك من بين المعالجين الوجوديين الأوائل الذين سعوا بنشاط نحو هذا التخصص، وبحلول منتصف القرن العشرين رفع كل من باول تيليش ورولو ماي وإرفين يالوم أفق النظرية الوجودية في العلاج النفسي من خلال كتابات تأسيسية لها، كما أثرت الوجودية في المدارس والنظريات الأخرى مثل العلاج المنطقي الذي طوره فيكتور فرانكل وعلم النفس الإنساني، وهناك جمعية باسم التحليل الوجودي تأسست في عام 1998، وتم إنشاء المجتمع الدولي للمستشارين الوجوديين في عام 2006(4).

الفرضيات الوجودية المتعلقة بالشخص:

التعامل مع المريض أو العميل تحدده الاعتبارات التي نعطيها له وذلك من أجل بناء ثقة قوية والتي هي أساس كل علاج نفسي. لذا فالعلاج الوجودي ينطلق من تصورات أو فرضيات أساسية لنبني عليها علاقتنا مع المريض، والتي هي:
1- كل الكائنات الحية تتمركز حول ذاتها وتسعى جاهدة للمحافظة على التمحور أو التمركز، وهذه هي المشكلة التي يقع فيها المريض أثناء المعالجة.
2- الكائنات البشرية لديها النزعة وإمكانية مشاركة الآخرين والخروج من دائرة التمحور الذاتي.
3- المرض أو الاضطراب طريقة يسعى الفرد من خلالها إلى الحفاظ على كينونته.
4- الكائنات البشرية يمكن أن تشترك في مستوى معين من الوعي الذاتي الذي يتيح لها تجاوز الوضع الآني أو الموقف الفوري والنظر إلى مجالات أرحب تسمح بكم هائل من الاحتمالات(5).

مراحل الوعي الذاتي:

كل فرد منا يمر في مراحل مختلفة، ولكل منها مشاكلها وتحدياتها وخصائصها الحيوية والمعرفية، السابقة تؤثر في اللاحقة، وهكذا فإن شخصيتنا في مرحلة الشباب غير مستقلة تمامًا عن التجارب التي عشناها في الطفولة والمراهقة. والوعي الذاتي من الأسس الرئيسة في علم النفس الوجودي، وهذا الوعي يمر بأربع مراحل:
1- البراءة والطهارة: تظهر قبل ولادة الوعي بالذات وهي تمثيل واقعي وخاصية للرضيع.
2- العصيان: تشمل هذه المرحلة الطفولة والمراهقة حيث يسعى الفرد إلى تكوين قوة داخلية تكفل له تأمين حقوقه الخاصة، ومن علامات هذه المرحلة العدوانية والانحراف.
3- الوعي الطبيعي بالذات: وهي المرحلة التي نعني عندما نتحدث عن الشخصية السوية، حيث ان الشخص قادر على التعليم والاستفادة من أخطائه والعيش كفرد مسؤول.
4- مرحلة الوعي الإبداعي: تتضمن القدرة على رؤية شيء ما خارج نطاق التصورات والقيود العادية وذلك باكتساب واكتشاف شيء خاطف ولماح من الحقيقة الموضوعية كما تظهر في الواقع(5).

القضايا الأربع في التشخيص:

عكس المدارس التقليدية ومنها التحليلية والسلوكية، لا يعول العلاج الوجودي على الجانب الحيوي للفرد أو البيئة التي تحيطه، فالفرد أكثر من مجرد كائن يخضع لشروط البيئة، كما يتعدى كيانه الحيوي؛ فهو في مواجهة مستمرة وحوار لا ينقطع مع الوجود في كليته. لذا فالمعالج النفسي الوجودي بدلًا من أن يعود إلى ماضي الفرد أو يحلل البيئة الثقافية والفيزيائية المحيطة به، يمضي قدمًا نحو المخاوف الكامنة في الإنسان والتي تحول بينه وبين حياة مستقرة. وهذه القضايا أو المخاوف التي تقف وراء الاضطرابات النفسية هي:

  • الحرية والمسؤولية.
  • الموت.
  • العزلة.
  • اللا معنى(6).

ما هي الاضطرابات التي يمكن معالجتها وجوديًا؟


طالما أن الناس عادة ما يقعون في إشكالية عدم التمييز بين المشكلة النفسية والاضطراب النفسي؛ يقتضي الأمر توضيح الفرق بينهما. فعندما نفقد شخصًا عزيزًا علينا مثلاً، نجد بأننا لا نرغب في الأكل، نواجه صعوبة في النوم أو ننام لساعات طويلة، نفقد شغفنا بممارسة النشاطات التي كنا نستمتع بها، لا نؤدي واجباتنا المدرسية أو المهنية بصورة جيدة، نعيش حالة حزن شديد وحتى الرغبة في الموت. ففي هذه الحالة لدينا مشكلة نفسية، وهي ستزول مع الوقت، ويمكننا أيضا حلها عن طريق تقنية حل المشكلات أو الدعم النفسي، وإذا ما أردنا أن نزور معالجًا نفسيًا فجلسات نفسية قليلة كافية لنستعيد حيويتنا وشغفنا.
لكن، حينما نجد فجأة بأن صحتنا النفسية بدأت تتدهور وتستمر معنا أعراض الاكتئاب: فقدان الشهية، فقدان أو زيادة الوزن، الأرق أو النوم لساعات كثيرة، الأفكار الانتحارية، الحزن الشديد والتشاؤم، نوبات من البكاء، صعوبة في التركيز، لأسابيع ودون وجود سبب واضح؛ فهذا يعني لدينا اضطراب نفسي (الاكتئاب) ويجب أن نزور معالجًا نفسيًا. ومعالجة الاضطراب تستغرق شهورًا من الجلسات النفسية. والعلاج النفسي الوجودي من بين الأساليب العلاجية الكثيرة التي يمكن أن يلجأ إلى استخدامها المعالج النفسي. والاضطرابات التي يمكن للعلاج الوجودي التعامل معها، هي كالتالي:

  • القلق.
  • اضطراب الشخصية الاعتمادية.
  • الاكتئاب.
  • «اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية – PTSD»
  • «اللامبالاة – Apathy»
  • الخجل.
  • الاستياء.
  • الغضب والعدوانية.
  • اليأس والشعور باللا معنى.
  • الذهان(6).

ملخص:

ليس العلاج النفسي الوجودي هو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه مع الاضطرابات المذكورة؛ مستوى تعليم المريض، عمره وطبيعة الاضطراب تحدد الاساليب والتقنيات التي يلجأ إليها المعالج النفسي، كما أنه يمكن استخدام أكثر من اسلوب وتقنية في الخطة العلاجية. غير أن هذا العلاج فعال مع الاضطرابات التي يكون سببها الشعور بلا معنى الحياة وعدم الجدوى من العيش مع الظروف والاستسلام لها، وبما أن السوداوية من الاعراض البارزة للكثير من الاضطرابات النفسية فالعلاج الوجودي بإمكانه مساعدة المريض في تصحيح تصوراته ومفاهيمه حول الحياة وعلاقاته مع الآخرين.

مصادر:


1- psychology today

2_ Counselling Directory
3_ positive psychology
4- good therapy
5- باربرا انجلر، مدخل إلى نظريات الشخصية، ترجمة فهد بن عبدالله، ص420-421.
6- healthline

التنشئة الاجتماعية: الطبع مقابل التطبّع

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

هل يولد الطفل بشخصية محددة؟ أم أنه يكتسب صفاته من محيطه؟ إلى أي مدى توثر التنشئة الاجتماعية على نمو شخصياتنا؟ لماذا يختلف أخوان توأم في الشخصية إلى هذا الحد، رغم جيناتهم وظروفهم الاجتماعية المشتركة؟  تدور كل هذه الأسئلة في بالنا عند محاولة فك لغز شخصيتنا أو شخصيات الأشخاص المحيطين بنا، وتظهر التنشئة الاجتماعية كعامل فاعل ومؤثر في تحديد هوياتنا؟ فما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي مكوناتها؟ وما الذي يغلب، الطبع أم التطبع؟

ما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي أهميتها؟

في صيف عام 2005، اشتكى عدد من سكان فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية لقسم الشرطة من وجود فتاة غريبة تظهر من النوافذ المكسورة لبيتٍ في حالة رثّة. بالفعل، اقتحمت الشرطة المنزل المذكور وكانت الصدمة! فقد وجدوه مليئًا بالأوساخ والحشرات، أبوابه ونوافذه مخلوعة، ومفروشاته قديمة ومهترئة. ثم وجدوا فتاة صغيرة، تبدو في السابعة من عمرها، ملقاةً على فراش ممزق وجسدها مليء بلسعات الحشرات والقروح. بحسب والدتها، التي كانت موجودة في المنزل أيضًا، تُدعى الفتاة “دانييل”. أُجليت سريعًا من المنزل وأُخذت إلى المستشفى لفحصها. وُجدت دانييل، حتى بعد استعادة عافيتها (والتأكد من عدم إصابتها بمرض مزمن أو جيني)، عاجزة عن أي نوع من التواصل بالكلام أو بالتعابير أوالبكاء وعاجزة عن علك الطعام وبلعه ولا تجيد استخدام أدوات الطعام والمرحاض، وحتى لا تستطيع الوقوف أو المشي ولا تفهم ماهية الكرسي وطريقة استخدامها.

قد تبدو بعض تصرفاتنا اليومية طبيعية وسهلة، فيُخيّل إلينا أنها قد وُلدت معنا. لكن الحقيقة أننا اكتسبناها على مر الوقت من محيطنا من خلال التنشئة الاجتماعية. فالفتاة “دانييل” تعطينا مثالًا حيًا عن أهمية التفاعل العاطفي والاجتماعي لتنمية كل القدرات الفكرية والجسدية والنفسية، حتى أكثرها بساطة.

التنشئة الاجتماعية هي عملية اكتساب الفرد للأفكار المجردة (القيم والمبادئ وتمييزالصح من الخطأ …) والأفعال العمليّة (طريقة التعبير والحديث والسلام والأكل والتعامل مع الآخرين …) من مجتمعه، ليصبح فعالًا في هذا المجتمع. ويتم الاكتساب إجمالًأ من خلال مراقبة الأشخاص الآخرين وتقليدهم، أو من خلال تعليم أو تشريط مقصود من قِبل المحيطين به أفرادًا أو مؤسسات. وتلعب التنشئة الاجتماعية دورًا جمًا في نمو وتحديد شخصية كلٍّ منا، ورسم دوره الاجتماعي فيما بعد. وتُصنف التنشئة الاجتماعية نوعين:

– «التنشئة الاجتماعية الأولية-Primary Socialization» وهي تعلم الفرد من عمر باكر للقيم والمبادئ والأفكار والأفعال الاجتماعية وهي إجمالًا تبدأ في المنزل مع أفراد العائلة.

– «التنشئة الاجتماعية الثانوية-Secondary Socialization» وهي مسار اكتساب التصرفات المحبذة لمجتمع معين أو المناسبة له. وهي تبدأ خارج المنزل في المناسبات الاجتماعية.

هل يغلب الطبع التطبع فعلًا؟

من يحدّد شخصية الإنسان؟ هل يُولد الطفل بشخصية تحدّدها الجينات أم يلعب المجتمع الدور الأكبر في رسم ملامحها؟  لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب نقاش طويل دار بين علماء النفس والطب النفسي والجيني وعلماء الاجتماع والجريمة.

في السنوات الأخيرة، اعتُبر هذا النقاش عقيم وغير مُجدٍ من قِبل العديد من العلماء، فاعتبره طبيب الأعصاب «نيك كرادوك- Nick Craddock» نقاشًا قديمًا وسادجًا وغير مفيد (سنة 2011)، وسمّى طبيب الأعصاب «برايان ترينور-Brian Traynor» ثنائية الطبع والتطبّع بالثنائية المغلوطة (سنة 2010).  ويقول علماء الجينات أن الجينات تتفاعل مع المحيط، بطريقة معقدة جدًا ولا يمكن تفسيرها أو توقعها بالوسائل العلمية الموجودة حتى الآن. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر علم ما فوق الجينات (Epigenetics) أن الظروف الحياتية تؤثرعلى التعبير الجيني.

يتداخل سؤال الطبع والتطبع مع سؤال الإرادة الحرة، وبالتالي يطرح صحة كل الأنظمة الأخلاقية والقوانين وأنظمة المحاسبة. وعلى الرغم من أن الاتفاق أن التفاعل بين “الطبع” و”التطبع” هو الجواب الأكثر دقة، إلا أنه جواب غير كافٍ، بحيث يبحث العلماء عن مزيد من الدلائل حول السمات الفطرية والمشتركة بين كل الشعوب والمجتمعات، والسمات المُكتسبة من التربية والتنشئة الاجتماعية.

من الأمثلة على ذلك، سأل العلماء طويلًا: هل تعبيرات الوجه هي فطرية أم مكتسبة؟ وأثبتت آخر دراسات علم النفس الاجتماعي أنها فطرية، كونها مشتركة عند كل الثقافات. كما يعتمدها الأطفال المكفوفون أيضًا، رغم أنهم لا يتعلمون تعابير الوجه بالتقليد، فهم يمارسونها فطريًا فيبتسمون عند فرحهم ويبكون عند غضبهم.

من الأسئلة الشائعة أيضًا: هل يولد الأطفال عنيفين؟ يختلف العلماء حول الإجابة، فتعتبر بعض الدراسات أن سمات العنف تولد مع الإنسان، ويتعلم الطفل كيفية السيطرة عليها (فيقول البروفيسور في طب الأطفال والطب النفسي للأطفال ريتشارد تريمبلاي أن العنف مشكلة تطال كل أطفال العالم خصوصًا تحت عمر الثالثة)، حتى أن بعضها تعطي للعنف تاريخ تطوري، بحيث احتاج الإنسان البدائي إلى العنف ليعيش، فاكتسبنا جميعًا جينات عنفية. في المقابل بيّنت دراسات أخرى بحثت في تصرفات الأهل والأطفال بين عمر الصفر وعمر ال7 سنوات أن العنف مكتسب ويتأثر خصوصًا بتربية الأهل.

وكلاء التنشئة الاجتماعية:

يُعتبر مسار التنشئة الاجتماعية مسارًا طويلًأ ومعقدًا، تتداخل فيه أدوار العديد من المجموعات والمؤسسات التي تتفاعل مع الشخص وتؤثر على نموه الاجتماعي، وتسمّى ب”وكلاء التنشئة الاجتماعية”. فمن هم هؤلاء الوكلاء؟

العائلة:

تشكل العائلة التجربة الاجتماعية الأولى للطفل، فهو يؤمن كل حاجاته ويكتسب كل قدراته من خلالها. ولا تقتصر على العائلة والأخوة فقط، بل تطال الأقرباء أيضًا. ولكن من المهم الإشارة أن تربية العائلة للطفل لا تحصل بطريقة معزولة عن المجتمع الأوسع، فتتأثر العائلة بالقيم والعادات العامة وثقافة البلد ووضعه التاريخي والسياسي والاقتصادي. كما تتأثر التنشئة بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها العائلة، والأدوار الاجتماعية لأفرادها. فمثلًا في معظم المجتمعات الشرقية التقليدية تكون الأم ربة منزل، وتهتم بالقسم الأكبر من التنشئة. بينما في السويد مثلًا، تُعد ظاهرة الأب الملازم للبيت شائعة، لا بل محبذة من الدولة (بحيث تعطي عطلة أبوّة عند ولادة طفل جديد)، فيكون الوالدان متشاركان في التنشئة الاجتماعية.

 فحتى أبسط علاقات التنشئة بين الطفل وعائلته هي علاقة معقدة ومتداخلة مع عوامل أخرى.

مجموعة الأقران:

وهي تتألف من الأشخاص المشابهين بالعمر والطبقة الاجتماعية والاهتمامات. ويختبر الطفل التفاعل مع أقرانه حتى قبل دخوله إلى المدرسة أحيانًا (أولاد الجيران مثلًا). ويكون هذا الاحتكاك بغاية الأهمية للطفل، بحيث يتعلم المشاركة والالتزام بقواعد بسيطة (قواعد لعبة) ويشكل الخطوة الأولى في طريق إنماء شخصيته الاجتماعية.

المدرسة:

هي المؤسسة الأولى التي ترسم ملامح الحياة الاجتماعية للطفل. فهو للمرة الأولى يتفاعل مع عدد كبير من الأفراد والأقران، بالإضافة إلى أنه يلتزم بقواعد ومبادئ عامة صارمة.

ولا يقتصر تعليم المدرسة على المنهج الأكاديمي التي تعطيه، بل تحمل أيضًا ما يسميه علماء الاجتماع ب”المنهج الخفي”، بحيث يتعلم الولد احترام الآخرين والالتزام بقواعد الصف وتبادل الأدوار ومشاركة الأغراض، ثم كيفية التعبير عن الرأي والقيم المدنية والوطنية والدينية أحيانًا.

وتثبت الدراسات يومًا بعد يوم، خاصة تلك المتعلقة بعلم نفس التعلم، أن أسلوب التعليم يؤثر بشكل هام على الحالة النفسية للأطفال، فأثبتت دراسة للتلاميذ الثانويين، أجرتها جامعة ميامي، الفروقات النفسية بين التلاميذ الذين يتعلمون بأساليب تنافسية مقابل آخرين يتعلمون بأساليب تعاونية.

مكان العمل:

يقضي البالغون معظم أوقاتهم في مكان عملهم. ورغم أنهم قد اكتسبوا الكثير من التنشئة الاجتماعية منذ طفولتهم، إلا أن مسار التنشئة لا يتوقف. فيختبر الشخص البالغ أنواعًا جديدة من الأدوار الاجتماعية والعلاقات الرسمية.

الدين والمؤسسات الدينية:

يختلف تأثير الدين على التنشئة الاجتماعية مع اختلاف الحقبات والبلدان والمناطق في العالم. ولكن في كثير من الأحيان ترتبط العادات والقيم والممارسات التي يتعلمها الفرد من طفولته، بالتعاليم والممارسات الدينية.

وتؤثر المؤسسات الدينية أحيانًا على شكل الحكم السياسي، أو التعليم (من خلال مدارس دينية)، وبالتالي يتعاظم دورها في التأثير على طبيعة التنشئة الاجتماعية.

الدولة:

قد يكون دور الدولة غير ظاهر في التنشئة، لكنها فعليًا من أكثر الوكلاء تأثيرًا على طبيعة التنشئة الاجتماعية. فالدولة هي التي تفرض نظام الحكم، وهي تصوغ القوانين التي ترعى كل المؤسسات الأخرى. فتمنع الدول الأوروبية بحسب القوانين أي نوع من العنف اللفظي أو الجسدي في العائلة. بينما لا تتدخل دول أخرى بالعنف المنزلي وتعتبره شأنًا خاصًا بالعائلة نفسها. وهنا يظهر تأثير الدولة على التنشئة العائلية.

الإعلام:

يلعب الإعلام اليوم دورًا كبيرًا في نشر الأفكار، ويتعاظم دوره تدريجيًا في التأثير على الرأي العام وعلى التنشئة الاجتماعية. ونقصد بالإعلام وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والراديو) من جهة، والإعلام الإجتماعي (Social media) الذي يُعد تأثيره أكبر وأضخم في التأثير على شكل الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.

ختامًا، رحلة اكتشاف ذواتنا شيقة وصعبة وما زالت في بداياتها، فنحن بحاجة للكثير من البحث والتفتيش لمعرفة تأثير كل من جيناتنا ومحيطنا الاجتماعي وكيفية التفاعل بينهما. والأكيد أنه علينا مراجعة أهمية التنشئة الاجتماعية، وبالتالي إصلاح المجتمع من أعلاه إلى أسفله، لخلق شخصيات أكثر صحة وتوازن.

المصادر:

edX courses: Introduction to Sociology
NCBI
Science Daily

ما هي الثقافة؟ وما هي أنواع الثقافة وعناصرها؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

منذ ولادتك في مجتمع معين، تكتسب كل شيئ تقريبًا من محيطك. وتؤثر ثقافة المجتمع الذي وُلدتَ فيه على كل تفصيلٍ من حياتك. من مراسيم الاحتفال بولادتك حتى نوع لباسك حتى أنواع الأطعمة التي تتناولها (وطريقة تناولها) حتى لغتك ومعتقداتك وقيمك حتى مراسيم زواجك وصولًا إلى مراسيم دفنك. قد تعتقد أنك تمارس حياتك بحرية تامة، لكن الحقيقة أنك تتأثر بجتمعك أكثر مما تعتقد. إذًا ما هو تعريف الثقافة؟ وما هي أنواع الثقافة وعناصرها؟ وما هي أبرز العادات الثقافية الغريبة بالنسبة لمجتمعنا؟

تعريف الثقافة

يُعنى علم الاجتماع بدراسة كل العناصر التي تشكل المجتمع وترسم خصائصه. وأبرز هذه العناصر، التي تشكل الهوية الاجتماعية وحتى الفردية، هي الثقافة. وعلى الرغم أن مصطلح “ثقافة” كثير الاستعمال، إلا أننا غالبًا لا نعرف تعريفه الدقيق، ولا نميزه عن الفن أو الحضارة. فما هي الثقافة تحديدًا؟

واختصارًا يمكن تعريف الثقافة بأنها نمط الحياة الذي يعتمده مجموعة من الأشخاص (أو مجتمع معين)، وهي تشمل كلًا من الدين والمعتقدات والقيم واللغة والعادات والتقاليد والطعام واللباس والفنون وغيرها.

تأخد الثقافة حيزًا كبيرًا من علم الاجتماع، حتى أنه تشعّب منه علم الثقافة – Culturology.

أنواع عناصر الثقافة

يصنّف علماء الاجتماع أنواع الثقافة نوعين:

  • الثقافة الرمزية (Non-material or symbolic culture)
  • والثقافة المادية (Material culture)

تشمل الثقافة الرمزية الأفكار المجردة والسلوكيات الرمزية واللغة المعتمدة في مجتمع معين، والتي تُعتبر ذات قيمة بالنسبة لأفراد هذا المجتمع. سنتناول فيما يلي البعض من عناصرها.

القيم والأعراف

القيم هي مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي يعتمدها مجتمع معين، وتتكون نتيجة تاريخ هذا المجتمع وتراكم تغيراته وتقاليده وتتأثر بمعتقداته خاصة الدينية والروحية منها.

أما الأعراف فهي ترجمة القيم بمجموعة من السلوكيات التي تُعد مقبولة أو محبذة ضمن إطار اجتماعي. وقد تكون هذه الأعراف مكتوبة على شكل قوانين، أو غير مكتوبة مثل التقاليد، إلا أنها في الحالتين تصوغ سلوك العدد الأكبر من الناس، وأي مُخالف لها يُنبذ عادًة في محيطه. في المقابل، يوجد عدد من التصرفات التي تعتبر ممنوعة اجتماعيًا أي تابوهات (حتى لو كان القانون يسمح بها).

وتحدد القيم والأعراف نظرة الأشخاص لمفهومي الصح والخطأ، فالتصرف المقبول بالنسبة لبيئة معينة قد يكون عارًا في بيئة أخرى. نذكر مثالًا على ذلك المُساكنة، التي تعتبر مرحلة طبيعية من العلاقة العاطفية في معظم المجتمعات الغربية، وتُعتبر غير مرغوب بها في مجتمعات أخرى.

من هنا، نشأت نظرية «النسبية الثقافية-Cultural relativism»، التي تعني أن الحكم على أي تصرف فردي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المحيط الثقافي والقيم والأعراف للمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد نفسه.

العادات والتقاليد

ترتبط العادات والتقاليد بشكل كبير بالقيم والأعراف، وتتناقل إجمالًا بين الأجيال. وتتغير العادات من جيل إلى جيل، وهي أكثر تأثيرًا في المجتمعات المحافظة، أما المجتمعات الأكثر انفتاحًا تكون أقل تأثرًا بالعادات. العادات المرتبطة بمراسم الزواج تبين مدى الاختلاف بين الثقافات، ونذكر هنا بعض الأمثلة عنها:

في المكسيك والفيليبين، يعقد الزوجان حولهما عقدة من القماش أو الورود، للتعبير عن الوحدة والحب والالتزام.

في الصين، على الزوج أن يصيب الزوجة بثلاث أسهم، لضمان استمرارية الحب لوقت طويل. أما الزوجة فهي تحضر جلسات بكاء لمدة شهر قبل العرس، وذلك لجلب السعادة وتجنب البكاء بعد الزواج.

في كوريا الجنوبية يقوم رفاق العريس بضربه على رجليه بعيدان من الخشب، للتأكد أنه قادر على تحمل المسؤوليات والمتاعب.

الرموز

لكل مجتمع رموزه، يستخدمها أفراده للتواصل فيما بينهم والتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم. منها الرموز غير اللفظية من حركات جسدية ويدوية وتعابير وجه وطرق سلام. وهي تختلف بين المجتمعات، من الأمثلة على ذلك رفع الإبهام في الولايات المتحدة الأميركية يعني الإعجاب أو التعبير عن الرضى، بينما في أستراليا تعني الحركة نفسها الإساءة.

اللغة

من أهم سبل التواصل بين أفراد المجتمع الواحد، ومن أهم معوقات التواصل بين بلدان مختلفة، هي اللغة.  بحسب فرضية سابير وورف (Sapir-Whorf hypothesis)، وهي فرضية عالمين الإناسة إدوارد سابير وبينجامين لي وورف، اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل هي أيضًا تساهم في بناء طريقة تفكيرنا. وبالعكس تساهم الأفكار الاجتماعية بتغيير وجه اللغات تدريجيًأ وفي تغيير المسميات.

(للتعرف أكثر على سمات اللغة، إضغط هنا.)

الثقافة المادية: وهي تعني حرفيًا كل العناصر الجسدية والمادية المُشكّلة لثقافة مجتمع معين.

الطعام

الطعام واحد من حاجات الإنسان الحيوية، لكنه منذ زمن بعيد أخذ حيزًا كبيرًا من الحياة الاجتماعية والثقافية للشعوب. فأصبحت مائدة الطعام تارةً رمزًا للألفة بين أبناء العائلة، تارةً رمزًا للضيافة والكرم بين الغرباء.

تختلف الأطعمة بين شعوب البلدان المختلفة، فبمجرد الحديث عن البيتزا أول ما يتبادر إلى ذهنك إيطاليا، وبمجرد الحديث عن السوشي ستفكر باليابان.

لكن نوع الطعام ليس وحده ما يختلف بين الدول، بل أيضًا طريقة الأكل وأدواته. ففي حين تستخدم شعوب الشوكة والملعقة للأكل، تستخدم أخرى العيدان (Chopsticks)، وأخرى تأكل باليدين المجردتين.

الملبس

كما الطعام كذلك الملبس، لم يعد محصورًا بدوره الأساسي في حماية الجسد من البرد، بل حمل منذ زمن بعيد معاني مختلفة: الجندر، الطبقة الاجتماعية، الثقافة أو البلد، العقيدة الدينية، وغيرها.

وتُعد الملابس من أكثر العلامات الثقافية ظهورًا، ففي حين لبس التنورة من قبل الرجال يعد غريبًا في أغلب المجتمعات، فالرجل الاسكتلندي يلبس التنورة في لباسه التقليدي. ومن منا لا يعرف اللباس الهندي التقليدي، والثوب الخليجي (مع الغترة والعقال)، والالبسة الأفريقية الملونة. كذلك بعض المجتمعات الأفريقية لا تجد في العُري أي عيب، في حين يُعتبر العُري جريمة يحاسب عليها القانون في دول أخرى.

اختلاف الثقافات والعرقية

العرقية هي اعتقاد الفرد أن ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وسلوكياته وأيديولوجياته هي أعلى شأنًا من ثقافات المجتمعات الأخرى، والميل إلى الحكم على ممارسات شعوب أخرى بفوقية. من أكثر الفترات عرقية في التاريخ هي فترة الاستعمار الأوروبي على أفريقيا. فقد قابل الأوروبيون شعوبًا مختلفة اللون والثقافة والعقيدة، فاعتبروهم شعوبًا متخلفة وغير حضارية. وقد استخدم الأوروبيون هذه الحجج لتبرير استعمارهم وجرائهم، معتبرين أن ثقافة الشعوب الأفريقية “خاطئة” وبالتالي عليهم تصحيحها.

ختامًا، تعيش البشرية اليوم أكثر مراحل العولمة والتبادل الثقافي والانفتاح الحضاري بين المجتمعات، مما عزز التعددية الثقافية. وعلى الرغم من بعض المخاطر التي تحملها العولمة على الهويات الثقافية، إلا أنها تسمح بالتعرف على الكنز الثقافي الغني لمختلف الشعوب، على أمل أن تخفف العرقية التي ما زالت سائدة، وتعزز احترامنا لثقافة بعضنا البعض.

انفوجرافيك مبسط عن ما هي الثقافة وأنواعها وعناصرها.

ما هي الثقافة؟ وما هي أنواع الثقافة وعناصرها؟

مصادر:

مغالطة الاحتكام إلى العاطفة Appeal to emotion

مغالطة الاحتكام إلى العاطفة

الاحتكام إلى العاطفة واحدة من أكثر المغالطات شيوعاً، غالباً ما تكون استراتيجية ناجحة للتأثير على آراء الناس وسلوكهم. سنشرح في هذا المقال مغالطة الاحتكام إلى العاطفة، ومتى يتم استخدامها، وسنعرض عدداً من الأمثلة لأن فهم هذه المغالطة سيجعلك أكثر استعداداً لكشفها والتصدي لها، بالإضافة إلى تجنّب الوقوع فيها.

تعريف مغالطة الاحتكام إلى العاطفة:

هي أن يستعمل الشخص العاطفة أو اللعب بالمشاعر مثل الشفقة أو الخوف أو الكراهية في أثناء استدلاله للتأثير على حكم الطرف الآخر، بدلاً من استخدام المنطق والحقائق لدعم الحجة والفوز بالجدل.

  • يُعتبر التلاعب بالعواطف أسلوباً فعّالاً نظراً لطبيعة إدراك البشر وتحيزاتهم الداخلية، حيث يعتمد الناس غالباً على استجاباتهم العاطفية عند اتخاذ القرارات، بدلاً من الحقائق والتفكير المنطقي. ولكن حقيقة أننا نرغب بأمر ما لا يجعله بالضرورة صحيحاً، فلن يحاول أي عالم رياضيات إثبات نظرية رياضية من خلال مناشدة عاطفة الناس أو شفقتهم، فإما أن تكون الحجة صحيحة أو خاطئة.
  • هذه المغالطة هي أصل تتفرع منه عدّة مغالطات فرعية كالاحتكام إلى الخوف، والاحتكام إلى الشفقة، والاحتكام إلى الكراهية، والاحتكام إلى الحسد، والاحتكام إلى الفخر.. إلخ.

الشكل المنطقي:

مقدمة1: شخص يقوم بالدعوى س من دون إثبات
مقدمة 2: الشخص أ يقدم حججاً عاطفية تدفع الآخر لتبني س
نتيجة: الشخص أ يستنتج أن الدعوى س صحيحة.

أمثلة:

  1. “كيف استطعت رفض رسالة دكتوراه ذلك الطالب؟ فالمسكين قد عكف على تحضيرها طيلة أربع سنوات، ولو سمعت جدته المسكينة ربما ستموت بسكتة قلبية”.
  2. شرح المغالطة: في هذا المثال طرح المعترض مبررين لاعتراضه، أولاً كون الرسالة دامت أربع سنوات، والثاني أن جدة الطالب مريضة. فأثّر كلا المبررين على عاطفة الأستاذ واستجداء شفقته تجاه الطالب وحالته الصعبة، بدلاً من تقديم حجج منطقية من محتوى الرسالة وجودتها. ومثل هذه الأمثلة كثيرة، كأمثلة الدراسة والسماح بالغش تعاطفاً مع الطلبة بدلاً من النظر إلى عواقب الأمر عقلانياً.
  • “أعرف أن الرجل قد أفسد المؤسسة؛ ولكنه بأمس الحاجة لهذا العمل لإطعام أطفاله الثلاثة”.

    كما هو واضح فإن الحجة المقدمة للحفاظ على وظيفة الشخص هو حاجته لإطعام أطفاله الثلاثة، دون النظر لعواقب فساده عقلانياً؛ وذلك لمحاولة دغدغة مشاعر المدير أو المسؤول بهدف التأثير على رأيه بطريقة غير مباشرة.
  • تستخدم هذه المغالطة في الخطاب الديني بالترغيب والترهيب للتأثير على المشاعر ومخاطبة الوجدان بطريقة انفعالية دعوية. ولو في مسائل عقلية تحتاج للتحليل والشرح العقلاني لحشد الجماهير وجمع أكبر عدد من التابعين. ويصبح الأمر أسوأ حين تُستغل النصوص التي تحرّك الوجدان من طرف الجماعات المسلحة في تجنيد الشباب ودفعهم للقيام بأفعال إجرامية باسم الدين والحق عارضين عليهم بدائل لاحقة وإغراءات أخروية.
  • تستخدم في الإعلان، إذا تُستخدم صورة لعائلة تبدو سعيدة ومرحة أو شخص متسلق في جزيرة جميلة. ثم يصورونه وهو يستعمل منتوجاً معيناً ليرتبط المنتج في ذهن المشاهد بأحاسيس السعادة والراحة النفسية. كأن يكون إعلاناً لمطرقة أو إسمنت.. إلخ، وذلك لأنهم يعلمون أن العاطفة هي أسهل طريق للتغيير السريع والفعّال.

متى لا يكون الاحتكام إلى العاطفة غلطاً منطقياً؟

ليست العاطفة والمشاعر مغالطة في حد ذاتهما؛ بل استغلالهما في مكان الأدلة المنطقية كحجة للوصول إلى نتيجة معينة هو المغالطة. يجب التفريق بين استعمال العاطفة لتشجيع الآخرين وتحفيزهم للقيام بعمل معين، والاحتكام إليه كمرجع لتأكيد الحقائق، واستغلالها في تغيير قناعاتهم ومعتقداتهم، فالأول لا يكون مغالطة، في حين يكون الثاني مغالطة منطقية.

المصادر:

Fallacy in logic

المغالطات المنطقية، عادل مصطفى

رجل القش، الحشو المنطقي، الدليل المختصر للمغالطات المنطقية والانحيازات الإدراكية، يوسف صامت بوحايك

اقرأ أيضاً مغالطة الرنجة الحمراء

تعريف علم الاجتماع، نشأته وأبرز نظرياته

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

“الإنسان حيوان اجتماعي”، بهذه الجملة عرّف أرسطو الكائن البشري وميزه عن باقي الحيوانات. فلا يمكن دراسة الإنسان وفهمه بأي شكل من الأشكال بمعزل عن مجتمعه ومحيطه. وفي المقابل، كل فرد يصنع تغييرًا، ولو صغيرًا، في مجتمعه. من هنا، كانت ضرورة نشأة علم الاجتماع الذي يدرس تفاعل الانسان، تأثرًا وتأثيرًا، مع مجتمعه. لكن ما هو التعريف الدقيق لعلم الاجتماع؟ ومتى نشأ؟ وما هي أبرز النظريات التي قدمها علم الاجتماع؟

تعريف علم الاجتماع

يهتم علم الاجتماع بدراسة العلاقات الانسانية والتفاعل بين البشر، أفرادًا ومؤسسات، ضمن المجتمعات. يُعتبر علم الاجتماع أو السوسيولوجيا علم مُعقّد وواسع. يدرس علم الاجتماع جوانب متعددة من المجتمع، تشمل كلًا من العائلة والدولة واللغة والثقافة والطبقات الاجتماعية والاختلافات العرقية والإثنية والجندرية والدين والجريمة والنمو الاقتصادي والتعليم والفن والتواصل وغيرها. كما أن علم الاجتماع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلوم اجتماعية أخرى كعلوم السياسة والاقتصاد وعلم النفس، ويتقاطع معها في مجالات متعددة.

يطرح علم الاجتماع النظريات العلمية من جهة، والمناهج العملية من جهة أخرى، لدراسة دقيقة لكل المجالات والظواهر الاجتماعية.

نبذة تاريخية عن علم الاجتماع

رغم أن علم الاجتماع علمًا حديثًا، إلّا أنه يجد جذوره في الفلسفة القديمة. فقد شكّل العديد من القضايا التي تعد حاليًا مركزية في علم الاجتماع، مواضيع بحث عند الفلاسفة القدماء مثل كونفوشيوس وأفلاطون وأرسطو. فما المدينة الفاضلة إلا صورة رسمها أفلاطون عن المجتمع المثالي.

بزوغ علم الاجتماع

في القرن الثالث عشر، عرّف المؤرخ الصيني «ما توان-لين –Ma Tuan-Lin  »، لأول مرة، الديناميات والمتغيرات الاجتماعية كعنصر فاعل في التطور التاريخي.

في القرن الرابع عشر، ظهر المفكر التونسي ابن خلدون. اعتبر كثيرون ابن خلدون عالم الاجتماع الأول. إذ كتب عن الصراع الاجتماعي والاقتصاد السياسي وميّز الفروقات بين الحياة البدوية والحضارية. ساهم ابن خلدون في وضع أسس علوم الاجتماع والاقتصاد الحديثة. وعلى الرغم من نظرياته التي درست للمرة الأولى الظواهر الاجتماعية بشكل علمي. إلا أن مساهماته في تأسيس علم الاجتماع بقيت غير مقدرة عند البعض بشكل كافي بحيث يُنسب التأسيس إلى الفلاسفة الأوروبيين. كتب ابن خلدون في تحفته الفلسفية “المقدمة” عن التغيرات الاجتماعية، باعتبارها مرتبطة بالعصبية (التضامن الاجتماعي) بشكل اساسي وبعوامل أخرى أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية. وصف ابن خلدون تطور المجتمع وشبهه بالحياة الانسانية التي تبدأ بالولادة، ثم تنمو لتصل إلى مرحلة النضوج، ثم تتراجع تدريجيًا وصولًا إلى الموت.

إن الاجتماع الإنساني ضروري، فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية، ومن العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه.

ابن خلدون

علم الاجتماع في عصر التنوير

طوّر فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وأبرزهم فولتير وإيمانويل كانت وتوماس هوبس(Thomas Hobbes)، العديد من المفاهيم حول الآفات الاجتماعية، آملين بذلك إصلاح مجتمعهم.

تأسّس علم الاجتماع كعلم منفصل في القرن التاسع عشر، في أوج الثورة الصناعية، ليجيب على التغيرات الاجتماعية الضخمة التي رسمت ملامح هذا العصر. فقد خلقت الثورة الصناعية تغييًرًا كبيرًا في النظام الاقتصادي الأوروبي وأساليب الإنتاج وتوزيع الثروة، وبدأ تحول المجتمعات الريفية إلى مدن صناعية تعج بالفوضى والاستغلال والفقر. وابتعد الملايين من المزارعين عن حياتهم التقليدية، مما زعزع الانظمة العقائدية والدينية وبدّل العلاقات العائلية والاجتماعية.

يُعد المفكر الفرنسي «أوغست كومت-Auguste Comte» أبو علم الاجتماع. استخدم كومت كلمة “سوسيولوجيا” عام 1838 وسمّاها «أميرة العلوم-Queen of sciences»، واعتبر أنه يمكن دراسة المجتمع من خلال قواعد علمية تمامًا كالمستخدمة في العلوم الطبيعية ودراسة الجسد أو المادة. واعتبر كومت أن اكتشاف القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية ودراستها يمكّن علماء الاجتماع من إصلاح المشاكل الاجتماعية كالفقر والأمية. وبذلك أسّس كومت علم الاجتماع.

ما هي أبرز نظريات علم الاجتماع؟

وضع أوغست كومت الفلسفة الوضعية، وفسّرها في كتبه التي صدرت بين عامي 1830 و1848. وهي تقوم على وضع قواعد علمية (مستوحاة من القوانين المادية كقانون نيوتن مثلًا) لتفسير الظواهر الاجتماعية. وعلى الرغم أن هذه الفلسفة ساهمت في تأسيس وتعريف علم الاجتماع، وأثرت في العديد من علماء الاجتماع اللاحقين أمثال «هيربرت سبنسر-Herbert Spencer» و«إميل دوركيم-Emile Durkheim»، إلا أنها واجهت فيما بعد الكثير من التحديات والرفض من قبل علماء اجتماع آخرين.

يمكن تصنيف نظريات علم الاجتماع إلى نوعين: النظريات الكليّة Macro theory  التي تتناول مشاكل شريحة كبيرة من الناس، والنظريات الجزئية Micro theory التي تتناول علاقة خاصة بين مكونات معينة محدودة.

سنتناول في هذا المقال النظريتين الشاملتين الأبرز في علم الاجتماع بشكل بسيط وموجز. وعلى الرغم أنهما مختلفتان، لكنها ليس بالضرورة متناقضتين، فهما تفسران العالم من وجهات نظر مختلفة.

النظرية الوظيفية

النظرية الأولى هي «النظرية الوظيفية-Functionalism» وهي نظرية محافظة، ترى العالم كمكانٍ متوازن، وترى المجتمع كالجسد الذي يتألف من عدة أنظمة وأعضاء ولكلٍّ منها وظيفته، وعلى هذه الأنظمة المختلفة أن تعمل سويةً لتحافظ على توازن وصحة الجسد ككل.

تعد هذه النظرية متأثرة بفلسفة كومت الوضعية، قفد قارن هيربرت سبنسر المجتمع البشري بالجسد، والمؤسسات والعائلة والدين بالعظام والأعضاء والعضلات.

وتعتبر النظرية أن أي مكوّن لا يعمل بشكل طبيعي يفيد النظام الاجتماعي هو خلل، ويجب معالجته. مثلًا، تعتبر أن الفقر هو خلل في المجتمع المزدهر. وغالبًا تحمّل النظرية مسؤولية الخلل للمكون نفسه، مثلًا الفقير يتحمل مسؤولية فقره، وعليه أن يعمل بنفسه ليصبح أغنى. ويطرح العالم الفرنسي إميل دوركيم مفهوم “الوعي الجماعي” الذي يقود كل مكونات المجتمع الواحد ويؤثر على معتقدات وتصرفات كل فرد منه، ويحافظ على استقرار قيمه

نظرية الصراع (الماركسية)

النظرية الثانية هي نظرية الصراع، وتعد نظرية تقدمية وهي تُبرز الصراع الاجتماعي والمنافسة واللامساواة. تنبع من كتابات كارل ماركس، الذي انتقد في الثورة الصناعية الرأسمالية الناتجة عن تغير أساليب الإنتاج. واعتبر ماركس أن نتيجة الرأسمالية (وقبلها الإقطاعية) والتوزيع غير العادل للثروة سبب في بزوغ نظام ثنائي متناقض. الرأسماليين “البرجوازيين” الذين يملكون كل موارد الإنتاج، ومن جهة أخرى الطبقة العاملة أو “البروليتاريا” التي لا تملك سوى قوة عملها. العلاقة بين هاتين الجهتين ليست علاقة وظائفية. على العكس، حيث يسعى الرأسماليون إلى مراكمة الثروات على حساب الطبقة العاملة. تنظر النظرية الماركسية إلى مشكلة الفقر كمشكلة اجتماعية، ناتجة عن استغلال الطبقة الغنية للطبقة العاملة الفقيرة، وهو ما يبقيها فقيرة.

وهنا تدخل عوامل أخرى تؤثر على الوضع الاجتماعي للفرد وهي العرق والجندر، التي تعزز أحيانًا وجوه التمييز واللامساواة.

واعتبر ماركس أن هذا الوضع من الظلم والتمييز والاستغلال ناتج عن نقص ما يسمّيه من الوعي الطبقي لدى البروليتاريا. ومن هنا تأتي جملته الشهيرة: “يا عمال العالم اتحدوا.” تعد النظرية الماركسية من أكثر نظريات القرن التاسع عشر تأثيرًا على العالم وعلى الأيدولوجيات السياسية حتى اليوم.

ختامًا، علم الاجتماع من أوسع العلوم وأكثرها تشعبًا، ولربما فهم أساسياته يساعدنا على فهم أنفسنا أولًا، ومحيطنا الاجتماعي ثانيًا، والعالم من حولنا ثالثًا.

المصادر:
edX
Sage journals

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

في صفحات هذا الكتاب استطاع الكاتب الكبير زكي نجيب محمود، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والكاتب أحمد أمين أن يأخذوا عقولنا في آلة الزمن؛ ليعودوا بنا آلاف السنين فنقابل أبرز العقول المنتجة للفكر، والحضارة، والتي تجلى فيها إعمال العقل لأول مرة في التاريخ تقريباً.

رصد الكاتبان ما أنتجته أدمغة هؤلاء، وكيف نظروا للوجود وما وراء الوجود والسعادة والشقاء وغيرها، كل ذلك وأكثر في ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية.

فلاسفة يونيا:

في يونيا أو أيونيا الواقعة في الجانب الغربي في آسيا الصغرى كانت بداية كل شئ، فلو دخلنا آلة الزمن لنصل لأول نقطة بدأ عندها التفكير حتماً سنسافر ليونيا؛ حيث التفكير في علل الكون.

من أين جاء الكون؟ وما السر وراء تصرفه على ذلك النحو؟ فهناك ولأول مرة لم تكن إجابات تلك الأسئلة مرتبطة بالأساطير، بل بالتفكير الباحث عن الحقيقة لا الأوهام.

1. طاليس

كانت السؤال الأول الذي دار في أذهان المفكرين الأوائل هو: ما هو أصل الكون؟ هل هناك مادة معينة تشكل منها الكون بأكمله؟ هذا ما حاول طاليس الإجابة عنه ووقع اختياره على الماء؛ فالماء تارة يصبح غازاً، وتارة صلب، وتارة أخرى سائل. لم لا يكون أساس كل المواد هو الماء باعتبار حالات المادة الثلاث؟ فباختلاف كمية الماء وحالته يختلف العنصر المتكون.

افترض طاليس أيضًا أن الأرض ما هي إلا قرص يطفو فوق سطح من الماء غير متناهي الأبعاد. وقد كان طاليس عالماً بالرياضيات؛ فقيل أنه علّم المصريين كيفية قياس ارتفاع الهرم عن طريق ظله. وكان مولعاً بالفلك فاستطاع أن يتنبأ بكسوف الشمس عام 585 قبل الميلاد.

قد ترى أن نظرياته تلك محض خرافة يزدريها العقل ولكن تذكّر أنه أول من حاول أن يفسّر الكون دون الاعتماد على أساطير الشعراء، ويصعب عليه بمقتضيات عصره أن يصل للحقيقة لكن على الأقل بدأ تشييد مفهوم “التفكير لتفسير الطبيعة”.

2.أنكسمندر

نفى تماماً اقتناعه بأن الماء هي الأساس، ولم يضع مادة بديلة واضحة. بالطبع لم يكن عمله الفلسفي مقتصر على نفي رؤية طاليس؛ حيث افترض أنكسمندر أن الأرض في الأساس كانت سائل أخذ يتغير في أحواله بين التجمد والتبخر حتى تكونت طبقات الهواء فالتقى البخار الساخن مع الثلج البارد فكوّنا الكائنات الحية.

اقتصرت الكائنات الحية في بدايتها على الكائنات البحرية فقط ثم أخدت المياه في الانحسار فطورت الأسماك أرجل بدل من الزعانف لاستيطان الأرض، وظلت ترتقى حتى وصلت لأرقى الكائنات وهو الإنسان. يظهر بوضوح التشابه بين نظرية أنكسمندر ونظرية التطور لداروين.

3. أنكسمينس

الجوهر من وجهة نظر أنكسمينس في الهواء؛ فهو يتكاثف ويكوّن السحاب وينزل كقطرات، ويتبخر، ومن الممكن أن يتجمد ويكون مواد الصلبة مثل التربة والصخور وغيرهم. وكذلك الهواء منتشر في كل أجزاء الأرض فهل يوجد على الأرض ما هو فارغ من الهواء؟! إذا -من وجهة نظر أنكسمينمس- الهواء هو الأصل وليس الماء كما رأى طاليس، ولا مادة غامضة كما رأى أنكسمندر.

الفيثاغوريون:

فيثاغورس

كثرت الحكايات والأساطير حول فيثاغورث الذي نُسبَ إليه العديد من المعجزات صعبة التصديق حتى صعب تتبع حياته، ولكن ظلت بعض الحقائق لا شك فيها حيث كان فيثاغورس رجل ينشد للزهد والورع وحياة التقشف هو وجماعته.

كانوا يدعون للإصلاح الديني ولا صلة بينهم وبين أمور السياسة، لكن تعاليمهم المتصوفة الغريبة جعلتهم محط لأنظار حكومة كروتونا -مكان إقامة الجماعة- فاضطهدتهم الحكومة وأحرقت مقرهم، وقتلت بعضهم وشردت البعض، لكن بعد فترة استطاعوا أن يعودوا من جديد.

تُنسب لتلك الجماعة اهتمامهم بالتفكير بشكل ضخم، فمن وجهة نظرهم فالتفكير هو سبيل لتطهير الإنسان. وقد اهتموا بالموسيقى والعلوم الطبيعية من الطب وغيره، وطبعاً معروف اهتمامهم بالعلوم الرياضية أشد اهتمام.

بحث الفيثاغوريون عن علة الأشياء، أو المشترك بينها فوجدوا أنه العدد؛ فجميع الصفات من لون ورائحة وطعم وشكل وغيرهم صفات تتغير ويختلف إدراكها من شخص لآخر، وهذا لا ينطبق على الأعداد؛ فيستطيع الشخص تصور برتقالة ملونة باللون الأحمر أو الأرزق أو حتى شفافة، لكن مستحيل أن يتخيلها بلا عدد.

كان الفيثاغوريون محقين في ذلك، ولكن يُعتقد أنهم غالوا في قيمة الأعداد حتى أنهم لم يميزوا بين عد الأمور الملموسة وبين الأعداد الهندسية؛ فسقط من حساباتهم أن الخط المستقيم يتكون من عدة نقاط وهمية، بل افتراضوا أن تلك النقط الوهمية حقيقية، فاعتبروا أن العدد هو أساس الكون مثله مثل الماء عند طاليس والهواء عند أنكسمينس.

افترض الفيثاغوريون أيضاً أن كل عدد يعبّر عن شئ مثل ستة فهو حياة ونشاط، أما سبعة عقل وصحة، إلا أن ذلك ممكن أن يكون من قبيل الرمز، فقد اشتهرت تلك الجماعة باستخدامهم رموز بلغت من الغموض ما بلغت في صياغة أقوالهم الحكيمة. استطاعت تلك الجماعة أن تجعل الفكر أكثر تجريدا ناظراً للأمور الأساسية للتعرف على ميزات وهوية المادة.

الإيليون:

يُنسب اسمها لإيلية وهي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا.

إكزنوفنس

كان جوالاً يطوف البلاد ناشداً الأشعار تلك الأشعار التي شكلت أساس لأفكار تلك المدرسة. فاقتبسها بارميندس وجعلها عمود الخيمة لمدرسته الفكرية. وكان من أهم ما ورد في إشعاره دعوته للإصلاح الديني حيث ازدرائه لآلهة اليونانيين حيث يُنكر على الشعب تشكيل آلهته في صورة البشر؛ قائلاً أنه لو كان الثور أو القرود حيوانات عاقلة لحسبت آلهتها في شكل ثور وقرد. معناه أن تشكيل اليونانيين لآلهتهم في شكل بشر نابع من قصور في خيالهم ليس إلا. وأنكر على شعرائهم كيف أنهم صوروا الآلهة تمكر وتخدع وتخطأ كما يفعل البشر، فمن وجهة نظره لا يصح أن يشبه الإله البشر بأي شكل من الأشكال لا في الصورة ولا في الفكر. وافترض إكزنوفنس أن الإله والعالم شيئ واحد لا شيئين. ورأى أن الأرض ستغرق في الماء ويفنى كل من عليها ثم تعود من جديد ثم تغرق مرةً أخرى. ورأى أن الشمس لا تدور حول الأرض أو العكس، بل أنها تتحرك في خط مستقيم حتى تفنى في الفراغ ثم تُخلق واحدة جديدة في اليوم التالي وقال هذا الكلام ليثبت فناء الشمس فإذا لا تصح أن تكون إله.

بارمنيدس

لا شيئ ثابت إذا لا شيئ حقيقي عدا الوجود. هذه الجملة تختصر فلسفة بارمنيدس حيث أنه تأمل من حوله فوجد أن كل شيئ نهايته الزوال أو التغير. فكل ما نشاهد متغير إذا لابد من وجود حقيقة مطلقة ثابته لا تتجزأ موجودة منذ الأزل لا تتغير مع الزمن تلك الحقيقة ما هي إلا الوجود. أنكر ما نشاهده من أشياء حولنا فكلها متغيره فانكر إدركنا لها، ولكن اعترف بما سماه الوجود الذي لا يدركه حس ولا حتى عقل. وقد رأي أن حقيقة الكون الوجود هذا فيه تجريد للمادية، لكنه ناقض نفسه حين صور الكون كرويا فكيف يكون الوجود غير مادة ويُصف بأنه كروي ويشغل حيز من المكان؟! أن في هذا لتناقض واضح.

زينو

لم يكن له آرائه المطلقة بل كل ما فعله هو إضافة البراهين على صحة وجهة نظر معلمه بارميندس. فأنكر كلاً من الحركة والكثرة. فمن وجهة نظرهه حقيقة الكون مطلقة مفردة لاحركة فيها جامدة، بمعنى أن كل ما نشاهد من تعدد وكثرة للأنواع في الأشياء في الكون ما هو إلا ظلال تخدعنا بها حواسنا فنحسبها حقيقةً لكنها ليست كذلك. والأمر ذاته ينطبق على الحركة.

الدليل على بطلان الكثرة:

لو افترضنا أن الكون مكون من أجزاء أصغر حجماً فذلك حتماً سيقودنا لتناقض صعب. حيث أن تلك الأجزاء بطبيعة الحال لابد لها من أن تتجزأ إلى ما هو أصغر منها فأصغر منها حتى تصل لأجزاء بالغة الصغر لا حجم لها إذا سيكون الكون كذلك بالغ الصغر لا حجم له؛ لأنه مجموع الأجزاء الصغيرة تلك. وكذلك سيكون الكون كبير جدا غير متناهي في الحجم حيث ستظل تلك الأجزاء الصغيرة تتجمع مع بعضها البعض إلى ما لا نهاية. هذا هو التناقض إذا فالكون لا يتجزأ، مثلما قال بارميندس أن الكون هو الوجود المطلق الغير قابل للتجزئة.

الدليل على بطلان الحركة:

إذا انطلق سهم من الرمح صوب هدف معين لابد له ان يكون ثابت في كل لحظة زمنية في مكان محدد حيث لا يمكن أن يكون في مكانين في الوقت ذاته؟! إذا مجموع اللحظات الزمنية ستكون السكون وليست الحركة. وهذا يعني ان الحركة وهم تختلقه حواسنا.

الغريب في الأمر ان تلك الحجج قد تظهر غريبة أو تافهة إلا أنها خلفت وراءها جدل لايزال قائم، وشارك فيه هيجل وكانت وغيرهم حول حقيقة الزمان والمكان. إذا تتبعنا ما نتج عن تلك المدرسة سنجد انها تؤمن بالوجود المطلق غير المتغيرفي الحركة ولا قابل للتجزئة وأن كل ما هو متغير ومتعدد هو بالضرورة وهم ليس إلا. وبذلك تكون شيدت تلك المدرسة عالمين متخلفين منفصلين أحدهما الوجود الحقيقي والآخر الوهم اللذي نراه فزادت من المشكلة تعقيداً.

هرقليطس

كان هرقليطس شخص أرستقراطي معتز بنفسه بشدة يرى العامة مجرد أنعام تؤثر الكلأ على الذهب، محتقراً قادة الفكر في عصره أمثال فيثاغورس، وإكزنوفنس. أنكر مبدأ الوجود المطلق الذي آمنت به مدرسة الإيليون؛ فهو مؤمن بأن لا شيئ ثابت لحظتين متتابعتين، حتى ذلك الجبل فهو يطرأ عليه التغيرات مع ما يحيطه من بيئة فيظهر أمامنا ثابت لكنه دائم التغيير لا فرق بينه وبين الحشرة الواقفة عليه دائمة الحركة. فهرقليطس اختلف مع تلك المدرسة التي قسمت الدنيا إلى الوجود المطلق الحقيقي والوهم الباطل المتشكل لحواسنا، أما هرقليطس فآمن بأن كل شيئ موجود دائم التغير فهو موجود وغير موجود في آنٍ واحد مثلا الهاتف الذي تقرأ به المقال بين يديك موجود لكنه دائم التغير. هذا ما أسماه بالصيرورة: هي التحول بين الموجود ولا موجود فلا يبقى هاتفك على حاله لحظة واحدة. كما أن هرقليطس بحث هو الآخر عن مادة أصل الكون كما فعل سابقيه وافترض أنها النار فالنار دائمة التغير تحول المواد من حالة لحالة، وما أصل الإنسان سوى النارالتي تتغذى على الهواء والمدركات الحسية ولذلك عقل الإنسان دائم النشاط حتى يتوقف تماماً عندما تنطفأ جذوة تلك النار، وهنا يموت الإنسان. لعلك لاحظت أن اختياره للنار نابع من إيمانه بالتغير الدائم للأشياء (الصيرورة) وهذا يظهر بشدة في النار.

إمبذقليس

لم يكن مبدعاً خالصاً فكان دوره أشبه بالمصلح ليس إلا؛ فقد أراد أن يوفق بين فلسفة هرقليطس والمدرسة الإيليون. فأمامه الأول مؤمن بالصيرورة والتغير الدائم للأشياء، والثاني مؤمن بالوجود المطلق الثابت غير المتجزأ. ليوفق بينهم افترض أن الأشياء جميعاً تتكون من ذرات ثابته تنطبق عليها مواصفات الوجود المطلق التي افترضتها مدرسة الإيليون، ولكن صورتها قد تتغير فتتحول لمادة أخرى ولكن بنفس الذرات فما يتغير هو الصورة والهيئة أما الجوهر من الذرات فهو ثابت. وافترض أمبذقليس أن أصل الكون يتكون من أربع مواد أساسية لا يتحول أحدهم للآخر، وعند اختلاطهم ببعض بنسب مختلفة تتكون مختلف المواد وهم: التراب، والماء، والنار، والهواء. لكن اختلاط تلك المواد يتطلب حركة وأمبذقليس قال أن تلك الذرات ثابته لا تتحرك مطلقاً فكيف يكون ذلك؟! لابد أن تكون طاقة الحركة خارجية في الحقيقة هما طاقتان تعملان ضد بعضهم البعض وهما الحب والبغض. ففي البداية كانت تلك المواد الأربعة مختلطة مع بعض ثم أخذت قوة البغض أو الكراهية تبعدهم عن بعض وأخذت العناصر المتشباهة تتجذاب فتكونت الماء والتراب والهواء والنار مستقلين ثم سيطر الحب مرة أخرى ليحاول أن يجمع بينهم ثم البغض وهكذا دواليك سيطرة تلك القوتين المتضادتين على الكون بين الجمع والانحلال.

المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد

ديموقراطيس

كان الغريب من أمبذقليس أنه لم يعط أي اهتمام لمبدأ الذرة الذي ذكره على الرغم من كونه أساس كلامه. كما أن فرض أن الحب والكره هما أساس الحركة الدائمة بين العناصر كان مبدأ شعري أكثر من كونه مبدأ منطقي فلسفي. فجائت المدرسة الفلسفية الجديدة لمؤسيسيها ديموقراطيس وليوسبس تقول أن المواد جميعاً تتكون من ذرات أولية وليست العناصر الأربعة التي ذكرها أمبذقليس تلك الذرات صغيرة جدا بحيث لا تدركها الحواس مطلقاً وباختلاف طريقة تراكب تلك الذرات تختلف خواص الأشياء وهيئتها. وقالوا أن الذرات تتصف بالصلابة بحيث لا تقبل التقسيم لأجزاء أصغر، ولها وزن وحجم ولها غلاف. وبين تلك الذرات في المادة يوجد الفراغ بمعنى أن المادة تتكون من ذرات وهي الممثلة للوجود وبينها فراغات وهي الممثلة للعدم. فبذلك ضمت المادة عنصري الوجود والعدم في آنٍ واحد. وكان تفسيرهم لمبدأ الحركة معتمد بشكلٍ أساسي على صفة الثقل التي امتازت بها الذرات حيث نتيجة لاكتسباها تلك الصفة فهي إذاً تسقط بشكل لا نهائي في الفراغ، وكلما زاد الثقل زادت سرعة السقوط -هذا ما ظنه الذريين- وعند تصادم تلك الذرات تتكون العوالم وليس عالمنا هو الوحيد الموجود فبناءاً على ذلك هناك عدة عوالم مختلفة. وكان فكر ديموقراطيس ملحد حيث من وجهة نظره الآلهة تولدت من خوف الإنسان من الظواهر الطبيعية المختلفة مثل الزلازل والبراكين وغيرها، وكنتيحة لذلك ظل الإنسان يلوم نفسه أنه هو من أغضب الآلهة أو أن تلك الآلهة يوجد بينها خصومة تضر بعالم البشر المهم أنه يوجد كائنات ضخمة جبارة هي السبب في تلك الظواهر.

أناكسجوراس

تأثر أناكسجوراس بآراء سابقيه أيما تؤثر فرفض بعض مبادئهم وطور من آخرين. فهو ينكر قول الذريين بأن المواد جميعاً على مختلف أشكالها تتكون من ذرات واحدة وأنكر مبدأ العناصر الأربعة مظهراً تعجبه في إعادة أصول المواد المختلفة لمواد أخرى فلماذا لا يكون الذهب ذهباً منذ الأزل؟ لماذا يرجعون تكوينه لعناصر أربعة أو لذرات؟! فوجد أن كل المواد هي نفسها منذ الأزل، وكانت خليطاً ثم أخذت في الانحلال والاتصال مراراً وتكراراَ، فلن تصل لحالة النقاء الخالص حيث لن يكون الذهب ذهباً دون شوائب من مواد أخرى وفي نفس الوقت سيظل ذهباً. والحركة ما هي إلا بحث المادة عن شبيهها، وهي لن تصل أبداً للنقاء الكامل. ولكن ما أصل تلك الحر كة من الأساس ما هي القوة المؤسسة لها؟ هنا يجيب أناكسجوراس أنه عقل رشيد منظم للكون يسيره في نظام، وأنه هو أصل ذلك الجمال الذي يملأ الكون فقد أنكر ظاهرة الحب والبغض التي قصها أمبذقليس وكذلك أنكر السقوط الحر على غير هدى الذي تبناه الذريين.

السوفسطائيون

كانت الأحوال الاجتماعية والسياسية في اليونان مناسبة لظهور تلك المدرسة؛ حيث بلغت الديموقراطية حد قبيح حتى أن بعض المدن التي تتكون من عدد محدود من الأفراد أصبحت تُحكم من قبل الأفراد جميعاً كلٌ يبحث عن مصلحته، ويبحث عن التفرد حتى كان الحكم للغوغاء ليس لإولي العلم. وهذا ما سمح بخروج تلك المدرسة التي تنكر المعرفة وتهتم بالخطابة. فتلك المدرسة ترى أنه يمكن أن تجهل مبادئ ما تتحدث فيه، ويكفيك الاستعانة بمحسنات اللغة من الاستعارة والكناية ومهارات الخطابة حتى تكون محنكاً فيما أنت بصدده رغم جهلك. وقد اتخذوا مبدأ الفترة الزمنية وقتها وهو أن الإنسان هو مقياس كل شئ فلا صح ولا خطأ مطلقين هناك فقط الإنسان. وقد رأوا أنه لا سبيل لمعرفة الحقيقة؛ نتيجة للاختلافات بين الناس في تأويل الأشياء. فمثلا منهم من يرى الجسم مكعب والآخر يراه كورة إذا لا سبيل لمعرفة حقيقة الجسم. بل لا وجود للحقيقة أصلا ذلك الجسم موجود في أذهاننا لا وجود له في الواقع. بمعنى أن إنكار تلك المدرسة لوجود الأشياء نابع من الاختلاف في التأويل بين الناس فهم يرون أنه لا وجود للخطأ بحكم أن كل أنسان هو المقياس إذا فلا خطأ، ولا حقيقة مستقلة، وبالأحرى المعرفة ما هي إلا وهم من وجهة نظرهم؛ فهم نحوا الحكم العقلي جانباً وتركوا الحكم للحواس التي تختلف في إدراكها للأشياء ونتجية لذلك الاختلاف أنكروا وجود الأشياء من الأساس.

سقراط

كان رجل الحوار؛ حيث كان يطوف الأسواق والتجمعات يحاور الناس ويتحدث معهم كاشفاً نقاط قوة وضعف أفكارهم. كان رجلاً محب للحكمة غير معترف بتميزه فدائماَ ما كان يقول: (أنا أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئ) كانت نهايته مأساوية فاتهم بالإلحاد والسفسطة وإفساد الشباب فحُكم عليه بالإعدام بالسُم ومات. لكنه خلف ورائه إرث أعاد إحياء الفلسفة، والتفكير بعدما قتلوا على يد السوفساطئيين. حيث ذهب السوفساطئيين كما عرفنا أن الإدراك الحسي هو أساس كل شيئ وهذا ما نفاه سقراط حيث أن ذلك الإدراك ما هو إلا إدراك جزئي للأشياء لكن إدراك الصفات المميزة للمواد والأشياء، وحصرها تلك الصفات التي تشيع بين أفراد نفس النوع هو بحد ذاته المعرفة. فمثلا تختلف الأحصنة في عدة صفات مثل اللون والحجم وغيرهم وهم يعدون من المدخلات الحسية دورالعقل هنا البحث عن أمور مشتركة مثل الصهيل حتى يحدد تعريف الحصان ويحصل على المعرفة. فبذلك كان طريق سقراط للمعرفة هو التجريد من المتغيرات أو الصفات الجزئية للوصول لوصف كلي يضمن المعرفة القويمة بالشيئ. فبذلك كان الإدراك العقلي للأشياء القائم على التجريد فهو أساس المعرفة. كانت تلك المفاهيم من أهم ما أنتجه سقراط للعقل البشري ليمثل النور بعد غياهب جهل السوفساطئيين، لكنه لم يقتصر على ذلك فأخذ يتسائل ما هي الفضيلة؟ كان عمل سقراط في تعريف المعرفة هادف لمعرفة الفضيلة فبالنسبة له الفضيلة والمعرفة ملتصقين ببعض؛ بحيث أنه عندما يدرك الشخص الخير، ويفهمه ويدرك الشر والفساد ويفهم عواقبهما مؤكد أنه سيسلك طريق الخير ويترك طريق الشر. إذا فالفضيلة قائمة على المعرفة أو الإدراك العقلي. بذلك يكون سقراط وقع في الزلل حيث أنه لم يفهم أن الإنسان أيضاً يحمل العاطفة والشهوة ليس العقل وحده؛ فلا تكفي المعرفة العقلية لأداء الفضيلة بل لابد من وجود إرادة للتغلب على الشهوات. وبذلك كان إرث سقراط متمثل في نظريته المعرفية وفلسفتة في الفضيلة.

أفلاطون

نشأ في ظروف تسودها الفوضى في المجتمع الأثيني حيث الحرب الشديدة مع الفرس وفساد كلاً من الديموقراطية والأرستقراطية. وكان كثير الترحال يتعلم عن مختلف المدارس الفسلفية المختلفة من خلال تلك الرحلات فقد عرف فلسفة هرقليطس، وسقراط فقد كان أفلاطون تلميذاً مخلصاً له، والفيثاغوريين، والمدرسة الإيلية. واستقر في أثينا في المرحلة الأخيرة من حياته وهناك أسس أكاديمية أفلاطون. فقد كان أفلاطون أول فيلسوف تأمل في جميع مناحي الحياة مثل أساسها ومن أين جاء الكون، الأخلاق، السياسة، الفن….إلخ فخلف وراءه منظومة فلسفية متكاملة لها ما لها وعليها ما عليها. وقد امتازت كتبه بأسلوبها الحواري المميز واعتماده في بعض الأحيان على الشعر والأساطير والقصص التي غلفت بعض النقاط في فلسفته بالغموض. وقد كان أفلاطون مكملاً لكلام أستاذه في نظرية المعرفة، وله فلسفته الخاصة المعتمدة على المُثل، كما أنه له طريقته في النظر للإنسان والدولة.

نظرية المعرفة

بدأ أفلاطون يهدم كلام السوفساطئيين من أساسه عن طريق الحجج المناسبة فمثلاً:

1.إذا كان لا وجود للخطأ لأن كل شيئ مقياسه الإنسان فماذا لو قال أحدهم أنه سيصبح وزيراً بعد عام وانتهى العام ولم يصبح شيئاً هل سيكون توقعه بهذا الشكل صحيح؟ّ!

2. ما الفرق إذا بين الإنسان والحيوان إذا كانت المعرفة يتم الحصول عليها من قبل الحواس فقط دون تدخل عقلي؟! وكيف يكون الإدراك لو كان عن طريق الحواس فقط ونحن نعطي الأشياء مسمياتها ونتعرف عليها من خلال الإدراك العقلي؛ فالعين وحدها غير كافية للإدراك؟!

وغيرهم العديد من الحجج التي ساقها أفلاطون ليثبت خطأ نظرة السوفساطئيين ويثبت كلام معلمه حول نظرية المعرفة.

نظرية المُثل

كما اتضح في السطور السابقة أن أفلاطون سار على خطى أستاذه سقراط بأن الحقيقة في المدركات العقلية المجردة. لكن أفلاطون ذهب لأبعد من ذلك حيث رأى أن تلك المدركات المعرفية، أو الحقائق لابد أن يكون لها وجود حقيقي. من وجهة نظره كيف نسمي الحقيقة حقيقةً إن لم يكن لها وجود حقيقي؟! بمعنى أن إدراك العقل للحصان يعتمد على صفات مشتركة مجردة من التغيير، وهي ما تُسمى معرفة إذا فلابد لوجود مثال لتلك المعرفة وفي تلك الحالة سنقول عنه (مثال الحصان). وعندما يصف الإنسان بعض الأشياء بصفة الجمال مثل وصف الوردة أو القمر أو مشهد الغروب… إلخ لابد من وجود مثال للجمال، كذلك مثال للخير والشر والقبح والزريلة وهكذا دواليك. تلك الأمثلة متواجدة في عالمها المستقل متصفة بعدة صفات مثل الأزلية وأنها غير محدودة بزمان ولا مكان وأنها عناصر مستقلة لم يتسبب في وجودها شيئ وغيرها من الصفات التي تدل على التجريد والعموم. وشرح العلاقة بين تلك الأمثلة وأنها ممكن أن يكون بعضها منبثق من الآخر فهناك أمثلة دُنيا منبثقة من أمثلة أخرى أعلى منها وهكذا حتى نصل لقمة البناء الهرمي وهو (مثال الخير) فمنه كل شيئ وإليه كل شيئ.

رأيه في العالم المحسوس

العالم المحسوس ما هو إلا صورة لعالم المُثل، وقد وقع أفلاطون في مأزق حينما وصف المُثل بصفات تجريدية؛ فلا يمكن للمثل أن تخلق عالماً من تلقاء نفسها لأنها بذلك ستتخذ صفات التغيير التي يتصف بها العالم المحسوس. فرأى أفلاطون أن العالم قد انبثق من ثلاثة شركاء الأول هي المُثل والثاني هو المادة -قد استخدام لفظ المادة للتعبير عن العدم فالمادة عنده هي ما ليس لها صفات أو أشكال وقد فسرها البعض أنها الخلاء- أما الثالث فهو الإله الذي طبع المادة على صورة المُثل فالناتج لم يكن عدم مطلق، ولا وجود مطلق إنما خليط بين الإثنين وهنا كان العالم المحسوس. بالطبع رأى الكثيرين أن أفلاطون لم يحل مشكلة تكون الكون، إنما يضيف عالم جديد وهو المُثل الذي يحتاج لتفسيرات هو الآخر وبذلك زاد من المشكلة تعقيداً.

النفس البشرية

اشتهر أفلاطون بنظرته للنفس الإنسانية؛ فقد قسم النفس لثلاثة أقسام أرقاها العقل، والنبيل في اللاعقلاني أو العاطفة الصادرة من القلب مثل الحب والشجاعة وغيرهم، والجزء الوضيع وهو الشهوات البهيمية. وينبغي على الإنسان أن يحتكم لعقله ويضيق الخناق على شهواته البهيمية. وقد أعتقد أيضا بالتناسخ وهي أن النفس بعد الموت لا تفنى بل تسكن كيان آخر محدد بتصرفاتها فلو كان الشخص شهوانيا فستتناسخ النفس بعد ذلك لتسكن حيوناً وهكذا.

رأيه في الأخلاق

لا داعي للذكر أن افلاطون اختلف مع السوفساطئيين في وجهة نظرهم حول الخير والشر والأخلاق؛ فلم يرى أن تلك الأمور محكومة بأحكام شخصية فقط لا مقياس لها. وقد رأى أن اكبر هدف من معرفة الخير وتأديته هو السعادة. والسعادة بالنسبة له متمثلة في أربع نقاط أولها العلم بعالم المُثُل الذي أرسى قواعده ثانيها التأمل في الصلة بين العالم المحسوس والمُثُل عن طريق التأمل في جمال وتناسق العالم من حولنا، ثالثاً التثقف بمختلف العلوم، رابعاً التمتع باللذائذ النقية الطاهرة والترفع عن ما انحط منها. وقد اختلف عن معلمه سقراط حول تعريف الفضيلة فلم يحسب أن الفضيلة هي المعرفة إنما لخصها في أربع نقاط: الأولى هي فضيلة العقل وهي الحكمة، الثانية فضيلة الجزء الشريف من الجزء اللاعقلاني هي الشجاعة، الثالثة هي العفة وضبط الشهوات، رابعاً هي اجتماع تلك الصفات لإنتاج العدل.

رأيه في الدولة

كان له في السياسة وتشييد دولة سعيدة ذاع طويل عبر عنه في “كتاب جمهورية أفلاطون” الذي تضمن معانى العدل والرزيلة ووجهة نظره في الحقيقة والنفس وغيرها. وفي هذا الكتاب أرسى دعائم تنظيم الدول المعتمدة على تقسيم الدول لثلاثة أقسام مشابه لتقسيمه للنفس فقد رأى أن من تميزت عقولهم كانوا الفلاسفة ولهم أمور الحكم، ومن تميز الجزء النبيل اللاعقلي لديهم متمثلاً في الشجاعه وحب الدولة كان الجيش، أما ما عدا ذلك فهم العامة من صناع وتجار وغيرهم. وقد وضع أفلاطون أسس قوية لتربية الأطفال بدنيا، وذهنياً. وكان يرى أنه لابد من حصر المؤلفات والأشعار وتدقيقها لنتخلص من الرزائل فيها، ونتخلص من المؤلفات التي تحط من قدر الآلهة وتصفهم بالغدر والطمع وغيرها من قبيح الأوصاف. فقد يرى أن أحد دعائم الدولة أن يكون أصحابها مؤمنين بالإله وأن يقتنعوا أن غضبه واقع على من يخالف مبادئ الدولة. وقد رفع أفلاطون من قدر الدولة على حساب الفرد؛ فالأفراد بالنسبة له جزء من نسيج المجتمع يعملون لصالحه، وليس لصالح أحلامهم وطموحاتهم. وقد بالغ في تلك النظرة حتى أنه أنهى وجود الأسرة المستقلة في بعض الطبقات فلا زوجة خاصة، ولا حتى أولاد يعرفون من أمهاتهم أو أبائهم؛ لأن الدولة هي من ستتولى تربيتهم منذ الولادة. كل هذا وأكثر شرحه افلاطون في كتاب جمهورية افلاطون الذي لم يسلم من التحليل والنقض من وقتها حتى الآن.

أرسطو

كثيراً ما ينصب الناس أرسطو منصب الخصم لأفلاطون وفي الحقيقة أرسطو كان أحد تلامذة أفلاطون، لكنه كان ذي شخصية مستقلة يزن ما يسمع بعقله ويميز صحيحه من خطأه وهذا ما فعله مع فلسفة أفلاطون؛ فلم يشربها شربا بغير تعليق أو مراجعة، بل على العكس تماماً. نتيجة لذلك استطاع أرسطو بناء منهج خاص به مختلف عن سابقيه.

المنطق

تشهد الفلسفة أنه لا منطق قبل منطق أرسطو؛ فهو من أول من عُني بصحة القول والعبارة ووضع لها المقاييس. والمنطق نوعان إما منطق الصورة وإما منطق المادة وقد اهتم أرسطو بمنطق الصورة مشيداً إياه بأكمله، وكل ما بين أيدينا في منطق الصورة هو من إنتاج أرسطو لم يضاف إليه إلا القليل، أما منطق المادة فلم يُفتح بابه إلا حديثاً.

ما بعد الطبيعة

لم يقتنع أرسطو بفسلفة أفلاطون حول وجود كيان يُسمى المُثل وأن كل حقيقة معرفية لابد لها من تجسيد. فقد رأى أن ألفاظ مثل العدل والظلم والجمال والقبح…إلخ لا حرج في أن تكون مجرد معانٍ عقلية ليس لها كيان مستقل كما إدعى أفلاطون. ورأى أرسطو أن خلق أفلاطون لعالم المُثل لم يحل لغز الوجود بل أضاف ألغاز جديدة غير قابلة للتمحيص والدراسة. وشيد أرسطو وجهة نظره المستقلة فرأى أن كل ما في الوجود هو عبارة عن المادة أو الهيولي والصورة. أما الهيولي فهو العنصر منعدم الصفات فلا لون ولا رائحة ولا شكل ولا أي شيئ فجاءت الصورة فاسبغت عليه تلك الصفات. وعلى عكس ما فعل أفلاطون حيث فصل بين المادة والمُثل أرسطو افترض أن لا هيولي بلا صورة ولا صورة بلا هيولي. والهيولي يُمكن أن يكون أي شيئ بمعنى أن الهيولي قد يكتسب صورة معينة فيكون ذهب ولا يمنع أن يكتسب صورة أخرى فيكون فضة المهم أن كل ما في الوجود ما هو إلا اتحاد بين الصورة والهيولي. وقد رأى أن كل ما في الوجود يتحرك لغاية وقد عرف تلك الغاية على أنها الإله فهو غاية الغايات وإليه يسعى كل موجود. وأمعن أرسطو في الحديث عن الإله ونسب له العديد من الصفات؛ فالإله -كما قولنا- بالنسبة لأرسطو هو غاية الغايات فهو من يجذب العالم في اتجاهه، وهو منتهى الرُقي والرُقي ما هو إلا إمعان في الصورة وتقليل من الهيولي، إذا فالله صورة خالصه مفكرة فهو فكرة الأفكار وأكملها يعيش في سعادة أبدية وفي فكر لا ينتهي.

الطبيعة

على عكس أفلاطون لم يهمل أرسطو الكون المحسوس إنما اهتم به جداً وعُني بتفسيره وتقسيمه؛ فقسم الموجودات في تسلسل هرمي طبقا للنشوء والارتقاء. لكنه لم يرى أن الأرقى تطور للأدنى بمعنى أنه لم يرى أن الإنسان تطور لسابقيه، فمن وجهة نظره الإنسان موجود وجود أزلى مثله مثل الباقي لم يتطور نوع من آخر إنما يتقدم نوع على الآخر حتى نصل لأعلى مراحل التقدم وهو الإنسان. وذلك التسلسل تتحرك فيه الموجودات بين طرفين الأدنى هو الهولي، والأعلى هو الصورة وبينهما يتم التقسيم. ولا يمكن أن نفهم من ذلك التسلسل أن ما هو أدنى من الإنسان يكون الإنسان غايته، ومسخر له. فالإنسان قادر على التحكم فيما هو أدنى منه باستخدام عقله، ويسخره لخدمته ولكن لا يعني ذلك أن ما أدنى له منعدم الغاية، لا بل كلٌ له غايته إليها يسعى في حركة دائمة حتى إن لم يكن سعياً مبنياً على العقل بل الغريزة لكنه في النهاية سعيٌ لغاية. وقد وضح أرسطو أسباب الانحطاط وأسباب الرقي، حيث أن كل الكائنات العضوية أول ما تسعى إليه هو النجاة والحياة عن طرق الغذاء، ثم استمرار نوعها عن طريق التناسل. وما اقتصر من الكائنات على أداء تلك الوظيفتين فقط كان الأدنى مثل النبات، وكان الحيوان أرقى من النبات لقدرته على الحس والاستمتاع باللذة والهروب من الألم، أما الإنسان فقد حقق كل ما سبق وأضاف استمتاعه بالفكر لذلك كان أقرب المخلوقات للإله.

الأخلاق

رأى أرسطو أن أفلاطون بالغ في عداوته لشهوة وغريزة الإنسان، حيث أن تلك الشهوة أوالاحتياجيات الغريزية هي من مكونات الإنسان، واسئصالها بمثابة هدم للإنسان إذا لابد من وجود عقل يتحكم بها لا عقل يقتلها. وقد اختلف أيضاً مع سقراط حين رأى أن الفضيلة هي المعرفة أن بمجرد معرفة الإنسان للفضيلة سيفعلها لا محالة فرأى أرسطو أن هذا الكلام غير دقيق فقد تتغلب الشهوة على العقل وتبتعد عن الفضيلة التي تم إدراكها فلابد من معرفة الفضيلة وتوافر إرادة تحقيقها.

الدولة

اختلف أرسطو هنا أيضا مع أفلاطون؛ فأفلاطون قتل مصلحة الفرد لصالح الجماعه فها هو يجعل طبقة الحكام يعيشون عالة على أموال الناس وفي بيوتٍ بدائية، حتى أنه قتل الأسرة فلا زوجة مستقلى ولا أولاد. رأى أرسطو أن في ذلك خطأ فلابد من وجود أسرة ولابد من أن يحقق الفرد ذاته مع تحقيقه لمجتعمه.

ما بعد أرسطو

لاجديد…انحدرت الفلسفة بشدة بعد أرسطو نتيجة لما تعرض له المجتمع من غزو وتشتت في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فليست الحياة الفكرية بمعزل عن الحياة المادية. وعليه كان اهتمام العقول في الهروب من شرور الحياة بالبحث عن السعادة والأخلاق. مات البحث في الطبيعة، وعلة الوجود، وأصبحت النظرة للإنسان مركزية سطحية وظلت هكذا لفترة طويلة من الزمن كل ما تم فيها هو إعادة إحياء بعض القديم ليس إلا. ومن أشهر تلك المدارس التي جائت بعد أرسطو: الرواقيون والأبيقوريون.

إقرأ المزيد:

ملخص كتاب مغامرة العقل الأولى للكاتب فراس السواح

لوحة مدرسة أثينا

Exit mobile version