كيف حدث انفصال العلوم عن الفلسفة؟

لم ينفصل العلم عن الفلسفة طوال أكثر من 22 قرنا، امتدت ما بين القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن السابع عشر الميلادي. حيث ميز نيوتن بين النتائج العلمية التي تقوم على الملاحظة المباشرة، وبين الافتراضات الميتافيزيقية التي اعتبرها مقحمة في مجال عمله. وكما يقول البعض، على يدي نيوتن، تم الفصل بين الفلسفة والعلم. فكيف تم انفصال العلوم عن الفلسفة؟

انفصال العلوم عن الفلسفة

شهدت الفلسفة انفصالات لأجزاء منها لتصبح فروعًا معرفية مستقلة بذاتها، كونت هذه الانفصالات تاريخ العلم. فقد فصلت أعمال إقليدس الهندسية علم المكان عن الفلسفة في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد كان الفلاسفة يدرسونها في أكاديمية أفلاطون. كما أثمرت جهود جاليلو وكبلر ونيوتن عن انفصال الفيزياء في القرن السابع عشر لتصبح علمًا منفصلًا عن الميتافيزيقيا. ثم انفصلت الكيمياء في القرن الثامن عشر، وأعقبتها البيولوجيا في القرن التاسع عشر نتيجة لكتاب “أصل الأنواع” لدارون. بعد ذلك، استقلت العلوم الإنسانية، التي تهتم بدراسة الإنسان على مستوى الفرد والجماعة، بالتدريج. وكان أولها علم النفس الذي انفصل عن الفلسفة بداية القرن العشرين.

ما الذي يجعل المعرفة علما؟

لا يمكن إيجاد تعريف جامع مانع يصدق على كل العلوم، لكن يمكن تحديد بعض الخصائص التي يجب أن تتواجد في كل علم، وهي كالتالي:

يسعى العلم إلى التعميم

يجب على القوانين أو النتائج التي يتم التوصل إليها أن تفسر جميع الحالات المشابهة لها، وألا تقتصر على تفسير حالة جزئية معينة.

يهدف العلم إلى صياغة نتائجه صياغة كمية قدر الإمكان

ويعني ذلك صياغة النتائج بعبارات دقيقة محددة المعنى مثل “درجة الحرارة اليوم هي خمسة مئوية”. وكلما زاد توفر هذه الخاصية في علم ما، كلما تقدم وزادت دقة مفاهيمه ونتائجه.

يتصف العلم بالموضوعية

ويقصد بذلك معالجة الظواهر دون تدخل لذات الباحث في البحث. ويوضح برتراند راسل هذا من خلال مثال المسرح، إذ يفترض أن هناك فرقة تمثل في مسرح تحيط بها آلات التصوير التي تلتقط الكثير من الصور. بالعودة إلى تلك الصور وملاحظتها يمكن اعتبار القواسم المشتركة لكل الصور هي الجانب الموضوعي للبحث، وتعتبر الأشياء الأخرى المختلفة وغير المتشابهة هي الجانب الذاتي.

يمكن وصف العلم بإمكانية اختبار صحة نتائجه وتعميماته

يمكن التحقق من صدق النظرية العلمية من خلال مراجعة طريقة استنباطها في حال كانت مستنبطة، كما يمكن التحقق من صدق تطبيقها على الواقع بتكرارها والتأكد من نتائجها وقدرتها على التنبؤ.

يتصف العلم بثبات قضاياه

يجب أن تكون القضية العلمية صادقة في جميع الظروف والمناسبات المشابهة.

اتصال البحث العلمي

يبدأ العالم عادة من حيث انتهى زميله، فالبحث العلمي درجات، كل درجة تمهد للدرجة التالية.

نسقية العلوم وتكاملها

تتدرج العلوم من الأعم إلى الأخص، فالعلوم التجريبية مثلا تتضمن العلوم الطبيعية وعلم الحياة والعلوم السيكوفيزيائية والعلوم الاجتماعية، وكل واحدة من هذه العلوم تتضمن علومًا أخرى. إذ أن العلوم الطبيعية تتضمن علم الفيزياء وعلم الكيمياء، والعلوم الاجتماعية تتضمن علم الاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم.

يتضمن العلم الإيمان بمبادئ معينة

وهذه المبادئ لا يمكن أن توضع موضع شك، إنما يمكن تعديلها من حين لآخر حتى يستمر تقدم العلم. ومن أهم هذه المبادئ مبدأ الحتمية الذي عرفه كلود برنار بأنه يسلم العالم بديهيًا بأن “شروط كل ظاهرة سواء أكان ذلك في الأجسام الحية أم في الأجسام الجامدة، محددًا تحديدًا مطلقًا”. ويعني ذلك أنه لا بد من حدوث الظاهرة تُعرف شروطها ويتم تهييئ هذه الشروط.

ما هو المنهج العلمي؟

يمكن تعريف المنهج العلمي بأنه الإجراءات العقلية التي تؤدي إلى نتائج معينة. وتعتمد العلوم – أيا كانت طبيعتها – على مناهج تخدمها. وقد انقسمت إلى منهجين:

  • المنهج الصوري الذي يستخدم في علوم المنطق والرياضيات.
  • المنهج التجريبي الذي يستخدم في الفيزياء والكيمياء والعلوم الإنسانية. ونظرًا لكون هذه الأخيرة تدرس الإنسان وما يتعلق به فقد أنتجت مناهج مختلفة خاصة بها تراعي خصوصية الظاهرة الإنسانية وتعقيدها، وتسمى بالمناهج السياقية.

ماذا يقصد بالمناهج السياقية؟

تهتم هذه المناهج بظروف نشأة الظاهرة المدروسة وسياقاتها الخارجية، سواء كانت اجتماعية أو تاريخية أو نفسية بغية فهم موضوع البحث من كل جوانبه. وهذه المناهج هي المنهج التاريخي الذي يصبو إلى الإحاطة بزمن الموضوع والبيئة التي نشأ فيها. والمنهج الاجتماعي الذي يبحث في المحيط الاجتماعي لموضوع الدراسة. والمنهج النفسي الذي يهتم بشخصية موضوع الدراسة وانعكاس أحداث حياته عليه. وتتميز هذه المناهج في سياق النقد الأدبي بالتركيز على أسباب ولادة الإبداع.

تطرقنا في هذا المقال التقديمي إلى انفصال العلوم عن الفلسفة بما فيها العلوم الإنسانية، كما تعرفنا على العلم وشروطه والمنهج العلمي. وأشرنا إلى المناهج السياقية، التي سنتناول الحديث عنها بشكل مفصل في المقالات القادمة.

المصادر

مفهوم المنهج العلمي، يمنى طريف الخولي.
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول-الحصاد-الآفاق المستقبلية، يمنى طريف الخولي.
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، يمنى طريف الخولي.
فلسفة العلم، أليكس روزنبرج.
ما هي الفلسفة؟ حسين علي.
فلسفة العلم في القرن العشرين، دونالد جيليز.
الفلسفة العلمية وإشكالياتها، علي رشيد مشيك، أوراق ثقافية.
مناهج النقد المعاصر، صلاح فضل.

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر

في كتابه خلاصة القرن، يبدأ بوبر في حوار معه، بطرح مشكلة النظام الشيوعي وفلسفة ماركس التي بدأ بانتقادها في مراهقته. ومن ثم يحلل انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة الشيوعية. ويتضمن الكتاب بعض من دراسات كارل بوبر حول دولة القانون ومشكلاتها المتعلقة بالحرية والمراقبة والتدخل. وكأنك قرأت خلاصة القرن لكارل بوبر حلقة من سلسلة وكأنك قرأت لتقديم أهم الكتب الفلسفية.

بوبر الفأر في فخ الشيوعية:

يروي بوبر بأنه كان يحلم دومًا بعالم يسود فيه السلام، خاصة في فترة مراهقته، حيث نظم قصيدة وآمن بأن الحق سينتصر والسلام سيتحقق، بحيث سيعود الجنود المحتلين إلى ديارهم. تأثر بوبر بخطابات تروتسكي بشكل خاص حول بناء عالم بلا عنف. ذات مرة ذهب إلى مقر الحزب الشيوعي وهناك التقى بأبناء الفيلسوف النمساوي رودولف إسلر (هانز، فريتي وجيرهارد) كان لهم مكانة بارزة في الحزب الشيوعي وعاملوه بلطف كما يروي. لم تمر فترة طويلة حتى بدأ بوبر يشك في الخطاب الشيوعي، خاصة بعد حادثة مقتل ستة شبان في مظاهرة للشيوعيين من قبل الشرطة في فيينا، شعر أنه يحمل جزء من مسؤولية قتلهم. قبل أن يبلغ السابعة عشرة من عمره وجد أنه من الضروري نقد أطروحة ماركس والشيوعية.

بوبر ينتقد ماركس:

اعتقد ماركس أنه الرأسمالية وصلت إلى مرحلة بحيث هي نفسها صارت أزمة، لا مجال لإصلاحها بل يجب تدميرها. كما وجد ماركس بأنه ظروف العمال تزداد سوءًأ, غير أنه لم يرد تجريم الرأسماليين شخصيًا لطالما هم ضحايا النظام. حذر ماركس من “الشيوعية المبتذلة”. رأى بوبر أن أطروحة ماركس بعيدة عن الواقعين، واقع الرأسمالية وواقع الحزب الشيوعي. فالحزب دعم الشيوعية المبتذلة، حيث أن الرأسماليين شخصيًا يتحملون المسؤولية ويحب القضاء عليهم. ومن جهة اخرى يرفض بوبر كون الرأسمالية غير قابلة للإصلاح، كانت هناك إصلاحات جذرية حتى في زمن ماركس، ويبدو له أن ماركس بالغ في تقدير الرأسمالية وما يجب فعله، فالرأسمالية التي وصفها ماركس لم تكن سوى خيال شيطاني. وفي سياق آخر رأى بوبر أن ماركس بالغ في الاعتماد على الاقتصاد كآلة تفسيرية شاملة، فعناصر أخرى مثل الدين والمؤسسات لها دور كبير في تحديد شكل المجتمعات.

إقرأ أيضًا مفهوم الإنسان عند ماركس

انحطاط الاتحاد السوفيتي:

وفقًا لبوبر فأن حقبة خروشوف كانت هي بداية انحطاط الاتحاد السوفيتي، حيث لم يأخذ قادة السوفييت الماركسية بجدية سوى كاداة لبقاء النظام، أي فكرة تدمير الدول الرأسمالية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. يتحدث بوبر عن خروشوف ومحاولة القضاء على أمريكا من خلال الصواريخ النووية الهائلة التي ارسلها الروس إلى كوبا. كان العالم أمام كارثة عالمية غير أن الصواريخ لم تكن جاهزة كفاية لضرب أميركا، هكذا خسر السوفييت الرهان وأنهار النظام الشيوعي لأسباب عسكرية بحتة.

دولة القانون:

مع أن بوبر كان ليبراليًا، إلا أنه ينتقد بعض المبادئ الرئيسية في الدولة الليبرالية وأهمها السوق الحر وحرية التعبير. فلأجل بناء دولة القانون يجب أن تتدخل الدولة في السوق كما عليها مراقبة وسائل الإعلام. فالسوق الحر، بشكل أو بآخر يشجع السرقة والفساد، فضلًا عن التلاعب بآالية السوق. يرى بوبر أنه يتحتم وجود سوق حر دون تدخل الدولة. يضع بوبر قائمة من الأولويات لبناء دولة القانون:

  • السلام العالمي: أن تكون الأسلحة النووية بيد الشعوب المتحضرة لأجل تحطيمها والإحتفاظ بكمية قليلة فقط.
  • وضع حد للإنفجار السكاني.
  • التربية: يجب أن نربي الأطفال على اللاعنف، فهم غريزيًا ضد العنف، غير أن وسائل اللإعلام هي من تفسدهم لذلك ثمة حاجة للمراقبة من قبل الدولة. وفي حديثه عن الحرية يجد بوبر بأن الحرية المطلقة سخيفة لذلك يدعو إلى ضمان حرية الآخر، ذلك لأن الحرية المطلقة تكون تعسفية غالبًا بحيث تحرم الآخر من حريته. بذلك يتبنى مفهوم كانط للحرية “ما نحن في حاجة إليه هو مجتمع حيث حرية الفرد متعادلة مع حرية الآخرين، حريتي ليست متعادلة معك إلا عندما نرفض معًا استعمال العنف، أنا لا أضربك وأنت لا تضربني”. فالقاعدة في دولة القانون هي حمايتنا من الجريمة والعنف.

وفي حديثه عن دولة القانون، يدعو بوبر إلى التعاون مع الدين والمؤسسات الأخرى وخاصة التيارات غير المتشددة في الديانات المختلفة، ذلك لأنه يؤمن بأن الدين نفسه ليس مع العنف. كما يرى بأن الخطر الحقيقي يأتي اليوم من الوطنية، حيث هوية عرقية تدعي أنها الهوية الحقة، على الدولة حماية الأقليات وضمان حقوقهم لطالما أنه من المستحيل أن يكون لكل شعب دولة.

الكتب والديمقراطية:

في أثينا وابتداءً من عام 530 ق.م وجد أول سوق للكتب في التاريخ لبيع المخطوطات، خاصة الملحمتين الشهيرتين لهوميروس، الإلياذة والأوديسا. الذي أمر بتدوين قصائد هوميروس كان الطاغية بيزيسترات، كما هو من فتح المسارح. تحول الشعب الأثيني إلى شعب يقرأ هوميروس كأنجيل أثيني. بدأ الفلاسفة والكتاب مثل أناكساغوراس وهيرودوت يأتون إلى أثينا لنشر أعمالهم. فوفقًا لبوبر سوق الكتب يفسر الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلادي، هما حدثان مرتبطان. يقارن بوبر بين اختراع جوتنبرغ لآلة الطباعة وبين إنشاء سوق الكتب في أثينا، فسوق الكتب هو عامل مهم في بناء مجتمع يوناني ديمقراطي متطور فكريًا وأدبيا، وأختراع جوتنبرغ أدى إلى ثورة ثقافية وإزدهار في الفنون، وحسب بوبر فأن اختراع آلة الطباعة مرتبط بثورتي الإصلاح في إنكلترا عام 1648 و1688.

الديمقراطية ليست حكم الشعب:

وفقًا لأفلاطون هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسلطة:

الملكية: حكم رجل واحد

الأرستقراطية: حكم مجموعة من الأشخاص

الديمقراطية: حكم الشعب

كان يتسائل أفلاطون، إلى من يجب أن تعود قيادة الدولة؟ الأفضل حسب أفلاطون وحسب ماركس البروليتارية وقال هتلر أنا. يطرح بوبر المشكلة بشكل مختلف، هل توجد أشكال حكومة التي هي لأسباب أخلاقية جديرة بالعقاب؟ هل توجد أشكال حكومية تسمح لنا بالتخلص من الحكومة السيئة؟ هذه الأسئلة هي قاعدة الديمقراطيات.

يرفض بوبر أن تكون الديمقراطية سلطة بيد الشعب، ذلك غير ممكن، فهي بإختصار تساعدنا على التخلص من الدكتاتورية دون إراقة الدماء، سواء عن طريق الانتخابات أو البرلمان.

الحرية ودولة حد أدنى:

إن حماية الحرية مسؤولية مشتركة، نتشارك فيها جميعًأ، بمعنى أن حريتي عندما تبدأ يجب ألا تنهي حريتك, لذلك فأن الإسراف في الحرية يؤدي إلى التعسف والعنف. يعبر بوبر بشكل جميل عن ثنائية الحرية-الدولة بقوله: “نحن بحاجة إلى الحرية لمنع الدولة من التعسف في سلطتها ونحن بحاجة إلى الدولة لمنع تعسف الحرية”. يقترح بوبر وجود محكمة دستورية لمنع التعسف الناتج من الحرية.

كما يناقش بوبر آراء الفلاسفة هوبز، كانط، هامبلدنت وميل حول مفهومي الدولة والحرية. عند هوبز أن الإنسان من دولة سيكون ذئبًا لأخيه الإنسان. عند كانط الدولة عليها أن تضمن أكبر حرية ممكنة للفرد مع ضمان حرية الآخرين بنفس الدرجة. تبنى كل من ميل وهامبلدنت فكرة كانط، أي دولة حد أدنى. هذه الدولة مهمتنا الرئيسية هي الاعتراف بحقنا في الحرية والحياة ومساعدتنا على حماية حقوقنا. كما من مهمات الدولة الاهتمام بالفئات المستضعفة والشباب ومنع وسائل الاعلام من بث الاخبار الكاذبة.

الديمقراطية محكمة الشعب:

الديمقراطية هي النظام الأفضل بين الأشكال الأخرى للنظام، غير أن الديمقراطية ليست واضحة تمامًا. لطالما أن أغلبية الشعب تحدد الحكومة، فمن المحتمل أن تختار الأغلبية حكومة ديكتاتورية كما حدث مع هتلر. وفقًا لسقراط فالذي يحكم هو الذي يعرف نفسه والذي لا يعرف شيئًا، بمعنى أن اختيار الصحيح صعب جدًا. يقول بوبر أن الانتخابات التي يصوت فيها الشعب يجب أن تكون بمثابة معاقبة الحكومة المنتهية حكمها وليس إعطاء شرعية للحكومة الجديدة. فمن السهل جدا أن ينتخب الشعب حكومة دكتاتورية حيث الإنسان يصبح نصف إنسان. يحتار بوبر أمام مفارقة الانتخابات ويعترف بذلك. كما يحذرنا بوبر من الحكومة التي يشكلها اتلاف او كتلة من الاحزاب حيث لا أحد يتحمل المسؤولية، فوجود احزاب أقل يجعل من الحكومة تشعر بمسؤوليتها أكثر.

السلطة والمثقف:

المثقف يستطيع أن يفعل الكثير، فهم الذين يبدعون الأفكار ومن واجبهم أن يأتوا بما هو خير لمواجهة الأفكار الشريرة وخاصة التي تؤمن بها الجماعات المتطرفة. يأخذ بوبر على الفلاسفة الذين يستغلون الثغرات أو لأجل غايات شعبوية ويقومون بشيطنة النظام الغربي، الذي هو أفضل نظام في التاريخ. لا يعني بوبر بأنه نظام كامل، لكمنه يدعو المثقفين إلى قول الحقيقة وتغير ما يجب تغيره بدلًا من التمويه ونشر أفكار لا أصل لها.

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

يجادل أفلاطون على لسان سقراط الحركة السفسطائية والخطباء حول موضوعات مختلفة، نجد دائما أنه يبين عكس ما يقوله أولئك السفسطائيين بالضبط، كأن الحقيقة هي الضفة المقابلة للحركة السفسطائية. في محاورة جورجياس يضع أفلاطون الفلسفة في مواجهة البيان، لا يناقشهما مع جورجياس وبولوس وكاليكليس وحسب بل يحارب بالفلسفة. لذا فأن المحاورة لا تكشف عن مفهوم البيان عند أفلاطون إنما يركز على نوع معين من البيان، دليلنا على ذلك هو أنه يأتي بأفكار متضادة في محاوراته الأخرى حول البيان، فيدورس على سبيل المثال. اقرأ أيضا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

تعريف البيان:

يبين الطرفان أن البيان من الفعاليات أو الفنون الكلامية الصرفة، فالبيان هو فن القول كما يرى جورجياس. غير أن سقراط يشك في قيمة هذ الفن المدعي، فحتى الفنون الكلامية مثل الفلك والحساب لديها من المواضيع. فالبيان لا يعني بموضوع معين، لذلك يقول بولوس وجورجياس بأن البيان قادر على الإجابة أو طرح أي سؤال كان، وهذا ما يستوقف سقراط لفحص البيان وحججه.

البيان والإقناع:

يرى جورجياس أن البيان هو أسمى الفنون لأن الحائز على هذا الفن يجعله البيان حرًا بالنسبة لنفسه وسيدًا على الآخرين. ذلك لأن قوة البيان تكمن في قدرته على الإقناع، إقناع الجمهور بأي أمر من الأمور. يثبت سقراط لمتحاوره أن الإقناع لا يكون عن العلم إنما عن العقيدة، فالخطيب لا يقدم علمًا إنما عقيدة ويستغل جهل الناس، خطيب جاهل يحاضر جمهورًا من الجهلة.

كل فن فيه جانب من الإقناع، مثلًا فن الطب يقنعنا بما يخص الأمراض والأدوية، الموسيقى تقنعنا بما يتعلق بتأليف الألحان، إلا أن البيان ليس من الواضح بما يقنعنا. حسب جورجياس أننا نستفيد من البيان في المحاكم والجمعيات العامة. الجذير بالذكر هنا هو أن السفسطائيين كانوا بمثابة المحاميين في عصرئذ. ذلك أن الخطباء يؤثرون في الانتخابات وقرارات المحاكم

البيان كتجربة:

وفقًا لأفلاطون بأن الفن يختلف عن التجربة، الأول ينتج المعرفة من خلال العقل والحجة المنطقية في حين أن التجربة تأتي من الممارسة والتدريب. فالبيان لا يتأسس على العقل إنما لا يعدو كونه ممارسة بلاغية. ومن الأعمال التي يطلق عليها أفلاطون تسمية التجربة، الطهي، التزيين، البيان والسفسطة. وهذه التجربات رديئة حسب تعبير أفلاطون، فهي تحرف وتموه حقيقة الأمور. فالطهي يقابل الطب، التزيين يقابل الرياضة البدنية والبيان يقابل العدالة. فالبيان كتجربة يهدف إلى احداث نوع من اللذة والانشراح الزائف، فهو لا يقول حقيقة الأمور.

الخطيب والمكانة الاجتماعية:

يزعم جورجياس أن الخطباء يحتلون أرقى مكانة في المجتمع ولهم السلطان في الدولة. هنا يريد سقراط أن يبين أن جورجياس لا يفهم معنى السلطان، فالخطيب لا يقوم بما يريد بل بما يبدو له الأفضل طالما لا يقومون بما يملي عليهم العقل. فالإرادة تكون موجهة نحو الغاية الحقة، فالمريض يأخذ الدواء المر لأجل الصحة في حين أن البيان يهمل الغاية الحقة. هذا ما يدفع بأفلاطون ليقول بأن الخطباء لا يستحقون أي نوع من الاحترام.

البيان والأخلاق:

الموضوع المركزي في فلسفة أفلاون هو العدل، لذلك فهو يربط كل المواضيع بعلاقاته مع العدل والعدالة. فالبيان رغم أن بولوس وجورجياس قالا بأنه يخدم العدالة لا يكون العقل البنيانه لذلك فهو لا يهدف الخير. من طبيعة البيان هو أن يستخدم كافة الوسائل السيئة للوصول إلى إقناع الناس ولو بإستخدام شهود الزور.

يناقش أفلاطون مسألة في غاية الأهمية من الناحية الأخلاقية. وفقًا له فأن ارتكاب الظلم افضع من تحمله، وعدم التكفير عن الظلم هو افدح الشرور بالإطلاق. يستسلم لحجته جورجياس بعد جدال طويل.

قانون الطبيعة:

إن قانون الطبيعة الذي أخذ به الكثير من الفلاسفة ومن بينهم نيتشه، ربما كان كاليكليس هو من الأوائل الذين طرحوا الموضوع. حسب كاليكليس فأن قانون الطبيعة يعارض قانون الناس أي العدالة البشرية. القوي هو دائما الأفضل، وله الحق في اكتساح الضعفاء، وللدول القوية الحق في غزو الدول الضعيفة، وهو يرفض كل الأخلاقيات البشرية، فهي حجة ماكرة لإخداع الأقوياء كما آمن نيتشه أيضًا. بعد مناقشة طويلة يتبين أن كاليكليس لا يعرف ماذا يعني بالقوي والأفضل والحكيم والذي له السلطان، وفي الأخير يبين أفلاطون أن القانون الطبيعي لا يعارض القانون الإنساني. فالقانون الإنساني أصله إلهي حاله حال الطبيعي.

الفلسفة في مواجهة البيان:

يعتبر كاليكليس أن الفلسفة تافهة جدًا، فهي مفيدة في الصغر لأنها لا تخلو من سحر الطفولة، لكن إذا ما استمر في مزاولة الفلسفة يصبح مغتربًا عن الواقع ولا يعرف شيئًا عن الواقع المفهوم. كما يقول أن الفيلسوف لا يمكنه أن يحوز على أية ثروة أو مكانة اجتماعية لائقة وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه لطالما ليس لديه قدرة الإقناع. فهو يعيب على سقراط تفكيره الفلسفة وحججه التي تبدو غريبة وتغريبية لكاليكليس.

في حين أن أفلاطون وعلى لسان سقراط، يبين أن الفلسفة تقوم على العقل بإستخدام أدوات وحجج علمية ومنطقية. بينما هدف البيان الوحيد هو غرس بعض المعتقدات الزائفة بأية وسيلة كانت.

نظرية الشعر عند أفلاطون

نظرية الشعر عند أفلاطون

إننا نفهم الشعر الآن على أنه جنس أدبي وقد نذهب أبعد ونعده طريقة للتفلسف، بيد أن الشعر في الأفق الإغريقي كان أكثر من ذلك بكثير. كان الشعر يمثل الحلقة التي تربط الإنسان بالإله، العالم بالسماء ذلك لأن الشعر لم يكن نوعًا من الخطاب العقلاني بل فُهم على أساس أنه وحي من الله. فهزيود مثلًا كان مصدرًا رئيسًا لمعرفة الإغريق بآلهتهم والقصص التي رواها هومر وجدت طريقها في تقليد الإغريق الديني.  حتى عند أفلاطون ورغم علاقته المتوترة مع المسألة الشعرية نجده يصف الشعر في سياق الوحي والكلام الإلهي. في هذا المقال سوف نبين نظرية الشعر عند أفلاطون من خلال أعماله ومحاوراته المختلفة.

ماهية الشعر:

 المسألة الشعرية في نسق أفلاطون الفلسفي تفتقر إلى التماسك ظاهريًا، فهي تختلف من محاورة لأخرى. نجده أحيانًا يأخذ على الشعر طابعه البياني وفي حين آخر يركز عليه بوصفه قصصًا مروية شعرًا، وفي حين آخر يعتبره وحيًا إلهيًا. فهم أفلاطون الشعر وعرفه على أنه محاكاة  لكنه اخذ مواقف مختلفة منه.

الشعر والحقيقة:

البحث عن الحقيقة هو الهدف الأفلاطوني الأسمى، فكثيرًا ما يؤكد على ذلك على لسان سقراط، يقول سقراط لآيون: “أما أنا فواحد من سواد الناس يتكلم الحقيقة وحسب”(1). ويقول لجلوكون: “من الواجب ألا تحترم إنسانًا أكثر مما تحترم الحقيقة“(2). فالشاعر، وفقًا له، لا يقول الحقيقة. العالم الحق عند أفلاطون هو عالم الكينونة الذي لا يتغير، ووحده الفيلسوف قادر على إدراك ذلك العالم، والعالم الظاهر والذي يماثل أمام حواسنا هو عالم الصيرورة والفناء، فالفني، النجار على سبيل المثال، حين يصنع سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثانية لكونها جزء من العالم المحسوس، أمام الفنان، الرسام مثلًا، حينما يرسم سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثالثة بالمقارنة مع السرير الحق الموجود في عالم المثل. فالشاعر أيضًا يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة للطبيعة الحقة فهو مقلد (3).

 وفي حواره مع جورجياس حول البيان (Rhetoric) يبين أفلاطون على أن البيان لا يهدف إلى الحقيقة إنما إلى الإقناع. والشعر أيضأ نوع من البيان، فيقول: “الشعر يكون نوعًا من البيان موجه إلى الشعب…في الواقع أن الشاعر يقوم على المسرح بمهنة الخطيب“(4).

الشعراء والعقل:

طالما أن الفيلسوف وحده يحتك بالحقيقة من خلال العقل فأن الأداة الشعرية لا يمكن أن تكون هي العقل. حسب زعم أفلاطون أن الله هو من سلب العقل من الشعراء لذلك فأن الشاعر لا يميل بطبيعته إلى المبدأ العاقل في النفس إنما يكون أميل إلى المنفعل المتقلب التي يسهل محاكاته(5). لذا فأن الشعر يركز على ذلك الجزء الذي يتعطش إلى الدموع ويهفو إلى التنهيد ويصبو إلى الذنب(6).

نفس الشاعر:

يقول أفلاطون في الجمهوية إن هناك بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد، سبب ذلك يعود إلى نفس الشعر. وفقًا لكل أفلاطون لكل شخص نفس تحدد ماهيته. فالنفس ذات الرؤية الشاملة فتستقر في رجل قد تهيأ ليكون فيلسوفًا(7). للنفس درجات ويرتبها أفلاطون على النحو التالي:

الدرجة الأولى: فيلسوف.

الثانية: ملك يحكم بالقانون أو محارب ماهر

الثالثة: سياسي أو رجل أعمال.

الرابعة: رجل محب للتمارين الرياضية.

الخامسة: الرجل العارف والقيادي

السادسة: الشاعر والفنان.

السابعة: صانع أو مزارع

الثامنة: محترفو السفسطة.

التاسعة: طاغية

الإلهام الشعري أو المس الإلهي:

يرى أفلاطون أن الشعراء يؤلفون قصائدهم الجميلة لا بواسطة الفن بل لأنهم ملهمون وممسوسون(8). ومن يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنًا منه أن مهاراته الإنسانية كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرًا فلا شك أن مصيره هو الفشل(9).

ويفرق أفلاطون بين الهوس الذي يرجع إلى الأمراض الإنسانية [النفسية والعقلية] والهوس الراجع إلى حالة إلهية تخرجنا عن القواعد المعتادة. الهوس الإلهي ينقسم إلى أربع أقسام:

هوس النبوءة مصدره أبولون.

هوس الكشف الصوفي مصدره ديونيزوس.

الإلهام الشعري مصدره ربات الشعر.

هوس الحب مصدره أفروديت (10).

الشعر والله:

كثير من الشعراء والفلاسفة تعاملوا مع المسألة الشعرية في أبعادها الدينية، يقول نوفاليس إن الشعر هو دين عملي. كما أن ابن العربي في خطبة ديوان المعارف الإلهية يقول بأن الله جعل الوجود كبيت الشعر في التركيب والنظم. فأفلاطون أيضًا يقول بأن الشعراء ينطقون بلسان الوحي الإلهي(11).  وفي محاورة آيون يقول بأن الله قد سلب الشعراء عقولهم واتخذهم وكلاء له وإن الله نفسه هو المتكلم وإنه يخاطبنا من خلال الشعراء. ويستمر قائلًا بأن قصائدهم الجميلة ليست بشرية أو من صنع الإنسان بل إلهية ومن صنع الله(8).

اقرأ أيضًا نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

أفلاطون وطرد الشعراء:

إذا كان يعتبر أفلاطون الشعر إلهامًا إلهيًا فما الذي يجعله ألا يترحب بوجود الشعراء في جمهوريته الفاضلة؟ يقول في الجمهوية إنه إذا ظهر في دولتنا رجل بارع في محاكاة كل شيء وأراد أن يقدم عرضًا لأشعاره على الناس فسوف ننحي له تبجيلًا كأنه كائن مقدس ومن ثم سنرحله إلى دولة أخرى(12). لنفهم هذا الإشكال علينا أن نعيد السياق الذي طرد فيه أفلاطون الشعراء من الدولة. يقول سقراط لأديامانتوس: “إننا لسنا الآن شعراء يا أديامانتوس، إنما نحن ننشئ دولة، ومهمة منشئ الدولة هي أن يصوغ القوالب العامة التي يجب أن يصب فيها الشعراء أقاصيصهم ونضع لهم الحدود التي ينبغي أن يلتزموا بها” (13). هذا القرار الإفلاطوني يأتي في سياق بناء دولة وخاصة جزئية تعليم الحراس وتطويرهم، ولهذا القرار ثلاث مبررات:

المبرر البيداغوغي:

الفلسفة الكلاسيكية جعلت التربية من مهماتها الأصيلة، على ذلك نجد بأن الفلاسفة كانوا يلعبون دور المربي في الكثير من الأحيان. ولأن الشعراء كانوا يقصون قصصًا كاذبة ويؤثرون بذلك على بناء الفرد الأخلاقي والمعرفي كما يقول أفلاطون فأنه حذر من تأثيرهم السلبي. يقول على ذلك: “لأن الطفل لا يستطيع أن يميز الأسطوري من الواقعي فلا شك أن كل ما يتلقاه ذهنه في هذه السن ينطبع فيه بعمق(14). ويزعم أيضًا بأن الشعر يؤذي الأذهان(15). وكذلك أن عيب الشعر الأكبر هو قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم(16).

ولأن تصور هوميروس بأن الآلهة تحارب بعضها وتثير المشاكل فيما بينها دعى أفلاطون إلى حظر هذا النوع من الشعر لأنه يدفع بالناس إلى الجريمة. كما ادرك أفلاطون أن الشعراء كما لا يتأثرون بالعقل فهم لا يؤثرون فيه لذلك فأن الشعر لا يمكن أن يحقق الهدف الأسمى، السعادة. يقول عن ذلك بأن الشعر يغذي الانفعال بدلًا من أمن يضعفه ويجعل له الغلبة مع أن الواجب هو قهره [الجانب المنفعل] إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة.

المبرر اللاهوتي:

المصدر الأهم للحياة الروحية الإغريقية ومعرفتهم بآلهتهم كان قصائد هومر وهزيود وأسخيليوس. تمرد أفلاطون على ذلك جاء من الطريقة التي تناولوا بها الشعراء المسائل الإلهية. على ذلك يضع أفلاطون أمام الشعراء قانونين يجب الإلتزام بهما:

القانون الأول: الله هو مصدر الخير وحده. جاء هذا القانون ردًا على هومر الذي يقول:

على باب زيوس يوجد وعاءان ممتلئان، أحدهما للمصائر السعيدة والآخر للمصائر التعسة

فيرد أفلاطون بقوله: “أما القول بأن الإله الخير هو علة أي شر يلحق بأي فرد فذلك ما ينبغي أن نحاربه بكل قوانا(17).

القانون الثاني: الله ثابت لا يتغير. جاء ذلك بعد أن قال أسخيليوس:

”إن الآلهة يجوسون خلال المدن متنكرين في صورة غرباء من بلاد أخرى ومتخذين كل صورة ممكنة

لذلك يقول أفلاطون بأنه لا مكان للأكاذيب الشعرية عند الله(18).

المبرر البراغماتي:

عند الحديث عن أهمية الأدب بصورة عامة نكون في موقف ضعيف عندما يُقصد بالأهمية النتائج المترتبة عن العمل الأدبي وتقيمها نفعيًا. فهل الأدب يشفي بالمعنى الطبي؟ هل هناك حاجة للأدب في الميدان العلمي والمعرفي؟ يطرح أفلاطون سؤالًا على جلوكون حول هومر وأهمية شعره إذ يقول: “هل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته [هومر] ونجح هو في قيادتها بنفسه أو بنصائحه أو هل نسب إليه اختراع بارع في الفنون أو خبرة علمية (19). فأفلاطون هنا يفكر بوصفه منشئ دولة وحسب كما اقر هو نفسه، لطالما أن الشعر لا يمكن أن يلعب دورًا عمليًا في الدولة. هذه الحجة الأفلاطونية ضد الشعر ما زالت قائمة بل يتم استخدامها في مواجهة الفلسفة أيضًا ذلك لأنها لا تلعب أي دور علمي حاليًا في العالم.

المصادر:

1 –  عادل مصطفى، فهم الفهم (محاورة آيون)، مؤسسة هنداوي، ص283.

2- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء 2004، ص504.

3 – نفس المصدر، ص507.

4 – أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية 1970، ص118.

5- الجمهورية، ص517.

6- الجمهورية، ص518.

7- أفلاطون، محاورة فايدروس، ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب 2000، ص66.

8- محاورة آيون، ص285.

9- فايدورس، ص60.

10- فايدورس، ص93.

11- الجمهورية، ص222.

12- الجمهورية، ص262.

13- الجمهورية، ص239.

14- الجمهورية، ص238.

15- الجمهورية،ص 504.

16- الجمهورية، ص517.

17- الجمهورية، ص240.

18- الجمهورية، ص244.

19- الجمهورية، ص510.

فلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

هذه المقالة هي الجزء 9 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

يمثل تعريف الأخلاق (Morality) مسألة كبيرة ومتشعبة، كما أن طبيعة الأحكام الأخلاقية هي محور الكثير من النظريات والتفسيرات التي تعد جزءاً من فلسفة الأخلاق (Moral Philosophy).

الأخلاق

لا يوجد تعريف واحد يمكن أن يلخّص فكرة الأخلاق وماهيتها، لأنه لا يمكن تطبيق تعريف واحد على كافة النقاشات الأخلاقية. والسبب وراء هذا هو وجود معنَيَين واسعين للأخلاق يمكن التمييز بينهما من حيث المبدأ. فالمعنى الوصفي (descriptive) يشير إلى قواعد سلوك محددة يضعها مجتمع أو فئة معينة، كالدين مثلاً، وبناءً على هذا يتبناها الأفراد ممن ينتمون إلى هذا المجتمع أو تلك الفئة. أما بمعناها المعياري (normative) فتدل الأخلاق على قواعد السلوك التي يتفق جميع الأشخاص العقلاء عليها في ظروف محددة معطاة [1].

فلسفة الأخلاق

بالنسبة لفلسفة الأخلاق، فهي قسم في الفلسفة يبحث في طبيعة الأخلاق، ويدرس كيف يجب أن يعيش الناس حياتهم ويبنون علاقاتهم مع بعضهم البعض [2]. يقول سقراط، كما نقل عنه تلميذه أفلاطون في كتاب الجمهورية، الأخلاق “ليست مجرد قضيةٍ صغيرة، بل هي مسألةٌ تتعلق بكيف يجب أن نعيش.”

تحدّث عدد من الفلاسفة عن الأخلاق، ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو في اليونان القديمة، وتوماس هوبز (Thomas Hobbes) في القرن السابع عشر، وإيمانويل كانت (Immanuel Kant) وديفيد هيوم (David Hume) في القرن الثامن عشر. ولكن في هذا المقال لن نسلط الضوء على رأي فيلسوف واحد دون غيره. بل سنتحدث عن طبيعة أو حالة الأخلاق (status of morality). وهذا يعني النظر في الأحكام الأخلاقية التي نطلقها ودراسة حالتها.

ما هي الأحكام الأخلاقية؟

تختلف الأحكام الأخلاقية (moral judgements) عن الأحكام التجريبية (empirical judgements) بأن الأولى هي أحكام مجرّدة في حين أن الأخيرة هي أحكام عملية يمكن إثباتها. فمثلاً، عندما نقول أنّ الأرض تدور حول الشمس، فهذا حكمٌ تجريبيٌّ مبنيٌّ على حقائق علمية وأبحاث مثبتة. لا يمكن نفي هذا الحكم، فهو صحيح، وإذا ادّعى أحدٌ ما أنّ الأرض لا تدور حول الشمس، فيمكننا ببساطة دحض ادّعائه والحكم عليه بأنه مخطئ. إذاً، الأرض تدور حول الشمس وهذه حقيقة لا تقبل الجدل. أما إذا قلنا أنّ الأعمال الخيريّة والتبرّع هو تصرّف صحيح، فيمكن الوقوف عند هذا الحكم والاختلاف عليه. إذ يرى البعض أن هذا الحكم صحيحٌ ويمكن أن يبرروا رأيهم من خلال نقاش معين. في حين قد يعتبر البعض الآخر أنه غير صحيح، وهؤلاء أيضاً لديهم حججٌ لدعم رأيهم [3].

حالة الأخلاق The Status of Morality

كما ذكرنا، تركّز دراسة حالة الأخلاق على النظر في الأحكام الأخلاقية و طبيعتها. لا يتمحور الاهتمام هنا حول تقييم إذا كان الحكم الأخلاقي صحيحاً أم لا، بل يكمن التركيز على حالة هذه الأحكام فيما إذا كانت تمثل حقائقَ موضوعية أم ممارساتٍ ثقافية أم آراءً شخصية. تسمى هذه الدراسة بالأخلاق الفوقية أو ما وراء الأخلاق (meta-ethics). وهي لا تنظر في صحة الأحكام الأخلاقية، بل تركز على السؤال عن طبيعة هذه الأحكام وأسسها وخصائصها [4]. ومن هنا يمكن التمييز بين عدة مذاهب فلسفية تنظر في طبيعة الأخلاق، ومن بينها الموضوعية والنسبية والانفعالية [3].

الموضوعية في فلسفة الأخلاق

ترى الموضوعية (Objectivism) أنه يمكن تصنيف الأحكام الأخلاقية تحت بند “صحيحة” و”خاطئة”. وتبني الموضوعية هذا التصنيف على أساس الأدلة. فهنا يمكن اعتبار الأحكام الأخلاقية أحكاماً موضوعية كالأحكام التجريبية، أي أنها إما صحيحة بالمطلق أو خاطئة بالمطلق [3]. تبرر الموضوعية موقفها بوجود أسس وأدلة وحقائق تُمكّننا من أن نقبل أحكاماً معينة على أنها صحيحة في حين نرفض أحكاماً أخرى ونراها خاطئة [5]. وهذه الأسس لا علاقة لها بمن نكون أو إلى أي ثقافة أو مجموعة ننتمي. بل هي حقائق مستقلة عمّا يحيط بها، وهي التي تقرر فيما إذا كانت الأحكام الأخلاقية صحيحة أم لا [3].

من الاعتراضات الموجهة ضد الموضوعية هو السؤال حول آلية إثبات الحقيقة الموضوعية وراء الحكم الأخلاقي. فمثلاً يمكن إثبات حكم تجريبي من خلال الملاحظة والأدلة الملموسة، كأن نثبت دوران الأرض حول الشمس بناءً على ملاحظاتٍ فلكية وظواهر تمكن مراقبتها. ولكن لا توجد طريقةٌ يمكن فيها إثبات حقيقة حكم أخلاقي. فإذا قلنا أنّ القتل أمرٌ خاطئ، وهذا حكمٌ أخلاقي، لا يمكن إيجاد طريقة عملية لإثبات هذا. وإذا كان هنالك رأي مخالف لهذا الحكم، من الصعب اتّباع طريقة إثبات الأحكام التجريبية من أجل الوصول إلى حل لهذا الخلاف [3].

النسبية في فلسفة الأخلاق

تتفق النسبية (Relativism) مع الموضوعية أنه من الممكن للأحكام الأخلاقية أن تكون صحيحة أو خاطئة. ولكن، ترفض النسبية أن صحة هذه الأحكام أو خطأها هو أمر مطلق، بل ترى أن هذا يتوقف على الخلفية الثقافية والسياق الذي بنيت هذه الأحكام ضمنه. أي أن هذا أمر نسبي لا يقوم على أسباب أو أدلة ثابتة. فقد تتغير النظرة لحكمٍ أخلاقي ما بناءً على البيئة والمعتقدات والظروف التي تحيط به، ويختلف هذا من شخص لآخر أو من ثقافة لأخرى [3].

مثلها مثل الموضوعية، تواجه النسبية اعتراضاتٍ وتساؤلاتٍ، من بينها عدم قدرتها على تفسير التقدم الأخلاقي. فإذا كان الحكم الأخلاقي يختلف بالنسبة لثقافة الفرد أو خلفيته، من الصعب عندها فهم التقدم الأخلاقي أو كيفية تطور الأخلاقيات البشرية. مثلاً، فيما مضى، كانت العبودية أمراً عادياً ومقبولاً، ولكننا الآن لا نقبل بها ونعدّها غير أخلاقية، وهذا ما يسمى التقدم الأخلاقي الذي جعل البشرية تغير من أحكامها الأخلاقية على موضوعٍ مثل العبودية. ولكن من وجهة نظر النسبية، ينتج هذا الاختلاف في الحكم الأخلاقي نتيجة التغير في الثقافة والمجتمع. أي أنه أمرٌ نسبيٌ، إذا قبله المجتمع فهو حكمٌ أخلاقيٌ صحيح، أما إن لم يقبله فهو حكمٌ أخلاقيٌ خاطئ. وعليه، يفسّر الاختلاف بين المجتمعات قديماً والمجتمعات الحالية اختلاف الحكم الأخلاقي تجاه العبودية. هنا، تعجز النسبية عن تفسير التقدم الأخلاقي لأنها تقيس الاختلاف في الأحكام الأخلاقية بناءً على تغير المجتمعات والثقافات [3].

الانفعالية في فلسفة الأخلاق

تختلف الانفعالية (Emotivism) عن الموضوعية والنسبية في نظرتها للأحكام الأخلاقية. فهي لا توافق على أن هذه الأحكام تقبل أن تكون صحيحة أو خاطئة. بل تعتبرها مجرّد آراءٍ شخصيةٍ وتعبيرٍ عن العواطفِ في لحظة إطلاق الحكم. بعبارة أخرى، ترى الانفعالية أن الأحكام الأخلاقية هي ردة فعل على العالم من حولنا و تعبيرٌ عمّا إذا كنا نرحب بفكرةٍ ما أم نكرهها، أو إذا كنا نقبل بها أم نرفضها. وهذا المذهب يجرّدُ الفكرة الأخلاقية المعنية من كونها صحيحة أو خاطئة، فموقفنا هو الذي يتغير وفقاً لمشاعرنا [3].

ومن التحديات التي تواجهها الانفعالية هو أننا في بعض الأحيان نطلق أحكاماً أخلاقية بناءً على تفكير منطقي يقودنا إلى تلك الأحكام. ولكن وفقاً للانفعالية، الأحكام الأخلاقية هي مجرد تعبيرٍ عن العواطف، ولا وجود لأي تفكيرٍ منطقي وراءها. وهكذا لا تستطيع الانفعالية تفسير التغيّر في أحكامنا على أمر ثابتٍ بناءً على تغيّر تفكيرنا المنطقي تجاهه. على سبيل المثال، في مسرحية الملك أوديب لسوفوكليس، يتزوج أوديب والدته جوكاستا وينجب منها. مبدئياً، إذا أردنا أن نحكم على الملك أوديب لأنه تزوج والدته، سنقول أنّ هذا تصرفٌ خاطئٌ أخلاقياً. أما إذا فكرنا بحقيقة أن أوديب لم يكن يعرف أن جوكاستا التي تزوجها هي والدته، وهذا تفكير منطقي مبني على معطيات تتعلق بالحادثة، سنرى أننا قد نغير رأينا وحكمنا بأن تصرفه خاطئ أخلاقياً. ولكن الانفعالية لا تستطيع أن تفسر هذا التفكير المنطقي في الأحكام الأخلاقية لأنها ترى أنها تعبير عن عواطف وردود أفعال، وهذا أحد المآخذ ضد التفسير الانفعالي أو النظرة الانفعالية للأخلاق [3].

إذاً، تنطوي فلسفة الأخلاق على مذاهب ومقاربات عديدة تفسر طبيعة الأحكام الأخلاقية والأسباب الكامنة وراءها. وتواجه كل من هذه المذاهب اعتراضاتٍ وتحدياتٍ تضعف موقفها من جهة معينة. ولكن هذا لا يعني أن المذاهب خاطئة بالمطلق، بل هذه التساؤلات التي يوجهها أنصار مذهب ما تجاه الآخر هو ما يحفز التفكير بنظريات أخرى والخروج بدراسات جديدة لطبيعة الأحكام الأخلاقية وأُسسها.

اقرأ أيضاً: ما هي النفعية؟

المصادر:

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Morality
  2. Ethics Unwrapped
  3. Chrisman, Matthew, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  4. Internet Encyclopedia of Philosophy – Meta-ethics
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Moral Relativism

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

بعد أكثر من ألفي عام من قفزة بارمنيدس الأنطولوجية، يتناول هايدغر الوجود كمقولة لم تُفهم قط. إن بارمنيدس يمثل بداية الشك عند هايدغر فيما يخص هوية الوجود، فهي هوية زمانية رغم نفي بارمنيدس لزمانية الوجود. بيد أن تلك القفزة تعد أول مقترب فلسفي نحو تأسيس أصيل للأنطولوجيا. 

لنبي الأنطولوجيا بارمنيدس – بتعبير نيتشه- اقتصاد مثالي ومادي في الوقت ذاته؛ مما يجعل الأساس الفلسفي الملطي في أزمة معرفية. فهو رغم بدايته الفيثاغورية يفتح جبهات مختلفة ضد التراث والأسلاف. في هذا المقال سنسلط الضوء على فلسفة بارمنديس الأنطولوجية وعلاقات الوجود المكثفة مع اللغة والفكر وترسانة المعنى والحقيقة.

عن بارمنيدس

ولد (بارمنيدس- Parmenides) في إيليا في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي 451-449 ق.م. يُقال عنه بأنه كان في البداية فيثاغوريًا ومن ثم بعد سنوات طويلة بدأ يثور على فلسفة فيثاغورس, فكون مذهبًا فلسفيًا خاصًا به [1]. بارمنيدز [بارمنيدس] أسس الأنطولوجيا (علم الوجود) عن طريق نظريته عن الوجود الثابت الذي يعبر عنه الفكر[2]. فهو يعد مؤسس المدرسة الإيلية الفلسفية. وفقًا لنيتشه كان بارمنيدس قد عاشر وعرف أناكسيمندرس وتأثر به. ويُقال أيضًا بأنه قد التقى بسقراط وهو في الستين من العمر. في محاورة لأفلاطون يتبين أن سقراط يناقش تلميذ بارمنيدس زينون حول مسألة الكثرة. تعد قصيدة (حول الطبيعة) لبارمنيدس أهم المصادر حول مذهبه الفلسفي الذي يعتبره البعض مذهبًا ماديًا بينما يتهمه آخرون بالمثالية.

المنعطف الإبستمولوجي

يبدو أن التساؤلات الإبستومولوجية كانت حاضرة في الفلسفة الملطية وكذلك عند هيراقليطس وفيثاغورس على نحو أصيل. إن الوجود ما قبل السؤال الفلسفي كان يشترط في معرفته وجود وسيط إلهي؛ وحيًا يُنزل على نبي في حالة التوحيد، أو رمزًا بحاجة لهيرمس في الحالة الوثنية. فالحقيقة كانت محجوبة، لا سبيل إلى معرفتها دون وسيط يقرره إله ما وكأن الوجود غير قابل للفهم بوسيلة إنسانية. الفلسفة الملطية حين أعلنت عن عنصر الوجود ومبدئه كانت بحاجة لبيان طريقتها للوصول إلى ذلك العنصر، وبما أن الدور الإلهي في التفسير كان مستبعدًا من الأساس فكل فيلسوف كان يعول على طريق خاص. منهم من تمسك بوساطة الحواس، ومنهم من ادعى امتلاك العقل للحقيقة والتأويل، أما هيراقليطس فجمع بين الأثنين؛ فالعالم ماثل أمامنا على شكل رموز تدركها الحواس ويفسرها العقل.

رأي بارمنيدس في العقل الوسيلة الوحيد لبلوغ الحقيقة. هذا التطرف العقلاني سينتقل من بعده إلى ديمقريطس ويخيم على معظم التاريخ الفلسفي لفترات طويلة. بين بارمنيدس أنه هناك طريقين لفهم العالم، طريق الحقيقة وطريق الظن. ليمهد الطريق أمام عقلانيته المحضة كان لا بد له من القضاء على مقولات أسلافه الأشهر؛ الحركة، والتغير والصيرورة. إننا نسلم بوجود حركة وصيرورة في الطبيعة/العالم لأننا ندرك العالم بواسطة الحواس. فالتغير والحركة هما أعظم الظواهر التي تظهر أمام الحواس يقينًا، ومن ثَمَّ فإن رفض بارمنيدس للتغير والحركة يعني رفضه للظاهر والمحسوس[3]. فطريق الظن عند بارمنيدس هو المعرفة المظنونة التي تقدمها الحواس.

في المقابل؛ طريق الحقيقة هو طريق العقل في الكشف، فالعقل يتجاوز المحسوس الظاهر الذي نراه يتحرك ويصير نحو الواقع الثابت. إن العقل قادر على إدراك حقيقة الواقع، غير أن حقيقة الواقع الذي يدركه العقل مادية [4]. ومن هناك تكون قفزة بارمنيدس الأنطولوجية في أفق عقلاني صارم.

الوجود عند بارمنيدس

إن مقولة الوجود، كما يقول هايدغر، تأتي في الفلسفة اليونانية على أنها غير قابلة للتعريف، فهي تعني كلية فارغة، أو هي بمعنى الحضور. تحمل هذه المقولة عند بارمنديس طابعًا ميتافيزيقيًا محضًا، فالوجود موجود وحسب، الوجود هو هو، لا معنى لطرح السؤال عن الوجود نفسه في سياق أنطولوجيا بارمنديس. يزعم الفيلسوف الإيلي بأن الوجود لا يكون ولا يفسد، لأنه كلٌ متكامل ووحيد التركيب، ثابت ولا ينتهي.[3]

فهو ينفي عن الوجود كل دلالات الصيرورة والحركة، ذلك لأنه كامل من جميع الجهات مثل كرة مستديرة متساوية الأبعاد من المركز، فهي ليست أكبر أو أصغر من هذا الاتجاه أو ذاك [4]. لذا فإن الوجود ثابت، فهو محدود من حيث المكان. لكن الزمان لا يحده، فهو أزلي، أي كائن على الدوام. كما ينفي الكثرة عن الوجود، على عكس هيراقليطس، فهو يؤمن بوجود واحد لا كثير.

الوجود واللغة والفكر

بالعودة مجددًا إلى فيلسوف الوجود هايدغر. نجد أنه يرفض أن يكون الوجود شيئا زمانيًا بل يربط بين الوجود واللغة. فاللغة بتعبيره هي بيت الوجود وأن اللغة تحدث الوجود. في طرح بارمنيدس الأنطولوجي نجد ذلك الربط الأصيل، فيمثل كلٌ من اللغة والوجود تخومًأ بالنسبة للآخر. يقول بارمنديس: “إنك لا تدري ما ليس بموجود –لأن ذلك مستحيل– بل لا يمكنك أن تنطق به؛ لأنه ما يمكن التفكير فيه وما يجوز وجوده شيء واحد في كلتا الحالتين”، وأيضًا: “إن الشيء الذي يمكن أن يكون موضوعًا للتفكير، هو هو بعينه واحد في كلتا الحالتين, لأنك لن تجد تفكيرًا بغير شيء موجود يدور حوله الكلام”.[5]

فالأسماء/العلامات اللغوية تُطلق على ما هو موجود بالفعل، وما يوجد في اللغة موجود بالضرورة، كما أن المفكر فيه لا يمكن ألا يكون موجودًا. طالما أن الوجود لا ينقسم إلى وحدات زمنية بل يمثل كلية واحدة فلا معنى للماضي أو المستقبل، إذ عندما نتحدث عن شخص ميت فأننا نتحدث عن موجود ما، فالموت لا يلقي بالكائن في اللا وجود/العدم. فكل قول هو قول في الوجود. [6]

اقرأ أيضًا: هيراكليتس واستحالة الهوية

مكانة بارمنيدس

يمثل الفيلسوف الإيلي بارمنيدس مرحلة مهمة في فلسفة ما قبل سقراط، لكونه قد وسع مفهوم وجود العنصر نحو أفق أنطولوجي خاص. يصور الوجود على أنه كروي، واحد ولا يقبل القسمة،كما ينفي عنه صفة الصيرورة والحركة التي سيطرت على التفكير الفلسفي لفترة. يعد بارمنيدس فيلسوفًا شاعرًا، ذلك لأنه قدم فلسفته على شكل قصيدتين؛ قصيدة “حول الطبيعة” وقصيدة “حول التغير”. وهو فيلسوف مادي عقلاني لا يعطي للحواس أي اعتبار معرفي، إنما يربط المعرفة بالتفكير المجرد ويربط الأخير باللغة، لهذا فإن بارمنيدس يمثل القفزة الأنطولوجية الأولى في الفلسفة القديمة.

المصادر

  1. https://www.worldhistory.org/Parmenides/
  2. عبدالغفار مكاوي, لم الفلسفة, ط1, مؤسسة هنداوي, 2020, ص112.
  3. فريدريك كوبلستون, تاريخ الفلسفة المجلد الأول, ترجمة إمام عبدالفتاح إمام, ط1, المشروع القومي للترجمة 2002. ص88.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/parmenides/
  5. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية, 2010, ص99.
  6. https://iep.utm.edu/parmenid/

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

إن الفلسفة تتخطى دومًا التخوم الذي يتم رسمه لها، ولا أمل بمستقبل أي تحديد، فهي تجد فريستها في الغاب المجهول. يساعدنا الشمول الفلسفي في إيجاد أي طريق للوصول وإلى أي أين نقصده. الفلسفة الرواقية هي من الفلسفات التي من شأنها أن تفند الإدعاءات التي ترى في الفلسفة كهوة وقطيعة مع الواقع المعاش. فالفلسفة الرواقية تقدم وصفة لحياة سعيدة إن صح التعبير.

في العصر الهلنستي شديد الخصوصية تبرز الرواقية على نحو مختلف في الفضاء الفلسفي العام المحتكر أفلاطونيًا وأرسطيًا. تجر الرواقية الفلسفة إلى شؤون حياة الفرد العامة حيث هواجس الإنسان الأصيلة المتمثلة بعيش حياة مستقرة لا أكثر. نحاول في هذا المقال أن نتناول المباحث الأهم في الفلسفة الرواقية.

لمحة عن العصر الهلنستي:

بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 320 ق.م. تبدأ مرحلة جديدة في بلاد الإغريق وأسقاع مختلفة من العالم، الحقبة الهلنستية. الطرق التي فتحها الفلاسفة الإغريق تصبح مؤهلة لخطوات أقدام جديدة وغير إغريقية. هذه الحقبة التي أمست فيها الثقافة اليونانية ملكًا مشتركًا بين جميع بلدان البحر الأبيض؛ بعد وفاة الإسكندر وحتى الفتح الروماني انتشرت الثقافة اليونانية رويدًا رويدًا، أمتدادًا من مصر وسوريا ووصولا إلى روما وأسبانيا. كانت أداة هذه الثقافة هي القونية وهي لهجة دارجة من اللغة اليونانية.(1)

في هذه الحقبة، ظلت أثينا مركزًا للفلسفة؛ لكن ليس بين هؤلاء الفلاسفة أثيني واحد، ولا حتى إغريقي واحد. فجميع الرواقيين المعروفيين بهذا الإسم في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا من الأغراب والدخلاء قد قدموا من الأمصار الواقعة عند تخوم الحضارة اليونانية.(2)

معنى الرواقية:

الرواقية (ٍStoicism) مدرسة فلسفية من الحقبة الهلنستية أسسها زينون القبرصي حوالي 300 ق.م(3). لغةً، اشتقت من كلمة الشرفة أو الرواق (stoa poikilê) في أثينا وكانت  مزينة بلوحات جدارية حيث كان اعضاء المدرسة الرواقية يجتمعون ويقدمون محاضراتهم.(4)

الرواقيون:

 زينون هو مؤسس المدرسة وهو من قبرص، وخلف زينون في رئاسة المدرسة كليانتس، وخلفه كرسبوس. وبعد وفاة هذا الأخير خلفاه كل من زينون الطارطوسي وديوجينس السلوقي.(5) أما بالنسبة للرواقية الرومانية فمن أبرز أعلامها سينيكا و شيشرون وبانيتسوس وبوسيدونيوس.(5)

مصادر معرفتنا عن الرواقية:

ثمة مشكلة كبيرة نواجهها بهذا الخصوص، فليس بحوزتنا عمل واحد كامل من اعمال رؤساء المدرسة الرواقية الثلاثة: زينون، كلينتاس وكريسبوس(4). يقال بأن كريسبوس وحده قد ألف 165 كتابًا، ولم يبقى من كل تلك الأعمال سوى شذرات. الأعمال الكاملة التي لدينا الآن من التراث الرواقي تعود إلى الفترة الرومانية، سينيكيا، أبيكتيتوس والإمبراطور ماركوس وهي أعمال أخلاقية صرفة(4).

الفلسفة والحياة:

رغم التأثير الأفلاطوني الواضح على بلاد الإغريق عصرئذ، إلا أن الرواقية قد شقت طريقًا جديدًا في الفلسفة. لا تعتبر الرواقية الفلسفة تسلية ممتعة أو حتى هيئة معرفية خالصة، إنما كطريقة عيش أو ممارسة حياتية مفيدة وذات معنى(4). لذلك، نجد بأنها تعارض كل من الأفلاطونية والأرسطية.

العلاقة التي تؤسسها الرواقية مع المعرفة تنطلق من كون أن المعرفة والسلوك في إرتباط وثيق، فمعرفتنا الصادقة بالعالم تؤدي إلى سلوكيات مناسبة. كما ذهبوا إلى أن مبحثي الفلسفة، المنطق والفيزياء مرتبطان وتركيزهما الأساسي هو الأخلاق(6).

وإذا ما تأملنا حياة الرواقيين نجد بأنهم كانوا أكثر إنشغالًا بالفضيلة لا بالمعرفة المحض كما هي الحال في التراث الفلسفي. وعلى ذلك يقول سينيكا: “الفلسفة ليست أي شيء، إنما هي العلة الطبيعية للحياة، أو المعرفة الحلوة بالحياة، أو هي فن تنظيم الحياة الطبيعية. لن تخطأ إذا قلت أن الفلسفة هي قانون الحياة”(7)

نظرية المعرفة:

إن الرواقية تختار الجبهة المضادة للجبهة الأفلاطونية، فهي تستبعد أن يكون الواقع محض ظلال كما ذهب أفلاطون. فالبنسة للرواقية معرفة الواقع ممكنة وذلك من خلال التجربة المباشرة معه وذلك من خلال الإدراك الحسي.

خلال التاريخ الفلسفي، كانت الحقيقة تمثلًا هاجسًا كبيرًا، فمن الفلاسفة من قال بإستحالة الوصول إليها ومنهم من توكل على العقل. إلا أن الرواقية لا تحسب حسابًا كبيرًا للحقيقة طالما أنها مستقرة في الإدراك الحسي ولا تتطلب صفة لا تتوافر لدى الفرد العادي(8). غير أن هذا لا يعني بأن نظرية المعرفة لدى الرواقيين واضحة جدًا، فهم أولًا يرفضون الإستقلال الذاتي للمواضيع الفلسفية، وثانيًا يرفضون إمكانية تحقيق المعرفة في حقل معين دون غيره، ويزعمون بأن الشخص الخير هو الذي يفهم الطبيعيات وجيد في المنطق أيضًا.

المعرفة تنطلق من الشيء الحسي الذي يترك صورة في النفس، وهذه الصورة قد تكون مموهة أحيانًا. ففي تلك الحالة التمثيل المحيط هو المعيار الذي بإمكانه إدراك الصورة الصادقة وللوصول إلى إدراك أعمق فالعلم هو السبيل. كما تزعم بأن الشيء الحقيقي تبعث فينا شعورًا قويًا وواضحًا وإعتقادًا بأنها حقيقة. ما يجعل من هذه النظرية ألا تبدو متماسكة جدًا هو أنها تارة تبدو حسية وتارة تجريبية وتارة أخرى حدسية.(6)

الأخلاق:

الإعتبارات الرواقية للأخلاق تتسم بطابع مركزية الأخلاق في الفلسفة، لكونها تمثل الجهاز التنظيمي في فن العيش. لو شئنا أن نطرح في المدرسة الرواقية السؤال عن كيفية عيش حياة سعيدة، سيكون جواب زينون (الجريان الحسن للحياة) أو (العيش في وفاق) وسيجيب كريبسيبوس (العيش وفقًا ما تشاء الطبيعة)(4). النظرة الرواقية هذه آتية من الرؤية التي تفيد بأن الكون معقول والسلوك الجيد هو بدوره معقول.

يدعي الرواقيون أن ما هو خير مفيد لمالكه في كل الظروف، ولتفادي التناقض تصنف الرواقية بعض الأشياء بين الجيد والسيء. أما الفضائل الكبرى التي من شأنها أن تتضمن حياة خيرة فهي: الحكمة، العدالة، الشجاعة والإعتدال.(4)

قاعدة العيش وفقًا للطبيعة:

التصور الرواقي هذه يختلف عن التصور الكلبي القديم، ذلك لأن تصور الكلبية للطبيعة كان تصورًا بدائيًا وغريزيًا. في حين أن الرواقية تجد في الكون ضربة من العقل، أي هو معقول لكونه محكومًا بالقانون الإلهي، وهذا القانون لا يمكن أن يكون غير صحيحًا. فالخضوع للنظام الطبيعي هو الخضوع للعقل الإلهي. يمكن القول بأن أخلاق الرواقية تتسم بطابع الحتمية، ذلك طالما أن الإنسان جزء من النظام الطبيعي فلا يمكن له أن يخطأ، فذهب زينون إلى أن أكل لحم الإنسان، وزنا المحارم والمثلية الجنسية ليس خطأ في ذاتها(9). لكن ما هو ليس بخطأ لا يعني أنه من الفضائل، فالأمور الطبيعية هذه لا هي من الخيور ولا الشرور. فالإنسان يختلف عن سائر الموجودات لكونه يمتلك عقلًا، وهذا العقل هو الذي يؤدي إلى الفضيلة، وهذا يعني إن مفهوم الفضيلة إنسانوي بحت.

الخلاصة:

تقدم لنا الفلسفة معونة كبيرة عندما يتعلق الأمر بكيفية طرح أسئلتنا، كما تساعدنا في الحصول وابتكار الأجوبة. غير أن ذلك قد لا يحدث في الفضاء العمومي وبالنسبة لمن هم لا يهتمون بالشأن الفلسفي. بيد أن الفلسفة الرواقية تأخذ منعطفًا جديدًا، فهي تختزل الفلسفة في علاقتها مع الحياة المعاشة بصورة مباشرة. ذلك لا يعني أن الرواقية تهمل المباحث الأخرى أو تتاكسل في الحديث الفلسفي التقليدي، إنما تأتي بطرح تكون الحياة هي النقطة المركزية في كل المباحث.  

إقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

المصادر:

  1. امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص34
  2. نفس المصدر، ص37
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص169.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/stoicism/#Eth
  5. https://www.britannica.com/topic/Stoicism/Ancient-Stoicism
  6. https://iep.utm.edu/stoicism/#H3
  7. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص528
  8. اميل بريهييه، ص54.
  9. فردريك كوبلستون، ص 530
Exit mobile version