أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

إن الاجوبة التي قدمها فلاسفة ملطية لا تمثل أهمية فلسفية بقدر السؤال الذي اخترقوا من خلاله تخوم التصور القبفلسفي. إن الخطوة الملطية بإتجاه الفلسفة كانت الأكثر جرأة ذلك لأنها نزعت الصفة المقدسة عن الكون. كأن العالم قد وضع كل ثروته الروحية والأخلاقية على هذا الرهان البدائي، فلم يبقى من شيء إلا وصار نحو/من الفلسفة. إن فقدان مصادر تلك الفلسفة الأصلية تحول بيننا وبين حقيقة ما كتبوه -كأجوبة- بيد أن السؤال الملطي الأول يبرز بقوة ويعلن عن ذلك الحضور الجليل. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بيار فرنان عن تلك الحقبة: “يعود تاريخ أفول المعتقدات الخرافية إلى اليوم الذي وضع فيه الحكماء الأوائل النظام الإنساني موضع النقاش وسعوا إلى تعريفه في ذاته، وإلى ترجمته في صيغ تكون في متناول الفكر”(1). في هذا المقال سوف نسلط الضوء على أناكسيمينس وكيف قام بإعادة تدوير عجلة الأصول.

ما يشبه سيرة ذاتية للفيلسوف أناكسيمينس

المعلومات المتوفرة حول أناكسيمينس قليلة جدًا، كان قد ولد في مدينة ملطية (التركية حاليًا) عام 585ق.م. فهو إبن يورستراتوس الملطي (Eurystratos of Miletus) ويقال بأنه قد تلمذ على يد أناكسيماندر وكذلك بارمنيدس وثمة من يقول بأنه قد تأثر بفيثاغورس أيضا. عاش تحت الحكم الفارسي لفترة وشاهد على النزاعات التي كانت موجودة بين أيونيا والسلطة اليونانية.

وفقًا لكاتب سير فلاسفة اليونان، ديوجين لايرتيوس، الذي عاش في القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، إن أناكسيمينس كان قد كتب آراءه الفلسفية في كتاب كان موجودًا حتى في العصر الهلنستي، إلا أن هذا الكتاب لم ينجو منه شيئًا. (2)

المبدأ الأول عند أناكسيمينس

إن الهواء في الأدبيات الإغريقية المبكرة، لم يكن يعتبر كعنصر طبيعي وحسب، بل روح العالم. لذا نجد بأن أناكسيمينس يتعامل مع الهواء على أساس أن كل ما هو موجود كان في البداية هواءا، وصار الهواء نارًا وحجارة وناسًا. ويرجع اختلاف ماهية الأشياء إلى الاختلاف الكمي في الهواء. (3)

التخلخل والتكثيف عند أناكسيمينس

وفقًا لأناكسيمينس، يختلف الهواء في جوهره عن أي شيء آخر حسب ندرته أو كثافته. فالهواء في أضعف حالاته يتحول إلى نار وعندما يتكثف يصير ريحًا، فغيمة وإن تكثف أكثر تحول إلى ماء فتراب ومن ثم حجارة. بإستخادم عمليتي التخلخل والتكثيف يفسر صيرورة الوجود المادي. التخلخل في الهواء يؤدي إلى الأشياء الأكثر خفة في حين أن عملية التكثيف تخلق ما هو أكثر سماكة.(3)

ما يعطي اعتبارًا فلسفيًا لآراء أناكسمينس هو أنه لم يستثني موجودًا كحالة خاصة في الوجود. ففي التصور الخرافي كان الإنسان يمثل وضعًا مميزًا في عملية الخلق. بل حتى الطبقات الإجتماعية لم تتمتع بنفس المزايا بحجة أنه ثمة فروق جوهرية بين طبقة وأخرى. الفلسفة الملطية رغم طابعها المادي المحض أثرت في الجوانب الإجتماعية أيضًا، فكون كل موجود مادة وحسب وكل إنسان يحمل الجوهر ذاته فلا مبرر لوجود طبقات تعطي رتب وجودية لطبقة دون غيرها ولفرد دون سواه.

الصيرورة بين أناكسيمينس وأناكسيماندر

إن صيرورة أناكسيماندر تحدث في زمن لانهائي، مكان بلا حد وماهية غير متعينة. إذ أن الأبيرون يفتقر إلى كل صفة من شأنها أن تعينه، سوى صفة الحركة. أما الصيرورة التي يفترضها أناكسيمينس تحدث داخل الهواء نفسه، وتعطيه الهوية في معادلة كمية. والاختلاف الآخر يكون على المستوى الأنطولوجي. إن الوجود حسب أناكسيماندر ضربة من العصيان والخروج عن الكيان السرمدي، الأبيرون، لذا فأن الوجود يحمل معنى سلبيًا في نظريته. في حين أن الوجود عند أناكسيمينس يحمل معنى إيجابيًا، الحضور الأوحد والأكثر إمكانًا ومعقولية.

إقرأ أيضا الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

وجود الآلهة عند أناكسيمينس

مع أن أناكسيمينس سعى إلى اكتشاف السبب الأول للوجود وتنوع الظواهر والموجودات دون الاستعانة بأي خرافة أو إله. بيد أنه لم ينكر وجود الآلهة، إلا أن الآلهة هي بدورها قد وجدت من الهواء جنب إلى جنب باقي الموجودات. لكن إن صح هذا الادعاء فلا نعرف ما هو دور الآلهة تحديدًا طالما أن الوجود يصير وفقًا لعمليتين ماديتين، التخلخل والتكثيف.(4)

في كتابه مدينة الله، يبين القديس أغستينيوس أن أناكسيمينس لم ينكر وجود الله ولم يصمت حيال هذا الأمر. لكنه يؤكد بأن الآلهة قد ولدت هي نفسها من الهواء ولا يذكر أغستينيوس وظيفة الإله في عملية الخلق الأناكسيمنسية.(4)

يشير شيشرون (106-43 ق.م) إلى أن “أناكسيمينس قال بأن الهواء هو الإله وأنه يأتي إلى الوجود وهو لا يقاس ولانهائي ودائم الحركة”. (4)

تأثيره على الفلاسفة اللاحقين:

يرى البعض بأن تخبط اناكسيمانس الفلسفي كان بمثابة نكسة، خطوة إلى الوراء مقارنة بما قام به معلمه أناكسيماندر. فبعد أن استبعد الأخير الماء/العنصر الطاليسي كمبدأ أولي وأصيل القى التلميذ عنصرًا آخرًا، الهواء، أصلًا للعالم في فضاء التفلسف.

إن نظرية أناكسيمينس حول التغيير المتعاقب للمادة من خلال التخلخل والتكاثف لاقت رواجًا بين الكثير من الفلاسفة. قام هيراكليتس ببعض التطورات في النظرية وتناولها بارمنيدس نقدًا. وتبنى انكساغوراس جزئية نشأة المادة الأولية من نظرية أناكسمينس رغم الاختلافات الجذرية بينهما فيما يتعلق بماهية المادة. وجد أفلاطون في نظرية أناكسمينس تفسيرًا منطقيًا للتغيير أما في نظرية الأمراض لأبيقراط بات الهواء الأناكسمينسي حجر الأساس فيها وكذلك نظرية ديوجين الأبولوني(3).

ما تركه أناكسيمينس

أناكسيمينس (586-626ق.م) ترك خلفه كتابًا فقدناه مبكرًا، أي قبل ألفي عام. لا نعرف عنه الكثير، لا عن حياته ولا عن فلسفته، وما نعرف عنه يعود إلى كتابات أرسطو وأفلاطون وشيشرون وديوجين. فسر العالم تفسيرًا ماديًا محضًا، لم يترك للإله دورًا يلعبه في عملية الخلق رغم أنه لم ينكر وجوده. نظريته الأهم هي التي تقول بأن الوجود قائم على عمليتي التخلخل والتكثيف، وأن كل الموجودات لها الجوهر ذاته وهو الهواء الذي يتحرك ويصير بلا نهاية وبلا زمن.

المصادر:

  1. جان بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ترجمة سليم حداد،ط2، مؤسسة مجد، 2008، ص118.
  2. https://www.philosophybasics.com/philosophers_anaximenes.html
  3. https://iep.utm.edu/anaximen/
  4. https://www.ancient.eu/Anaximenes/

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

إن الخوض في بدايات الفلسفة يكون مقلقًا لعدم وجود مصادرها بين أيدينا، إلا أن هذه المجازفة لا تخلو من المتعة. فحين نقطع مسافة زمنية من ألفي وخمسمائة عام نكون قد وصلنا إلى المعركة الأشرس للفكر ضد الأسطورة. شهدت بلاد الإغريق الكثير من الحروب، الأهلية تارة ومع الفرس تارة أخرى، إلا أن الحرب الأهم والأكثر إثارة كانت تلك التي أدت إلى بزوغ شمس التفلسف في ظلمة الإيمان. كان الفيلسوف أناكسيماندر قد رفع سقف الحرب إلى مستوى الأبيرون، حيث الموجود ينزع نفسه من العدم. في المقال هذا سنفتح أفق السؤال الفلسفي على دوامة اللانهائي لولادة المزيد من المعرفة بالفيلسوف الملطي الثاني.

الطريق إلى أناكسيماندر

عاش أناكسيماندر ما بين عامي (546_610) ق.م. تقريبًا، وكان معاصرًا لطاليس ويصغره سنًا. لا توجد سوى قطعة واحدة باقية ومنسوبة إلى أناكسيماندر فضلًا عن تعليقات من الآخرين مثل أرسطو الذي عاش من بعده، بقرنين من الزمن تقريبًا.(1)

هو أول فيلسوف قد كتب أطروحة فلسفية وكانت تسمى (حول الطبيعة). فُقد هذا الكتاب مع أنه كان متاحًا في زمن أرسطو و(ثيفراستوس-Theophrastus). يُقال قد عثر على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الإسكندرية، وتفيد بعض الأدلة بأنه كان متوفرًا في مكتبة تاورمينيا في صقلية.(2)

حاله حال طاليس، كان قد انشغل بالبحث العلمي أيضًا، وينسبون إليه الفضل في تصميم خريطة للعالم وكان يرى بأن الأرض أسطوانية الشكل.

أناكسيماندر ضد طاليس

كان يعتقد مواطنه طاليس بأن الماء أصل العالم وما الظواهر المختلفة إلا صور لحالات الماء. اعترض أناكسماندر وكانت حجته في ذلك أن العنصر الأولي لا يمكن أن يكون الماء ولا عنصرًا آخر غير الماء؛ لأنه لو كان بين هذه العناصر عنصر أولي لاكتسح العناصر الأخرى. يروى عنه أرسطو أنه قال: إن هذه العناصر المعروفة لنا  يعارض بعضها بعضًا؛ فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، وعلى ذلك فلو كان أحد هذه العناصر لانهائيًا لزالت العناصر الباقية اليوم، وإذن فلا بد أن يكون العنصر الأولي محايدًا في هذا الصراع الكوني.(3)

الأبيرون

إن الكائن الحقيقي [المبدأ الأول] لا يمكن أن يملك أية صفة محددة، وإلا فأنه يكون قد ولد ويصبح بذلك محكومًا بالزوال والموت ككل الأشياء الأخرى. ولكي لا تنقطع الصيرورة، فلا بد للكائن الأصلي إلا أن يكون غير محدد. فخلود الكائن الأصلي يقوم على خلوه من الصفات المحددة التي تقود إلى الموت.(4)

المبدأ الذي يفترضه الفيلسوف أناكسماندر هو الأبيرون، وهو يعني حرفيًا، اللانهائي على المستوى الزماني، اللامحدود من حيث المكان، اللامتعين من حيث الماهية. إن الأبيرون الذي يمتلك صفات إلهية، يحرك دوامة الوجود الدائرية بشكل أبدي، والموجودات تظهر بانفصالها وخروجها من تلك الدوامة.

إن عملية الانفصال هذه أبدية بالضرورة، وذلك لأن دوامة الأبيرون لا نهاية لها، وبالتالي فالموجودات والعوالم لا تكف عن الولادة والفناء في الأبيرون من جديد. (2). ومن الجدير بالذكر هو أن هذه الفكرة تؤدي إلى الإمكانات غير المحددة للأبيرون في خلق الأكوان والعوالم.

العدالة الكونية:

ما هو مربك في نظرية الخلق عند أناكسيماندر، هو أن الوجود/الحياة يمثل الخروج من قرار الأبيرون ومشيئته، فالأبيرون دون أن يقول (كن) تكون الكائنات، وبالتالي فالوجود خطيئة، والكائن/الموجود محكوم عليه بالعودة إلى الأبيرون والفناء فيه. إن كل الصيرورة طريقة مذنبة للتحرر من الوجود الأبدي، وهي ظلم يجب التكفير عنه بالموت.(5).

يؤمن الفيلسوف أناكسيماندر بعدالة الأبيرون المطلقة وكذلك بالصراع المتأصل في الوجود. فكل عنصر من العناصر لا يكف عن السعي في سبيل اتساع رقعة مُلكه، غير أن ثمة نوعًا من الضرورة أو القانون الطبيعي لا ينفك يرد التوازن إلى حيث كان. العدالة هنا معناها عدم مجاوزة الحدود المفروضة منذ الأزل.

أناكسيماندر ونظرية التطور:

قبل داروين ولامارك، كان الحديث عن تطور الكائنات سيبدو جنونًا، إلا أن أناكسيماندر كان قد فجر فكرة التطور في الوسط الإغريقي قبل ألفين وخمسمائة عام في سياق تناوله لفكرة الخلق والأبيرون. ما لدينا مما قاله في التطور قليل جدًا، لكن مع ذلك تستحق الفكرة التأمل فيها.

يقول بأن الأرض في البداية كانت عبارة عن سائل، بدأت الأرض بالتجمد مع الوقت، وبفعل الحرارة تبخر البعض من سائلها مشكلًا طبقات الهواء. نتيجة تفاعل الضدين، الحرارة والبرودة، تكونت أولى الكائنات الحية. كانت الكائنات بسيطة في البداية ومن ثم تطورت وتأقلمت مع البيئة. فسلف الإنسان كان سمكة وبعد انحسار الماء تأقلمت بعض الأسماك مع البيئة الجديدة. (6) إذ أن التطور بدأ من البحر بإتجاه اليابسة.

اقرأ أيضًا الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

أناكسيماندر علامة فلسفية بارزة

رغم قلة معرفتنا بفلسفة أناكسيماندر إلا أنه يعد علامة فلسفية بارزة، ففكرة الأبيرون ما زالت تحتفظ ببريقها ولو بشكل شاعري. يعلق نيتشه على أسلوبه قائلًا: فكره وأسلوبه يشكلان حدودًا قصوى على طريق الحكمة الفائقة. ما يميز طرح أناكسيماندر حول الخلق والكون يمكن تأويله في سياق أخلاقي أيضًا، وكان نيتشه أول من توقف عند ذلك بإعجاب.

المصادر:

  1. غنار سكيربك ونلر غيلجي، تاريخ الفكر اليوناني، ترجمة د.حيدر حاج اسماعيل، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص47.
  2. https://iep.utm.edu/anaximan/
  3. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية،الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص65.
  4. فردريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، ط2، المؤسسة الجامعية، 1983، ص51.
  5. محمد حسن النجم، السفسطائية في الفكر اليوناني، ط1، بيت الحكمة العراقي 2008، ص35.
  6. https://www.famousscientists.org/anaximander/
Exit mobile version