مفهوم الإنسان عند ماركس

مفهوم الإنسان عند ماركس:

تمتلك الماركسية، كأي أيدولوجيا، ترسانة معرفية هائلة، غير أنها تعدو أن تكون تراكمات مفاهيمية في الكتب. في فترات طويلة جدًا سيطرت أنظمة قمعية على مساحات شاسعة من العالم تحت غطاء الماركسية وصور ماركس. لم يكن ماركس محظوظًا رغم كل هذا الاهتمام به، فتحول عند البعض إلى تجسيد شيطاني، وتم تفسير فلسفته من قبل البعض على أنها فلسفة مثالية وآخرون حملوه مسؤولية كل ما قامت به السلطات الشيوعية الاستبدادية. يقدم إريك فروم في كتابه “مفهوم الإنسان عند ماركس” تفسيرًا مغايرًا وموضوعيًا لأكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه في فلسفة ماركس.

أسباب تزييف مفاهيم ماركس:

يتساءل فروم عن الأسباب التي دفعت المجتمع الغربي لتكوين صورة مزيفة لفلسفة ماركس رغم تظاهره بالموضوعية والصدق في البحث. مفهوم “المادية” على سبيل المثال من أكثر المفاهيم تعرضًا للتشويه. حيث يُعتقد بأن ماركس كان يؤمن أن الدافع السايكولوجي الأعظم في الإنسان هو ميله للكسب المالي دون إعطاء أي اعتبار للحاجات الروحية.

كما تم تفسير نقده للدين بوصفه نوعًا من العدمية الأخلاقية. راح هذا التفسير ليبين أن الماركسية هي فردوس من الأشخاص الذين تنازلوا عن فرديتهم وحريتهم ليعملوا مثل الروبوتات. يشير فروم إلى وجود بعض التناقض في هذه الرؤية الرأسمالية؛ حيث أن الرأسمالية تتهم تارة الماركسية بأنها مادية وتارة أخرى بأنها مثالية/غير واقعية.

يعرض فروم بعض الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة المعرفية دون ترتيب. أحدها الجهل وعدم العودة إلى كتابات ماركس وعدم ترجمة بعض من أعماله، خاصة (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية). وسبب آخر هو أن الشيوعيين الروس قد طبقوا رؤيتهم المحتقرة للفردية والقيم الإنسانية تحت غطاء مفاهيم ماركس. تصور الروس –على حد قول فروم- أن الاشتراكية ليست مجتمعًا مختلفًا إنسانيًا عن الرأسمالية، بل شكلًا من الرأسمالية الذي تحصل فيه الطبقة العاملة على مكانة اجتماعية أرقى. كما كانت هناك أسباب غير عقلانية وراء ذلك التحريف، مثل العداء الثقافي المتجذر في العلاقة الروسية-الغربية.

مفهوم المادية:

إن المادية ببساطة هي المنهج الذي اعتمد عليه ماركس في تحليله للوجود الإنساني. جاءت مادية ماركس لمواجهة المثالية الألمانية والمادية البرجوازية الميكانيكية. فالمثالية المتمثلة بهيجل تفترض مقدمًا روحًا مطلقة أو مجردة، تتطور بحيث لا يكون الإنسان فيها سوى كتلة لحم تحمل هذه الروح. أما المادية البرجوازية فهي مادية استاتيكية جامدة، ترجع كل مظاهر الحياة الإنسانية الروحية والعاطفية إلى عمليات فسيولوجية في الجسم. حسنًا، ما هي مادية ماركس؟

مادية ماركس تتميز بطابع الصيرورة والديناميكية، بحيث تركز على علاقة الإنسان بالطبيعة. لفهم ذلك، يجب أن نفهم أنه لدى الإنسان غرائز ثابتة وأخرى نسبية، الأخيرة نابعة من تنظيم اجتماعي معين. أما الغرائز الثابتة هي التي تحتاج التركيز. يحتاج الإنسان إلى المأوى والطعام والجنس… إلخ، فيستدعي ذلك أن يقوم الإنسان بعملية الإنتاج، لإنتاج ما يحتاجه. وليس الإنتاج نفسه هو المهم، إنما إسلوب الإنتاج، لأنه يحدد كينونة الإنسان وأفكاره.

يقول ماركس: إن شروطًا اقتصادية محددة، كتلك الموجودة في الرأسمالية، تخلق كحافز رئيسي الرغبة في المال والملكية. بينما نجد أن أوضاعًا اقتصادية أخرى تولد رغبات معاكسة تمامًا، كالزهد واحتقار الثروة الدنيوية كما هو ملاحظ في كثير من الثقافات الشرقية.

مفهوم الوعي:

يعد مفهوم الوعي من المفاهيم المتشظية في تاريخ الفلسفة، وغالبًا ما يُنظر إلى الوعي ككيان مستقل ومتعال. لكن ماركس يضعه في سياق العملية الإنتاجية. فالوعي الإنساني الجمالي والقانوني والسياسي والأخلاقي يحدده أسلوب الإنتاج الذي يتبعه. إن إنتاج الأفكار متمازج بشكل مباشر مع الفعالية المادية ومع علاقات البشر المادية. لكن يجب أن نفهم أن الوجود الإنساني ليس بوجود سلبي، فالإنسان في علاقة إيجابية مع الطبيعة؛ أي الظروف الخارجية. يقول ماركس أن الإنسان هو من يصنع وجوده من خلال العمل، أي فعالية علاقتنا مع الطبيعة. إن توافق عملية تغيير الظروف مع الفعالية الإنسانية أو التغيير الذاتي لا يمكن تفسيره إلا بوصفه ممارسة ثورية.

اقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

مفهوم الاغتراب:

يؤكد ماركس دومًا على أصالة علاقة الإنسان بالطبيعة؛ أن الإنسان يحوز كينونته الفعالة من خلال تفاعله الإيجابي مع الطبيعة. إن الإنسان يصنع نفسه في تلك العلاقة في سياق التاريخ. إلا أن مفهوم الإنسان لا يمكن فهمه بمعزل عن إشكالية الاغتراب.

يقوم فروم بمقاربة مثيرة بين مفهوم الاغتراب عند ماركس ومفهوم الوثنية. تعني الوثنية عبادة الإنسان وخضوعه لشيء أو كيان قام هو نفسه بصنعه، عبادة التماثيل على سبيل الذكر. الإنسان حين يخلق شيئًا ما، فبدلًا من أن يمارس ذاته كفرد خالق، فإنه يكون في حالة تواصل مع ذاته عبر عبادة ذلك الشيء، أي الوثن.

وتمثل اللغة شكلًا من أشكال الاغتراب المعقدة عند ماركس. إن اللغة تحول الكلمة من علامة لغوية دالة إلى شيء قائم بذاته، فعندما أقول (أحبك) فهذه الكلمة تمتلك حياتها الخاصة، فحينئذ نهتم بفكرة الحب التي انبثقت من اللغة بدلًا من الاهتمام بحدث الحب نفسه. رغم الاعتبار العظيم للغة في فلسفة ماركس إلا أنه يحذرنا من خطر أن تكون بديلًا عن التجربة الحية.

كما أن الاغتراب قد يتجلى في مواضيع فنية وأدبية وفكرية، فيمكن أن نذعن لنص شعري أو لوحة فنية أومفهوم إلى حد الاغتراب عن ذواتنا.

لنفهم مفهوم الاغتراب علينا البحث في مسألة العمل، فتجربة العمل هي التجربة الأهم بالنسبة لماركس في تحقيق الانسان لذاته الفردية أو لذاته الكونية، أي تمثيله للنوع الإنساني. بيد أن تجربة العمل باتت تجربة مغرَّبة في عصر الرأسمالية. تحت شروط الإنتاج الرأسمالي يُقصى الإنسان عن قواه المبدعة كما أن الأشياء التي انتجها هي التي تتعالى عليه وتتحكم به.

ثمة سوء فهم شائع حتى بين الاشتراكيين، فلم يدعو ماركس إلى التساوي في الدخل أو أن يحصل العامل على أجر أعلى بل دعا إلى تحرير الإنسان من ذاك النوع من العمل الذي يدمر فرديته، والذي يحوله إلى شيء ويجعله عبدًا للأشياء.

العمل المغرِّب هو الذي ينزل بالإنسان إلى مستوى الآلة أو أقل، حيث يفقد الفرد رغبته في العمل ويشعره بالبؤس. ولأن العلاقة الانتاجية هي محرك تاريخ تحقيق الإنسان لذاته، فالاغتراب لا يكون واقعة طارئة في زمن العمل ومكانه بل يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وأخيه الإنسان وعن الطبيعة.

الاشتراكية والحرية:

الصورة الرسمية للاشتراكية في الفضاء العمومي العالمي هي صورة لمجموعة كبيرة من الأشخاص البائسين يعملون تحت مراقبة شديدة. ساهم الاعلام الرأسمالي في تقديم تلك الصورة، كما عملت سلطة ستالين على ترسيخها في مخيلة الناس. بيد أن الاشتراكية التي دعا ماركس إليها مختلفة عن تلك الصورة والتأويلات الشائعة. إذن ما هي الاشتراكية؟

الاشتراكية هي المجتمع الذي يعمل فيه الأفراد بطريقة مشتركة، لا تنافسية، بطريقة عقلانية وغير مغرَّبة. يقول الفيلسوف باول تيليش بأن الاشتراكية هي حركة احتجاج ضد تدمير الحب في الواقع الاجتماعي.

الحاجات في المجتمع الاشتراكي:

إن الاشتراكية وفقًا لماركس هي المجتمع الذي يلبي حاجات الفرد الإنسانية، لكن مفهومه للحاجات فيه بعض التحديد. ثمة حاجات زائفة وأخرى حقيقية، الحاجات الزائفة تؤدي إلى الاغتراب في حين الحاجات الحقيقية تؤدي إلى تحقيق الفرد لجوهره. ما يميز حقيقة الحاجة عن زيفها هو طبيعة الإنسان، بعكس المجتمع الرأسمالي الذي يخلق كمية هائلة من الحاجات الزائفة، فإن الاشتراكية هي تحقيق حاجات حقيقية وأصيلة.

هدف الاشتراكية:

إن هدف الإشتراكية هو الإنسان، إنها تهدف إلى خلق نمطًا من الإنتاج، ونظامًا للمجتمع، يصبح فيه بإمكان الإنسان قهر الاغتراب عن نتاجه، وعن عمله، وعن أخيه الإنسان، وعن ذاته وعن الطبيعة. والاشتراكية ترفع شعار التصالح والانسجام مع الطبيعة وليس السيطرة عليها واستغلالها لأجل فائدة أكبر كما هي حال الرأسمالية.

الحرية:

يتخيل الناس –ولهم مبرراتهم- المملكة الاشتراكية على أنها الجانب المقابل للحرية، أي استحالة الحرية. في حين أن الاشتراكية تهدف إلى مجتمع حر وإنسان حر. الحرية هنا هي أن يبني الأفراد علاقة عقلانية مع الطبيعة، وأن يتعاملوا مع ثرواتها بشكل مشترك، بدلًا من أن يكونوا محكومين بها كقوة عمياء. كتب ماركس في (رأس المال): “عهد مملكة الحرية لا يبدأ، حتى تنقضي المرحلة التي يكون فيها العمل القائم على قسر الضرورة والمنفعة الخارجية متطلبًا”.

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تم استبدال مصطلحات معينة استخدمها أرسطو وأتباعه لوصف الطبيعة بنظريات جديدة وأدت تلك الأفكار لثورة علمية حقيقية تستند إلى فلسفة علمية جديدة. ومن ذلك المنظور، سنلقي نظرة في هذا المقال على اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر بشكل دقيق ومن خلال النصوص.

اختلاف أرسطو وديكارت

يصف النصان التاليان نفس الظاهرة وهي احتراق قطعة من الخشب، كتبهما أرسطو وديكارت. وكما ناقشنا سابقًا، حاول ديكارت استبدال الفلسفة الطبيعية الأرسطية، لأنه اعتبر الأرسطية عائقًا حقيقيًا أمام تقدم العلم، لما أضفته من غموض وأقحمت الروح لتفسير الأشكال الجوهرية.

أثناء قراءة النص، يرجى التفكير في إجابة السؤالين التاليين:
1. ما هي تركيبة الخشب؟ وكيف توصف عملية الاحتراق في النصين؟
2. هل أمكنك تمييز خصائص الفلسفة الأرسطية والفلسفة الميكانيكية الديكارتية؟

أرسطو والعناصر الأربعة

“يبقى أن نتحدث عن ماهية الأجسام التي تخضع للتوالد والتجدد، ولماذا. نظرًا لأن المعرفة في كل حالة تعتمد على ما هو تأسيسي، والعناصر هي المكونات الأساسية للأجسام، يجب أن نعرف أي من هذه الأجسام هو العنصر ولماذا. وبعد ذلك ما هو عدد العناصر وخصائصهم. ستكون الإجابة واضحة إذا شرحنا أولاً نوع مادة العنصر.

العنصر هو الجسم الذي يمكن تحليل الأجسام الأخرى فيه، ويحتمل أن يكون موجود فيها، في أي منها وهو أمر لا يزال محل نزاع. العناصر نفسها غير قابلة للتقسيم إلى أجسام مختلفة في الشكل. هذا ما قد نعنيه بالعناصر.

الآن إذا كان ما وصفناه عنصرًا، فمن الواضح أنه لا بد من وجود مثل هذه الأجسام. فاللحم والخشب وجميع الأجسام المماثلة الأخرى قد تحتوي على عناصر الأرض والنار، حيث يرى المرء هذه العناصر تنضح منها. ومن ناحية أخرى، لا يبدو (أمامنا في الوضع الطبيعي) أن اللحم أو الخشب يحتوي على النار ولا يصح أن نفترض خلوها منها. وبالمثل، حتى لو كان هناك جسم جوهري واحد، فلن يحتويهم. لأنه على الرغم من أنه سيكون إما لحمًا أو عظمًا أو أي شيء آخر، فهو لا يظهر في الحال. أنه يحتوي على إمكانية التحول، ويبقى السؤال، كيف تظهر هذه الإمكانية؟”

أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495. [1]
احتراق الخشب يبرز اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تفسير أرسطو

كتب أرسطو “كتاب عن السماوات” عام 350 قبل الميلاد، وهو الكتاب الكوني الرئيسي. يناقش أرسطو في “كتاب عن السماوات” فكرة العناصر الأربعة، والتي تتكون منها جميع الأشياء الفرعية (كل الأشياء التي تقع تحت مجال القمر)؛ والأثير، والمادة الكاملة التي تتكون منها الأجرام السماوية (الأجسام الموجودة فوق القمر). يرى أرسطو أن الأشياء الدنيوية تبقى عرضة للتغيير، فهي قابلة للتلف وسريعة الزوال. بينما الأجرام السماوية أبدية وغير قابلة للتلف.

الأشياء الفردية -وفقًا لأرسطو- تتكون من مادة وشكل. فالمادة عند أرسطو تتكون من أربعة عناصر وهي الأرض، والماء، والهواء، والنار، وهي ظاهرة في الأشياء بقوة. أثناء عملية الحرق مثلاً، يتحلل الخشب إلى رماد الأرض ونار.

يستنتج أرسطو أن الخشب مصنوع من النار، أما الأرض فمتماسكة على شكل خشب. وبالتالي، فإن عملية الحرق بالنسبة لأرسطو ليست سوى تحلل الأجسام الفردية إلى العناصر المكونة لها وهو مجرد فقدان شكل.

ديكارت والميكانيكية

“أعرف نوعين فقط من الأجسام في العالم تحمل الضوء بداخلها، وهي النجوم والنار. ولأن النجوم بلا شك أبعد على المعرفة البشرية من النار، يجب أن نحاول شرح ما نلاحظه في النار أولًا.

عندما يحترق الخشب أو بعض المواد الأخرى المماثلة، يمكننا رؤية تحرك الأجزاء الدقيقة من الخشب بالعين المجردة. تفصل النار الأجزاء الدقيقة عن بعضها البعض، وبالتالي تتحول تلك الأجزاء الدقيقة إلى نار وهواء ودخان، ويبقى جزء خشن كرماد.

قد يتخيل آخرون -إن أرادوا- أن شكل النار ونوعية الحرارة وعملية الاحتراق أشياء مختلفة تمامًا في الخشب. أما أنا فأخشى الافتراض عن طريق الخطأ أن هناك أي شيء أكثر مما هو موجود أمام عيني في الخشب. يجب أن يكون كل ما يظهر أمامي بالضرورة كامن داخل الخشب. لذا فسأقتصر على تصوري لحركة أجزائه. لأنك قد تكون قادرًا على إشعال النار والتدفئة باستخدام الحطب، ويمكنك حرقه بقدر ما تريد، ولكن إن كنت لا تفترض أن بعض أجزائه تتحرك وتنفصل عن بعضها، فلا يمكن تخيله يخضع لأي تغيير.

من ناحية أخرى، إذا أزلت النار، فقد أزلت الحرارة، وحينها ستحافظ على الخشب من الاحتراق. إذن، تمنحني الحرارة بعض القوة التي تدفع أجزاء الخشب الدقيقة في حركة عنيفة وتفصلها عن الأجزاء الخشنة. ضع في اعتبارك أن هذه القوة وحدها ستكون قادرة على إحداث جميع التغييرات نفسها التي نلاحظها في الخشب عند الاحتراق.”

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

تفسير ديكارت


“الآن بما أنه لا يمكن تصور كيف يمكن لجسم ما أن يحرك آخر إلا من خلال حركته الخاصة، يمكنني أن أستنتج أن ذلك اللهب الذي ينهش الخشب يتكون من أجزاء دقيقة تتحرك بشكل مستقل عن بعضها البعض بحركة عنيفة وسريعة للغاية. بينما تتحرك تلك الجسيمات بهذه الطريقة، يدفعون أجزاء الجسم التي يلمسونها ويحركون الجسيمات التي لا تقاومها.

يتحرك اللهب بشكل فردي، لأنه على الرغم من أن جسيماته تعمل معًا لإحداث تأثير واحد، إلا أننا نرى أن كل جسيم منهم يعمل من تلقاء نفسه على الأجسام التي يلمسها.

أقول، أيضًا، أن حركة جزيئات اللهب سريعة جدًا وعنيفة جدًا، لأنهم دقيقون جدًا لدرجة أننا لا نستطيع تمييزهم بالعين المجردة. وبالتالي لن يكون لدى تلك الجسيمات القوة التي يتعين عليها التأثير بها على الأجسام الأخرى إذا كانت سرعة لم تعوض عن قلة حجمها.

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

كتب ديكارت كتاب العالم بين 1629 و 1633م بالفرنسية، بعنوان Trait du monde et de la lumiere، ونشره عام 1664. يناقش ديكارت موضوعات مختلفة، من الميتافيزيقا إلى الطبيعة والبيولوجيا، ويكشف فيه عن فلسفته الميكانيكية.

تأصيل ديكارتي

يتبنى ديكارت نظرية المادة الجسيمية. فيصف ديكارت هنا عملية الاحتراق كنتيجة لحركة الجسيمات. يتحلل الخشب أثناء عملية الاحتراق إلى أجزاء صغيرة من الرماد والدخان والنار والهواء.

انتقد ديكارت في كتاباته فكرة أرسطو بأن الحرارة أو النار موجودة في المادة. يرى ديكارت أن الاحتراق يحدث عندما تدفع جزيئات النار جزيئات الخشب. يحدث الأمر بطريقة سريعة وعنيفة، مما يؤدي إلى ظهور تنظيم جديد.

رأينا سابقًا أن الفلسفة المدرسية تعرضت للنقد، وكانت هناك محاولات لاستبدالها. كان التمييز الأرسطي بين المادة والشكل من أكبر المشاكل في الفلسفة الحديثة المبكرة. تم استبدال هذا التمييز بفكرة أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة جدًا، تتفاعل مع بعضها البعض وفقًا لقوانين الطبيعة. افترض هذا التحول الانتقال من إطار كانت فيه الملاحظة الخارجية الشكلية كافية لوصف الطبيعة وظواهرها إلى إطار كان فيه البنية الداخلية للمادة وجسيماتها والتفاعل الميكانيكي بينها هي الأساس.

بالنسبة للنوع الثاني من التفاسير، لم تكن الملاحظة البسيطة كافية. وسنناقش سويًا الطريقة التي تعامل بها أوائل علماء الثورة العلمية الحديثة مع تلك المشكلة المتمثلة في الوصول إلى البنية الداخلية للمادة واكتشاف قوانين الطبيعة.

المصادر
[1] أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495.
[2] رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83.
[3] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen

كيف هدم ديكارت الفكر الأرسطي؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

وفقًا لما قاله ديكارت، فإن تصور السكولائيين أمثال فرانسيكو سواريز تحديدًا هو ما جعل مبدأ “الشكل الجوهري” أكثر إشكالية مما كان عليه بالفعل. إذا كانت الأشكال الجوهرية مثل الأرواح، فهذا لم يكن ليحدث إلا لأن المدرسيين قد تصوروا الطبيعة بطريقة مجسمة للغاية عن طريق وضع الروح بمثابة المبدأ حتى في المواد غير الحية مثل الماء! [1] إذن، كيف هدم ديكارت الفكر الأرسطي ؟

“الجسيمية -corpuscularianism”

حسب ديكارت، تتكون كل الأجسام من أجزاء دقيقة من المادة أو الجسيمات. تفتقر هذه الجسيمات إلى أي نوع من المحركات وجميعها في حد ذاتها غير فاعلة بالمرة. تتحرك الجسيمات فقط نتيجة الاصطدام بجسم آخر، والطريقة التي تحدد سرعة واتجاهات هذه الحركة هي عبارة عن عدد قليل من قوانين الحركة البسيطة.

نتيجة لهذه الحركة الموجهة بالقانون، تلتصق بعض الجسيمات ببعضها البعض وتشكل بنى معقدة مستقرة. هذه الهياكل المعقدة المستقرة هي الأجسام التي نراها من حولنا. [2]

“كل جزء فردي من المادة يظل دائمًا في نفس الحالة -الموضع- طالما لم يجبره الاصطدام بغيره من الأجزاء على تغيير تلك الحالة. هذا يعني أنه إذا كان للجزء حجم ما، فلن يصبح أصغر أبدًا ما لم يقسمه الآخرون. إذا كان مستديرًا أو مربعًا، فلن يغير هذا الشكل أبدًا ما لم يجبره الآخرون على ذلك.

إذا استقر في مكان ما، فلن يغادر ذلك المكان أبدًا ما لم يطرده الآخرون. وإذا تحرك، فستستمر حركته دائمًا بنفس القوة حتى يوقفه الآخرون أو يؤخرونه.”

(ديكارت، العالم، ترجمة جيه كوتينجهام وآخرون)

تعرف هذه الفكرة باسم “الجسيمية – corpuscularianism”. وقد اندمجت الجسيمية الديكارتية مع فكرة أخرى دمرتا مبدأ الشكل الجوهري تمامًا.

الجسيمية والآلية، المزيج المدمر لمبدأ الشكل الجوهري

بالإضافة إلى الجسيمية، تقول الفكرة الأخرى بأن الخصائص الفيزيائية للأجسام هي نتيجة التكوين الداخلي لجزيئاتها. يُنظر إلى الجسم وفقًا للطريقة التي تترتب بها جزيئاته، ويتحرك ويتصرف بالطريقة التي يتصرف بها بسبب التفاعل الميكانيكي بين جزيئاته، وتُعرف هذه الفكرة “بالآلية – mechanism”.

هذا المزيج من الجسيمية والآلية طرد الأرواح من الأجسام شر طردة. أصبح تكوين الأجسام نتيجة لحركة الجسيمات التي يوجهها القانون. فأجزاء الساعة تتحرك نتيجة للتفاعل الميكانيكي بين أجزائها المادية.

لم ينظر ديكارت وحده هذه النظرة الميكانيكية للعالم، ولكن اعتقد بها آخرون مثل الكيميائي روبرت بويل والأعضاء الأوائل الآخرين لما يسمى بالجمعية الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية، والتي تأسست عام 1660م.

تعريف الجسيمية والآلية

  • الجسيمية: هي الفرضية القائلة بأن الأجسام تتكون من أجزاء دقيقة من المادة، أو “جسيمات”.
  • الآلية: هي الفرضية القائلة بأن خصائص الجسم وسلوكه يمكن حسابها وفق التفاعل الميكانيكي بين أجزائه المادية.

شرح لو جراند -تلميذ ديكارت- لفكرته

يتمثل نقد لو جراند في الأساس للنموذج الأرسطي في أنه لم يسبق لأحد أن رأى شكلاً أو يعرف بالضبط ما هو الشكل الجوهري. إن القول بأن الخصائص الفيزيائية للجسم تنبع من شكله، ليس مفيدًا على الإطلاق. إنه يعني أن الخصائص الفيزيائية للجسم تنبع من شيء غير معروف.

اعتقد Le Grand أنه يمكن وصف جميع الأجسام بأنها آلات، تنبع خواصها الفيزيائية من التفاعل الميكانيكي بين أجزائها المادية وحركتها مثل ديكارت وهو ما استخدمه لو جراند بالفعل في تفسير الظواهر المختلفة. [3]

تفسير أنطوان لو جراند لاحتراق الخشب وتحوله إلى رماد

رفض أنطوان لو غراند (1694) تفسير تحول الخشب إلى رماد بأنه ظهور مادة جديدة، لكنه اعتقد أن الأجزاء المادية للخشب امتزجت من جديد نتيجة للاحتراق، لتظهر هذه الأجزاء كرماد وليس كخشب.

اختلف تحليل Le Grand بشكل واضح عن التحليلات الأرسطية التقليدية، حيث نظروا إلى تحول الخشب إلى رماد على أنه حالة تغيير جوهري، أي عملية تختفي فيها مادة من الوجود لتظهر مادة أخرى.

تابع آخرون تطوير النموذج الديكارتي ومخالفة المنهج الأرسطي أمثال نيقولاس مالبرانش وبويل وغيرهم. [1]

بالنسبة لكثير من الناس، قدّم هذا المزيج من الجسيمية والآلية نوعًا من الطبيعة الواضحة الأقل غموضًا مما قدمته الأرسطية. ومع ذلك، فقد حمل النموذج الجديد مشكلاته الخاصة أيضًا.

المصادر
[1] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen
[2] كتاب كتابات فلسفية لرينيه ديكارت
[3] Stanford Encyclopedia of philosophy

الفيلسوف أناكساغوراس ومفهوم ناوس

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكساغوراس ومفهوم ناوس

اعتدنا أن ننسب المغامرات الفلسفية الأولى إلى أثينا. بالكاد نعرف شيئا عن المدن الإغريقية الأخرى التي أعطت للتفلسف حيزًا. حسب التاريخ المتفق عليه، لم تعرف أثينا الفلسفة قط قبل أن يدخلها معه أناكساغوراس بدعوة من حاكم أثينا بيريكليز. لا تتميز فلسفة أناكساغوراس بوجود نسق أصيل كما هي الحال مع هيراكليتس ولا هي بفيض شعري كما هي عند أمبادوكليس. ما يمنح فلسفت أناكساغوراس بعض الجاذبية هو مفهوم ناوس (Nous) التي حاول من خلالها أن يسد الصدع الموجودة في الأنطولوجيا القديمة. في هذا المقال سنلقي الضوء على مفهوم ناوس عند أناكساغوراس.

حياة أناكساغوراس

ولد أناكساغوراس في كلازومينيا حوالي عام 500.ق.م. كان من أسرة نبيلة ويملك ثروة طائلة، إلا أنه تخلى عن الثروة سعيًا نحو العلم والفلسفة [1]. كان له علاقة مع الوسط الأثني السياسي والأدبي، فدعاه القيادي والسياسي الأثني بريكليس إلى أثينا لتتحول إلى مركز التفلسف العالمي. ظل في أثينا ثلاثة عقود، لكن الصراع السياسي عصرئذ لم يكن لصالحه، فتم اتهامه بالإلحاد لقوله بأن الشمس والنجوم صخور ملتهبة وأن القمر كوكب. بسبب تلك التهم دخل السجن، وكان سيكون مصيره مصير سقراط لولا تدخل بريكليس الذي ساعده ليهرب من السجن. بعد النفي استقر في لامباسكوس ومات هناك وهو في الثانية والسبعين من العمر[2].

نشر أناكساغوراس كتابه (حول الطبيعة) في سن متأخر، كما أسس مدرسة فلسفية في أواخر حياته.

البداية

كما كانت الحال مع الفلاسفة الذين سبقوه، قال أناكساغوراس بعالم قديم، لكنه اختلف معهم في تفاصيل جوهرية. العالم الذي يراه أناكساغوراس عالم ميكانيكي آلي، فهو لا يؤمن بصراع الأضداد مثل هيراكليتس ولا حركة الأبيرون كما أناكسيماندر. في البدء كل أنواع المادة كانت مختلطة في كتلة سديمية، وهذه الكتلة تمتد إلى ما لا نهاية عبر المكان والأنواع المختلفة للمادة، تختلط وتنفذ كل منها في أخرى [3].

هذه البادية كانت هلامية، حيث لم تكن هناك هوية للموجود، كل الأشياء كانت موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. يصف تلك البداية بقوله: “كانت جميع الأشياء معًا لا نهاية لها في العدد والصغر، لأن الصغر أيضًا لا نهائي، لما كانت جميع الأشياء معًا فلم يكن ممكنًا لصغرها تمييز أي شيء منها[4].الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

العقل عند أناكساغوراس

مفهوم العقل-ناوس فيه الكثير من اللبس، ذلك لأنه يوحي بأكثر من معنى، يأتي العقل أحيانًا بمعنى لاهوتي وأحيان أخرى بمعنى طبيعي. في الفلسفة الإغريقية بشكل عام لم يتم تحديد المقصد من العقل بدقة. عند أناكساغوراس، وضع العقل في موقع حرج من الأنطولوجيا الكونية، ما أدى إلى اختلافات تأويلية قديمًا وحديثًا حول جوهرة فلسفته –ناوس.

دور العقل

يبدو أن الكون كان حائرًا قبل أن يكون هناك عقل، كان يتخبط في نفسه دون دليل أو منظم إلى أن جاء العقل. العقل هو العامل المسؤول عن دوران وفصل الخليط البدائي [السديم]، وهو الذي أحدث الحركة البدائية (أنس). حول دور العقل لأناكساغوراس رأيين مختلفين، فتارة يختزل دوره في الحركة الأولى. فيقول، “في البداية كان هناك خليط سديمي من الأنواع المختلفة للمادة، والعقل ادخل دوامة في نقطة وسط هذه الكتلة”[5]. وتارة أخرى يبين أن العقل يذهب في ترتيب تفاصيل العالم.

طبيعة العقل

هذه الطبيعة غير محددة تمامًا وإن وصف أناكساغوراس لا يخلو من اللبس، غير أن ثمة سمات عامة للعقل في فلسفته[6] وهي:

  • العقل بسيط وغير مركب.
  • متميز عن المادة.
  • لا نهائي وأبدي.

البذور واستحالة الموت والولادة وفق أناكساغوراس

يجد أناكساغوراس في مسألتي الولادة والموت مشكلة فلسفية حقيقية. عندما نقول بالولادة فأننا نشير إلى أن شيء ما دخل إلينا من اللاوجود وفكرة الموت تعني المرور إلى اللاوجود. لأنه لا وجود للاوجود فالولادة غير ممكنة وليس ثمة أفق في اللاوجود ليكون هناك فناء أو موت لينتقل الموجودات إليه. يعلق على المسألة قائلًا: “يخطئ الإغريق بقولهم أن الأشياء تظهر إلى الوجود ثم تختفي. لا شيء يظهر أو يختفي عن الوجود، هناك إنفصال وامتزاج لما هو موجود وحسب”[3].

البذور

إذن، من أين تأتي هذه الأشياء الموجودة كلها؟ هل تأتي من العدم أم أنها نتجت من أشياء أخرى؟ للإجابة عن هذا السؤال يقتضي علينا العودة إلى السديم أو الحساء الأولي. هناك مبدأ رئيس في فلسفة أناكساغوراس، كل شيء موجود في كل شيء، يدل المبدأ هذا أن الأشياء موجدة منذ الأزل. لكن كيف كانت تلك الكينونة؟

الوجود –وفقًا لأناكساغوراس – لا يأتي من اللا وجود، بل كل ما هو موجود كائن منذ الأزل على صورة بذور. هذه البذور لا نهائية من حيث الكمية، لكنها تختلف في أشكالها وألوانها ومذاقها وبالتالي فهي لا تتشابه. كل الأشياء كانت توجود في الكل معًا ممتزجةً[6].

وفقًا للمبدأ المذكور فإن الأشياء غير نقية تمامًا، لا توجد مجاميع منفصلة للبذور، بل هي تتجاور، وتتجاوز تخومها المفترضة أيضا لتكون مضمرة في غيرها. يستقل الشيء عن السديم من خلال انفصال عناصره عن الكتلة السديمية بواسطة الوامة الموجودة للأبد.

الحجة الغائية عند أناكساغوراس

هنا نتساءل، لماذا احتاج أناكساغوراس إلى إدخال العقل في معادلة الخلق؟ لماذا لم يكتفي مثل سابقيه بفكرة البذور والسديم؟ هنا تبرز الثنائية التي ستكتسح الفلسفة بلا هوادة، ثنائية المادة والعقل. ما دفعه إلى هذا القول هو أنه رفض قدرة المادة وحدها على خلق عالم متسق ومتماسك وجميل. لم يجد في المادة ما يساعدها على أن تتحرر من المادة نفسها لتكوين كيان متسق وجميل؛ فجاء بالعقل كعنصر متميز ومفكر يمكنه أن يقود إلى خلق حسن.

مكانة أناكساغوراس في الفلسفة

الفيلسوف الذي وهب الفلسفة لأثينا، يعيد ترتيب حسابات الفلسفة الكونية والأنطولوجية والمعرفية. جاءت فلسفته ردًا على النزعة المادية في الفلسفة، ركز سابقوه على العنصر أو العناصر القصوى التي يتشكل منها العالم. بيد أن أناكساغوراس لم يرد أن يتمسك بعنصر ما لتفسير الكثرة الماثلة في العالم. مضى قدمًا نحو تخوم أكثر حرية ورعبًا، العقل-ناوس، هذا المفهوم هو الحجر الأساس في فلسفته. العقل هو الذي حرر الأشياء من الكتلة السديمية البدائية واعطاها هوية.

المصادر:

  1. ولتر ستيس, تاريخ الفلسفة اليونانية, ترجمة مجاهد عبدالمنعم, دار الثقافة, ص87.
  2. https://www.britannica.com/biography/Anaxagoras
  3. https://plato.stanford.edu/entries/anaxagoras/
  4. عزت قرني, الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون, ص71.
  5. ولتر ستيس, مصدر سابق, ص93.
  6. https://iep.utm.edu/anaxagor/

الفردية بين حرية الفرد والمجتمع: هل هي تفضيل للفرد أم تحدٍّ للمجتمع؟

تعريف الفلسفة الفردية (Individualism)

بين حرية الفرد ومكانه في المجتمع، تُعرف الفلسفة الفردية على أنها فلسفة سياسية واجتماعية تركز على قيمة الفرد الأخلاقية وحريته ضمن المجتمع. قد يبدو مفهوم الفرد بسيطاً بعض الشيء، لكن فهمه ينطوي على طرق عدّة في كل من الناحية النظرية وتطبيقها. [1]

نشأة مصطلح “الفردية”

يعود مصطلح “الفردية” إلى القرن التاسع عشر [1]، لكن هذا الفكر كان موجوداً من قبل. حيث برز في عصر النهضة، وكان يركز آنذاك على سعي الفرد لتحصيل المعرفة، إضافة إلى التركيز على مواهب الفرد وإنجازاته، بغض النظر عن المجتمع. ,تطوّر مفهوم الفردية مع عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث قام بعض أنصار المنطق والعقلانية بكسر قيود القمع الديني وتحرير الفرد ليتسنى له إيجاد نفسه والتعبير عنها وتحقيق غايتها [5]. أما عن مصطلح “الفردية” بحد ذاته، فقد ظهر في اللغة الفرنسية (individualisme) مع ردود الفعل الأوروبية على الثورة الفرنسية ومصدرها المزعوم في الفكر التنويري. في حقيقة الأمر، وبعد الفوضى والهياج اللذين نتجا عن الثورة الفرنسية، كانت ردود الفعل تجاه مفهوم الفردية سلبيةً ومناهضة، وذلك نتيجة الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها البلاد عقب الثورة. فقد كانت الثورة الفرنسية دليلاً قاطعاً على أن الأفكار التي ترفع من شأن الفرد هي التي تودي، في نهاية المطاف، بالاستقرار والمصلحة الاجتماعية. [6].

متى ظهرت الفلسفة الفردية؟

يمكن تتبع تاريخ الفلسفة الفردية في مراحل متعددة، فقد برزت في عصر النهضة والتنوير، كما مثلت عماداً أساسياً للثورة الفرنسية وانحلال الأرستقراطية، ووصلت إلى الثورة الصناعية وتطور الرأسمالية أو الديموقراطية. ولكن لا يخلو هذا التاريخ من تجمع آراء تناهض هذا الفكر وتعتبره شراً وتهديداً للتلاحم الاجتماعي [6].

إذاً، ما هي أفكار الفلسفة الفردية؟

خصائص الفلسفة الفردية وأهمية الحرية فيها

تركز هذه الفلسفة على استقلال الفرد وحريته، وتفضل مصالح الفرد الخاصة وترفعها فوق جميع المصالح الجمعية [1]. كما تعارض التدخلات الخارجية بخيارات الفرد، سواء كانت هذه التدخلات من المجتمع أو الدولة أو أية مجموعة أو مؤسسة أخرى [7]. إضافة لذلك، تؤمن الفلسفة الفردية باستقلالية الفرد وباحترام التنوع والحرية على حساب السلطة والامتثال للمجتمع. وكجزء من تركيزها على استقلال الأشخاص وتميزهم، تدعم الفردية تساوي الحقوق بين كل الأفراد من كافة الفئات العرقية والأنواع الاجتماعية والتوجهات الجنسية [8]. كما تركز على أهمية إعطاء الفرد ما أمكن من الحرية لينكبَّ على اهتماماته كما يريد. أما عن المجتمع، ترى الفردية أنه يمثل مجموعة من الأفراد ولا يزيد عن كونه وسيلةً لتحقيق غاياتهم [9].

ما أهمية المجتمع بالنسبة للفردية؟

وفي النظريات الاجتماعية والسياسية، تتمثل الأفكار الفردية بمناصرة حرية الفرد ورفاهه، في حين يعتبر وجود المجتمع متمحوراً حول أفراده وغاياتهم [10]. وترى أن مصالح الفرد العاقل تتحقق بالطريقة الفضلى عن طريق إعطائه الحرية الكاملة وتحميله مسؤولية اختيار أهدافه والوسائل التي سيستخدمها لتحقيق هذه الأهداف والتصرف وفقاً لذلك [1]. وهذه النقطة الجوهرية تعرّض الفلسفة الفردية لانتقاد معارضيها الذين يرون فيها سبباً وراء الانحلال الاجتماعي والفوضى.

الفردية مقابل الجماعية ونظرتهما للحرية وللمجتمع

على عكس الفردية، ترى الجماعية أن الفرد تابع للوحدة الاجتماعية، سواء كانت متمثلة بالدولة أو الأمة أو العرق أو الطبقة الاجتماعية [1]. ووفقاً لهذه العقلية، تطغى حاجات الجماعة وأهدافها على حاجات الفرد. بالمقابل، لا تنفي الفلسفة الفردية دور الوحدات الاجتماعية، لكنها تركز على حرية الفرد ضمن المجتمع، كما ترى أن مهمة الدول أو الحكومات تتلخص في حماية الأفراد من كافة أشكال الخطر الخارجية أو الداخلية، والكوارث الطبيعية أو تلك المفتعلة كالجرائم أو أعمال الشغب والحرب، وحتى من الأفراد الآخرين [11].

أبرز أنصار الفلسفة الفردية ومنح الحرية للفرد ضمن المجتمع

لمعت أسماء عديدة في تاريخ الفلسفة الفردية ممن دعموها وكتبوا عنها ودافعوا عن أفكارها. نذكر منهم الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث (1723-1790) والذي عُرف بشكل رئيسي في مجال الاقتصاد السياسي بأفكاره المؤيدة لاقتصاد يتمتع بالحرية، وهذا ما أصبح لاحقاً جزءاً من النظام الاقتصادي المعروف بمبدأ “عدم التدخل” [2].

إضافة لسميث، يقدم كل من الانكليزيين هربرت سبنسر (1820-1903) وجون ستيوارت مل (1806-1873) في كتاباتهما شرحاً وافياً لهذه الفلسفة. كان سبنسر  أحد أوائل مؤيدي نظرية التطور وداعمي فكرة تفضيل الفرد على المجتمع [3]. أما ستيوارت  فقد تحدث في كتابه “عن الحرية” (1859) عن أهمية إعطاء الأفراد حرية ومساحة لتطوير ذواتهم وشخصياتهم، وهذه الأهمية لا تعود بالنفع على الأفراد فقط، بل على المجتمع ككل، وفقاً لستيوارت [4]. ومما قاله في كتابه المذكور، أن “المصدر الأزلي والثابت للتطور هو الحرية” وهذا يؤكد إيمانه بأهمية الحرية ليس فقط على صعيد شخصي، بل في سبيل التطور عموماً.

وفي ألمانيا، كان الفيلسوف إيمانويل كانت (1724-1804) منادياً بأهمية الحقوق والحريات الفردية مقابل الإكراه، وأن قدرة البشر على تحمل المسؤولية الأخلاقية تعطي لكل فرد كرامته. كما أكد أنه لا ينبغي أن يتخلى الأفراد عن حقوقهم المشروعة مقابل أي شيء [12].

إضافة لهؤلاء، كان الفيلسوف والكتاب الفرنسي فولتير (1694-1778) والفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712-1778) من أنصار الفلسفة الفردية. ورفض هؤلاء المدافعون اللجوء إلى مصدر أرفع من ضمير الفرد. حيث كانوا يعتبرون أن الفرد هو المركز، ووصل بهم الأمر إلى المناداة بحب الذات. هذا ما دفع البعض إلى استشعار أفكار خطيرة في هذه الفلسفة قد تؤدي إلى الفوضى الاجتماعية وانتشار المواقف المتمحورة حول تفضيل الذات [6].

انعكاسات الفردية ومفهومها عن الحرية والمجتمع في السياسة والاقتصاد

في السياسة، ترتكز الفردية السياسية على تحميل الأفراد مسؤولية رفاه حياتهم، دون الاعتماد على الحكومة، أو أي وكالة خارجية أخرى. ويؤكد هذا المنحى، والمتمثل بأفكار ليبرالية وديموقراطية، على أهمية استقلال الأفراد في اتخاذ قراراتهم السياسية عن طريق انتخابات ديموقراطية يختارون فيها ممثلين عنهم [13].

أما في الاقتصاد، فيتمحور الاقتصاد الفردي حول فكرة تقليل تدخل الحكومة أو انخراطها في الاقتصاد. حيث يعطي داعمو هذا المذهب الاقتصادي الأولوية لمبادئ حرية الاقتصاد والملكية الفردية والمنافسة والمصلحة الذاتية والاعتماد على الذات. وكما ذكرنا سابقاً، تتجلى الفردية في مبدأ عدم التدخل الاقتصادي الرأسمالي والليبرالية الكلاسيكية [14].

اقرأ أيضاً: فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

المصادر

  1. https://www.britannica.com/topic/individualism
  2. https://www.britannica.com/biography/Adam-Smith
  3. https://www.britannica.com/biography/Herbert-Spencer
  4. https://www.britannica.com/biography/John-Stuart-Mill
  5. Philosophy Now
  6. Steven Lukes. The Meaning of Individualism. Journal of the History of Ideas, Vol. 32, No. 1 (Jan. – Mar., 1971), pp. 45-66
  7. The Basics of Philosophy
  8. Philosophy Terms
  9. Peter Nicholson. Individualism vs Collectivism. Cambridge University Press. pp 289-296
  10. Anu Realo et Al. Three Components of Individualism. European Journal of Personality. 16: 163–184 (2002)
  11. Political Science
  12. Learn Liberty
  13. History Crunch
  14. History Crunch

أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

يبدو أن الفلسفة تحتفظ دومًا بشيء من الميثة ذلك لأنها لا تكف عن التواصل مع اللا-فلسفة والقبفلسفة في نحتها للمفاهيم. نحت سرديات ومفاهيم جديدة يمر دائما من اللحظات التي سبقت مما يعرف بالتفكير الفلسفي والمنطقي, يعد ذلك عادة في الفلسفة.  إذا ما اخذنا بتعريف دولوز للفسلفة كترسانة معرفية لإبداع المفاهيم نجد أن التفلسف الأصيل يشترط انطلاقة أصيلة. الانطلاقة تلك تحدث في الماضي لا بوصفه أول الخط إنما بوصفه الكاوس/السديم المتمثل بالاقتصاد الفكري والجمالي اللانهائي. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا من خلال بعض القصائد الفلسفية.

إن فلسفة أمبادوكليس قائمة على أساس متوتر, فهي تقول الجديد من خلال القديم, تمنطق الميثوي عبر أسطرة العالمي/الطبيعي. ذلك التوتر ربما كان انعكاسًا للتوتر السياسي في بلاد الإغريق آنذاك. نعرف من سيرة أمبادوكلس بأنه شاهد على أزمات سياسية كبيرة وقد تم نفيه أيضًا من بلاده, وهذا النفي أدى إلى اغتراب فلسفي بدوره, حيث يعود الفيلسوف إلى هزيود في تصوره للانحدار من العصر الذهبي إلى العصور الأقل سعادة ومعنًى.

حول الفيلسوف الوردي أمبادوكليس

كما هي الحال مع فلسفته, سيرة أمبادوكليس فيها الكثير من اللبس؛ لوجود خرافات وأساطير حول حياته ومماته. هو من فلاسفة ما قبل سقراط, ولد في (آكراغاس-Acragas) حوالي عام 490 ق.م وتوفي في في عام 444 ق.م. في (بيلوبينيز- Peloponness). نُسبت إليه الكثير من الألقاب بما في ذلك لقب الإله, ولقبه أرسطوطاليس بمؤسس البلاغة, في حين اعتبره جالينوس مؤسس الطب. كان له مريدين, اعتبروه شخصية مقدسة, وروجوا حوله الكثير من الأساطير والحكايات الخرافية. حادثة موته تعد قصة شعرية مميزة, فحسب الشاعر الإنكليزي ماثيو أرنولد, ألقى أمبادوكليس نفسه في حفرة بركانية في جبل إتنا لإقناع تابعيه بألوهيته.

من المعروف أنه كان فيلسوفًا وشاعرًا صوفيًا تأثره بالتراث الشعري الإغريقي وفلسفة فيثاغورس. له الكثير من الكتابات, لكنها فقدت ولم تبقى منها سوى 400 بيتًا من قصيدته “حول الطبيعة” وأقل من 100 بيت من قصيدة “التطهير”. [1]

أمبادوكليس والمقترب العلمي

رغم الهالة الأسطورية حول حياته والغموض الميتافيزيقي في آراءه الفلسفية, إلا أنه كان يتمتع بحس علمي فريد. هو أول من كشف الهواء الجوي من خلال التجربة, وله نظرية حول تطور الكائنات رغم غرابتها تحتفظ بشيء من روح العلم الطبيعي المعاصر. حسب نظريته في التطور, في البداية كانت هناك صنوف لا حصر لها من المخلوقات الفانية, منتشرة في بقاع الأرض, مختلفة الأشكال إلا ما كان أبدعه من منظر للرائي, فكان هنالك برءوس بغير أعناق, وأذرعة بدون أكتاف, وأعين بغير جباه. نشأ عن ذلك كائنات زاحفة لها أيد لا يحصى عددها, كائنات لها وجوه وصدور تتجه اتجاهات مختلفة وكائنات لها أجساد الثيران ووجوه الإنسان وكائنات تجتمع فيها الذكورة والإنوثة معصا, لكنها كانت عقيمة لا تلد. ولم يستطيع البقاء من هذا كله إلا بعض الأشكال دون غيرها.[2].

الجذور الأربعة عند أمبادوكليس

يعتقد أمبادوكليس بوجود أربعة عناصر أصيلة وهي: الهواء, والتراب, والنار والماء. وهناك قوتان تتحكمان بهذه العناصر, وهما الحب والكراهية. تلك العناصر والقوى غير مخلوقة ولا فانية, فهي أزلية وأبدية, لا ينقص منها عنصر ولا يُضاف لها عنصر. هذه العناصر هي التي تخلق كل الأشياء الموجودة في الكون, فكل موجود/مخلوق هو في الأصل عبارة عن مقادر معين من امتزاج تلك العناصر. [3]

القوى الرئيسة وفق أمبادوكليس

عكس العناصر الأربعة الرئيسة، الموجودات فانية ولا يمكن لها أن تدوم للأبد, بمعنى فهي تُخلق وتُفنى. ما يجمع بين هذه العناصر هو قوة الحب (=الصداقة)، وما يفرق بينها وسبب بفناءها هو قوة الكراهية. هاتان القوتان سرمديتان، إذ لا مجال لنهاية الحب أو الكراهية, كما أنها لا تتصارع بل تتناوب. فعندما يكون كل شيء مؤتلفًا بفعل الصداقة (=الحب) وجدنا الكراهية تشق طريقها رويدًا رويدًا أو تطرد الصداقة بالتدريج إلى أن تؤول العناصر إلى دور الإنفصال التام، حيث تغيب الصداقة تمامًا. بعدئذ وبحركة معاكسة، تدلف الصداقة من جديد إلى الكون وتطرد منه الكراهية. [4]

حسب الشاعر الإغريقي هزيود فأن العالم ينحدر أخلاقيًا، بالمعنى الميتافيزيقي للأخلاق. فالعالم في البداية كان يسوده الخير, حيث كان العصر الذهبي, ومن ثم جاء العصر الفضي وتلاه البرونزي إلى أن جاء عصر الشقاء, أي العصر الحديدي. هذه السردية انتقدها أمبادوكليس، لكن ليس على نحو سفسطائي حيث أن العالم يتجه نحو الأفضل. يرى أمبادوكليس بأن العصر الأول كان العصر الذهبي، فكانت قوة الحب هي السائدة، لكن هذا العصر انتهى بسيطرة قوة الكراهية، ولكن العصر الذهبي جاء من جديد وانتهى بعد ذلك. هكذا دواليك، عصر يلي آخر بحركة دائرية.

نظرية المعرفة عند أمبادوكليس

لأمبادوكليس نظرية رائدة في الأبستمولوجيا، نظرية الشبيه يدرك الشبيه. فالأشياء الماثلة أمامنا في العالم، هي مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها نحن. فلم يعطي أمبادوكليس أي مكانة إستثنائية للإنسان، فهو شيء موجود بجانب الأشياء الأخرى. قدم شرحًا تفصيليًا للآلية التي ندرك بها الأشياء. نظريته التي انتقدها أرسطو وثيوفراستوس، هي أن كل الأشياء تعطي دفقًا لتدخل المسامات في أعضاء الحس. تلك الدفقات المسامات ذات أشكال وأحجام مختلفة، وبالتالي فإن بعض الدفقات السائلة فقط تدخل أعضاء حسية معينة إذا اجتمعت مع مسام بالحجم والشكل الصحيحين لاستيعابها. علاوة على ذلك، يتحقق الإدراك من خلال جذب التشبيهات: ندرك الألوان الفاتحة بالنار في العين، والألوان الداكنة من خلال الماء، وتتحقق الرائحة من خلال وجود الهواء في الخياشيم. [5]

مكانة أمبادوكليس في الفلسفة

رغم مرور أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أن آراء أمبادوكليس لا زالت قادرة على خلق الدهشة. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا بتدشينه الحب والكراهية في عملية الخلق. هذه النظرة الرومانسية للعالم جديرة بالاهتمام الفكري والأدبي. فالأشياء مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها، وهذا يفسح لنا مجالًا لأن ندركها. فنحن نعي الماء لوجود الماء في تكويننا وندرك الهواء وما هو من التراب والنار الآلية ذاتها. كما أن الطرح الأخلاقي حول تعاقب العصور، الذهبية والحديدية، يعطينا أملًا بنهاية المعاناة, كما هو محبط لأن هذه المعاناة لن تنتهي على نحو أبدي، فهي ستعود بفضل سيطرة الكراهية بشكل دوري.

اقرأ أيضًا هيراكليتس واستحالة الهوية

المصادر:

  1. https://www.britannica.com/biography/Empedocles
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب, الهيئة المصرية, ص109.
  3. https://plato.stanford.edu/entries/empedocles/#RootForc
  4. اميل برهييه, تاريخ الفلسفة, م1, ترجمة جورج طرابيشي, دار الطليعة, ص89-90.
  5. https://iep.utm.edu/empedocl/#H5

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

تثير حول بدايات الفلسفة الكثير من التساؤلات الجوهرية، خاصةً فيما يتعلق بهوية الفلسفة وإشكال الأصول والمصادر الرئيسة. إلا أن الرابط الكائن بين الفلسفة والعلم يعد من أبرز الجوانب التي تحتاج إلى الإحاطة والتحليل؛ فالفلسفة لم تقدم علمًا إنما عاشت لحظات علموية. إحاطتنا بتلك اللحظات من شأنها أن تكون منعطفًا أنطولوجيًا، إذ أن علاقة العلم بالفلسفة لا تنكشف بالتناول التقليدي المألوف. تجربة فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس, إذا ما حررناها من الإطار التاريخي ستساعدنا لأن نقترب من التوتر الموجود بين الفلسفة والعلم. مؤرخو العلم يركزون على تلك العلاقة الحميمة في اللحظات التي تجلى العلم بمفرده في القول الفلسفي. بينما مؤرخو الفلسفة يقدمون الفلسفة بوصفها الكينونة الأم للعلم والمعرفة، يتعاملون مع العلم على أنه الابن الضال للفلسفة. نحاول في هذا المقال أن نبين التواصل الدائم بين مسطحي المحايثة والمرجعي (على حد تعبير دولوز).

حول الفيلسوف الضاحك ديمقريطس

يُعرف عن ديمقريطس بأنه كان يثمن الابتهاج والسعادة في الحياة؛ فسُمي بالفيلسوف الضاحك. حسب بعض المصادر, ولد ديمقريطس في عام 460 ق.م. في أبديرا. بينما تزعم مصادر أخرى بأنه ولد في عام 490 ق.م. في مدينة ملطية-ميليتوس (ونيفري). حسب المصادر الموثوقة، كان قد سافر كثيرًا إلى الشرق، وعاش لفترة طويلة في مصر وبلاد الفارس قبل أن يعود إلى أبديرا. ولنعرف أكثر عن سيرته الفلسفية لا بد أن نشير إلى ثلاثة محاور هامة في حياته. (1)

علاقة ديمقريطس مع الموروث

كان يافعًا عندما كان انساغوراس شيخًا، بهذا فهو يعد بمثابة حلقة وصل بين ما يسمى بالفلسفة القبسقراطية والأفلاطونية. فمذهبه الذري فيه الكثير من روح الموروث وفيه ما يكفي من التحديث ليؤثر على الفلاسفة اللاحقين مثل أبيقور.

السفسطائية

إن حركة السفسطائية تعد من الحركات المثيرة للجدل والاعجاب في تاريخ الفلسفة، نظرًا لانتقاداتها اللاذعة بوجه الموروث الإغريقي الروحي والتقليدي الفلسفي. فهي التي أسست للعدمية البدائية والنسبية الأخلاقية على نحو واسع، بحيث تبرز في سياق مختلف تمامًا من السياق الفلسفي الإغريقي. ونظرًا لأنها كانت أكثر شعبية وتأثيرًا في المجتمع الإغريقي فمن المستحيل ألا يكون لهم تأثير بالغ في فلسفة ديمقريطس. اقرأ أيضًا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

أفلاطون وسقراط

يتبين من معظم المصادر بأنه كان قد عاصر سقراط, علاقته مع سقراط غير واضحة, لكن اهماله من قبل أفلاطون قد يكون نتيجة وجود توتر حاد بينهما. يذكر المؤرخ ديوجين لاتيريوس بأن أفلاطون كان يكرهه كثيرًا ويتمنى ولو تُحرق كل كتبه. من النادر أن نجد أي فيلسوف غفل عنه أفلاطون في محاوراته، لكنه لم يذكر ديمقريطس ولو لمرة واحدة.

فيزياء ديمقريطس

مع أن الفلسفة بدأت من خلال فك ارتباط التفكير بالأسطورة, غير أن التفكير اللاهوتي او المنطق اللاهوتي ظل سائدًا. حتى فلاسفة الصيرورة احتاجوا إلى عنصر ميتافيزيقي وعزوا إليه الأصول، لكن مع ديمقريطس حدثت قفزة نوعية. كانت الصيرورة عند الملطيين وهيراكليطس تبدأ من الاصل الميتافيزيقي نحو ظلال الطبيعة. وهناك فلاسفة وقعوا في أسر اشكال الصيرورة وقالوا بأن التغير يستدعي وجود العدم، والعدم يستحيل أن نقول فيه شيئا أو أن نفكر فيه.

استطاع ديمقريطس أن ينفي ادعاء بارمنيدس من خلال تقديم مفهومين مهمين وهما الذرات والفراغ. الذرات هي اللبنات الأساسية في كل تكوين, بما في ذلك تكوين النفس البشرية, وهذه الذرات تتحرك في الخلاء/الفراغ. كما يقول راسل، فان الطرح الديمقريطي أقرب إلى البحث العلمي, ذلك لأنه اراد أن يفسر العالم دونما حاجة إلى فكرة العلة الغائية أو السببية (2).

إن التفكير الغائي لا يتوقف في ارجاع كل شيء إلى شيء سابق له ومن ثم يطرح الشيء -الله- الذي يغير ولا يتغير. إلا ان ديمقريطس فكر كما يفكر عالم, قال ببساطة أن الأشياء جميعها تتغير لأن الذرات تغير اماكنها.

إن الذرات هذه يستحيل فناؤها، فهي كانت منذ الأزل وستظل إلى الأبد في حركة دائمة، وهناك عدد لا نهائي من الذرات (3). إن الذرات تتصادم وتتنافر وتترابط مع بعضها لتشكيل الأجسام. فوجود أشياء متغيرة ومتباينة ما هو في الأصل إلا اختلاف في الارتباط بين الذرات (4).

في الأخلاق والسعادة عند ديمقريطس

عكس نظريته الفيزيقية, لا تتمتع أخلاقيات ديمقريطس بوجود نسق فلسفي أصيل, فهي على الأغلب ملاحظات عامة حول السعادة. يشير ديمقريطس إلى الحتمية المتأصلة في الطبيعة، فيقول: الضرورة عينت سلفًا كل الأشياء الكائنة والتي تكون والتي ستكون. إذا ما طبقنا فكرته هذه على حقل الأخلاقيات فأننا سنكون أمام معضلة أخلاقية ووجودية كبيرة، فإذا ما كانت سلوكيات الإنسان محكومة بالحتمية فأنه لا يتحمل مسؤولية افعاله. وفقًا للسفسطائية فأن السلوكيات ايضًا جزء من العالم الجاري, لذا فأنها تؤسس لعدمية أخلاقية, لكن ديمقريطس بدلًا من أن يورط نفسه مع العدمية فضل أن يناقض نفسه.

تشكل الصدفة في مبحث الأخلاق أهمية بارزة، وكأنها الفسحة التي يستطيع الإنسان التنفس منها, ويمارس حريته، فهو يقول في الصدفة بأنها تمنح الهبة العظمى للأمل (5). كما هي الحال مع أبيقور فأن ديمقريطس يضفي على الأخلاق صفة القصدية، ذلك لأن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها إنما تهدف إلى بلوغ السعادة.

إن مفهوم السعادة عند ديمقريطس غير واضح تمامًا, يعتقد البعض أن السعادة الديمقريطية هي نفسها السعادة الأبيقورية , بينما يشير آخرون إلى عكس ذلك. فكما يقول المؤرخ ديوجين فأن السعادة ليست هي اللذة ولكنها حالة تحيا فيها النفس بهدوء وأمان غير مزعجة بالخوف والخرافة. يؤكد ديمقريطس في شذرة بأن نفس الشيء خير وحقيقي بالنسبة للجميع لكن اللذة تختلف من فرد لآخر. (6)

ولإحاطة أكبر بمفهوم السعادة لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين: السعادة حالة عقلية معرفية وليست حالة جسدية كما هو الوضع مع الأبيقورية. إن ما يمنح السعادة هو نفسه ما يمنح الجمال فيقول عن ذلك: اللذات العظيمة تشتق من التأمل في الأعمال الجميلة. (7)

فضلًا عن الجانب الجمالي للأخلاق فثمة صفة أخرى ملاصقة بالنظرية الأخلاقية ألا وهي العلم, فأننى نسعى إلى الجميل أي إلى السعادة من خلال التعليم والمعرفة. تأكيدًا على ذلك يقول: الجها بالأحسن هو علة الفعل الخاطئ.

طريق المعرفة عند ديمقريطس

لم يُحسم النقاش حول تحديد النسق المعرفي في فلسفة ديمقريطس, لا يعود السبب إلى نقص المصادر إنما إلى التنوع التأويلي. يصنفه أرسطو كفيلسوف ظاهري, بينما سكستوس يعتبره شكوكيًا في حين يعد فيلسوفًا حسيًا وفقًا لثيوقراسطوس.

يقول ديمقريطس في إحدى شذراته:

“على المرء أن يتعلم بأن وصول الحقيقة مستحيل”.

هذا الطرح يتطابق مع المقترب السفسطائي الأبستومولوجي, كما يؤمن مثل السفسطائيين بالصيرورة المعرفية ومبدأ الاتفاق. يقول في شذرة أخرى “نحن لا نعلم شيئا حقيقيًا عن أي شيء فكل رأي في حالة التغيير”.

ويمكننا أن نجانب أرسطو في تفسيره, فقوله في التغيير لا يعني غياب أي ثابت أو جوهر كما هي حال السفسطائية. إنه لا يقصي الحقيقة بل يعتبرها متوارية في اعماق الشيء/الظاهرة, وظاهر الشيء يقدم بعض المعطيات للعقل بحيث المعرفة من دونها غير ممكنة. فالحواس/التجربة هي بداية المعرفة لكنها ليست كلها, وهذا ما يؤكده كانت ايضًا.

كما يمكن اعتباره فيلسوفًا عقليًا لتأكيده على دور العقل الفاصل في العملية المعرفية, فهو يربط السعادة بالعقل وكذلك المعرفة.

مستويات المعرفة

وفقًا لسكستوس، للمعرفة مستويين عند ديمقريطس:

  • المعرفة غير الشرعية: وهي المعرفة التي نحصل عليها من الحواس, فهي غير شرعية لأن الحواس لا تستطيع أن تتعدى صفات الشيء والتي هي في الأساس خبرات حسية ولا وجود لها حقيقة. على سبيل المثال, نقول عن شيء ما بأنه مالح, فالملوحة نفسها غير موجودة في كيان الشيء.
  • المعرفة الشرعية: وهي المعرفة التي يقدمها العقل؛ لقدرته على تجاوز ظاهر الشيء إلى باطنه وجوهره.

لا ينكر ديمقريطس دور الحواس كما ذهب بعض الفلاسفة، لكنه لا يتمسك بها ايضًا، فهو يبين التواصل الموجود بين العقل والحواس. ذلك التواصل يؤدي إلى المعرفة، فأن الحواس تكون بمثابة بوابة العقل، فهو يستقبل منها المعطيات الرئيسة لتكوين معرفة صادقة وسليمة.

مكانة ديمقريطس في الفلسفة

ثمة الكثير من الآراء المتباينة حول فلسفة ديمقريطس، يعتقد البعض بأنه قد استلم نظريته من لوقيبوس وهناك من يؤيد أصالته. ما يهم هو أنه قاد حركة علمية أصيلة في الفلسفة اليونان القديمة، فهو الذي رفع الغطاء الميتافيزيقي عن العالم. حتى وإن لم نستطيع أن نقول بأن ديمقريطس هو فيلسوف الذرة الأول فيستحيل إقصاء فلسفته فهي فلسفة رائدة في إيقاظ وتنشيط التفكير العلمي.

قدم ديمقريطس نظرية متماسكة حول بنى الطبيعة، وقدم بعض الحكم والملاحظات الأخلاقية حول السعادة. كما أن نظرية الأبستومولوجيا لديه تمتاز بدقة علمية وفلسفية مميزة. فضلًا عن ذلك اسهاماته في علم الاجتماع وأصل المجتمع والدولة واللغة وأثرت في الأبيقورية وتركت بصمة مهمة في فلسفة ماركس، فقد كان موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه.

المصادر:

  1. https://www.universetoday.com/60058/democritus-atom/
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية, الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية 2010, ص128.
  3. نفس المصدر, ص127.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/democritus/
  5. علي سامي النشار, ديمقريطس, الهيئة المصرية, ص106.
  6. نفس المصدر, ص109.
  7. نفس المصدر, ص103.

تحديات النموذج الديكارتي

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

صراع ويليام هارفي والديكارتية، وتحديات النموذج الديكارتي

وفقًا للديكارتيين، نتجت الأجسام عن حركة الجسيمات وتصادمها. عندما تصطدم الجسيمات، تلتصق بعضها ببعض لتشكيل هياكل أكثر أو أقل تعقيدًا، والهياكل هي الأجسام التي نراها من حولنا. ولكن فيم اختلف ويليام هارفي مع ديكارت؟ ولماذا احتدم صراع بين عالم مثل ويليام هارفي والديكارتية؟ وكيف للجسيمية والآلية ألا تقنع عالم مخضرم مثل ويليام هارفي؟

لم يخل النموذج الجديد الجامع بين الجسيمية والآلية من الألغاز. لكشف تلك الألغاز، ضع في اعتبارك الفرق بين بنية بسيطة نسبيًا مثل الحجر أو المعدن، والبنية الأكثر تعقيدًا لكائن حي مثل الدجاج. ربما يكون الحجر أو المعدن ناتجًا عن حركة وتصادم الجسيمات. لكن هل ينطبق الأمر ذاته على كائن حي كالدجاج؟

وجد بعض المفكرين أن هذا النموذج يمثّل مشكلة في حالة التوالد الحيواني. على سبيل المثال، شكك عالم الأحياء الإنجليزي ويليام هارفي (1578-1657م) في إمكانية تفسير الكائنات الحية بهذه الطريقة، أي عن طريق حركة جسيمات وتصادم أجزاء من المادة. [1]

لماذا شكك ويليام هارفي في إمكانية تطبيق أفكار ديكارت على الكائنات الحية؟

السبب الذي جعل العديد من المفكرين المعاصرين يشككون فيما إذا كانت الكائنات الحية يمكن أن تنتج من مجرد حركة وتصادم الأجزاء، هو أن الطريقة التي تتحرك بها الجسيمات وتصطدم ببعضها البعض هي -إلى حد ما- عشوائية.

لا تتحرك الجزيئات وتتصادم وفقًا لخطة، وقد تؤدي الحركة العشوائية وتصادم الجسيمات إلى بنية خشنة للحجر أو المعدن. لكن وفقًا للعديد من المفكرين، فإن بنية الأجسام العضوية أكثر تعقيدًا بشكل كبير من بنية الأحجار أو المعادن.

تُظهر الكائنات الحية بنية متطورة ودقيقة للغاية، تسمح لها بالحركة والهضم والإنجاب. ووجد الكثيرون صعوبة في تخيل إمكانية أن تتكون هذه الهياكل وحركاتها نتيجة للحركة العشوائية وتصادم أجزاء من المادة.

قد يتطلب أصل الهياكل العضوية نوعًا مختلفًا من التحليل عن الأجسام الأبسط، مثل الأحجار والمعادن. ذلك تحديدًا ما دفع كثيرون إلى التشكيك في إمكانية تعميم وصف ديكارت العام لكيفية تكوين الأجسام بحيث ينطبق على حالة الكائنات الحية أيضًا. [2]

مالبرانش في مواجهة ويليام هارفي

وجد نيكولاس مالبرانش -أحد الديكارتيين- أن هناك فرقًا مهمًا بين الطريقة التي تتشكل بها الأجسام غير الحية مثل المعادن من جهة، وتوليد الكائنات الحية من جهة أخرى. ففي حالة الأجسام غير الحية مثل المعادن، يمكننا أن نرى كيفية تكونها بشكل مجزأ عندما تصطدم الجسيمات وتلتصق ببعضها البعض.

المرحلة الأولى تبدأ بالتصاق جسيمان معًا لتشكيل اتحاد. وفي المرحلة التالية، تتحد المزيد من الجسيمات مع هذا الاتحاد المتشكل حديثًا، وهذه العملية هي التي تؤدي بالتدريج إلى معدن ذي شكل وبنية معينة.

وجد مالبرانش أن ما يجعل حالة تكوين الحيوانات صعبة للغاية هو أن الأجسام العضوية لها نوع خاص من الوحدة. كل عضو في جسم الحيوان يعتمد على الآخر. لا يوجد قلب بدون شرايين، ولا شرايين بدون دماء، ولا دماء بدون نخاع عظم، وهكذا. لكن إذا كانت الأجسام العضوية تتمتع بهذا النوع الفريد من الوحدة حيث تعتمد جميع الأجزاء بعضها على بعض، فمن الصعب أن نرى ظهور أعضائها تدريجياً، الواحد تلو الآخر. من الصعب أن نرى ظهور الشرايين قبل القلب، بالنظر إلى الطريقة التي يعتمد بها القلب والجهاز الشرياني على بعضهما البعض.

لا يمكن للقلب أن ينبض ويضخ الدم عبر الشرايين إلا إذا اكتملت الأوردة التي تعيد الدم إليه مرة أخرى. باختصار، من الواضح أن الآلة لا يمكنها العمل إلا عندما تكتمل، وبالتالي لا يمكن للقلب أن يعيش بمفرده. … سيكون من الخطأ إذن التظاهر بشرح تكوين الحيوانات والنباتات وأجزائها، على أساس القوانين البسيطة والعامة التي تحكم الحركة.

(مالبرانش، البحث بعد الحقيقة، ص 465. ترجمة لينون وأولسكامب) Malebranche, The Search after Truth, 465. Translation Lennon and Olscamp

ولكن إذا لم تنطبق الطريقة القياسية الديكارتية على الكائنات الحية، فكيف تنشأ؟ حول هذا السؤال سوف ننتقل للجزء التالي.

معضلة الكائن الحي

قد تساعدنا المقارنة في فهم الأمر، لنفترض أننا نمسك بعدد من الأحرف البلاستيكية، ثم أسقطناها على الأرض مرة تلو الأخرى. من الصعب جدًا أن نتخيل كيف يمكن لتلك الحروف أن تسترشد بالجاذبية وقوانين الحركة لإنتاج أبيات شعر منظومة ومرتبة للمتنبي ولو مرة واحدة من عدد هائل من المرات.

المطلوب أعقد من ذلك، تخيل أن نفس الأبيات ستظهر مرارًا وتكرارًا بينما نكرر التجربة – وهو ما يبدو حقًا غير ممكن!

قدمت حالة تكوين الحيوانات، نقد خاص للتصور الديكارتي لميكنة الطبيعة. فكيف تعامل العلماء والفلاسفة مع هذه المعضلة؟

كيف تعامل الفلاسفة مع معضلة الكائن الحي؟

قدّم علماء ومفكرون تصورين للتغلب على المعضلة. التصور الأول هو العودة إلى مجموعة أدوات الفلسفة الطبيعية الأرسطية مرة أخرى، وعلى رأسهم ويليام هارفي.

صراع ويليام هارفي والديكارتية وعودته إلى الشكل الجوهري

وفقًا لعالم الأحياء الإنجليزي ويليام هارفي، فعندما تنمو دجاجة في بيضة، فإن هذه العملية تسترشد بما أسماه “القوة التكوينية”. نظمت هذه القوة التكوينية مادة البيضة بطريقة تظهر في النهاية بنية الدجاجة. تفاصيل هذه العملية لا تهمنا هنا، لكن النقطة المهمة في الوقت الحالي هي أن المادة في هذا التصور ليست غير فاعلة تمامًا كما تصور ديكارت.

على الأقل في حالة التوليد الحيواني، فالمادة تظهر القدرة على التنظيم الذاتي أفضل بكثير في الفلسفة الطبيعية الأرسطية عنها في النظرة الآلية الديكارتية للعالم من وجهة نظر ويليام هارفي.

الدمية الروسية والتشكل المسبق لمالبرانش

الدمية الروسية
حقوق الصورة: https://pixabay.com/photos/matryoshka-russian-dolls-nesting-970943/

كان التصور الثاني هو التفكير في توليد الحيوانات على غرار ما يمكن أن نطلق عليه نموذج “الدمية الروسية”. تحتوي كل دمية روسية على نسخة مصغرة من نفسها، تمامًا كما يحتوي كل والد على نسخة مصغرة من نفسه (الإبن).

انقسم مؤيدو هذا الرأي حول مسألة ما إذا كانت هذه النسخة المصغرة موجودة في البيضة أم في بذرة الأب.

وفقًا لأتباع ديكارت، اعتقد نيكولاس مالبرانش أن نسل الحيوان موجودًا في بيضة الأم. وقد خلق الله الجيل الأول من كل نوع حيواني كأنه دمية روسية كبيرة، وتحتوي تلك الدمية على جميع الأجيال القادمة بالفعل بداخلها.

قد تبدو فكرة التكون المسبق تلك غريبة بالنسبة لك، وهي بالفعل تتمتع بسمعة سيئة بين العديد من المؤرخين والعلماء، ومع ذلك، من المهم أن ندرك أنها ظهرت كإجابة على معضلة حقيقية في القرن السابع عشر وطريقة للخروج من معضلة إنتاج الهياكل العضوية المعقدة عن مجرد حركة وتصادم جسيمات.

وفقًا للبعض، كشفت حالة التوالد الحيواني عن بعض تحديات ميكنة الطبيعة الديكارتية، وكان التشكل المسبق مهمًا تاريخيًا كطريقة للتعامل مع هذه التحديات.

يشير أنصار فكرة “التشكل المسبق” أو “الدمية الروسية” لتوليد الحيوانات، أحيانًا إلى النتائج التي توصل إليها علماء الميكروسكوب الأوائل لدعم نظريتهم.

ميكروسكوب سوامردام كدليل على ادعاءات مالبرانش

عند أخذ النتائج التي توصل إليها علماء الميكروسكوب الأوائل مثل “ملبيجي – Malpighi” و”سوامردام –Swammerdam” لدعم نظريات التشكل المسبق لمالبرانش سنجد استنتاجات مالبرانش منطقية أيضًا. فما رآه علماء الأحياء مثل سوامردام تحت مجاهرهم هو أن التركيب العضوي المعقد للعديد من الحيوانات كان موجودًا قبل أن يمكن تمييزه بالعين المجردة.

اعتقد سوامردام بأن أطراف وأجنحة الفراشة كانت موجودة بالفعل، وإن كانت مطوية، تحت جلد اليرقة.

لم يكن بالإمكان تمييز هذه الأطراف والأجنحة بالعين المجردة، لكن ساعد المجهر في اكتشافها وهو ما كتبه في كتاب تاريخ الحشرات عام 1669.

“اليرقة هي الفراشة نفسها، لكنها كانت مغطاة برداء يمنع أجزائها من الكشف عن نفسها.”

سوامردام في كتاب (تاريخ الحشرات Historia insectorum، الجزء الثاني)

يُعتقد بأن فكرة التشكل المسبق التي اعتقد بها مالبرانش مبنية بالأساس على نتائج سوامردام الميكروسكوبية، فإذا كانت الفراشة موجودة بالفعل بكل أجزائها في اليرقة، فلم لا تكون موجودة بالفعل في البيضة أيضًا.

غالبًا يعود هذا الادعاء أيضًا إلى سوامردام نفسه. فهو من كتب أن البيضة “تحتوي على كل أجزاء” الفراشة، وأنها في الواقع كانت “الحيوان الصغير نفسه، مغطى بغشاء” (تاريخ الحشرات ، العدد 1: 64).

لكن نظرًا لأن البويضة نشأت من الأعضاء التناسلية لحيوان أنثى، فقد نرغب في العودة إلى فكرة الدمية الروسية الأنثوية التي تحتوي على نسخة مصغرة من نسلها.

بتتبع خيوط هذه الحجة، توصل مفكرون مثل مالبرانش إلى استنتاج مفاده أن أنثى الحيوان لا بد وأنها كانت نسخة مصغرة داخل أمها، وهكذا حتى أول أنثى من نوعها.

“يجب أن نقبل أن جسد كل إنسان وحيوان ولد وسيولد حتى نهاية الزمان ربما قد ظهر منذ بداية خلق العالم. أعتقد أن إناث الحيوانات الأصلية ربما تكون قد خُلقت من نفس النوع الذي أنجبته والذي ستنجبه في المستقبل.”

(البحث عن الحقيقة، لمالبرانش، 27. ترجمة لينون وأولسكامب)
Malebranche, The Search after Truth, 27. Translation Lennon and Olscamp

لم ينتهي حديثنا عن الأدوات كالمجهر والتليسكوب، لكنها البداية فقط، وسيكون لنا في الحديث عنها مقال تفصيلي.

هل ماتت الفيزياء الأرسطية بطرح ديكارت؟

زعم المؤرخ باترفيلد أن القرن السابع عشر شهد زوال الفلسفة الطبيعية الأرسطية. لكن يحتاج هذا الادعاء إلى بعض التوضيح.

باتترفيلد محق بالطبع، لقد تعرضت الفيزياء الأرسطية لهجوم شديد في القرن السابع عشر على يد ديكارت وأتباعه. وقفت هيمنة الفلسفة الطبيعية الأرسطية في جامعات العصور الوسطى في طريق التقدم العلمي الحقيقي طويلًا، لكن لا يدفعك هذا إلى تخيل موتها فور هجوم ديكارت، فقد رأينا تمسك عالم الأحياء ويليام هارفي بالعودة إلى مجموعة أدوات الفلسفة الأرسطية في تحدي الديكارتية عبر فكرة التوالد، واختلفا في تفسير عمل القلب أيضًا.

صراع ويليام هارفي والديكارتية على أنقاض جالينوس

هيمنت تعاليم الفيزيائي اليوناني القديم “جالينوس” على الفكر الطبي الغربي لما يقرب من 1400 عام، لذا فليس من المستغرب أن التفسيرات الفيزيولوجية المنطقية الجديدة للظواهر قوبلت بمقاومة. رفض ديكارت وهارفي وجهة نظر جالينوس القائلة بأن الدم يتحرك ببساطة للأمام والخلف من خلال نفس الوعاء.

قال هارفي أن القلب عبارة عن مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ثم تعود إلى القلب، وهو ما شكك فيه ديكارت. كما عارض تفسير هارفي لطبيعة الانقباض والانبساط، كل هذا دون مساعدة من أي أدوات دقيقة.

يعكس مفهوم علم وظائف الأعضاء عند ديكارت تفانيه في بناء نظام فلسفي موحد، يضم الفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الكونيات ونظرية المعرفة وجوانب معينة من الدين. لقد نظر ديكارت إلى الجسم بطريقة ميكانيكية، واعتبرها آلات، وأنه يمكن تحويل وظائفها المختلفة إلى نماذج ميكانيكية مماثلة للساعة والآلات التي تعتمد على الروافع والبكرات.

رغم اعتقاد ديكارت بآلية الجسم لكنه رفض فكرة المضخة الآلية القلبية

على الرغم من هذه الميول الآلية الدافعة لقبول ديكارت لأفكار هارفي، رفض ديكارت فكرة أن القلب هو مجرد مضخة تدفع الدم إلى الجسد. يعكس هذا جزئيًا اعتقاد ديكارت بأن الإرادة تتحكم في جميع العضلات. لم يعلم ديكارت بإمكانية وجود عضلات لاإرادية من الأساس.

على الرغم من اعتراف ديكارت بأن بعض الحركات العضلية، مثل رد فعل اليد التلقائي للوخز، يمكن أن ينتج عنه فعل انعكاسي، إلا أنه رفض فكرة الانقباض العضلي اللاإرادي.

اعتقد ديكارت أن القلب لا يمكن أن يكون مضخة، بل هو فرن. يسخّن الفرن القلبي جزيئات صغيرة في الدم، مما تسبب تمددها على الفور. هذا التمدد الديناميكي والمفاجئ للدم داخل القلب تسبب في تضخم العضو مما أجبر الصمامات الأذينية البطينية أن تنغلق، وتفتح الصمامات شبه القمرية.

عندما ينطلق الدم الحار في الشريان، يتمدد الشريان، وهو ما كان مرئيًا للعين المجردة ويمكن الشعور به حينذاك. تخيل ديكارت أنه عندما يبرد الدم، فهو يأخذ مساحة أقل، وتنهار الشرايين والأوردة – كما يفعل القلب نفسه. لكنه اتفق مع هارفي على أن الدم يعود إلى القلب من خلال نظام من الأوردة، لكن الدم الحار هو الذي يحرك الدورة الدموية وليس القلب نفسه.

عندما يعود الدم البارد إلى القلب من أجزاء مختلفة من الجسم، يختلط بكمية صغيرة من الدم باقية في القلب. هذا الدم المتبقي وفقًا لديكارت، يمتلك خاصية تشبه الخميرة التي تسبب تمدد الدم العائد إلى البطين، وبالتالي بدء العملية مرة أخرى. لذلك، شبّه ديكارت القلب بالفرن.

لم يفكر ديكارت في القلب على أنه عضلة، ولم يتخيل أن حركته نتيجة لانقباض عضلي لا إرادي كما اعتقد هارفي. لكن تغير حجم القلب وشكله لأن الدم داخله يتمدد بسرعة مع تسخينه وإجباره على الخروج إلى نظام الأوعية الدموية بينما يبرد بسرعة أثناء دورانه في الجسم. [5]

صراع ويليام هارفي والديكارتية بين العقلانية والتجريبية

الفارق الرئيسي بين ديكارت وهارفي هو الفارق بين العقلاني والتجريبي. فويليام هارفي كان تجريبيًا يصل إلى استنتجاته بالتجربة. أما ديكارت، فحاول توفيق العالم مع نظرة فلسفية عقلانية. وقد بدا لنا من ذلك الصراع نشأة ملامح منهج وليد بين الأرسطية والديكارتية، هو المنهج التجريبي، لكنه لم يظهر على الفور بالطبع، كما لم تمت الأرسطية على الفور.

حتى الديكارتيين أمثال مالبرانش استمروا في استخدام مصطلحات المادة والشكل في تصورهم للعالم المادي. فالفلسفة الطبيعية الأرسطية قدمت مجموعة من المفاهيم التي ساعدتها على البقاء.

مع تطور العلم في القرن السابع عشر، لم يتخلص أتباع ديكارت من مفهوم الشكل بالكلية، بل أعادوا تفسيره ليناسب أفكارهم. بالتالي، يمكننا القول أن أفكار ديكارت والأرسطية كان لهما أثر كبير على علماء ومفكرين القرن السابع عشر. ورغم هدم ديكارت للأرسطية، إلا أنها كانت تعود في الأمور التي يغيب التفسير العلمي التجريبي الدقيق عنها في كثير من الأحيان.

مصادر
[1] Futurelearn, Scientific Revolution, University of Groningen
[2] Animal Generation and the Mechanical Philosophy: Some Light on the Role of Biology in the Scientific Revolution Andrew J. Pyle History and Philosophy of the Life Sciences Vol. 9, No. 2 (1987), pp. 225-254
[3] Biology and Theology in Malbranche’s Theory of animal
[4] (On the Origins of Modern Science, vii-viii) لهاربرت باترفيلد
[5] Hurst JW: Robert C. Schlant. (Profiles in Cardiology[Eds. Hurst JW andFye WB]). Clin Cardiol1999;602–605

فرانسيسكو سواريز ومحاولة تفسير أرسطية أخيرة

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

فرانسيسكو سواريز ومحاولة تفسير أرسطية أخيرة

تعلمنا سويًا في المقال السابق كيفية استخدام نموذج تحليل شكل المادة الأرسطي لفهم عمليات مثل تحويل اليرقة إلى فراشة. كما طبّقنا نموذج شكل المادة لتقديم تحليلات للظواهر الطبيعية الأخرى أيضًا. ورغم منطقية النموذج البادية للوهلة الأولى إلا أننا الآن في وضع يسمح لنا بتقييمه وتحديد بعض نقاط قوته وضعفه. فتعالوا بنا لنعرف كيف انتقد ديكارت الفكر الأرسطي؟

نقد الفكر الأرسطي، نقاط الضعف ونقاط القوة

نقاط قوة نموذج تحليل المادة الأرسطي

  • قد تقول إن إحدى السمات الجذابة لهذا النموذج هي أنه بسيط نسبيًا، أي يمكنه وصف مجموعة واسعة من العمليات الطبيعية، بدءًا من حرق الخشب أو تحول اليرقة إلى فراشة وتغير لون تفاحة متعفنة، بسهولة نسبيًا. فليس علينا سوى افتراض فقد أو اكتساب المادة شيئًا معينًا.
  • أيضًا، يتناغم النموذج مع الحدس القائل بأن بعض خصائص الجسم ضرورية له، في حين أن البعض الآخر مجرد خصائص عرضية. فيلتقط النموذج هذه الفكرة من خلال التمييز بين الأشكال الجوهرية التي تؤسس الخصائص الأساسية للأجسام، والأشكال العرضية التي تؤدي إلى خصائص عرضية متغيّرة.

نقاط ضعف نموذج تحليل المادة الأرسطي

  • إحدى نقاط الضعف المهمة لهذا النموذج هي غموضه التام. إن القول بأن الماء يتصرف كالماء بسبب شكله هو ادعاء ضبابي غير مفسّر. لجعل هذا الادعاء ملموسًا، سنحتاج إلى مزيد من التفسير لنوع شكل الجسم. بدون مثل هذه العملية، سيظل شكل الجسم نوعًا ما كـ “الصندوق الأسود” الذي يؤدي بطريقة ما إلى ظهور خصائصه الفيزيائية.

    ماذا لو قلنا بأن الماء يتصرف كالماء لأنه عبارة عن H2O، أي لأنه رابطة كيميائية بين ذرتين من الهيدروجين وذرة أكسجين واحدة، فقد أصبح لدينا تفسير ملموس للغاية. لقد فتحنا الصندوق الأسود ونظرنا بداخله وعرفنا الأسباب الحقيقية، أليس كذلك؟
  • قال النموذج الأرسطي أن تحول الخشب إلى رماد، يفقد مادة الخشب شكلها وتكتسب شكلًا آخر. لكن من أين يأتي هذا الشكل الجديد؟ لا يقدم النموذج إجابة واضحة على هذا السؤال، مما يضعف بشكل كبير من قوته التفسيرية.

    كان المدرسّون أنفسهم مدركين لهذه المشكلة، لكنهم لم يقدموا حلاً واضحًا مرضيًا.

في مقالنا الأخير، رأينا كيف تعامل مفكرو العصور الوسطى، مثل توما الأكويني، مع الأجساد من حيث المادة والشكل. سيطر نموذج التحليل الأرسطي هذا، على جامعات القرون الوسطى، أي منذ حوالي 1200 سنة ميلادية وما بعدها. لكن في القرن السابع عشر، تعرض النموذج لهجوم شرس من مفكرين مثل رينيه ديكارت وروبرت بويل.[1]

لماذا تعرض النموذج الأرسطي للهجوم؟

كان الهدف الرئيسي للنقد الحديث المبكر للفلسفة الطبيعية المدرسية هو فكرة الشكل الجوهري، وتوجهت إليها نيران الناقدين. فكما رأينا، كان الشكل الجوهري للجسد مبدأ رئيسي يصعب تفسيره. أصبح الشكل الجوهري هو المحدد لنوع الجسد الذي كان عليه، وجعله يتحرك ويتصرف بطرق معينة.

هكذا كان الماء هو الماء في هذا النموذج كنتيجة لشكله الجوهري. ونتيجة لهذا الشكل الجوهري، سيغلي الماء عند تسخينه ويبرد مرة أخرى بعد إزالة مصدر الحرارة. هكذا بلا أسباب سوى الشكل الجوهري، فهو بذاته يفسر كل شيء، ونحن لا نعرف عنه شيء تقريبًا.

بالإضافة إلى نقاط ضعف النموذج الأرسطي الممثلة في الغموض والحدسية، فقد استحق النموذج الهجوم كما يبدو.

ما قبل ديكارت

فرانسيسكو سواريز وتفسير الشكل الجوهري بالروح

على الرغم من بساطة الأمر من وجهة نظر السكولائيين حينها أمثال توما الإكويني، فقد وجد ديكارت صعوبة في رؤية ما يمكن أن تكون عليه هذه الأشكال الجوهرية. اعترف العديد من المدرسين بأن الأشكال الجوهرية لا يمكن رؤيتها أو ملاحظتها في حد ذاتها.

في القرن السادس عشر، حاول الكاهن اليسوعي الإسباني فرانسيسكو سواريز تسليط الضوء على هذا الوضع من خلال مقارنة الأشكال الجوهرية بأرواح البشر.

في البداية، فسر فرانسيسكو ظاهرة فقدان الحرارة وفقًا للشكل الجوهري. قال فرانسيسكو أن ما يدفع الماء الساخن لأن يبرد بعد إبعاد مصدر التسخين هو شكله الجوهري البارد بالأساس، لهذا يحاول الماء أن يعود لشكله الجوهري.

برودة الماء بعد تسخينه

اعتقد فرانسيسكو سواريز بأن الجسد البشري له روح توجهه من الداخل، وهكذا المواد الأخرى أيضًا، لها شكل جوهري يوجه سلوكهم وحركاتهم من الداخل. [2]

قيل عن أعمال وتفسيرات فرانسيسكو سواريز أنها مهدت وألهمت ديكارت وكانت حلقة وسطى بين الانتقال من الأرسطية إلى الثورة العلمية كما رأينا في تفسيره الأخير لبرودة الماء الساخن بعد فترة.

حاول فرانسيسكو سواريز إنقاذ السكولائية والأرسطية من عقلانية وتفسيرات وشغف معرفي وتفسيري لدى الكثيرين في عصره، فهل نجح؟ هذا ما سنعرفه في المقال التالي.

المصادر
[1] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen
[2] كتاب خلافات ميتافيزيقية لسواريز فرانسيسكو
[3] كتاب كتابات فلسفية لرينيه ديكارت
[4] Stanford Encyclopedia of philosophy



الأرسطية والفلسفة السكولائية، توما الإكويني نموذجًا

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

الأرسطية والفلسفة السكولائية، توما الإكويني نموذجًا

يريد الثوار التغيير، بل وقلب كل الأنظمة واستبدالها بأخرى جديدة. هكذا أراد الثوار الفرنسيون الإطاحة بالنظام الملكي واستبداله بالجمهورية. لذلك، إذا كنت ممن يعرفون بوجود ثورة علمية في القرن السابع عشر، وتود معرفة بدايات تلك الثورة العلمية بداية من توما الأكويني وحتى اكتمالها على الفكر الأرسطي، فهناك سؤالان نحتاج إلى طرحهما.

السؤال الأول هو، ما الذي أراد علماء القرن السابع عشر استبداله؟ والثاني، ما الذي أرادوا استبداله به؟

سننظر في أول هذه الأسئلة في هذا المقال. ما الذي أراد العلماء الأوائل استبداله؟

الإجابة المختصرة على هذا السؤال هي أنهم أرادوا استبدال “الفلسفة المدرسية” أو السكولائية. نعني بالفلسفة المدرسية هنا فلسفة مدارس أو جامعات العصور الوسطى.

الفلسفة المدرسية – الفلسفة السكولائية

تتضمن الفلسفة المدرسية مجموعة واسعة من التخصصات من المنطق والأخلاق إلى ما يسمى بـ “الفلسفة الطبيعية”، أو ما نسميه العلم. تابعت الفلسفة الطبيعية المدرسية السير على نهج المفكر اليوناني أرسطو. [1]

في العصور الوسطى، كان يُشار أحيانًا إلى أرسطو بـ”الفيلسوف”، وقد طور مفكرو العصور الوسطى مثل توما الأكويني أفكارهم الخاصة من خلال البناء على أفكار أرسطو.

دعونا نلقي نظرة فاحصة على الفلسفة الطبيعية الأرسطية التي هيمنت على جامعات العصور الوسطى. ربما تكون أفضل طريقة للقيام بذلك هي النظر إلى واحدة أو اثنتين من الظواهر الطبيعية والسؤال عن كيفية تحليلها لمفكر من العصور الوسطى مثل توما الأكويني. لذا أولاً وقبل كل شيء، فكّر في تحول اليرقة إلى فراشة.

تحول اليرقة إلى فراشة

الفلسفة المدرسية عند توما الأكويني

وفقًا لتوما الأكويني، نحن نتعامل هنا مع حالة أسماها “التغيير الجوهري”، وهي عملية تغيير حيث تتوقف مادة ما عن الوجود وتظهر مادة أخرى إلى الوجود، فعندما تتحول اليرقة إلى فراشة، تختفي اليرقة من الوجود ولكن تأتي الفراشة إليه. [2]

بمجرد ظهور الفراشة، لن تبقى على حالها أيضًا، ولكن ستتغير بعدة طرق أخرى. على سبيل المثال ستنمو الفراشة، وقد يتغير لونها، لكن هذه تغييرات أقل جذرية بكثير من تحوّل اليرقة إلى فراشة، فالتحول هنا بمثابة التغيير الجوهري عند توما الأكويني.

دعونا نقارن بين الحالتين. عندما تتحول اليرقة إلى فراشة، تختفي اليرقة من الوجود. لكن، عندما يتغير لون الفراشة، فإنها تنجو من هذا التغيير، ولا تختفي من الوجود، أليس كذلك؟

في الواقع، تغيّر اللون هو ما أطلق عليه الأكويني “تغيير عَرَضي”، حيث يحدث تغير في مستوى الخصائص العَرَضية. يمكن توضيح هذا التمييز بين التغيير العرضي والجوهري بشكل أكبر من حيث الأشكال العَرَضية والجوهرية.

التغيير العَرَضي والتغيير الجوهري عند توما الأكويني

وفقًا لتوما الأكويني، فإن الجسد الطبيعي جزء من المادة، تَكوّن بواسطة ما أسماه بـ “الشكل الجوهري”. [3] والشكل الجوهري للجسم هو المبدأ، وهو ما يجعله الجسم الذي هو عليه. الشكل الجوهري للجسم هو ما يجعله يتحرك ويتصرف بطرق مميزة. قد نلخص الأمر بأن الشكل الجوهري للجسم يشبه بشكل ما المُحرك الداخلي المتحكم في كل شيء.

اليرقة في مثالنا السابق هي جزء من المادة، والشكل الجوهري هو ما يكوّنها، مما يجعلها تبدو مثل يرقة، ورائحتها مثل يرقة، وتتحرك وتتصرف كيرقة. أُعيد تكوين هذا الجزء نفسه من المادة بشكل جوهري جديد، مما جعلها تبدو مثل الفراشة، ورائحتها مثل الفراشة، وتتحرك وتتصرف كالفراشة.

في الواقع، عندما أعيد تكوين نفس الجزء من المادة بهذه الطريقة، اختفت اليرقة من الوجود، ولكن ظهرت الفراشة بدلًا منها. فالفراشة لا تتحرك كاليرقة ولا تتصرف مثلها، ولكن أصبح لها محرك داخلي جديد بصفات جديدة.

يمكن إسقاط نفس التحليل على التغيير العرضي. عندما تظهر الفراشات للوجود، ستخضع كل مُركّب المادة والشكل الجوهري لمزيد من التغيرات التي أسماها الأكويني “الأشكال العرضية”.

تُمثل هذه النماذج العرضية الخصائص المؤقتة التي تمتلكها الفراشة في أي لحظة زمنية معينة. فهو يفسر حجم الفراشة ولونها وشكلها المحدد وفقًا لمبدأ الأشكال العرضية. عندما تتغير ألوان الفراشة من اللون الأزرق مثلًا إلى الأحمر، سيفسر الأكويني هذا التغيير بأنها تفقد شكلاً عرضيًا وتكتسب شكلًا عرضيًّا آخر.

مارس التفكير الأرسطي بنفسك

الآن، أنت أصبحت على دراية بمفهومين أساسيين للفلسفة الطبيعية الأرسطية وهما، المادة والشكل. وفقًا لهذه المفاهيم، يمكنك الآن محاولة صياغة تحليلات أرسطية للظواهر الطبيعية بنفسك.

فكر من حيث المادة والشكل في تحليلات لأحداث مثل حرق قطعة خشب وتحول تفاحة حمراء إلى بنية.

احتراق قطعة خشب

كيف ستفسر الحالات السابقة إن كنت أرسطيًّا؟

لقد قدمت للتو تحليلات أرسطية من حيث المادة والشكل بنفسك عندما فكرت في تحول قطعة من الخشب إلى رماد وتحول تفاحة حمراء إلى اللون البني.

سننظر بإيجاز في هاتين الحالتين ببعض التفصيل. عندما تتحول قطعة من الخشب إلى رماد، يقول الأرسطيون أن هذه عملية تتوقف فيها مادة (قطعة الخشب) عن الوجود، وتظهر مادة أخرى.

نحن نتعامل مع حالة تغيير جوهري. في التغيير الجوهري، يعاد تكوين المادة المختفية عبر مادة جديدة تظهر إلى الوجود. في هذه الحالة، تفقد قطعة الخشب الشكل الذي أعطاها الطبيعة الخشبية، وتكتسب شكل الرماد بدلاً من ذلك بصفات جديدة.

ثانيًا، عندما تتحول تفاحة حمراء إلى اللون البني. يتغير التفاح بالفعل، لكنه ينجو من العملية. التفاحة التي كانت حمراء في البداية هي نفسها التفاحة التي أصبحت بنية الآن. لذلك، نحن نتعامل مع حالة تغيير عرضي. في حالة التغيير العرضي، تحتفظ الأشياء بموادها وشكلها الجوهري. ومع ذلك، فهي تخضع لتغيير على مستوى الشكل العرضي فقط. في هذه الحالة، كان للتفاحة في البداية شكل عرضي جعلها حمراء، لكنها فقدت هذا الشكل مع مرور الوقت. ثم اكتسبت شكلاً عرضيًا آخر جعلها بنية اللون.

الثورة العلمية على الفكر الأرسطي

سيطر نموذج التحليل هذا للمادة والشكل على جامعات العصور الوسطى لعدة قرون. ومع ذلك، لم يرض أمثال رينيه ديكارت وروبرت بويل وقادة التنوير في القرن السابع عشر عنه، وهذا يثير سؤالين، أولاً، لماذا لم ينل هذا النموذج إعجابهم؟ وثانيًا، ما النموذج الذي رغبوا في استبدال المنهج الأرسطي به؟ وهو نفس السؤال الثاني الذي بدأنا به المقال، لكنه باق معنا لمقال آخر.

المصادر
[1] Britannica
[2] Internet Encyclopedia of Philosophy
[3] The Conversation

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

بعد أكثر من ألفي عام من قفزة بارمنيدس الأنطولوجية، يتناول هايدغر الوجود كمقولة لم تُفهم قط. إن بارمنيدس يمثل بداية الشك عند هايدغر فيما يخص هوية الوجود، فهي هوية زمانية رغم نفي بارمنيدس لزمانية الوجود. بيد أن تلك القفزة تعد أول مقترب فلسفي نحو تأسيس أصيل للأنطولوجيا. 

لنبي الأنطولوجيا بارمنيدس – بتعبير نيتشه- اقتصاد مثالي ومادي في الوقت ذاته؛ مما يجعل الأساس الفلسفي الملطي في أزمة معرفية. فهو رغم بدايته الفيثاغورية يفتح جبهات مختلفة ضد التراث والأسلاف. في هذا المقال سنسلط الضوء على فلسفة بارمنديس الأنطولوجية وعلاقات الوجود المكثفة مع اللغة والفكر وترسانة المعنى والحقيقة.

عن بارمنيدس

ولد (بارمنيدس- Parmenides) في إيليا في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي 451-449 ق.م. يُقال عنه بأنه كان في البداية فيثاغوريًا ومن ثم بعد سنوات طويلة بدأ يثور على فلسفة فيثاغورس, فكون مذهبًا فلسفيًا خاصًا به [1]. بارمنيدز [بارمنيدس] أسس الأنطولوجيا (علم الوجود) عن طريق نظريته عن الوجود الثابت الذي يعبر عنه الفكر[2]. فهو يعد مؤسس المدرسة الإيلية الفلسفية. وفقًا لنيتشه كان بارمنيدس قد عاشر وعرف أناكسيمندرس وتأثر به. ويُقال أيضًا بأنه قد التقى بسقراط وهو في الستين من العمر. في محاورة لأفلاطون يتبين أن سقراط يناقش تلميذ بارمنيدس زينون حول مسألة الكثرة. تعد قصيدة (حول الطبيعة) لبارمنيدس أهم المصادر حول مذهبه الفلسفي الذي يعتبره البعض مذهبًا ماديًا بينما يتهمه آخرون بالمثالية.

المنعطف الإبستمولوجي

يبدو أن التساؤلات الإبستومولوجية كانت حاضرة في الفلسفة الملطية وكذلك عند هيراقليطس وفيثاغورس على نحو أصيل. إن الوجود ما قبل السؤال الفلسفي كان يشترط في معرفته وجود وسيط إلهي؛ وحيًا يُنزل على نبي في حالة التوحيد، أو رمزًا بحاجة لهيرمس في الحالة الوثنية. فالحقيقة كانت محجوبة، لا سبيل إلى معرفتها دون وسيط يقرره إله ما وكأن الوجود غير قابل للفهم بوسيلة إنسانية. الفلسفة الملطية حين أعلنت عن عنصر الوجود ومبدئه كانت بحاجة لبيان طريقتها للوصول إلى ذلك العنصر، وبما أن الدور الإلهي في التفسير كان مستبعدًا من الأساس فكل فيلسوف كان يعول على طريق خاص. منهم من تمسك بوساطة الحواس، ومنهم من ادعى امتلاك العقل للحقيقة والتأويل، أما هيراقليطس فجمع بين الأثنين؛ فالعالم ماثل أمامنا على شكل رموز تدركها الحواس ويفسرها العقل.

رأي بارمنيدس في العقل الوسيلة الوحيد لبلوغ الحقيقة. هذا التطرف العقلاني سينتقل من بعده إلى ديمقريطس ويخيم على معظم التاريخ الفلسفي لفترات طويلة. بين بارمنيدس أنه هناك طريقين لفهم العالم، طريق الحقيقة وطريق الظن. ليمهد الطريق أمام عقلانيته المحضة كان لا بد له من القضاء على مقولات أسلافه الأشهر؛ الحركة، والتغير والصيرورة. إننا نسلم بوجود حركة وصيرورة في الطبيعة/العالم لأننا ندرك العالم بواسطة الحواس. فالتغير والحركة هما أعظم الظواهر التي تظهر أمام الحواس يقينًا، ومن ثَمَّ فإن رفض بارمنيدس للتغير والحركة يعني رفضه للظاهر والمحسوس[3]. فطريق الظن عند بارمنيدس هو المعرفة المظنونة التي تقدمها الحواس.

في المقابل؛ طريق الحقيقة هو طريق العقل في الكشف، فالعقل يتجاوز المحسوس الظاهر الذي نراه يتحرك ويصير نحو الواقع الثابت. إن العقل قادر على إدراك حقيقة الواقع، غير أن حقيقة الواقع الذي يدركه العقل مادية [4]. ومن هناك تكون قفزة بارمنيدس الأنطولوجية في أفق عقلاني صارم.

الوجود عند بارمنيدس

إن مقولة الوجود، كما يقول هايدغر، تأتي في الفلسفة اليونانية على أنها غير قابلة للتعريف، فهي تعني كلية فارغة، أو هي بمعنى الحضور. تحمل هذه المقولة عند بارمنديس طابعًا ميتافيزيقيًا محضًا، فالوجود موجود وحسب، الوجود هو هو، لا معنى لطرح السؤال عن الوجود نفسه في سياق أنطولوجيا بارمنديس. يزعم الفيلسوف الإيلي بأن الوجود لا يكون ولا يفسد، لأنه كلٌ متكامل ووحيد التركيب، ثابت ولا ينتهي.[3]

فهو ينفي عن الوجود كل دلالات الصيرورة والحركة، ذلك لأنه كامل من جميع الجهات مثل كرة مستديرة متساوية الأبعاد من المركز، فهي ليست أكبر أو أصغر من هذا الاتجاه أو ذاك [4]. لذا فإن الوجود ثابت، فهو محدود من حيث المكان. لكن الزمان لا يحده، فهو أزلي، أي كائن على الدوام. كما ينفي الكثرة عن الوجود، على عكس هيراقليطس، فهو يؤمن بوجود واحد لا كثير.

الوجود واللغة والفكر

بالعودة مجددًا إلى فيلسوف الوجود هايدغر. نجد أنه يرفض أن يكون الوجود شيئا زمانيًا بل يربط بين الوجود واللغة. فاللغة بتعبيره هي بيت الوجود وأن اللغة تحدث الوجود. في طرح بارمنيدس الأنطولوجي نجد ذلك الربط الأصيل، فيمثل كلٌ من اللغة والوجود تخومًأ بالنسبة للآخر. يقول بارمنديس: “إنك لا تدري ما ليس بموجود –لأن ذلك مستحيل– بل لا يمكنك أن تنطق به؛ لأنه ما يمكن التفكير فيه وما يجوز وجوده شيء واحد في كلتا الحالتين”، وأيضًا: “إن الشيء الذي يمكن أن يكون موضوعًا للتفكير، هو هو بعينه واحد في كلتا الحالتين, لأنك لن تجد تفكيرًا بغير شيء موجود يدور حوله الكلام”.[5]

فالأسماء/العلامات اللغوية تُطلق على ما هو موجود بالفعل، وما يوجد في اللغة موجود بالضرورة، كما أن المفكر فيه لا يمكن ألا يكون موجودًا. طالما أن الوجود لا ينقسم إلى وحدات زمنية بل يمثل كلية واحدة فلا معنى للماضي أو المستقبل، إذ عندما نتحدث عن شخص ميت فأننا نتحدث عن موجود ما، فالموت لا يلقي بالكائن في اللا وجود/العدم. فكل قول هو قول في الوجود. [6]

اقرأ أيضًا: هيراكليتس واستحالة الهوية

مكانة بارمنيدس

يمثل الفيلسوف الإيلي بارمنيدس مرحلة مهمة في فلسفة ما قبل سقراط، لكونه قد وسع مفهوم وجود العنصر نحو أفق أنطولوجي خاص. يصور الوجود على أنه كروي، واحد ولا يقبل القسمة،كما ينفي عنه صفة الصيرورة والحركة التي سيطرت على التفكير الفلسفي لفترة. يعد بارمنيدس فيلسوفًا شاعرًا، ذلك لأنه قدم فلسفته على شكل قصيدتين؛ قصيدة “حول الطبيعة” وقصيدة “حول التغير”. وهو فيلسوف مادي عقلاني لا يعطي للحواس أي اعتبار معرفي، إنما يربط المعرفة بالتفكير المجرد ويربط الأخير باللغة، لهذا فإن بارمنيدس يمثل القفزة الأنطولوجية الأولى في الفلسفة القديمة.

المصادر

  1. https://www.worldhistory.org/Parmenides/
  2. عبدالغفار مكاوي, لم الفلسفة, ط1, مؤسسة هنداوي, 2020, ص112.
  3. فريدريك كوبلستون, تاريخ الفلسفة المجلد الأول, ترجمة إمام عبدالفتاح إمام, ط1, المشروع القومي للترجمة 2002. ص88.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/parmenides/
  5. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية, 2010, ص99.
  6. https://iep.utm.edu/parmenid/

مفارقة الشنق غير المتوقع

المفارقة الرياضية هي عبارة أو مجموعة من العبارات تبدو متناقضة مع نفسها ولكن في نفس الوقت تبدو منطقية تمامًا! إذ أنه يوجد العديد من البراهين التي تستخدم كدليل على التناقض. في هذا المقال سنتعرف على مفارقة شغلت الكثير من العقول وأصبحت معروفة لأول مرة في أوائل الأربعينيات، ومازلت تشغل بال الفلاسفة وعلماء الرياضيات وهي مفارقة الشنق غير المتوقع لذا دعونا نبدأ بقصة قصيرة ومثيرة.

قصة القاضي والسجين

يخبر القاضي يوم السبت سجينًا متهمًا بقضية قتل قطة، أنه سيُشنق ظهرًا في أحد أيام الأسبوع التالي، وأن الإعدام سيكون مفاجأة للسجين. يبدأ السجين في التفكير في عقوبته، ويتوصل إلى أنه سينجو من الشنق! لكن كيف استنتج ذلك؟

كيف فكر السجين؟

يبدأ باستنتاج الشنق المفاجئ أنه لا يمكن أن يكون يوم الجمعة، حيث إذا لم يتم إعدامه يوم الخميس، فلن يكون هناك خيار سوى أن يُعدم يوم الجمعة، لأنه اليوم الأخير في الأسبوع. لذا إذ نُفذ الحكم يوم الجمعة؛ فلن يُفاجأ، لذلك يستبعد السجين أن يُعدم يوم الجمعة. لكن هذا يعني أن الإعدام يجب أن يتم يوم الخميس أو الأربعاء أو الثلاثاء أو الإثنين. بالاستنتاج الأخير المتعلق بيوم الجمعة، وبتلك الحجة يستبعد الخميس أيضًا كأحد الأيام المُحتملة للإعدام. بمجرد استبعاده الخميس، يسمح ذلك باستبعاد الأربعاء، وبمجرد استبعاد الأربعاء يستمر بنفس الحجة ويستبعد باقي أيام الأسبوع وبذلك يستنتج أنه لن يُعدم.

نهاية تخالف منطق السجين!

في الأسبوع التالي، يُطرق باب زنزانة السجين ويتم أخذه بظهر يوم الأربعاء، ويُعدم! كل ما قاله القاضي تحقق.

ذلك التناقض معروف بأسماء عدة منها مفارقة الشنق غير المتوقعة أو مفارقة الاختبار المفاجئ أو التنبؤ. هنالك العديد من الأوراق البحثية حول تلك المفارقة، إلا أنه لا يوجد إجماع للآن على حل صحيح.

لكن أحد الحلول الممكنة يتعلق بغموض مصطلح «مفاجأة» لا يوجد تعريف رياضي لـ «المفاجأة».

مثال أخر

تؤدي المفارقات المنطقية المثيرة للدهشة عادة إلى مناقشات بحثية حول أسس الرياضيات. مثال بسيط مشابه لمثال السجين: في القرن السادس قبل الميلاد، زعم الكريتي «إبيمينيدس_Epimenides» أن جميع الكريتيين كاذبون، وذلك يعني أن جميع البيانات التي نقلها وتحدث فيها الكريتيون خاطئة. يتضح هنا أيضًا أنه بما أن إبيمينيدس كان كريتيًا؛ فإن ما قاله خاطئ. وبذلك فإن قوله الأول متناقض مع الذات.

نهجان لتوضيح مفارقة الشنق غير المتوقع!

‏لكن دعونا نعرض نهجان منتشران لتوضيح تلك المفارقة وهما نهج المدرسة المنطقية والمدرسة المعرفية.

المدرسة المنطقية

تحاول المدرسة المنطقية توضيح أن المنطق الذي يفكر به السجين خاطئ، ويتضح أن الخلل في منطق السجين وتيقنه بأن الشنق لن يحدث. إذ أن القاضي حكم بأنه يتم شنق السجين الأسبوع المقبل ولن يتم معرفة وقت الشنق، فتسمح تلك الصيغة للسجين بالاستنتاج أن الإعدام لن يتم يوم الجمعة، ولتتأكد حجة السجين واستمراره في استبعاد بقية أيام الأسبوع… يتعين على القاضي إضافة طابع رسمي كقوله “سيتم شنق السجين الأسبوع المقبل ولن يكون تاريخه قابلًا للاستنتاج مسبقًا بإعلان القاضي”. لذلك إعلان القاضي مرجعي ذاتي ويكشف الخلل في المفارقة.

المدرسة المعرفية

على نحو أخر، تتخذ المدرسة المعرفية نهجًا متركزًا على أسئلة حول ماهية معرفة شيء ما، أي أن ما تبينه هو أن هنالك فرق بين تأكيد القاضي على صحة شيء ما ومعرفة السجين أنه صحيح.

الجدال القائم

يجادل نوعان من البشر لهم آراء مختلف:

الأول:

أن هناك اختلافات بين تخيل المستقبل وتجربته أي فرق بين عمليات التفكير التي استنتج بها السجين والحكم الذي اصدره القاضي.

الثاني:

أن المفارقة هي نسخة من «مفارقة مور_Moore’s paradox» والتي يمكننا التعبير عنها من خلال تقليل عدد الأيام المحتملة إلى يوم واحد فقط.

أين يكمن التناقض؟

ما زال الحل غير موجود ولكن هل التناقض حقًا يكمن في أقوال القاضي أم أن منطق السجين به خلل ؟

المصادر
brilliant
britannice
oxfordreference
jstor
medium

هيراكليتس واستحالة الهوية

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

هيراكليتس واستحالة الهوية

يمثل بعض الفلاسفة، القدماء على وجه التحديد، رمزية تاريخية لا غير، لنقلهم الأسئلة الكونية من المحافل الدينية إلى دار الفلسفة. بيد أن هيراكليتس لا يزال يحتفظ بملكيته في الفلسفة، فهو ملهم الكثير من الفلاسفة ومقولاته تحولت إلى سرديات يقف عندها البحث الفلسفي إلى يومنا هذا. كان هيراكليتس موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه كما يعد مصدرًا رئيسًا في المادية الماركسية. ويعترف هيغل بقيمته الفلسفية ويعطيه نيتشه اعتبارًا فلسفيًا كبيرًا، أما هايدغر فيجد فيه مادة دسمة للتأويل. فكما اعتبر هيراكليتس العالم كرموز استوجب تأويلها يرى هايدغر في مقولاته رموزًا مشفرة تحتاج التأويل. في هذا المقال سنسلط الضوء على استحالة الهوية عند هيراكليتس. ويُكتب بالعربية هيراكليتيس أو هيراكليتس أو هرقليطس.

حياة هيراكليتيس

تبدأ مع هيراكليتس مرحلة جديدة من تاريخ الفلسفة من حيث موقعة الحدث الفلسفي أو فيما يتعلق بالمنهج. ولد الفيلسوف في أفيسيوس في العقد الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. لا نكاد نعرف شيئا عن حياته سوى ملاحظات نقلها بعض المؤرخين مثل ديوجين اللايرتسي. بالنسبة لفلسفته، بقت بعض الشذرات المنسوبة إليه مع مناقشة أفلاطون وأرسطوطاليس النقدية لآرائه. ثمة سمات مهمة في شخصيته يستوجب ذكرها لأهميتها في تشريح أفكاره ونظرياته المثيرة للجدل.

السخرية عن هيراكليتيس

كان هيراكليتيس يسخر من معظم فلاسفة وشعراء اليونان مثل هومر وهزيود. كان يعتبر نفسه الفيلسوف الأوحد ويزدري الآخرين جميعًا. هذه المركزية حول الذات دفعته إلى الانتحار.

مهاجمة الدين

كان ينفي القدسية عن الدين ويتهم رجال الدين بالمتاجرة بالمقدس.

الانعزال

مال هيراكليتيس إلى العزلة، وعُرف بشخصيته المكتئبة؛ فسمي بالفيلسوف الباكي. [1]

الصيرورة عن هيراقليطس

إن المساهمة الهيراكليتية في فكرة الصيرورة ما زالت تحتفظ ببريقها في الفلسفة وبصورة جمالية في الأدب والفن. مع أنها كانت تمثل حجر الزاوية في الفلسفة الملطية بيد أن تناول هيراكليتس لها يعد منعطفًا أصيلًا في الفلسفة.

هذا ما جعل من هيراكليتس فيلسوفًا معروفًا هو مقولته:

“لا ننزل إلى نفس النهر مرتين”

ويشكل هذا القول جوهر فلسفته.

يؤمن هيراكليتس بما يمكن تسميته باستحالة الهوية، فيقول: “لا شيء يستقر على حال، لا شيء يدوم” معلنًا لا واقعية الواقع [2].

فما نسميه بالواقع ما هو سوى جريان مستمر على جميع الأصعدة: الأنطولوجي، الكوزمولوجي، الأخلاقي والأبستومولوجي. لا يوجد استقرار مادي، ولا وجود لرأي صائب دومًا ولا قيمة أخلاقية تدوم. ذلك لأن “الزمن طفل يلعب بالدمى”[3]. فيقول” ننزل إلى النهر نفسه ولا ننزل، نكون ولا نكون”، وأيضًا “لا يمكن النزول إلى النهر نفسه مرتين”. [4]

اللوغوس وصراع الأضداد

إن النزعة الصوفية لدى هيراكليتس تجعله يميل إلى السردية الصوفية الأشهر، وحدة الوجود، وجود واحد وكثير في الحين نفسه. غير أن هذه الوحدة لا تشبه الوحدة الملطية، طاليس والماء، أناكسيماندر والأبيرون، أناكسيمينس والهواء. فهي وحدة توجد بوجود الاختلاف والكثرة مع أن هيراكليتس نفسه يتمسك بمبدأ العنصر الواحد، النار.

يعلن هيراكليتس بأن “العالم لم يخلقه إله أو بشر، فهو كان ويكون وسيكون إلى الأبد” [4] وإن هذا العالم يعيش حالة صراع دون أي أمل بالخلاص ذلك لأن العالم ما هو إلا هذا الصراع. فيقول على ذلك “إن الواحد لا يوجد إلا في توتر الأضداد، ذلك التوتر الأساسي والجوهري لوحدة الواحد”[5] ويعلق على جوهرية الصراع بقوله “علينا أن نعرف أن الحرب هي العامل المشترك في كل شيء، وأن الصراع هو العدالة، وأن جميع الأشياء تظهر وتختفي من خلال الصراع”[5].

وكان يعتبر ما قاله هومر (ينبغي أن ينتهي الصراع بين الآلهة والناس) بقوله “فهو لم يدرك أنه يدعو لخراب العالم، فلو استجيبت دعوته لاختفت جميع الأشياء”.[6] وهذا الصراع محكوم بعقل كلي، اللوغوس من خلال الطريق الصاعد والهابط التي تشكل تناغمًا خفيًا في الكون.

نظرية المعرفة

يدعي هيراكليتس بأنه تعلم ذاتيًا ودون حاجة إلى معلم. هذا الإدعاء من شأنه أن يثير الإشكال الإبستمولوجي التقليدي، أي مصدر المعرفة. فهل المعرفة/التعلم تذكر وحسب كما زعم سقراط؟ أم أن الحواس هي مصادر معرفتنا كما ذهب السفسطائيون؟

الاقتصاد الهيراكليتي لا يعتمد على مصدر واحد فقط. ويعتقد هيراكليتس بأن الكل واحد والواحد هو الله/لوغوس وهذا الكل/العالم منظم بشكل مفهوم. وما يساعدنا على الفهم هو العقل، التجربة الحسية.

بالنسبة للحواس يقول “أفضل ما هو قابل لأن يُرى ويُسمع ويُجرب” لكنه في شذرة أخرى يقلل من شأن الحواس لصالح العقل، العقل في علاقته مع الفهم اللغوي ويقول “تمثل العيون والآذان شهودًا مساكين لمن هم يمتلكون روح البرابرة”[7] مع أن العالم لا يوجد بل يصير إلا أنه يُفهم، فاستحالة الهوية المتأصلة في فلسفة هيراكليتس المادية لا تغطي الحقل الإبستمولوجي.

المعرفة ممكنة في عالم غير ممكن الوجود. بيد أنه فهم العالم عن طريق العقل لا يعني بأن الحقيقة توجد في العقل أو يمكن القبض عليها من خلال توجيه عين العقل نحو جهة الحقيقة.

إن العالم الماثل أمامنا تنوجد حقيقته داخل اللغة، اليونانية على سبيل الحصر. فاللوغوس لا يقدم حقيقته كما هي بل على شكل رموز مشفرة وأسرار واقعة في علامات لغوية؛ إن طريق المعرفة غير مباشر. فيقول بأن “الإله الذي توجد كاهنته في دلفي لا ينطق بالمعنى ولا يخفيه بل يكشف عنه بالرمز وحسب”. بذا، فأن هيراكليتس الصوفي يتفلسف ألغازًا وباستخدام أدوات خطابية غير مفهومة وسمي على أثر ذلك بالفيلسوف “الغامض”. [7].

رؤية هيراكليتس للعالم

إن هيراكليتس يصور العالم من خلال الصراع الموجود فيه، بحيث كل ما هو ماثل في العالم نتيجة حتمية للصراع الموجود بين الأضداد. هذا التصور له أبعاد كثيرة، فمن الناحية الأبستومولوجية فالحقيقة لا ترقد هنا أو هناك في حالة مستقرة. ومن الناحية الكوزمولوجية فالشيء محكوم بالتغيير والصيرورة وهو في حالة جريان مستمر. وحتى الجانب الأخلاقي لا يسلم من هذا الصراع، فما هو صائب يغدو خطأ والعكس صحيح. مع أن هيراكليتس كان ضد الله الدين والكهنوت لكنه يحيل العالم كله إليه، فهو الكل، وما الأشياء إلا وحداته وعناصره.

ما هي النفعية؟

هل يمكن أن يبرر هتلرالمحرقة؟ لأن النهاية أو الغاية كانت لتنقية الجنس البشري؟ أو يمكن أن يبرر ستالين ذبحه للملايين لأنه كان يحاول تحقيق يوتوبيا شيوعية؟ أيمكن للأميركيين في القرن الثامن عشر تبرير العبودية على أساس أنها قدمت نتيجة جيدة لغالبية الأمريكيين؟ من المؤكد أن الغالبية استفادت من عمل الرقيق الرخيص، على الرغم من أن حياة العبيد السود كانت غير إنسانية! هل يمكن أن تصبح عبدًا لمعبودًا أكبر يسمى ” الصالح العام”؟ من يحظى بالقيمة الأكبر؟ أنت (كوحدة بناء المجتمع) أم الصالح العام؟ وهل هناك من يمكن أن يستحق الإزدراء؟ هل الغاية تبرر الوسيلة؟ وما هي النفعية؟

تخيل أن هناك رجلاً يُدعى “مراد”، رجل فقير وعاطل عن العمل في إحدى أحياء القاهرة الكبرى. يعول أسرة مكونة من أربع أفراد أُخر. زوجته “سارة” ذات الصحة الهزيلة، فهي مريضة بمرض مزمن، تكلفها أدويته قرابة 300 جنيهُا مصريًا كل أسبوع. وأطفالهم الصغار س، ص، ع لم يستطيعوا الحصول على أدوات التعليم الكافية كأقرانهم لمحدودية دخل والدهم. فلا يستطيعون تلقي دروسًا خاصة لتحسين مستواهم الدراسي- انتظر، إن ظروفهم تلك تمنعم من الانتظام بالدراسة في المدرسة أساسًا.

لا يوجد مصدر دخل لمراد، ليس لديه أملاك أو حيازات يمكنه بيعها مقابل المال. بل ليس لديه أي أصدقاء يمكنهم مساعدته، فقد قطع صديقه الوحيد “عادل” كل السُبل بينهما لكونه كثير المشاكل والشكوى والاقتراض.

الآن يجب عليه التصرف لكونه مسئولاً عن تلك الأرواح -على الأقل-.

تحدثت إليه نفسه، قائلة: لا يوجد لديك سوى بديلين: إما أن يتركهم لتدركهم رحمات الله. أو أن يحصل على المال عن طريق السرقة، فيسرق من صديقه عادل ما يغطي احتياجات أسرته.

دعنا نضع هذا الموقف أمام معيارين. بالأحرى مبدأين.

الأول نعلم جميعًا أن السرقة خطأً أخلاقيًا. فإن فعل -من هذا المبدأ- سنقول أن ما فعله مُراد- السرقة من صديقه عادل- خطأ أخلاقيًا!

المبدأ الثاني، سيخبرك بأن ما فعله مراد جائز وصحيح أخلاقيًا!

ما رأيك أنت الآن، وإلى أي مبدأ ستنتمي؟

فكر، أليس فعل السرقة خطأ؟

ألا يلحق بالضرر على الآخر؟

أحاجة عادل للمال بنفس قدر حاجة مراد إليه؟

الفعل ورد الفعل

بالنسبة للمنتمي للمبدأ الثاني، فإن فعل السرقة في حد ذاته ليس سيئ أو جيد، فهو فعل عادي. فما يجعله سيئ أو جيد هو العواقب التي تنتج عنه.

ففي المثال السابق ذكره، سرق مراد من شخص واحد ( صديقه عادل)  لديه حاجة أقل للمال. ومن ثم، أنفقه على ثلاثة أشخاص لديهم حاجة أكبر إليه. إذًا فإن سرقة مراد من عادل هي وسيلة إن استُخدمت الأموال في علاج سارة والرسوم الدراسية لـ س وص وع. يستند هذا التبرير على أن فوائد السرقة تفوق الخسائر الناجمة عنها. ففعل مراد من السرقة هو حق أخلاقيًا لأن إيجابياته  أكثر من سلبياته. وبعبارة أخرى، أنتجت السرقة المزيد من المتعة أو السعادة من الألم أو التعاسة، هذه هي النفعية.

ما هو مبدأ النفعية؟

النفعية هي شكل من أشكال التبعية. من أجل التبعية، يعتمد الصواب الأخلاقي أو الخطأ في الفعل على العواقب التي ينتجها. وبناءً على ذلك، فإن الفعل الذي تفوق عواقبه السلبية النتائج الإيجابية يعتبر خطأً أخلاقيًا. في حين أن الفعل الذي تفوق عواقبه الإيجابية النتائج السلبية يعتبر صحيحًا أخلاقيًا. على أسس نفعية، فإن الأفعال التي تفيد قِلة من الناس وتضر بمزيد من الناس ستعتبر خاطئة أخلاقيًا. بينما تُعتبر الأفعال التي تضر بعدد أقل من الناس وتفيد عدد أكثر من الناس صحيحة أخلاقيًا.

يمكن وصف المنفعة والضرر بأكثر من طريقة؛ بالنسبة للنفعيين الكلاسيكيين مثل جيريمي بنثام– Jeremy Bentham وجون ستيوارت ميل-John Stuart Mill، تُعرف النفعية من حيث السعادة/التعاسة والمتعة/الألم. من هذا المنطلق، فإن السلوكيات التي تسبب ألمًا/ تعاسة أقل، ومتعة/سعادة أكثر يمكن اعتبارها  صحيحة أخلاقيا، والعكس صحيح.

على الرغم من أن المتعة والسعادة يمكن أن يكون لهما معانِ مختلفة، إلا أنه في هذا السياق سنعاملهما على أنهما مترادفان.

أين القلق إذًا؟

قلق النفعيين هو كيفية زيادة الفائدة. فتستند نظريتهم الأخلاقية على مبدأ المنفعة الذي ينص على أن “العمل الصحيح أخلاقيًا هو العمل الذي ينتج خيرًا أكثر”

العمل الخاطئ أخلاقيًا هو الذي يؤدي إلى الحد الأقصى من الخير. على سبيل المثال، قد يجادل النفعي أنه على الرغم من أن بعض اللصوص المسلحين سرقوا أحد البنوك في عملية سرقة، طالما أن هناك عددا أكبر من الأشخاص الذين يستفيدون من السرقة  أكثر من الأشخاص الذين يعانون من السرقة فإن السرقة ستكون صحيحة أخلاقيا وليست خطأ أخلاقي. وعلى هذه الفرضية النفعية, إذا كان المزيد من الناس يعانون من السرقة بينما يستفيد منها عدد أقل من الناس, ستكون السرقة خطأً أخلاقيًا!

ما الفرق بين القاعدة النفعية والقاعدة الأخلاقية؟

من الملاحظ أن النفعية تعارض علم الأخلاق، فالنظرية الأخلاقية تقول أنه كعوامل أخلاقية لدينا واجبات أو التزامات معينة، يتم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الواجبات أو الالتزامات من حيث القواعد. الفرق بين القاعدة النفعية والقاعدة الأخلاقية هو أنه وفقا للقاعدة النفعية، فإن التصرف وفقا للقاعدة صحيح، فإن قبلت واتُبعت على نطاق واسع، ستنتج الأكثر فائدة. ووفقًا لعلم الأخلاق، ما إذا كانت عواقب أفعالنا إيجابية أو سلبية لا تحدد صوابهم الأخلاقي أو الخطأ الأخلاقي. ما يحدد صوابهم الأخلاقي أو خطأهم الأخلاقي هو ما إذا كنا نتصرف أو لا نتصرف وفقا لواجبنا (إذ يستند الواجب إلى قواعد لا تبررها في حد ذاتها عواقب قبولها واتباعها على نطاق واسع).

ما هي بعض أنواع النفعية؟

كل ما ذكر أعلاه هو وصف عام، وفي الواقع هناك عدة وجهات نظر من النفعية يمكن تمييزها كالآتي:

النفعية السلبية

هذا النوع من النفعية يتطلب تعزيز أقل قدر من المعاناة لأكبر عدد من الناس. هذا على النقيض من جميع أنواع النفعية الأخرى (النفعية العامة أو “الإيجابية”) التي تستند إلى القاعدة العكسية تقديم أكبر قدر من المتعة لأكبر عدد من الناس. ويأتي تبرير النفعية السلبية بأن أكبر الأضرار هي أكثر تبعية (الضرر هو نتيجة أكبر من المتعة) من أعظم المتعة، وبالتالي يجب أن يكون لها تأثير أكبر على صنع القرار.

إذًا تخيل أن تؤدي بنا النفعية السلبية إلى اتباع أقل الطرق إيلامًا لقتل جميع البشر، هذا لأنه بعد وفاة الجميع، لن يكون هناك المزيد من المعاناة على الإطلاق للبشرية، مما يضمن وجود أقل قدر من الألم في العالم، ذلك هو الانتقاد الموُجهة لتلك الرؤيةز أما الحجة المضادة لهذا هو أن للألم والمعاناة الأولوية على المتعة. ولكن يثير ذلك مسألة كم من الألم يستحق أو يعادل كم من المتعة وكيف يمكن تحديد ذلك؟

النفعية الواعية   

هذا هو النوع من النفعية الذي يعطي الاعتبار على قدم المساواة لجميع الكائنات الحية -ليس البشرفقط-. لذلك، يمكن أن تشمل هذه النظرة النفعية  الآخرين -عند النظر في نوع من النفعية، يجب أن تسأل عما إذا كانت تراعي الحيوانات الأخرى غير البشر أم لا، سواء كانت تلك “الواعية” أم لا. فالكائنات الحية جميعها (قرودًا، وكلابًا وقططًا… وسائر الحيوانات الأخرى) تعتبر واعية وتشعر بالألم. وبالتالي، يجب أن نوليها اعتبار متساو.

يجادل النقاد بأن احتياجات البشر أكثر أهمية من احتياجات الحيوانات الأخرى لأن البشر أكثر ذكاء ، وذكائهم هو الذي يجلب السعادة للجميع.

الحجة المضادة لذلك هي أن هذه الفكرة ستنطبق أيضا على البشر أنفسهم، فستصنف احتياجات البشر الأكثر ذكاء على أنها أكثرأهمية من تلك الأقل ذكاء!

فهل تلك هي فكرة مقبولة؟ وستتقدم النفع للجميع بشكل متكافئ؟

متوسط النفعية

دعنا نسأل مرة أخرى، إذا كانت تعتمد النفعية على تحقيق النفع والسعادة مقابل آلام ومعاناة أقل، فكيف نقرر مقدار أو متوسط “المنفعة” التي يجب يتمتع بها المجتمع حتى نتمكن من المقارنة وتحديد أفضل طريقة للتصرف؟

يشير متوسط النفعية إلى أننا نقيس الفائدة للأفراد عن طريق حساب متوسط المنفعة (معرفة فائدة جميع الناس ثم القسمة على عدد الأشخاص) من هؤلاء الأفراد.

مثلاً، حدد للأفراد متوسط فائدة/سعادة هو 90 (حيث الحد الأقصى للشخص هو100). معظم الناس هنا سعداء جدا، لذلك إذا قمت بإضافة شخص ما مع متوسط فائدة/سعادة فقط 80 (لا يزال سعيدًا جدًا)، متوسط النفعية ستقضي بأن ذلك عمل غير أخلاقي، لأن أقل 80 من شأنه أن يجلب متوسط فائدة (90) من الآخرين.

متوسط النفعية يدعو إلى إزالة جميع الأفراد الذين هم أقل من المتوسط في السعادة/النفع. وهذا من شأنه أن يخلق دوامة، فمن بعد إزالة المتوسط أدناه سيكون هناك متوسط جديد، وبالتالي بعض الناس الذين كانوا فوق المتوسط (قبل أن تصبح أقل من المتوسط) سيزالوا. سيستمر هذا حتى لا يكون هناك سوى عدد قليل من أسعد الأفراد على حد سواء!

حجة مضادة لهذا هو أنه من خلال إزالة الناس حزينة بعيدا عن الأفراد أكثر سعادة، فإن متوسط فائدة/السعادة للمجتمع تنخفض، فسيكون هناك شعور المجتمع من الخسارة والشفقة على تلك الفئة التي أزيلت.

النفعية الكلية

هذه وجهة نظر بديلة لمتوسط النفعية وتتحول من مجرد مفارقة الإضافة إلى القياس الأفضل للسعادة/المنفعة وذلك من خلال المنفعة/السعادة الكلية التي يمتلكها المجتمع.

ومع ذلك، فإن هذا النوع تشوبه بعض الشوائب، على سبيل المثال، المجتمع الذي يحتوي على 1 مليون شخص لديهم جميعا فائدة منخفضة، دعنا نقول فقط 1 من أصل 100، سيكون له فائدة إجمالية قدرها 1 مليون والتي ستكون أكثر تفضيلا لمجتمع من 1,000 شخص فقط سعداء جميعا بفائدة 100 لكل منهم.

الاستنتاج هنا هو أن المجتمع الأكبر سكانًا ولكن في المتوسط أقل سعادة هو أكثر تفضيلاً من مجتمع أكثر سعادة ولكنه أقل سكانًا.

النفعية الدافعة

يتضمن هذا النوع من النفعية دوافع الناس لأفعالهم ويعطي لها وزنا عند تحديد ما إذا كان الإجراء صحيحا أو خاطئًا أخلاقيًا. إذا كان من المعروف أن شخصا ما يقوم بعمل جيد على ما يبدو بدوافع غير أخلاقية، فقد يعتبر هذا الإجراء غير أخلاقي عند استخدام النفعية الدافعة. تشير النفعية الدافعة أيضا إلى غرس الدوافع التي ستكون ذات قيمة عملية في أنفسنا من خلال التدريس حتى نفعل الشيء الصحيح عندما يتعلق الأمر به.

باختصار، تعتبر النفعية الدافعة الحالة النفسية للبشرعند الرغبة في أو القيام بأفعال معينة.

القاعدة النفعية

القاعدة  النفعية تتعلق بالقواعد الأخلاقية العامة التي يجب عليك اتباعها عند اتخاذ القرارات. من المفترض أن تسهل هذه القواعد العمل الأخلاقي الذي يزيد من المتعة بغض النظر عن كيفية تطبيقها. فإذا كانت القاعدة العامة لا تقوم بالدور المطلوب، توضع قواعد فرعية أو قواعد استثنائية عامة بحيث تعمل لصالح تعظيم السعادة/المنفعة.

على سبيل المثال، قد تكون القاعدة العامة المتبعة هي عدم قتل إنسان مطلقا، وقد يكون الاستثناء من هذه القاعدة أن القتل مقبول عندما يتم دفاعا عن النفس. ألا ترى أن هذا يجعل النفعية أكثر عملية  وقابلية للاستخدام في حياتنا اليومية؟ إذ لا توجد حاجة إلى حسابات طويلة أو تحليل نقدي. ومع ذلك، فإن العديد من المواقف الصعبة  لن يكون لها قواعد. وربما لن نكون قادرين على وضع قواعد كافية لاستيعاب جميع الحالات إذا حاولنا. يجادل العديد من النقاد بأن تحليل القواعد العامة الأصلية من أجل إضافة المزيد من قواعد الاستثناء العامة الأخلاقية هو نفس عملية النفعية.

الفعل النفعي

من منظور الفعل النفعي، نحن مطالبون بتعزيز تلك الأعمال التي ستؤدي إلى أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس. فعواقب فعل إعطاء المال للجمعيات الخيرية ستعتبر صحيحة في النفعية، لأن المال يزيد من سعادة كثير من الناس، بدلا من نفسك فقط.

كما تتطلب هذه الرؤية من النفعية أخذ كل حالة على حدة وأن تجرى الحسابات المناسبة لكل منها. فتُحسب احتمالات العواقب لكل إجراء محتمل ومن ثم يجب اختيار الإجراء الذي من المحتمل أن يؤدي إلى أكبر قدر من السعادة.

النفعية ذات المستويين

النفعية على مستويين هي نظرية النفعية للأخلاق، فيجب أن تستند القرارات الأخلاقية للشخص إلى مجموعة من القواعد الأخلاقية. إلا في بعض الحالات النادرة التي يكون فيها من الأنسب الانخراط في مستوى “حَرِج” من التفكير الأخلاقي.

المستوى الأول يستخدم القاعدة النفعية (على أساس الحدس لدينا) لأنها فعالة (في كل من الوقت والتأثير) . ومع ذلك، يستخدم المستوى الثاني من النفعية عندما يتطلب الموقف المزيد من التفكير والتفكير الفعال.

هذا النظام من استخدام القواعد الأخلاقية العامة للقرارات البسيطة اليومية و التحليل الجاد والحساب للقرارات هو الأكثر أهمية إذ يحاول اتخاذ أفضل ما  في المستويين  من النفعية وجعلها أكثر عملية. المشكلة الواضحة لهذه النفعية تكمن في تحديد متى نستخدم القاعدة النفعية ومتى نستخدم الفعل النفعي.

انتقادات

إن إنتاج أكبر قدر من الخير لأكبر عدد أمر جيد طالما أنك لا تؤذي شخصا تحبه حقا في هذه العملية, فما هي بعض الانتقادات الموجهة لمثل هذا المبدأ؟ هناك بالفعل انتقادات فمثلاً، عندما تتقابل النفعية مع المشاعر تنتج المشاكل، إليك بعض تلك الانتقادات.

1-  كثير من الناس يعتقدون أنه من الصعب قياس السعادة. ومن الصعب جدًا مقارنة مستويات الناس مختلفة من السعادة.

الرأي المضاد لهذا: هو أن هناك تقديرات تقريبية في الحياة الحقيقية. فنحن نستطيع إدراك ما إن كان شخص ما حزين أو سعيد أو أكثر سعادة من خلال الطريقة التي يتصرف بها.

2- يعتبر البعض في بعض أشكال النفعية، أن متعة السادي تساوي متعة الإيثار.

الرأي المضاد: في الواقع، ينتج عن السادية متعة قصيرة المدى ولكن على المدى الطويل يؤدي إلى معاناة وألم. وبالتالي فإن السماح بأي نوع من المتعة السادية سيؤدي في الواقع إلى متعة أقل في المستقبل. من ناحية أخرى، تؤدي الأفعال الإيثارية إلى المتعة والرضا على المدى القصير والطويل، وبالتالي لا يجب أن يعطيا نفس الوزن.

3- يقول البعض أنه على الرغم من أهمية السعادة، إلا أن هناك أشياء أخرى يجب مراعاتها عند اتخاذ قرارات مثل المساواة والعدالة.

قد يجادل النفعيون بأن الغرض الرئيسي من السعي لتحقيق أي عواقب أخرى مثل المساواة والعدالة. سيكون في الأساس تحقيق أقصى قدر من السعادة، لأن معظم الناس يشعرون بالسعادة عندما يشعرون بأنهم متساوون ويلمسون وجود العدالة في حياتهم.

مقياس السعادة

عندما تواجه قرارا أخلاقيا، كيف يمكنك معرفة مسار الفعل الذي سيزيد من السعادة؟ نحن لا نرى ما في أذهان الآخرين (الجماعة)، لذلك لا يمكننا معرفة ما إذا كانوا سعداء حقًا أو ما إذا كانوا يقولون أنهم كذلك. وحتى لو استطعنا إدراك السعادة، كيف يمكننا التنبؤ بما قد يسببها؟ على سبيل المثال، يعتقد الكثير من الناس أن كسب الكثير من المال سيجعلهم سعداء. لذا فإن أفضل خيار نفعي هو التأكد من أن كل شخص لديه وظيفة جيدة ومناسبة. ومع ذلك، يمكن القول بأن المال يجلب السعادة فقط على المدى القصير، وأنه قد يكون الخيارالأفضل لبعض الناس الآخرين. في الحقيقة نحن كبشر، لا نعرف كيف نجعل أنفسنا سعداء. فكيف يمكننا أن نثق بأنفسنا لاتخاذ قرارات أخلاقية على هذا الأساس.

هل الغاية تبرر الوسيلة؟

نود أن نختتم تلك المقالة بإعادة طرح وإعادة النظر في السؤال الذي بدأنا به: هل الغاية تبرر الوسيلة؟

لقد تناولنا النفعية لمحاولة الإجابة من وجهة نظرها، فيمكن الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. في حين أن الجواب معقول وصحيح للنفعيين، إلا أنه غير قابل للتصديق من قِبل آخرين، ولا سيما بالنسبة لعلماء الأخلاق.

المصادر

utilitarianism
utilitarian
journals
stanford
lumenlearning
corporatefinanceinstitute
tamu
stanford

كيف ترتبط الموسيقى بالهوية الفردية؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 11 في سلسلة أثر الموسيقى وتطورها

يقول الفنان البريطاني كيث ريتشاردز :

“الموسيقى ضرورية، تأتي في مرتبة تلي الطعام والهواء والماء والدفء. الموسيقى هي ضرورة من ضرورات الحياة.”

يختصر ريتشاردز بهذه الجملة المَرتبة التي تحتلّها الموسيقى عند الأفراد والشعوب، إذ ترافقهم بكل مناسباتهم وتصبح جزءًا لا يتجزأ من هويتهم الفردية والجماعية. فماذا نعني بالهوية؟ و كيف ترتبط الموسيقى بالهوية الفردية؟

مفهوم الهوية الفردية

يشكّل تعريف مفهوم الهوية تحديًا بنفسه، إذ لا يتفق الأكاديميون على تعريف موحّد لهذه الكلمة. من جهة، تعني الهوية الفردية مجموعة الخصائص والسمات التي تعرّف عن شخص وتميّزه عن باقي الأفراد. من جهة أخرى، تعني الهوية الصورة التي يكوّنها كل شخص منا عن نفسه و/أو الصورة التي يعكسها للآخرين.

ويحمل السؤال عن الهوية “من أنا؟ من أنت؟” في طيّاته الكثير من الأبعاد التي أثارت جدلًا فلسفيًا واسعًا. فهل الهوية ذات طبيعة بيولوجية، أي أنها محصورة بالجسد؟ أم أنها ذات طبيعة نفسية، وتتعلّق بالدماغ والذاكرة؟ وإذا فقد الانسان ذاكرته مثلًا، فهل يفقد هويته ويصير إنسانًا آخرًا؟

كل هذه الأسئلة دارت بشكل أساسي حول سمتين متناقضتين للهوية: الثبات والتغيير. فمن ناحية، تحمل الهوية نوعًا من الثبات بطبيعتها، ولكنها أيضًا في تغيير وتفاعل دائم مع محيطها، أي أن كل شخص منا، رغم امتلاكه هوية خاصة به، فإن هذه الهوية في تطور دائم مع الزمن.

الموسيقى والهوية الفردية

ممّا لا شك فيه أن الموسيقى هي من أهم الفنون التعبيرية، إذ أن كل قطعة موسيقية تعبّر عن شعور وأيديولوجية وثقافة معينة. لذلك فإن الحديث عن علاقة الموسيقى بالهوية غالبًا ما يقتصر على الوظيفة التعبيرية للموسيقى. ورغم أننا نميل إلى اعتبار أن الموسيقى التي نستمع إليها تلعب دورًا في تثبيت أفكار وسمات هوياتية نملكها في الأساس، لكن الموسيقى تلعب بالحقيقة دورًا أكثر عمقًا في تشكيل الهويات الفردية.

يصف العالم الموسيقي البريطاني “سيمون فريث – Simon Frith” الهوية بالعملية الذاتية الدائمة (Self in-process)، أي أن تشكيل الهوية وصقلها هو عملية مستمرة عبر الزمن.

ويعتبر فريث أن العلاقة بين الموسيقى والهوية لا تقتصر على دور الموسيقى في التعبير عن هويتنا، بل هي تسمح لنا باختبار عملية تشكيل الهوية، من خلال اكتشاف أفكار وأيديولوجيات جديدة نتأثر بها ونتفاعل معها. كما يعتبر فريث أن الموسيقى تشكّل إطارًا بشكل خاص للمراهقين لاختبار نطاق واسع من الحالات الشعورية والهويات، وبالتالي بناء شخصياتهم. إذًا، الموسيقى هي واحدة من القوى التي تساهم في صقل الهويات الفردية.

الموسيقى كأداة للسلطات عند ميشيل فوكو

لا يعيش الفرد في مكان منعزل، بل هو يتفاعل ويتأثر بمحيط واسع، وبالتالي فإن صقل هويته الفردية يتأثر بكل القوى المحيطة به. بحسب ميشيل فوكو، السلطة موجودة في كل مكان، وهي تؤثر على كل مجالات حياتنا، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الصحة إلى التعليم وصولًا إلى الفن.

إذًا فإن تأثرنا بالموسيقى وحكمنا عليها يتأثر بهذه السلطة، وتتأثر تجارب اختبارنا للموسيقى بما تعلمناه عن الموسيقى في المدرسة، وبما نعرفه عن الموسيقى من الإعلام، وبرؤوس الأموال والانتاجات الموسيقية.

الموسيقى المحيطة بنا ليست عشوائية إذًا، وهي تتأثر بالبنية الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. وتختلف الأنواع الموسيقية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.

الموسيقى بين جوديث باتلر وفوكو

ينظر فوكو إلى الهوية الفردية كنتيجة للقوى والسلطات الاجتماعية، ولا يراها كخيار. بالمقابل، ترى الفيلسوفة الأميركية “جوديث باتلر – Judith Butler” أن الهوية الفردية تتأثر بالقوى الاجتماعية، لكنها أيضًا تملك مساحة من الحرية وتقرير المصير. وتسمي هذه المساحة بمساحة “الارتجال”، أي تعتبر عملية تشكيل الهوية نوعًا من العرض الموسيقي، الذي رغم تحديده بقيود معينة، له مساحة من الارتجال والحرية.

لم تكن الموسيقى يومًا مجرد أداةً للترفيه، بل هي تشكل جزءًا من صميم هوية كلً منا، وترتبط خياراتنا الموسيقية بشكل وثيق بشخصياتنا وهوياتنا.كما تُستخدم الموسيقى التي نستمع إليها في حياتنا اليومية بصقل أيديولوجياتنا وتشكيل هوياتنا الفردية والجماعية. من هنا، يمكن فهم اعتبار ريتشاردز للموسيقى كحاجة حيوية على الصعيد النفسي والهوياتي.

المصادر:

Coursera
Taylor& Francis online
Questions of cultural identity, Chapter 7, Music and Identity

إقرأ أيضًا: الموسيقى والتسويق: كيف تؤثر الموسيقى على سلوكك الشرائي؟

Exit mobile version