هيراكليتس واستحالة الهوية

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

هيراكليتس واستحالة الهوية

يمثل بعض الفلاسفة، القدماء على وجه التحديد، رمزية تاريخية لا غير، لنقلهم الأسئلة الكونية من المحافل الدينية إلى دار الفلسفة. بيد أن هيراكليتس لا يزال يحتفظ بملكيته في الفلسفة، فهو ملهم الكثير من الفلاسفة ومقولاته تحولت إلى سرديات يقف عندها البحث الفلسفي إلى يومنا هذا. كان هيراكليتس موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه كما يعد مصدرًا رئيسًا في المادية الماركسية. ويعترف هيغل بقيمته الفلسفية ويعطيه نيتشه اعتبارًا فلسفيًا كبيرًا، أما هايدغر فيجد فيه مادة دسمة للتأويل. فكما اعتبر هيراكليتس العالم كرموز استوجب تأويلها يرى هايدغر في مقولاته رموزًا مشفرة تحتاج التأويل. في هذا المقال سنسلط الضوء على استحالة الهوية عند هيراكليتس. ويُكتب بالعربية هيراكليتيس أو هيراكليتس أو هرقليطس.

حياة هيراكليتيس

تبدأ مع هيراكليتس مرحلة جديدة من تاريخ الفلسفة من حيث موقعة الحدث الفلسفي أو فيما يتعلق بالمنهج. ولد الفيلسوف في أفيسيوس في العقد الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. لا نكاد نعرف شيئا عن حياته سوى ملاحظات نقلها بعض المؤرخين مثل ديوجين اللايرتسي. بالنسبة لفلسفته، بقت بعض الشذرات المنسوبة إليه مع مناقشة أفلاطون وأرسطوطاليس النقدية لآرائه. ثمة سمات مهمة في شخصيته يستوجب ذكرها لأهميتها في تشريح أفكاره ونظرياته المثيرة للجدل.

السخرية عن هيراكليتيس

كان هيراكليتيس يسخر من معظم فلاسفة وشعراء اليونان مثل هومر وهزيود. كان يعتبر نفسه الفيلسوف الأوحد ويزدري الآخرين جميعًا. هذه المركزية حول الذات دفعته إلى الانتحار.

مهاجمة الدين

كان ينفي القدسية عن الدين ويتهم رجال الدين بالمتاجرة بالمقدس.

الانعزال

مال هيراكليتيس إلى العزلة، وعُرف بشخصيته المكتئبة؛ فسمي بالفيلسوف الباكي. [1]

الصيرورة عن هيراقليطس

إن المساهمة الهيراكليتية في فكرة الصيرورة ما زالت تحتفظ ببريقها في الفلسفة وبصورة جمالية في الأدب والفن. مع أنها كانت تمثل حجر الزاوية في الفلسفة الملطية بيد أن تناول هيراكليتس لها يعد منعطفًا أصيلًا في الفلسفة.

هذا ما جعل من هيراكليتس فيلسوفًا معروفًا هو مقولته:

“لا ننزل إلى نفس النهر مرتين”

ويشكل هذا القول جوهر فلسفته.

يؤمن هيراكليتس بما يمكن تسميته باستحالة الهوية، فيقول: “لا شيء يستقر على حال، لا شيء يدوم” معلنًا لا واقعية الواقع [2].

فما نسميه بالواقع ما هو سوى جريان مستمر على جميع الأصعدة: الأنطولوجي، الكوزمولوجي، الأخلاقي والأبستومولوجي. لا يوجد استقرار مادي، ولا وجود لرأي صائب دومًا ولا قيمة أخلاقية تدوم. ذلك لأن “الزمن طفل يلعب بالدمى”[3]. فيقول” ننزل إلى النهر نفسه ولا ننزل، نكون ولا نكون”، وأيضًا “لا يمكن النزول إلى النهر نفسه مرتين”. [4]

اللوغوس وصراع الأضداد

إن النزعة الصوفية لدى هيراكليتس تجعله يميل إلى السردية الصوفية الأشهر، وحدة الوجود، وجود واحد وكثير في الحين نفسه. غير أن هذه الوحدة لا تشبه الوحدة الملطية، طاليس والماء، أناكسيماندر والأبيرون، أناكسيمينس والهواء. فهي وحدة توجد بوجود الاختلاف والكثرة مع أن هيراكليتس نفسه يتمسك بمبدأ العنصر الواحد، النار.

يعلن هيراكليتس بأن “العالم لم يخلقه إله أو بشر، فهو كان ويكون وسيكون إلى الأبد” [4] وإن هذا العالم يعيش حالة صراع دون أي أمل بالخلاص ذلك لأن العالم ما هو إلا هذا الصراع. فيقول على ذلك “إن الواحد لا يوجد إلا في توتر الأضداد، ذلك التوتر الأساسي والجوهري لوحدة الواحد”[5] ويعلق على جوهرية الصراع بقوله “علينا أن نعرف أن الحرب هي العامل المشترك في كل شيء، وأن الصراع هو العدالة، وأن جميع الأشياء تظهر وتختفي من خلال الصراع”[5].

وكان يعتبر ما قاله هومر (ينبغي أن ينتهي الصراع بين الآلهة والناس) بقوله “فهو لم يدرك أنه يدعو لخراب العالم، فلو استجيبت دعوته لاختفت جميع الأشياء”.[6] وهذا الصراع محكوم بعقل كلي، اللوغوس من خلال الطريق الصاعد والهابط التي تشكل تناغمًا خفيًا في الكون.

نظرية المعرفة

يدعي هيراكليتس بأنه تعلم ذاتيًا ودون حاجة إلى معلم. هذا الإدعاء من شأنه أن يثير الإشكال الإبستمولوجي التقليدي، أي مصدر المعرفة. فهل المعرفة/التعلم تذكر وحسب كما زعم سقراط؟ أم أن الحواس هي مصادر معرفتنا كما ذهب السفسطائيون؟

الاقتصاد الهيراكليتي لا يعتمد على مصدر واحد فقط. ويعتقد هيراكليتس بأن الكل واحد والواحد هو الله/لوغوس وهذا الكل/العالم منظم بشكل مفهوم. وما يساعدنا على الفهم هو العقل، التجربة الحسية.

بالنسبة للحواس يقول “أفضل ما هو قابل لأن يُرى ويُسمع ويُجرب” لكنه في شذرة أخرى يقلل من شأن الحواس لصالح العقل، العقل في علاقته مع الفهم اللغوي ويقول “تمثل العيون والآذان شهودًا مساكين لمن هم يمتلكون روح البرابرة”[7] مع أن العالم لا يوجد بل يصير إلا أنه يُفهم، فاستحالة الهوية المتأصلة في فلسفة هيراكليتس المادية لا تغطي الحقل الإبستمولوجي.

المعرفة ممكنة في عالم غير ممكن الوجود. بيد أنه فهم العالم عن طريق العقل لا يعني بأن الحقيقة توجد في العقل أو يمكن القبض عليها من خلال توجيه عين العقل نحو جهة الحقيقة.

إن العالم الماثل أمامنا تنوجد حقيقته داخل اللغة، اليونانية على سبيل الحصر. فاللوغوس لا يقدم حقيقته كما هي بل على شكل رموز مشفرة وأسرار واقعة في علامات لغوية؛ إن طريق المعرفة غير مباشر. فيقول بأن “الإله الذي توجد كاهنته في دلفي لا ينطق بالمعنى ولا يخفيه بل يكشف عنه بالرمز وحسب”. بذا، فأن هيراكليتس الصوفي يتفلسف ألغازًا وباستخدام أدوات خطابية غير مفهومة وسمي على أثر ذلك بالفيلسوف “الغامض”. [7].

رؤية هيراكليتس للعالم

إن هيراكليتس يصور العالم من خلال الصراع الموجود فيه، بحيث كل ما هو ماثل في العالم نتيجة حتمية للصراع الموجود بين الأضداد. هذا التصور له أبعاد كثيرة، فمن الناحية الأبستومولوجية فالحقيقة لا ترقد هنا أو هناك في حالة مستقرة. ومن الناحية الكوزمولوجية فالشيء محكوم بالتغيير والصيرورة وهو في حالة جريان مستمر. وحتى الجانب الأخلاقي لا يسلم من هذا الصراع، فما هو صائب يغدو خطأ والعكس صحيح. مع أن هيراكليتس كان ضد الله الدين والكهنوت لكنه يحيل العالم كله إليه، فهو الكل، وما الأشياء إلا وحداته وعناصره.

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

يحاول زكي نجيب محمود في كتابه “نظرية المعرفة” أن يعرض أبرز مشاكل المعرفة وكيف تعاطى معها الفلاسفة على مر العصور على اختلاف مذاهبهم الفكرية، فقام بحصر مشاكل المعرفة في ثلاثة أسئلة رئيسية:
1- ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟
2- ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟
3- هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟

وأفرد زكي نجيب محمود لكل سؤال منهم بابًا من الكتاب ليتحدث عنه سنناقشهم فيما يلي.

الباب الأول: طبيعة المعرفة

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الأول “ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟”، فقام بتقسيمه إلى ثلاثة فصول.

طبيعة المعرفة عند الواقعيين

• الواقعية الساذجة

إذا قلنا “على المكتب مصباح مضيء” فكلمة “مكتب” تكوّن في ذهنك صورة للمكتب، وكلمة “مصباح” تكوّن صورة مصباح، وكلمة “مضيء” تشير إلى الضوء المنبعث من المصباح، وكلمة “على” تشير إلى العلاقة بين المكتب والمصباح.
فيخلصون إلى حقيقة أن العالم موجود بذاته بغض النظر عن وجودنا، والدليل على ذلك هو أنك حين توجّه بصرك للنظر إلى شيء ما، فهذا الشيء كان موجودًا سواء نظرت إليه أم لم تنظر، كونك توجّه نظرك إليه دليل على وجوده المستقل غير المحتاج إلى وجودك.

ومن هنا يرى أصحاب نظرية الواقعية الساذجة في المعرفة أن معرفة الشيء هي صورة مطابقة للشيء المعروف.

ولكن هناك مشكلة، وهي أنك أنه وفقًا لهذه النظرية فإن معرفتك بالمكتب الذي أمامك ليست بالضرورة هي حقيقة المكتب، فقد تلمس المكتب فتشعر بصلابته، ثم يأتي عالم ليخبرك أن المكتب ما هو إلا مجموعة من الذرات التي يتكون مُعظم كل ذرة منها من الفراغ، فهنا ما ترصده بحواسك ليس بالضرورة هو الحقيقة.

كما أن رصد الشيء يتغير بتغير موقع الراصد أو زمان الرصد، فإذا أحضرنا 10 رسامين وأجلسناهم حول منضدة وطلبنا من كل منهم أن يرسم ما يراه، فسيرسم كل منهم ما يراه من المنضدة من زاوية نظره، فينتج لدينا 10 رسومات مختلفة للشيء نفسه.

وبالتالي فنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة بحاجة إلى تعديل يزيد من دقتها.

• الواقعية النقدية

تكمن مشكلة الواقعية الساذجة في أنها تلغي دور العقل البشري في المعرفة فتجعله مجرد متلقي لما يراه، إلا أن هذا ليس دقيقًا، فإذا رأيت برتقالة فأنت تعرف أنها برتقالة، ولكن كيف هذا؟

حدث هذا نتيجة لرؤيتك العديد من البرتقالات المختلفة في اللون والاستدارة والمذاق، إلا أن عقلك استطاع توحيد هذه الفروقات في صورة واحدة وقام بطرح الاختلافات ليسهل عليك التعرف على البرتقال متى رأيته.

فعندما ترى جسمًا مستديرًا ذا لون برتقالي وملمس معين تستطيع القول بأنه برتقالة، إلا أن هذه الصفات ليست على قدم المساواة، فبعضها صفات أولية، وهي صفات موجودة في الشيء بذاته. البعض الآخر صفات ثانوية وهي الصفات التي تنشأ من تفاعل الإنسان مع الشيء، فالبرتقالة مستديرة سواء نظرت إليها أم لم تنظر أو لمستها أم لم تلمسها، إذا فهذه صفة أولية.

لكن أشياء كلون البرتقالة ليست صفة أساسية في البرتقالة بذاتها، فلون البرتقالة لا يتكون إلا بعد سقوط الضوء عليها وانعكاسه إلى عينك، ومن ثم يتكون اللون في دماغك، كما أن طعم البرتقالة كذلك، فهو ينشأ عند اتصال البرتقالة بلسانك ليتكون الطعم في دماغك، وهذا يفسّر اختلاف طعم الأشياء وقت مرضك.

فبعض الصفات هي صفات ثانوية لا معنى لها إلا بوجود متلقي، فلا معنى للألوان بدون وجود عين ترى، ولا معنى للأصوات بدون وجود أذن تسمع، ولا معنى للحلاوة أو المرارة بدون لسان يتذوق.

وبالتالي فالواقعية النقدية ترى وعي الإنسان جزءًا من عملية المعرفة.

طبيعة المعرفة عند البراجماتيين

يرى البراجماتيون أن المعرفة هي الفكرة التي يترتب عليها فعل في الواقع العملي، فإذا لم يكن للفكرة فائدة عملية فإنها لا ترقى لأن تكون معرفة، ويمكن أن تكون لدينا فكرتين صحيحتين، ولكن واحدة فيهم أصح من الأخرى، وهذه الأصح هي الحقيقة التي تقدم أكبر إفادة لنا، أي أنني إن أخبرتك بوجود تنين خارج الكون لا يمكنني أن أراه أو أسمعه أو أتواصل معه، فإن هذه في نظر البراجماتيين ليست معرفة، فلا يترتب على علمي بأمر هذا التنين فعل أفعله.

طبيعة المعرفة عند المثاليين

المعرفة من منظور المثاليين مصدرها العقل، فهم لا يعترفون بوجود العالم الخارجي بشكل مستقل عن الإنسان – كما يرى الواقعيون والبراجماتيون -، فالعالم بالنسبة للمثاليين هو ما يدور في عقل الإنسان، مثال:

إذا رأيت شجرة في الطريق فكل ما تملكه هو صورة هذه الشجرة في ذهنك، وليس الشجرة نفسها.

فلا وجود إلا لما يدركه العقل، وأي شيء لا يدركه العقل مستحيل الوجود.

الباب الثاني: مصدر المعرفة

يجيب زكي نجيب محمود في هذا الباب عن السؤال الثاني، “ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟”.

مصدر المعرفة عند التجريبيين

يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هي الحواس البشرية التي عن طريقها يختبر الإنسان العالم، فكل فكرة لا يمكن إرجاعها إلى حاسة من الحواس لا تعتبر حقيقية، كالسببية على سبيل المثال، إذ أنه لا يمكن إرجاع السببية إلى شيء تختبره الحواس، فكل ما نراه هو حوادث يرتبط بحدوثها حدوث حوادث أخرى، وليس هناك سبب حسّي لادعاء رابط سببي بينهما.

كذلك هو الحال مع الجوهر (الشيء مستقل عن صفاته)، والذات (الإنسان مستقل عن صفاته وحالاته)، إذ أن كل ما تراه هو الإنسان بحالاته أو الشيء بصفاته، ولا يمكنك إرجاع مفاهيم مثل الجوهر أو الذات إلى شيء مرصود بالحواس البشرية.

مصدر المعرفة عند العقليين

يخالف العقليون التجريبيون في تحديد مصدر المعرفة، فبينما يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هو الحواس فقط، يرى العقليون أن الحواس قد تخدع، وليس كل ما ترصده بحواسك يكون حقيقيًا، ولكن إن قلت “(أ) أكبر من (ب)، و(ب) أكبر من (ج)، إذن (أ) أكبر من (ج)”، فهذا لا يمكن أن يكون غير حقيقي، إذ أنه مستند على العقل وليس الحواس التي يمكنها خداعك، وبالتالي يرى العقليون أن مصدر المعرفة هو العقل.

مصدر المعرفة عند النقديين

بينما يكون مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فقط، ومصدرها عند العقليين هو العقل، فمصدرها عند النقديين هو الحواس والعقل معًا، حيث وقف النقديون من المعرفة موقفًا بين الواقعيين والمثاليين، فلم ينكروا أن معرفة الإنسان قائمة على ما يدركه في العالم الخارجي، ولكن اعتبروا العقل البشري هو القالب الذي يستقبل ويترجم هذه المدركات الحسية لتكون ذات معنى، مثال:

إذا قُلنا “النار أحرقت الورقة” فنحن هنا نشير إلى مدركات حسية وهي النار والورقة، ولكننا أيضًا نشير إلى مبدأ من صنع العقل البشري (أو من فطرته إن صح التعبير) وهو السببية، فيرى النقديون أن رصد عملية الاحتراق (المدرك الحسي) ضروري للمعرفة، إلا أن هذا المدرك لم يكن ليكون ذو معنى إن لم تحكمه علاقة السببية (المنتج العقلي)، فالنار هي ما تسبب بإحراق الورقة.

فبينما أشياء مثل السببية والجوهر والذات ليست مدركات حسية، إلا أنها ضرورات لفهم المدركات الحسية وجعلها ذات معنى، فهي من الأشياء التي زُوّدت بها فطرة الإنسان لتفهم العالم الخارجي.

مصدر المعرفة عند المتصوفة

خلصنا إلى أن رؤية التجريبين للحواس كمصدر وحيد للمعرفة، وبينما يرى العقليون العقل المصدر الوحيد للمعرفة، ويجمع النقديون بين العقل والحواس كمصادر للمعرفة، نجد أن المتصوفة لهم مصدر مختلف للمعرفة وهو الحدس.

ويرتبون درجات المعرفة من الأعلى إلى الأسفل، حيث تكون الحواس أدناها، والعقل أوسطها، والحدس أعلاها.

وبينما يسعى المتكلمون والفلاسفة لإثبات وجود الله باستخدام حجج وبراهين عقلية، يرى المتصوفة أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى الله تكون عن طريق الحدس.

فيقول زكي نجيب محمود في هذا الفصل:

“وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان – كما يقول المتصوفة – أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودًا مباشرًا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده.”

الباب الثالث: إمكان المعرفة وحدودها

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الثالث وهو “هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟”

الاعتقاديون والشُّكاك

يرى الاعتقاديون من أنصار المذهب التجريبي والمذهب العقلي أنه لا حدود للمعرفة التي يمكن للإنسان الحصول عليها، فما دامت المعرفة مصدرها هو العقل عند العقليين فلا يوجد شيء في العالم الخارجي يمكنه أن يضع حدًا لهذه المعرفة، وما دام مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فلا شيء يعوق معرفة الإنسان إذا لم يكن هناك ما يعوق اتصال الحواس بالمحسوسات.

أما الشُّكاك فيرون استحالة أن يعرف الإنسان الحقيقة الموضوعية لأي شيء، فكل ما يعرفه الإنسان نسبي، وحتى إن أراد أن ينقل معرفته هذه إلى غيره فإنه ينقلها عن طريق الكلام، ولن تعبّر الألفاظ عن حقيقة الشيء.

وتجب هنا التفرقة بين الفيلسوف الشاك، وبين الفيلسوف الذي يتبع منهج الشك، فالأول يشك في إمكان حصول الإنسان على المعرفة، بينما يؤمن الثاني بإمكانية المعرفة ولكنه يحتاج إلى حذر وحرص للحصول على المعرفة اليقينية.

حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين

لما كانت الحواس هي الشرط اللازم للمعرفة عند النقديين كما ناقشنا أعلاه، كانت معرفة الإنسان ممكنة طالما هي في حدود المدركات الحسّية، إذ أن ما يجاوز هذه المدركات لا يمكن للإنسان معرفته (في رأيهم).

فإذا تساءل الإنسان عن محدودية المكان في الكون أم أنه لا نهائي وجد نفسه أمام تناقض، فلا يمكن للعقل تصور نهاية للمكان، إذ أن كل مكان هناك ما هو أبعد منه، وكذلك لا يمكنه تصور مكان لا نهائي، وهذا التناقض سببه هو أن الإنسان حاول أن يتناول بمعرفته ما وراء المدركات الحسّية.

ويوافق الوضعيون النقديين في رأيهم فيرون وجوب الوقوف بمحاولاتنا للمعرفة عند الظواهر التي يمكن أن نشاهدها ونجري التجارب عليها، أما أن نجاوز الطبيعة المنظورة إلى ما وراء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة.

للمزيد من ملخصات الكتب اضغط هنا.

للمزيد من المعلومات عن زكي نجيب محمود اضغط هنا

Exit mobile version