ملخص كتاب التأملات لماركوس أوريليوس

ملخص كتاب التأملات لماركوس أوريليوس

نبذة عن التأملات


التأملات للإمبراطور الروماني والفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس هي عبارة عن سلسلة من الكتابات والملاحظات الشخصية التي كتبها لنفسه كمصدر لتحسين ذاته و توجيهها. تتكون السلسلة من اثني عشر كتابًا عبّر فيها ماركوس عن خواطره حول الكثير من الموضوعات المتفرقة التي تتراوح بين القضايا الأخلاقية وممارسة الفضيلة إلى التعاملات مع الطبيعة والتفكر في حقيقة الكون. في هذا المقال سنعرض أهم ما ذكره ماركوس أوريليوس عن تلك الموضوعات في كتابه التأملات.

رواقية ماركوس


كانت رواقية ماركوس معتدلة إذا ما قورنت بمبادئ الرواقيين القُدامى. وكان أسلوبه في تدوينه لملاحظاته بسيطًا، متجنبًا المصطلحات المعقدة. رفض ماركوس زعم الرواقيين القُدامى بإمكان المعرفة اليقينية، ويرى أنه لا وجود لذلك الحكيم الذي يملك تلك المعرفة.

ففي كتابه الخامس يدون ماركوس “لكأنما أُلقِيَ على الأشياء حجابٌ كثيف حتى بدَت لعددٍ غير قليلٍ من كبار الفلاسفة غيرَ قابلةٍ للفهم على الإطلاق. وحتى الرُّواقيون أنفسهم بدَت لهم الحقائق عصيةً على الفهم، وبدا لهم كلُّ تصديقٍ عقلي لإدراكاتنا شيئًا عُرضة للخطأ؛ فليس هناك من هو معصوم …”.

كما رفض ماركوس اعتقاد الرواقيين القُدامى بأن الفضيلة لا تتجزأ، وذهب للاعتقاد بفكرة التدرج الأخلاقي. ذلك بالإضافة إلى أنه لم يكن معتدًا برأيه كما كان قدام الرواقيين.

قلعة الذات


أكّد ماركوس على أن العلاج الحقيقي للنفس والسلام الذي تنشده لا ينبع من الخارج بل من الداخل، ينبع من اللجوء إلى الذات والاحتماء بها. مصدر السلام الحقيقي هو الخلو إلى النفس من حين لآخر التماسًا للراحة والسكينة.

فيقول في كتابه الرابع “إنهم يبحثون عن منتجعاتٍ لهم؛ في الريف، على البحر، على التلال، وأنت بصفةٍ خاصةٍ عرضةٌ لهذه الرغبة المشبوبة، ولكن هذا من شيم الطَّغام، فما زال بإمكانك كلما شِئتَ ملاذًا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبيك؛ فليس في العالم موضعٌ أكثر هدوءًا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه، وبخاصةٍ إذا كانت نفسه ثرية بالخواطر التي إذا أظلَّته غَمرَته بالسكينة التامة والفورية. ولستُ أعني بالسكينة إلا الحياة التي يَحكُمها العقل ويُحسِن قِيادها. فلتمنح نفسك دائمًا هذا الاستجمام، ولتُجدِّد ذاتك. ولتكن المبادئ العقلية التي سوف تعود إليها هناك وجيزةً وأساسيةً وكافية لأن تذهب بكل ألمِك في الحال وتُعيدَك إلى أُمورِكَ المستأنَفة خاليًا من السخط عليها أو التبرم بها”.

طبيعة الفضيلة والرذيلة


تأثر ماركوس أوريليوس بسقراط كثيرًا وأخذ عنه الفكرة القائلة بأن الفضيلة علم والرذيلة جهل. هذا يعني أن مرتكب الشر لا يرتكبه عن قصد بل هو جهل منه بحقيقة الخير والشر، لذلك من الواجب علينا تجاه مرتكبي الخطأ أن نعلّمهم ونوَجّههم ونبصّرهم بجهلهم، فإن لم نستطع فعلينا واجب تحمّلهم والتسامح معهم ولا نحملهم فشلنا وتقصيرنا في إرشادهم إلى الطريق الصحيح.

ويقول ماركوس عن ذلك في كتابه الثاني “قل لنفسك حين تقوم في الصباح: اليوم سألقى من الناس من هو مُتطفلٌ ومن هو جاحدٌ ومن هو عاتٍ عنيف، وسأقابل الغادر والحسود ومن يُؤثِر نفسه على الناس. لقد ابتُلي كلٌّ منهم بذلك من جرَّاء جهلِه بما هو خيرٌ وما هو شَر، أمَّا أنا وقد بَصُرتُ بطبيعة الخير وعَرفتُ أنه جميلٌ، وبطبيعة الشر وعرفتُه قبيحًا، وأَدركتُ أن مُرتكِب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلافٍ في طَبيعتِه ذاتها — فنحن لا تجمعنا قَرابة الدم والعِرق فحسب بل قَرابة الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبس الإلهي — أمَّا أنا وقد بَصُرتُ بهذه القَرابة فلن يسُوءني أيُّ واحدٍ من هؤلاء ولن يُعديني بإثمه. وليس لي أن أَنقِم منه قرابتي أو أَسخَط عليه؛ فقد خُلِقنا للتعاوُن، شأننا شأن القَدمَين واليدَين والجفنَين وصَفَّي الأسنان. التشاحُن ضدٌّ للطبيعة، وضدُّها، مِن ثَمَّ، العداوةُ والبغضاء”.

التغير


روى ماركوس كثيرًا في تأملاته عن فكرة التغير الدائم للأشياء جميعها، وأن التغير هو جوهر الوجود وأنه يحفظ نظام الأشياء ويبقي العالم صبيًا.

فيقول في كتابه السابع “هل يخشى أحد من التغير؟ حسن، فأي شيء يمكن أن يحدث من دون تغير؟ أو أي شيء أعزُّ على طبيعة «الكل» وأقرب إليها من التغير؟ هل بوسعك أنت نفسك أن تغتسل إذا لم ينل التغير خشب الموقد؟ هل بوسعك أن تأكل دون أن يتغير ما تأكله؟ هل يمكن أن يتحقق أي شيء نافع في الحياة بدون تغير؟ ألست ترى، إذن، أن التغير بالنسبة لك هو الشيء نفسه، وأنه ضروري بنفس الدرجة لطبيعة الكل؟”.

دراسة الطبيعيات


أوصى ماركوس بدراسة الطبيعيات نظرًا إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان والكون.

فيقول في الكتاب الثامن “من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو، ومن لا يعرف لأي غاية وُجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم، ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وُجد هو ذاته، ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟”.

الكوزموس


يرى ماركوس في تأملاته أن العالم كله ليس إلا كائنًا واحدًا حيًا متكامل الأعضاء، وأن أي تأثير يحدث للجزء فيجد صداه الكل والعكس صحيح.

فيقول في كتابه الرابع “انظر دائمًا إلى العالم على أنه كائنٌ حي واحد، يتكون من مادةٍ واحدة وروحٍ واحدة، انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوعٍ واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعًا في كل ما يحدث، انظر أيضًا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها”.

الأشياء اللافارقة


يطلق الرواقيون على جميع تلك الأشياء التي ليست بذاتها خير أو شر لقب الأشياء اللافارقة. فالخير عندهم هو الفعل العقلاني الفاضل والشر هو الفعل الأرذل المنافي للعقل، فيما عدا ذلك فهو من الأشياء اللافارقة.

فيذكر في كتابه الثاني “… الموت والحياة، النباهة والخمول، الألم واللذة، الغنى والفقر … ليست هذه الأشياء في ذاتها حسنةً ولا سيئة؛ وبالتالي ليست في ذاتها خيرًا ولا شرًّا”.

الاعتدال في طلب الأشياء


يدعو ماركوس إلى السعي بتحفّظ في طلب الأشياء اللافارقة. أي السعي في طلبها بدون الإفراط في اللهفة، وذلك حماية من التعاسة التي قد تصيب المرء إذا فقدها. فيقول في الكتاب الثامن “بلا زهوٍ تقبَّل الرخاء إذا أتى، وكن مستعدًّا لفقدانه إذا ذهب”.

التعامل مع العقبات


نرى في التأملات أن منظور ماركوس للعقبات مختلف وجميل. فقد رأى ماركوس في العقبات فرصة لممارسة الفضيلة، فإذا كان الخير هو السلوك العقلاني الفاضل، فإن العقبات التي تعترض طريق المرء وسعيه هي بدورها فرصة أخرى لممارسة الفعل الفاضل.

فيقول في الكتاب العاشر ” إن العقل لديه القدرة، بطبيعته وبإرادته، على أن يمضي خلال كل عقبة. في جميع الكائنات العضوية الأخرى فإن أي أذًى يلحق بأيٍّ منها يجعله أسوأ في ذاته، أمَّا في حالة البشر فإن الشخص في الحقيقة يُصبِح أفضلَ وأجدرَ بالثناء إذا استخدم الظروف التي تُصادفه استخدامًا صحيحًا”، و أيضًا في الكتاب السادس “فإذا اعترض أحدٌ سبيلك بالقوة فتذرَّعْ بالهدوء، وحوِّل العائق إلى تمرُّسٍ بصنفٍ آخرَ من الفضيلة”.

الاستقلال الذاتي


الاستقلال الذاتي ينبع من الاستقلال العقلي والفكري، عندما يكون العقل بانعزال عن متقلبات الرغبات والحواس، فيقول ماركوس في الكتاب السابع “فمِن الخصائص التي ينفرد بها العقل أنه يعزل نفسه ولا يتأثر بنشاط الحواس أو نشاط الرغبات؛ فهذان النشاطان حيوانيان، بينما غاية النشاط العقلي أن يتسيد عليهما ولا يُسلم قِياده لهما؛ لأن طبيعته ذاتها هي أن يضع كل هذه الأشياء تحت إمرته”.

وأنه لا يمكن أن يصيب الإنسان أذى خارجي عندما يدرك أن الأذى الوحيد الذي يمكن أن يصيبه هو ما يجره العقل على نفسه، فيقول في الكتاب الرابع “لا أذى لك يقبع في عقل غيرك، ولا حتى في أي تبدُّل أو تغيُّر لعطائك الجسدي. أين إذن يقبع الأذى؟ في ذلك الجزء منك الذي يضطلع بتكوين الأحكام عن الأذى. كُفَّ عن الحكم بأن بك أذًى تكنْ قد سَلِمتَ منه.”.

ينبع أيضًا الاستقلال الذاتي من تحمل المرء مسؤولية إسعاد نفسه بنفسه، دون انتظار شيء من الآخرين أو تحميلهم مسؤولية إسعاده.

تقبّل القدر


يرى ماركوس أن كل ما يصيب الإنسان هو مقدر له منذ الأزل، وأنه خير له لأنه خير لطبيعة الكل. ومن ذلك المنطلق عليه أن يتقبل نصيبه ويتقبل قدره.

فيذكر في الكتاب الرابع “هل أَلمَّ بك شيء؟ حَسَن، كل ما أَلمَّ بك كان مُقدَّرًا لك من «الكل» منذ البداية ومنسوجًا من أجلك”. وفي الكتاب السادس “لا تحب إلا ما أَلمَّ بك ونُسج لك من خيط مصيرك، فأيُّ شيء أنسب لك من هذا؟”.

فعل الخير ثواب ذاته


يؤكد ماركوس على قوله أن فعل الخير كالإحسان والرحمة غاية في ذاتها، وثواب ذاته. لا تنتظر ردًا من أحد أو تقديرًا من الآخرين.

فيقول في الكتاب السابع “ما دُمتَ فَعلتَ خيرًا وتلقَّاه آخر، فما لك ما تزال تترقب، كالأبله، شيئًا ثالثًا إلى جانب هذَين؛ أن تنال صِيتًا بفعل الخير، أو تتلقَّى مقابلًا؟”.

التمسك باللحظة الحاضرة


المرء لا يملك إلا اللحظة الحاضرة، وفيما عداها ماهو إلا ماضٍ ذهب أو مستقبل غير معلوم.

طول الحياة غير فارق


يترتب على الفكرة السابقة أن الحياة مهما طالت أو قصرت فذلك ليس بالشيء المهم مادمنا لا نملك إلا اللحظة الحاضرة.

يقول ماركوس في كتابه الثاني “حتى لو قُدِّر لك أن تعيش ثلاثة آلاف عام، أو عشرة أضعاف ذلك، فاذكُر دائمًا أنْ لا أحد يفقد أي حياةٍ غير تلك التي يحياها، أو يحيا أي حياة غير تلك التي يفقدها. ينتج من ذلك أن أطول حياةٍ وأقصرها سيَّان؛ فاللحظة الحاضرة واحدة في الجميع؛ ومن ثَمَّ فإن ما ينقضي متساوٍ أيضًا.”.

التأهب للموت


يتخذ ماركوس من الموت موقفًا محايدًا باعتباره من الأشياء اللافارقة فيقول في كتابه الثاني “وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويُعمل فيه التحليل العقلي ليُجرِّده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلُص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفةً طبيعية. ومن يرتاع لوظيفةٍ من وظائف الطبيعة فهو طفلٌ غرير. ليس الموت وظيفةً طبيعية فحسب بل إنه أيضًا لِخَير الطبيعة وصالحها”.

لتحميل كتاب التأملات
لمزيد من ملخصات الكتب

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

حين نلقي نظرة في تراثنا المعرفي، نستسلم لغبطة كبيرة لما بين أيدينا من كتب استطاعت الصمود لأكثر من ألفي عام. لا يزال بإمكاننا تسجيل حضورنا في بلاد أوروك لنقرأ كلكامش، ونسير مع سقراط في أثينا وهو يجادل الفلاسفة والسفسطائيين. أثرت تلك الكتب بشكل رهيب في واقعنا الثقافي، غير أن النظرة لو طالت سيأخذنا الحزن بعيدًا. ملايين الكتب كان مصيرها الفناء بسبب حروب سياسية ودينية وعوامل بيئية، فالكثير من الأسماء اختفت من ذاكرة التاريخ. كان أبيقور قد ألف 300 كتابًا، لم يصلنا منها سوى بعض الشذرات والرسائل. المصدر الأكثر أهمية في فلسفة أبيقور بين أيدينا الآن هو قصيدة لوكريتوس (حول الطبيعة). في هذا المقال سنسلط الضوء على ثلاثة مباحث من فلسفة أبيقور.

لمحة عن أبيقور ومدرسته

ولد أبيقور في (ساموس – Samos) عام 342 ق.م من عائلة فقيرة جدًا. وفي ساموس كان قد استمع إلى فيلسوف أفلاطوني يدعى (بامفيلوس – Pamphilus)  وبعد ذلك إلى (نوزيفان – Nousiphanes) من أتباع ديمقريطس(ص 535 تاريخ). إلا أن أبيقور يتباهى بأنه طفق يتفلسف وهو في الرابعة عشرة من العمر(1).

أسس أبيقور مدرسته عام 306 ق.م (311 حسب راسل) تزامنًا مع تأسيس المدرسة الرواقية. بينما سارت الرواقية تتطور في مذهبها الفلسفي في طريق طويل من مراحل التطور(2)، بقت المدرسة الأبيقورية قائمة نحوًا ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله ولم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة ولا غيروا من آرائه (3).

لم يكن أبيقور يمثل مؤسسًا لمدرسة حاله حال زينون وحسب. ففي حين نجد في الرواقية من تجاوز بداياتها على نحو ديمقراطي وأضاف عليها، كان أبيقور يمثل شخصية مقدسة بالنسبة لأتباعه. بعد مرور مئتي سنة من وفاة المعلم وصفه لوكريتوس بالإله في أبيات شعرية:

(كان إلهًا، أجل إلهًا، فهو أول من اكتشف ذلك الاسلوب في الحياة الذي يقال له اليوم الحكمة، وهو من نجانا بفنه من عواصف عاصفة ومن ليل دامس وجعل حياتنا تدور في هدوء وضياء عظيمين.(4).

وكما كان بسيطًا في فلسفته، كان بسيطًا جدًا وهو يواجه الموت، ففي اليوم الأخير له في الحياة كتب لأحد اتباعه: “أكتب إليك في نهاية يوم سعيد من أيام حياتي، فأوصابي لا تفك طوقها عني وما عاد في مقدورها أن تزيد عما هي عليه؛ كل ذلك أقابله بفرح الذي أسكنته في نفسي ذكرى مناقشتنا الماضية.(5)

إقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

أصل المجتمع:

إن النظرية التي يفسر فيها أبيقور أصل المجتمع واللغة والدين والقانون والملكية قريبة جدًا من الطرح الماركسي حول هذه المسائل.

في البداية، كان يعيش البشر في عزلة ويتكاثرون عشوائيًا، وما كان بإمكانهم أن يتواصلوا لفظيًا ولا كانت لهم مؤسسات إجتماعية. ويعزو أبيقور نجاة الإنسان من ويلات الطبيعية إلى القوة الجسدية الجبارة التي امتلكها عصرئذ، حيث كان في صراعات مستمرة. بفضل اكتشاف النار وظهور الأسرة والمشاعر الحارة تجاه الأزواج والذرية خفت حدة الصراعات تلك. في المرحلة هذه كان البشر في وضع يسمح لهم بالإتحاد ليكونوا في مأمن من أخطار الطبيعة كالوحوش البرية. فقاموا بتطوير أنواع مختلفة من المهارات التقنية، مثل الزراعة، بناء المنازل وكذلك اللغة.(6)

أن الأسماء في البداية نشأت بشكل طبيعي، بحيث كلما تعرض الإنسان إلى مثير من المثيرات، اطلق صوتًا معبرًا له. ونظرًا لإختلاف خصائص الإنسان الفيزيائية من بيئة لأخرى اختلف الاصوات التي انتجها الإنسان إستجابة للمثيرات، وذلك يعلل وجود لغات مختلفة. والنقاشات النظرية أدخلت مفردات جديدة في اللغة حتى وصلت لحالة متقدمة وهذا ما ساعد الناس في تكوين صداقات وتحالفات جديدة مما حقق المزيد من الأمن الإجتماعي.(6)

لم تكن هناك منافسة على السلع بعد، وبالتالي لم تكن هناك هناك صراعات وحروب. ومن جهة أخرى كانت المفردات اللغوية ما زالت تتوافق مع موضوعاتها البدائية ولم تكن بعد مصدرًا للإرتباك العقلي. ولكن بفضل التراكم التدريجي للثروة ، جاء الصراع على السلع ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ، وظهر ملوك أو طغاة حكموا على الآخرين ليس بحكم قوتهم الجسدية ولكن بفضل الذهب. تم الإطاحة بهؤلاء المستبدين بدورهم، وبعد فترة من الفوضى العنيفة، وجد الناس أخيرًا حكمة العيش في ظل حكم القانون.(6)

الأخلاق:

حالها حال الرواقية، تختصر الأبيقورية الفلسفة في الأخلاق، وتعتبر الأخلاق كممارسة حياتية سليمة للوصول إلى حياة سعيدة خالية من الألم. يترتب على ذلك ابتعاد المدرسة هذه من كافة أشكال التعقيد وإبعاد الآلهة والتصورات الميتافيزيقية والمفاهيم المجردة عن الحالة الإنسانية.

تدور الأخلاق الأبيقورية حول فكرتين محوريتين: اللذة و(الطمأنينة-Ataraxia)، بشكل، تكون الطمأنينة تابعة للذة التي هي غاية. غائية اللذة وضعت الفلسفة الأبيقورية في مرمى الانتقادات ابتداءًا من الرواقية إلى يومنا هذا، فاللذة كانت ولا زالت قرينة الشر. غير أن أبيقور كان قد برر موقفه: “عندما نقول أن اللذة غاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والمجانين”(7).

يجعل أبيقور من الرغبات مراتب؛ فهناك الطبيعية والضرورية كالرغبة في الاكل، وهناك طبيعية وغير ضرورية كالرغبة في نوع معين من الطعام، وهناك رغبات لا هي طبيعية ولا ضرورية كالرغبة في تاج أو تمثال. والحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإشباع النوع الأول من الرغبات. (7)

وحول علاقة اللذة بالسعادة والخير يقول أبيقور: “إننا نؤكد أن اللذة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرفنا على ذلك على أنه الخير الأول، الفطري فينا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه”(8).

وكون اللذة غاية لذاتها، لا يعني أن الفضائل الأخرى ليس لها أي اعتبار بل أن اللذة متجذرة فيها. فيقول عن ذلك: “ليس من الممكن أن نعيش في سعادة دون أن نعيش على نحو شريف، وعادل وحكيم، كما لا يمكن أن نعيش على نحو شريف وعادل وحكيم دون أن تكون سعيدًا. فالرجل العادل هو أكثر الناس تحررًا من القلق والإنزعاج، أما الرجل الظالم فهو فريسة دائمة لهذا القلق والإنزعاج”(9).

الميتافيزيقيا:

كان أبيقور شديد الحذر من إدخال دور الآلهة في فلسفته وشؤون الناس، لكنه درس ظاهرة الدين ووجود الآلهة دراسة دقيقة. فسر السلوك البشري البدائي وعلاقته بظهور الحالة الدينية وتطورها. فالظواهر الطبيعية كالرعد والبرق تُفسر على أن الآلهة غاضبة على خطايا البشر، في حين أن الناس البدائيين في مراحل ما قبل ظهور المجتمع رغم شعورهم بالرعب إزاء الظواهر الطبيعية وتفسيرهم لها بأنها من صنع الآلهة لم يحسبوها كعقوبة. رغم أن موقف أبيقور من الآلهة غير واضح لكنه أقرب إلى بروتوغوراس، فهو ينفي تدخل الآلهة في شؤون البشر.(6).

بسبب موقفه الحاد من الآخرة والعناية الإلهية وخلود النفس وعقاب الآلهة، كان يتم إتهامه بالإلحاد. أن أبيقور لا ينفي وجود الآلهة، لكن يضعها في عزلة تامة عن البشر وحياتهم. الآلهة كما يتصورها أبيقور، مختلفة عن المفهوم الشائع، فهو يقول بأن الآلهة خالدة في الفضاء البعيد ولا تهتم بأمرنا.(10)

نجد أن هذا الاهتمام الذي يعطيه أبيقور للآلهة آت عبر تفسيره الرئيس للألم ومشكلة اجتناب الخوف. يرى بأن الدين والخوف من الموت هما من أكبر مصادر الخوف، وهما متصلان أحدهما بالآخر. فالدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء. أما أبيقور يجد في تدخل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع وأن الخلود يقضي على كل أمل في النجاة من الألم.(11)  

الخلاصة:

إن المدرسة الأبيقورية استمرت لستة قرون إلا أن روح المذهب بقت كما هي، وظل التلاميذ يدافعون عن نظريات المعلم المبارك. هذه المدرسة يمكن القول بأنها مطبخ  السعادة البشرية، فهي لم تخوض معاركها في تخوم المنطق والرياضيات والمعرفة الخالصة. قالت قولها في الحياة ببساطة مفرطة، إن الحياة السعيدة هي تحقيق اللذة وتثبيط الألم، واللذة تكون في أبسط صورها. هذه اللذة مثلت الخيط الذي يربط كافة المباحث ببعضها، لا سيما المباحثة الثلاثة الرئيسة في فلسفة أبيقور.

المصادر:

  1.  امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص94.
  2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة 2010، ص375.
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص182.
  4. اميل برهييه، مصدر سابق، ص96-97.
  5. نفس المصدر، ص 124.
  6. https://plato.stanford.edu/entries/epicurus/#SociTheo
  7. اميل برهييه، مصدر سابق،ص110.
  8. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص542.
  9. نفس المصدر، ص544.
  10. https://iep.utm.edu/epicur/#SH3e
  11. برتراند راسل، مصدر سابق، ص382.
Exit mobile version