محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

يجادل أفلاطون على لسان سقراط الحركة السفسطائية والخطباء حول موضوعات مختلفة، نجد دائما أنه يبين عكس ما يقوله أولئك السفسطائيين بالضبط، كأن الحقيقة هي الضفة المقابلة للحركة السفسطائية. في محاورة جورجياس يضع أفلاطون الفلسفة في مواجهة البيان، لا يناقشهما مع جورجياس وبولوس وكاليكليس وحسب بل يحارب بالفلسفة. لذا فأن المحاورة لا تكشف عن مفهوم البيان عند أفلاطون إنما يركز على نوع معين من البيان، دليلنا على ذلك هو أنه يأتي بأفكار متضادة في محاوراته الأخرى حول البيان، فيدورس على سبيل المثال. اقرأ أيضا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

تعريف البيان:

يبين الطرفان أن البيان من الفعاليات أو الفنون الكلامية الصرفة، فالبيان هو فن القول كما يرى جورجياس. غير أن سقراط يشك في قيمة هذ الفن المدعي، فحتى الفنون الكلامية مثل الفلك والحساب لديها من المواضيع. فالبيان لا يعني بموضوع معين، لذلك يقول بولوس وجورجياس بأن البيان قادر على الإجابة أو طرح أي سؤال كان، وهذا ما يستوقف سقراط لفحص البيان وحججه.

البيان والإقناع:

يرى جورجياس أن البيان هو أسمى الفنون لأن الحائز على هذا الفن يجعله البيان حرًا بالنسبة لنفسه وسيدًا على الآخرين. ذلك لأن قوة البيان تكمن في قدرته على الإقناع، إقناع الجمهور بأي أمر من الأمور. يثبت سقراط لمتحاوره أن الإقناع لا يكون عن العلم إنما عن العقيدة، فالخطيب لا يقدم علمًا إنما عقيدة ويستغل جهل الناس، خطيب جاهل يحاضر جمهورًا من الجهلة.

كل فن فيه جانب من الإقناع، مثلًا فن الطب يقنعنا بما يخص الأمراض والأدوية، الموسيقى تقنعنا بما يتعلق بتأليف الألحان، إلا أن البيان ليس من الواضح بما يقنعنا. حسب جورجياس أننا نستفيد من البيان في المحاكم والجمعيات العامة. الجذير بالذكر هنا هو أن السفسطائيين كانوا بمثابة المحاميين في عصرئذ. ذلك أن الخطباء يؤثرون في الانتخابات وقرارات المحاكم

البيان كتجربة:

وفقًا لأفلاطون بأن الفن يختلف عن التجربة، الأول ينتج المعرفة من خلال العقل والحجة المنطقية في حين أن التجربة تأتي من الممارسة والتدريب. فالبيان لا يتأسس على العقل إنما لا يعدو كونه ممارسة بلاغية. ومن الأعمال التي يطلق عليها أفلاطون تسمية التجربة، الطهي، التزيين، البيان والسفسطة. وهذه التجربات رديئة حسب تعبير أفلاطون، فهي تحرف وتموه حقيقة الأمور. فالطهي يقابل الطب، التزيين يقابل الرياضة البدنية والبيان يقابل العدالة. فالبيان كتجربة يهدف إلى احداث نوع من اللذة والانشراح الزائف، فهو لا يقول حقيقة الأمور.

الخطيب والمكانة الاجتماعية:

يزعم جورجياس أن الخطباء يحتلون أرقى مكانة في المجتمع ولهم السلطان في الدولة. هنا يريد سقراط أن يبين أن جورجياس لا يفهم معنى السلطان، فالخطيب لا يقوم بما يريد بل بما يبدو له الأفضل طالما لا يقومون بما يملي عليهم العقل. فالإرادة تكون موجهة نحو الغاية الحقة، فالمريض يأخذ الدواء المر لأجل الصحة في حين أن البيان يهمل الغاية الحقة. هذا ما يدفع بأفلاطون ليقول بأن الخطباء لا يستحقون أي نوع من الاحترام.

البيان والأخلاق:

الموضوع المركزي في فلسفة أفلاون هو العدل، لذلك فهو يربط كل المواضيع بعلاقاته مع العدل والعدالة. فالبيان رغم أن بولوس وجورجياس قالا بأنه يخدم العدالة لا يكون العقل البنيانه لذلك فهو لا يهدف الخير. من طبيعة البيان هو أن يستخدم كافة الوسائل السيئة للوصول إلى إقناع الناس ولو بإستخدام شهود الزور.

يناقش أفلاطون مسألة في غاية الأهمية من الناحية الأخلاقية. وفقًا له فأن ارتكاب الظلم افضع من تحمله، وعدم التكفير عن الظلم هو افدح الشرور بالإطلاق. يستسلم لحجته جورجياس بعد جدال طويل.

قانون الطبيعة:

إن قانون الطبيعة الذي أخذ به الكثير من الفلاسفة ومن بينهم نيتشه، ربما كان كاليكليس هو من الأوائل الذين طرحوا الموضوع. حسب كاليكليس فأن قانون الطبيعة يعارض قانون الناس أي العدالة البشرية. القوي هو دائما الأفضل، وله الحق في اكتساح الضعفاء، وللدول القوية الحق في غزو الدول الضعيفة، وهو يرفض كل الأخلاقيات البشرية، فهي حجة ماكرة لإخداع الأقوياء كما آمن نيتشه أيضًا. بعد مناقشة طويلة يتبين أن كاليكليس لا يعرف ماذا يعني بالقوي والأفضل والحكيم والذي له السلطان، وفي الأخير يبين أفلاطون أن القانون الطبيعي لا يعارض القانون الإنساني. فالقانون الإنساني أصله إلهي حاله حال الطبيعي.

الفلسفة في مواجهة البيان:

يعتبر كاليكليس أن الفلسفة تافهة جدًا، فهي مفيدة في الصغر لأنها لا تخلو من سحر الطفولة، لكن إذا ما استمر في مزاولة الفلسفة يصبح مغتربًا عن الواقع ولا يعرف شيئًا عن الواقع المفهوم. كما يقول أن الفيلسوف لا يمكنه أن يحوز على أية ثروة أو مكانة اجتماعية لائقة وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه لطالما ليس لديه قدرة الإقناع. فهو يعيب على سقراط تفكيره الفلسفة وحججه التي تبدو غريبة وتغريبية لكاليكليس.

في حين أن أفلاطون وعلى لسان سقراط، يبين أن الفلسفة تقوم على العقل بإستخدام أدوات وحجج علمية ومنطقية. بينما هدف البيان الوحيد هو غرس بعض المعتقدات الزائفة بأية وسيلة كانت.

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

بارمنيدس والقفزة الأنطولوجية

بعد أكثر من ألفي عام من قفزة بارمنيدس الأنطولوجية، يتناول هايدغر الوجود كمقولة لم تُفهم قط. إن بارمنيدس يمثل بداية الشك عند هايدغر فيما يخص هوية الوجود، فهي هوية زمانية رغم نفي بارمنيدس لزمانية الوجود. بيد أن تلك القفزة تعد أول مقترب فلسفي نحو تأسيس أصيل للأنطولوجيا. 

لنبي الأنطولوجيا بارمنيدس – بتعبير نيتشه- اقتصاد مثالي ومادي في الوقت ذاته؛ مما يجعل الأساس الفلسفي الملطي في أزمة معرفية. فهو رغم بدايته الفيثاغورية يفتح جبهات مختلفة ضد التراث والأسلاف. في هذا المقال سنسلط الضوء على فلسفة بارمنديس الأنطولوجية وعلاقات الوجود المكثفة مع اللغة والفكر وترسانة المعنى والحقيقة.

عن بارمنيدس

ولد (بارمنيدس- Parmenides) في إيليا في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي 451-449 ق.م. يُقال عنه بأنه كان في البداية فيثاغوريًا ومن ثم بعد سنوات طويلة بدأ يثور على فلسفة فيثاغورس, فكون مذهبًا فلسفيًا خاصًا به [1]. بارمنيدز [بارمنيدس] أسس الأنطولوجيا (علم الوجود) عن طريق نظريته عن الوجود الثابت الذي يعبر عنه الفكر[2]. فهو يعد مؤسس المدرسة الإيلية الفلسفية. وفقًا لنيتشه كان بارمنيدس قد عاشر وعرف أناكسيمندرس وتأثر به. ويُقال أيضًا بأنه قد التقى بسقراط وهو في الستين من العمر. في محاورة لأفلاطون يتبين أن سقراط يناقش تلميذ بارمنيدس زينون حول مسألة الكثرة. تعد قصيدة (حول الطبيعة) لبارمنيدس أهم المصادر حول مذهبه الفلسفي الذي يعتبره البعض مذهبًا ماديًا بينما يتهمه آخرون بالمثالية.

المنعطف الإبستمولوجي

يبدو أن التساؤلات الإبستومولوجية كانت حاضرة في الفلسفة الملطية وكذلك عند هيراقليطس وفيثاغورس على نحو أصيل. إن الوجود ما قبل السؤال الفلسفي كان يشترط في معرفته وجود وسيط إلهي؛ وحيًا يُنزل على نبي في حالة التوحيد، أو رمزًا بحاجة لهيرمس في الحالة الوثنية. فالحقيقة كانت محجوبة، لا سبيل إلى معرفتها دون وسيط يقرره إله ما وكأن الوجود غير قابل للفهم بوسيلة إنسانية. الفلسفة الملطية حين أعلنت عن عنصر الوجود ومبدئه كانت بحاجة لبيان طريقتها للوصول إلى ذلك العنصر، وبما أن الدور الإلهي في التفسير كان مستبعدًا من الأساس فكل فيلسوف كان يعول على طريق خاص. منهم من تمسك بوساطة الحواس، ومنهم من ادعى امتلاك العقل للحقيقة والتأويل، أما هيراقليطس فجمع بين الأثنين؛ فالعالم ماثل أمامنا على شكل رموز تدركها الحواس ويفسرها العقل.

رأي بارمنيدس في العقل الوسيلة الوحيد لبلوغ الحقيقة. هذا التطرف العقلاني سينتقل من بعده إلى ديمقريطس ويخيم على معظم التاريخ الفلسفي لفترات طويلة. بين بارمنيدس أنه هناك طريقين لفهم العالم، طريق الحقيقة وطريق الظن. ليمهد الطريق أمام عقلانيته المحضة كان لا بد له من القضاء على مقولات أسلافه الأشهر؛ الحركة، والتغير والصيرورة. إننا نسلم بوجود حركة وصيرورة في الطبيعة/العالم لأننا ندرك العالم بواسطة الحواس. فالتغير والحركة هما أعظم الظواهر التي تظهر أمام الحواس يقينًا، ومن ثَمَّ فإن رفض بارمنيدس للتغير والحركة يعني رفضه للظاهر والمحسوس[3]. فطريق الظن عند بارمنيدس هو المعرفة المظنونة التي تقدمها الحواس.

في المقابل؛ طريق الحقيقة هو طريق العقل في الكشف، فالعقل يتجاوز المحسوس الظاهر الذي نراه يتحرك ويصير نحو الواقع الثابت. إن العقل قادر على إدراك حقيقة الواقع، غير أن حقيقة الواقع الذي يدركه العقل مادية [4]. ومن هناك تكون قفزة بارمنيدس الأنطولوجية في أفق عقلاني صارم.

الوجود عند بارمنيدس

إن مقولة الوجود، كما يقول هايدغر، تأتي في الفلسفة اليونانية على أنها غير قابلة للتعريف، فهي تعني كلية فارغة، أو هي بمعنى الحضور. تحمل هذه المقولة عند بارمنديس طابعًا ميتافيزيقيًا محضًا، فالوجود موجود وحسب، الوجود هو هو، لا معنى لطرح السؤال عن الوجود نفسه في سياق أنطولوجيا بارمنديس. يزعم الفيلسوف الإيلي بأن الوجود لا يكون ولا يفسد، لأنه كلٌ متكامل ووحيد التركيب، ثابت ولا ينتهي.[3]

فهو ينفي عن الوجود كل دلالات الصيرورة والحركة، ذلك لأنه كامل من جميع الجهات مثل كرة مستديرة متساوية الأبعاد من المركز، فهي ليست أكبر أو أصغر من هذا الاتجاه أو ذاك [4]. لذا فإن الوجود ثابت، فهو محدود من حيث المكان. لكن الزمان لا يحده، فهو أزلي، أي كائن على الدوام. كما ينفي الكثرة عن الوجود، على عكس هيراقليطس، فهو يؤمن بوجود واحد لا كثير.

الوجود واللغة والفكر

بالعودة مجددًا إلى فيلسوف الوجود هايدغر. نجد أنه يرفض أن يكون الوجود شيئا زمانيًا بل يربط بين الوجود واللغة. فاللغة بتعبيره هي بيت الوجود وأن اللغة تحدث الوجود. في طرح بارمنيدس الأنطولوجي نجد ذلك الربط الأصيل، فيمثل كلٌ من اللغة والوجود تخومًأ بالنسبة للآخر. يقول بارمنديس: “إنك لا تدري ما ليس بموجود –لأن ذلك مستحيل– بل لا يمكنك أن تنطق به؛ لأنه ما يمكن التفكير فيه وما يجوز وجوده شيء واحد في كلتا الحالتين”، وأيضًا: “إن الشيء الذي يمكن أن يكون موضوعًا للتفكير، هو هو بعينه واحد في كلتا الحالتين, لأنك لن تجد تفكيرًا بغير شيء موجود يدور حوله الكلام”.[5]

فالأسماء/العلامات اللغوية تُطلق على ما هو موجود بالفعل، وما يوجد في اللغة موجود بالضرورة، كما أن المفكر فيه لا يمكن ألا يكون موجودًا. طالما أن الوجود لا ينقسم إلى وحدات زمنية بل يمثل كلية واحدة فلا معنى للماضي أو المستقبل، إذ عندما نتحدث عن شخص ميت فأننا نتحدث عن موجود ما، فالموت لا يلقي بالكائن في اللا وجود/العدم. فكل قول هو قول في الوجود. [6]

اقرأ أيضًا: هيراكليتس واستحالة الهوية

مكانة بارمنيدس

يمثل الفيلسوف الإيلي بارمنيدس مرحلة مهمة في فلسفة ما قبل سقراط، لكونه قد وسع مفهوم وجود العنصر نحو أفق أنطولوجي خاص. يصور الوجود على أنه كروي، واحد ولا يقبل القسمة،كما ينفي عنه صفة الصيرورة والحركة التي سيطرت على التفكير الفلسفي لفترة. يعد بارمنيدس فيلسوفًا شاعرًا، ذلك لأنه قدم فلسفته على شكل قصيدتين؛ قصيدة “حول الطبيعة” وقصيدة “حول التغير”. وهو فيلسوف مادي عقلاني لا يعطي للحواس أي اعتبار معرفي، إنما يربط المعرفة بالتفكير المجرد ويربط الأخير باللغة، لهذا فإن بارمنيدس يمثل القفزة الأنطولوجية الأولى في الفلسفة القديمة.

المصادر

  1. https://www.worldhistory.org/Parmenides/
  2. عبدالغفار مكاوي, لم الفلسفة, ط1, مؤسسة هنداوي, 2020, ص112.
  3. فريدريك كوبلستون, تاريخ الفلسفة المجلد الأول, ترجمة إمام عبدالفتاح إمام, ط1, المشروع القومي للترجمة 2002. ص88.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/parmenides/
  5. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية, 2010, ص99.
  6. https://iep.utm.edu/parmenid/

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

إن الخوض في بدايات الفلسفة يكون مقلقًا لعدم وجود مصادرها بين أيدينا، إلا أن هذه المجازفة لا تخلو من المتعة. فحين نقطع مسافة زمنية من ألفي وخمسمائة عام نكون قد وصلنا إلى المعركة الأشرس للفكر ضد الأسطورة. شهدت بلاد الإغريق الكثير من الحروب، الأهلية تارة ومع الفرس تارة أخرى، إلا أن الحرب الأهم والأكثر إثارة كانت تلك التي أدت إلى بزوغ شمس التفلسف في ظلمة الإيمان. كان الفيلسوف أناكسيماندر قد رفع سقف الحرب إلى مستوى الأبيرون، حيث الموجود ينزع نفسه من العدم. في المقال هذا سنفتح أفق السؤال الفلسفي على دوامة اللانهائي لولادة المزيد من المعرفة بالفيلسوف الملطي الثاني.

الطريق إلى أناكسيماندر

عاش أناكسيماندر ما بين عامي (546_610) ق.م. تقريبًا، وكان معاصرًا لطاليس ويصغره سنًا. لا توجد سوى قطعة واحدة باقية ومنسوبة إلى أناكسيماندر فضلًا عن تعليقات من الآخرين مثل أرسطو الذي عاش من بعده، بقرنين من الزمن تقريبًا.(1)

هو أول فيلسوف قد كتب أطروحة فلسفية وكانت تسمى (حول الطبيعة). فُقد هذا الكتاب مع أنه كان متاحًا في زمن أرسطو و(ثيفراستوس-Theophrastus). يُقال قد عثر على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الإسكندرية، وتفيد بعض الأدلة بأنه كان متوفرًا في مكتبة تاورمينيا في صقلية.(2)

حاله حال طاليس، كان قد انشغل بالبحث العلمي أيضًا، وينسبون إليه الفضل في تصميم خريطة للعالم وكان يرى بأن الأرض أسطوانية الشكل.

أناكسيماندر ضد طاليس

كان يعتقد مواطنه طاليس بأن الماء أصل العالم وما الظواهر المختلفة إلا صور لحالات الماء. اعترض أناكسماندر وكانت حجته في ذلك أن العنصر الأولي لا يمكن أن يكون الماء ولا عنصرًا آخر غير الماء؛ لأنه لو كان بين هذه العناصر عنصر أولي لاكتسح العناصر الأخرى. يروى عنه أرسطو أنه قال: إن هذه العناصر المعروفة لنا  يعارض بعضها بعضًا؛ فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، وعلى ذلك فلو كان أحد هذه العناصر لانهائيًا لزالت العناصر الباقية اليوم، وإذن فلا بد أن يكون العنصر الأولي محايدًا في هذا الصراع الكوني.(3)

الأبيرون

إن الكائن الحقيقي [المبدأ الأول] لا يمكن أن يملك أية صفة محددة، وإلا فأنه يكون قد ولد ويصبح بذلك محكومًا بالزوال والموت ككل الأشياء الأخرى. ولكي لا تنقطع الصيرورة، فلا بد للكائن الأصلي إلا أن يكون غير محدد. فخلود الكائن الأصلي يقوم على خلوه من الصفات المحددة التي تقود إلى الموت.(4)

المبدأ الذي يفترضه الفيلسوف أناكسماندر هو الأبيرون، وهو يعني حرفيًا، اللانهائي على المستوى الزماني، اللامحدود من حيث المكان، اللامتعين من حيث الماهية. إن الأبيرون الذي يمتلك صفات إلهية، يحرك دوامة الوجود الدائرية بشكل أبدي، والموجودات تظهر بانفصالها وخروجها من تلك الدوامة.

إن عملية الانفصال هذه أبدية بالضرورة، وذلك لأن دوامة الأبيرون لا نهاية لها، وبالتالي فالموجودات والعوالم لا تكف عن الولادة والفناء في الأبيرون من جديد. (2). ومن الجدير بالذكر هو أن هذه الفكرة تؤدي إلى الإمكانات غير المحددة للأبيرون في خلق الأكوان والعوالم.

العدالة الكونية:

ما هو مربك في نظرية الخلق عند أناكسيماندر، هو أن الوجود/الحياة يمثل الخروج من قرار الأبيرون ومشيئته، فالأبيرون دون أن يقول (كن) تكون الكائنات، وبالتالي فالوجود خطيئة، والكائن/الموجود محكوم عليه بالعودة إلى الأبيرون والفناء فيه. إن كل الصيرورة طريقة مذنبة للتحرر من الوجود الأبدي، وهي ظلم يجب التكفير عنه بالموت.(5).

يؤمن الفيلسوف أناكسيماندر بعدالة الأبيرون المطلقة وكذلك بالصراع المتأصل في الوجود. فكل عنصر من العناصر لا يكف عن السعي في سبيل اتساع رقعة مُلكه، غير أن ثمة نوعًا من الضرورة أو القانون الطبيعي لا ينفك يرد التوازن إلى حيث كان. العدالة هنا معناها عدم مجاوزة الحدود المفروضة منذ الأزل.

أناكسيماندر ونظرية التطور:

قبل داروين ولامارك، كان الحديث عن تطور الكائنات سيبدو جنونًا، إلا أن أناكسيماندر كان قد فجر فكرة التطور في الوسط الإغريقي قبل ألفين وخمسمائة عام في سياق تناوله لفكرة الخلق والأبيرون. ما لدينا مما قاله في التطور قليل جدًا، لكن مع ذلك تستحق الفكرة التأمل فيها.

يقول بأن الأرض في البداية كانت عبارة عن سائل، بدأت الأرض بالتجمد مع الوقت، وبفعل الحرارة تبخر البعض من سائلها مشكلًا طبقات الهواء. نتيجة تفاعل الضدين، الحرارة والبرودة، تكونت أولى الكائنات الحية. كانت الكائنات بسيطة في البداية ومن ثم تطورت وتأقلمت مع البيئة. فسلف الإنسان كان سمكة وبعد انحسار الماء تأقلمت بعض الأسماك مع البيئة الجديدة. (6) إذ أن التطور بدأ من البحر بإتجاه اليابسة.

اقرأ أيضًا الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

أناكسيماندر علامة فلسفية بارزة

رغم قلة معرفتنا بفلسفة أناكسيماندر إلا أنه يعد علامة فلسفية بارزة، ففكرة الأبيرون ما زالت تحتفظ ببريقها ولو بشكل شاعري. يعلق نيتشه على أسلوبه قائلًا: فكره وأسلوبه يشكلان حدودًا قصوى على طريق الحكمة الفائقة. ما يميز طرح أناكسيماندر حول الخلق والكون يمكن تأويله في سياق أخلاقي أيضًا، وكان نيتشه أول من توقف عند ذلك بإعجاب.

المصادر:

  1. غنار سكيربك ونلر غيلجي، تاريخ الفكر اليوناني، ترجمة د.حيدر حاج اسماعيل، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص47.
  2. https://iep.utm.edu/anaximan/
  3. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية،الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص65.
  4. فردريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، ط2، المؤسسة الجامعية، 1983، ص51.
  5. محمد حسن النجم، السفسطائية في الفكر اليوناني، ط1، بيت الحكمة العراقي 2008، ص35.
  6. https://www.famousscientists.org/anaximander/

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

إن البحث في فلسفة فيلسوف ما يمثل مشقات كبيرة، منها صعوبة إيجاد رأس الخيط في فلسفته والقبض على قلبها النابض. لكن في حالة فيلسوف لا نكاد نعرف عنه شيئا تتحول الصعوبة إلى نوع من الاستحالة والخيوط إلى طين وماء. كل البدايات تركت خلفها علامات دالة وكأنها كانت على وعي بما ستفعل بها الصيرورة، ومن خلال تلك العلامات تستمر في ترديد قولها لتجذب إلى نفسها المحاولات البحثية. غير أن بداية الفلسفة لم تترك لنا سوى ما يشبه أنين يصعب الكشف عنه وسط صراخ التاريخ وصخب جريان الزمن. في هذا المقال سنسعى إلى عرض بداية القول الفلسفي والفيلسوف طاليس.

جدل البداية

تثير موضوعة بداية الفلسفة في الجدالات الفكرية والتاريخية خصامات ثقافية وحتى سياسية في تحديد هوية المولود الفلسفي الأول. معظم فلاسفة الغرب ينسبون الفلسفة إلى الإغريق حتى وهم يتحدثون عن تأثير الثقافات الشرقية في الحضارة الإغريقية وفكرها. من أبرز الأصوات الداعمة لهذا الاتجاه، أرسطوطاليس، وهيغل، ونيتشه، وهايدغر، وراسل، ودولوز. في حين يشك بعض المؤرخين والمفكرين في هذا التحديد ويزعمون أن الفلسفة قد شقت خطاها من الشرق.

يذكر تلميذ فيثاغورس “يمليخيا” إن معلمه قد زار طاليس، وبعد أن وجده لا يشبه الشباب الآخرين، حثه على الإبحار إلى مصر والاختلاط، بالدرجة الأولى، في ممفيس وديوسبول، مع الكهنة حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيمًا(1). وتؤكد جميع المصادر أن طاليس نفسه كان قد سافر إلى مصر وبابل وفيهما تعلم الحكمة.

على جانب زيارات الفلاسفة الأوائل إلى الشرق، يتحجج البعض بأن الفلسفة والفكر الشرقي قد سبقا الفكر الإغريقي بقرون، فالألواح التي وصلت إلينا من بلاد الرافدين ومصر إلى جانب الكتابات المقدسة كآفستا والعهد القديم تحتوي على حكمة ومعرفة واسعة جدا في الأخلاق وعلم الطبيعة ومبحث المعرفة. غير أن فلاسفة الغرب يعتبرون الفكر الشرقي مجرد درب من دروب الإيمان، وحجتهم حول الأصل الغربي للفلسفة هي أن الفلسفة عكس ذلك تماما. يقول نيتشه: “يبرز طاليس كمعلم مبدع بدأ بسبر غور الطبيعة دون الاستعانة بالروايات الخيالية…فهذا هو بالتحديد الخط الذي يتميز به الفكر الفلسفي”.(2)

محاولة البحث عن طاليس

لا نعرف بعد إلا القليل عن حياة طاليس. المقتطفات الواردة عنه في كتابات أرسطو وهيرودوت وغيرهما من الفلاسفة والمؤرخين لا يأخذها أغلبية الباحثين على محمل الجد. كأية شخصية قديمة، هناك روايات أسطورية حول طاليس ولا تفتح لنا أي أفق في حياة الفيلسوف الأول. حسب المؤرخ ديوجين لايرتيوس (Diogenes Laërtius) ولد طاليس في دورة الألعاب الأولمبية التاسعة والثلاثون، حوالي 624 ق.م وتوفي في الدورة الثامنة والخمسين، حوالي 545 ق.م (3).

كانت انشغالات طاليس واسعة، فكان باحثًا في جميع مجالات المعرفة والفلسفة والتاريخ والعلوم والرياضيات والسياسة والجغرافيا والفلك. قدّم نظرياته في شرح العديد من الظواهر الطبيعية والجوهر الأساسي وشكل الأرض (4)

إن غياب الأدلة المباشرة لا يعني إنه لم يكن فيلسوفًا وعالمًا متميزًا. فمن جهة، نستنتج من اهتماماته ورحلاته إلى الشرق بأنه كان كثير المعرفة وواسع الإطلاع وشديد الشغف بهما. من جهة أخرى، فكون طاليس مؤسس المدرسة الطبيعية يعني أنه كان ذو تأثير كبير على التفكير الإغريقي.

التحرر من التصور الأسطوري

بداية القول الفلسفي هي  تحرر العقل من الأسطورة، ومن الأسئلة التي تلقي بظلالها على النقاش الفلسفي هو ماهية مصادر طاليس المعرفية. زار طاليس كل من بابل ومصر، ويقال بأن فكرته الرئيسة التي تقول بأن الماء هو المبدأ الأول كانت فكرة معروفة لدى البابليين (5). إلا أن ما يميز طاليس كما يؤكد أرسطوطاليس ويضعه في مرتبة الفيلسوف الأول هو أنه قد انتقل من التصور الأسطوري إلى التفكير المنطقي. في بلاد الأغريق شأنها شأن باقي امصار العالم، كان يُعتقد بأن الكون مخلوق وله خالق ولم يفكر الإغريق في طبيعة الكون إلا في سياق إيمانهم بالآلهة. أما طاليس فقدم تفسيرات قائمة على الملاحظة حول أصل الكون والمبدأ الأول (4).

فلسفة طاليس

المبدأ الأول عند طاليس

 كل ما نعرفه عن فلسفة طاليس هو أنه قال بأن المبدأ الأول هو الماء، أي أن الماء هو الأصل وأن العالم بتنوعه ما هو إلا حالات الماء. يقول نيتشه عن ذلك: “إن ما دفعه إلى ذلك إنما هو مسلمة ميتافيزيقية…إنها مسلمة أن (الكل هو واحد)”.

هذا المبدأ يؤكد بأنه لا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء وذاك، فالماء يصعد في الفضاء بخارًا ومن ثم يعود إلى الأرض مطرًا ويصيبه برد الشتاء فيصير ثلجًا. فكان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود (6).

حسب راسل فأن قول طاليس بأن كل شيء مصنوع من الماء يمكن اعتباره فرضًا علميًا (7). بينما نيتشه له قول آخر، فيقول عن هذا المبدأ:

أولًا لأن هذه الجملة (الماء أصل كل الأشياء) تتناول بطريقة ما أصل الأشياء. ثانيًا لأنها منعزلة عن السرد الخيالي. ثالثًا لأنها تتضمن فكرة أن الكل واحد. حسب السبب الأول، ما زال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينيين والخرافيين، لكنه يخرج عن هذه الطائفة للسبب الثاني ويظهر لنا كمفكر في الطبيعة، أما السبب الثالث يجعل منه أول فيلسوف يوناني.(8)

الأخلاق عند طاليس

إن مبحث الأخلاق لم يلق اهتمامًا كبيرًا قبل سقراط رغم أن الأساطير اليونانية وقصائد هومر وهزيود ركزت على الأخلاق كثيرًا. لكن، ثمة إشارة واضحة في كتاب يمليخيا (فيثاغورس – حياته وفلسفته) على نظرية طاليس في الأخلاق. فيقول يمليخيا: ” تلقى (فيثاغورس) من طاليس عددًا من النصائح المفيدة، لا سيما تقدير الوقت، والامتناع عن النبيذ واللحوم وتلافي التخمة وضرورة الاعتدال في تناول الأطعمة اللذيذة”(9).

هذه النصائح والتي صارت بعد ذلك بمثابة نهج أخلاقي في فلسفة فيثاغورس، تقدم لنا صورة عن أخلاقيات طاليس. فيظهر كأنه أشبه بحكيم ومتصوف شرقي منه إلى فيلسوف يوناني.

اقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

تحمل الفلسفة هوية غربية، نظرًا لما تملك من خصائص لم تتوفر في الشرق. لا يعني ذلك بأن الشرق لم يكن يفكر، إذ قدمت الحضارات الشرقية إسهامات كبيرة في شتى المجالات المعرفية والعلمية، إلا أن التفلسف لا يعني التفكير كما يقول دولوز. يبدأ القول الفلسفي مع طاليس، بسيطًا وغامضًا في آنٍ، طافيًا على السطح وعميقًا بنفس الرهبة. من تلك البساطة والعفوية بدأت الفلسفة تتوغل في مفاصل حضارتنا البشرية وتكشف الأسرار تارة وتلقي بالمعروف في المجاهل تارة اخرى.

المصادر

  1. يمليخا، فيثاغورس حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، دار أمل الجديدة، ط1، 2017، ص17-18.
  2. نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية، ط2، 1983، ص49.
  3. brittannica
  4. internet Encyclopedia of Philosophy
  5. ancient
  6. زكي نجيب، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017، ص22-23.
  7. برنارد راسل، تاريخ الفلسفة الغربية – الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص63.
  8. نيتشه، مصدر سابق، ص46.
  9. يمليخا، مصدر سابق، ص19
Exit mobile version