فيثاغورس بين التصوف والعلم والفلسفة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

يمثل فيثاغورس المثلث الإشكالي في الفلسفة الإغريقية، لكونه يجمع الأنداد في صيغة موحدة، لا في طرحه إنما في شخصه أيضًا. بدأت الفلسفة وهي ترسم تخوم العداء والصراع مع النظرة الدينية في آغورا التي ترى العالم كهبة إلهية. والعلم أيضًا وهو في طوره الجيني اختار لنفسه طريقًا غريبًا عن المقترب الديني في التفسير. بيد أن فيثاغورس يشق طريقه في الجهة الجامعة بين التصوف والعلم والفلسفة، إذ أن الاضداد تقول بعضها على النغم الكوني. في هذا المقال سنسلط الضوء على فيثاغورس الشخص والفيلسوف والعالم.

سيرة فيثاغورس

ولد فيثاغورس حوالي عام 570 ق.م. في صيدا (فينيقيا)، يُقال أنه منذ البداية اقتنع الناس بأنه ابن الإله لجماله ولذكاءه. بعد ظهور الطاغية بوليقراط ترك البلاد نحو الملطية حيث هناك طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمانس. اعجب به طاليس وحثه على الإبحار إلى مصر للاختلاط مع الكهنة  حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيمًا في عيون أكثرية البشر(1). وفقًا لـيميلخا تواصل فياغورس في مصر مع الكهنة واختلط مع الأنبياء هناك.

بعد مضي اثنين وعشرين عامًا يحتل الملك الفارسي قمبيز مصر فيرحل فيثاغورس نحو بلاد ما بين النهرين ويسكن في بابل اثني عشر عامًا، وهناك يتعرف على العلوم الدينية ويخالط المجوس كما يستوعب قضايا الحساب والموسيقى.

يعود إلى ساموس وهو في السادسة والخمسين غير أنه لا يجد من يفهمه سوى فتى يتخذه فيثاغورس في البداية خادمًا. بسبب الموقف الاحتقاري من أهل ساموس يرحل إلى إيطاليا، أي اليونان الكبرى.

قام فيثاغورس بتأسيس أخوية صوفية في مدينة كروتون وهناك يبدأ الناس في التعرف على هذا المعلم الجديد الذي سيعلمهم كيفية الوصول إلى السعادة. مجده الناس كثيرًا وادرجوه في عداد الآلهة وبصفته نصف إله يحب البشر(2).

بعد سنوات تتعرض الأخوية إلى القمع والاضطهاد من قبل السلطات، فتمت إبادة الفيثاغوريين جميعًا ولم يسلم منهم إلا عدد قليل ليموتوا في النهاية من القهر والأسى.

مفهوم الفلسفة عند فيثاغورس

إن مفهوم الفلسفة في زمن الفلاسفة الأوائل كان مفهومًا وظيفيًا على الأكثر، إذ أن القصد من التفلسف كان بلوغ السعادة الإنسانية بمعناها الواسع. يُعتقد أن فيثاغورس هو أول من أطلق على نفسه لقب الفيلسوف، والفيلسوف هو من يتأمل في كل ما هو جميل. ومعنى “الجميل” عند فيثاغورس لا يقتصر على الجانب الظاهر والمحسوس من الموجود، بل يشمل السبب الذي أوجده أي الله وجوهره وتناسقه مع باقي الموجودات في الحدود الكونية. (3)

كما أن التربية تدخل في الاهتمام الفلسفي عند فيثاغورس؛ ذلك لأن التربية هي التي تحدد الطبيعة الإنسانية وتصقلها بروح نقية. إن الفلسفة إذن هي التأمل في الجميل وتقويم طبيعة البشر.

الأخلاق عند فيثاغورس

كانت الأخلاقيات الفيثاغورية متأثرة بالعقلية الأورفية؛ لم يفلسف فيثاغورس الأخلاق نفسها بل وضع قائمة من النصائح والمحرمات. لهذا يمكن القول بأنه فضلًا عن التأثير الأورفي كان قد تأثر بالروحانيات الشرقية، فهو أقرب إلى نبي في هذه المسألة. من المبادئ المهمة عند فيثاغورس:

  1. عند الأصدقاء كل شيء مشترك.
  2. تهذيب الجسد والابتعاد عن الشهوات.
  3. الفكر الحر.
  4. تعلم الصمت.
  5. احترام الكبار والخالدين لأن رأيهم هو الأصلح.

تصور فيثاغورس الكون على أنه كائن حي يتنفس وأن الكائنات قد انفصلت من هذا الكون/الكل وتلوثت بالوجود المجزأ. فهدف فيثاغورس إذن هو أن يقرب الكائن الإنساني من هذا الكل، طالما وجوده يمثل اغترابًا، من خلال الممارسة الروحانية (4).

التربية عند فيثاغورس

وفقًا لفيثاغورس، لا يختلف البشر عن الحيوانات، والإغريق عن البرابرة، والمولودون أحرارًا عن العبيد والفلاسفة عن المجدفين إلا في شيء واحد وهو التربية(5). إن عملية التربية هي ممارسة عقلانية للوصول إلى الرحم الأولي حيث التناسق. والتربية الجيدة لا تتحقق من خلال نظام الفرض والعقوبة إنما التعزيز المستمر. كما أن فيثاغورس أشار إلى البيئة المناسبة لنجاح العملية التربوية. ومن الجدير بالإشارة هو أن الأخوية الفيثاغورية كانت تخضع الشخص لاختبارات تستمر للسنوات ليتأكدوا بأنه يستحق العضوية(4).

الموسيقى وفق الفيثاغورسية

إن فكرة التناغم أو التناسق تعد فكرة رئيسة في فلسفة فيثاغورس، فهذا التناغم هو الذي يبقي الكون في حالة وجود. قال فيثاغورس بوجود الانسجام الشامل والغناء المتناغم للمجالات السماوية والكواكب المتحركة فوقها، وأن أغانيها لها دوي أقوى ونقاء أجلى من أي أغنية أبدعها البشر. (6).

لذلك أدخل الموسيقى في المجال الأخلاقي، حيث يمكن بواسطة أنغام وألحان وإيقاعات جميلة شفاء الأخلاق والطباع والشهوات البشرية واستعادة حالة التوازن الأولى. (7).

الهندسة الكونية

بينما ذهب فلاسفة الميليت (ملطية) إلى تحديد العنصر الأولي الذي منه جاء كل شيء، قام فيثاغورس بمقاربة مختلفة كل الاخلاف. اعتقد بأن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء وأن العالم عدد، لكن الأعداد كهندسة لا حساب. فالعالم في الحقيقة وفي جوهره إنما هو أشكال هندسية، وهذه الطبيعة الهندسية أهم من الماء والهواء…إلخ ( (8

المصادر:

  1. يمليخا، فيثاغورس حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، ص18.
  2. نفس المصدر، ص30.
  3. https://plato.stanford.edu/entries/pythagoras/
  4. https://apeironcentre.org/the-pythagorean-way-of-life/
  5. يلميخا، مصدر سابق، ص41.
  6. نفس المصدر، ص58-59.
  7. https://courses.lumenlearning.com/musicappreciation_with_theory/chapter/pythagoras/
  8. عزت قرني، الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، ص31.

فلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

هذه المقالة هي الجزء 9 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

يمثل تعريف الأخلاق (Morality) مسألة كبيرة ومتشعبة، كما أن طبيعة الأحكام الأخلاقية هي محور الكثير من النظريات والتفسيرات التي تعد جزءاً من فلسفة الأخلاق (Moral Philosophy).

الأخلاق

لا يوجد تعريف واحد يمكن أن يلخّص فكرة الأخلاق وماهيتها، لأنه لا يمكن تطبيق تعريف واحد على كافة النقاشات الأخلاقية. والسبب وراء هذا هو وجود معنَيَين واسعين للأخلاق يمكن التمييز بينهما من حيث المبدأ. فالمعنى الوصفي (descriptive) يشير إلى قواعد سلوك محددة يضعها مجتمع أو فئة معينة، كالدين مثلاً، وبناءً على هذا يتبناها الأفراد ممن ينتمون إلى هذا المجتمع أو تلك الفئة. أما بمعناها المعياري (normative) فتدل الأخلاق على قواعد السلوك التي يتفق جميع الأشخاص العقلاء عليها في ظروف محددة معطاة [1].

فلسفة الأخلاق

بالنسبة لفلسفة الأخلاق، فهي قسم في الفلسفة يبحث في طبيعة الأخلاق، ويدرس كيف يجب أن يعيش الناس حياتهم ويبنون علاقاتهم مع بعضهم البعض [2]. يقول سقراط، كما نقل عنه تلميذه أفلاطون في كتاب الجمهورية، الأخلاق “ليست مجرد قضيةٍ صغيرة، بل هي مسألةٌ تتعلق بكيف يجب أن نعيش.”

تحدّث عدد من الفلاسفة عن الأخلاق، ومنهم سقراط وأفلاطون وأرسطو في اليونان القديمة، وتوماس هوبز (Thomas Hobbes) في القرن السابع عشر، وإيمانويل كانت (Immanuel Kant) وديفيد هيوم (David Hume) في القرن الثامن عشر. ولكن في هذا المقال لن نسلط الضوء على رأي فيلسوف واحد دون غيره. بل سنتحدث عن طبيعة أو حالة الأخلاق (status of morality). وهذا يعني النظر في الأحكام الأخلاقية التي نطلقها ودراسة حالتها.

ما هي الأحكام الأخلاقية؟

تختلف الأحكام الأخلاقية (moral judgements) عن الأحكام التجريبية (empirical judgements) بأن الأولى هي أحكام مجرّدة في حين أن الأخيرة هي أحكام عملية يمكن إثباتها. فمثلاً، عندما نقول أنّ الأرض تدور حول الشمس، فهذا حكمٌ تجريبيٌّ مبنيٌّ على حقائق علمية وأبحاث مثبتة. لا يمكن نفي هذا الحكم، فهو صحيح، وإذا ادّعى أحدٌ ما أنّ الأرض لا تدور حول الشمس، فيمكننا ببساطة دحض ادّعائه والحكم عليه بأنه مخطئ. إذاً، الأرض تدور حول الشمس وهذه حقيقة لا تقبل الجدل. أما إذا قلنا أنّ الأعمال الخيريّة والتبرّع هو تصرّف صحيح، فيمكن الوقوف عند هذا الحكم والاختلاف عليه. إذ يرى البعض أن هذا الحكم صحيحٌ ويمكن أن يبرروا رأيهم من خلال نقاش معين. في حين قد يعتبر البعض الآخر أنه غير صحيح، وهؤلاء أيضاً لديهم حججٌ لدعم رأيهم [3].

حالة الأخلاق The Status of Morality

كما ذكرنا، تركّز دراسة حالة الأخلاق على النظر في الأحكام الأخلاقية و طبيعتها. لا يتمحور الاهتمام هنا حول تقييم إذا كان الحكم الأخلاقي صحيحاً أم لا، بل يكمن التركيز على حالة هذه الأحكام فيما إذا كانت تمثل حقائقَ موضوعية أم ممارساتٍ ثقافية أم آراءً شخصية. تسمى هذه الدراسة بالأخلاق الفوقية أو ما وراء الأخلاق (meta-ethics). وهي لا تنظر في صحة الأحكام الأخلاقية، بل تركز على السؤال عن طبيعة هذه الأحكام وأسسها وخصائصها [4]. ومن هنا يمكن التمييز بين عدة مذاهب فلسفية تنظر في طبيعة الأخلاق، ومن بينها الموضوعية والنسبية والانفعالية [3].

الموضوعية في فلسفة الأخلاق

ترى الموضوعية (Objectivism) أنه يمكن تصنيف الأحكام الأخلاقية تحت بند “صحيحة” و”خاطئة”. وتبني الموضوعية هذا التصنيف على أساس الأدلة. فهنا يمكن اعتبار الأحكام الأخلاقية أحكاماً موضوعية كالأحكام التجريبية، أي أنها إما صحيحة بالمطلق أو خاطئة بالمطلق [3]. تبرر الموضوعية موقفها بوجود أسس وأدلة وحقائق تُمكّننا من أن نقبل أحكاماً معينة على أنها صحيحة في حين نرفض أحكاماً أخرى ونراها خاطئة [5]. وهذه الأسس لا علاقة لها بمن نكون أو إلى أي ثقافة أو مجموعة ننتمي. بل هي حقائق مستقلة عمّا يحيط بها، وهي التي تقرر فيما إذا كانت الأحكام الأخلاقية صحيحة أم لا [3].

من الاعتراضات الموجهة ضد الموضوعية هو السؤال حول آلية إثبات الحقيقة الموضوعية وراء الحكم الأخلاقي. فمثلاً يمكن إثبات حكم تجريبي من خلال الملاحظة والأدلة الملموسة، كأن نثبت دوران الأرض حول الشمس بناءً على ملاحظاتٍ فلكية وظواهر تمكن مراقبتها. ولكن لا توجد طريقةٌ يمكن فيها إثبات حقيقة حكم أخلاقي. فإذا قلنا أنّ القتل أمرٌ خاطئ، وهذا حكمٌ أخلاقي، لا يمكن إيجاد طريقة عملية لإثبات هذا. وإذا كان هنالك رأي مخالف لهذا الحكم، من الصعب اتّباع طريقة إثبات الأحكام التجريبية من أجل الوصول إلى حل لهذا الخلاف [3].

النسبية في فلسفة الأخلاق

تتفق النسبية (Relativism) مع الموضوعية أنه من الممكن للأحكام الأخلاقية أن تكون صحيحة أو خاطئة. ولكن، ترفض النسبية أن صحة هذه الأحكام أو خطأها هو أمر مطلق، بل ترى أن هذا يتوقف على الخلفية الثقافية والسياق الذي بنيت هذه الأحكام ضمنه. أي أن هذا أمر نسبي لا يقوم على أسباب أو أدلة ثابتة. فقد تتغير النظرة لحكمٍ أخلاقي ما بناءً على البيئة والمعتقدات والظروف التي تحيط به، ويختلف هذا من شخص لآخر أو من ثقافة لأخرى [3].

مثلها مثل الموضوعية، تواجه النسبية اعتراضاتٍ وتساؤلاتٍ، من بينها عدم قدرتها على تفسير التقدم الأخلاقي. فإذا كان الحكم الأخلاقي يختلف بالنسبة لثقافة الفرد أو خلفيته، من الصعب عندها فهم التقدم الأخلاقي أو كيفية تطور الأخلاقيات البشرية. مثلاً، فيما مضى، كانت العبودية أمراً عادياً ومقبولاً، ولكننا الآن لا نقبل بها ونعدّها غير أخلاقية، وهذا ما يسمى التقدم الأخلاقي الذي جعل البشرية تغير من أحكامها الأخلاقية على موضوعٍ مثل العبودية. ولكن من وجهة نظر النسبية، ينتج هذا الاختلاف في الحكم الأخلاقي نتيجة التغير في الثقافة والمجتمع. أي أنه أمرٌ نسبيٌ، إذا قبله المجتمع فهو حكمٌ أخلاقيٌ صحيح، أما إن لم يقبله فهو حكمٌ أخلاقيٌ خاطئ. وعليه، يفسّر الاختلاف بين المجتمعات قديماً والمجتمعات الحالية اختلاف الحكم الأخلاقي تجاه العبودية. هنا، تعجز النسبية عن تفسير التقدم الأخلاقي لأنها تقيس الاختلاف في الأحكام الأخلاقية بناءً على تغير المجتمعات والثقافات [3].

الانفعالية في فلسفة الأخلاق

تختلف الانفعالية (Emotivism) عن الموضوعية والنسبية في نظرتها للأحكام الأخلاقية. فهي لا توافق على أن هذه الأحكام تقبل أن تكون صحيحة أو خاطئة. بل تعتبرها مجرّد آراءٍ شخصيةٍ وتعبيرٍ عن العواطفِ في لحظة إطلاق الحكم. بعبارة أخرى، ترى الانفعالية أن الأحكام الأخلاقية هي ردة فعل على العالم من حولنا و تعبيرٌ عمّا إذا كنا نرحب بفكرةٍ ما أم نكرهها، أو إذا كنا نقبل بها أم نرفضها. وهذا المذهب يجرّدُ الفكرة الأخلاقية المعنية من كونها صحيحة أو خاطئة، فموقفنا هو الذي يتغير وفقاً لمشاعرنا [3].

ومن التحديات التي تواجهها الانفعالية هو أننا في بعض الأحيان نطلق أحكاماً أخلاقية بناءً على تفكير منطقي يقودنا إلى تلك الأحكام. ولكن وفقاً للانفعالية، الأحكام الأخلاقية هي مجرد تعبيرٍ عن العواطف، ولا وجود لأي تفكيرٍ منطقي وراءها. وهكذا لا تستطيع الانفعالية تفسير التغيّر في أحكامنا على أمر ثابتٍ بناءً على تغيّر تفكيرنا المنطقي تجاهه. على سبيل المثال، في مسرحية الملك أوديب لسوفوكليس، يتزوج أوديب والدته جوكاستا وينجب منها. مبدئياً، إذا أردنا أن نحكم على الملك أوديب لأنه تزوج والدته، سنقول أنّ هذا تصرفٌ خاطئٌ أخلاقياً. أما إذا فكرنا بحقيقة أن أوديب لم يكن يعرف أن جوكاستا التي تزوجها هي والدته، وهذا تفكير منطقي مبني على معطيات تتعلق بالحادثة، سنرى أننا قد نغير رأينا وحكمنا بأن تصرفه خاطئ أخلاقياً. ولكن الانفعالية لا تستطيع أن تفسر هذا التفكير المنطقي في الأحكام الأخلاقية لأنها ترى أنها تعبير عن عواطف وردود أفعال، وهذا أحد المآخذ ضد التفسير الانفعالي أو النظرة الانفعالية للأخلاق [3].

إذاً، تنطوي فلسفة الأخلاق على مذاهب ومقاربات عديدة تفسر طبيعة الأحكام الأخلاقية والأسباب الكامنة وراءها. وتواجه كل من هذه المذاهب اعتراضاتٍ وتحدياتٍ تضعف موقفها من جهة معينة. ولكن هذا لا يعني أن المذاهب خاطئة بالمطلق، بل هذه التساؤلات التي يوجهها أنصار مذهب ما تجاه الآخر هو ما يحفز التفكير بنظريات أخرى والخروج بدراسات جديدة لطبيعة الأحكام الأخلاقية وأُسسها.

اقرأ أيضاً: ما هي النفعية؟

المصادر:

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Morality
  2. Ethics Unwrapped
  3. Chrisman, Matthew, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  4. Internet Encyclopedia of Philosophy – Meta-ethics
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Moral Relativism

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

تثير حول بدايات الفلسفة الكثير من التساؤلات الجوهرية، خاصةً فيما يتعلق بهوية الفلسفة وإشكال الأصول والمصادر الرئيسة. إلا أن الرابط الكائن بين الفلسفة والعلم يعد من أبرز الجوانب التي تحتاج إلى الإحاطة والتحليل؛ فالفلسفة لم تقدم علمًا إنما عاشت لحظات علموية. إحاطتنا بتلك اللحظات من شأنها أن تكون منعطفًا أنطولوجيًا، إذ أن علاقة العلم بالفلسفة لا تنكشف بالتناول التقليدي المألوف. تجربة فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس, إذا ما حررناها من الإطار التاريخي ستساعدنا لأن نقترب من التوتر الموجود بين الفلسفة والعلم. مؤرخو العلم يركزون على تلك العلاقة الحميمة في اللحظات التي تجلى العلم بمفرده في القول الفلسفي. بينما مؤرخو الفلسفة يقدمون الفلسفة بوصفها الكينونة الأم للعلم والمعرفة، يتعاملون مع العلم على أنه الابن الضال للفلسفة. نحاول في هذا المقال أن نبين التواصل الدائم بين مسطحي المحايثة والمرجعي (على حد تعبير دولوز).

حول الفيلسوف الضاحك ديمقريطس

يُعرف عن ديمقريطس بأنه كان يثمن الابتهاج والسعادة في الحياة؛ فسُمي بالفيلسوف الضاحك. حسب بعض المصادر, ولد ديمقريطس في عام 460 ق.م. في أبديرا. بينما تزعم مصادر أخرى بأنه ولد في عام 490 ق.م. في مدينة ملطية-ميليتوس (ونيفري). حسب المصادر الموثوقة، كان قد سافر كثيرًا إلى الشرق، وعاش لفترة طويلة في مصر وبلاد الفارس قبل أن يعود إلى أبديرا. ولنعرف أكثر عن سيرته الفلسفية لا بد أن نشير إلى ثلاثة محاور هامة في حياته. (1)

علاقة ديمقريطس مع الموروث

كان يافعًا عندما كان انساغوراس شيخًا، بهذا فهو يعد بمثابة حلقة وصل بين ما يسمى بالفلسفة القبسقراطية والأفلاطونية. فمذهبه الذري فيه الكثير من روح الموروث وفيه ما يكفي من التحديث ليؤثر على الفلاسفة اللاحقين مثل أبيقور.

السفسطائية

إن حركة السفسطائية تعد من الحركات المثيرة للجدل والاعجاب في تاريخ الفلسفة، نظرًا لانتقاداتها اللاذعة بوجه الموروث الإغريقي الروحي والتقليدي الفلسفي. فهي التي أسست للعدمية البدائية والنسبية الأخلاقية على نحو واسع، بحيث تبرز في سياق مختلف تمامًا من السياق الفلسفي الإغريقي. ونظرًا لأنها كانت أكثر شعبية وتأثيرًا في المجتمع الإغريقي فمن المستحيل ألا يكون لهم تأثير بالغ في فلسفة ديمقريطس. اقرأ أيضًا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

أفلاطون وسقراط

يتبين من معظم المصادر بأنه كان قد عاصر سقراط, علاقته مع سقراط غير واضحة, لكن اهماله من قبل أفلاطون قد يكون نتيجة وجود توتر حاد بينهما. يذكر المؤرخ ديوجين لاتيريوس بأن أفلاطون كان يكرهه كثيرًا ويتمنى ولو تُحرق كل كتبه. من النادر أن نجد أي فيلسوف غفل عنه أفلاطون في محاوراته، لكنه لم يذكر ديمقريطس ولو لمرة واحدة.

فيزياء ديمقريطس

مع أن الفلسفة بدأت من خلال فك ارتباط التفكير بالأسطورة, غير أن التفكير اللاهوتي او المنطق اللاهوتي ظل سائدًا. حتى فلاسفة الصيرورة احتاجوا إلى عنصر ميتافيزيقي وعزوا إليه الأصول، لكن مع ديمقريطس حدثت قفزة نوعية. كانت الصيرورة عند الملطيين وهيراكليطس تبدأ من الاصل الميتافيزيقي نحو ظلال الطبيعة. وهناك فلاسفة وقعوا في أسر اشكال الصيرورة وقالوا بأن التغير يستدعي وجود العدم، والعدم يستحيل أن نقول فيه شيئا أو أن نفكر فيه.

استطاع ديمقريطس أن ينفي ادعاء بارمنيدس من خلال تقديم مفهومين مهمين وهما الذرات والفراغ. الذرات هي اللبنات الأساسية في كل تكوين, بما في ذلك تكوين النفس البشرية, وهذه الذرات تتحرك في الخلاء/الفراغ. كما يقول راسل، فان الطرح الديمقريطي أقرب إلى البحث العلمي, ذلك لأنه اراد أن يفسر العالم دونما حاجة إلى فكرة العلة الغائية أو السببية (2).

إن التفكير الغائي لا يتوقف في ارجاع كل شيء إلى شيء سابق له ومن ثم يطرح الشيء -الله- الذي يغير ولا يتغير. إلا ان ديمقريطس فكر كما يفكر عالم, قال ببساطة أن الأشياء جميعها تتغير لأن الذرات تغير اماكنها.

إن الذرات هذه يستحيل فناؤها، فهي كانت منذ الأزل وستظل إلى الأبد في حركة دائمة، وهناك عدد لا نهائي من الذرات (3). إن الذرات تتصادم وتتنافر وتترابط مع بعضها لتشكيل الأجسام. فوجود أشياء متغيرة ومتباينة ما هو في الأصل إلا اختلاف في الارتباط بين الذرات (4).

في الأخلاق والسعادة عند ديمقريطس

عكس نظريته الفيزيقية, لا تتمتع أخلاقيات ديمقريطس بوجود نسق فلسفي أصيل, فهي على الأغلب ملاحظات عامة حول السعادة. يشير ديمقريطس إلى الحتمية المتأصلة في الطبيعة، فيقول: الضرورة عينت سلفًا كل الأشياء الكائنة والتي تكون والتي ستكون. إذا ما طبقنا فكرته هذه على حقل الأخلاقيات فأننا سنكون أمام معضلة أخلاقية ووجودية كبيرة، فإذا ما كانت سلوكيات الإنسان محكومة بالحتمية فأنه لا يتحمل مسؤولية افعاله. وفقًا للسفسطائية فأن السلوكيات ايضًا جزء من العالم الجاري, لذا فأنها تؤسس لعدمية أخلاقية, لكن ديمقريطس بدلًا من أن يورط نفسه مع العدمية فضل أن يناقض نفسه.

تشكل الصدفة في مبحث الأخلاق أهمية بارزة، وكأنها الفسحة التي يستطيع الإنسان التنفس منها, ويمارس حريته، فهو يقول في الصدفة بأنها تمنح الهبة العظمى للأمل (5). كما هي الحال مع أبيقور فأن ديمقريطس يضفي على الأخلاق صفة القصدية، ذلك لأن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها إنما تهدف إلى بلوغ السعادة.

إن مفهوم السعادة عند ديمقريطس غير واضح تمامًا, يعتقد البعض أن السعادة الديمقريطية هي نفسها السعادة الأبيقورية , بينما يشير آخرون إلى عكس ذلك. فكما يقول المؤرخ ديوجين فأن السعادة ليست هي اللذة ولكنها حالة تحيا فيها النفس بهدوء وأمان غير مزعجة بالخوف والخرافة. يؤكد ديمقريطس في شذرة بأن نفس الشيء خير وحقيقي بالنسبة للجميع لكن اللذة تختلف من فرد لآخر. (6)

ولإحاطة أكبر بمفهوم السعادة لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين: السعادة حالة عقلية معرفية وليست حالة جسدية كما هو الوضع مع الأبيقورية. إن ما يمنح السعادة هو نفسه ما يمنح الجمال فيقول عن ذلك: اللذات العظيمة تشتق من التأمل في الأعمال الجميلة. (7)

فضلًا عن الجانب الجمالي للأخلاق فثمة صفة أخرى ملاصقة بالنظرية الأخلاقية ألا وهي العلم, فأننى نسعى إلى الجميل أي إلى السعادة من خلال التعليم والمعرفة. تأكيدًا على ذلك يقول: الجها بالأحسن هو علة الفعل الخاطئ.

طريق المعرفة عند ديمقريطس

لم يُحسم النقاش حول تحديد النسق المعرفي في فلسفة ديمقريطس, لا يعود السبب إلى نقص المصادر إنما إلى التنوع التأويلي. يصنفه أرسطو كفيلسوف ظاهري, بينما سكستوس يعتبره شكوكيًا في حين يعد فيلسوفًا حسيًا وفقًا لثيوقراسطوس.

يقول ديمقريطس في إحدى شذراته:

“على المرء أن يتعلم بأن وصول الحقيقة مستحيل”.

هذا الطرح يتطابق مع المقترب السفسطائي الأبستومولوجي, كما يؤمن مثل السفسطائيين بالصيرورة المعرفية ومبدأ الاتفاق. يقول في شذرة أخرى “نحن لا نعلم شيئا حقيقيًا عن أي شيء فكل رأي في حالة التغيير”.

ويمكننا أن نجانب أرسطو في تفسيره, فقوله في التغيير لا يعني غياب أي ثابت أو جوهر كما هي حال السفسطائية. إنه لا يقصي الحقيقة بل يعتبرها متوارية في اعماق الشيء/الظاهرة, وظاهر الشيء يقدم بعض المعطيات للعقل بحيث المعرفة من دونها غير ممكنة. فالحواس/التجربة هي بداية المعرفة لكنها ليست كلها, وهذا ما يؤكده كانت ايضًا.

كما يمكن اعتباره فيلسوفًا عقليًا لتأكيده على دور العقل الفاصل في العملية المعرفية, فهو يربط السعادة بالعقل وكذلك المعرفة.

مستويات المعرفة

وفقًا لسكستوس، للمعرفة مستويين عند ديمقريطس:

  • المعرفة غير الشرعية: وهي المعرفة التي نحصل عليها من الحواس, فهي غير شرعية لأن الحواس لا تستطيع أن تتعدى صفات الشيء والتي هي في الأساس خبرات حسية ولا وجود لها حقيقة. على سبيل المثال, نقول عن شيء ما بأنه مالح, فالملوحة نفسها غير موجودة في كيان الشيء.
  • المعرفة الشرعية: وهي المعرفة التي يقدمها العقل؛ لقدرته على تجاوز ظاهر الشيء إلى باطنه وجوهره.

لا ينكر ديمقريطس دور الحواس كما ذهب بعض الفلاسفة، لكنه لا يتمسك بها ايضًا، فهو يبين التواصل الموجود بين العقل والحواس. ذلك التواصل يؤدي إلى المعرفة، فأن الحواس تكون بمثابة بوابة العقل، فهو يستقبل منها المعطيات الرئيسة لتكوين معرفة صادقة وسليمة.

مكانة ديمقريطس في الفلسفة

ثمة الكثير من الآراء المتباينة حول فلسفة ديمقريطس، يعتقد البعض بأنه قد استلم نظريته من لوقيبوس وهناك من يؤيد أصالته. ما يهم هو أنه قاد حركة علمية أصيلة في الفلسفة اليونان القديمة، فهو الذي رفع الغطاء الميتافيزيقي عن العالم. حتى وإن لم نستطيع أن نقول بأن ديمقريطس هو فيلسوف الذرة الأول فيستحيل إقصاء فلسفته فهي فلسفة رائدة في إيقاظ وتنشيط التفكير العلمي.

قدم ديمقريطس نظرية متماسكة حول بنى الطبيعة، وقدم بعض الحكم والملاحظات الأخلاقية حول السعادة. كما أن نظرية الأبستومولوجيا لديه تمتاز بدقة علمية وفلسفية مميزة. فضلًا عن ذلك اسهاماته في علم الاجتماع وأصل المجتمع والدولة واللغة وأثرت في الأبيقورية وتركت بصمة مهمة في فلسفة ماركس، فقد كان موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه.

المصادر:

  1. https://www.universetoday.com/60058/democritus-atom/
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية, الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية 2010, ص128.
  3. نفس المصدر, ص127.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/democritus/
  5. علي سامي النشار, ديمقريطس, الهيئة المصرية, ص106.
  6. نفس المصدر, ص109.
  7. نفس المصدر, ص103.

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

حين نلقي نظرة في تراثنا المعرفي، نستسلم لغبطة كبيرة لما بين أيدينا من كتب استطاعت الصمود لأكثر من ألفي عام. لا يزال بإمكاننا تسجيل حضورنا في بلاد أوروك لنقرأ كلكامش، ونسير مع سقراط في أثينا وهو يجادل الفلاسفة والسفسطائيين. أثرت تلك الكتب بشكل رهيب في واقعنا الثقافي، غير أن النظرة لو طالت سيأخذنا الحزن بعيدًا. ملايين الكتب كان مصيرها الفناء بسبب حروب سياسية ودينية وعوامل بيئية، فالكثير من الأسماء اختفت من ذاكرة التاريخ. كان أبيقور قد ألف 300 كتابًا، لم يصلنا منها سوى بعض الشذرات والرسائل. المصدر الأكثر أهمية في فلسفة أبيقور بين أيدينا الآن هو قصيدة لوكريتوس (حول الطبيعة). في هذا المقال سنسلط الضوء على ثلاثة مباحث من فلسفة أبيقور.

لمحة عن أبيقور ومدرسته

ولد أبيقور في (ساموس – Samos) عام 342 ق.م من عائلة فقيرة جدًا. وفي ساموس كان قد استمع إلى فيلسوف أفلاطوني يدعى (بامفيلوس – Pamphilus)  وبعد ذلك إلى (نوزيفان – Nousiphanes) من أتباع ديمقريطس(ص 535 تاريخ). إلا أن أبيقور يتباهى بأنه طفق يتفلسف وهو في الرابعة عشرة من العمر(1).

أسس أبيقور مدرسته عام 306 ق.م (311 حسب راسل) تزامنًا مع تأسيس المدرسة الرواقية. بينما سارت الرواقية تتطور في مذهبها الفلسفي في طريق طويل من مراحل التطور(2)، بقت المدرسة الأبيقورية قائمة نحوًا ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله ولم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة ولا غيروا من آرائه (3).

لم يكن أبيقور يمثل مؤسسًا لمدرسة حاله حال زينون وحسب. ففي حين نجد في الرواقية من تجاوز بداياتها على نحو ديمقراطي وأضاف عليها، كان أبيقور يمثل شخصية مقدسة بالنسبة لأتباعه. بعد مرور مئتي سنة من وفاة المعلم وصفه لوكريتوس بالإله في أبيات شعرية:

(كان إلهًا، أجل إلهًا، فهو أول من اكتشف ذلك الاسلوب في الحياة الذي يقال له اليوم الحكمة، وهو من نجانا بفنه من عواصف عاصفة ومن ليل دامس وجعل حياتنا تدور في هدوء وضياء عظيمين.(4).

وكما كان بسيطًا في فلسفته، كان بسيطًا جدًا وهو يواجه الموت، ففي اليوم الأخير له في الحياة كتب لأحد اتباعه: “أكتب إليك في نهاية يوم سعيد من أيام حياتي، فأوصابي لا تفك طوقها عني وما عاد في مقدورها أن تزيد عما هي عليه؛ كل ذلك أقابله بفرح الذي أسكنته في نفسي ذكرى مناقشتنا الماضية.(5)

إقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

أصل المجتمع:

إن النظرية التي يفسر فيها أبيقور أصل المجتمع واللغة والدين والقانون والملكية قريبة جدًا من الطرح الماركسي حول هذه المسائل.

في البداية، كان يعيش البشر في عزلة ويتكاثرون عشوائيًا، وما كان بإمكانهم أن يتواصلوا لفظيًا ولا كانت لهم مؤسسات إجتماعية. ويعزو أبيقور نجاة الإنسان من ويلات الطبيعية إلى القوة الجسدية الجبارة التي امتلكها عصرئذ، حيث كان في صراعات مستمرة. بفضل اكتشاف النار وظهور الأسرة والمشاعر الحارة تجاه الأزواج والذرية خفت حدة الصراعات تلك. في المرحلة هذه كان البشر في وضع يسمح لهم بالإتحاد ليكونوا في مأمن من أخطار الطبيعة كالوحوش البرية. فقاموا بتطوير أنواع مختلفة من المهارات التقنية، مثل الزراعة، بناء المنازل وكذلك اللغة.(6)

أن الأسماء في البداية نشأت بشكل طبيعي، بحيث كلما تعرض الإنسان إلى مثير من المثيرات، اطلق صوتًا معبرًا له. ونظرًا لإختلاف خصائص الإنسان الفيزيائية من بيئة لأخرى اختلف الاصوات التي انتجها الإنسان إستجابة للمثيرات، وذلك يعلل وجود لغات مختلفة. والنقاشات النظرية أدخلت مفردات جديدة في اللغة حتى وصلت لحالة متقدمة وهذا ما ساعد الناس في تكوين صداقات وتحالفات جديدة مما حقق المزيد من الأمن الإجتماعي.(6)

لم تكن هناك منافسة على السلع بعد، وبالتالي لم تكن هناك هناك صراعات وحروب. ومن جهة أخرى كانت المفردات اللغوية ما زالت تتوافق مع موضوعاتها البدائية ولم تكن بعد مصدرًا للإرتباك العقلي. ولكن بفضل التراكم التدريجي للثروة ، جاء الصراع على السلع ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ، وظهر ملوك أو طغاة حكموا على الآخرين ليس بحكم قوتهم الجسدية ولكن بفضل الذهب. تم الإطاحة بهؤلاء المستبدين بدورهم، وبعد فترة من الفوضى العنيفة، وجد الناس أخيرًا حكمة العيش في ظل حكم القانون.(6)

الأخلاق:

حالها حال الرواقية، تختصر الأبيقورية الفلسفة في الأخلاق، وتعتبر الأخلاق كممارسة حياتية سليمة للوصول إلى حياة سعيدة خالية من الألم. يترتب على ذلك ابتعاد المدرسة هذه من كافة أشكال التعقيد وإبعاد الآلهة والتصورات الميتافيزيقية والمفاهيم المجردة عن الحالة الإنسانية.

تدور الأخلاق الأبيقورية حول فكرتين محوريتين: اللذة و(الطمأنينة-Ataraxia)، بشكل، تكون الطمأنينة تابعة للذة التي هي غاية. غائية اللذة وضعت الفلسفة الأبيقورية في مرمى الانتقادات ابتداءًا من الرواقية إلى يومنا هذا، فاللذة كانت ولا زالت قرينة الشر. غير أن أبيقور كان قد برر موقفه: “عندما نقول أن اللذة غاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والمجانين”(7).

يجعل أبيقور من الرغبات مراتب؛ فهناك الطبيعية والضرورية كالرغبة في الاكل، وهناك طبيعية وغير ضرورية كالرغبة في نوع معين من الطعام، وهناك رغبات لا هي طبيعية ولا ضرورية كالرغبة في تاج أو تمثال. والحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإشباع النوع الأول من الرغبات. (7)

وحول علاقة اللذة بالسعادة والخير يقول أبيقور: “إننا نؤكد أن اللذة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرفنا على ذلك على أنه الخير الأول، الفطري فينا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه”(8).

وكون اللذة غاية لذاتها، لا يعني أن الفضائل الأخرى ليس لها أي اعتبار بل أن اللذة متجذرة فيها. فيقول عن ذلك: “ليس من الممكن أن نعيش في سعادة دون أن نعيش على نحو شريف، وعادل وحكيم، كما لا يمكن أن نعيش على نحو شريف وعادل وحكيم دون أن تكون سعيدًا. فالرجل العادل هو أكثر الناس تحررًا من القلق والإنزعاج، أما الرجل الظالم فهو فريسة دائمة لهذا القلق والإنزعاج”(9).

الميتافيزيقيا:

كان أبيقور شديد الحذر من إدخال دور الآلهة في فلسفته وشؤون الناس، لكنه درس ظاهرة الدين ووجود الآلهة دراسة دقيقة. فسر السلوك البشري البدائي وعلاقته بظهور الحالة الدينية وتطورها. فالظواهر الطبيعية كالرعد والبرق تُفسر على أن الآلهة غاضبة على خطايا البشر، في حين أن الناس البدائيين في مراحل ما قبل ظهور المجتمع رغم شعورهم بالرعب إزاء الظواهر الطبيعية وتفسيرهم لها بأنها من صنع الآلهة لم يحسبوها كعقوبة. رغم أن موقف أبيقور من الآلهة غير واضح لكنه أقرب إلى بروتوغوراس، فهو ينفي تدخل الآلهة في شؤون البشر.(6).

بسبب موقفه الحاد من الآخرة والعناية الإلهية وخلود النفس وعقاب الآلهة، كان يتم إتهامه بالإلحاد. أن أبيقور لا ينفي وجود الآلهة، لكن يضعها في عزلة تامة عن البشر وحياتهم. الآلهة كما يتصورها أبيقور، مختلفة عن المفهوم الشائع، فهو يقول بأن الآلهة خالدة في الفضاء البعيد ولا تهتم بأمرنا.(10)

نجد أن هذا الاهتمام الذي يعطيه أبيقور للآلهة آت عبر تفسيره الرئيس للألم ومشكلة اجتناب الخوف. يرى بأن الدين والخوف من الموت هما من أكبر مصادر الخوف، وهما متصلان أحدهما بالآخر. فالدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء. أما أبيقور يجد في تدخل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع وأن الخلود يقضي على كل أمل في النجاة من الألم.(11)  

الخلاصة:

إن المدرسة الأبيقورية استمرت لستة قرون إلا أن روح المذهب بقت كما هي، وظل التلاميذ يدافعون عن نظريات المعلم المبارك. هذه المدرسة يمكن القول بأنها مطبخ  السعادة البشرية، فهي لم تخوض معاركها في تخوم المنطق والرياضيات والمعرفة الخالصة. قالت قولها في الحياة ببساطة مفرطة، إن الحياة السعيدة هي تحقيق اللذة وتثبيط الألم، واللذة تكون في أبسط صورها. هذه اللذة مثلت الخيط الذي يربط كافة المباحث ببعضها، لا سيما المباحثة الثلاثة الرئيسة في فلسفة أبيقور.

المصادر:

  1.  امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص94.
  2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة 2010، ص375.
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص182.
  4. اميل برهييه، مصدر سابق، ص96-97.
  5. نفس المصدر، ص 124.
  6. https://plato.stanford.edu/entries/epicurus/#SociTheo
  7. اميل برهييه، مصدر سابق،ص110.
  8. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص542.
  9. نفس المصدر، ص544.
  10. https://iep.utm.edu/epicur/#SH3e
  11. برتراند راسل، مصدر سابق، ص382.

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

إن الفلسفة تتخطى دومًا التخوم الذي يتم رسمه لها، ولا أمل بمستقبل أي تحديد، فهي تجد فريستها في الغاب المجهول. يساعدنا الشمول الفلسفي في إيجاد أي طريق للوصول وإلى أي أين نقصده. الفلسفة الرواقية هي من الفلسفات التي من شأنها أن تفند الإدعاءات التي ترى في الفلسفة كهوة وقطيعة مع الواقع المعاش. فالفلسفة الرواقية تقدم وصفة لحياة سعيدة إن صح التعبير.

في العصر الهلنستي شديد الخصوصية تبرز الرواقية على نحو مختلف في الفضاء الفلسفي العام المحتكر أفلاطونيًا وأرسطيًا. تجر الرواقية الفلسفة إلى شؤون حياة الفرد العامة حيث هواجس الإنسان الأصيلة المتمثلة بعيش حياة مستقرة لا أكثر. نحاول في هذا المقال أن نتناول المباحث الأهم في الفلسفة الرواقية.

لمحة عن العصر الهلنستي:

بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 320 ق.م. تبدأ مرحلة جديدة في بلاد الإغريق وأسقاع مختلفة من العالم، الحقبة الهلنستية. الطرق التي فتحها الفلاسفة الإغريق تصبح مؤهلة لخطوات أقدام جديدة وغير إغريقية. هذه الحقبة التي أمست فيها الثقافة اليونانية ملكًا مشتركًا بين جميع بلدان البحر الأبيض؛ بعد وفاة الإسكندر وحتى الفتح الروماني انتشرت الثقافة اليونانية رويدًا رويدًا، أمتدادًا من مصر وسوريا ووصولا إلى روما وأسبانيا. كانت أداة هذه الثقافة هي القونية وهي لهجة دارجة من اللغة اليونانية.(1)

في هذه الحقبة، ظلت أثينا مركزًا للفلسفة؛ لكن ليس بين هؤلاء الفلاسفة أثيني واحد، ولا حتى إغريقي واحد. فجميع الرواقيين المعروفيين بهذا الإسم في القرن الثالث قبل الميلاد كانوا من الأغراب والدخلاء قد قدموا من الأمصار الواقعة عند تخوم الحضارة اليونانية.(2)

معنى الرواقية:

الرواقية (ٍStoicism) مدرسة فلسفية من الحقبة الهلنستية أسسها زينون القبرصي حوالي 300 ق.م(3). لغةً، اشتقت من كلمة الشرفة أو الرواق (stoa poikilê) في أثينا وكانت  مزينة بلوحات جدارية حيث كان اعضاء المدرسة الرواقية يجتمعون ويقدمون محاضراتهم.(4)

الرواقيون:

 زينون هو مؤسس المدرسة وهو من قبرص، وخلف زينون في رئاسة المدرسة كليانتس، وخلفه كرسبوس. وبعد وفاة هذا الأخير خلفاه كل من زينون الطارطوسي وديوجينس السلوقي.(5) أما بالنسبة للرواقية الرومانية فمن أبرز أعلامها سينيكا و شيشرون وبانيتسوس وبوسيدونيوس.(5)

مصادر معرفتنا عن الرواقية:

ثمة مشكلة كبيرة نواجهها بهذا الخصوص، فليس بحوزتنا عمل واحد كامل من اعمال رؤساء المدرسة الرواقية الثلاثة: زينون، كلينتاس وكريسبوس(4). يقال بأن كريسبوس وحده قد ألف 165 كتابًا، ولم يبقى من كل تلك الأعمال سوى شذرات. الأعمال الكاملة التي لدينا الآن من التراث الرواقي تعود إلى الفترة الرومانية، سينيكيا، أبيكتيتوس والإمبراطور ماركوس وهي أعمال أخلاقية صرفة(4).

الفلسفة والحياة:

رغم التأثير الأفلاطوني الواضح على بلاد الإغريق عصرئذ، إلا أن الرواقية قد شقت طريقًا جديدًا في الفلسفة. لا تعتبر الرواقية الفلسفة تسلية ممتعة أو حتى هيئة معرفية خالصة، إنما كطريقة عيش أو ممارسة حياتية مفيدة وذات معنى(4). لذلك، نجد بأنها تعارض كل من الأفلاطونية والأرسطية.

العلاقة التي تؤسسها الرواقية مع المعرفة تنطلق من كون أن المعرفة والسلوك في إرتباط وثيق، فمعرفتنا الصادقة بالعالم تؤدي إلى سلوكيات مناسبة. كما ذهبوا إلى أن مبحثي الفلسفة، المنطق والفيزياء مرتبطان وتركيزهما الأساسي هو الأخلاق(6).

وإذا ما تأملنا حياة الرواقيين نجد بأنهم كانوا أكثر إنشغالًا بالفضيلة لا بالمعرفة المحض كما هي الحال في التراث الفلسفي. وعلى ذلك يقول سينيكا: “الفلسفة ليست أي شيء، إنما هي العلة الطبيعية للحياة، أو المعرفة الحلوة بالحياة، أو هي فن تنظيم الحياة الطبيعية. لن تخطأ إذا قلت أن الفلسفة هي قانون الحياة”(7)

نظرية المعرفة:

إن الرواقية تختار الجبهة المضادة للجبهة الأفلاطونية، فهي تستبعد أن يكون الواقع محض ظلال كما ذهب أفلاطون. فالبنسة للرواقية معرفة الواقع ممكنة وذلك من خلال التجربة المباشرة معه وذلك من خلال الإدراك الحسي.

خلال التاريخ الفلسفي، كانت الحقيقة تمثلًا هاجسًا كبيرًا، فمن الفلاسفة من قال بإستحالة الوصول إليها ومنهم من توكل على العقل. إلا أن الرواقية لا تحسب حسابًا كبيرًا للحقيقة طالما أنها مستقرة في الإدراك الحسي ولا تتطلب صفة لا تتوافر لدى الفرد العادي(8). غير أن هذا لا يعني بأن نظرية المعرفة لدى الرواقيين واضحة جدًا، فهم أولًا يرفضون الإستقلال الذاتي للمواضيع الفلسفية، وثانيًا يرفضون إمكانية تحقيق المعرفة في حقل معين دون غيره، ويزعمون بأن الشخص الخير هو الذي يفهم الطبيعيات وجيد في المنطق أيضًا.

المعرفة تنطلق من الشيء الحسي الذي يترك صورة في النفس، وهذه الصورة قد تكون مموهة أحيانًا. ففي تلك الحالة التمثيل المحيط هو المعيار الذي بإمكانه إدراك الصورة الصادقة وللوصول إلى إدراك أعمق فالعلم هو السبيل. كما تزعم بأن الشيء الحقيقي تبعث فينا شعورًا قويًا وواضحًا وإعتقادًا بأنها حقيقة. ما يجعل من هذه النظرية ألا تبدو متماسكة جدًا هو أنها تارة تبدو حسية وتارة تجريبية وتارة أخرى حدسية.(6)

الأخلاق:

الإعتبارات الرواقية للأخلاق تتسم بطابع مركزية الأخلاق في الفلسفة، لكونها تمثل الجهاز التنظيمي في فن العيش. لو شئنا أن نطرح في المدرسة الرواقية السؤال عن كيفية عيش حياة سعيدة، سيكون جواب زينون (الجريان الحسن للحياة) أو (العيش في وفاق) وسيجيب كريبسيبوس (العيش وفقًا ما تشاء الطبيعة)(4). النظرة الرواقية هذه آتية من الرؤية التي تفيد بأن الكون معقول والسلوك الجيد هو بدوره معقول.

يدعي الرواقيون أن ما هو خير مفيد لمالكه في كل الظروف، ولتفادي التناقض تصنف الرواقية بعض الأشياء بين الجيد والسيء. أما الفضائل الكبرى التي من شأنها أن تتضمن حياة خيرة فهي: الحكمة، العدالة، الشجاعة والإعتدال.(4)

قاعدة العيش وفقًا للطبيعة:

التصور الرواقي هذه يختلف عن التصور الكلبي القديم، ذلك لأن تصور الكلبية للطبيعة كان تصورًا بدائيًا وغريزيًا. في حين أن الرواقية تجد في الكون ضربة من العقل، أي هو معقول لكونه محكومًا بالقانون الإلهي، وهذا القانون لا يمكن أن يكون غير صحيحًا. فالخضوع للنظام الطبيعي هو الخضوع للعقل الإلهي. يمكن القول بأن أخلاق الرواقية تتسم بطابع الحتمية، ذلك طالما أن الإنسان جزء من النظام الطبيعي فلا يمكن له أن يخطأ، فذهب زينون إلى أن أكل لحم الإنسان، وزنا المحارم والمثلية الجنسية ليس خطأ في ذاتها(9). لكن ما هو ليس بخطأ لا يعني أنه من الفضائل، فالأمور الطبيعية هذه لا هي من الخيور ولا الشرور. فالإنسان يختلف عن سائر الموجودات لكونه يمتلك عقلًا، وهذا العقل هو الذي يؤدي إلى الفضيلة، وهذا يعني إن مفهوم الفضيلة إنسانوي بحت.

الخلاصة:

تقدم لنا الفلسفة معونة كبيرة عندما يتعلق الأمر بكيفية طرح أسئلتنا، كما تساعدنا في الحصول وابتكار الأجوبة. غير أن ذلك قد لا يحدث في الفضاء العمومي وبالنسبة لمن هم لا يهتمون بالشأن الفلسفي. بيد أن الفلسفة الرواقية تأخذ منعطفًا جديدًا، فهي تختزل الفلسفة في علاقتها مع الحياة المعاشة بصورة مباشرة. ذلك لا يعني أن الرواقية تهمل المباحث الأخرى أو تتاكسل في الحديث الفلسفي التقليدي، إنما تأتي بطرح تكون الحياة هي النقطة المركزية في كل المباحث.  

إقرأ أيضًا كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

المصادر:

  1. امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص34
  2. نفس المصدر، ص37
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص169.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/stoicism/#Eth
  5. https://www.britannica.com/topic/Stoicism/Ancient-Stoicism
  6. https://iep.utm.edu/stoicism/#H3
  7. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص528
  8. اميل بريهييه، ص54.
  9. فردريك كوبلستون، ص 530
Exit mobile version