وكأنك قرأت كتاب المونادولوجيا لليبنتز

إن بداية الفلسفة هي بداية البحث عن المبدأ الأول الذي يتأسس عليه وجود كل ما هو موجود. هذا المبدأ أخذ عناصر مادية في البداية مثل الماء والهواء والنار أو عناصر مجردة مثل العدد عند فيثاغورس أو الجوهر عند أرسطوطاليس. عدوى البحث عن الأصل انتقلت إلى العلوم أيضًا. أسفرت الجهود العلمية عن نتائج مرضية ولكن غير نهائية، أقصى ما تم الوصول إليه هو الكواركات الضاربة جذورها في بنية البروتونات والنيوترونات. ثمة فرضيات حول وجود الأوتار الفائقة لكن النتائج غير حاسمة بعد. في هذا المقال نستعرض مفهوم المونادة عند ليبنتز ومحاولته للكشف عن المبدأ الأول. يعتمد هذا المقال على ترجمة ألبير نصري نادر الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة.

ماهية المونادة

في فلسفة ليبنتز ظهرت قضية المبدأ الأولي مرة أخرى في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. هذا المبدأ الأولي عند ليبنتز مفارق عن المبدأ المادي ومتعالي عليه بالمعنى الحرفي للتعالي. فالمونادة عند ليبنتز هي جوهر بسيط غير قابل للتحليل ومتأصل في كل الموجودات أي المركبات بتعبير ليبنتز. ما يجعل من هذه المونادة مختلفة عن المادة، فهي:

  • لا تولد ولا تموت.
  • غير حائزة على مكان،
  • هي خارج الزمن وأزلية.
  • لا تؤثر عليها التغيرات الفيزيائية.
  • كل مونادة مغلقة على نفسها.
  • كل مونادة هي كاملة لأن فيها شيء من الكمال.

سيرورة المونادة

المونادة لا تأتي إلى الوجود بالولادة؛ لأنها لا تتكون بشكل مرحلي، عكس الموجودات التي تولد من خلال تركيب في الأجزاء. المونادة توجد بالخلق الكامل. كما أن المونادة لا تموت موتًا طبيعيًا، ذلك أن الموت هو تفكك وتحلل الأجزاء، إنما تنعدم كليًا. لكن مع أنها تأتي بالخلق وتنعدم، فهي أزلية.

أزلية المونادة

نعرف أن الله أزلي، ويؤكد ليبنتز على ذلك، لكن أزلية المونادة تختلف عن أزلية الله. إنها تكون كذلك لعدم خضوعها لسلطان الزمن. فالمونادة أزلية بالنسبة للمركب/الجسم، فهي تكون خارج الزمن بشكل متعالي، بينما الجسم يعيش في صميم الزمن، والزمن يحدد كينونة المركب كخاصة أصيلة له. لكن المونادة رغم كونها لا تتأثر بميتات المركب فهي بدورها لا تكون أزلية بالنسبة لله، لأنها تأتي بقرار الله وتنعدم بقرار منه.

الزمان والمكان

الإنسان عبارة عن مركب أو جسم زماني ومكاني، ليس على مستوى التكوين فحسب، إنما على صعيد الإدراك أيضًا. لا يمكننا أن نخرج من كينونتنا ونتعالى عليها ونتصور وجود ما وراء المكان وما هو اللا زمان. منطقنا بالدرجة الأولى هو منطق نفسي، إذ أن إدراكنا عبارة عن إسقاط لمقولاتنا على العالم.

بالنسبة للمونادة فالأمر مختلف تمامًا، فهي لا تكون زمانية ولا تقع في مكان. وما نطلق عليه المكان هو مجال حركة الأجسام، والزمان هو الرابط الآخر الذي يجمع بين جسم وآخر.

المونادة وهوية المركب

كل مونادة تمثل هوية مختلفة، فهي لا تتشابه وهذا اللا تشابه يعطي هوية للمركبات التي تحل فيها. لو كانت المنوادات تتشابه لكانت كل المركبات متشابهة بدورها، فحتى بالنسبة للمركبات من نفس النوع فيها شيء من اللا تشابه. للمونادات صفات وأعراض وهي التي تحدد هوية المركب.

حركة المونادة

مع أن المونادات عوالم مغلقة ولا نوافذ لها، غير أنها تتواصل وتؤثر بعضها في بعض، وهي نفسها تتغير، وهذا التغير يكون وفقًا لمبدأ أصيل في المونادة وهو النزوع للإدراك وموضوع هذا الإدراك هو العالم أي حقيقة اللا متناهي. المونادة تتطور لتدرك الله، هدف وجودها هو هذا الإدراك للوصول إلى إدراك كامل ونشره. كل المونادات مدركة بدرجات متفاوتة. هنا، يخالف ليبنتز معاصره ديكارت. حيث قال ديكارت بأن الإنسان وحده كائن مدرك ونفى هذه الصفة عن باقي الكائنات وكأنها محض آلات، في حين أن ليبنتز يقول بأن كل الأجسام حائزة على نوع من الإدراك ولو كان إدراكًا ضعيفًا. وهذا الإدراك وبفعل نزوعه الداخلي دائمًا ما يتوق إلى الإنتقال إلى إدراك أكثر وضوحًا.

 هوية الإنسان

مع أن النباتات والحيوانات تدرك لكنها أقل كمالًا من الإنسان، ذلك لأن الذاكرة هي أقوى ملكة لدى الحيوانات، فهي تتذكر صاحبها، وتفعل بقدر ما تتذكر. الحيوانات كائنات تجريبية، فهي إذا ما تعرضت للسوء من شخص ما فهي ستذكره ومن ثم تتجنبه. لا ينفي ليبنتز بأننا تجريبيون في أكثر أفعالنا، بيد أن ما يميز الإنسان هو قدرة التجريد بمعرفة الحقائق النظرية الضرورية والأزلية، لذا فالإنسان نفس عاقلة.

نظرية المعرفة

المعرفة النظرية الخالصة تميزنا عن باقي الكائنات، لأنها تساعدنا على معرفة أنفسنا ومعرفة الله. هذه المعرفة تساعدنا أن نعرف “الأنا”ونتأمل فيها ونتأمل في المونادة وتجعلنا مدركين بمحدوديتنا أيضًا.

تفكيرنا قائم على مبدأيين كبيرين، وهما:

  • مبدأ عدم التناقض: نحكم بمقتضى هذا المبدأ أن الخطأ هو ما يتناقض مع نفسه، وما هو مضاد للتناقض هو الصواب.
  • مبدأ السبب الكافي: يستحيل أن يكون أي أمر صادقًا أو موجودًا، أو أن يكون أي تعبير صادقًا دون يوجد سبب كافٍ له، ليكون الأمر على ما هو عليه ولا على خلاف ما هو عليه.

وللحقائق نوعين وفقًا لليبنتز، ثمة حقائق عقلية وأخرى واقعية:

  • الحقائق العقلية: هي حقائق ضرورية وضدها مستحيل، مثل الحقائق الرياضية والميتافيزيقيات. هذه الحقائق نستطيع أن نجد سببها بواسطة التحليل وردها إلى حقائق أبسط إلى أن نصل إلى الحقائق الأولية.
  • الحقائق الواقعية: هي حقائق حادثة وضدها ممكن، وهي عبارة عن حقائق خلقية وطبيعية تحتاج إلى التجربة. هذه الحقائق يمكن ردها دائما إلى حقائق أخرى من دون الوصول إلى حقائق أولية.

الله

الله هو المونادة الأقصى والأكمل، فهو واجب الوجود والعلة الأخيرة. هو واجب الوجود لأنه يستحيل أن نتصور إمكانية عدم وجوده، ذلك لأن عدم وجوده يعني استحالة وجودنا. فهو مطلق الكمال ويصدر عنه الوجود/المونادات. وما يميز بين الله والموجودات هو أن الأخيرة لها حدود بسبب القصور الذاتي فيها.

الله فيه نبع الموجودات ونبع الماهيات الحقيقية، وعقله هو منطقة الحقائق الأزلية. الحقائق الأزلية قائمة في شيء موجود ومتحقق وفيه يكون الممكن متحققًا. ولا نحتاج إلى تجربة لمعرفة الله.

يخالف ليبنتز ديكارت في مسألة حرية الله، فوفقًا لديكارت فإن نظام الأشياء مجرد ضربة من إرادة الله وكان بإمكانه أن يخلق الأشياء بشكل مغاير. بينما ليبنتز يرى أن الله نفسه خاضع للنظام، فهو لا يخلق بعشوائية إنما بقوانين، لذا فإن القوانين التي تحكم كل شيء في الكون هي من الله. وتوجد في الله القدرة التي هي مصدر كل شيء، ثم المعرفة التي تشمل تفاصيل الأفكار، وأخيرًا الإرادة التي تحدث التغيرات حسب مبدأ الأصلح. ويقابل ذلك في المونادة ملكة الإدراك وملكة النزوع ولكن بشكل غير نهائي.

إقرأ أيضًا محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

خلق المونادات

جميع المونادات تصدر من الله وتولد عنه بواسطة بريق بشكل متواصل، وهذا البريق يحدد ماهية المونادات. وتحصل المونادة على الكمال من الله. فالله هو فاعل، بينما المخلوق له بعدين، بُعد الفاعل وبُعد المنفعل، فهو فاعل بما فيه من الكمال وإدراكات واضحة، ومنفعل بقوة مخلوق آخر بقدر ما فيه من نقص. المونادات نفسها لا تنفعل، فهي ترعى من قبل الله، وتنظيم الله لها يجعل من كل واحدة في علاقة وتواصل مع أخرى وتعبر عنها، وهذه المونادات معًا تكون بمثابة مرآة أزلية للكون.

كل هذه المونادات تسير سيرًا غامضًا نحو المطلق. كل المونادات كاملة رغم أنها محدودة، فكمالها يكمن في تأدية دورها، فالمونادات التي في نبتة بسيطة تكون كاملة لأنها تحقق وجودها وتدرك العالم من زاويتها وتشارك في مدينة الله وتساهم في الإدراك الكلي، فالعين تكون كاملة بما هي عين، واليد بما هي يد. كحديقة مملوءة بالنباتات، وكبركة مملوءة بالأسماك، كل غصن من أغصان النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من الماء هي أيضًا مثل هذه الحديقة أو هذه البركة. لا شيء قفر أو عقم أو ميت في العالم، ولا سديم إلا ظاهريًا.

النفس والجسم

إن المونادة لا تموت، وبما أن المونادة هي جوهر أو روح الجسم، أي جسم كان فهي لا تموت. وليست هناك ولادة كاملة، فالمونادة في حالة تطور مستمر لأن تدرك، وليس هناك موت كامل، فليست المونادة غير قابلة للزوال بل حتى الحيوان لا يزول زوالًا كاملًا. الجوهر والجسم في تناسق دائم رغم أن لكل منهما قوانينه الخاصة. فالروح تعمل حسب قوانين العمل الغائية، بواسطة النزوع والغايات والوسائل. والأجسام تعمل حسب قوانين الحركات، وكلا النظامين متناسقين.

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

هذه المقالة هي الجزء 3 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة العقل وعلاقة العقل بالجسد

يمكن تعريف فلسفة العقل (Philosophy of Mind) على أنها دراسة طبيعة العقل، والظواهر والوظائف والخواص العقلية. كما يبحث هذا الاختصاص من الفلسفة في ماهية العلاقة بين العقل والجسد [1]. ويسعى للإجابة على التساؤلات حول اختلاف العقل عن المادة، وماهية التفكير والإحساس والتجربة والتذكر وغيرها من الوظائف المرتبطة بالعقل دون الجسد [2].

فسر الفلاسفة في هذا الاختصاص طبيعة العقل بطرقٍ عدة. ونتج عن هذه التفسيرات والتحليلات لعلاقة العقل بالجسد أكثر من اتجاه. سنسلط الضوء في هذا المقال على كل من الثنائية (Dualism)، ونظرية هوية العقل (Identity theory)، والوظائفية (Functionalism).

الثنائية في فلسفة العقل – ثنائية العقل والجسد

في تفسيره للعقل واختلافه عن الجسد، يشرح ديكارت (Descartes) أن مكوّنات العقل تختلف اختلافاً كلياً عن مكونات الجسد. فالعقل ذو طبيعة لا مادية، ولكنّ الجسد هو مادة ملموسة [3].

ويؤكد أنصار هذا الاتجاه على الاختلاف الجذري بين العقل والمادة. ويذهبون إلى رفض اعتبار أن العقل والدماغ هما شيء واحد. بل يصل بعضهم إلى حد رفض فكرة أن العقل هو بكلّيّته منتج من منتجات الدماغ. إذاً، كيف يفسر أنصار الثنائية هذا الاختلاف بين العالمين العقلي والمادي؟

تناقش الثنائية المادية أن العقل والجسد مؤلفان من مادتين مختلفتين. فالعقل هو أداة تفكير لا يتمتع بخواص الأشياء المادية كالحجم والشكل والصلابة. ولا يتبع قوانين الفيزياء التي تتأثر بها الأشياء المحسوسة. ويفسر بعض هؤلاء العلاقة بين الجسد والعقل على أنها علاقة تفاعلية يؤثر فيها كل منهما على الآخر [4]. ولكن هذا يضعهم أمام تساؤل عن كيفية تأثر مادتين مختلفتين ببعضهما. فقد واجه ديكارت هذا الاستفسار حول إمكانية العقل البشري، وهو أداة التفكير غير المادية، بأن يحدد تحركات الجسد المادي [3].

نظرية هوية العقل في الفلسفة

من جهة أخرى، ترى نظرية هوية العقل أن العقل هو شيء مادي. ويشرح هذا الاتجاه أن حالات العقل وعملياته هي متطابقة تماماً مع حالات الدماغ وعملياته. والدماغ هو مادة باعتباره عضواً من الجسم البشري. فمثلاً عندما نشعر بالألم، أو نرى شيئاً، أو نتخيل شيئاً، تفسر نظرية هوية العقل أن هذه التجارب التي نعيشها في عقلنا ليست مرتبطة بالدماغ مجرد ارتباط، بل هي عمليات تحصل في الدماغ فعلاً. وتدعي هذه النظرية أن كل الظواهر العقلية تقابلها حالات جسدية. فالشعور بالألم مثلاً، أو الإحساس بالمحبة لشيء ما أو الكره لشيء آخر، يقابله تحفيز لإحدى الألياف العصبية [5].

لكن تواجه نظرية طبيعة العقل تساؤلات من منظور “التحقيقية المتعددة” (Multiple realisability). حيث تطرح فكرة إمكانية تجسيد الحالات العقلية بأكثر من حالة جسدية. كما أنه يمكن للأحياء الأخرى أن تعيش نفس الحالات الجسدية من دون وجود حالات عقلية تشبه تلك الموجودة لدى البشر. فالأحياء تشعر بالألم مثلاً، ولكن أدمغتها ليست كأدمغة البشر، ولا تعيش الحالات العقلية نفسها التي تسبب لدى البشر تحفيز شعور الألم. أي أن هذا الشعور الممثل لحالة عقلية معينة، يتفسر جسدياً بأكثر من طريقة لدى أكثر من كائن. وهذا يتحدى فكرة ارتباط حالة عقلية بحالة جسدية مقابلة لها كما تطرحها نظرية هوية العقل [3] [6].

الوظائفية

وأخيراً، ترى الوظائفية أن الظواهر العقلية لا تُعرَّف بمادتها ومكوناتها. بل هي عبارة عن الوظائف التي تؤديها والدور الذي تلعبه في المنظومة التي تشكل جزءاً منها. وفق هذا، يفسَّر الألم على أنه الحالة التي تخلق شعوراً بوجود شيء ليس على ما يرام في الجسد. وهذا يؤدي إلى رغبة بالخروج من هذه الحالة. حيث أنه يمكن لكل المخلوقات أن تشعر بالألم وتعيش تلك الحالة العقلية إذا أدت لديها نفس الوظيفة. أي إذا خلقت لديها الرغبة بالخروج من هذه الحالة [7].

مقارنة العقل بجهاز الحاسوب

مهدت الوظائفية الطريق لمقارنة العقل بجهاز الحاسوب من ناحية عمله. فالحاسوب هو جهاز لمعالجة المعلومات. يعمل عن طريق تلقي نوع معين من المعلومات (كدفعة كهربائية ناتجة عن ضغط زر معين)، ثم يحولها إلى معلومة من نوع آخر (ظهور حرف معين على الشاشة). ومثله العقل الذي يأخذ المعلومات من الحواس والحالات العقلية التي نعيشها، ثم يعالجها، ويخرج بسلوكيات أو حالات عقلية أخرى.

ولكن تواجه هذه المقارنة بعض التحديات. إذ تعمل الحواسيب على معالجة رموز محددة تتلقاها. وللرمز جانبان مترابطان، هما الجانب البنيوي (syntactic) والجانب المعنوي (semantic). مثلاً، يمكن ربط رمز معين – ولنقل المربع – ببدء نشاط معين – وليكن الرسم. يتمثل الجانب البنيوي بشكل الرمز (أربعة أضلاع وأربع زوايا قائمة). في حين يمثل بدء الرسم الجانب المعنوي المرتبط بالرمز. عند برمجة جهاز حاسوب على هذا، سيبدأ بالرسم فور إدخال رمز المربع. وبنفس الطريقة، عند تعريف العلاقة بين المربع والرسم للعقل، سيقوم بربطهما وبإعطاء الأوامر لبدء الرسم فور رؤية المربع. ولكن الفرق هنا، والذي يمثل تحدياً أو تساؤلاً لتشبيه الحاسوب بالعقل، هو أن الحاسوب يعمل فقط على الجانب البنيوي للمعلومة أو الرمز الذي يعطى له. فهو مبرمج على إعطاء مخرج معين عند إعطائه مدخلاً ما، ولكنه لا يفهم الجانب المعنوي للرمز. ولا يعمل وفقاً لمعناه. بل يركز فقط على شكله [3].

إذاً، تمثل طبيعة العقل موضوعاً شائكاً في الفلسفة أدى إلى ظهور فلسفة العقل المختصة بهذا السياق. ولا يمكن القول بأنه يوجد اتفاق على طبيعة العقل وعلاقته بالجسد. بل توجد عدة اتجاهات ترى هذا الموضوع من منظار معين لكل منها. وبنفس الوقت، تواجه كل منها تحديات وتساؤلات تؤدي إلى الخروج باتجاهات أخرى.

اقرأ أيضاً: كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

المصادر:

صراع ويليام هارفي وديكارت، صدام بين التجريبية والعقلانية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

صراع ويليام هارفي وديكارت على أنقاض جالينوس

هيمنت تعاليم الفيزيائي اليوناني القديم “جالينوس” على الفكر الطبي الغربي لما يقرب من 1400 عام. لذا فليس من المستغرب أن التفسيرات الفيزيولوجية المنطقية الجديدة للظواهر قوبلت بمقاومة. رفض ديكارت وهارفي وجهة نظر جالينوس القائلة بأن الدم يتحرك ببساطة للأمام والخلف من خلال نفس الوعاء. [1]

قال هارفي أن القلب عبارة عن مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ثم تعود إلى القلب، وهو ما شكك فيه ديكارت. كما عارض تفسير هارفي لطبيعة الانقباض والانبساط، كل هذا دون مساعدة من أي أدوات دقيقة.

يعكس مفهوم علم وظائف الأعضاء عند ديكارت تفانيه في بناء نظام فلسفي موحد، يضم الفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الكونيات ونظرية المعرفة وجوانب معينة من الدين. لقد نظر ديكارت إلى الجسم بطريقة ميكانيكية، واعتبره مجموعة من الآلات. وأنه يمكن تحويل وظائف الجسم المختلفة إلى نماذج ميكانيكية مماثلة للساعة والآلات التي تعتمد على الروافع والبكرات.

رفض ديكارت نظرية المضخة الآلية القلبية لويليام هارفي!

على الرغم من هذه الميول الآلية الدافعة لقبول ديكارت لأفكار هارفي، رفض ديكارت فكرة أن القلب هو مجرد مضخة تدفع الدم إلى الجسد. يعكس هذا جزئيًا اعتقاد ديكارت بأن الإرادة تتحكم في جميع العضلات. لم يعلم ديكارت بإمكانية وجود عضلات لاإرادية من الأساس.

على الرغم من اعتراف ديكارت بأن بعض الحركات العضلية، مثل رد فعل اليد التلقائي للوخز، يمكن أن ينتج عنه فعل انعكاسي، إلا أنه رفض فكرة الانقباض العضلي اللاإرادي.

اعتقد ديكارت أن القلب لا يمكن أن يكون مضخة، بل هو فرن. يسخّن الفرن القلبي جزيئات صغيرة في الدم، مما تسبب تمددها على الفور. هذا التمدد الديناميكي والمفاجئ للدم داخل القلب تسبب في تضخم العضو مما أجبر الصمامات الأذينية البطينية أن تنغلق، وتفتح الصمامات شبه القمرية.

عندما ينطلق الدم الحار في الشريان، يتمدد الشريان، وهو ما كان مرئيًا للعين المجردة ويمكن الشعور به حينذاك. تخيل ديكارت أنه عندما يبرد الدم، فهو يأخذ مساحة أقل، وتنهار الشرايين والأوردة – كما يفعل القلب نفسه. لكنه اتفق مع هارفي على أن الدم يعود إلى القلب من خلال نظام من الأوردة، لكن الدم الحار هو الذي يحرك الدورة الدموية وليس القلب نفسه.

عندما يعود الدم البارد إلى القلب من أجزاء مختلفة من الجسم، يختلط بكمية صغيرة من الدم باقية في القلب. هذا الدم المتبقي وفقًا لديكارت، يمتلك خاصية تشبه الخميرة التي تسبب تمدد الدم العائد إلى البطين، وبالتالي بدء العملية مرة أخرى. لذلك، شبّه ديكارت القلب بالفرن.

لم يفكر ديكارت في القلب على أنه عضلة، ولم يتخيل أن حركته نتيجة لانقباض عضلي لا إرادي كما اعتقد هارفي. لكن تغير حجم القلب وشكله لأن الدم داخله يتمدد بسرعة مع تسخينه وإجباره على الخروج إلى نظام الأوعية الدموية بينما يبرد بسرعة أثناء دورانه في الجسم. [5]

صدام بين العقلانية والتجريبية

الفارق الرئيسي بين ديكارت وهارفي هو الفارق بين العقلاني والتجريبي. فويليام هارفي كان تجريبيًا يصل إلى استنتجاته بالتجربة. أما ديكارت، فحاول توفيق العالم مع نظرة فلسفية عقلانية. وقد بدا لنا من ذلك الصراع نشأة ملامح منهج وليد بين الأرسطية والديكارتية، هو المنهج التجريبي. لكن لم يظهر المنهج التجريبي على الفور بالطبع، كما لم تمت الأرسطية على الفور.

حتى الديكارتيين أمثال مالبرانش استمروا في استخدام مصطلحات المادة والشكل في تصورهم للعالم المادي. فالفلسفة الطبيعية الأرسطية قدمت مجموعة من المفاهيم التي ساعدتها على البقاء.

مع تطور العلم في القرن السابع عشر، لم يتخلص أتباع ديكارت من مفهوم الشكل بالكلية، بل أعادوا تفسيره ليناسب أفكارهم. بالتالي، يمكننا القول أن أفكار ديكارت والأرسطية كان لهما أثر كبير على علماء ومفكرين القرن السابع عشر. ورغم هدم ديكارت للأرسطية، إلا أنها كانت تعود في الأمور التي يغيب التفسير العلمي التجريبي الدقيق عنها في كثير من الأحيان.

المصادر

[1] Hurst JW: Robert C. Schlant. (Profiles in Cardiology[Eds. Hurst JW andFye WB]). Clin Cardiol1999;602–605

الشكوكية الفلسفية بين القديم والحديث: ما هي مفاهيمها وبماذا تبحث؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الشكوكية الفلسفية بين القديم والحديث: ما هي مفاهيمها وبماذا تبحث؟

يوجد توجهان في الشكوكية الفلسفية (Philosophical Scepticism)، يرفض أحدهما القدرة على امتلاك المعرفة، في حين يدعم الآخر فكرة تعليق الحكم على الأمور نتيجة لعدم الدقة.

تعريف الشكوكية الفلسفية

الشك هو الرؤية التي تعتبر أن وجود المعرفة (أو الاعتقاد المبرر تجاه شيء ما) هي أمر مستحيل [1]. ويعود أصل كلمة الشك بالإنكليزية (scepticism) إلى الكلمة الإغريقية (skepsis) وتعني البحث أو التحقيق. فقد كان المشككون القدماء يصفون أنفسهم بالباحثين أو المحققين الذين يسعون إلى التحري في أمر ما، وبالنهاية يعلّقون الحكم عليه. إذ يقوم جوهر الشك في الفلسفة القديمة على تكريس هدف الحياة للسعي وراء الأسئلة والبحث، وبما أنه لا يمكن تحصيل المعرفة النهائية، لا يمكن تأكيد أي شيء من وجهة نظر المشككين. فحتى المعتقدات هي موضع تساؤلات وبحث وتعليق بالنسبة لهم [2].

تختلف مفاهيم الشك لدى الإغريق عن تلك السائدة في العصر الحديث. فقديماً، كان المشككون يبحثون في مواضيع المعتقدات وتعليق الحكم على أمر ما ومعايير الحقيقة والمظاهر والتحقيق. أما حديثاً، فتتجلى المفاهيم المهمة بالمعرفة والتأكيد والاعتقاد المبرر. في حين تركز نظرية المعرفة وفلسفة اللغة على المواضيع التي كان يتناولها المشككون القدماء [2].

كيف ظهرت الشكوكية الفلسفية قديماً؟

تنقسم الشكوكية في اليونان القديمة إلى حركتين، وهما الشكوكية الأكاديمية (Academic Skepticism) والشكوكية البيرونية (Pyrrhonian Skepticism) [3].

تأسست الشكوكية الأكاديمية في أكاديمية أفلاطون (الأكاديمية الجديدة) في القرن الثالث قبل الميلاد. ويعد الفيلسوف أركسيلاوس (Arcesilaus) أول من أحال الأكاديمية إلى الفكر الشكوكي، وقد اعتمد في ذلك على قراءات جديدة لكتب أفلاطون [3].

أما الفيلسوف بيرو (Pyrrho) فيعتبر مؤسس الشكوكية البيرونية مع أنها ظهرت بعد وفاته. لم يخلّف بيرو وراءه أي كتابات أو مؤلفات. بل كان تلميذه تيمون (Timon) هو المصدر الذي نقل جزءاً من أفكاره. كما طرح الفيلسوف أنيسيديموس (Aenesidemus) فكرة الشكوكية في القرن الأول قبل الميلاد ونسب هذا المذهب إلى بيرو. وفيما بعد، في القرن الثاني الميلادي، أكد الفيلسوف سيكستوس إمبيريكوس (Sextus Empiricus) أن بيرو هو مؤسس الشكوكية، أو على الأقل كان مصدر إلهام لمبادئها ومفاهيمها [3].

اتفقت المدرستان على اتباع منهج شكوكي في الحياة يقوم على تعليق الحكم، لكن كانت بينهما نقاط خلاف حول هدف هذا المنهج أو نتيجته، بالإضافة إلى طرحهما لجدليات شكوكية مختلفة [4].

كان أنصار الشكوكية الأكاديمية يواجهون مدارس فلسفية أخرى حول إمكانية المعرفة. ومن أبرز هذه المدارس كانت الرواقية التي ادّعت أنه يمكننا معرفة الحقائق الأساسية من خلال الفهم الذي يعتبر قدرة عقلية لاستيعاب الأشياء. أما الشكوكيون الأكاديميون فقد اعتبروا جميع الأشياء غير قابلة للفهم، وأن أفضل ما يمكن أن نحققه هو مجرد احتمالية أو ترجيح [4].

بدورهم، كان البيرونيون أيضاً من الرافضين للرواقية في مسألة القدرة على فهم المعرفة، وتمسكوا بمبدأ عدم القدرة على الفهم الذي تستحيل معه كافة الأشياء إلى مظاهر. وتتمثل العملية الجوهرية في التشكيك بمساءلة كل قضية أو جدل عن طريق طرح جدل مناقض، وبهذا نبقى محايدين تجاه كل ما يتمحور حوله الجدل. عندها يتم تعليق الحكم والوصول إلى حالة من الهدوء أو السكينة [4].

الشكوكية الفلسفية الحديثة

تحدث العديد من الفلاسفة عن الشكوكية وسنستعرض بعضاً من أفكارهم.

الشكوكية عند ديكارت

حسب رينيه ديكارت (René Descartes)،  تتمثل المعرفة التامة بانعدام القدرة على إيجاد أسباب للشك بها أو التساؤل حولها. فانعدام أسباب الشك يحول القناعة إلى تأكد تام. وبهذا يظهر مفهوم الشك على نقيض مفهوم التأكد. أي كلما ازداد الشك، انخفض التأكد، والعكس صحيح. ويمثل شرط استحالة وجود أسباب للشك معياراً عالياً لتبرير المعرفة التامة. ولكن ديكارت يرى أن تحقيق هذا الشرط أمر صعب جداً [5].

تطرح الشكوكية الديكارتية تساؤلات حول إمكانية معرفة العالم الخارجي ونحن نواجه تحدياً متمثلاً بعدم معرفتنا لأوجه رفض الفرضيات الشكوكية. يمكن شرح هذا من خلال مثال ديكارت في تأمله الأول والمتمثل بفرضية وجود شيطان شرير يحول كل معتقداته – معتقدات ديكارت – إلى أمورٍ خاطئة في حين يجعلها تبدو له على أنها صحيحة. وفكرة ديكارت هنا هي كيف يمكننا أن نعرف أن نظرية الشيطان الشرير خاطئة؟ [6]

ومن الأمثلة الحديثة المنبثقة عن هذا التأمل الأول مثال “الدماغ في الوعاء – brain in a vat”. يقوم هذا الادعاء على افتراض أننا لا نعيش حياتنا كما نتخيل. بل تتم تغذية عقلنا بالتجارب عن طريق أجهزة حاسوب. إذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فمعظم ما نعرفه عن العالم ونؤمن به هو عارٍ عن الصحة (أو أنه صحيح بطريقة تختلف عمّا نتوقعه)، وبهذا نحن لا نملك المعرفة. لا يمكن تمييز هذه الحالة المفترضة من عدمها، أي أننا لا نستطيع أن نعرف فيما إذا كنا في حالة دماغ في الوعاء، أو إذا كنا نعيش التجارب فعلاً كما نفترض أننا نعيشها. بالتالي، لا يمكن أبداً معرفة فيما إذا كان هذا الافتراض أو السيناريو خاطئاً نتيجة لعدم قدرتنا على التفريق بين الحالة المفترضة وعدم وجودها [7].

الشكوكية عند هيوم

يتحدث أيضاً ديفيد هيوم (David Hume) عن المعرفة والشك. في كتابه رسالة في الطبيعة البشرية، يسير تحليله لبعض المفاهيم في ثلاث خطوات. أولاً، يناقش هيوم عدم قدرتنا على اقتناء المعرفة التامة لبعض المفاهيم الفلسفية المهمة. ثانياً، يشرح كيف يمكن لاستيعاب المفهوم أن يعطينا فكرة ضيقة جداً عنه. ثالثاً، يبين أن بعض الآراء الخاطئة عن المفاهيم تقبع أصولها في الأوهام، ويوصي برفض هذه الآراء الخاطئة. يطبق هيوم هذه الخطوات عند تناوله للعديد من المواضيع كالفضاء والوقت والأشياء الخارجية والهوية الشخصية وغيرها [8].

أما عن الشك فيتحدث هيوم عن وجود ثلاث تناقضات في النظريات الفلسفية وهذا ما يرفع من مستوى الشكوكية. يتمحور أول هذه التناقضات حول ما ندعوه بالاستقراء، فنحن نبني أحكامنا على تجارب سابقة لا تخلو جميعها من عناصر الشك. وعليه، سنكون مضطرين للخروج بحكم حول هذا الشك، وهذا الحكم بدوره مبني على تجارب سابقة، فسيخرج عنه شك جديد. سنقوم من جديد بإطلاق أحكام عن الشك الثاني الجديد، وهكذا. أما التناقض الثاني فينطوي على صراع بين نظريتين حول الإدراك الخارجي نصل إليهما بعد عملية استقراء طبيعي. أولهما هي ميلنا الطبيعي لتصديق أننا نرى الأشياء مباشرة كما هي في الحقيقة. والأخرى هي رؤية ذات طبيعة فلسفية أكثر، تعتبر أن ما نراه هو مجرد صور عقلية أو نسخ للأمور الخارجية. بالنسبة للتناقض الثالث، فيتضمن صراعاً بين التعليل السببي والاعتقاد باستمرارية وجود المادة. وينتهي هيوم في أفكاره عن الشكوكية بأن هذه التناقضات ستشوب حتى أفضل النظريات عن الظواهر الجسدية والعقلية [8].

الشكوكية الراديكالية

إذا أردنا أن نتحدث عن الشكوكية الراديكالية (Radical Scepticism)، فهي تخلص إلى أننا لا نعرف ما نظن أننا نعرفه. فإذا كنا غير قادرين على استبعاد احتمالات أو سيناريوهات شكوكية – كمثال الدماغ في الوعاء – فنحن في الواقع غير قادرين على معرفة أي شيء [9].

وكحال كل الأفكار والنظريات الفلسفية، يوجد من يواجه الشكوكية ويطرح تساؤلات فيها وينقدها ويرد عليها. فالمواضيع في الفلسفة غير منتهية ولا حدود للنقاش فيها.

اقرأ أيضاً عن الفلسفة الرواقية ونظرية المعرفة

المصادر:

  1. Meta-epistemological Skepticism – Chris Ranalli
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Ancient Skepticism
  3. Internet Encyclopedia of Philosophy – Ancient Greek Skepticism
  4. Ancient and Medieval Philosophy: Essential Selections
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Descartes’ Epistemology
  6. PhilPapers
  7. Internet Encyclopedia of Philosophy – Contemporary Skepticism
  8. Internet Encyclopedia of Philosophy – David Hume
  9. Coursera: Pritchard, Duncan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تم استبدال مصطلحات معينة استخدمها أرسطو وأتباعه لوصف الطبيعة بنظريات جديدة وأدت تلك الأفكار لثورة علمية حقيقية تستند إلى فلسفة علمية جديدة. ومن ذلك المنظور، سنلقي نظرة في هذا المقال على اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر بشكل دقيق ومن خلال النصوص.

اختلاف أرسطو وديكارت

يصف النصان التاليان نفس الظاهرة وهي احتراق قطعة من الخشب، كتبهما أرسطو وديكارت. وكما ناقشنا سابقًا، حاول ديكارت استبدال الفلسفة الطبيعية الأرسطية، لأنه اعتبر الأرسطية عائقًا حقيقيًا أمام تقدم العلم، لما أضفته من غموض وأقحمت الروح لتفسير الأشكال الجوهرية.

أثناء قراءة النص، يرجى التفكير في إجابة السؤالين التاليين:
1. ما هي تركيبة الخشب؟ وكيف توصف عملية الاحتراق في النصين؟
2. هل أمكنك تمييز خصائص الفلسفة الأرسطية والفلسفة الميكانيكية الديكارتية؟

أرسطو والعناصر الأربعة

“يبقى أن نتحدث عن ماهية الأجسام التي تخضع للتوالد والتجدد، ولماذا. نظرًا لأن المعرفة في كل حالة تعتمد على ما هو تأسيسي، والعناصر هي المكونات الأساسية للأجسام، يجب أن نعرف أي من هذه الأجسام هو العنصر ولماذا. وبعد ذلك ما هو عدد العناصر وخصائصهم. ستكون الإجابة واضحة إذا شرحنا أولاً نوع مادة العنصر.

العنصر هو الجسم الذي يمكن تحليل الأجسام الأخرى فيه، ويحتمل أن يكون موجود فيها، في أي منها وهو أمر لا يزال محل نزاع. العناصر نفسها غير قابلة للتقسيم إلى أجسام مختلفة في الشكل. هذا ما قد نعنيه بالعناصر.

الآن إذا كان ما وصفناه عنصرًا، فمن الواضح أنه لا بد من وجود مثل هذه الأجسام. فاللحم والخشب وجميع الأجسام المماثلة الأخرى قد تحتوي على عناصر الأرض والنار، حيث يرى المرء هذه العناصر تنضح منها. ومن ناحية أخرى، لا يبدو (أمامنا في الوضع الطبيعي) أن اللحم أو الخشب يحتوي على النار ولا يصح أن نفترض خلوها منها. وبالمثل، حتى لو كان هناك جسم جوهري واحد، فلن يحتويهم. لأنه على الرغم من أنه سيكون إما لحمًا أو عظمًا أو أي شيء آخر، فهو لا يظهر في الحال. أنه يحتوي على إمكانية التحول، ويبقى السؤال، كيف تظهر هذه الإمكانية؟”

أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495. [1]
احتراق الخشب يبرز اختلاف أرسطو وديكارت في تفسير الظواهر

تفسير أرسطو

كتب أرسطو “كتاب عن السماوات” عام 350 قبل الميلاد، وهو الكتاب الكوني الرئيسي. يناقش أرسطو في “كتاب عن السماوات” فكرة العناصر الأربعة، والتي تتكون منها جميع الأشياء الفرعية (كل الأشياء التي تقع تحت مجال القمر)؛ والأثير، والمادة الكاملة التي تتكون منها الأجرام السماوية (الأجسام الموجودة فوق القمر). يرى أرسطو أن الأشياء الدنيوية تبقى عرضة للتغيير، فهي قابلة للتلف وسريعة الزوال. بينما الأجرام السماوية أبدية وغير قابلة للتلف.

الأشياء الفردية -وفقًا لأرسطو- تتكون من مادة وشكل. فالمادة عند أرسطو تتكون من أربعة عناصر وهي الأرض، والماء، والهواء، والنار، وهي ظاهرة في الأشياء بقوة. أثناء عملية الحرق مثلاً، يتحلل الخشب إلى رماد الأرض ونار.

يستنتج أرسطو أن الخشب مصنوع من النار، أما الأرض فمتماسكة على شكل خشب. وبالتالي، فإن عملية الحرق بالنسبة لأرسطو ليست سوى تحلل الأجسام الفردية إلى العناصر المكونة لها وهو مجرد فقدان شكل.

ديكارت والميكانيكية

“أعرف نوعين فقط من الأجسام في العالم تحمل الضوء بداخلها، وهي النجوم والنار. ولأن النجوم بلا شك أبعد على المعرفة البشرية من النار، يجب أن نحاول شرح ما نلاحظه في النار أولًا.

عندما يحترق الخشب أو بعض المواد الأخرى المماثلة، يمكننا رؤية تحرك الأجزاء الدقيقة من الخشب بالعين المجردة. تفصل النار الأجزاء الدقيقة عن بعضها البعض، وبالتالي تتحول تلك الأجزاء الدقيقة إلى نار وهواء ودخان، ويبقى جزء خشن كرماد.

قد يتخيل آخرون -إن أرادوا- أن شكل النار ونوعية الحرارة وعملية الاحتراق أشياء مختلفة تمامًا في الخشب. أما أنا فأخشى الافتراض عن طريق الخطأ أن هناك أي شيء أكثر مما هو موجود أمام عيني في الخشب. يجب أن يكون كل ما يظهر أمامي بالضرورة كامن داخل الخشب. لذا فسأقتصر على تصوري لحركة أجزائه. لأنك قد تكون قادرًا على إشعال النار والتدفئة باستخدام الحطب، ويمكنك حرقه بقدر ما تريد، ولكن إن كنت لا تفترض أن بعض أجزائه تتحرك وتنفصل عن بعضها، فلا يمكن تخيله يخضع لأي تغيير.

من ناحية أخرى، إذا أزلت النار، فقد أزلت الحرارة، وحينها ستحافظ على الخشب من الاحتراق. إذن، تمنحني الحرارة بعض القوة التي تدفع أجزاء الخشب الدقيقة في حركة عنيفة وتفصلها عن الأجزاء الخشنة. ضع في اعتبارك أن هذه القوة وحدها ستكون قادرة على إحداث جميع التغييرات نفسها التي نلاحظها في الخشب عند الاحتراق.”

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

تفسير ديكارت


“الآن بما أنه لا يمكن تصور كيف يمكن لجسم ما أن يحرك آخر إلا من خلال حركته الخاصة، يمكنني أن أستنتج أن ذلك اللهب الذي ينهش الخشب يتكون من أجزاء دقيقة تتحرك بشكل مستقل عن بعضها البعض بحركة عنيفة وسريعة للغاية. بينما تتحرك تلك الجسيمات بهذه الطريقة، يدفعون أجزاء الجسم التي يلمسونها ويحركون الجسيمات التي لا تقاومها.

يتحرك اللهب بشكل فردي، لأنه على الرغم من أن جسيماته تعمل معًا لإحداث تأثير واحد، إلا أننا نرى أن كل جسيم منهم يعمل من تلقاء نفسه على الأجسام التي يلمسها.

أقول، أيضًا، أن حركة جزيئات اللهب سريعة جدًا وعنيفة جدًا، لأنهم دقيقون جدًا لدرجة أننا لا نستطيع تمييزهم بالعين المجردة. وبالتالي لن يكون لدى تلك الجسيمات القوة التي يتعين عليها التأثير بها على الأجسام الأخرى إذا كانت سرعة لم تعوض عن قلة حجمها.

رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83. [2]

كتب ديكارت كتاب العالم بين 1629 و 1633م بالفرنسية، بعنوان Trait du monde et de la lumiere، ونشره عام 1664. يناقش ديكارت موضوعات مختلفة، من الميتافيزيقا إلى الطبيعة والبيولوجيا، ويكشف فيه عن فلسفته الميكانيكية.

تأصيل ديكارتي

يتبنى ديكارت نظرية المادة الجسيمية. فيصف ديكارت هنا عملية الاحتراق كنتيجة لحركة الجسيمات. يتحلل الخشب أثناء عملية الاحتراق إلى أجزاء صغيرة من الرماد والدخان والنار والهواء.

انتقد ديكارت في كتاباته فكرة أرسطو بأن الحرارة أو النار موجودة في المادة. يرى ديكارت أن الاحتراق يحدث عندما تدفع جزيئات النار جزيئات الخشب. يحدث الأمر بطريقة سريعة وعنيفة، مما يؤدي إلى ظهور تنظيم جديد.

رأينا سابقًا أن الفلسفة المدرسية تعرضت للنقد، وكانت هناك محاولات لاستبدالها. كان التمييز الأرسطي بين المادة والشكل من أكبر المشاكل في الفلسفة الحديثة المبكرة. تم استبدال هذا التمييز بفكرة أن المادة تتكون من جسيمات صغيرة جدًا، تتفاعل مع بعضها البعض وفقًا لقوانين الطبيعة. افترض هذا التحول الانتقال من إطار كانت فيه الملاحظة الخارجية الشكلية كافية لوصف الطبيعة وظواهرها إلى إطار كان فيه البنية الداخلية للمادة وجسيماتها والتفاعل الميكانيكي بينها هي الأساس.

بالنسبة للنوع الثاني من التفاسير، لم تكن الملاحظة البسيطة كافية. وسنناقش سويًا الطريقة التي تعامل بها أوائل علماء الثورة العلمية الحديثة مع تلك المشكلة المتمثلة في الوصول إلى البنية الداخلية للمادة واكتشاف قوانين الطبيعة.

المصادر
[1] أرسطو، كتاب السماوات 3 في أعمال أرسطو، المجلد. 1 ، مطبعة جامعة برينستون ، ص. 494-495.
[2] رينيه ديكارت، العالم، الفصل. 2، في كتابات ديكارت الفلسفية، المجلد. 1، مطبعة جامعة كامبريدج، ص. 83.
[3] Futurelearn, scientific revolution, University of Groningen

تحديات النموذج الديكارتي

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

صراع ويليام هارفي والديكارتية، وتحديات النموذج الديكارتي

وفقًا للديكارتيين، نتجت الأجسام عن حركة الجسيمات وتصادمها. عندما تصطدم الجسيمات، تلتصق بعضها ببعض لتشكيل هياكل أكثر أو أقل تعقيدًا، والهياكل هي الأجسام التي نراها من حولنا. ولكن فيم اختلف ويليام هارفي مع ديكارت؟ ولماذا احتدم صراع بين عالم مثل ويليام هارفي والديكارتية؟ وكيف للجسيمية والآلية ألا تقنع عالم مخضرم مثل ويليام هارفي؟

لم يخل النموذج الجديد الجامع بين الجسيمية والآلية من الألغاز. لكشف تلك الألغاز، ضع في اعتبارك الفرق بين بنية بسيطة نسبيًا مثل الحجر أو المعدن، والبنية الأكثر تعقيدًا لكائن حي مثل الدجاج. ربما يكون الحجر أو المعدن ناتجًا عن حركة وتصادم الجسيمات. لكن هل ينطبق الأمر ذاته على كائن حي كالدجاج؟

وجد بعض المفكرين أن هذا النموذج يمثّل مشكلة في حالة التوالد الحيواني. على سبيل المثال، شكك عالم الأحياء الإنجليزي ويليام هارفي (1578-1657م) في إمكانية تفسير الكائنات الحية بهذه الطريقة، أي عن طريق حركة جسيمات وتصادم أجزاء من المادة. [1]

لماذا شكك ويليام هارفي في إمكانية تطبيق أفكار ديكارت على الكائنات الحية؟

السبب الذي جعل العديد من المفكرين المعاصرين يشككون فيما إذا كانت الكائنات الحية يمكن أن تنتج من مجرد حركة وتصادم الأجزاء، هو أن الطريقة التي تتحرك بها الجسيمات وتصطدم ببعضها البعض هي -إلى حد ما- عشوائية.

لا تتحرك الجزيئات وتتصادم وفقًا لخطة، وقد تؤدي الحركة العشوائية وتصادم الجسيمات إلى بنية خشنة للحجر أو المعدن. لكن وفقًا للعديد من المفكرين، فإن بنية الأجسام العضوية أكثر تعقيدًا بشكل كبير من بنية الأحجار أو المعادن.

تُظهر الكائنات الحية بنية متطورة ودقيقة للغاية، تسمح لها بالحركة والهضم والإنجاب. ووجد الكثيرون صعوبة في تخيل إمكانية أن تتكون هذه الهياكل وحركاتها نتيجة للحركة العشوائية وتصادم أجزاء من المادة.

قد يتطلب أصل الهياكل العضوية نوعًا مختلفًا من التحليل عن الأجسام الأبسط، مثل الأحجار والمعادن. ذلك تحديدًا ما دفع كثيرون إلى التشكيك في إمكانية تعميم وصف ديكارت العام لكيفية تكوين الأجسام بحيث ينطبق على حالة الكائنات الحية أيضًا. [2]

مالبرانش في مواجهة ويليام هارفي

وجد نيكولاس مالبرانش -أحد الديكارتيين- أن هناك فرقًا مهمًا بين الطريقة التي تتشكل بها الأجسام غير الحية مثل المعادن من جهة، وتوليد الكائنات الحية من جهة أخرى. ففي حالة الأجسام غير الحية مثل المعادن، يمكننا أن نرى كيفية تكونها بشكل مجزأ عندما تصطدم الجسيمات وتلتصق ببعضها البعض.

المرحلة الأولى تبدأ بالتصاق جسيمان معًا لتشكيل اتحاد. وفي المرحلة التالية، تتحد المزيد من الجسيمات مع هذا الاتحاد المتشكل حديثًا، وهذه العملية هي التي تؤدي بالتدريج إلى معدن ذي شكل وبنية معينة.

وجد مالبرانش أن ما يجعل حالة تكوين الحيوانات صعبة للغاية هو أن الأجسام العضوية لها نوع خاص من الوحدة. كل عضو في جسم الحيوان يعتمد على الآخر. لا يوجد قلب بدون شرايين، ولا شرايين بدون دماء، ولا دماء بدون نخاع عظم، وهكذا. لكن إذا كانت الأجسام العضوية تتمتع بهذا النوع الفريد من الوحدة حيث تعتمد جميع الأجزاء بعضها على بعض، فمن الصعب أن نرى ظهور أعضائها تدريجياً، الواحد تلو الآخر. من الصعب أن نرى ظهور الشرايين قبل القلب، بالنظر إلى الطريقة التي يعتمد بها القلب والجهاز الشرياني على بعضهما البعض.

لا يمكن للقلب أن ينبض ويضخ الدم عبر الشرايين إلا إذا اكتملت الأوردة التي تعيد الدم إليه مرة أخرى. باختصار، من الواضح أن الآلة لا يمكنها العمل إلا عندما تكتمل، وبالتالي لا يمكن للقلب أن يعيش بمفرده. … سيكون من الخطأ إذن التظاهر بشرح تكوين الحيوانات والنباتات وأجزائها، على أساس القوانين البسيطة والعامة التي تحكم الحركة.

(مالبرانش، البحث بعد الحقيقة، ص 465. ترجمة لينون وأولسكامب) Malebranche, The Search after Truth, 465. Translation Lennon and Olscamp

ولكن إذا لم تنطبق الطريقة القياسية الديكارتية على الكائنات الحية، فكيف تنشأ؟ حول هذا السؤال سوف ننتقل للجزء التالي.

معضلة الكائن الحي

قد تساعدنا المقارنة في فهم الأمر، لنفترض أننا نمسك بعدد من الأحرف البلاستيكية، ثم أسقطناها على الأرض مرة تلو الأخرى. من الصعب جدًا أن نتخيل كيف يمكن لتلك الحروف أن تسترشد بالجاذبية وقوانين الحركة لإنتاج أبيات شعر منظومة ومرتبة للمتنبي ولو مرة واحدة من عدد هائل من المرات.

المطلوب أعقد من ذلك، تخيل أن نفس الأبيات ستظهر مرارًا وتكرارًا بينما نكرر التجربة – وهو ما يبدو حقًا غير ممكن!

قدمت حالة تكوين الحيوانات، نقد خاص للتصور الديكارتي لميكنة الطبيعة. فكيف تعامل العلماء والفلاسفة مع هذه المعضلة؟

كيف تعامل الفلاسفة مع معضلة الكائن الحي؟

قدّم علماء ومفكرون تصورين للتغلب على المعضلة. التصور الأول هو العودة إلى مجموعة أدوات الفلسفة الطبيعية الأرسطية مرة أخرى، وعلى رأسهم ويليام هارفي.

صراع ويليام هارفي والديكارتية وعودته إلى الشكل الجوهري

وفقًا لعالم الأحياء الإنجليزي ويليام هارفي، فعندما تنمو دجاجة في بيضة، فإن هذه العملية تسترشد بما أسماه “القوة التكوينية”. نظمت هذه القوة التكوينية مادة البيضة بطريقة تظهر في النهاية بنية الدجاجة. تفاصيل هذه العملية لا تهمنا هنا، لكن النقطة المهمة في الوقت الحالي هي أن المادة في هذا التصور ليست غير فاعلة تمامًا كما تصور ديكارت.

على الأقل في حالة التوليد الحيواني، فالمادة تظهر القدرة على التنظيم الذاتي أفضل بكثير في الفلسفة الطبيعية الأرسطية عنها في النظرة الآلية الديكارتية للعالم من وجهة نظر ويليام هارفي.

الدمية الروسية والتشكل المسبق لمالبرانش

الدمية الروسية
حقوق الصورة: https://pixabay.com/photos/matryoshka-russian-dolls-nesting-970943/

كان التصور الثاني هو التفكير في توليد الحيوانات على غرار ما يمكن أن نطلق عليه نموذج “الدمية الروسية”. تحتوي كل دمية روسية على نسخة مصغرة من نفسها، تمامًا كما يحتوي كل والد على نسخة مصغرة من نفسه (الإبن).

انقسم مؤيدو هذا الرأي حول مسألة ما إذا كانت هذه النسخة المصغرة موجودة في البيضة أم في بذرة الأب.

وفقًا لأتباع ديكارت، اعتقد نيكولاس مالبرانش أن نسل الحيوان موجودًا في بيضة الأم. وقد خلق الله الجيل الأول من كل نوع حيواني كأنه دمية روسية كبيرة، وتحتوي تلك الدمية على جميع الأجيال القادمة بالفعل بداخلها.

قد تبدو فكرة التكون المسبق تلك غريبة بالنسبة لك، وهي بالفعل تتمتع بسمعة سيئة بين العديد من المؤرخين والعلماء، ومع ذلك، من المهم أن ندرك أنها ظهرت كإجابة على معضلة حقيقية في القرن السابع عشر وطريقة للخروج من معضلة إنتاج الهياكل العضوية المعقدة عن مجرد حركة وتصادم جسيمات.

وفقًا للبعض، كشفت حالة التوالد الحيواني عن بعض تحديات ميكنة الطبيعة الديكارتية، وكان التشكل المسبق مهمًا تاريخيًا كطريقة للتعامل مع هذه التحديات.

يشير أنصار فكرة “التشكل المسبق” أو “الدمية الروسية” لتوليد الحيوانات، أحيانًا إلى النتائج التي توصل إليها علماء الميكروسكوب الأوائل لدعم نظريتهم.

ميكروسكوب سوامردام كدليل على ادعاءات مالبرانش

عند أخذ النتائج التي توصل إليها علماء الميكروسكوب الأوائل مثل “ملبيجي – Malpighi” و”سوامردام –Swammerdam” لدعم نظريات التشكل المسبق لمالبرانش سنجد استنتاجات مالبرانش منطقية أيضًا. فما رآه علماء الأحياء مثل سوامردام تحت مجاهرهم هو أن التركيب العضوي المعقد للعديد من الحيوانات كان موجودًا قبل أن يمكن تمييزه بالعين المجردة.

اعتقد سوامردام بأن أطراف وأجنحة الفراشة كانت موجودة بالفعل، وإن كانت مطوية، تحت جلد اليرقة.

لم يكن بالإمكان تمييز هذه الأطراف والأجنحة بالعين المجردة، لكن ساعد المجهر في اكتشافها وهو ما كتبه في كتاب تاريخ الحشرات عام 1669.

“اليرقة هي الفراشة نفسها، لكنها كانت مغطاة برداء يمنع أجزائها من الكشف عن نفسها.”

سوامردام في كتاب (تاريخ الحشرات Historia insectorum، الجزء الثاني)

يُعتقد بأن فكرة التشكل المسبق التي اعتقد بها مالبرانش مبنية بالأساس على نتائج سوامردام الميكروسكوبية، فإذا كانت الفراشة موجودة بالفعل بكل أجزائها في اليرقة، فلم لا تكون موجودة بالفعل في البيضة أيضًا.

غالبًا يعود هذا الادعاء أيضًا إلى سوامردام نفسه. فهو من كتب أن البيضة “تحتوي على كل أجزاء” الفراشة، وأنها في الواقع كانت “الحيوان الصغير نفسه، مغطى بغشاء” (تاريخ الحشرات ، العدد 1: 64).

لكن نظرًا لأن البويضة نشأت من الأعضاء التناسلية لحيوان أنثى، فقد نرغب في العودة إلى فكرة الدمية الروسية الأنثوية التي تحتوي على نسخة مصغرة من نسلها.

بتتبع خيوط هذه الحجة، توصل مفكرون مثل مالبرانش إلى استنتاج مفاده أن أنثى الحيوان لا بد وأنها كانت نسخة مصغرة داخل أمها، وهكذا حتى أول أنثى من نوعها.

“يجب أن نقبل أن جسد كل إنسان وحيوان ولد وسيولد حتى نهاية الزمان ربما قد ظهر منذ بداية خلق العالم. أعتقد أن إناث الحيوانات الأصلية ربما تكون قد خُلقت من نفس النوع الذي أنجبته والذي ستنجبه في المستقبل.”

(البحث عن الحقيقة، لمالبرانش، 27. ترجمة لينون وأولسكامب)
Malebranche, The Search after Truth, 27. Translation Lennon and Olscamp

لم ينتهي حديثنا عن الأدوات كالمجهر والتليسكوب، لكنها البداية فقط، وسيكون لنا في الحديث عنها مقال تفصيلي.

هل ماتت الفيزياء الأرسطية بطرح ديكارت؟

زعم المؤرخ باترفيلد أن القرن السابع عشر شهد زوال الفلسفة الطبيعية الأرسطية. لكن يحتاج هذا الادعاء إلى بعض التوضيح.

باتترفيلد محق بالطبع، لقد تعرضت الفيزياء الأرسطية لهجوم شديد في القرن السابع عشر على يد ديكارت وأتباعه. وقفت هيمنة الفلسفة الطبيعية الأرسطية في جامعات العصور الوسطى في طريق التقدم العلمي الحقيقي طويلًا، لكن لا يدفعك هذا إلى تخيل موتها فور هجوم ديكارت، فقد رأينا تمسك عالم الأحياء ويليام هارفي بالعودة إلى مجموعة أدوات الفلسفة الأرسطية في تحدي الديكارتية عبر فكرة التوالد، واختلفا في تفسير عمل القلب أيضًا.

صراع ويليام هارفي والديكارتية على أنقاض جالينوس

هيمنت تعاليم الفيزيائي اليوناني القديم “جالينوس” على الفكر الطبي الغربي لما يقرب من 1400 عام، لذا فليس من المستغرب أن التفسيرات الفيزيولوجية المنطقية الجديدة للظواهر قوبلت بمقاومة. رفض ديكارت وهارفي وجهة نظر جالينوس القائلة بأن الدم يتحرك ببساطة للأمام والخلف من خلال نفس الوعاء.

قال هارفي أن القلب عبارة عن مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ثم تعود إلى القلب، وهو ما شكك فيه ديكارت. كما عارض تفسير هارفي لطبيعة الانقباض والانبساط، كل هذا دون مساعدة من أي أدوات دقيقة.

يعكس مفهوم علم وظائف الأعضاء عند ديكارت تفانيه في بناء نظام فلسفي موحد، يضم الفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الكونيات ونظرية المعرفة وجوانب معينة من الدين. لقد نظر ديكارت إلى الجسم بطريقة ميكانيكية، واعتبرها آلات، وأنه يمكن تحويل وظائفها المختلفة إلى نماذج ميكانيكية مماثلة للساعة والآلات التي تعتمد على الروافع والبكرات.

رغم اعتقاد ديكارت بآلية الجسم لكنه رفض فكرة المضخة الآلية القلبية

على الرغم من هذه الميول الآلية الدافعة لقبول ديكارت لأفكار هارفي، رفض ديكارت فكرة أن القلب هو مجرد مضخة تدفع الدم إلى الجسد. يعكس هذا جزئيًا اعتقاد ديكارت بأن الإرادة تتحكم في جميع العضلات. لم يعلم ديكارت بإمكانية وجود عضلات لاإرادية من الأساس.

على الرغم من اعتراف ديكارت بأن بعض الحركات العضلية، مثل رد فعل اليد التلقائي للوخز، يمكن أن ينتج عنه فعل انعكاسي، إلا أنه رفض فكرة الانقباض العضلي اللاإرادي.

اعتقد ديكارت أن القلب لا يمكن أن يكون مضخة، بل هو فرن. يسخّن الفرن القلبي جزيئات صغيرة في الدم، مما تسبب تمددها على الفور. هذا التمدد الديناميكي والمفاجئ للدم داخل القلب تسبب في تضخم العضو مما أجبر الصمامات الأذينية البطينية أن تنغلق، وتفتح الصمامات شبه القمرية.

عندما ينطلق الدم الحار في الشريان، يتمدد الشريان، وهو ما كان مرئيًا للعين المجردة ويمكن الشعور به حينذاك. تخيل ديكارت أنه عندما يبرد الدم، فهو يأخذ مساحة أقل، وتنهار الشرايين والأوردة – كما يفعل القلب نفسه. لكنه اتفق مع هارفي على أن الدم يعود إلى القلب من خلال نظام من الأوردة، لكن الدم الحار هو الذي يحرك الدورة الدموية وليس القلب نفسه.

عندما يعود الدم البارد إلى القلب من أجزاء مختلفة من الجسم، يختلط بكمية صغيرة من الدم باقية في القلب. هذا الدم المتبقي وفقًا لديكارت، يمتلك خاصية تشبه الخميرة التي تسبب تمدد الدم العائد إلى البطين، وبالتالي بدء العملية مرة أخرى. لذلك، شبّه ديكارت القلب بالفرن.

لم يفكر ديكارت في القلب على أنه عضلة، ولم يتخيل أن حركته نتيجة لانقباض عضلي لا إرادي كما اعتقد هارفي. لكن تغير حجم القلب وشكله لأن الدم داخله يتمدد بسرعة مع تسخينه وإجباره على الخروج إلى نظام الأوعية الدموية بينما يبرد بسرعة أثناء دورانه في الجسم. [5]

صراع ويليام هارفي والديكارتية بين العقلانية والتجريبية

الفارق الرئيسي بين ديكارت وهارفي هو الفارق بين العقلاني والتجريبي. فويليام هارفي كان تجريبيًا يصل إلى استنتجاته بالتجربة. أما ديكارت، فحاول توفيق العالم مع نظرة فلسفية عقلانية. وقد بدا لنا من ذلك الصراع نشأة ملامح منهج وليد بين الأرسطية والديكارتية، هو المنهج التجريبي، لكنه لم يظهر على الفور بالطبع، كما لم تمت الأرسطية على الفور.

حتى الديكارتيين أمثال مالبرانش استمروا في استخدام مصطلحات المادة والشكل في تصورهم للعالم المادي. فالفلسفة الطبيعية الأرسطية قدمت مجموعة من المفاهيم التي ساعدتها على البقاء.

مع تطور العلم في القرن السابع عشر، لم يتخلص أتباع ديكارت من مفهوم الشكل بالكلية، بل أعادوا تفسيره ليناسب أفكارهم. بالتالي، يمكننا القول أن أفكار ديكارت والأرسطية كان لهما أثر كبير على علماء ومفكرين القرن السابع عشر. ورغم هدم ديكارت للأرسطية، إلا أنها كانت تعود في الأمور التي يغيب التفسير العلمي التجريبي الدقيق عنها في كثير من الأحيان.

مصادر
[1] Futurelearn, Scientific Revolution, University of Groningen
[2] Animal Generation and the Mechanical Philosophy: Some Light on the Role of Biology in the Scientific Revolution Andrew J. Pyle History and Philosophy of the Life Sciences Vol. 9, No. 2 (1987), pp. 225-254
[3] Biology and Theology in Malbranche’s Theory of animal
[4] (On the Origins of Modern Science, vii-viii) لهاربرت باترفيلد
[5] Hurst JW: Robert C. Schlant. (Profiles in Cardiology[Eds. Hurst JW andFye WB]). Clin Cardiol1999;602–605

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

يحاول زكي نجيب محمود في كتابه “نظرية المعرفة” أن يعرض أبرز مشاكل المعرفة وكيف تعاطى معها الفلاسفة على مر العصور على اختلاف مذاهبهم الفكرية، فقام بحصر مشاكل المعرفة في ثلاثة أسئلة رئيسية:
1- ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟
2- ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟
3- هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟

وأفرد زكي نجيب محمود لكل سؤال منهم بابًا من الكتاب ليتحدث عنه سنناقشهم فيما يلي.

الباب الأول: طبيعة المعرفة

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الأول “ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟”، فقام بتقسيمه إلى ثلاثة فصول.

طبيعة المعرفة عند الواقعيين

• الواقعية الساذجة

إذا قلنا “على المكتب مصباح مضيء” فكلمة “مكتب” تكوّن في ذهنك صورة للمكتب، وكلمة “مصباح” تكوّن صورة مصباح، وكلمة “مضيء” تشير إلى الضوء المنبعث من المصباح، وكلمة “على” تشير إلى العلاقة بين المكتب والمصباح.
فيخلصون إلى حقيقة أن العالم موجود بذاته بغض النظر عن وجودنا، والدليل على ذلك هو أنك حين توجّه بصرك للنظر إلى شيء ما، فهذا الشيء كان موجودًا سواء نظرت إليه أم لم تنظر، كونك توجّه نظرك إليه دليل على وجوده المستقل غير المحتاج إلى وجودك.

ومن هنا يرى أصحاب نظرية الواقعية الساذجة في المعرفة أن معرفة الشيء هي صورة مطابقة للشيء المعروف.

ولكن هناك مشكلة، وهي أنك أنه وفقًا لهذه النظرية فإن معرفتك بالمكتب الذي أمامك ليست بالضرورة هي حقيقة المكتب، فقد تلمس المكتب فتشعر بصلابته، ثم يأتي عالم ليخبرك أن المكتب ما هو إلا مجموعة من الذرات التي يتكون مُعظم كل ذرة منها من الفراغ، فهنا ما ترصده بحواسك ليس بالضرورة هو الحقيقة.

كما أن رصد الشيء يتغير بتغير موقع الراصد أو زمان الرصد، فإذا أحضرنا 10 رسامين وأجلسناهم حول منضدة وطلبنا من كل منهم أن يرسم ما يراه، فسيرسم كل منهم ما يراه من المنضدة من زاوية نظره، فينتج لدينا 10 رسومات مختلفة للشيء نفسه.

وبالتالي فنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة بحاجة إلى تعديل يزيد من دقتها.

• الواقعية النقدية

تكمن مشكلة الواقعية الساذجة في أنها تلغي دور العقل البشري في المعرفة فتجعله مجرد متلقي لما يراه، إلا أن هذا ليس دقيقًا، فإذا رأيت برتقالة فأنت تعرف أنها برتقالة، ولكن كيف هذا؟

حدث هذا نتيجة لرؤيتك العديد من البرتقالات المختلفة في اللون والاستدارة والمذاق، إلا أن عقلك استطاع توحيد هذه الفروقات في صورة واحدة وقام بطرح الاختلافات ليسهل عليك التعرف على البرتقال متى رأيته.

فعندما ترى جسمًا مستديرًا ذا لون برتقالي وملمس معين تستطيع القول بأنه برتقالة، إلا أن هذه الصفات ليست على قدم المساواة، فبعضها صفات أولية، وهي صفات موجودة في الشيء بذاته. البعض الآخر صفات ثانوية وهي الصفات التي تنشأ من تفاعل الإنسان مع الشيء، فالبرتقالة مستديرة سواء نظرت إليها أم لم تنظر أو لمستها أم لم تلمسها، إذا فهذه صفة أولية.

لكن أشياء كلون البرتقالة ليست صفة أساسية في البرتقالة بذاتها، فلون البرتقالة لا يتكون إلا بعد سقوط الضوء عليها وانعكاسه إلى عينك، ومن ثم يتكون اللون في دماغك، كما أن طعم البرتقالة كذلك، فهو ينشأ عند اتصال البرتقالة بلسانك ليتكون الطعم في دماغك، وهذا يفسّر اختلاف طعم الأشياء وقت مرضك.

فبعض الصفات هي صفات ثانوية لا معنى لها إلا بوجود متلقي، فلا معنى للألوان بدون وجود عين ترى، ولا معنى للأصوات بدون وجود أذن تسمع، ولا معنى للحلاوة أو المرارة بدون لسان يتذوق.

وبالتالي فالواقعية النقدية ترى وعي الإنسان جزءًا من عملية المعرفة.

طبيعة المعرفة عند البراجماتيين

يرى البراجماتيون أن المعرفة هي الفكرة التي يترتب عليها فعل في الواقع العملي، فإذا لم يكن للفكرة فائدة عملية فإنها لا ترقى لأن تكون معرفة، ويمكن أن تكون لدينا فكرتين صحيحتين، ولكن واحدة فيهم أصح من الأخرى، وهذه الأصح هي الحقيقة التي تقدم أكبر إفادة لنا، أي أنني إن أخبرتك بوجود تنين خارج الكون لا يمكنني أن أراه أو أسمعه أو أتواصل معه، فإن هذه في نظر البراجماتيين ليست معرفة، فلا يترتب على علمي بأمر هذا التنين فعل أفعله.

طبيعة المعرفة عند المثاليين

المعرفة من منظور المثاليين مصدرها العقل، فهم لا يعترفون بوجود العالم الخارجي بشكل مستقل عن الإنسان – كما يرى الواقعيون والبراجماتيون -، فالعالم بالنسبة للمثاليين هو ما يدور في عقل الإنسان، مثال:

إذا رأيت شجرة في الطريق فكل ما تملكه هو صورة هذه الشجرة في ذهنك، وليس الشجرة نفسها.

فلا وجود إلا لما يدركه العقل، وأي شيء لا يدركه العقل مستحيل الوجود.

الباب الثاني: مصدر المعرفة

يجيب زكي نجيب محمود في هذا الباب عن السؤال الثاني، “ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟”.

مصدر المعرفة عند التجريبيين

يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هي الحواس البشرية التي عن طريقها يختبر الإنسان العالم، فكل فكرة لا يمكن إرجاعها إلى حاسة من الحواس لا تعتبر حقيقية، كالسببية على سبيل المثال، إذ أنه لا يمكن إرجاع السببية إلى شيء تختبره الحواس، فكل ما نراه هو حوادث يرتبط بحدوثها حدوث حوادث أخرى، وليس هناك سبب حسّي لادعاء رابط سببي بينهما.

كذلك هو الحال مع الجوهر (الشيء مستقل عن صفاته)، والذات (الإنسان مستقل عن صفاته وحالاته)، إذ أن كل ما تراه هو الإنسان بحالاته أو الشيء بصفاته، ولا يمكنك إرجاع مفاهيم مثل الجوهر أو الذات إلى شيء مرصود بالحواس البشرية.

مصدر المعرفة عند العقليين

يخالف العقليون التجريبيون في تحديد مصدر المعرفة، فبينما يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هو الحواس فقط، يرى العقليون أن الحواس قد تخدع، وليس كل ما ترصده بحواسك يكون حقيقيًا، ولكن إن قلت “(أ) أكبر من (ب)، و(ب) أكبر من (ج)، إذن (أ) أكبر من (ج)”، فهذا لا يمكن أن يكون غير حقيقي، إذ أنه مستند على العقل وليس الحواس التي يمكنها خداعك، وبالتالي يرى العقليون أن مصدر المعرفة هو العقل.

مصدر المعرفة عند النقديين

بينما يكون مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فقط، ومصدرها عند العقليين هو العقل، فمصدرها عند النقديين هو الحواس والعقل معًا، حيث وقف النقديون من المعرفة موقفًا بين الواقعيين والمثاليين، فلم ينكروا أن معرفة الإنسان قائمة على ما يدركه في العالم الخارجي، ولكن اعتبروا العقل البشري هو القالب الذي يستقبل ويترجم هذه المدركات الحسية لتكون ذات معنى، مثال:

إذا قُلنا “النار أحرقت الورقة” فنحن هنا نشير إلى مدركات حسية وهي النار والورقة، ولكننا أيضًا نشير إلى مبدأ من صنع العقل البشري (أو من فطرته إن صح التعبير) وهو السببية، فيرى النقديون أن رصد عملية الاحتراق (المدرك الحسي) ضروري للمعرفة، إلا أن هذا المدرك لم يكن ليكون ذو معنى إن لم تحكمه علاقة السببية (المنتج العقلي)، فالنار هي ما تسبب بإحراق الورقة.

فبينما أشياء مثل السببية والجوهر والذات ليست مدركات حسية، إلا أنها ضرورات لفهم المدركات الحسية وجعلها ذات معنى، فهي من الأشياء التي زُوّدت بها فطرة الإنسان لتفهم العالم الخارجي.

مصدر المعرفة عند المتصوفة

خلصنا إلى أن رؤية التجريبين للحواس كمصدر وحيد للمعرفة، وبينما يرى العقليون العقل المصدر الوحيد للمعرفة، ويجمع النقديون بين العقل والحواس كمصادر للمعرفة، نجد أن المتصوفة لهم مصدر مختلف للمعرفة وهو الحدس.

ويرتبون درجات المعرفة من الأعلى إلى الأسفل، حيث تكون الحواس أدناها، والعقل أوسطها، والحدس أعلاها.

وبينما يسعى المتكلمون والفلاسفة لإثبات وجود الله باستخدام حجج وبراهين عقلية، يرى المتصوفة أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى الله تكون عن طريق الحدس.

فيقول زكي نجيب محمود في هذا الفصل:

“وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان – كما يقول المتصوفة – أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودًا مباشرًا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده.”

الباب الثالث: إمكان المعرفة وحدودها

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الثالث وهو “هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟”

الاعتقاديون والشُّكاك

يرى الاعتقاديون من أنصار المذهب التجريبي والمذهب العقلي أنه لا حدود للمعرفة التي يمكن للإنسان الحصول عليها، فما دامت المعرفة مصدرها هو العقل عند العقليين فلا يوجد شيء في العالم الخارجي يمكنه أن يضع حدًا لهذه المعرفة، وما دام مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فلا شيء يعوق معرفة الإنسان إذا لم يكن هناك ما يعوق اتصال الحواس بالمحسوسات.

أما الشُّكاك فيرون استحالة أن يعرف الإنسان الحقيقة الموضوعية لأي شيء، فكل ما يعرفه الإنسان نسبي، وحتى إن أراد أن ينقل معرفته هذه إلى غيره فإنه ينقلها عن طريق الكلام، ولن تعبّر الألفاظ عن حقيقة الشيء.

وتجب هنا التفرقة بين الفيلسوف الشاك، وبين الفيلسوف الذي يتبع منهج الشك، فالأول يشك في إمكان حصول الإنسان على المعرفة، بينما يؤمن الثاني بإمكانية المعرفة ولكنه يحتاج إلى حذر وحرص للحصول على المعرفة اليقينية.

حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين

لما كانت الحواس هي الشرط اللازم للمعرفة عند النقديين كما ناقشنا أعلاه، كانت معرفة الإنسان ممكنة طالما هي في حدود المدركات الحسّية، إذ أن ما يجاوز هذه المدركات لا يمكن للإنسان معرفته (في رأيهم).

فإذا تساءل الإنسان عن محدودية المكان في الكون أم أنه لا نهائي وجد نفسه أمام تناقض، فلا يمكن للعقل تصور نهاية للمكان، إذ أن كل مكان هناك ما هو أبعد منه، وكذلك لا يمكنه تصور مكان لا نهائي، وهذا التناقض سببه هو أن الإنسان حاول أن يتناول بمعرفته ما وراء المدركات الحسّية.

ويوافق الوضعيون النقديين في رأيهم فيرون وجوب الوقوف بمحاولاتنا للمعرفة عند الظواهر التي يمكن أن نشاهدها ونجري التجارب عليها، أما أن نجاوز الطبيعة المنظورة إلى ما وراء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة.

للمزيد من ملخصات الكتب اضغط هنا.

للمزيد من المعلومات عن زكي نجيب محمود اضغط هنا

فلسفة الجنس والجنسانية


فلسفة الجنس والجنسانية

ما هو مثير في الجنس هو وجوده خارج الأمور العادية طيلة التاريخ، لم يُعتبر قط كنشاط عادي يُمارس خارج الاعتبارات الأخلاقية. حيث كان ولا يزال موضوع الخلافات العظمى والجوهرية.

يمثل الجنس حالة غريبة في تاريخ التحريم والتقديس، كأنه من المحال أن يؤخذ الجنس دون شروط وملاحظات مسبقة. كما يقع الجنس غالبًا على التخوم الفاصلة بين الرؤى والمذاهب والتوجهات الفكرية والدينية والسياسية.

كان الجنس قديمًا كواهب الكينونة تارة، ومفسدها تارة أخرى. حيث نجد شعوبًا قد قامت بتقديس الجنس وبناء المعابد للأعضاء التناسلية، ونجده لدى شعوب أخرى وهو في خانة الشر الكبير.

منذ القِدم وإلى الآن وجدلية التحريم والتقديس مستمرة، ففي عالمنا اليوم هناك معسكرين:

  • المعسكر الذي يجد في الجنس وسيلة للانجاب والتكاثر وممارسته تكون ضمن شروط وتحديدات دينية.
  • المعسكر الآخر يرى في الجنس حق شخصي يحدده الفرد بإرادته الحرة، بل ويمثل ركناً رئيسًا في الحداثة.

    في هذا المقال سنبين بعضاً من جوانب فلسفة الجنس أو الجنسانية، و سنناقش الطروحات المختلفة حول هذا اللغز الكوني.

الجنس في الحضارات القديمة


نقرأ في ملحمة جلجامش كيف تمكنت بغيٌ من ترويض الوحش أنكيدو الذي كان” يجوب السهوب والتلال ويأكل العشب ويرعى الكلأ مع حيوانات البر ويسقى معها عند مورد الماء “(1). ومن ثم بعد أن “تعلم الوحش فن المرأة، فانجذب إليها، ولبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة ايام وسبع ليال“(1).

ثمة الكثير من الإشارات المهمة في هذا النص، إذ أن الجنس قادر على تغير التصميم أو الماهية. فإنكيدو صنعته الآلهة وحشًا؛ حتى حولته بغيٌ إلى إنسان يشعر ويحب ويصادق بواسطة الجنس.

وفي الحضارة الرومانية كان الجنس جانبًا طبيعيًا من جوانب الحياة، ولم يكن هناك تمييز بين الجنس المغاير أو الجنس المثلي -لم يكن هناك حتى اعتراف لغوي بأن المثلية الجنسية تختلف عن الجنس المغاير- والتي يمكن الاستمتاع بها طالما أن طرفيها مشاركين برغبتهما(2). كما كانت هناك مهرجانات خاصة بالجنس مثل مهرجان (Lupercalia).

لوحة جدارية من مدينة بومبي الرومانية، تعود للقرن الأول الميلادي، مكتشفة في غرفة نوم منزل سينتناريو.


في معظم الحضارات القديمة كانت هناك آلهة للخصوبة والولادة والجنس، وهذا ما يدلنا إلى كونية الجنس في الخطاب الإنساني.
ففي الصين القديمة كان هناك (هو تيابانو–Hu Tiabano) إله المثلية الجنسية. والإله (يو لوي–Yue Loe) كان يساعد الأفراد في إيجاد الزوج وكانت في يده خيوط القدر.

الإلهة أفروديت تركب عربة يجرها الإلهان أريوس وهايميروس_ 400_450ق.م

ولدى الأغريق كان هناك أيروس بن أفروديت وهو المسؤول عن الرغبات والجاذبية الجنسية، وفي الهند كانت راتي إلهة الانجذاب الجنسي(3).

تاريخ فلسفة الجنس والجنسانية

تقتضي ضرورة التوضيح أن نفرق بين الجنس كموضوع رئيس في الفلسفة وبين الجنس كعنصر من عناصر الحياة الزوجية.

الحضارة الإغريقية

نجد في فلسفة ما قبل سقراط بعض الإشارات إلى الجنس ضمن قالب العلاقة الزوجية كما هو الحال مع فيثاغورس وأرخميدس وبعض السفسطائيين، لكنهم لم يتطرقوا إليه كمسألة فلسفية بحتة.

بدأ أفلاطون يفلسف الجنس في محاورتي الندوة وفيدروس، ووصفه بأنه شغف قوي لامتلاك ما هو خير وجميل. أما تلميذه أرسطوطاليس لم يحسن الحديث عن أيروس بشكل مستقل، واكتفى بضمه إلى موضوع الفضيلة والعفة في كتابه (الأخلاق النيقوماخية)(4).

العصر الهنلستي

وفي العصر الهيلنستي، كات ثمة هناك مدرستين: الأبيقورية والرواقية.

تصنف الأبيقورية الجنس ضمن الرغبات الطبيعية غير الضرورية، بحيث يجب اشباعها بشكل معتدل دون أن تسيطر تلك الرغبات على الإنسان(5).

أما الرواقية لم تجد في الجنس ما هو ضروري، لذا فضلت الحب النقي والصداقة على النشاط الجنسي.

العصور الوسطى

أما في العصورالمظلمة حسب تعبير فرانشيسكو بتراركا، يصف القديس أوغسطين الجنس كغواية وشر عظيم، ويدعو إلى عدم ممارسة الجنس إلا بهدف الإنجاب لأن الأطفال هم الثمرة الوحيدة المهمة للنشاط الجنسي(6).

ولدى الأكويني الجنس وسيلة طبيعية للتكاثر داخل إطار زواج شرعي، وكل نشاط جنسي آخر يعتبررذيلة وضد إرادة الله(7).

عصر النهضة

حرر الفن الجسد من الاتهامات الدينية وارتفع به إلى فضاءات أيروتيكية وجمالية مختلفة، بحيث صار للجسد العاري نوعاً من الفضيلة. ولم يكن الفن يُمارس بمعزل عن الدين إنما في بيوت الدين نفسها، لذا نجد بدايات تصوير ونحت الأجساد العارية في الكنيسة. حيث تم تصويرالمسيح والأنبياء والقديسين على جدران الكنائس(8).
ومع بداية من القرن السادس عشر صار الجنس يشكل موضوعًا ذو شأن في الخطاب الفلسفي، ناقش ميشيل دي مونتين النشاط الجنسي في كتابه(قوة الخيال).

كما ذكر ديكارت في (عواطف الروح)، وديفد هيوم في رائعته (مقال في الطبيعة البشرية) أن العلاقة الجنسية تتكون من ثلاثة عناصر متنافرة: اللطف والشهوة والاستجابة الجمالية.

عصر التنوير

ناقش روسو الموضوع في سياق حياته في كتاب الاعترافات. بينما وصف كانط الجنس كرغبة شريرة ومدمرة للطبيعة البشرية. بينما حرر ماركيز دي ساد الجنس من كل القيود الممكنة وأباحه بشكل عام.

ودافع جون ستيورات ميل عن تعدد الزوجات والحرية الجنسية وبيوت الدعارة. بيد أن نيتشه لم يبالي بموضوع الجنس كثيرًا بل انتقد الحرية الجنسية لكونها تفسد طبيعة الإنسان.

القرن العشرين

كانت كتابات فرويد الأكثر جرأة في مجال الجنس، واعتبره الحجر الأساس في بناء الشخصية(4). أما برتراند راسل كان أقرب في بداية كتاباته إلى ستيورات ميل، وفي النهاية لم يكن مع الممارسات الجنسية خارج الزواج.

أما سارتر ربط بين حرية الآخر والجنس. ولكن العلاقة الجنسية وفقًا لسارتر تنتهي بالسادية أو المازوشية وبالتالي النشاط الجنسي يكون بمثابة انتهاك حرية الآخر(4).

أما ميشيل فوكو كان الأكثر إثارة للجدل، فقد كان مثلي الجنس من جهة وربط بين الجنس والسلطة من جهة أخرى. حيث ميز بين الجنس والجنسانية وفقًا للسياق الذي تجد فيه السلطة نفسها، ففرق بين التجارب الثلاث في تطور موضوع الجنس.

في اليونان القديمة كانت تجربة الجنس هي تجربة الذات. وفي المسيحية كانت تجربة الجسد، وفي الغرب ظهرت التجربة الجنسانية ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر(9). في حين وصف بول ريكور الجنس بأنه نهر الحياة.

الميتافيزيقيا المعادية للجنس

تدعي الميتافيزيقيا المتشائمة بأن الشخص الذي يرغب جنسيًا بشخص آخر، يجعل من ذاك الشخص موضوعًا للجنس قبل وأثناء النشاط الجنسي.

يقول كانط في (المحاضرات الأخلاقية): “يحول الجنس المحبوب إلى موضوع للشهية وهذا بحد ذاته يعد تدميرًا للطبيعة البشرية“(10). ويُقام هذا الادعاء على أن الوجود الإنساني سامي أو على حد تعبير كانط غاية -لا وسيلة.


حين يتحول الإنسان إلى موضوع يصبح كأي شيء آخر، بحيث يجوز ممارسة الكثير من الخداع للوصول إليه. وبعد قضاء الحاجة الجنسية، يصبح المحبوب شيئا مستهلكًا يمكن الاستغناء عنه.

فيصف برنارد بريم الأمر: “التفاعل الجنسي هو في الأساس تلاعب جسدي وعاطفي ونفسي وحتى عقلي“(10).إن هذا التفاعل يعد انتهاكًا بحق ذات الآخر، وذلك لأن الجوانب الجنسية منه تكون هدفًا لرغبتنا مع إهمال كل جانب آخر.

وهنا يقول كانط: “الجنس ليس ميل إنسان نحو إنسان آخر، بل فقط نحو جنس الآخر، أي الجانب الجنسي وحده يكون موضوع الرغبة”(10). علاوة على ذلك، يفقد الطرفين شخصيتهما، وذلك لأن الطرف الأول يفقد إرادته بخضوعه لرغبته الجنسية وبالتالي يستهدف الطرف الآخر إلى أن يفقد هو بدوره شخصيته إلى حد الاستهلاك.

يذهب كانط بعيدًا في هذا الاتجاه ويقول: “إذا كان الرجل يريد اشباع رغباته، وتريد المرأة اشباع رغبتها؛ يثير كل منهما رغبة الآخر، وهنا تتلاقي ميولهما، لكن الهدف ليس الطبيعة البشرية إنما الجنس، فيذهب كل منمها إلى افساد طبيعة الآخر البشرية، ويجعلان من الإنسانية أداة لإشباع شهواتهما وميولهما، وبالتالي ينزلان بالإنسان إلى مستوى الطبيعة الحيوانية“(10).

الميتافيزقيا الداعمة للجنس


تفترض الميتافيزيقيا المتفائلة أن الجنس هو آلية ترابط، تجمع الناس معًا بشكل طبيعي جنسيًا ولا جنسيًا في نفس الوقت.

ويتضمن النشاط الجنسي إرضاء الذات والآخر، ويولد تبادل المتعة كلاً من الامتنان والمودة، والتي بدورها تعمّق العلاقات الإنسانية وتجعلها أكثر جوهرية عاطفيًا.

كما يرى هذا الاتجاه في الجنس أكثر من مجرد جماع بين زوجين، بل يمثل الجنس قيمة كونية حتى خارج الزواج ودون أن يكون الهدف هو الانجاب، وهنا يدافع راسل عن الجنس بأنه يحافظ على كرامة الإنسان وطبيعته(11).

ويبين بول ريكور بأنه “حين يتعانق كائنان، هما لا يعرفان ماذا يفعلان، لا يعرفان ماذا يريدان، لا يعرفان عما يبحثان، لا يعرفان ماذا يجدان…الجنس بلا معنى لكنه يمتاز بكونه يعيد ربط الكائن البشري بقوة كونية“. ويضيف “أن الحياة وحدها بعينها كونية، كلية لدى الكل، وأن شأن البهجة الجنسية أن تجعلنا نشارك في هذا اللغز“(12).

الحق الطبيعي عند توما الأكويني


يستنتج توما الأكويني بأن ما هو طبيعي في النشاط الجنسي هو دافع الانخراط في الجماع عند الجنسين، ويعتبر الجماع آلية صممها الله لضمان الحفاظ على الأنواع الحيوانية بما فيها البشر.

وبالتالي فإن ممارسة هذا النشاط هو التعبير الطبيعي الأساسي عن الطبيعة الجنسية للإنسان. لأن الله صمم كل عضو من أعضاء الجسم لتأدية وظيفة معينة، فالعضوين الذكري والأنثوي هما من صنع الله ووظيفة الأول هو زرع الحيوانات المنوية في الثاني. وأن ايداع الحيوانات المنوية في أي مكان آخر غير العضو الأنثوي يعد خروجًا عن التصميم الذي أراده الله والحكمة الإلهية(10).

ويعتبر الأكويني الاستمناء والمثلية واستخدام أعضاء غير جنسية في الفعل الجنسي أنشطة مخلّة ومهينة وشاذة. وذلك لأنه كما الهدف من أعضاء الجسم واضح فإن الغاية من الجنس واضحة أيضًا وهي الإنجاب.

الأخلاق العلمانية عند توماس ناجل

يرفض توماس ناجل أخذ الأكويني بما هو مشترك بين الإنسان والحيوان، لذا نجد ناجل يركز على ما هو مختلف بين الإنسان والحيوان. أي ما يميز حياة الإنسان الجنسية عن الحياة الجنسية للحيوان.

ويجادل ناجل بأن الانحراف الجنسي لدى البشر يجب أن يُفهم على أنه ظاهرة نفسية وليست فيسيولوجية تشريحية كما ذهب الأكويني. وذلك لأن الجانب النفسي للإنسان هو الذي يميزنا عن الحيوان، وبالتالي فإن كل حساباتنا حول النشاط الجنسي الطبيعي يجب أن تعترف بأن نفسية الإنسان فريدة ومميزة(10).

إن النفسية الطبيعية للإنسان تكون واضحة حينما يستجيب كل طرف بإثارة جنسية حين يلاحظ الإثارة الجنسية للطرف الآخر (10). أي العلاقة الطبيعية، هي أن يشعر الطرفين بالإثارة الجنسية، وفي هذا اللقاء يكون كل طرف مدركًا بنفسه وفي نفس الوقت يدرك الطرف الآخر على أنهما يمثلان ذاتًا وموضوعًا في تجربتهما الجنسية المشتركة، بمعنى ألا يكون أحدهما إلغاءً ونفيًا للطرف الآخر. بذا، فأن الانحراف الجنسي هو غياب هذا الوعي المشترك بدور الطرفين في العملية.

ولا يعتبر ناجل المثلية أو الجنس الشرجي أو استخدام الأعضاء غير الجنسية والأدوات والجنس غير الهادف للانجاب نشاطًا شاذا، طالما تتحقق رغبة الطرفين الواعية. أما الاستمناء والاغتصاب من الانحرافات الجنسية وذلك لعدم تحقيق رغبة الطرف الآخرأوغيابه.

الخلاصة

في البداية اتخذ الجنس موقعًا خاصًا في الخطاب الأسطوري للحضارات القديمة، ومع بداية التفلسف اليوناني تحول إلى موضوع خاص لمناقشات عقلية.

وفي العصور المظلمة استسلم للنقاش اللاهوتي والحكم الكنسي. ومع عصر النهضة صار الجنس موضوعًا فنيًا في السياقات الجمالية، إلى أن صار مسألة من مسائل الفلسفة من جديد ابتداءً من القرن السادس عشر.

وبات بات له مكانة في الحقل العلمي مع فرويد. ومع بروز الحركات النسوية والمثلية وتطور البحوث السايكولوجية والاجتماعية والانتروبولوجية وحتى الفزيولوجية في موضوع الجنس، صار للجنس مكانة مختلفة في الخطاب الفلسفي وحتى الديني.

لكن الإشكال الجنسي سيظل قائمَا في الخطاب الإنساني نظرًا لما يحمله من قيمة في صنع السرديات الحداثية أو في خلق جدالات أخلاقية.

المصادر

1- طه باقر، ملحمة كلكامش، ص41-42.

2- ancient.eu

3- theoi

4- encyclopedia

5- themontrealreview

6- thebodyissacred

7- theo.kuleuven.b

8- bbc

9- plato.stanford

10- iep.utm.edu

11- russell-j

12- فتحي المسكيني، هجرة إلى الإنسانية، الطبعة الأولى 2016، منشورات الاختلاف،ص58-59

Exit mobile version