محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

محاورة جورجياس: الفلسفة في مواجهة البيان

يجادل أفلاطون على لسان سقراط الحركة السفسطائية والخطباء حول موضوعات مختلفة، نجد دائما أنه يبين عكس ما يقوله أولئك السفسطائيين بالضبط، كأن الحقيقة هي الضفة المقابلة للحركة السفسطائية. في محاورة جورجياس يضع أفلاطون الفلسفة في مواجهة البيان، لا يناقشهما مع جورجياس وبولوس وكاليكليس وحسب بل يحارب بالفلسفة. لذا فأن المحاورة لا تكشف عن مفهوم البيان عند أفلاطون إنما يركز على نوع معين من البيان، دليلنا على ذلك هو أنه يأتي بأفكار متضادة في محاوراته الأخرى حول البيان، فيدورس على سبيل المثال. اقرأ أيضا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

تعريف البيان:

يبين الطرفان أن البيان من الفعاليات أو الفنون الكلامية الصرفة، فالبيان هو فن القول كما يرى جورجياس. غير أن سقراط يشك في قيمة هذ الفن المدعي، فحتى الفنون الكلامية مثل الفلك والحساب لديها من المواضيع. فالبيان لا يعني بموضوع معين، لذلك يقول بولوس وجورجياس بأن البيان قادر على الإجابة أو طرح أي سؤال كان، وهذا ما يستوقف سقراط لفحص البيان وحججه.

البيان والإقناع:

يرى جورجياس أن البيان هو أسمى الفنون لأن الحائز على هذا الفن يجعله البيان حرًا بالنسبة لنفسه وسيدًا على الآخرين. ذلك لأن قوة البيان تكمن في قدرته على الإقناع، إقناع الجمهور بأي أمر من الأمور. يثبت سقراط لمتحاوره أن الإقناع لا يكون عن العلم إنما عن العقيدة، فالخطيب لا يقدم علمًا إنما عقيدة ويستغل جهل الناس، خطيب جاهل يحاضر جمهورًا من الجهلة.

كل فن فيه جانب من الإقناع، مثلًا فن الطب يقنعنا بما يخص الأمراض والأدوية، الموسيقى تقنعنا بما يتعلق بتأليف الألحان، إلا أن البيان ليس من الواضح بما يقنعنا. حسب جورجياس أننا نستفيد من البيان في المحاكم والجمعيات العامة. الجذير بالذكر هنا هو أن السفسطائيين كانوا بمثابة المحاميين في عصرئذ. ذلك أن الخطباء يؤثرون في الانتخابات وقرارات المحاكم

البيان كتجربة:

وفقًا لأفلاطون بأن الفن يختلف عن التجربة، الأول ينتج المعرفة من خلال العقل والحجة المنطقية في حين أن التجربة تأتي من الممارسة والتدريب. فالبيان لا يتأسس على العقل إنما لا يعدو كونه ممارسة بلاغية. ومن الأعمال التي يطلق عليها أفلاطون تسمية التجربة، الطهي، التزيين، البيان والسفسطة. وهذه التجربات رديئة حسب تعبير أفلاطون، فهي تحرف وتموه حقيقة الأمور. فالطهي يقابل الطب، التزيين يقابل الرياضة البدنية والبيان يقابل العدالة. فالبيان كتجربة يهدف إلى احداث نوع من اللذة والانشراح الزائف، فهو لا يقول حقيقة الأمور.

الخطيب والمكانة الاجتماعية:

يزعم جورجياس أن الخطباء يحتلون أرقى مكانة في المجتمع ولهم السلطان في الدولة. هنا يريد سقراط أن يبين أن جورجياس لا يفهم معنى السلطان، فالخطيب لا يقوم بما يريد بل بما يبدو له الأفضل طالما لا يقومون بما يملي عليهم العقل. فالإرادة تكون موجهة نحو الغاية الحقة، فالمريض يأخذ الدواء المر لأجل الصحة في حين أن البيان يهمل الغاية الحقة. هذا ما يدفع بأفلاطون ليقول بأن الخطباء لا يستحقون أي نوع من الاحترام.

البيان والأخلاق:

الموضوع المركزي في فلسفة أفلاون هو العدل، لذلك فهو يربط كل المواضيع بعلاقاته مع العدل والعدالة. فالبيان رغم أن بولوس وجورجياس قالا بأنه يخدم العدالة لا يكون العقل البنيانه لذلك فهو لا يهدف الخير. من طبيعة البيان هو أن يستخدم كافة الوسائل السيئة للوصول إلى إقناع الناس ولو بإستخدام شهود الزور.

يناقش أفلاطون مسألة في غاية الأهمية من الناحية الأخلاقية. وفقًا له فأن ارتكاب الظلم افضع من تحمله، وعدم التكفير عن الظلم هو افدح الشرور بالإطلاق. يستسلم لحجته جورجياس بعد جدال طويل.

قانون الطبيعة:

إن قانون الطبيعة الذي أخذ به الكثير من الفلاسفة ومن بينهم نيتشه، ربما كان كاليكليس هو من الأوائل الذين طرحوا الموضوع. حسب كاليكليس فأن قانون الطبيعة يعارض قانون الناس أي العدالة البشرية. القوي هو دائما الأفضل، وله الحق في اكتساح الضعفاء، وللدول القوية الحق في غزو الدول الضعيفة، وهو يرفض كل الأخلاقيات البشرية، فهي حجة ماكرة لإخداع الأقوياء كما آمن نيتشه أيضًا. بعد مناقشة طويلة يتبين أن كاليكليس لا يعرف ماذا يعني بالقوي والأفضل والحكيم والذي له السلطان، وفي الأخير يبين أفلاطون أن القانون الطبيعي لا يعارض القانون الإنساني. فالقانون الإنساني أصله إلهي حاله حال الطبيعي.

الفلسفة في مواجهة البيان:

يعتبر كاليكليس أن الفلسفة تافهة جدًا، فهي مفيدة في الصغر لأنها لا تخلو من سحر الطفولة، لكن إذا ما استمر في مزاولة الفلسفة يصبح مغتربًا عن الواقع ولا يعرف شيئًا عن الواقع المفهوم. كما يقول أن الفيلسوف لا يمكنه أن يحوز على أية ثروة أو مكانة اجتماعية لائقة وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه لطالما ليس لديه قدرة الإقناع. فهو يعيب على سقراط تفكيره الفلسفة وحججه التي تبدو غريبة وتغريبية لكاليكليس.

في حين أن أفلاطون وعلى لسان سقراط، يبين أن الفلسفة تقوم على العقل بإستخدام أدوات وحجج علمية ومنطقية. بينما هدف البيان الوحيد هو غرس بعض المعتقدات الزائفة بأية وسيلة كانت.

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس

تثير حول بدايات الفلسفة الكثير من التساؤلات الجوهرية، خاصةً فيما يتعلق بهوية الفلسفة وإشكال الأصول والمصادر الرئيسة. إلا أن الرابط الكائن بين الفلسفة والعلم يعد من أبرز الجوانب التي تحتاج إلى الإحاطة والتحليل؛ فالفلسفة لم تقدم علمًا إنما عاشت لحظات علموية. إحاطتنا بتلك اللحظات من شأنها أن تكون منعطفًا أنطولوجيًا، إذ أن علاقة العلم بالفلسفة لا تنكشف بالتناول التقليدي المألوف. تجربة فيلسوف الذرة الأول ديمقريطس, إذا ما حررناها من الإطار التاريخي ستساعدنا لأن نقترب من التوتر الموجود بين الفلسفة والعلم. مؤرخو العلم يركزون على تلك العلاقة الحميمة في اللحظات التي تجلى العلم بمفرده في القول الفلسفي. بينما مؤرخو الفلسفة يقدمون الفلسفة بوصفها الكينونة الأم للعلم والمعرفة، يتعاملون مع العلم على أنه الابن الضال للفلسفة. نحاول في هذا المقال أن نبين التواصل الدائم بين مسطحي المحايثة والمرجعي (على حد تعبير دولوز).

حول الفيلسوف الضاحك ديمقريطس

يُعرف عن ديمقريطس بأنه كان يثمن الابتهاج والسعادة في الحياة؛ فسُمي بالفيلسوف الضاحك. حسب بعض المصادر, ولد ديمقريطس في عام 460 ق.م. في أبديرا. بينما تزعم مصادر أخرى بأنه ولد في عام 490 ق.م. في مدينة ملطية-ميليتوس (ونيفري). حسب المصادر الموثوقة، كان قد سافر كثيرًا إلى الشرق، وعاش لفترة طويلة في مصر وبلاد الفارس قبل أن يعود إلى أبديرا. ولنعرف أكثر عن سيرته الفلسفية لا بد أن نشير إلى ثلاثة محاور هامة في حياته. (1)

علاقة ديمقريطس مع الموروث

كان يافعًا عندما كان انساغوراس شيخًا، بهذا فهو يعد بمثابة حلقة وصل بين ما يسمى بالفلسفة القبسقراطية والأفلاطونية. فمذهبه الذري فيه الكثير من روح الموروث وفيه ما يكفي من التحديث ليؤثر على الفلاسفة اللاحقين مثل أبيقور.

السفسطائية

إن حركة السفسطائية تعد من الحركات المثيرة للجدل والاعجاب في تاريخ الفلسفة، نظرًا لانتقاداتها اللاذعة بوجه الموروث الإغريقي الروحي والتقليدي الفلسفي. فهي التي أسست للعدمية البدائية والنسبية الأخلاقية على نحو واسع، بحيث تبرز في سياق مختلف تمامًا من السياق الفلسفي الإغريقي. ونظرًا لأنها كانت أكثر شعبية وتأثيرًا في المجتمع الإغريقي فمن المستحيل ألا يكون لهم تأثير بالغ في فلسفة ديمقريطس. اقرأ أيضًا السفسطائية وشجرة الفلسفة المحرمة

أفلاطون وسقراط

يتبين من معظم المصادر بأنه كان قد عاصر سقراط, علاقته مع سقراط غير واضحة, لكن اهماله من قبل أفلاطون قد يكون نتيجة وجود توتر حاد بينهما. يذكر المؤرخ ديوجين لاتيريوس بأن أفلاطون كان يكرهه كثيرًا ويتمنى ولو تُحرق كل كتبه. من النادر أن نجد أي فيلسوف غفل عنه أفلاطون في محاوراته، لكنه لم يذكر ديمقريطس ولو لمرة واحدة.

فيزياء ديمقريطس

مع أن الفلسفة بدأت من خلال فك ارتباط التفكير بالأسطورة, غير أن التفكير اللاهوتي او المنطق اللاهوتي ظل سائدًا. حتى فلاسفة الصيرورة احتاجوا إلى عنصر ميتافيزيقي وعزوا إليه الأصول، لكن مع ديمقريطس حدثت قفزة نوعية. كانت الصيرورة عند الملطيين وهيراكليطس تبدأ من الاصل الميتافيزيقي نحو ظلال الطبيعة. وهناك فلاسفة وقعوا في أسر اشكال الصيرورة وقالوا بأن التغير يستدعي وجود العدم، والعدم يستحيل أن نقول فيه شيئا أو أن نفكر فيه.

استطاع ديمقريطس أن ينفي ادعاء بارمنيدس من خلال تقديم مفهومين مهمين وهما الذرات والفراغ. الذرات هي اللبنات الأساسية في كل تكوين, بما في ذلك تكوين النفس البشرية, وهذه الذرات تتحرك في الخلاء/الفراغ. كما يقول راسل، فان الطرح الديمقريطي أقرب إلى البحث العلمي, ذلك لأنه اراد أن يفسر العالم دونما حاجة إلى فكرة العلة الغائية أو السببية (2).

إن التفكير الغائي لا يتوقف في ارجاع كل شيء إلى شيء سابق له ومن ثم يطرح الشيء -الله- الذي يغير ولا يتغير. إلا ان ديمقريطس فكر كما يفكر عالم, قال ببساطة أن الأشياء جميعها تتغير لأن الذرات تغير اماكنها.

إن الذرات هذه يستحيل فناؤها، فهي كانت منذ الأزل وستظل إلى الأبد في حركة دائمة، وهناك عدد لا نهائي من الذرات (3). إن الذرات تتصادم وتتنافر وتترابط مع بعضها لتشكيل الأجسام. فوجود أشياء متغيرة ومتباينة ما هو في الأصل إلا اختلاف في الارتباط بين الذرات (4).

في الأخلاق والسعادة عند ديمقريطس

عكس نظريته الفيزيقية, لا تتمتع أخلاقيات ديمقريطس بوجود نسق فلسفي أصيل, فهي على الأغلب ملاحظات عامة حول السعادة. يشير ديمقريطس إلى الحتمية المتأصلة في الطبيعة، فيقول: الضرورة عينت سلفًا كل الأشياء الكائنة والتي تكون والتي ستكون. إذا ما طبقنا فكرته هذه على حقل الأخلاقيات فأننا سنكون أمام معضلة أخلاقية ووجودية كبيرة، فإذا ما كانت سلوكيات الإنسان محكومة بالحتمية فأنه لا يتحمل مسؤولية افعاله. وفقًا للسفسطائية فأن السلوكيات ايضًا جزء من العالم الجاري, لذا فأنها تؤسس لعدمية أخلاقية, لكن ديمقريطس بدلًا من أن يورط نفسه مع العدمية فضل أن يناقض نفسه.

تشكل الصدفة في مبحث الأخلاق أهمية بارزة، وكأنها الفسحة التي يستطيع الإنسان التنفس منها, ويمارس حريته، فهو يقول في الصدفة بأنها تمنح الهبة العظمى للأمل (5). كما هي الحال مع أبيقور فأن ديمقريطس يضفي على الأخلاق صفة القصدية، ذلك لأن الأخلاق ليست غاية بحد ذاتها إنما تهدف إلى بلوغ السعادة.

إن مفهوم السعادة عند ديمقريطس غير واضح تمامًا, يعتقد البعض أن السعادة الديمقريطية هي نفسها السعادة الأبيقورية , بينما يشير آخرون إلى عكس ذلك. فكما يقول المؤرخ ديوجين فأن السعادة ليست هي اللذة ولكنها حالة تحيا فيها النفس بهدوء وأمان غير مزعجة بالخوف والخرافة. يؤكد ديمقريطس في شذرة بأن نفس الشيء خير وحقيقي بالنسبة للجميع لكن اللذة تختلف من فرد لآخر. (6)

ولإحاطة أكبر بمفهوم السعادة لا بد أن نشير إلى نقطتين مهمتين: السعادة حالة عقلية معرفية وليست حالة جسدية كما هو الوضع مع الأبيقورية. إن ما يمنح السعادة هو نفسه ما يمنح الجمال فيقول عن ذلك: اللذات العظيمة تشتق من التأمل في الأعمال الجميلة. (7)

فضلًا عن الجانب الجمالي للأخلاق فثمة صفة أخرى ملاصقة بالنظرية الأخلاقية ألا وهي العلم, فأننى نسعى إلى الجميل أي إلى السعادة من خلال التعليم والمعرفة. تأكيدًا على ذلك يقول: الجها بالأحسن هو علة الفعل الخاطئ.

طريق المعرفة عند ديمقريطس

لم يُحسم النقاش حول تحديد النسق المعرفي في فلسفة ديمقريطس, لا يعود السبب إلى نقص المصادر إنما إلى التنوع التأويلي. يصنفه أرسطو كفيلسوف ظاهري, بينما سكستوس يعتبره شكوكيًا في حين يعد فيلسوفًا حسيًا وفقًا لثيوقراسطوس.

يقول ديمقريطس في إحدى شذراته:

“على المرء أن يتعلم بأن وصول الحقيقة مستحيل”.

هذا الطرح يتطابق مع المقترب السفسطائي الأبستومولوجي, كما يؤمن مثل السفسطائيين بالصيرورة المعرفية ومبدأ الاتفاق. يقول في شذرة أخرى “نحن لا نعلم شيئا حقيقيًا عن أي شيء فكل رأي في حالة التغيير”.

ويمكننا أن نجانب أرسطو في تفسيره, فقوله في التغيير لا يعني غياب أي ثابت أو جوهر كما هي حال السفسطائية. إنه لا يقصي الحقيقة بل يعتبرها متوارية في اعماق الشيء/الظاهرة, وظاهر الشيء يقدم بعض المعطيات للعقل بحيث المعرفة من دونها غير ممكنة. فالحواس/التجربة هي بداية المعرفة لكنها ليست كلها, وهذا ما يؤكده كانت ايضًا.

كما يمكن اعتباره فيلسوفًا عقليًا لتأكيده على دور العقل الفاصل في العملية المعرفية, فهو يربط السعادة بالعقل وكذلك المعرفة.

مستويات المعرفة

وفقًا لسكستوس، للمعرفة مستويين عند ديمقريطس:

  • المعرفة غير الشرعية: وهي المعرفة التي نحصل عليها من الحواس, فهي غير شرعية لأن الحواس لا تستطيع أن تتعدى صفات الشيء والتي هي في الأساس خبرات حسية ولا وجود لها حقيقة. على سبيل المثال, نقول عن شيء ما بأنه مالح, فالملوحة نفسها غير موجودة في كيان الشيء.
  • المعرفة الشرعية: وهي المعرفة التي يقدمها العقل؛ لقدرته على تجاوز ظاهر الشيء إلى باطنه وجوهره.

لا ينكر ديمقريطس دور الحواس كما ذهب بعض الفلاسفة، لكنه لا يتمسك بها ايضًا، فهو يبين التواصل الموجود بين العقل والحواس. ذلك التواصل يؤدي إلى المعرفة، فأن الحواس تكون بمثابة بوابة العقل، فهو يستقبل منها المعطيات الرئيسة لتكوين معرفة صادقة وسليمة.

مكانة ديمقريطس في الفلسفة

ثمة الكثير من الآراء المتباينة حول فلسفة ديمقريطس، يعتقد البعض بأنه قد استلم نظريته من لوقيبوس وهناك من يؤيد أصالته. ما يهم هو أنه قاد حركة علمية أصيلة في الفلسفة اليونان القديمة، فهو الذي رفع الغطاء الميتافيزيقي عن العالم. حتى وإن لم نستطيع أن نقول بأن ديمقريطس هو فيلسوف الذرة الأول فيستحيل إقصاء فلسفته فهي فلسفة رائدة في إيقاظ وتنشيط التفكير العلمي.

قدم ديمقريطس نظرية متماسكة حول بنى الطبيعة، وقدم بعض الحكم والملاحظات الأخلاقية حول السعادة. كما أن نظرية الأبستومولوجيا لديه تمتاز بدقة علمية وفلسفية مميزة. فضلًا عن ذلك اسهاماته في علم الاجتماع وأصل المجتمع والدولة واللغة وأثرت في الأبيقورية وتركت بصمة مهمة في فلسفة ماركس، فقد كان موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه.

المصادر:

  1. https://www.universetoday.com/60058/democritus-atom/
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية, الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب محمود, الهيئة المصرية 2010, ص128.
  3. نفس المصدر, ص127.
  4. https://plato.stanford.edu/entries/democritus/
  5. علي سامي النشار, ديمقريطس, الهيئة المصرية, ص106.
  6. نفس المصدر, ص109.
  7. نفس المصدر, ص103.

فلسفة الرياضيات | ما هو فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية؟

فلسفة الرياضيات | ما هو فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية؟

قال «جاليليو جاليلي_Galileo Galilei» في عام 1638م بكتابه «علمان جديدان»: “كل مربع له جذره الخاص وكل جذر له مربعه الخاص، بينما لا يوجد مربع له أكثر من جذر واحد ولا يوجد جذر له أكثر من مربع واحد”.

الأعداد المربعة: 2^1-2^2-2^3-2^4… وجذورها الموجبة: 1-2-3-4… لكن ما هو الأكثر: الجذور أم المربعات؟

يمكننا الإجابة بأن كل مربع هو جذر بعض الأعداد الصحيحة الموجبة. لكن ليس العكس (الرقم 2، هو جذر 4، لأن 4=2^2. لكن 2 ليس مربع عدد صحيح موجب).

تترك لنا ملاحظة جاليليو مفارقة -المفارقة: رأي أو بيان مخالف للرأي العام ولكنه ربما يكون صحيح-. يبدو أن لدينا أسبابًا للاعتقاد بأن الجذور أكثر من المربعات، ولكن أيضًا هناك أسباب للاعتقاد بأن هناك العديد من الجذور مثل المربعات.

إن مفارقة جاليليو هي أكثر المفارقات إثارة للاهتمام، ولكن بعد قرنين من كتاب «علمان جديدان». نشر عالم الرياضيات الألماني «جورج كانتور_Georg Cantor» مقالًا يصف منهجية صارمة لمقارنة أحجام المجموعات اللانهائية وتنتج استنتاجًا لافتًا يشير إلى وجود أحجام مختلفة من اللانهاية.

لكن ماذا فعل كانتور بالتحديد وهل هو الوحيد؟ وما علاقة ذلك بالفسلفة… هذا ما سنعرفه في سلسلة «فلسفة الرياضيات». سنناقش فيها مواضيع عدة حول الرابط الجامع لكل من الفلسفة والرياضيات بشكل سلس. في بداية الأمر علينا أولًا أن نعرف القليل عن تلك العلاقة، ومن ثم ما هو فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية؟ فهيا بنا.

علاقة وطيدة منذ القدم

حينما كان «رينيه ديكارت_René Descartes» بعمر 31 عامًا في عام 1627م. بدأ في كتابة بيان حول الأساليب الصحيحة للتفلسف. كان عنوانه «Regulae ad Directionem Ingenii_قواعد توجيه العقل». قدم فيه ديكارت 36 قاعدة مقسمة بالتساوي إلى ثلاثة أجزاء. وكانت القواعد مهتمة بالجانب الفلسفي من المفترض! لكن سرعان ما تتخذ منعطفًا رياضيًا، فتتدخل الحسابات.

تشبه قراءة القواعد الخاصة بديكارت الجلوس لقراءة مقدمة عن الفلسفة، ومن ثم تجد نفسك بعد ساعة في وسط كتاب مدرسي لمادة الجبر!

لكن في عصر الإغريق القدماء كان مفهوم الرياضيات مقتصر على أنه علم للأحجام -أي يشمل دراسة الأشياء التي يمكن عدها وهي ما نسميها بالمقادير المنفصلة، وكذلك دراسة المقادير المستمرة وهي الأشياء التي يمكن تمثيلها على أنها أطوال-.

لكن يمكننا العثور على إشارات حول العلاقة بين الفلسفة والرياضيات في العصور القديمة. يوجد مقولة لفيثاغورث ألا وهي أن “كل شيء هو رقم”. اكتشاف فيثاغورث بأن الجذر التربيعي لـ”2″ غير عقلاني بَشّر بميل الفلسفة الغربية من خلال الكشف عن حد أساسي في نهج وقياس تجاربنا وفتح الباب أمام مفهوم أكثر ثراءً للقياس والعدد. كذلك كان أفلاطون يُقدر بشكل كبير في الرياضيات، وكذلك أكد سقراط على أن الرياضيات لها تأثير عظيم وهائل فهي تجذب العقل نحو الحقيقة وتخلق روح الفلسفة.

العالم غاليليو وضح الارتباط بين الفلسفة والرياضيات. إذ أنه لفهم الفلسفة لابد من فهم لغة الرياضيات التي بدونها يصعب على المرء فهم كلمة واحد، ينتهي به المطاف بدون فهمها في متاهة مظلمة. الرياضيات لا تمثل علم فحسب، بل أيضًا الأخلاق والميتافيزيقا ومعرفة الله والروح. كانت المناهج الدراسية التي اعتمدها كل من ديكارت وجاليليو ونيوتن ولايبنيز تقدمًا فلسفيًا كبيرًا.

علماء المنطق يوفون بالوعد!

بلغت فلسفة الرياضيات مبلغ النجوم في منتصف القرن العشرين. إذ دُعمت بنجاحات العقود السابقة في المنطق الرياضي. بدأ علماء المنطق في الوفاء بوعد لايبنيز بحساب الفكر، وتطوير أنظمة من البديهيات والقواعد التي هي معبرة بما يكفي لتفسير الغالبية العظمى من الجدل الرياضي. كذلك أثبت العالم النمساوي «كورت جودل_Kurt Gödel» نتائج مهمة تُعرف باسم “نظرية عدم الاكتمال” والتي تضع الحدود لقدرة الطريقة البديهية على تسوية جميع الحقائق الرياضية أي هناك بديهيات لا يمكن إثباتها.

لأن العلوم كسلسلة يُكمل كل منهم الأخر، فقد جلب المنطق تقدمًا فلسفيًا مثل طبيعة الحقيقة. في ثلاثينيات القرن الماضي، قدم عالم المنطق البولندي «ألفريد تارسكي_Alfred Tarski» تحليلًا رياضيًا للحقيقة، وقدم مرة أخرى حسابًا إيجابيًا مع تحديد الحدود المتأصلة في نطاق قابلية تطبيقه في نفس الوقت.

جلبت الثلاثينيات أيضًا تحليلًا رياضيًا واضحًا لمفهوم الحوسبة. قدم هذا تحليلًا مقنعًا لطبيعة أنواع الأساليب الحسابية التي سعى إليها أمثال ديكارت ولايبنيز. منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، هيمن على العلوم المعرفية الذكاء الاصطناعي (AI) وهو نهج يعتمد على التمثيلات الرمزية والخوارزميات المنطقية.

لكن في الثمانينيات أظهر الباحثون أنه يمكن تدريب الشبكات العصبية على التعرف على الأنماط وتصنيف الصور دون خوارزمية واضحة أو ترميز الميزات التي من شأنها تفسير أو تبرير القرار. أدى هذا إلى ظهور مجال التعلم الآلي.

فندق هيلبرت وعلاقته باللانهائية

ما رأيك عزيزي القارئ في رحلة لمناقشة بعض الأدوات المهمة للتفكير في اللانهائية والتي سنستخدمها لتوضيح أن بعض اللانهايات أكبر من غيرها! ولنبدأ الرحلة مع فندق هيلبرت وهو فندق خيالي سُمي على اسم عالم الرياضيات الألماني «ديفيد هيلبرت_David Hilbert».

الآن أطلق لخيالك العنان وهيا بنا… هذا هو فندق هيلبرت وهو على عكس أي فندق أخر، فهو يحتوي على عدد لا نهائي من الغرف. حيث يحتوي على غرفة “0”، وغرقة “1”، وغرفة “2”… وهكذا.

لنفترض أن تلك الغرف ممتلئة تمامًا، إذ كل غرفة بها شخص واحد. لتبسيط الأمر، دعونا نرقم كذلك الأشخاص في خيالنا. الآن لدينا شخص في كل غرفة والفندق ممتلىء ولا توجد طريقة لإحضار شخص إضافي إلى فندقنا.

ميزة الفنادق اللانهائية

لكن الميزة الغريبة للفنادق اللانهائية، أنها يمكنها استيعاب أشخاص إضافيين. لكن كيف ذلك؟ بكل بساطة، أن يطلب مدير الفندق من الجميع أن ينقل غرفة واحدة على اليمين. ذلك يعني أن الشخص”0″ ينتقل للغرفة “1”، والشخص”1″ إلى غرفة “2” وهكذا…هنا لدينا نتيجتين وهما:

  • أولًا، أن الغرفة صفر فارغة لأن ساكنها خرج.
  • ثانيًا، حصل الجميع على غرفة. لأنه بالنسبة للشخص n كانت الغرفة n+1 متاحة لأنها كانت خالية بواسطة شخص n+1 الذي انتقل للغرفة n+2.

الآن لاحظ معي ما يلي، لنفترض أنه بدلاً من محاولة شخص واحد الانضمام إلى الفندق الممتلئ بالفعل، حاول هذه المرة خمسة مليارات شخص الانضمام إليه، سيكون من السهل استيعابهم. إذ كل ما نحتاج إلى فعله هو أن نطلب من كل شخص نقل خمسة مليارات غرفة إلى اليمين. يؤدي ذلك إلى إخلاء خمسة مليارات غرفة حتى نتمكن من استيعاب ضيوفنا الجدد.

هنا يتضح أن من الممكن استيعاب عدد لا نهائي من الضيوف الجدد، وكل ما علينا إخبار كل ضيف أصلي بالانتقال إلى ضعف رقم غرفته الحالية، وسيؤدي ذلك إلى ترك فجوات في كل رقم فردي حيث يمكننا من استيعاب العدد اللامتناهي من الضيوف الجدد.

يحصل كل شخص على رقم فردي!

في النهاية، نعني أنه في ظل التوزيع، أن كل شخص ينظر إلى رقم الغرفة، وإذا كان رقم الغرفة هو “n”، فسيذهب إلى الغرفة”2n”. إذ يبقي “0” لأن “2” ضرب “0” يساوي “0”. لذا فإن الشخص “0” موجود هناك. الشخص “1” يتحرك لأن “1” ضرب “2” هو “2”. لذلك الشخص” 1″ ينتقل إلى الغرفة “2”. الشخص”2″ سينتقل إلى “4” لأن “2+2” يساوي “4”. الشخص “3” سينتقل إلى “6”، والشخص”5″ إلى “10” وهكذا…

بشكل عام، سينتهي الأمر بكل شخص بالحصول على رقم فردي من الأشخاص الجدد. يمكننا فقط أن نقول لضيوفنا الجدد، إذا كنت ضيفًا جديدًا ورقمك هو “n”، فيرجي أن تنتقل إلى الغرفة “2n+1”.


التناقض في فندق هيلبرت!

دعنا الآن عزيزي القارئ ، نفترض أن” ضيوفنا القدامى” هم الضيوف الذين كانوا يقيمون في الفندق قبل أي وصول فرد جديد، وأن “الضيوف الجدد” هم الضيوف القدامى. إذ من ناحية، نريد أن نقول أن هناك ضيوفً جدد أكثر من الضيوف القدامى. من ناحية أخرى، نريد أن نقول إن عدد الضيوف الجدد يساوي عدد الضيوف القدامى.

ستلاحظ أن هذه المشكلة هي نفس المشكلة الخاصة بالمربعات والجذور، إذ أن هناك جذورًا أكثر من المربعات ومن ناحية أخرى هناك عددًا من الجذور يساوي عدد المربعات. كما قال جاليليو: “كل مربع له جذره وكل جذر له مربعه الخاص، بينما لا يوجد مربع له أكثر من جذر واحد ولا يوجد جذر له أكثر من مربع واحد”.


منطقيان ولكن غير متوافقين

يتضح أن هناك مبدأن يبدو كل منهما منطقيًا إلى حد كبير، لكن يتضح أنهما غير متوافقين مع بعضهما البعض في وجود مجموعات لانهائية.

المبدأ الأول: المجموعات الفرعية

افترض أن كل شيء في “A” موجود أيضًا في “B”، لكن ليس العكس. إذن،”A,B” ليسا من نفس الحجم ويحتوى”B” على عناصر أكثر من “A”.

مثال: افترض أن “A” هي مجموعة حيوانات الكنغر و”B” هي مجموعة الثدييات. نظرًا هنا أن كل كنغر من الثدييات ولكن ليس العكس، فإذن مبدأ المجموعات الفرعية يخبرنا أن مجموعة الكنغر ومجموعة الثدييات ليست من نفس الحجم. فهناك ثدييات أكثر من الكنغر.

المبدأ الثاني: التحيز

المجموعة “A” لها نفس حجم المجموعة “B”، إذا كان هناك تحيز بين”A وB”. لكن ما هو التحيز؟ افترض أن لديك خنافس وبعض الصناديق، وأنك قمت بوضع كل خنفساء في صندوق مختلف ولم تترك أي صندوق فارغ (أي يتم تعيين كل عنصر “A” لعنصر مختلف من “B” ولا يتم ترك أي عنصر من “B” بدون تعيين من “A”).

كلا المبدأين صحيح عزيزي القارئ ولكن المبادئ لا يمكن أن تكون صحيحة عندما يتعلق الأمر بالمجموعات اللانهائية، كما وضحنا أن مبدأ التحيز يستلزم أن يكون لمجموعة الضيوف القدامى والجدد نفس الحجم، لكن مبدأ المجموعات الفرعية يستلزم أنهم ليسوا كذلك.

إن الطريقة المُثلى لتطوير نظرية لانهائية هي التخلي عن مبدأ المجموعات الفرعية والحفاظ على مبدأ التحيز. إذ اكتشف عالم الرياضيات الألماني جورج كانتور عام 1873م، أن هناك مجموعات لا نهائية لا يمكن أن تخضع لمبدأ التحيز. قد وصف ديفيد هيلبرت عمل كانتور على اللانهائي بأنه “أفضل منتج للعبقرية الرياضية وأحد الإنجازات العليا للنشاط البشري الفكري”.


المصادر

  1. edx
  2. britannica
  3. aeon.
Exit mobile version