اختبار مقدمة في علم النفس التطوري

هذه المقالة هي الجزء 10 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

املأ الاستمارة من فضلك في نهاية الاختبار، فستساعدنا في استخراج شهادة بإتمامك قراءة مقالات المساق.

هذا المساق متاح للأعضاء المسجلين فقط، سجل عضوية في موقعنا وسيتاح لك إكمال الاختبار للحصول على شهادة.


نقد علم النفس التطوري: أبرز الانتقادات والاعتراضات

هذه المقالة هي الجزء 8 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

فرضت نظرية التطور نفسها على صعيد مختلف علوم الأحياء والطب، فدُرست الأعضاء البشرية بحسب وظيفتها التطورية، وقارن الباحثون بين البنية الجسدية البشرية وبنية باقي الثدييات والحيوانات، وقد أضافت هذه الأبحاث الكثير من التفسيرات لفهم وظائف الأجهزة وأمراضها. إلا أن نظرية التطور بقيت خارج دائرة علم النفس طويلًا، حتى نشأ مجال علم النفس التطوري في أواخر الثمانينيات.

يعتبر علم النفس التطوري علمًا حديثًا نسبيًا، وهو يهدف إلى تفسير السلوكيات والقدرات المعرفية البشرية من منظور تطوّري. لكنّه واجه وما زال يواجه الكثير من الانتقادات والاعتراضات من باحثين في مجالات علمية من جهة، ومن ناشطين سياسيين واجتماعيين ودينيين من جهة أخرى. فما هي أبرز الحجج في نقد علم النفس التطوري ؟

صعوبة اختبار نظريات علم النفس التطوري

بحسب علم النفس التطوري، يشكّل العصر الحجري القسم الأكبر من التاريخ التطوري للبشر، وبالتالي فإن دماغنا الحالي ناتج عن مجموعة من عمليات التطور في ذاك العصر. عاش أسلافنا في قبائل صيد في السافانا لزمن طويل، ويعتبر الباحثون في علم النفس التطوري أن هذه البيئة هي بيئة التكيف التطورية التي تطور دماغنا ليحل مشاكل الحياة فيها. لكن إلى أي مدى يمكن دراسة تفاصيل الحياة البشرية في هذه البيئة وهذا العصر؟

غالبًا ما يعتمد علماء النفس التطوري دلائل علوم الآثار والتاريخ لفهم طبيعة بيئة التكيّف، وهم يطرحون نظرياتهم بناءً على هذه الدلائل. لكن الصعوبة تكمن في فهم الخصائص العقلية الحالية في ضوء البيئة التطورية، خصوصًا أنه من المستحيل محاكاتها. ومن هنا، يصبح طرح النظريات حول الأصول التطورية للوظائف العقلية صعب وغير متين، وتكون هذه النظريات غير قابلة دائمًا للاختبار. بالإضافة إلى ذلك، عندما يقود علماء النفس التطوري دراسات ميدانية وتكون النتائج غير مثبتة لنظرياتهم، يعتبرون أن الدراسات الميدانية غير كافية لدحض النظريات، وذلك بسبب الفروقات الكبيرة بين البيئة التطورية والبيئة الحالية، في حين يستخدمون نتائج الدراسات الميدانية كدليل حين تتوافق مع النظريات.

في المقابل، يرد علماء النفس التطوري على هذه الاعتراضات بأنهم مُعترفين بصعوبة اختبار النظريات، لكنها ليست مهمة مستحيلة. فهم يعتمدون فقط الدلائل المؤكدة من بيئة العصر الحجري ويبنون النظريات على أساسها. كما أنهم يؤكدون أن اختبار نظريات علم النفس التطوري يمر بالمراحل نفسها التي تُجرى لاختبار نظريات علم النفس في مجالاته المختلفة.

النهج الاختزالي في علم النفس التطوري

واجهت العديد من العلوم الاجتماعية والنفسية الاعتراضات بسبب اعتبارها اختزالية، أي أنها تفسّر عمليات شديدة التعقيد بشكل مختزل. رغم أن الاختزال (Reductionism) هو استراتيجية ضرورية لفهم الظواهر المعقّدة في معظم الحقول العلمية، إلا أن الاعتراض على علم النفس التطوري يقوم على اعتباره يدرس التطوّر كسبب وحيد لمعظم السلوكيات البشرية, وهو بالتالي يُهمل تأثير عوامل أخرى كالتنشئة الاجتماعية والتراكمات الثقافية وغيرها.

التمركز حول النوع البشري

رغم أهمية الدراسات النفسية التطورية في النوع البشري، إلا أننا نشترك أسلافًا مع حيوانات أخرى خصوصًا القردة العليا والثدييات. ويعتبر العديد من الباحثين أن بعض سلوكياتنا مشتركة بيننا وبين حيوانات أخرى. لذلك فإن الدراسات النفسية المتمحورة حول حيوانات أخرى قد تكون مفيدة للغاية لفهم الفروقات بين الدماغ البشري وأدمغة غيره من الحيوانات، وبالتالي فهم الأصول التطورية للخصائص العقلية بشكل أعمق.

ما زالت أبحاث علم النفس التطور مُتمحورة بشكل أساسي على البشر، ممّا قد يعيق فهمنا للكثير من الأصول النفسية التطورية ويخفف من إنتاجية هذا المجال.

نمطية العقل الشاملة

تبنّى علماء النفس التطوري نظرية “نمطية العقل الشاملة – Massive modularity of mind” وهي النظرية التي تعتبر أن الدماغ يتألف من وحدات دماغية مختلفة، ولكل منها وظيفة معينة طوّرتها استجابةً لضغوط الانتخاب.

في المقابل، تتعارض هذه النظرية مع نظريات علم النفس التعليمي والعديد من العلوم العصبية التي تعتبر الدماغ كجهاز قابل للاستخدام العام (General purpose learning device) نتيجةً للمرونة العصبية التي يتميز بها. بحسب الباحثة في العلوم المعرفية العصبية “كارميلوف سميث -Karmiloff Smith”، الدراسات الميدانية لا تتفق مع نظرية النمطية الشاملة، وتعتبر أن تخصّص الوحدات الدماغية قد يكون ناتجًا عن نمو الطفل وتحفيزه لقدرات معينة.

رغم الانتقادات العلمية المشروعة لنظريات واستراتيجيات علم النفس التطوري، إلا أن هذا المجال العلمي فتح آفاقًا كبيرة ومهمة لدراسة القدرات المعرفية والاضطرابات النفسية والسلوكيات البشرية من منظور تطوري. ويتفق الباحثون في هذا المجال، حتى المعترضين منهم، أنه ليس من الممكن إهمال الأصول التطورية للظواهر النفسية.

ما هي أبرز أوجه الشبه والاختلاف بين الإنسان والشيمبانزي؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

تُعتبر حيوانات الشيمبانزي الأقرب إلى البشر، فقد تطوّرنا من سلف مُشترك (عاش منذ حوالي 13 مليون عامًا)، ونتشارك حوالي 96% من الحمض النووي. في المقابل، يشكّل الفارق في الحمض النووي حوالي 40 مليون جينًا مختلفًا بين الكائنين، ممّا يفسّر الفروقات الكبيرة بين قدراتهما وأنماط حياتهما. إذًا ما هي أبرز أوجه الشبه والاختلاف بين الإنسان والشيمبانزي؟

الإنسان والشيمبانزي: فيم يتشابهان؟

يكفي النظر إلى جسد الشيمبانزي لنعرف أننا نتشارك بنية جسدية متشابهة، لكن التشابه يتعدّى البنية الجسدية ليطال أيضًا سمات نفسية وعقلية واجتماعية عديدة.

التشريح الجسدي واختبار العالم

لا يتشابه الإنسان والشيمبانزي جسديًا فقط، بل هما يملكان الجهاز العظمي والعضلي نفسه تقريبًا. كذلك نملك العدد نفسه من أصابع اليد والقدم، مع اختلافات طفيفة في شكلها.

يتشابه أيضًا الجهاز العصبي عند الإنسان والشيمبانزي بشكل كبير.

من الصعب تخيًل العالم من منظار حيوانات أخرى، تختلف في حواسها عن حواسنا، إلا أننا والشيمبانزي نختبر العالم المحيط بنا بحواس متقاربة من حيث الدقة والقوة، تحديدًا في حواس البصر والسمع والشم واللمس.

الدماغ والقدرات العقلية

يملك البشر دماغًا ذا حجم أكبر من دماغ الشيمبانزي إلا أن الدماغين متشابهين من حيث البنية. هذا يعني أن حيوانات الشمبانزي قادرة على التفكير المنطقي والتعميم وإنتاج أفكار مجرّدة، كما تتميّز بقدرات عالية من الانتباه والتركيز والذاكرة. وتُعد قردة الشيمبانزي من الحيوانات القليلة القادرة على تمييز نفسها في المرآة.

السمات الاجتماعية

رغم أن الإنسان هو الحيوان الأكثر تقدمًا من حيث القدرات الاجتماعية إلا أننا نتشارك مع حيوانات الشيمبانزي عدّة سمات اجتماعية. تعيش قردة الشيمبانزي في قبائل ومجموعات، وهي تقسّم الأدوار فيما بينها داخل القبيلة. كما أنها تجتمع وتتواصل فيما بينها من أجل الصيد، وهي تتشارك الطعام والأدوات فيما بينها.

كذلك تستخدم قردة الشيمبانزي لغة الجسد للتواصل فيما بينها، من سلام اليدين إلى التقبيل والحضن ومسك اليدين وغيرها. ومن أجل إنماء قدراته الاجتماعية، يقضي صغير الشمبانزي السنين الخمس الأولى من حياته في اللعب ومصادقة أقرانه، كما يبني علاقة قوية من التعلّق بأمه. وقد تبين أن الشيمبانزي ليس فقط قادرًا على التواصل مع غيره، بل هو أيضًا قادر على التعاطف ومشاركة مشاعر الفرح والحزن والخوف مع غيره.

الإنسان والشيمبانزي: فيم يختلفان؟

رغم أوجه الشبه الكبيرة بين الإنسان والشيمبانزي، إلا أن الصنفين طوّرا اختلافات كبيرة خصوصًا على مستوى القدرات العقلية والاجتماعية.

المشي على قدمين

بحسب الباحث “كيفين هانت – Kevin Hunt”، طوّر الإنسان قدرة المشي على القدمين منذ حوالي الستة ملايين ونصف الميلون سنة، أي مع زيادة الجفاف في قارة أفريقيا، بحيث أصبحت الأشجار المثمرة غير عالية، واستطاع الإنسان من خلال الوقوف على قدميه من الوصول إلى الثمر والطعام.

وقد اعتبر داروين أن الوقوف على القدمين من أبرز قفزات التطور عند الإنسان، بحيث أصبحت يداه قادرة على استعمال الأدوات. ممّا طور بدوره القدرة على خلق أدوات أكثر تعقيدًا سمحت له بالتقدم. في المقابل، بقي استخدام الأدوات عند الشيمبانزي بدائيًا.

اللغة

قد تكون اللغة أكثر السمات التطورية أهمية في تاريخ تطور الإنسان، إذ أنها لم تسمح فقط بتواصل أكثر تعقيدًا، بل هي ساهمت في زيادة المعرفة عند الإنسان، وتناقلها وتراكمها من جيلِ إلى آخر.

في اختبار قدرة الشيمبانزي على تعلّم اللغة واستخدامها، أجريت دراسة في السبعينيات على قرد شيمبانزي، تمت تنشئته كطفل بشري. تعلم هذا الشيمبانزي اللغة ولغة الإشارة، واستطاع تعلم 125 كلمة كحدٍّ أقصى، واستطاع التعبير عن بعض رغباته، وقد كانت الجملة الاطول التي نطق بها هي:

“Give orange me give eat orange me eat orange give me eat orange give me you.”
اعطني برتقال أنا اعط أكل برتقال أنا أكل برتقال أعطني أكل برتقال أعطني أنت

إذن فالتنشئة الاجتماعية غير كافية لجعل الشيمبانزي قادرًا على تعلّم اللغة.

القوة الجسدية

بالرغم من التشابه الكبير بين جسدي الإنسان والشيمبانزي إلا أن الشيمبانزي يتمتع بقوة عضلية تصل إلى ضعفي أو حتى ثلاثة أضعاف القوة العضلية البشرية. فالشيمبانزي يستخدم قوته الجسدية لمدة 12 ساعة في اليوم، كما أن البنية للجهاز العضلي عند الشيمبانزي تحفز القوة بدل السرعة.

رغم الاختلاف

قد كان كفيلًا لأقل من 4 % من الحمض النووي أن يصنع فروقات عظيمة بين الإنسان والشيمبانزي من حيث نمط الحياة والقدرات الفكرية والاجتماعية، لكن المقارنة بيننا تبيّن أننا نتشابه في الحاجات الجسدية والعاطفية والاجتماعية بشكل كبير، رغم كل الاختلافات بيننا.

المصادر:

LiveScience
The Jane Goodall Institute of Canada
ScienceDaily

إقرأ أيضًا: علم النفس التطوري: عقل العصر الحجري في جماجمنا الحديثة

الفن والتطور: هل للفن أصول تطوّرية؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

من الموسيقى والغناء والرقص إلى الرسم والأدب والنحت، كان تاريخ البشر حافلًا بالإبداعات الفنية. ولم تقتصر الفنون على كونها رفاهية ثقافية تفيد المتعة، بل شكلت جزءًا من العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية. كان الفن موضع بحث للفلاسفة لفترة طويلة، إلا أن العلوم البيولوجية والنفسية ساهمت منذ الثمانينات في البحث عن الأسباب العلمية التي جعلت البشر يميلون إلى الفن ويبدعونه. بدورهم، درس الباحثون في علم النفس التطوري الأصول التاريخية للفن والعلاقة بين الفن والتطور، والبحث عن إجابة السؤال التالي، هل للفن أصول تطوّرية؟

التجارب الفنية الأولى للبشر

عندما نتحدث عن الفن، فنحن نعني أي نشاط إبداعي مميز يهدف بشكل أساسي إلى المتعة والتعبير عن الذات. وتشمل الفنون كل أنواع الإبداعات البصرية (الرسم والنحت والتصميم وغيرها)، وكل النشاطات الإيقاعية (الرقص والغناء وعزف الموسيقى) والخيال (تأليف الروايات والأدب والكتابة الإبداعية).

من أجل فهم معمّق لأصول هذه الفنون، لابد من الاطلاع على تاريخ نشأتها ابتداءً من العصر الحجري. بحسب علوم الآثار والحفريات، بدأ البشر منذ زمن طويل بنشاطات الحفر والتزيين والرسم والصبغ، وقد وُجدت أعمال تزيين بالخرز والنقش على قشر بيوض النعام في جنوب أفريقيا تعود إلى حوالي 75 ألف عام. كذلك وُجدت أغراض مزينة بالصدف في فلسطين (تعود إلى ما قبل 100 ألف عام) وفي الجزائر (قبل 35 ألف عام) وفي المغرب (قبل 75 ألف عام).

أما عن تاريخ الموسيقى فيُقال أن الموسيقى سبقت حتى القدرة على الكلام، ويعود صنع المزامير (أقدم الآلات الموسيقية) إلى ما يقارب 40 ألف عام.

ما هي العلاقة بين الفن والتطور؟ هل للفن أصول تطوّرية؟

يعمد علم النفس التطوري إلى تفسير السلوكيات البشرية من خلال البحث عن أصولها التطورية، وذلك من خلال ثلاث احتماليات أساسية:

  • السلوك عبارة عن تكيّف (Adaptation) أو مجموعة تكييفات حصلت تحت ضغط الانتقاء الطبيعي، أي أنه ساهم في زيادة النجاح الانجابي وفرص النجاة من المخاطر عند إنسان العصر الحجري، وقد ورثناه من أسلافنا عن طريق الجينات.
  • لا يملك السلوك صفة تكيّفية بنفسه، لكنه نتيجة لصفات تكييفية أخرى (By-product).
  • السلوك هو نتيجة عشوائية لطفرات أو تغيرات جينية (Random effect).

تعدّدت النظريات في علم النفس التطوري واختلفت بين نظريات تعتبر الفن ذا وظيفة تكييفية للبشر، وبين أخرى تعتبره نتيجة غير مباشرة لتطور قدرات عقلية واجتماعية تكيفية أخرى.

الوظائف التكيّفية للفن

عرض الباحثون في مجال علم النفس التطوري والعلوم المعرفية عدد من النظريات التي ترى في الفنون تكيّفات تطورية جرت على أساس الانتقاء الطبيعي.

  • الفن كاستعراض جنسي:

استوحى عالم النفس التطوري «جيوفري ميلر – Geoffrey Miller» من نظرية «الانتقاء الجنسي – Sexual selection» التي تفسّر سلوكيات الحيوانات في اختيار الشريك الجنسي، ليفسر ميل الانسان للفنون وتقديرها واعتبارها مميزة وذات قيمة جمالية.

تمامًا كاستعراضات ذكور الطيور من خلال الغناء والرقص وعرض الريش الملوّن بهدف إغواء الإناث. اعتبر ميلر أن الفن ربما قد لعب دورًا مشابهًا لاستعراضات الطيور عند البشر. فالفنون غالبًا ما تحتاج قدرات عالية من الذكاء والإبداع والصحة الجيدة والطاقة والحركات اليدوية الدقيقة والقدرات الإدراكية (البصرية / السمعية) المتفوقة وغيرها. ومن المحتمل أن استعراض الذكور من البشر لهذه الفنون كان وسيلة لإغراء النساء وجذب انتباههن.

  • تحسين القدرات العقلية والاجتماعية:

تساهم الفنون بتنمية العديد من القدرات العقلية، لذلك اعتبر عدد من العلماء في مجال علم النفس التطوري والعلوم العصبية أنها تملك وظيفة تكيّفية بنفسها، لأنها تزيد من قدرة الدماغ على حل المشاكل وأخذ خيارات أفضل.

فالخيال -مثل الخيال المستخدم في رواية القصص- يبعث على التحليل وتخيل مواقف اجتماعية ومحادثات وسمات الشخصيات المختلفة ورسم استراتيجيات عقلية. في هذه الحالة يمرّن الخيال القدرات العقلية للفرد دون التعرض لخطر حقيقي.

بحسب الباحث في الأدب والتطور «جوزيف كارول – Joseph Caroll»، فإن الأدب والفنون بشكل عام تلبّي الحاجة البشرية الفريدة لإنتاج ترتيب معرفي مشبع عاطفيًا وجماليًا. كما يعتبر أن الفن يساعد العقل البشري على التنظيم.

الفن كنتاج ثانوي للتطور

بينما نظر البعض للفن كوظيفة تكيّفية، اعتبر آخرون الفن نتيجة ثانوية للتطور، لكنه لا يملك صفة تكيّفية (By-product).

فبحسب عالم النفس المعرفي «ستيفن بينكر – Steven Pinker»، الفن هو نتيجة لعدد من التكيّّفات التي اكتسبناها عبر التطور. من جهة، القدرات العقلية سمحت لنا كبشر بإبداع الفنون والاستمتاع بها. من جهة أخرى، نمت عند البشر رغبة في الحصول على مركز اجتماعي، ولعلّ ممارسة الفن كانت وسيلة لتلبية هذه الرغبة.

يشمل بينكر في نظريته غالبية الفنون من الموسيقى إلى الرسم والرقص والنحت وغيرها. لكن يستثني بينكر الخيال (تأليف الروايات والقصص) من هذا. فقد اعتبره في الوقت عينه تكيّفي (لأنه يساعد البشر على تخيل المشاكل وحلها وينمي قدراته في التحليل والتفاعل الاجتماعي). كما اعتبره نتاج ثانوي للسمات التطورية الأخرى.

ما زالت العلاقة بين الفن والتطور غير واضحة الملامح وهي تطرح إشكاليات عدة. فالفن يشمل نشاطات مختلفة ومتعددة، كما يتخذ الفن طابعًا اجتماعيًا كبيرًا، أي أنه ينتقل من جيل إلى آخر من خلال التنشئة الاجتماعية. يشكّل هذا الأمر تحديًا لدراسته بشكل بيولوجي صرف. لكن الأكيد أن الفن على اختلاف أوجهه جمع البشر جميعًا، وتعدى دوره كمتعة ليصير حاجة اجتماعية وثقافية وعاطفية. فهل للحياة طعم دون فن؟ ما رأيك؟

المصادر:

ResearchGate
The arts after Darwin, Ellen Dissanayake
ResearchGate

الحب من منظور علم النفس التطوري

هذه المقالة هي الجزء 6 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

الحب من منظور علم النفس التطوري

كتب فيه الفلاسفة والأدباء ما لا يُحصى من الكتب. روي عنه ما لا يُحصى من الحكايات في الأفلام والروايات. ألهم الموسيقيين والرسامين والشعراء، وغُزلت حوله ملاحم الأساطير والمعجزات. إنه الحب، واحد من أهم المشاعر الإنسانية، وقد يكون أكثرها تعقيدًا. رغم أنه شغل حيزًا كبيرًا من الحياة الثقافية والفكرية والفنية للإنسان، إلا أن العلم بقي خجولًا وعاجزًا لفترة طويلة أمامه باعتبار أن دراسته وتفسيره بشكل موضوعي أمر شبه مستحيل. حتى أن تعريف الحب نفسه يعتبر مهمة شاقة، نظرًا لاختلاف تجاربنا البشرية فيه. لكن تطور علوم الأحياء والجينات وعلم النفس سمح للعلوم بفهم شعور الحب بشكل أعمق. وبدوره، بحث علم النفس التطوري عن جذور هذا الشعور وأسبابه التاريخية، إذن ما هو الحب من منظور علم النفس التطوري ؟ وكيف يفسّره؟

ما هو الحب؟

الحب بطبيعته مفهوم معقّد وواسع ويحمل عددًا من المعاني، فقد يُقصد به الحب الرومانسي الذي يجمع شخصين في ارتباط عاطفي، وقد يعني أيضًا حب الأم والأب لأطفالهم أو حب الأصدقاء أو المحبة بكل ما تعنيه. لكن ما يعنينا في هذا المقال تحديدًا هو الحب الرومانسي.

لم يجتمع الفلاسفة والأدباء حول تعريف موحّد للحب، ولا حول تفسير واضح له. في علم النفس، تعدّدت النظريات حول الحب لكن الأكثر شيوعًا هي نظرية مثلث الحب لعالم النفس الاجتماعي ستيرنبرج. وقد اعتبر أن الحب يتألف من ثلاثة عناصر أساسية هي الشهوة والحميمية والالتزام.

لكن كون الحب شعورًا بشريًا عامًا موجودًا في كل المجتمعات وعند مختلف الشعوب، يمكن اعتباره سمة بشرية ذات أساس فيزيولوجي. فنحن نشعر الحب بأجسادنا، بأعراض شبه مرضية، من دقات القلب السريعة إلى الأرق ورعشة الجسد وغيرها. ورغم أننا نشير في الحب غالبًا إلى القلب، إلا أن الحب ينبع من الدماغ، ويرتبط بشكل مباشر بـ«الناقلات العصبية – Neurotransmitters» كالدوبامين والأوكسيتوسين.

أما من ناحية علم النفس التطوري، فقد حاول الباحثون تفسير الحب كسمة تطورية ساهمت في تحسين النجاح الإنجابي و/أو فرص البقاء على قيد الحياة. وقد أثبتوا فعلًا عددًا من الوظائف التكيّفية للحب، بالإضافة إلى عدد من الدلائل التي تشير إلى جذور الحب التطورية.

الوظائف التكيّفية للحب

يعتمد علم النفس التطوري بشكل أساسي على نظرية الانتقاء الطبيعي. فتنتقل الجينات المساهمة في زيادة النجاح الإنجابي وفرص البقاء على قيد الحياة من جيل إلى الآخر. ويعتبر علم النفس التطوري أن الحب نفسه نتيجة للانتقاء الطبيعي، نظرًا للوظائف التكيفية التالية:

  • رعاية الأطفال: مع تطوّر البشر وزيادة حجم دماغهم، ازدادت حاجة الأطفال للرعاية لوقت طويل. ففي حين تولد الكثير من الحيوانات بأدمغة شبه مكتملة، يولد أطفال البشر بأدمغة غير كاملة. يحتاج أطفال البشر طفولة طويلة تمتد حتى 15 عامًا ليصبح الطفل ناضجًا وواعيًا ومستقلًا. من هنا، أصبحت رعاية الأطفال مهمة شاقة تستنزف الكثير من الوقت والطاقة. ساهم الحب في خلق علاقة التزام بين الوالدة والوالد، مما سهّل مهمة رعاية الأطفال. وزادت قدرتهما على تأمين الموارد المادية والنفسية لهم وبالتالي تزداد فرص بالبقاء على قيد الحياة ونقل الجينات.
  • زيادة احتمالية الحمل والإنجاب: تتميّز إناث حيوانات الشيمبانزي بخصائص جسدية ظاهرة خلال فترة «الشبق –Estrus» ، فيتم التزاوج حصرًا في هذه الفترة التي تمتاز بخصوبة عالية مما يرفع احتمالية الحمل.

أما عند إناث البشر، فتتكرر فترة الإباضة شهريا، وهي قصيرة نسبيًا ولا تُظهر خصائص جسدية واضحة. لذلك من المهم أن تكون العلاقة بين المرأة والرجل طويلة الأمد لزيادة احتمالية الحمل وبالتالي الإنجاب. بالإضافة إلى ذلك، فإن تعدد الأزواج لمرأة واحدة يزيد من احتمالية تسمّم الحمل، وبالتالي فعلاقة الزواج الأحادي تعزّز احتمالية الإنجاب.

  • أهمية رعاية الأب: بيّنت دراسة لبيئة السكان الأصليين في شرقي باراغواي أن الأطفال الذين ينعمون برعاية الأب خلال السنين الخمس الأولى من حياتهم تصبح لديهم فرصة مضاعفة للبقاء على قيد الحياة مقارنة بالأطفال الذين فقدوا آبائهم في أول حياتهم. وهذه الدراسة ما هي إلا دليل جديد على أن الحب الذي يضمن بقاء الوالد إلى جانب أطفاله، يعزز فرصتهم في البقاء على قيد الحياة.

كيف ساهم الحب في تنمية القدرات المعرفية والاجتماعية؟

ساهمت العلاقات الطويلة الأمد في بناء القبائل والمجموعات التي تعزز فرصها بالنجاة. لكن الحياة ضمن القبائل تطلبت بالمقابل قدرات اجتماعية عالية تسمح بالتعاون والتضامن وكشف الغشاشين وغيرها.

كما أن العلاقات العاطفية نفسها تشكل واحدة من أكثر العلاقات تعقيدًا، نسبة للتعلّق النفسي الكبير بين الفردين. وهي بالتالي تنتج مع الوقت مصاعب اجتماعية معقّدة. ونظرًا للدافع الذي شكله الحب، ساهم بشكل مباشر بصقل القدرات الفكرية والاجتماعية التي تميزنا كبشر عن باقي الكائنات، والتي شكلت الركيزة الأساسية لبناء المجتمعات المتقدمة والثقافات بشكلها الحالي.

“الحب قماشة تقدمها الطبيعة ويطرزها الخيال”.

فولتير

الحب ليس فقط شعور عظيم وتجربة إنسانية راقية، لكنه أيضًا الشعور الذي ساهم في المحافظة على حياة أسلافنا وانتشارهم في بقاع الأرض، وفي تنمية قدراتنا العقلية والاجتماعية لنصبح ما أصبحنا عليه اليوم.

المصادر

Researchgate
Science direct
Harvard Health Publishing

كيف ينظر علم النفس التطوّري إلى الأمراض النفسية؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

 العلاقة بين علم النفس التطوري والأمراض النفسية

تُعتبر نظرية التطوّر واحدة من أهم المبادئ التأسيسية في مجال علوم الأحياء والصحة، وقد فتح علم النفس التطوري المجال أمام هذه النظرية لتكون جزءًا أساسيًا من تفسير السلوك الإنساني من جهة، وتفسير الأمراض والاضطرابات التي تصيب الصحة النفسية من جهة أخرى. إذًا كيف ينظر علم النفس التطوّري إلى الأمراض النفسية؟

ماذا قدّم علم النفس التطوري لعلم الأمراض النفسية؟

منذ نشأته، بدا علم النفس التطوري كعلم واعد في مجال دراسة السلوكيات البشرية العامة و”الطبيعية”، إلا أن استخدام نظرياته في محاولة تفسير أو معالجة الأمراض النفسية جاء خجولًا، وذلك لأن كل العاملين والباحثين في مجال الصحة النفسية منكبّين فعليًا على المعالجة الفعالة والسريعة للاضطرابات النفسية، فيما يبحث علم النفس التطوري عن الأسباب التاريخية الكامنة وفي دورالانتقاء الطبيعي في الأمراض النفسية.

منذ السبعينات، ظهرت محاولات عدة أبرزت دور التطور في علم النفس المرضي. وتستمر هذه المساهمات حتى يومنا هذا، لكنها بقيت إلى حدِّ ما متفرقة ومُشتتة، بحيث تناولت المقاربات التطورية كل مرض على حدى.

مقاربة راندولف نيسي

في عام 2015، قدّم الطبيب الأميركي «راندولف نيسي –Randolph Nesse» مقاربة شاملة، يشرح فيها أهمية مساهمات علم النفس التطوري في فهم الأمراض النفسية بطريقة واضحة، خصوصًا أن العدد الأكبر منها ذات إتيولوجيا (مصدر أو أسباب) مجهولة. يهتم نيسي بأهمية فهم أسباب ترك الانتقاء الطبيعي لهشاشة صحتنا النفسية في مواجهة الكثير من الأمراض والاضطرابات.

يساهم علم النفس التطوري في مقاربة فيزيولوجية أكثر عمقًا في مجال الصحة النفسية، وقد تجيب عن أسئلة هامة حول طبيعة عمل العلاقات البشرية والمشاعر الإنسانية. كذلك يضع إطارًا علميًا أوضح للتشخيص النفسي على أساس فيزيولوجي، ويضع إطارًا عمليًا أكثر عمقًا وتعاطفًا مع الأفراد المُصابين باضطرابات نفسية.

يحاول علم النفس التطوري فهم الفروقات الفردية التي تجعل بعض الأفراد أكثر عرضةً من غيرهم للأمراض النفسية، وأهمية التجارب الحياتية المُبكرة في بناء شخصية الفرد وتحفيز اضطرابات نفسية معينة عنده.

 «مفارقة الأمراض النفسية –Paradox of mental disorders»

تُصيب الأمراض النفسية عددًا كبيرًا من البشر. فأكثر من 10% من البشر حول العالم يعانون من مرض نفسي واحد على الأقل. ويموت سنويًا قرابة 800 ألف شخص حول العالم جرّاء الانتحار، أي بنسبة شخص واحد كل اربعين ثانية.

تتعدد وتتشابك الأسباب المؤدية لانتشار الأمراض النفسية. لكن تشير الأبحاث إلى دور مهم للجينات الوراثية في العديد من الأمراض النفسية. يبلغ حوالى الـ90 % في مرض التوحد، والـ85% في اضطراب ثنائي القطب والـ81% في مرض الفُصام.

من هنا، نشأ سؤال حول دور الانتقاء الطبيعي في بقاء الأمراض النفسية على مدى الأجيال المتلاحقة. إن كانت هذه الأمراض النفسية تضر تكيفنا ككائنات حية، فلماذا سمح الانتقاء الطبيعي ببقائها أو حتى بزيادتها؟ تسمّى هذه المفارقة بمفارقة الأمراض النفسية. ويأتي هنا دور علم النفس التطوّري في الإجابة على هذا السؤال.

كيف يفسّر علم النفس التطوري الأمراض النفسية من خلال الانتقاء الطبيعي؟

انتقلت الأمراض النفسية عبر الأجيال، ولم يتمكّن الانتقاء الطبيعي من كبحها، بل يعتقد أنه ساهم في بقائها أحيانًا. ويمكن تفسير ذلك من خلال الأسباب التالية:

  • سوء التكيف: لقد ساهم الانتقاء الطبيعي في صقل قدراتنا بحسب حاجاتنا في بيئة العصر الحجري، والتي تشكل بيئة التكيف التطوري. ولكن هذه التكييفات قد لا تناسب البيئة الحالية التي نعيش ضمنها. وقد تكون الامراض النفسية التي نعاني منها ناتجة عن سوء التكيف بين عقول العصر الحجري التي نحملها في جماجمنا وبين حاجات عالمنا اليوم.
  • الإصابة الفيروسية أو البكتيرية: تنتج بعض الأمراض النفسية عن إصابات فيروسية أو بكتيرية، سواءً في عمر بالغ أو في أشهر التكوّن الأولى في رحم الأم. كما أنها قد تنتج عن الاستجابة المناعية للجسد في وجه جسم غريب (كما في حالات أمراض المناعة الذاتية). في هذه الحالة، لا يقدر الانتقاء الطبيعي على مواجهة الإصابات. فتطوّر الفيروس والبكتيريا أسرع بكثير من تطور الإنسان بسبب كثرة أجيال الفيروس والبكتيريا مقارنة بتوالد البشر.
  • محدودية الانتقاء الطبيعي: رغم الأهمية الهائلة لهذه العملية، إلا أنها تبقى محدودة نظرًا لعشوائيتها والأخطاء المحتملة في نقل المعلومات الجينية. ويمكن بذلك أن تعزز احتمالية انتقال الأمراض النفسية بسبب عدم تأثير تلك الأمراض بشكل مباشر على توارث الصفات الجينية.
  • الدفاعات الجسدية والنفسية: بعض ردات الفعل الجسدية كالألم والسعال وارتفاع الحرارة قد تكون مزعجة، لكنها في الأساس تهدف للدفاع عن صحتنا الجسدية وحمايتنا. وغيابها نفسه يعد عرضًا مرضيًا. كذلك المشاعر السلبية كالقلق مثلًا قد يكون دفاعًا مفيدًا. وقد يعزّز القلق فرص البقاء على قيد الحياة، وبالتالي فمن الطبيعي أن يبقيه الانتقاء الطبيعي رغم كونه شعورًا سلبيًا.
  • مساومة الانتقاء الطبيعي (Trade off): في الانتقاء الطبيعي لا وجود لحلول مثالية. كل ميزة نحصل عليها نخسر في مقابلها ميزة أخرى، فنحن نملك قدرات جسدية وعقلية محدودة. لذلك قد يكون الحفاظ على الأمراض النفسية يشكل نوعًا من الحماية من خسارة ميزات معينة. وقد تكون بعض تلك الميزات ميزات عاطفية مسؤولة عما نحن عليه كمجتمعات بشرية.

مستقبل دراسة علم النفس التطوري للأمراض النفسية

ما زالت الأمراض النفسية تشكل تحدّيًا كبيرًا للبشرية. وتعتبر من الأمراض القليلة التي تفتقد للمؤشرات البيولوجية الكافية لتشخيصها، فيعتمد تشخيصها بشكل أساسي على وصف الأعراض. من هنا جاءت ضرورة استخدام علم النفس التطوري لفهم السياق الطبي التاريخي الذي أتى بهذه الاضطرابات. لا يسعى علم النفس التطوري لإيجاد نوع جديد من العلاج أو التشخيص للأمراض النفسية، بل لأن يدرس الأسباب فيساهم في نظرة أكثر شمولية وعمق لهذا النوع من الأمراض، لعل ذلك يفتح المجال أمام علاجها وتحسين حياة الملايين من البشر.

كيف ساهم التطور في صقل مهاراتنا الاجتماعية؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

الإنسان ليس الكائن الاجتماعي الوحيد، لكنه بالتأكيد الأكثر تعقيدًا بين الكائنات اجتماعيًا. فهو لم يكتفِ بالعيش ضمن مجموعة صغيرة يتشارك معها مقوّمات العيش، بل انخرط في مجموعات أكبر وبنى حضارات ضخمة وطوّر ثقافات مختلفة لكلِّ منها خصائص ولغة تواصل وعادات سلوكية مختلفة. إن هذه المهارات الاجتماعية تتطلب قدرات عقلية، إذًا كيف ساهم التطور في صقل مهاراتنا الاجتماعية؟ وما هي مساهمات علم النفس التطوّري في هذا المجال؟

بمَ يتميّز البشر عن القردة العليا في مجال المهارات الاجتماعية؟

تعيش قرود الشيمبانزي، وهي الكائنات الأقرب  إلينا من الناحية التطورية، في مجموعات صغيرة تسمّى بالعشيرة أو القبيلة. وقد تبيّن أن هذه العشائر تحمل اختلافات ثقافية، فقد بيّنت دراسة أُجريت عام 2013 في ساحل العاج أن ثلاثة قبائل مختلفة من الشيمبانزي تستخدم أساليب وتقنيات مختلفة في تكسير الجوز. والمُلفت أن هذه العشائر الثلاثة تجمعها علاقات الزواج والمصاهرة، وبالتالي فإن الفروقات بينها ليست جينية، بل هي ثقافية أي أنها تنتقل من خلال التنشئة الاجتماعية.

ولكن الأكيد أن هذه الاختلافات الثقافية، بسيطة جدًا أمام التنوع الثقافي عند البشر، من الأديان واللباس وصولًا إلى العادات الاجتماعية واللغات. لذلك عمل الباحثون وعلماء النفس على البحث عن الأسباب التي تجعل الكائن البشري أكثر تطورًا على الصعيد الاجتماعي.

في دراسة أجراها «إدوين فان لوفين – Edwin Van Leeuwen» قارن فيها أطفال تحت عمر الثالثة بحيوانات الشيمبانزي. تبيّن أن الأطفال يبدون اهتمامًا أكبر بالتعلّم من أقرانهم وتقليدهم، وهم أكثر تأثرًا بمحيطهم.

قد ينسب البعض الاختلاف الكبير في القدرات الاجتماعية إلى الفروقات في القدرات المعرفية بين البشر والحيوانات الأخرى. لكن آخرون يعتبرون أن البشر يتميّزون بتفوقهم في المهارات الاجتماعية بشكل خاص ومستقل عن باقي القدرات العقلية. وبالتالي هم يدعمون «فرضية الذكاء الثقافي – Cultural intelligence hypothesis».

فقد قارنت دراسة تشمل 230 مشارك، من أطفال يبلغون عمر السنتين ونصف السنة وقرود الشيمبانزي والأورنغوتان. ووجدت أن النتائج تتشابه في مجالات القدرات المعرفية المتعلقة بالمكان والكميات والعلاقة السببية. أما في المهارات الاجتماعية التواصلية، فقد تفوق البشر بما يفوق الضعف على القردة العليا.

مسألة الاختيار لـ«واسون – Wason»: تفوق المهارات الاجتماعية على قدرة التحليل المنطقي

في الستينيات من القرن الماضي، أجرى عالم النفس المعرفي «بيتر واسون – Peter Wason» اختبارًا لقدرة التحليل والمنطق الاستنتاجي. ويقوم هذا الاختبار على عرض أربعة بطاقات مع ضرورة التزام هذه البطاقات بشرط معين. وعلى الفرد اختيار أقل عدد معين من البطاقات لفتحها للتأكد من التزامها بالشرط.

نعرض هنا مثلًا من الاختبار، في الصورة أدناه ترى أربع بطاقات، كلُّ منها تحمل شكلًا هندسيًا من جهة ولونًا من الجهة الثانية. عليك التأكد من احترام البطاقات للقاعدة التالية: إذا حمَلَت البطاقة اللون الأصفر من جهة، عليها أن تحمل الشكل الدائري من الجهة الأخرى. أي بطاقات تعتقد أن عليك فتحها؟

الحل: عليك أن تفتح أولًا البطاقة التي تحمل اللون الأصفر للتأكد من أنها تحمل الشكل الدائري. بعكس ما يمكن أن تعتقد، أنت لا تحتاج لأن تفتح البطاقة التي تحمل الدائرة، لأن الشرط لا يلزمها بلون معين. لكنك تحتاج لفتح البطاقة التي تحمل المثلث للتأكد من أنها لا تحمل اللون الأصفر.

هل استطعت أن تحل المسألة؟ إذا لم تجد الإجابة الصحيحة لا تقلق، فقد بيّن الاختبار أن فقط 10% من الأشخاص يستطيعون حلّها.

تجارب الثمانينات

في الثمانينات، أعاد علماء النفس الاختبار مع قواعد اجتماعية بدلًا من القواعد المنطقية المجرّدة. وسنعرض هنا مثلًا عنها. تخيّل أنك تعمل في نادٍ ليلي، وعليك أن تتأكد أن من تجاوزوا الواحد والعشرين عامًا هم فقط من يستطيعون تناول الكحول.

كل بطاقة من البطاقات التالية ترمز إلى فرد موجود في النادي الليلي، أي بطاقات عليك فتحها للتأكد من احترام القانون؟

الحل: عليك فتح البطاقة التي تحمل الرقم 16 للتأكد من عدم تناوله الكحول، وعليك فتح البطاقة التي تحمل الكحول للتأكد من أنها تحمل عمرًا يفوق الواحد والعشرين.

هل لاحظت أن المسألة الثانية أسهل من المسألة الأولى؟ كثيرون ممن يخضعون للاختبارين يعتبرون أن حل المسألة الثانية أسهل بكثير من الأولى رغم تشابههما.

كيف يرى علم النفس التطوري نتائج اختبار واسون؟

بحسب العالمين كوسميدس وتوبي، مؤسسي علم النفس التطوري، يثبت اختبار واسون أن البشر يتميزون بقدرة أكبر على حل المسائل الاجتماعية من قدرتهم على حل المسائل المنطقية، وذلك لأن هذه المهارات كانت ضرورية للبقاء على قيد الحياة عند أسلافنا. فقد عاش البشر القدماء في عشائر من الصيادين، ومن أكثر المشاكل التي واجهوها هي تلك المتعلقة بالحياة الجماعية. لذلك كان من الضروري والمفيد تطوير المهارات المتعلقة بالتعاون والمنافسة وكشف النوايا وكشف خرق القوانين الاجتماعية.

إذًا ما يميّزنا كبشر لا يقتصرعلى حجم أدمغتنا الذي يبلغ ثلاثة أضعاف حجم أدمغة القردة العليا ولا على قدراتنا على حل مسائل الرياضيات والعلوم. بل الأهم من ذلك كله هو القدرة على التواصل وبناء المجتمعات المنظمة والتعلم من بعضنا البعض. التواصل هو ما جعلنا قادرين على مراكمة خبرات الأجيال البشرية والتفوق على التطور البيولوجي سرعةً من خلال نقل التجارب اجتماعيًا وتطويرها.

المصادر:

Coursera
Livescience
AAAS
AAAS

علم النفس التطوري: عقل العصر الحجري في جماجمنا الحديثة

هذه المقالة هي الجزء 1 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

حاول العلماء والباحثون والفلاسفة عبر الزمن البحث عن أسباب أفكارنا و مشاعرنا وأصول سلوكياتنا وتصرفاتنا. وتعدّدت المدارس والفروع العلمية والنظريات، إلا أن أحدثها بدأ يتعمّق في دور الجينات في تحديد حاجاتنا ورغباتنا. من هنا، بدأ الحديث عن علم النفس التطوري الذي يدرس تأثير التطور ودوره في تشكيل عقلنا البشري الحالي. فما هو علم النفس التطوري؟ وماذا يخبرنا عن دماغنا؟

الصراع الفلسفي القديم

منذ أيام أفلاطون، وُجد صراع قديم في الفلسفة حول ما إذا أننا نملك معرفة غير  مُكتسبة أم أن معارفنا تأتي حصرًا من اختبارنا للعالم. فقد اعتبر الفيلسوف «جون لوك-John Locke» أن أدمغتنا تولد معنا كصفحة بيضاء، وأن كل ما نعرفه اكتسبناه عن طريق التجربة. في المقابل، عارضه الفيلسوف «جوتفريد ليبنيز – Gottfried Leibnez» الذي اعتبر أن بعضًا من معرفتنا وُلد معنا ويُعتبر جزءًا من بنيتنا. أما اليوم، فبتنا نعلم أن رغم أننا نكتسب الكثير من خلال تجاربنا الحسية والتنشئة الاجتماعية، فإننا نولد مع خصائص معينة اكتسباها عبر الوراثة. من هنا، نشأ علم النفس التطوري الذي يدرس تطور العقل البشري كما نعرفه اليوم من خلال الانتقاء الطبيعي.

الانتقاء الطبيعي وتطور العقل البشري

من أهم عناصر تطوّر الكائنات الحية هي عملية الانتقاء الطبيعي التي تسمح بالبقاء للكائنات التي تملك الخصائص الأكثر تكيفًا مع محيطها، وتنقلها هذه الكائنات إلى الأجيال اللاحقة.

لذلك، تتميّز الكائنات بما يسمى بالـ “تكييفات – Adaptations” وهي عبارة عن خصائص جسدية أو سلوكية موروثة، ومفيدة لناحية التناسل أو البقاء على قيد الحياة. وكما تتأثر الكائنات بالبيئة المحيطة بها، فهي بالمقابل تساهم أيضًا بنفسها في تغيير الظروف البيئية التي تتعرض لها وتتكيف لأجلها.

علم النفس التطوري

ما زال السؤال الفلسفي نفسه يُطرح اليوم في العلوم المعرفية: إلى أي مدى يتأثر الدماغ بالخصائص الموروثة عبر الانتقاء الطبيعي؟ وإلى أي مدى يتأثر بالتنشئة الاجتماعية؟

يمكن تعريف علم نفس التطور أنه فرع من علم النفس يدرس السلوكيات والأفكار والمشاعر من وجهة نظر تطورية. وهو علم حديث، نشأ في نهاية الثمانينيات، وقد أتى كنتيجة للعديد من المجالات العلمية الأخرى من الإيثولوجيا (علم سلوك الحيوان) وعلم النفس المعرفي وعلوم الأحياء التطورية والأنثروبولوجيا (علم الأنسنة) وعلم النفس الاجتماعي.

علم نفس التطور قائم على أربعة اعتبارات أساسية هي التالية

– يعتبر علم النفس التطوري أن الدماغ البشري هو نتيجة لعملية الانتقاء الطبيعي.
– تكيف دماغنا ليتأقلم مع المحيط الذي عاش فيه أسلافنا، وليحل المشاكل التي واجهوها.
– القدرات الذهنية التي طوّرها أسلافنا لمجابهة مشاكلهم والبقاء على قيد الحياة في محيطهم هي قدرات قابلة للوراثة، أي أنها تنتقل جينيًا من جيل إلى آخر.
– أدمغتنا البشرية كما نعرفها الآن هي أدمغة أجدادنا التي راكمت التطور على مدى كل العصور التي سبقتنا.

عقل العصر الحجري

يُعتبر الزوجان، «ليدا كوسميدس-Leda Cosmides» عالمة النفس الأميركية وعالم الأنثروبولوجيا الأميركي «جون توبي-John Tooby»، مؤسّسا علم النفس التطوري. وانتشرت لهما عبارة شهيرة تقول:

«جماجمنا العصرية تأوي عقل العصر الحجري – Our modern skulls house a Stone Age mind».

فبحسب علماء النفس التطوري، إن معظم تاريخ جنسنا البشري قضيناه كمجموعات عشائرية صغيرة في السافانا الأفريقية، في ظروف بيئية حارة جدًا. وذلك منذ حوالى مليون و 800 ألف سنة حتى 10 آلاف سنة قبل الآن، وكانوا معتمدين على الصيد بشكل أساسي. لذلك يعتبر العلماء أن هذه الفترة هي المسؤولة عن القسم الأكبر من تطور الدماغ البشري، وسمّوا تلك البيئة بـ «بيئة التكيف التطوري – Environment of evolutionary adaptation».

لم تبدأ الزراعة حتى قبل خمسة آلاف سنة، أما الثورة الصناعية فهي حدثت منذ مئتي عام فقط. هذه الفترة لا تتعدى الواحد بالمئة من إجمالي التاريخ البشري، لذلك فإن التكييفات التي اكتسبناها ناتجة عن الفترة التي سبقتها.

ولكن إلى أي مدى تتناسب التكييفات التي حافظت على حياتنا في العصر الحجري أساليب حياتنا اليوم؟ لا شك أننا نمتن بالكثير للانتقاء الطبيعي الذي جعل أدمغتنا بأشكالها الحالية. إلا أن بعض التكييفات التي ورثناها أصبحت غير مفيدة، أو حتى مضرة أحيانًا للجنس البشري وتسمّى بالـ«Mal adaptations». نذكر مثلًا أن الرغبة في تناول كميات كبيرة من الملح والسكر كانت حاجة أساسية في ذلك العصر لتأمين الحاجة من الطاقة الأساسية للعيش. أما تناول هذه الكمية في أيامنا هذه، مع انتشار الأطعمة المالحة والحلوة وتوفرها الدائم، أصبح يشكل خطرًا على صحة الإنسان الذي يعيش في البيئة الحضارية.

يعطي عالم النفس الكندي «ستيفن بينكر – Stephen Pinker» مثالًا آخرًا على هذا النوع من التكيفات “Mal adaptations”. وهو الخوف الغريزي والحشوي  من الأفاعي والعناكب. رغم أنها لم تعد قاتلة وخطيرة على حياة الإنسان، ولا تقتل العدد الذي تقتله القيادة دون حزام أمان سنويًا، إلا أن ردة فعلنا الغريزية ناتجة عن الخطر الذي كانت تمثله هذه الكائنات على حياة البشر في العصر الحجري.

إذًا باختصار، أدمغتنا تشبه أدمغة أسلافنا الذين عاشوا في العصر الحجري أكثر بكثير مما نتوقع. هذه نبذة صغيرة عمّا توصّل إليه علم النفس التطوري، لكنه ما زال في خطواته الأولى في البحث عن أصولنا الفكرية والعقلية والسلوكية.

المصادر
Britannica
Coursera : Philosophy and the sciences, The University of Edinburgh

Exit mobile version