وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

وكأنك قرأت: كتاب النفعية لستيوارت ميل

إن الأخلاق هي نظام سلوكياتنا، فكل ما نقوم به يكاد يكون تطبيقًا لما نؤمن به أخلاقيًا ولو بشكل غير واعي. لذلك تعد نظرية الأخلاق نقطة مركزية في كل نسق فلسف. منذ آلاف السنين ويحاول المصلحين والفلاسفة بناء نظرية أخلاقية من شأنها أن تفسر سلوكياتنا وتوجهها أحسن توجيه. نظرية المنفعة أو النفعية حاولت وتحاول بدورها تقديم إجابات لأسئلتنا الكثيرة حول الأخلاق وما زالت تواجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات. هذه النظرية قديمة، دافع عنها بروتوغوراس جزئيًا وتبناها أبيقور واجتهد فيها، كما استمرت الاجتهادات عبر العصور. يعتبر جون ستيوارت ميل من أهم منظري الفلسفة النفعية. ولنتعرف على هذه النظرية نقدم في هذا المقال أهم كتاب في النفعية ألا وهو كتاب المنفعة لجون ستيوارت ميل.

صراع المدارس:

يقسم ميل المدارس الفلسفية الأخلاقية بين الحدسية والاستقرائية وكلاهمها يتفق على أن أخلاقية الفعل الفردي لا تختص بالإدراك المباشر، بل تخص تطبيق القانون على حالة فردية معينة. يأخذ ميل على المدرستين التمسك الحاد بوجود مبادئ عامة للأخلاق. الحدسية تؤكد على وجود مبادئ أخلاقية بديهية بصفة ما قبلية بينما تعول الاستقرائية وجود مبادئ عامة تم كشفها عن طريق التجربة. كلتا المدرستين تقومان على أساس ميتافيزيقي. لذا يرى ميل بأن كل المبادئ العامة بما فيها مبادئ الريضايات فيها نوع من الوهم. بعيدًا عن المبادئ العامة يقول ميل بأن قواعد الفعل الأخلاقي يجب أن تأخذ طابعها ولونها من الغاية التي تكون في خدمة تحقيقها.

ماهية نظرية المنفعة:

منذ بداياتها وتواجه نظرية المنفعة السخرية من منتقديها، إذ يعتقدون أنها تركز على اللذة المحض بأبشع أشكالها الحيوانية. يفند ميل هذا الإعتقاد، فاللذة لا تعني الانغماس في اللذات الجسدية الآنية، بل أن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الخالص، وأن النفعية ترفع من شأن اللذات الذهنية بالمقارنة مع اللذات الجسدية. لذلك فأن نظرية المنفعة لا تتوقف عنذ اللذة بل تجد بأن هدف الإنسان هو السعادة وتخفيف الألم.

السعادة التي تهدف إليها النفعية لا تعني الأنانية، أي سعادة الفرد ولو على حساب سعادة الآخرين. بل هي على عكس ذلك تمامًا. يقول ميل بأن السعادة التي تمثل المقياس النفعي لما هو خير في ما يتعلق بالسلوك ليست متمثلة في السعادة الخاصة للفاعل، بل هي متعلقة بسعادة الجميع. بل تذهب النفعية أبعد من ذلك إذ ترى بأن التضحية بالسعادة الشخصية لأجل سعادة الآخرين تعد أرقى فضيلة.

النفعية كأخلاق عالمية:

يعتقد ميل بأنه يمكن القضاء على أكثر الظواهر العالمية فتكًا مثل المرض والفقر. فمع تطوير العلم والتربية الصحية يمكن تقليض رقعة الأمراض بشكل غير نهائي ومن خلال حكمة المجتمع يمكن القضاء على الفقر نهائي.

النفعية متفائلة بخصوص المستقبل، ذلك لأن طبيعة الإنسان قابلة للتعديل والتصحيح، والتجربة على مدى العصور علمتنا الكثير حول السلوكيات الحسنة. لذا يمكن تحسين طبيعة البشر والبيئة المحيطة عن طريق توجيه سلوكياته نحو غايات فاضلة.ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

السعادة والرضى:

هناك لذات جسدية وأخرى ذهنية، لا شك أن الأخيرة أصعب من الأولى. ذلك لأن صاحب الملكات الأرقى يتطلب الكثير ليصل إلى السعادة المرجوة وعادة ما تكون مرهقة أو صعبة المنال. لذلك قد يلتجأ إلى اللذات الجسدية لتعويض ذلك. لهذا فأن الذي يسعى إلى اللذات الدنيا لديه فرصة أكبر للوصول إلى الرضى المطلوب. فالمشاعر السامية هي في معظم الطبائع، نبتة رقيقة جدًا وسهلة الفناء.

لكن تفضيل لذة على أخرى يعود بالدرجة الأساس إلى التجربةو فالشخص الذي لم يجرب اللذات الفضيلة سيفضل اللذات الآنية، كما أن للبيئة والتربية أثر كبير في تفضيلات الشخص، غير أن الذي يجرب الأثنين سوف يفضل اللذات الذهنية.

النفعية ليست فلسفة زاهدة، فهي لا تنفي حقيقة وجود ميول مختلفة في الفرد، فهو لا يهدف دائما إلى اللذات الراقية، بل له الحق في طلب الأخرى أيضا وذلك جزء من طبيعتنا.

الفعل أم الدافع:

يرى ايمانويل كانط بأن الأخلاقي هو الدافع وليس الفعل، فالكذب مهما كانت نتيجته فهو شر. غير أن ميل ينظر إلى الفعل مباشرة، فحتى السلوكيات غير المرغوبة إذا ما أدت إلى نتيجة خيرة فهي تكون خيرة. فمثلًا إنقاذ شخص من الغرق بدافع الحصول على المال أو الشهرة يعد فعلًا أخلاقيًا، لأن الفرد لا يُحاسب على نيته إنما فعله وأثر الفعل.

النفعية والدين:

إن صدق الأعتقاد القائل بأن الله يرغب فوق كل اعتبار في سعادة مخلوقاته، هو ما كان غرضه في خلقها، فإن النفعية لن تكون نظرية دون إله، بل ستكون نظرية دينية في أعماقها.

عقوبات أخلاق المنفعة:

كل قانون أخلاقي هو قانون يربط بيني وبين الآخرين، أي أن الأخلاق تحدد علاقتنا معهم. ولمحافظة على كل قانون لابد من وجود رادع أو سلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أم بشرية. نظرية المنفعة الأخلاقية تستند إلى سلطتين وهما السلطة الداخلية والسلطة الخارجية:

السلطة الخارجية:

كل القوانين الإلهية والوضعية التي تعاقب وتكافأ الإنسان على سلوكياته. فالبشر يرغبون ويؤمرون بكل ما سيقوم به الآخرون تجاههم وحيث يعتقدون أن سعادتهم ستزداد به.

السلطة الداخية:

لكل فرد حس أخلاقي وهو جوهر الضمير كما يقول ميل، لكن هذا الحس أو الضمير لا يقع خارج الطبيعة الإنسانية إنما حاصل تجربة الإنسان في العالم ومع الآخرين. تجارب الطفولة، الإحساس الديني، حبنا وتعاطفنا وتقديرنا للآخرين ولأنفسنا وكل ما اختبرناه يشكل ما نطلق عليه بالضمير. إذا ما ارتكبنا خطأ ما فهذا الضمير سيدفعنا للشعور بتأنيب الضمير، ذلك لأننا تعلمنا بأن هكذا أخطا تضر بمصلحتنا وسعادتنا وسعادة الآخرين، وترفض النفعية وجود قوة خفية أخرى وراء حسنا الأخلاقي. أما الشخص الذي لم يتلقى تربية حسنة لن يشعر بأي ذنب إذا ما اقترف خطأ ما وهذه الحالة تفرض وجود سلطة خارجية لتهذيب السلوك.

دليل النفعية:

كل نظرية ملزمة لتقديم دليلها على صحة طروحاتها، بالنسبة للنفعية فأنها تفترض أن شيئا ما مرغوب فيه لأن الناس يرغبون فيه بالفعل، فدليلنا على أن شيئا ما يمكن رؤيته هو أن الناس يمكنهم بالفعل رؤيته. وفقًا لميل فأن السعادة هي كل ما يرغب به الإنسان ولا شيء سواها، فالسعادة هي غاية الفعل ومقياس الأخلاق أيضًا.

بالنسبة النظريات التي قالت بأن الفضيلة هي الغاية، تقر النفعية بأن الفضيلة هي جزء من السعادة، وهي تساعدنا للحصول على سعادة أكبر وألم أقل. كما أن بعض الأمور الأخرى قد تتحول إلى غايات بعد أن كانت وسائل، فالمال، الشهرة والسلطة على سبيل المثال، في البداية كانت وسيلة للوصول إلى الغايات تحولت إلى غايات في حد ذاتها.

لفهم هذه الجزئية يجدر بنا تفسيرها وفقًا لنظرية الاشتراطية التقليدية (Classical Conditioning)، فالمال مثلًا لا قيمة له، لكنه عندما يساعدنا في تحقيق غاياتنا، يتحول بذاته إلى غاية لكونه ينتج نفس المشاعر التي انتجتها غاياتنا، ولكن إذا ما فشل المال في تحقيق سعاتدنا سيخسر المال قيمته، وتسمى هذه الحالة بالإنطفاء.

النفعية والعدل:

يذهب ميل إلى شرح مفهوم العدل لغةً، وفقًا فأن لفظة عدل في البداية كانت تعني طريقة القيام بالأشياء ومن ثم صارت تعني الطريقة التي يؤمر بها يعني على السلطات القيام بتطبيقها. يقول ميل على ذلك: “أن الفكرة الأصيلة في تكوين مفهوم العدل كانت تتمثل في مطابقة القانون”.

الشعور بالعدل:

يتسائل ميل إذا كان الشعور بالعدل يعد شعورًا خالصًا كما الشعور بالألوان وغيرها من المشاعر الخالصة أو أنه نعمة من نعم الطبيعة، أي شعور طبيعي. يرى ميل أن العنصرين المكونين الأساسيين للشعور بالعدل هما الرغبة في عقاب الشخص المتسبب للضرر، والاعتقاد بأن هناك شخصًا معينًا أوأشخاصًا معينين ألحق بهم الضرر، الرغبة في الانتقام رد فعل تلقائي نابع من نوعين من المشاعر الطبيعية وهما الدفاع عن النفس والتعاطف. التعاطف مع الآخرين والذكاء المتطور يساعدان الإنسان لتحقيق المصالح المشتركة. يقول ميل عن ذلك بأن الشعور بالعدل هو الرغبة الحيوانية بالإنتقام بسبب الإساءة الملحقة بالنفس أو الملحقة بمن تعاطف معهم.

الإرادة الحرة:

الإنسان هو نتيجة بيئته الخارجية والداخلية، التربية السيئة ستخلق المجرمين على سبيل المثال، وبالنسبة للبيئة الداخلية، فوجود أمراض قد يدفع بالمرء ارتكاب الجرائم، لذا العقاب القاسي لا يكون مبررًا لطالما أن الشخص غير مسؤول عن تكوينه الأخلاقي، فالعدل إذن عليه ألا يكون إجراميًا بدوره بل عليه أن يكون تصحيحيًا.

العدالة الإجتماعية:

رغم أنه تم ربط النفعية بأبشع أشكال الرأسماية إلا أننا نجد عند ميل ميوله الإشتراكية، لا يُقصد هنا الإشتراكية العلمية (الشيوعية) بل الإشتراكية بمعنى عام، هذا الميل هو الذي تسبب له بمشاكل عائلية أيضًا، لطالما كان والده يكره الإشتراكية. فهو يرى بأن العدالة تقتضي أن تدفع الأثرياء وفقًا لدخلهم.

فهو يتحدث عن العدل بوصفه ضمانًا قانونيًا لحقوق الجميع دون أي إستثناء. فالقانون العادل هو الذي يحمي مصلحة الجميع. فنحن على صلة طبيعية بكل الكائنات البشرية، وهذه الصلة تعد بمثابة وثيقة أخلاقية ومخلفتها أعظم الشرور. والقانون يجب أن يتمتع بالحياد والمساواة وعلى المجتمع كله أن يعامل كل الأفراد معاملة حسنة بشكل مطلق.

اقرأ أيضافلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها

فلسفة الجنس والجنسانية


فلسفة الجنس والجنسانية

ما هو مثير في الجنس هو وجوده خارج الأمور العادية طيلة التاريخ، لم يُعتبر قط كنشاط عادي يُمارس خارج الاعتبارات الأخلاقية. حيث كان ولا يزال موضوع الخلافات العظمى والجوهرية.

يمثل الجنس حالة غريبة في تاريخ التحريم والتقديس، كأنه من المحال أن يؤخذ الجنس دون شروط وملاحظات مسبقة. كما يقع الجنس غالبًا على التخوم الفاصلة بين الرؤى والمذاهب والتوجهات الفكرية والدينية والسياسية.

كان الجنس قديمًا كواهب الكينونة تارة، ومفسدها تارة أخرى. حيث نجد شعوبًا قد قامت بتقديس الجنس وبناء المعابد للأعضاء التناسلية، ونجده لدى شعوب أخرى وهو في خانة الشر الكبير.

منذ القِدم وإلى الآن وجدلية التحريم والتقديس مستمرة، ففي عالمنا اليوم هناك معسكرين:

  • المعسكر الذي يجد في الجنس وسيلة للانجاب والتكاثر وممارسته تكون ضمن شروط وتحديدات دينية.
  • المعسكر الآخر يرى في الجنس حق شخصي يحدده الفرد بإرادته الحرة، بل ويمثل ركناً رئيسًا في الحداثة.

    في هذا المقال سنبين بعضاً من جوانب فلسفة الجنس أو الجنسانية، و سنناقش الطروحات المختلفة حول هذا اللغز الكوني.

الجنس في الحضارات القديمة


نقرأ في ملحمة جلجامش كيف تمكنت بغيٌ من ترويض الوحش أنكيدو الذي كان” يجوب السهوب والتلال ويأكل العشب ويرعى الكلأ مع حيوانات البر ويسقى معها عند مورد الماء “(1). ومن ثم بعد أن “تعلم الوحش فن المرأة، فانجذب إليها، ولبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة ايام وسبع ليال“(1).

ثمة الكثير من الإشارات المهمة في هذا النص، إذ أن الجنس قادر على تغير التصميم أو الماهية. فإنكيدو صنعته الآلهة وحشًا؛ حتى حولته بغيٌ إلى إنسان يشعر ويحب ويصادق بواسطة الجنس.

وفي الحضارة الرومانية كان الجنس جانبًا طبيعيًا من جوانب الحياة، ولم يكن هناك تمييز بين الجنس المغاير أو الجنس المثلي -لم يكن هناك حتى اعتراف لغوي بأن المثلية الجنسية تختلف عن الجنس المغاير- والتي يمكن الاستمتاع بها طالما أن طرفيها مشاركين برغبتهما(2). كما كانت هناك مهرجانات خاصة بالجنس مثل مهرجان (Lupercalia).

لوحة جدارية من مدينة بومبي الرومانية، تعود للقرن الأول الميلادي، مكتشفة في غرفة نوم منزل سينتناريو.


في معظم الحضارات القديمة كانت هناك آلهة للخصوبة والولادة والجنس، وهذا ما يدلنا إلى كونية الجنس في الخطاب الإنساني.
ففي الصين القديمة كان هناك (هو تيابانو–Hu Tiabano) إله المثلية الجنسية. والإله (يو لوي–Yue Loe) كان يساعد الأفراد في إيجاد الزوج وكانت في يده خيوط القدر.

الإلهة أفروديت تركب عربة يجرها الإلهان أريوس وهايميروس_ 400_450ق.م

ولدى الأغريق كان هناك أيروس بن أفروديت وهو المسؤول عن الرغبات والجاذبية الجنسية، وفي الهند كانت راتي إلهة الانجذاب الجنسي(3).

تاريخ فلسفة الجنس والجنسانية

تقتضي ضرورة التوضيح أن نفرق بين الجنس كموضوع رئيس في الفلسفة وبين الجنس كعنصر من عناصر الحياة الزوجية.

الحضارة الإغريقية

نجد في فلسفة ما قبل سقراط بعض الإشارات إلى الجنس ضمن قالب العلاقة الزوجية كما هو الحال مع فيثاغورس وأرخميدس وبعض السفسطائيين، لكنهم لم يتطرقوا إليه كمسألة فلسفية بحتة.

بدأ أفلاطون يفلسف الجنس في محاورتي الندوة وفيدروس، ووصفه بأنه شغف قوي لامتلاك ما هو خير وجميل. أما تلميذه أرسطوطاليس لم يحسن الحديث عن أيروس بشكل مستقل، واكتفى بضمه إلى موضوع الفضيلة والعفة في كتابه (الأخلاق النيقوماخية)(4).

العصر الهنلستي

وفي العصر الهيلنستي، كات ثمة هناك مدرستين: الأبيقورية والرواقية.

تصنف الأبيقورية الجنس ضمن الرغبات الطبيعية غير الضرورية، بحيث يجب اشباعها بشكل معتدل دون أن تسيطر تلك الرغبات على الإنسان(5).

أما الرواقية لم تجد في الجنس ما هو ضروري، لذا فضلت الحب النقي والصداقة على النشاط الجنسي.

العصور الوسطى

أما في العصورالمظلمة حسب تعبير فرانشيسكو بتراركا، يصف القديس أوغسطين الجنس كغواية وشر عظيم، ويدعو إلى عدم ممارسة الجنس إلا بهدف الإنجاب لأن الأطفال هم الثمرة الوحيدة المهمة للنشاط الجنسي(6).

ولدى الأكويني الجنس وسيلة طبيعية للتكاثر داخل إطار زواج شرعي، وكل نشاط جنسي آخر يعتبررذيلة وضد إرادة الله(7).

عصر النهضة

حرر الفن الجسد من الاتهامات الدينية وارتفع به إلى فضاءات أيروتيكية وجمالية مختلفة، بحيث صار للجسد العاري نوعاً من الفضيلة. ولم يكن الفن يُمارس بمعزل عن الدين إنما في بيوت الدين نفسها، لذا نجد بدايات تصوير ونحت الأجساد العارية في الكنيسة. حيث تم تصويرالمسيح والأنبياء والقديسين على جدران الكنائس(8).
ومع بداية من القرن السادس عشر صار الجنس يشكل موضوعًا ذو شأن في الخطاب الفلسفي، ناقش ميشيل دي مونتين النشاط الجنسي في كتابه(قوة الخيال).

كما ذكر ديكارت في (عواطف الروح)، وديفد هيوم في رائعته (مقال في الطبيعة البشرية) أن العلاقة الجنسية تتكون من ثلاثة عناصر متنافرة: اللطف والشهوة والاستجابة الجمالية.

عصر التنوير

ناقش روسو الموضوع في سياق حياته في كتاب الاعترافات. بينما وصف كانط الجنس كرغبة شريرة ومدمرة للطبيعة البشرية. بينما حرر ماركيز دي ساد الجنس من كل القيود الممكنة وأباحه بشكل عام.

ودافع جون ستيورات ميل عن تعدد الزوجات والحرية الجنسية وبيوت الدعارة. بيد أن نيتشه لم يبالي بموضوع الجنس كثيرًا بل انتقد الحرية الجنسية لكونها تفسد طبيعة الإنسان.

القرن العشرين

كانت كتابات فرويد الأكثر جرأة في مجال الجنس، واعتبره الحجر الأساس في بناء الشخصية(4). أما برتراند راسل كان أقرب في بداية كتاباته إلى ستيورات ميل، وفي النهاية لم يكن مع الممارسات الجنسية خارج الزواج.

أما سارتر ربط بين حرية الآخر والجنس. ولكن العلاقة الجنسية وفقًا لسارتر تنتهي بالسادية أو المازوشية وبالتالي النشاط الجنسي يكون بمثابة انتهاك حرية الآخر(4).

أما ميشيل فوكو كان الأكثر إثارة للجدل، فقد كان مثلي الجنس من جهة وربط بين الجنس والسلطة من جهة أخرى. حيث ميز بين الجنس والجنسانية وفقًا للسياق الذي تجد فيه السلطة نفسها، ففرق بين التجارب الثلاث في تطور موضوع الجنس.

في اليونان القديمة كانت تجربة الجنس هي تجربة الذات. وفي المسيحية كانت تجربة الجسد، وفي الغرب ظهرت التجربة الجنسانية ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر(9). في حين وصف بول ريكور الجنس بأنه نهر الحياة.

الميتافيزيقيا المعادية للجنس

تدعي الميتافيزيقيا المتشائمة بأن الشخص الذي يرغب جنسيًا بشخص آخر، يجعل من ذاك الشخص موضوعًا للجنس قبل وأثناء النشاط الجنسي.

يقول كانط في (المحاضرات الأخلاقية): “يحول الجنس المحبوب إلى موضوع للشهية وهذا بحد ذاته يعد تدميرًا للطبيعة البشرية“(10). ويُقام هذا الادعاء على أن الوجود الإنساني سامي أو على حد تعبير كانط غاية -لا وسيلة.


حين يتحول الإنسان إلى موضوع يصبح كأي شيء آخر، بحيث يجوز ممارسة الكثير من الخداع للوصول إليه. وبعد قضاء الحاجة الجنسية، يصبح المحبوب شيئا مستهلكًا يمكن الاستغناء عنه.

فيصف برنارد بريم الأمر: “التفاعل الجنسي هو في الأساس تلاعب جسدي وعاطفي ونفسي وحتى عقلي“(10).إن هذا التفاعل يعد انتهاكًا بحق ذات الآخر، وذلك لأن الجوانب الجنسية منه تكون هدفًا لرغبتنا مع إهمال كل جانب آخر.

وهنا يقول كانط: “الجنس ليس ميل إنسان نحو إنسان آخر، بل فقط نحو جنس الآخر، أي الجانب الجنسي وحده يكون موضوع الرغبة”(10). علاوة على ذلك، يفقد الطرفين شخصيتهما، وذلك لأن الطرف الأول يفقد إرادته بخضوعه لرغبته الجنسية وبالتالي يستهدف الطرف الآخر إلى أن يفقد هو بدوره شخصيته إلى حد الاستهلاك.

يذهب كانط بعيدًا في هذا الاتجاه ويقول: “إذا كان الرجل يريد اشباع رغباته، وتريد المرأة اشباع رغبتها؛ يثير كل منهما رغبة الآخر، وهنا تتلاقي ميولهما، لكن الهدف ليس الطبيعة البشرية إنما الجنس، فيذهب كل منمها إلى افساد طبيعة الآخر البشرية، ويجعلان من الإنسانية أداة لإشباع شهواتهما وميولهما، وبالتالي ينزلان بالإنسان إلى مستوى الطبيعة الحيوانية“(10).

الميتافيزقيا الداعمة للجنس


تفترض الميتافيزيقيا المتفائلة أن الجنس هو آلية ترابط، تجمع الناس معًا بشكل طبيعي جنسيًا ولا جنسيًا في نفس الوقت.

ويتضمن النشاط الجنسي إرضاء الذات والآخر، ويولد تبادل المتعة كلاً من الامتنان والمودة، والتي بدورها تعمّق العلاقات الإنسانية وتجعلها أكثر جوهرية عاطفيًا.

كما يرى هذا الاتجاه في الجنس أكثر من مجرد جماع بين زوجين، بل يمثل الجنس قيمة كونية حتى خارج الزواج ودون أن يكون الهدف هو الانجاب، وهنا يدافع راسل عن الجنس بأنه يحافظ على كرامة الإنسان وطبيعته(11).

ويبين بول ريكور بأنه “حين يتعانق كائنان، هما لا يعرفان ماذا يفعلان، لا يعرفان ماذا يريدان، لا يعرفان عما يبحثان، لا يعرفان ماذا يجدان…الجنس بلا معنى لكنه يمتاز بكونه يعيد ربط الكائن البشري بقوة كونية“. ويضيف “أن الحياة وحدها بعينها كونية، كلية لدى الكل، وأن شأن البهجة الجنسية أن تجعلنا نشارك في هذا اللغز“(12).

الحق الطبيعي عند توما الأكويني


يستنتج توما الأكويني بأن ما هو طبيعي في النشاط الجنسي هو دافع الانخراط في الجماع عند الجنسين، ويعتبر الجماع آلية صممها الله لضمان الحفاظ على الأنواع الحيوانية بما فيها البشر.

وبالتالي فإن ممارسة هذا النشاط هو التعبير الطبيعي الأساسي عن الطبيعة الجنسية للإنسان. لأن الله صمم كل عضو من أعضاء الجسم لتأدية وظيفة معينة، فالعضوين الذكري والأنثوي هما من صنع الله ووظيفة الأول هو زرع الحيوانات المنوية في الثاني. وأن ايداع الحيوانات المنوية في أي مكان آخر غير العضو الأنثوي يعد خروجًا عن التصميم الذي أراده الله والحكمة الإلهية(10).

ويعتبر الأكويني الاستمناء والمثلية واستخدام أعضاء غير جنسية في الفعل الجنسي أنشطة مخلّة ومهينة وشاذة. وذلك لأنه كما الهدف من أعضاء الجسم واضح فإن الغاية من الجنس واضحة أيضًا وهي الإنجاب.

الأخلاق العلمانية عند توماس ناجل

يرفض توماس ناجل أخذ الأكويني بما هو مشترك بين الإنسان والحيوان، لذا نجد ناجل يركز على ما هو مختلف بين الإنسان والحيوان. أي ما يميز حياة الإنسان الجنسية عن الحياة الجنسية للحيوان.

ويجادل ناجل بأن الانحراف الجنسي لدى البشر يجب أن يُفهم على أنه ظاهرة نفسية وليست فيسيولوجية تشريحية كما ذهب الأكويني. وذلك لأن الجانب النفسي للإنسان هو الذي يميزنا عن الحيوان، وبالتالي فإن كل حساباتنا حول النشاط الجنسي الطبيعي يجب أن تعترف بأن نفسية الإنسان فريدة ومميزة(10).

إن النفسية الطبيعية للإنسان تكون واضحة حينما يستجيب كل طرف بإثارة جنسية حين يلاحظ الإثارة الجنسية للطرف الآخر (10). أي العلاقة الطبيعية، هي أن يشعر الطرفين بالإثارة الجنسية، وفي هذا اللقاء يكون كل طرف مدركًا بنفسه وفي نفس الوقت يدرك الطرف الآخر على أنهما يمثلان ذاتًا وموضوعًا في تجربتهما الجنسية المشتركة، بمعنى ألا يكون أحدهما إلغاءً ونفيًا للطرف الآخر. بذا، فأن الانحراف الجنسي هو غياب هذا الوعي المشترك بدور الطرفين في العملية.

ولا يعتبر ناجل المثلية أو الجنس الشرجي أو استخدام الأعضاء غير الجنسية والأدوات والجنس غير الهادف للانجاب نشاطًا شاذا، طالما تتحقق رغبة الطرفين الواعية. أما الاستمناء والاغتصاب من الانحرافات الجنسية وذلك لعدم تحقيق رغبة الطرف الآخرأوغيابه.

الخلاصة

في البداية اتخذ الجنس موقعًا خاصًا في الخطاب الأسطوري للحضارات القديمة، ومع بداية التفلسف اليوناني تحول إلى موضوع خاص لمناقشات عقلية.

وفي العصور المظلمة استسلم للنقاش اللاهوتي والحكم الكنسي. ومع عصر النهضة صار الجنس موضوعًا فنيًا في السياقات الجمالية، إلى أن صار مسألة من مسائل الفلسفة من جديد ابتداءً من القرن السادس عشر.

وبات بات له مكانة في الحقل العلمي مع فرويد. ومع بروز الحركات النسوية والمثلية وتطور البحوث السايكولوجية والاجتماعية والانتروبولوجية وحتى الفزيولوجية في موضوع الجنس، صار للجنس مكانة مختلفة في الخطاب الفلسفي وحتى الديني.

لكن الإشكال الجنسي سيظل قائمَا في الخطاب الإنساني نظرًا لما يحمله من قيمة في صنع السرديات الحداثية أو في خلق جدالات أخلاقية.

المصادر

1- طه باقر، ملحمة كلكامش، ص41-42.

2- ancient.eu

3- theoi

4- encyclopedia

5- themontrealreview

6- thebodyissacred

7- theo.kuleuven.b

8- bbc

9- plato.stanford

10- iep.utm.edu

11- russell-j

12- فتحي المسكيني، هجرة إلى الإنسانية، الطبعة الأولى 2016، منشورات الاختلاف،ص58-59

Exit mobile version