العِرق والعنصرية في علم الاجتماع

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

مع دخولنا السنة الواحدة والعشرين من الألفية الثالثة، ما زالت الممارسات العنصرية متواجدة بقوة، ولو بنسب متفاوتة، في جميع المجتمعات. رغم النبذ الظاهر للأيدولوجيات العنصرية التي سادت في القرون الماضية، لكنها باقية. ما زال لون بشرتك يؤثر على فرصك في التعليم والعمل والصحة والاقتصاد والسياسة، حتى في أكثر الدول تقدمًا. وقد أثارت حركة «Black lives matter» قضية العنصرية مؤخرًا في الولايات المتحدة الأميركية والعالم. بيّنت الحركة أن ما يحدث ليس مجرد ممارسات فردية، بل هي جزء من أنظمة اجتماعية كاملة قائمة على التمييز. فكيف يعرّف علم الاجتماع العِرق والعنصرية؟ وكيف يفسّر هذا العلم العنصرية في العالم الحديث؟

تعريف العِرق والإثنية (أو الأصل الإثني)

 بحسب علم الاجتماع، يُعتبر مفهوم «العِرق- Race» بناء اجتماعي يقوم على تصنيف الجنس البشري إلى  فئات مختلفة، على أساس الخصائص الجسدية (كلون البشرة وشكل العيون) والثقافية. ويُعد هذا المفهوم حديثًا نسبيًا، أي أنه بدأ مع اكتشاف القارة الأميركية والسيطرة عليها من قبل الأوروبيين. عرف الأوروبيين عن أنفسهم أنهم “بيض”، وتكرر الأمر مع فترة الاستعمار الأوروبي للدول الأفريقية، أي في القرن السابع عشر. ومن هنا، تم تصنيف البشر إلى العرق الأبيض والأسود والأصفر.

أما «الانتماء الإثني- Ethnicity» فهو، بحسب معظم علماء الاجتماع، مختلف عن العِرق. الانتماء الإثني يشمل الأصول المشتركة والتاريخ والممارسات الثقافية، وبالتالي هو مفهوم أكثر مرونة ويتخذ طابعًا ذاتيًا إجمالًا. وتتقاطع الإثنية مع الجنسية أحيانًا ولكنهما غير متطابقتين. فمن الممكن أن يكون شخصان من جنسية مشتركة (أميركية مثلًا) ومن أصول إثنية مختلفة (عربية أو لاتينية أو أفريقية).

العِرق والإثنية هما مفهومان اجتماعيان، أي أنهما لا ينتجان عن فروقات حقيقية بيولوجية، بل عن فروقات بناها المجتمع ثقافيًا على مر الزمن.

تعريف العنصرية

يعرّف علم الاجتماع العنصرية بعنصرين أساسيين. العنصر الأول هو الأيديولوجية العنصرية التي تؤمن بفوقية عِرقٍ على آخر، بيولوجيًا أو ثقافيًا أو أخلاقيًا. أما العنصر الثاني فهو الممارسات (الفردية والاجتماعية) التي تقوم على التمييز بين الأعراق المختلفة.

نبذة تاريخية عن مفهوم العِرق: الوهم الذي ما زال يسيطر على العالم

انتشرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر نظريات علمية زائفة (Pseudoscience)  كنوع من التبرير للاستعمار الأوروبي للدول الأفريقية، الذي رافقه الكثير من الظلم والقتل والاستغلال، والذي كان حافلًا بالإبادات الجماعية وأنظمة العبودية والإتجار بالبشر.

نذكر مثلًا نظرية عالم النبات السويدي «كارولوس لينايوس- Carolus Linnaeus»، الذي صنف البشر، في سنة 1735، إلى أربعة “أعراق”:

– العِرق الأميركي ذو اللون الأحمر، وقد وصفه بأنه عنيد وانفعالي، ومحكوم بعاداته وتقاليده.
– العِرق الآسيوي “الشاحب مع شعر أسود”، وقد وصفه أنه متكبّر ومحكوم بالآراء.
– العرق الأفريقي “الأسود”، و اعتبره كسولًا ومهملًا وماكرًا، ومحكوم بشهواته.
– العِرق الأوروبي “الأبيض” واعتبره عِرقًا متفائلًا و مُبتكرًا، وهو محكوم بالقوانين.

كذلك انتشرت، بين أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نظرية «الداروينية الاجتماعية – Social Darwinism» التي طبقت مبادئ نظرية الانتقاء الطبيعي التي طرحها داروين لتفسير العلاقة بين الأنواع، على البشر. ويعتبر عرّابو هذه النظرية، أمثال البريطاني «هربرت سبنسر- Herbert Spencer» والأميركي «ويليام غراهام سامنر- William Graham Sumner» أن المجتمعات تتطور من خلال الانتقاء الطبيعي. كما اعتبر العرابون أن “البقاء للعرق الأصلح”. وقد خدمت هذه التفسيرات للنظرية الرأسمالية والتيار السياسي المُحافظ، وسياسات الاستعمار.

وعلى الرغم من عنصرية هذه الأفكار وعدم ثباتها، انتشرت في كل العالم وزرعت بذور التمييز والتفرقة التي ما زلنا نحصدها حتى اليوم.

كيف قارب علم الاجتماع مفاهيم العرق والعنصرية؟

يمكن الحديث عن مرحلتين مختلفتين من المقاربة السوسيولوجية لمفهوم العنصرية.

المرحلة الأولى تمتد بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. وقد كان علم الاجتماع في تلك الفترة يعتبر أن العنصرية تقتصر على الممارسات الفردية. كما تأثر علماء الاجتماع في الفترة نفسها بالداروينية الاجتماعية، فبدل أن يدرسوا العنصرية كمشكلة اجتماعية، استخدموا الافتراضات العنصرية نفسها لتبريرها.

من الاستثناءات القليلة لهذه المرحلة هي نظرية عالم الاجتماع الأميركي «دو بوا – W.E.B. du Bois». كان دو بوا أول أميركي من أصول أفريقية يحصّل درجة الدكتوراه في جامعة هارفرد. كان دو بوا ناشطًا حقوقيًا في محاربة العنصرية. وقد كان من أوائل علماء الاجتماع الذين درسوا الجذور السياسية والاقتصادية للعنصرية. كما طرح “دو بوا” في كتابه الشهير «The Souls of Black Folk» (عام 1903) نظرية الوعي المزدوج، التي تفترض أن الفرد المنتمي إلى جماعة مظلومة يعيش صراعًا داخليًا بين نظرته إلى نفسه ونظرة الجماعة الظالمة إليه، التي غالبًا ما تكون نظرة من الاحتقار والدونية.

أما المرحلة الثانية، فهي تمتد بين منتصف القرن العشرين حتى يومنا هذا. تناول علم الاجتماع فيها موضوع العنصرية بنظرة اجتماعية شاملة.

بدأت هذه المرحلة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي بلغت فيها العنصرية أعلى مستوياتها، ودفعت البشرية ثمن هذه العنصرية غاليًا.

تفسيرات العلماء للعنصرية تجاه المغتربين

حاول بعض العلماء تفسير العنصرية تجاه المغتربين أو اللاجئين بالاختلافات بينهم وبين الآخرين. واعتبروا أن العنصرية تختفي وحدها عندما “ينصهر” هؤلاء مع مجتمعهم الجديد. لكن هذه النظرية لم تكن كافية بالنسبة إلى علماء الاجتماع.

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ترافقت حركة الحقوق المدنية مع ازدياد الهجرة وسقوط الاستعمارات. مما أدى إلى نبذ العنصرية و انخفاض السلوكيات العنصرية العلنية. لكن هذا كله لم يكن كافيًا لإنهاء التمييز العنصري، بل استُبدلت العنصرية العلنية القديمة بأنواع أخرى من التمييز. شملت أنواع التمييز الأخرى توزيع الثروة والعمل والسكن والتعليم والأحكام القضائية وغيرها. ومن هنا، وُلدت نظريات اجتماعية جديدة ومعاصرة لتفسير العنصرية.

نظرية التكوين العرقي

طرح العالمان الأميركيان «أومي و وينانت – Omi and Winant» نظرية التكوين العرقي. تربط نظرية التكوين العرقي الإطار العرقي بالأحداث التاريخية الاقتصادية والسياسية، وهو بناء اجتماعي-ثقافي بحت، يتغير عبر الزمن.

تفسير بونيلا سيلفا

ي عام 1997، اعتبر العالم الأميركي «بونيلا سيلفا – Bonilla-Silva» أن الأنظمة الاجتماعية العنصرية تخلق وتعزز الأيديولوجيات العنصرية. بدورها الأنظمة نفسها. فبحسب ماركس وانجلز “إن أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار الحاكمة في كل عصر”. وبما أن ال”بيض” هم من يتحكمون بالسياسة في أميركا، من الطبيعي أن تنتشر أيديولوجيتهم العنصرية.

تقاطع باتريسيا هيل كولينز

كما تشير عالمة الاجتماع «باتريسيا هيل كولينز – Patricia Hill Collins» إلى تقاطع (Intersectionality) قضية التمييز العنصري مع كل قضايا التمييز الطبقي والجندري، ولا يمكن درس كل منها على حدة.

التحيز الضمني

بالإضافة إلى ذلك، يتم الحديث في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي عمّا يسمى بالتحيز الضمني (Implicit Bias)، وهو الاعتقاد الضمني وغير الواعي بفوقية عرق على آخر. وقد لا يظهر هذا النوع من التحيز في الدراسات الاستقصائية أو الأسئلة، بل هو يظهر بشكل غير مباشر في السلوكيات خلال الحياة اليومية. وهي غالبًا ناتجة عن أحكام مسبقة أو صور نمطية تجاه فئات معينة. حتى أن بعض العلماء اقترح أن هذه النظرة العنصرية الدونية قد تصيب الفرد تجاه عرقه نفسه. وقد أثارت هذه الفكرة جدلًا واسعًا بين اعتبار هذه النظرية لمجرد إلقاء اللوم على الضحية، وبين اعتبار النظرة الذاتية جزء من المشكلة.

ختامًا، إن  العنصرية لا تظلم الجماعات التي تتعرض لها فقط، بل هي تظلم البشرية جمعاء لأنها تحرمها من الاستفادة من طاقات رهيبة يملكها أفراد من أعراق مختلفة، لكنها تبقى رازحة تحت وزن التمييز الثقيل. فمتى ستتخلص البشرية من وهم الأعراق؟

إقرأ أيضًا: تعريف الحركة النسوية وتاريخها

المصادر

American Sociological Association
Britannica
Elsevier

ما هو العنف السياسي؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

يحيط بنا العنف في كل مكان على اختلاف درجاته وأنواعه، في العائلة والمدرسة والعمل والإعلام والمجتمع. حتى أنه يطال وسائل التسلية والترفيه من أفلام وألعاب فيديو وغيرها. يخلق العنف أزمات عميقة للبشرية، لذلك كان دائمًا مادة دسمة للدراسات. كثرت النظريات المفسرة للعنف في مختلف الحقول العلمية: علوم النفس والاجتماع والسياسة وعلوم الجينات وعلم الإنسان والتاريخ وغيرها. ورغم أننا لم نتوصل حقيقةً إلى الإجابة على السؤال حول ما إذا كان العنف فطريًا أم مكتسبًا! فإننا واثقون أن العوامل الإجتماعية تلعب دورًا جوهريًا في زيادة نسبة العنف أو على العكس، الحد منها. ولعلّ أكثر العوامل تأثيرًا هو الحالة السياسية للمجتمع، والعنف السياسي المُمارس من قبل الأنظمة والمجموعات والأفراد. فما هو العنف السياسي؟ وما هي أنواعه؟ وكيف يؤثر على حياتنا كأفراد، وعلى علاقاتنا مع الآخرين والدولة؟

مفهوم العنف السياسي

يمكن تعريف العنف السياسي بكل استخدام للقوة أو السلطة. قد يمارسه أفراد أو مجموعات أو دول، بهدف تحقيق أغراض سياسية. ويشمل كل أنواع الأذى الجسدي والضغط النفسي الهادفة إلى إخضاع الشعوب.

ويشمل هذا العنف الصراع بين دول مختلفة من جهة، والصراع في الدولة نفسها من جهة أخرى.

ومن الأمثلة على العنف السياسي الحروب (الخارجية أو الأهلية) والاستعمار والتسلح والاغتيالات والإبادات الجماعية والعمليات الإرهابية والثورات والتمرد والشغب والإنقلابات. كما يطال أيضًا القمع و/أو الحرمان الذي يمكن أن يمارسه النظام السياسي بحق الشعب، كحرمانه من حقوقه المدنية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وقمعه لحرية التعبير.

دفعت البشرية على مر التاريخ – وما زالت – أثمانًا باهظة للعنف السياسي، من الضحايا والدم والدمار والأضرار الاقتصادية والاجتماعية والصحية الهائلة، لذلك تُعتبر دراسته ضرورة في محاولة الحد منه وجعل العالم أقرب إلى السلام.

أنواع العنف السياسي

تتعدد تصنيفاته، إما بحسب أطرافها أو حجمها أو مدى خرقها للأنظمة الاجتماعية و لحدود الدولة ومدى قانونيتها و/أو مشروعيتها.

يعتبر بعض العلماء الثورات أو الانقلابات مثلًا جزءًا من التحركات التي تحمل عنفًا سياسيًا شرعيًا. فهي غالبًا تنتج عن قمع النظام السياسي لأي حالة تغييرية ديمقراطية أو سلمية. فيكون سلك طريق الوسائل العنيفة حل وحيد متبقي أمام فئة معينة لتحقيق تغيير سياسي أو لإستعادة حقوقها.

إذا تبنّينا التصنيف المبني على أساس الأطراف المنفذة والمتلقية لها، يمكن اختصاره على الشكل التالي:

– العنف الموجه من دول إلى أخرى أو من مجموعة دول إلى مجموعة أخرى: الحروب والحروب الاستعمارية والاحتلالات.
– العنف القائم بين النظام السياسي لدولة و فئة أخرى غير رسمية: مثل حالات التمرد والشغب والثورات والانتفاضات (فيكون في هذه  الحالة عنفًا متبادل بين الطرفين).
– عنف أحادي الجانب، الموجه من السلطة إلى الشعب عامةً أو مجموعات أو أفراد منه: مثل العنف الانتخابي (تهديد و أذى جسدي و/أو نفسي يطال المرشحين أو الناخبين بهدف ضمان النتيجة لصالح طرف معين)، الاغتيال  (التصفية الجسدية) والإعدام السياسي والقمع من خلال الأجهزة الأمنية والتعذيب والحرمان من الحقوق الأساسية كالأمن والغذاء والسكن والتعليم والعمل والضمانات الاجتماعية.
– العنف الممارس من قبل أفراد أو مجموعات (غير رسمية) باتجاه أفراد آخرين: مثل الإرهاب.
– العنف الممارس بين فئات اجتماعية (غير رسمية): مثل الصراعات الإثنية.

تجدر الإشارة إلى أن أنواع العنف السياسي تتداخل في الكثير من الأحيان فيما بينها، حتى أنها تتداخل مع العنف الاقتصادي والاجتماعي بشكل كبير.

كيف يؤثر العنف السياسي على الأفراد والمجتمع ككل والدولة؟

من الصعب أن نحصي فعليًا الآثار الضخمة التي تتركها أعمال العنف السياسي، وهي تختلف كثيرًا بحسب نوع الأعمال العنفية المُمارسة وحجمها والإطار الاجتماعي والتاريخي لها.

على الصعيد الفردي، تثبت الدراسات أن العنف السياسي يؤثر مباشرةً على الصحة النفسية. فتزيد في المجتمعات المعنفة سياسيًا نسبة الأشخاص المصابين بأمراض الاكتئاب والقلق و اضطرابات ما بعد الصدمة. كما يؤثر العنف أيضًا على نوعية الخدمات التي يحصل عليها المواطنون، وغالبًا ما يكون ملازمًا للدول النامية، فلنا أن نتخيّل مدى تأثيره مع رداءة الخدمات وعدم استقرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على نوعية حياة الأفراد.

أما عن علاقة الأفراد بالدولة والحياة السياسية، فتوضح مجموعة من الدراسات ازدياد نسب العزلة عن المشاركة في أي ،أنشطة سياسية، وفقدان الثقة بالدولة، كما تتعطل قدرة الأفراد على المشاركة في عمل جماعي، فيميل الأشخاص في هذه الحالة إلى الفردية.

على مستوى المجتمع، يساهم العنف السياسي بزيادة العنف الاجتماعي بشكل مباشر، بسبب انعدام الشعور بالأمان، فتزداد حالات الفوضى الاجتماعية وحالات التمييز للفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا. وقد تطفو الأيديولوجيات المتطرفة لتعبّر عن أحاسيس الخوف والترهيب الجماعي. كما تتعاظم الآفات والمآسي الاجتماعية، وعلى رأسها التهجير واللجوء. تضعف قدرة المجتمع على التعاضد لحل الأزمات وعلى التنظيم وتتهشم الشبكات الاجتماعية.

على صعيد الدولة، غالبًا يترافق مع ضعف في المؤسسات العامة، وفقدان المواطنين بهذه المؤسسات. وينتشر الفساد ليصبح جزءًا لا يتجزأ من تسيير أعمال الدولة. إذا كان العنف السياسي موجه من قبل النظام نفسه، غالبًا ما تكون نتائجه المدمرة على الأفراد والمجتمع، أدوات إضافية لفرض سلطته وإعدام محاولات التغيير.

يتوّج العنف السياسي كل أنواع العنف الأخرى وصولًا حتى إلى العنف العائلي، فلا بد أن تبدأ مجابهة العنف من خلال الحد من العنف السياسي أولًا. ولا بد من الاعتراف أن السياسة أقرب لنا مما يُخيّل إلينا، فهي تنحت كل تفاصيل حياتنا الفردية والاجتماعية. أما التخلف، الذي ينسبه البعض إلى شعوب معينة، فالأجدر أن ننسبه إلى الأنظمة السياسية التي تسيطر على هذه الشعوب.

إقرأ أيضًا: ما هو الامتثال الاجتماعي؟

المصادر:

NCBI
Science direct
Wiley

ما هو علم الجريمة؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

على الرغم من تطوّر المجتمعات وتمدّنها، وعلى الرغم من القوانين وأنظمة المحاسبة التي تحكم معظم دول العالم، ما زالت الأعمال الإجرامية تشكّل خرقًا خطيرًا لكل الأنظمة والمجتمعات البشرية وتهدد حياة وأمن الكثيرين حول العالم. فما هو تفسير انتشار الجرائم؟ وهل هي ناتجة عن أسباب فردية وشخصية أم أن ظروف المجتمع هي المسؤولة عن حدوثها؟ ما السبيل لتجنّب الجريمة، وفي حال حدثت، ما هو نظام المحاسبة الأكثر عدالة؟ نشأ علم الجريمة كعلم مستقل ليبحث عن إجابات لهذه الأسئلة والتعمّق في أسباب الجريمة ونتائجها.

ما هو علم الجريمة (أو علم الإجرام)؟

يدرس علم الجريمة الأعمال الجرمية الفردية والجماعية والجنوح، ويتناول أسبابها وأساليب تصحيحها وتجنبها. ينطلق علم الجريمة من نظريات متعدّدة في علوم مختلفة من علوم الحياة إلى علم النفس والطب النفسي إلى علوم الاجتماع والاقتصاد وعلوم الإنسان والإحصائيات.

نبذة تاريخية عن نشأة علم الجريمة:

رغم أن علم الجريمة كما نعرفه الآن لم يبدأ قبل القرن الثامن عشر، إلا أنه يجد أصوله في حضارات قديمة. فقد واجه الإنسان السلوكيات “الشريرة” والإجرامية منذ أقدم العصور، لذلك كان لا بد للبشر أن يضعوا قوانين رادعة للأعمال الجرمية ولو كانوا عاجزين في حينها عن فهم أسباب هذه الأعمال.

العصور القديمة

من أشهر وأقدم القوانين التي عرفتها الحضارات هي شريعة حمورابي في الحضارة البابلية (في عام 1754 قبل الميلاد)، واحتوت على 282 قانون تحت قاعدة “العين بالعين والسن بالسن”.

بدورهم تحدث الفلاسفة الإغريق عن السلوكيات الإجرامية، فاعتبر الفيلسوف أفلاطون أن سبب مخالفة القوانين هو غياب التعليم، فيما شدد أرسطو على أهمية العقاب لتجنب الأعمال الإجرامية.

تطورت فيما بعد النظرة الحديثة للأعمال غبر القانونية في الجمهورية الرومانية، التي شهدت في عام 494 قبل الميلاد ثورة من قبل عامة الشعب لفرض قوانين تمنع استغلالهم وتعاقب الأعمال الجرمية. وقد شكلت هذه المقاربة أسس المقاربة الغربية الحديثة، التي تعاقب فيها الدولة مرتكبي الأعمال الجرمية.

العصور الوسطى

أما في العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا تحت تأثير حكم الكنيسة الكاثوليكية، رُبطت الجريمة بالشر الإلهي. وتراوحت الأفكار بين العقاب الشديد للمجرمين، وبين مسامحتهم وتخليصهم من الشر.

كانت بدايات علم الجريمة في القرن الثامن عشر مع الحركة الإنسانية في أوروبا التي شدّدت على قيمة الإنسان وكرامته والتي ألقت الضوء على وحشية أنظمة السجون وعدم فعاليتها لتجنب الجرائم. وكانت في ذاك الوقت تُستخدم أشد الأساليب تعذيبًا من طعن أجساد المُتهمين إلى سحقها. فنشأت المدرسة الكلاسيكية في علم الجريمة لتدعو إلى تطوير نظام المحاسبة وتخفيف أو إلغاء التعذيب للمُتهمين وقد كان من رواد هذه المدرسة الكاتب والفيلسوف الإيطالي «سيزار بيكاريا-Cesare Beccaria» والمحامي البريطاني «سير صامويل روميلي-Sir Samuel Romilly »  والعالم البريطاني «جون هووارد-John Howard». ولعبت المدرسة الكلاسيكية لعلم الجريمة دورًا هامًّا في جعل نظام المحاسبة أكثر عدالة وإنسانية.

القرن التاسع عشر وحديثًا

في بداية القرن التاسع عشر، نشرت فرنسا للمرة الأولى إحصائيات وطنية لمستويات الجريمة. وتم تحليل هذه الأرقام الإحصائية من قِبل عالم الرياضيات والاجتماع البلجيكي «أدولف كيتيليت – Adolph Quetelet» فوجد أن توزع الجرائم ليس عشوائي، بل يخضع إلى أنماط اجتماعية معينة. من هنا، تم الربط للمرة الأولى بين الجريمة والبنية الاجتماعية، أي أن المجتمع يتحمل مسؤولية جرائمه. واعتبر كيتيليت أن المجرمين هم مجرد أدوات لتنفيذ الجرائم التي يتحمّل مسؤوليتها المجتمع ككل.

ثم جاءت المدرسة الوضعية (Positivist school) التي درست خصائص الأفراد المرتكبين للجرائم، وتأسست على يد الطبيب الإيطالي «سيزار لومبروزو- Cesar Lombroso» الذي اكتشف وجود فروقات بيولوجية وجسدية بين مرتكبي الجرائم وغير المرتكبين. تطورت المدرسة الوضعية لتشمل أيضًا دراسة الخصائص النفسية والعقلية والاجتماعية المسؤولة عن ارتكاب الجرائم. وبالتالي اعتبرت أن مرتكبي الجرائم غير مسؤولين فعليًا عنها، بل هم ضحايا ظروفهم وخصائصهم. لذلك هي تفترض أن “العقاب” يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الفردية بدلًا من الجريمة المُرتكبة.

ما هي النظريات المعتمدة حاليًا في علم الجريمة؟

تعددت النظريات في علم الجريمة بين نظريات بيولوجية ونفسية واجتماعية. فتفترض النظريات البيولوجية وجود أسباب جسدية، غالبًا جينية، تحفز العنف والانفعال. أما النظريات النفسية فهي تفسر العمل الجرمي بخلل نفسي، وتربطه أحيانًا بعدد من الأمراض النفسية كاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. في حين أن النظريات الاجتماعية تلقي المسؤولية الأكبرعلى المجتمع الذي يحفز، من خلال الظروف القاسية وانتشار العنف وغياب القانون والإحساس بالأمان، على ارتكاب الجرائم.

لم تكفِ أي من النظريات المطروحة لتفسير الأعمال الجرمية، فهي أعمال بالغة التعقيد. لذلك يعتمد علماء الجريمة حاليًا تشابك النظريات والأسباب البيولوجية والنفسية والاجتماعية لتفسير الجرائم وبالتالي معالجتها وتجنبها.

وغالبًا ما تصنف الجريمة حاليًا إلى نوعين بحسب دافعها: وسيلي وانفعالي.

الدافع الوسيلي يعني أن الجريمة تُرتكب عن سبق إصرار وتصميم، وغالبًا ما تعود بالنفع على المُرتكب (مثلًا: القتل المأجور أو القتل بهدف السرقة …). أما في حالة الدافع الانفعالي، تكون الجريمة بنفسها هي الهدف، وتنتج عادةً عن انفعال شعوري تلقائي (غيرة أو غضب أو خوف…). يكون العقاب أكثر قساوةً في حالة الجريمة الناتجة عن الدافع الوسيلي.

ختامًا، ما زالت المجتمعات بحاجة لإجابات أكثر دقة حول دوافع الجرائم وأسبابها، لتتمكن من تطوير بنية اجتماعية سليمة تخفف من مستويات العنف والجريمة، والأهم تطوير أنظمة محاسبة قائمة على مبدأ إعادة التأهيل، فتعطي الفرد فرصة جديدة لحياة متوازنة، وتعطي المجتمع فرصة للاستفادة من طاقاته.

المصادر:

Britannica.com

Criminology.com

Legal service india

إقرأ أيضًا: التنشئة الاجتماعية: الطبع مقابل التطبع

ما هو الامتثال الاجتماعي؟

هذه المقالة هي الجزء 4 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

كل فرد منا مميز، له معتقداته وآراؤه، ويملك قراراته وخياراته. كلٌّ منا يدّعي أنه يلتزم مبادئه حتى لو تعارضت مع مبادئ وممارسات الأغلبية، لكننا هل نفعل ذلك حقًا؟ أم أن الضغط الاجتماعي يفرض علينا الانصياع؟ ما هو الامتثال الاجتماعي؟ هل الامتثال الاجتماعي والالتزام بمبادئ المجموعة أمر جيد وأخلاقي دائمًا؟ أم يكون الانحراف أكثر أخلاقية من المطابقة أحيانًا؟

«الامتثال الاجتماعي-Conformity» هو فعل التقيد بالتصرفات أو الأفكار أو المبادئ أو الأعراف المُحبذة ضمن مجموعة معينة، وقد يشمل حتى تغيير القناعات الشخصية أو مخالفتها للحفاظ على القبول الاجتماعي من أفراد المجموعة.

الانحراف

في المقابل، يُعرَّف «الانحراف-Deviance» بمخالفة التصرفات أو الأفكار أو الأعراف المُتّبعة في مجموعة معينة. ويشمل الانحراف شتى أنواع ودرجات المخالفات ابتداءً من لبس ثياب غير معتادة في مكان معين وصولًا إلى مخالفة القوانين وارتكاب الجريمة.

يخلق مصطلحا “الامتثال” و”الانحراف” عادةً ردات فعل سلبية، بسبب تعليبهما ضمن مفاهيم نمطية ومتطرفة. فيتم تصوّر الامتثال على أنه الانصياع الكامل وغياب أي خيارات شخصية مستقلة. ومن جهة أخرى، عند سماع مصطلح الانحراف، أول ما نفكر به هو القيام بأعمال مشينة أخلاقيًا أو القيام بالجرائم المؤذية. لكن في الحقيقة، تندرج جميع تصرفاتنا اليومية وأفكارنا في خانات تتراوح بين الامتثال مع المبادئ العامة والانحراف عنها.

لا يحمل الامتثال الاجتماعي دائمًا معنىً سلبيًا، فهو ضروري لتنفيذ عمل جماعي، وينم في كثير من الأحيان عن مشاعر حب الجماعة والانتماء لها والميل للصالح العام. كما أنه أساسي لأي تواصل وتعاون وقد كان ميزة مهمة لقيام المجتمعات والثقافات.

الحاجة إلى الامتثال الاجتماعي

تنمو الحاجة إلى الامتثال عند الإنسان منذ طفولته، فنجد الطفل يميل إلى تقليد حركات أهله وأفراد محيطه وتصرفاتهم، ثم يتبنى أفكارهم. ويكون التقليد مرحلة أساسية لتعلم كل مهاراته الحركية والاجتماعية اليومية. ويكافؤه مجتمعه في كل مرة يلتزم بالقواعد العامة. ويكون هذا الالتزام ضروريًا لنمو صحي ومتوازن.

تلازمنا حاجة الامتثال الاجتماعي مع التقدم بالعمر، فالالتزام بالأعراف المُعتمدة يعطينا شعورًا بالأمان والراحة، كما أنه يعزز صورتنا الاجتماعية الإيجابية وبالتالي ثقتنا بأنفسنا. وغالبًا ما يكافؤنا المجتمع المحيط بالقبول الاجتماعي.

في المقابل، نجد أنفسنا في كثير من الأحيان مضطرين إلى الانصياع لقواعد تخالف قناعاتنا ورغباتنا. وتولد في أنفسنا رغبة جامحة في مخالفتها. ونكون في هذه الحالة منحرفين عن القاعدة العامة. ولكن لمَ لا؟ ألم يكن الانحراف أساس التطور والتغيير في التاريخ البشري؟ ألم تغيّر “روزا باركس” التاريخ في لحظة انحرافها عن القوانين العنصرية التي تفرض عليها التخلي عن مقعدها في الباص لرجل أبيض؟ خلق بيكاسو تيارًا فنيا عصريًا ومميزًا نتيجة تمرده على الرسم التقليدي، أليس كذلك؟

الامتثال الاجتماعي: أسباب نفسية – اجتماعية وبيولوجية

يمكن تصنيف الامتثال الاجتماعي إلى نوعين: «المطاوعة-Compliance» و«القبول-Acceptance».

المطاوعة

المُطاوعة تعني الموافقة العلنية أو الالتزام بالتصرفات أو الأفكار المتوقعة، لكن دون الاقتناع بها. وقد تنتج المطاوعة عن الخوف من الرفض الاجتماعي، أو عن حب الانتماء إلى الجماعة.

القبول

أما القبول فهو تغيير القناعات الشخصية لتتلاءم مع قناعات الجماعة، وهو يحصل تحت الضغط الاجتماعي أو قوة الإقناع.

اختبارات آش

وقد ظهر نوعا الامتثال في اختبارات «آش-Asch» الشهيرة في الخمسينيات من القرن الماضي. وتجري تجربة آش بالشكل التالي: تشارك مجموعة من ثمانية أشخاص في تجربة إدراكية بسيطة، على المشاركين اختيار الشكل المطابق (بين ثلاث خيارات) للشكل الأساسي. في الحقيقة يكون كل المشاركين ممثلين باستثناء شخص واحد، وتدرس التجربة ردة فعل هذا الشخص تجاه سلوك الآخرين، فهل سيمتثل لأجوبتهم غير المنطقية لمجرد أنهم يكوّنون الأكثرية، أم سيجيب إجابة مختلفة عن الآخرين؟

وقد بيّنت هذه التجربة نسب عالية من الامتثال رغم سهولة المهمة، ورغم عدم الضغط بأي شكل من الأشكال على المشاركين لاختيار جواب معين. النسبة الأكبر من المُشاركين الذين أظهروا الامتثال في الأجوبة لم يقتنعوا بإجاباتهم بل أعطوها تماشيًا مع الأغلبية. ولكن نسبة صغيرة منهم أظهروا القبول والاقتناع بالأجوبة غير المنطقية.

وتختلف نسبة الامتثال الاجتماعي تبعًا لمتغيرات مختلفة منها:

– عدد الأشخاص الذين يشكّلون الأغلبية، ترتفع نسبة الامتثال مع ارتفاع العدد.

– عدد الأشخاص “الحقيقيين” في التجربة أي عدد المعارضين للإجابة التي تعطيها الأغلبية، وفي هذه الحالة تنخفض نسبة الامتثال بشكل ملحوظ.

– صعوبة المهمة، تزداد نسبة الامتثال مع صعوبة المهمة.

– المستوى الاجتماعي للأغلبية، إذا كانت الأغلبية من مستوى اجتماعي عالي، ترتفع نسبة الامتثال بها.

نظريات نفسية واجتماعية تفسر الامتثال الاجتماعي

قدّم عالم النفس الاجتماعي «ليون فستنجر-Leon Festinger»، في عام 1954، نظرية المقارنة الاجتماعية (Social Comparison theory)، وهي تطرح أن كل فرد منا يلجأ إلى مقارنة نفسه بالمحيط بهدف تقييم نفسه و”تصحيحها”. ويعتبر فستنجر أن تقييم الذات يشكل حاجة نفسية إنسانية، وبسبب غياب أدوات التقييم الموضوعية، يقيم الشخص نفسه نسبةً لمحيطه. من هنا تظهر الحاجة إلى الامتثال والمطاوعة.

لعبت نظرية المقارنة الاجتماعية دورًا مؤثرًا في الدراسات الاجتماعية، لكنها لم تجب بشكل كافٍ على سبب الامتثال والعلاقة بين تقييم الذات والانصياع للقواعد العامة. لذلك قدم فستنجر نظرية أخرى عام 1957 تسمّى ب”نظرية التنافر المعرفي-Cognitive dissonance theory”. ويعتبر فستنجر أن الفرد يشعر بعدم الارتياح عند تناقض الأفكار التي نملكها مسبقًا مع الأفكار الحديثة، أو عند تناقض معتقداتنا مع أفعالنا. تحت الضغط الاجتماعي والحفاظ على القبول الاجتماعي، نقوم أحيانًأ بتبديل آرائنا ومعتقداتنا لتتماشى مع تصرفاتنا ضمن هذا المجتمع.

حديثًا، أظهرت دراسات التصوير العصبي للدماغ أن القبول الاجتماعي يحفز المناطق الدماغية المسؤولة عن المكافأة. ولذلك نشعر بالراحة والفرح عند قبول رأينا أو تصرفنا من قبل محيطنا. في المقابل، عند مخالفة العادات أو الأعراف أو رأي الأغلبية، يظهر الدماغ نشاطًا في المناطق المسؤولة عن معالجة التهديد والخطر. تفسر إذًا هذه الدراسات تفضيل الإنسان للتماشي مع المحيط وعدم مخالفته.

ختامًا، يشكل الامتثال موضوعًا جدليًا كبيرًا. فعلى قدر أهميته لبناء المجموعات والمجتمعات، فهو أيضًا سلاح بيد الأنظمة (السياسية او الاقتصادية) لتطويع شعوب كاملة دون السماح لها بالاعتراض. وتطرح إشكالية الامتثال إشكالية أكبر: هل نحن، البشر، نملك حرية القرارات والخيارات حقًا؟ هل اعتقداتنا وقيمنا تمثلنا فعلًا، أم أنها مرآة محيطنا الذي نطاوعه وننصاع له؟

المصادر

NCBI
Researchgate
Psychological science
University of Kentucky Uky.edu

التنشئة الاجتماعية: الطبع مقابل التطبّع

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

هل يولد الطفل بشخصية محددة؟ أم أنه يكتسب صفاته من محيطه؟ إلى أي مدى توثر التنشئة الاجتماعية على نمو شخصياتنا؟ لماذا يختلف أخوان توأم في الشخصية إلى هذا الحد، رغم جيناتهم وظروفهم الاجتماعية المشتركة؟  تدور كل هذه الأسئلة في بالنا عند محاولة فك لغز شخصيتنا أو شخصيات الأشخاص المحيطين بنا، وتظهر التنشئة الاجتماعية كعامل فاعل ومؤثر في تحديد هوياتنا؟ فما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي مكوناتها؟ وما الذي يغلب، الطبع أم التطبع؟

ما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي أهميتها؟

في صيف عام 2005، اشتكى عدد من سكان فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية لقسم الشرطة من وجود فتاة غريبة تظهر من النوافذ المكسورة لبيتٍ في حالة رثّة. بالفعل، اقتحمت الشرطة المنزل المذكور وكانت الصدمة! فقد وجدوه مليئًا بالأوساخ والحشرات، أبوابه ونوافذه مخلوعة، ومفروشاته قديمة ومهترئة. ثم وجدوا فتاة صغيرة، تبدو في السابعة من عمرها، ملقاةً على فراش ممزق وجسدها مليء بلسعات الحشرات والقروح. بحسب والدتها، التي كانت موجودة في المنزل أيضًا، تُدعى الفتاة “دانييل”. أُجليت سريعًا من المنزل وأُخذت إلى المستشفى لفحصها. وُجدت دانييل، حتى بعد استعادة عافيتها (والتأكد من عدم إصابتها بمرض مزمن أو جيني)، عاجزة عن أي نوع من التواصل بالكلام أو بالتعابير أوالبكاء وعاجزة عن علك الطعام وبلعه ولا تجيد استخدام أدوات الطعام والمرحاض، وحتى لا تستطيع الوقوف أو المشي ولا تفهم ماهية الكرسي وطريقة استخدامها.

قد تبدو بعض تصرفاتنا اليومية طبيعية وسهلة، فيُخيّل إلينا أنها قد وُلدت معنا. لكن الحقيقة أننا اكتسبناها على مر الوقت من محيطنا من خلال التنشئة الاجتماعية. فالفتاة “دانييل” تعطينا مثالًا حيًا عن أهمية التفاعل العاطفي والاجتماعي لتنمية كل القدرات الفكرية والجسدية والنفسية، حتى أكثرها بساطة.

التنشئة الاجتماعية هي عملية اكتساب الفرد للأفكار المجردة (القيم والمبادئ وتمييزالصح من الخطأ …) والأفعال العمليّة (طريقة التعبير والحديث والسلام والأكل والتعامل مع الآخرين …) من مجتمعه، ليصبح فعالًا في هذا المجتمع. ويتم الاكتساب إجمالًأ من خلال مراقبة الأشخاص الآخرين وتقليدهم، أو من خلال تعليم أو تشريط مقصود من قِبل المحيطين به أفرادًا أو مؤسسات. وتلعب التنشئة الاجتماعية دورًا جمًا في نمو وتحديد شخصية كلٍّ منا، ورسم دوره الاجتماعي فيما بعد. وتُصنف التنشئة الاجتماعية نوعين:

– «التنشئة الاجتماعية الأولية-Primary Socialization» وهي تعلم الفرد من عمر باكر للقيم والمبادئ والأفكار والأفعال الاجتماعية وهي إجمالًا تبدأ في المنزل مع أفراد العائلة.

– «التنشئة الاجتماعية الثانوية-Secondary Socialization» وهي مسار اكتساب التصرفات المحبذة لمجتمع معين أو المناسبة له. وهي تبدأ خارج المنزل في المناسبات الاجتماعية.

هل يغلب الطبع التطبع فعلًا؟

من يحدّد شخصية الإنسان؟ هل يُولد الطفل بشخصية تحدّدها الجينات أم يلعب المجتمع الدور الأكبر في رسم ملامحها؟  لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب نقاش طويل دار بين علماء النفس والطب النفسي والجيني وعلماء الاجتماع والجريمة.

في السنوات الأخيرة، اعتُبر هذا النقاش عقيم وغير مُجدٍ من قِبل العديد من العلماء، فاعتبره طبيب الأعصاب «نيك كرادوك- Nick Craddock» نقاشًا قديمًا وسادجًا وغير مفيد (سنة 2011)، وسمّى طبيب الأعصاب «برايان ترينور-Brian Traynor» ثنائية الطبع والتطبّع بالثنائية المغلوطة (سنة 2010).  ويقول علماء الجينات أن الجينات تتفاعل مع المحيط، بطريقة معقدة جدًا ولا يمكن تفسيرها أو توقعها بالوسائل العلمية الموجودة حتى الآن. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر علم ما فوق الجينات (Epigenetics) أن الظروف الحياتية تؤثرعلى التعبير الجيني.

يتداخل سؤال الطبع والتطبع مع سؤال الإرادة الحرة، وبالتالي يطرح صحة كل الأنظمة الأخلاقية والقوانين وأنظمة المحاسبة. وعلى الرغم من أن الاتفاق أن التفاعل بين “الطبع” و”التطبع” هو الجواب الأكثر دقة، إلا أنه جواب غير كافٍ، بحيث يبحث العلماء عن مزيد من الدلائل حول السمات الفطرية والمشتركة بين كل الشعوب والمجتمعات، والسمات المُكتسبة من التربية والتنشئة الاجتماعية.

من الأمثلة على ذلك، سأل العلماء طويلًا: هل تعبيرات الوجه هي فطرية أم مكتسبة؟ وأثبتت آخر دراسات علم النفس الاجتماعي أنها فطرية، كونها مشتركة عند كل الثقافات. كما يعتمدها الأطفال المكفوفون أيضًا، رغم أنهم لا يتعلمون تعابير الوجه بالتقليد، فهم يمارسونها فطريًا فيبتسمون عند فرحهم ويبكون عند غضبهم.

من الأسئلة الشائعة أيضًا: هل يولد الأطفال عنيفين؟ يختلف العلماء حول الإجابة، فتعتبر بعض الدراسات أن سمات العنف تولد مع الإنسان، ويتعلم الطفل كيفية السيطرة عليها (فيقول البروفيسور في طب الأطفال والطب النفسي للأطفال ريتشارد تريمبلاي أن العنف مشكلة تطال كل أطفال العالم خصوصًا تحت عمر الثالثة)، حتى أن بعضها تعطي للعنف تاريخ تطوري، بحيث احتاج الإنسان البدائي إلى العنف ليعيش، فاكتسبنا جميعًا جينات عنفية. في المقابل بيّنت دراسات أخرى بحثت في تصرفات الأهل والأطفال بين عمر الصفر وعمر ال7 سنوات أن العنف مكتسب ويتأثر خصوصًا بتربية الأهل.

وكلاء التنشئة الاجتماعية:

يُعتبر مسار التنشئة الاجتماعية مسارًا طويلًأ ومعقدًا، تتداخل فيه أدوار العديد من المجموعات والمؤسسات التي تتفاعل مع الشخص وتؤثر على نموه الاجتماعي، وتسمّى ب”وكلاء التنشئة الاجتماعية”. فمن هم هؤلاء الوكلاء؟

العائلة:

تشكل العائلة التجربة الاجتماعية الأولى للطفل، فهو يؤمن كل حاجاته ويكتسب كل قدراته من خلالها. ولا تقتصر على العائلة والأخوة فقط، بل تطال الأقرباء أيضًا. ولكن من المهم الإشارة أن تربية العائلة للطفل لا تحصل بطريقة معزولة عن المجتمع الأوسع، فتتأثر العائلة بالقيم والعادات العامة وثقافة البلد ووضعه التاريخي والسياسي والاقتصادي. كما تتأثر التنشئة بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها العائلة، والأدوار الاجتماعية لأفرادها. فمثلًا في معظم المجتمعات الشرقية التقليدية تكون الأم ربة منزل، وتهتم بالقسم الأكبر من التنشئة. بينما في السويد مثلًا، تُعد ظاهرة الأب الملازم للبيت شائعة، لا بل محبذة من الدولة (بحيث تعطي عطلة أبوّة عند ولادة طفل جديد)، فيكون الوالدان متشاركان في التنشئة الاجتماعية.

 فحتى أبسط علاقات التنشئة بين الطفل وعائلته هي علاقة معقدة ومتداخلة مع عوامل أخرى.

مجموعة الأقران:

وهي تتألف من الأشخاص المشابهين بالعمر والطبقة الاجتماعية والاهتمامات. ويختبر الطفل التفاعل مع أقرانه حتى قبل دخوله إلى المدرسة أحيانًا (أولاد الجيران مثلًا). ويكون هذا الاحتكاك بغاية الأهمية للطفل، بحيث يتعلم المشاركة والالتزام بقواعد بسيطة (قواعد لعبة) ويشكل الخطوة الأولى في طريق إنماء شخصيته الاجتماعية.

المدرسة:

هي المؤسسة الأولى التي ترسم ملامح الحياة الاجتماعية للطفل. فهو للمرة الأولى يتفاعل مع عدد كبير من الأفراد والأقران، بالإضافة إلى أنه يلتزم بقواعد ومبادئ عامة صارمة.

ولا يقتصر تعليم المدرسة على المنهج الأكاديمي التي تعطيه، بل تحمل أيضًا ما يسميه علماء الاجتماع ب”المنهج الخفي”، بحيث يتعلم الولد احترام الآخرين والالتزام بقواعد الصف وتبادل الأدوار ومشاركة الأغراض، ثم كيفية التعبير عن الرأي والقيم المدنية والوطنية والدينية أحيانًا.

وتثبت الدراسات يومًا بعد يوم، خاصة تلك المتعلقة بعلم نفس التعلم، أن أسلوب التعليم يؤثر بشكل هام على الحالة النفسية للأطفال، فأثبتت دراسة للتلاميذ الثانويين، أجرتها جامعة ميامي، الفروقات النفسية بين التلاميذ الذين يتعلمون بأساليب تنافسية مقابل آخرين يتعلمون بأساليب تعاونية.

مكان العمل:

يقضي البالغون معظم أوقاتهم في مكان عملهم. ورغم أنهم قد اكتسبوا الكثير من التنشئة الاجتماعية منذ طفولتهم، إلا أن مسار التنشئة لا يتوقف. فيختبر الشخص البالغ أنواعًا جديدة من الأدوار الاجتماعية والعلاقات الرسمية.

الدين والمؤسسات الدينية:

يختلف تأثير الدين على التنشئة الاجتماعية مع اختلاف الحقبات والبلدان والمناطق في العالم. ولكن في كثير من الأحيان ترتبط العادات والقيم والممارسات التي يتعلمها الفرد من طفولته، بالتعاليم والممارسات الدينية.

وتؤثر المؤسسات الدينية أحيانًا على شكل الحكم السياسي، أو التعليم (من خلال مدارس دينية)، وبالتالي يتعاظم دورها في التأثير على طبيعة التنشئة الاجتماعية.

الدولة:

قد يكون دور الدولة غير ظاهر في التنشئة، لكنها فعليًا من أكثر الوكلاء تأثيرًا على طبيعة التنشئة الاجتماعية. فالدولة هي التي تفرض نظام الحكم، وهي تصوغ القوانين التي ترعى كل المؤسسات الأخرى. فتمنع الدول الأوروبية بحسب القوانين أي نوع من العنف اللفظي أو الجسدي في العائلة. بينما لا تتدخل دول أخرى بالعنف المنزلي وتعتبره شأنًا خاصًا بالعائلة نفسها. وهنا يظهر تأثير الدولة على التنشئة العائلية.

الإعلام:

يلعب الإعلام اليوم دورًا كبيرًا في نشر الأفكار، ويتعاظم دوره تدريجيًا في التأثير على الرأي العام وعلى التنشئة الاجتماعية. ونقصد بالإعلام وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والراديو) من جهة، والإعلام الإجتماعي (Social media) الذي يُعد تأثيره أكبر وأضخم في التأثير على شكل الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.

ختامًا، رحلة اكتشاف ذواتنا شيقة وصعبة وما زالت في بداياتها، فنحن بحاجة للكثير من البحث والتفتيش لمعرفة تأثير كل من جيناتنا ومحيطنا الاجتماعي وكيفية التفاعل بينهما. والأكيد أنه علينا مراجعة أهمية التنشئة الاجتماعية، وبالتالي إصلاح المجتمع من أعلاه إلى أسفله، لخلق شخصيات أكثر صحة وتوازن.

المصادر:

edX courses: Introduction to Sociology
NCBI
Science Daily

ما هي الثقافة؟ وما هي أنواع الثقافة وعناصرها؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

منذ ولادتك في مجتمع معين، تكتسب كل شيئ تقريبًا من محيطك. وتؤثر ثقافة المجتمع الذي وُلدتَ فيه على كل تفصيلٍ من حياتك. من مراسيم الاحتفال بولادتك حتى نوع لباسك حتى أنواع الأطعمة التي تتناولها (وطريقة تناولها) حتى لغتك ومعتقداتك وقيمك حتى مراسيم زواجك وصولًا إلى مراسيم دفنك. قد تعتقد أنك تمارس حياتك بحرية تامة، لكن الحقيقة أنك تتأثر بجتمعك أكثر مما تعتقد. إذًا ما هو تعريف الثقافة؟ وما هي أنواع الثقافة وعناصرها؟ وما هي أبرز العادات الثقافية الغريبة بالنسبة لمجتمعنا؟

تعريف الثقافة

يُعنى علم الاجتماع بدراسة كل العناصر التي تشكل المجتمع وترسم خصائصه. وأبرز هذه العناصر، التي تشكل الهوية الاجتماعية وحتى الفردية، هي الثقافة. وعلى الرغم أن مصطلح “ثقافة” كثير الاستعمال، إلا أننا غالبًا لا نعرف تعريفه الدقيق، ولا نميزه عن الفن أو الحضارة. فما هي الثقافة تحديدًا؟

واختصارًا يمكن تعريف الثقافة بأنها نمط الحياة الذي يعتمده مجموعة من الأشخاص (أو مجتمع معين)، وهي تشمل كلًا من الدين والمعتقدات والقيم واللغة والعادات والتقاليد والطعام واللباس والفنون وغيرها.

تأخد الثقافة حيزًا كبيرًا من علم الاجتماع، حتى أنه تشعّب منه علم الثقافة – Culturology.

أنواع عناصر الثقافة

يصنّف علماء الاجتماع أنواع الثقافة نوعين:

  • الثقافة الرمزية (Non-material or symbolic culture)
  • والثقافة المادية (Material culture)

تشمل الثقافة الرمزية الأفكار المجردة والسلوكيات الرمزية واللغة المعتمدة في مجتمع معين، والتي تُعتبر ذات قيمة بالنسبة لأفراد هذا المجتمع. سنتناول فيما يلي البعض من عناصرها.

القيم والأعراف

القيم هي مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي يعتمدها مجتمع معين، وتتكون نتيجة تاريخ هذا المجتمع وتراكم تغيراته وتقاليده وتتأثر بمعتقداته خاصة الدينية والروحية منها.

أما الأعراف فهي ترجمة القيم بمجموعة من السلوكيات التي تُعد مقبولة أو محبذة ضمن إطار اجتماعي. وقد تكون هذه الأعراف مكتوبة على شكل قوانين، أو غير مكتوبة مثل التقاليد، إلا أنها في الحالتين تصوغ سلوك العدد الأكبر من الناس، وأي مُخالف لها يُنبذ عادًة في محيطه. في المقابل، يوجد عدد من التصرفات التي تعتبر ممنوعة اجتماعيًا أي تابوهات (حتى لو كان القانون يسمح بها).

وتحدد القيم والأعراف نظرة الأشخاص لمفهومي الصح والخطأ، فالتصرف المقبول بالنسبة لبيئة معينة قد يكون عارًا في بيئة أخرى. نذكر مثالًا على ذلك المُساكنة، التي تعتبر مرحلة طبيعية من العلاقة العاطفية في معظم المجتمعات الغربية، وتُعتبر غير مرغوب بها في مجتمعات أخرى.

من هنا، نشأت نظرية «النسبية الثقافية-Cultural relativism»، التي تعني أن الحكم على أي تصرف فردي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المحيط الثقافي والقيم والأعراف للمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد نفسه.

العادات والتقاليد

ترتبط العادات والتقاليد بشكل كبير بالقيم والأعراف، وتتناقل إجمالًا بين الأجيال. وتتغير العادات من جيل إلى جيل، وهي أكثر تأثيرًا في المجتمعات المحافظة، أما المجتمعات الأكثر انفتاحًا تكون أقل تأثرًا بالعادات. العادات المرتبطة بمراسم الزواج تبين مدى الاختلاف بين الثقافات، ونذكر هنا بعض الأمثلة عنها:

في المكسيك والفيليبين، يعقد الزوجان حولهما عقدة من القماش أو الورود، للتعبير عن الوحدة والحب والالتزام.

في الصين، على الزوج أن يصيب الزوجة بثلاث أسهم، لضمان استمرارية الحب لوقت طويل. أما الزوجة فهي تحضر جلسات بكاء لمدة شهر قبل العرس، وذلك لجلب السعادة وتجنب البكاء بعد الزواج.

في كوريا الجنوبية يقوم رفاق العريس بضربه على رجليه بعيدان من الخشب، للتأكد أنه قادر على تحمل المسؤوليات والمتاعب.

الرموز

لكل مجتمع رموزه، يستخدمها أفراده للتواصل فيما بينهم والتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم. منها الرموز غير اللفظية من حركات جسدية ويدوية وتعابير وجه وطرق سلام. وهي تختلف بين المجتمعات، من الأمثلة على ذلك رفع الإبهام في الولايات المتحدة الأميركية يعني الإعجاب أو التعبير عن الرضى، بينما في أستراليا تعني الحركة نفسها الإساءة.

اللغة

من أهم سبل التواصل بين أفراد المجتمع الواحد، ومن أهم معوقات التواصل بين بلدان مختلفة، هي اللغة.  بحسب فرضية سابير وورف (Sapir-Whorf hypothesis)، وهي فرضية عالمين الإناسة إدوارد سابير وبينجامين لي وورف، اللغة ليست فقط وسيلة للتواصل، بل هي أيضًا تساهم في بناء طريقة تفكيرنا. وبالعكس تساهم الأفكار الاجتماعية بتغيير وجه اللغات تدريجيًأ وفي تغيير المسميات.

(للتعرف أكثر على سمات اللغة، إضغط هنا.)

الثقافة المادية: وهي تعني حرفيًا كل العناصر الجسدية والمادية المُشكّلة لثقافة مجتمع معين.

الطعام

الطعام واحد من حاجات الإنسان الحيوية، لكنه منذ زمن بعيد أخذ حيزًا كبيرًا من الحياة الاجتماعية والثقافية للشعوب. فأصبحت مائدة الطعام تارةً رمزًا للألفة بين أبناء العائلة، تارةً رمزًا للضيافة والكرم بين الغرباء.

تختلف الأطعمة بين شعوب البلدان المختلفة، فبمجرد الحديث عن البيتزا أول ما يتبادر إلى ذهنك إيطاليا، وبمجرد الحديث عن السوشي ستفكر باليابان.

لكن نوع الطعام ليس وحده ما يختلف بين الدول، بل أيضًا طريقة الأكل وأدواته. ففي حين تستخدم شعوب الشوكة والملعقة للأكل، تستخدم أخرى العيدان (Chopsticks)، وأخرى تأكل باليدين المجردتين.

الملبس

كما الطعام كذلك الملبس، لم يعد محصورًا بدوره الأساسي في حماية الجسد من البرد، بل حمل منذ زمن بعيد معاني مختلفة: الجندر، الطبقة الاجتماعية، الثقافة أو البلد، العقيدة الدينية، وغيرها.

وتُعد الملابس من أكثر العلامات الثقافية ظهورًا، ففي حين لبس التنورة من قبل الرجال يعد غريبًا في أغلب المجتمعات، فالرجل الاسكتلندي يلبس التنورة في لباسه التقليدي. ومن منا لا يعرف اللباس الهندي التقليدي، والثوب الخليجي (مع الغترة والعقال)، والالبسة الأفريقية الملونة. كذلك بعض المجتمعات الأفريقية لا تجد في العُري أي عيب، في حين يُعتبر العُري جريمة يحاسب عليها القانون في دول أخرى.

اختلاف الثقافات والعرقية

العرقية هي اعتقاد الفرد أن ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وسلوكياته وأيديولوجياته هي أعلى شأنًا من ثقافات المجتمعات الأخرى، والميل إلى الحكم على ممارسات شعوب أخرى بفوقية. من أكثر الفترات عرقية في التاريخ هي فترة الاستعمار الأوروبي على أفريقيا. فقد قابل الأوروبيون شعوبًا مختلفة اللون والثقافة والعقيدة، فاعتبروهم شعوبًا متخلفة وغير حضارية. وقد استخدم الأوروبيون هذه الحجج لتبرير استعمارهم وجرائهم، معتبرين أن ثقافة الشعوب الأفريقية “خاطئة” وبالتالي عليهم تصحيحها.

ختامًا، تعيش البشرية اليوم أكثر مراحل العولمة والتبادل الثقافي والانفتاح الحضاري بين المجتمعات، مما عزز التعددية الثقافية. وعلى الرغم من بعض المخاطر التي تحملها العولمة على الهويات الثقافية، إلا أنها تسمح بالتعرف على الكنز الثقافي الغني لمختلف الشعوب، على أمل أن تخفف العرقية التي ما زالت سائدة، وتعزز احترامنا لثقافة بعضنا البعض.

انفوجرافيك مبسط عن ما هي الثقافة وأنواعها وعناصرها.

ما هي الثقافة؟ وما هي أنواع الثقافة وعناصرها؟

مصادر:

تعريف علم الاجتماع، نشأته وأبرز نظرياته

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

“الإنسان حيوان اجتماعي”، بهذه الجملة عرّف أرسطو الكائن البشري وميزه عن باقي الحيوانات. فلا يمكن دراسة الإنسان وفهمه بأي شكل من الأشكال بمعزل عن مجتمعه ومحيطه. وفي المقابل، كل فرد يصنع تغييرًا، ولو صغيرًا، في مجتمعه. من هنا، كانت ضرورة نشأة علم الاجتماع الذي يدرس تفاعل الانسان، تأثرًا وتأثيرًا، مع مجتمعه. لكن ما هو التعريف الدقيق لعلم الاجتماع؟ ومتى نشأ؟ وما هي أبرز النظريات التي قدمها علم الاجتماع؟

تعريف علم الاجتماع

يهتم علم الاجتماع بدراسة العلاقات الانسانية والتفاعل بين البشر، أفرادًا ومؤسسات، ضمن المجتمعات. يُعتبر علم الاجتماع أو السوسيولوجيا علم مُعقّد وواسع. يدرس علم الاجتماع جوانب متعددة من المجتمع، تشمل كلًا من العائلة والدولة واللغة والثقافة والطبقات الاجتماعية والاختلافات العرقية والإثنية والجندرية والدين والجريمة والنمو الاقتصادي والتعليم والفن والتواصل وغيرها. كما أن علم الاجتماع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلوم اجتماعية أخرى كعلوم السياسة والاقتصاد وعلم النفس، ويتقاطع معها في مجالات متعددة.

يطرح علم الاجتماع النظريات العلمية من جهة، والمناهج العملية من جهة أخرى، لدراسة دقيقة لكل المجالات والظواهر الاجتماعية.

نبذة تاريخية عن علم الاجتماع

رغم أن علم الاجتماع علمًا حديثًا، إلّا أنه يجد جذوره في الفلسفة القديمة. فقد شكّل العديد من القضايا التي تعد حاليًا مركزية في علم الاجتماع، مواضيع بحث عند الفلاسفة القدماء مثل كونفوشيوس وأفلاطون وأرسطو. فما المدينة الفاضلة إلا صورة رسمها أفلاطون عن المجتمع المثالي.

بزوغ علم الاجتماع

في القرن الثالث عشر، عرّف المؤرخ الصيني «ما توان-لين –Ma Tuan-Lin  »، لأول مرة، الديناميات والمتغيرات الاجتماعية كعنصر فاعل في التطور التاريخي.

في القرن الرابع عشر، ظهر المفكر التونسي ابن خلدون. اعتبر كثيرون ابن خلدون عالم الاجتماع الأول. إذ كتب عن الصراع الاجتماعي والاقتصاد السياسي وميّز الفروقات بين الحياة البدوية والحضارية. ساهم ابن خلدون في وضع أسس علوم الاجتماع والاقتصاد الحديثة. وعلى الرغم من نظرياته التي درست للمرة الأولى الظواهر الاجتماعية بشكل علمي. إلا أن مساهماته في تأسيس علم الاجتماع بقيت غير مقدرة عند البعض بشكل كافي بحيث يُنسب التأسيس إلى الفلاسفة الأوروبيين. كتب ابن خلدون في تحفته الفلسفية “المقدمة” عن التغيرات الاجتماعية، باعتبارها مرتبطة بالعصبية (التضامن الاجتماعي) بشكل اساسي وبعوامل أخرى أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية. وصف ابن خلدون تطور المجتمع وشبهه بالحياة الانسانية التي تبدأ بالولادة، ثم تنمو لتصل إلى مرحلة النضوج، ثم تتراجع تدريجيًا وصولًا إلى الموت.

إن الاجتماع الإنساني ضروري، فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية، ومن العجز عن استكمال وجوده وحياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبداً بطبعه.

ابن خلدون

علم الاجتماع في عصر التنوير

طوّر فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وأبرزهم فولتير وإيمانويل كانت وتوماس هوبس(Thomas Hobbes)، العديد من المفاهيم حول الآفات الاجتماعية، آملين بذلك إصلاح مجتمعهم.

تأسّس علم الاجتماع كعلم منفصل في القرن التاسع عشر، في أوج الثورة الصناعية، ليجيب على التغيرات الاجتماعية الضخمة التي رسمت ملامح هذا العصر. فقد خلقت الثورة الصناعية تغييًرًا كبيرًا في النظام الاقتصادي الأوروبي وأساليب الإنتاج وتوزيع الثروة، وبدأ تحول المجتمعات الريفية إلى مدن صناعية تعج بالفوضى والاستغلال والفقر. وابتعد الملايين من المزارعين عن حياتهم التقليدية، مما زعزع الانظمة العقائدية والدينية وبدّل العلاقات العائلية والاجتماعية.

يُعد المفكر الفرنسي «أوغست كومت-Auguste Comte» أبو علم الاجتماع. استخدم كومت كلمة “سوسيولوجيا” عام 1838 وسمّاها «أميرة العلوم-Queen of sciences»، واعتبر أنه يمكن دراسة المجتمع من خلال قواعد علمية تمامًا كالمستخدمة في العلوم الطبيعية ودراسة الجسد أو المادة. واعتبر كومت أن اكتشاف القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية ودراستها يمكّن علماء الاجتماع من إصلاح المشاكل الاجتماعية كالفقر والأمية. وبذلك أسّس كومت علم الاجتماع.

ما هي أبرز نظريات علم الاجتماع؟

وضع أوغست كومت الفلسفة الوضعية، وفسّرها في كتبه التي صدرت بين عامي 1830 و1848. وهي تقوم على وضع قواعد علمية (مستوحاة من القوانين المادية كقانون نيوتن مثلًا) لتفسير الظواهر الاجتماعية. وعلى الرغم أن هذه الفلسفة ساهمت في تأسيس وتعريف علم الاجتماع، وأثرت في العديد من علماء الاجتماع اللاحقين أمثال «هيربرت سبنسر-Herbert Spencer» و«إميل دوركيم-Emile Durkheim»، إلا أنها واجهت فيما بعد الكثير من التحديات والرفض من قبل علماء اجتماع آخرين.

يمكن تصنيف نظريات علم الاجتماع إلى نوعين: النظريات الكليّة Macro theory  التي تتناول مشاكل شريحة كبيرة من الناس، والنظريات الجزئية Micro theory التي تتناول علاقة خاصة بين مكونات معينة محدودة.

سنتناول في هذا المقال النظريتين الشاملتين الأبرز في علم الاجتماع بشكل بسيط وموجز. وعلى الرغم أنهما مختلفتان، لكنها ليس بالضرورة متناقضتين، فهما تفسران العالم من وجهات نظر مختلفة.

النظرية الوظيفية

النظرية الأولى هي «النظرية الوظيفية-Functionalism» وهي نظرية محافظة، ترى العالم كمكانٍ متوازن، وترى المجتمع كالجسد الذي يتألف من عدة أنظمة وأعضاء ولكلٍّ منها وظيفته، وعلى هذه الأنظمة المختلفة أن تعمل سويةً لتحافظ على توازن وصحة الجسد ككل.

تعد هذه النظرية متأثرة بفلسفة كومت الوضعية، قفد قارن هيربرت سبنسر المجتمع البشري بالجسد، والمؤسسات والعائلة والدين بالعظام والأعضاء والعضلات.

وتعتبر النظرية أن أي مكوّن لا يعمل بشكل طبيعي يفيد النظام الاجتماعي هو خلل، ويجب معالجته. مثلًا، تعتبر أن الفقر هو خلل في المجتمع المزدهر. وغالبًا تحمّل النظرية مسؤولية الخلل للمكون نفسه، مثلًا الفقير يتحمل مسؤولية فقره، وعليه أن يعمل بنفسه ليصبح أغنى. ويطرح العالم الفرنسي إميل دوركيم مفهوم “الوعي الجماعي” الذي يقود كل مكونات المجتمع الواحد ويؤثر على معتقدات وتصرفات كل فرد منه، ويحافظ على استقرار قيمه

نظرية الصراع (الماركسية)

النظرية الثانية هي نظرية الصراع، وتعد نظرية تقدمية وهي تُبرز الصراع الاجتماعي والمنافسة واللامساواة. تنبع من كتابات كارل ماركس، الذي انتقد في الثورة الصناعية الرأسمالية الناتجة عن تغير أساليب الإنتاج. واعتبر ماركس أن نتيجة الرأسمالية (وقبلها الإقطاعية) والتوزيع غير العادل للثروة سبب في بزوغ نظام ثنائي متناقض. الرأسماليين “البرجوازيين” الذين يملكون كل موارد الإنتاج، ومن جهة أخرى الطبقة العاملة أو “البروليتاريا” التي لا تملك سوى قوة عملها. العلاقة بين هاتين الجهتين ليست علاقة وظائفية. على العكس، حيث يسعى الرأسماليون إلى مراكمة الثروات على حساب الطبقة العاملة. تنظر النظرية الماركسية إلى مشكلة الفقر كمشكلة اجتماعية، ناتجة عن استغلال الطبقة الغنية للطبقة العاملة الفقيرة، وهو ما يبقيها فقيرة.

وهنا تدخل عوامل أخرى تؤثر على الوضع الاجتماعي للفرد وهي العرق والجندر، التي تعزز أحيانًا وجوه التمييز واللامساواة.

واعتبر ماركس أن هذا الوضع من الظلم والتمييز والاستغلال ناتج عن نقص ما يسمّيه من الوعي الطبقي لدى البروليتاريا. ومن هنا تأتي جملته الشهيرة: “يا عمال العالم اتحدوا.” تعد النظرية الماركسية من أكثر نظريات القرن التاسع عشر تأثيرًا على العالم وعلى الأيدولوجيات السياسية حتى اليوم.

ختامًا، علم الاجتماع من أوسع العلوم وأكثرها تشعبًا، ولربما فهم أساسياته يساعدنا على فهم أنفسنا أولًا، ومحيطنا الاجتماعي ثانيًا، والعالم من حولنا ثالثًا.

المصادر:
edX
Sage journals

Exit mobile version