القتل المتسلسل

يستمتع الكثيرون منّا بكتب وأفلام القتل المتسلسل المليئة بالرعب والإثارة، ولرُبّما أول ما يتبادر إلى أذهاننا عند الحديث عن القاتل المتسلسل صورة رجل أبيض في العشرين أو الثلاثين من عمره، ذو كاريزما عالية وذكاء حاذق وحياة غامضة. ولكن إلى أي مدى يتطابق الواقع مع  قصص الروايات والأفلام؟ وكيف يفسّر العلم ظاهرة القتل المتسلسل؟

تعريف:

تتعدّد تعريفات «القتل المتسلسل-Serial murder» وتختلف بحسب جنس القاتل وعدد ضحاياه والأسباب الدافعة لتنفيذ الجرائم. لكن التعريف السائد للقاتل المتسلسل هو كل قاتل ينفذ جرائم قتل في أمكنة وأزمنة متعددة، وله على الأقل ثلاث أو أربع ضحايا. وتكون فترة «برودة-Cooling off» بين الجريمة والأخرى، تمتد من ساعات إلى سنوات عدة، وتكون هذه الفترة خالية من الجريمة.  ويتميز هذا النوع من الجرائم عادةً بأنماط محددة (مشتركة بين الجرائم المتسلسلة) من حيث اختيار الضحايا أو أساليب القتل.

تجدر الإشارة إلى أن القتل المتسلسل يختلف عن القتل الجماعي الذي يستهدف مجموعة ضحايا في مكان وزمان واحد.

تاريخ جرائم القتل المتسلسل:

رغم أن استخدام مفهوم “القتل المتسلسل” وانتشاره يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التاريخ مليء بهذا النوع من الجرائم.

ولعلّ أول جريمة قتل متسلسلة مُوثّقة هي جريمة المرأة «لوكوستا-Locusta» التي وُظفت من قِبل الامبراطورة الرومانية «أغريبينا الصغرى-Agrippina the Younger» للتسميم لعدد من أعضاء العائلة الحاكمة، وقد أًعدمت لوكوستا في العام 69 بعد الميلاد.

من القاتلين المتسلسلين المشهورين عبر التاريخ أيضًا الرجل النبيل الفرنسي «جيل دو ري-Gilles De Rais» الذي ارتبط اسمه بقتل أكثر من مئة طفل، وقد أُعدم في القرن الخامس عشر.

في القرن التاسع عشر، زاد الحديث عن جرائم القتل المتسلسل وارتفعت نسبتها، ولكن العديد من الباحثين ينسبون هذا الارتفاع إلى تقدم تقنيات كشف الجرائم وتغطيتها الإعلامية.

أما في القرن العشرين، فقد تحولت جرائم القتل المتسلسل إلى قضايا رأي عام، وقد أثارت الدهشة والرعب في نفوس الجماهير. ونذكر هنا بعض الجرائم المرعبة التي حفرت في ذاكرة الكثيرين، منها جرائم الطبيب البريطاني «هارولد شيبمان-Harold Shipman» الذي قتل 215 شخصًا على الأقل بين عامي 1975 و1998، والقاتل محمد عمر آدم الذي اعترف في عام 2000 بمسؤوليته عن قتل 16 طالبة طب في اليمن و11 نساء أخريات في السودان.

ومع انتشار قصص جرائم القتل المتسلسل وإثارتها للجدل الواسع، شكّلت مصدر إلهام للكثير من الروائيين والكتّاب، فصدرت الكثير من أهم الروايات وأنجح الأفلام السينمائية التي تدور قصصها حول هذا النوع من الجرائم.

لذلك انتشرت صورة نمطية عن منفذي هذه الجرائم، قد لا تعكس دائمًا الواقع. كما أنها ساهمت في تضخيم تقدير نسبة هذه الجرائم، في حين أنها في الحقيقة لا تتعدى الـ2% من إجمالي عدد الجرائم.

كيف يفسر العلم جرائم القتل المتسلسل؟

لماذا يتصرف البشر بهذه الطريقة أو تلك؟ لماذا يكذبون أو يسرقون أو يقتلون؟ لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب أعمال الفلاسفة والعلماء والباحثين لمئات السنين. كذلك حاول هؤلاء تفسير ارتكاب جرائم وحشية مثل جرائم القتل المتسلسل.

تتعدّد النظريات التي تساهم في تفسير هذه الجرائم بين نظريات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريمة والإحصائيات وصولًا إلى الطب النفسي وعلوم الجينات.

يشكّل الرجال الأغلبية الساحقة من القتلى المتسلسلين، مما يقترح وجود أسباب جينية مسؤولة عن ارتفاع منسوب العنف عند الرجال، كما يمكن ربطه بالدور الاجتماعي المرتبط بالرجال.

كذلك يتم الربط بين جرائم القتل المتسلسل وأمراض نفسية معينة مثل اضطراب الشخصية النرجسية واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، بحيث يزيد هذا النوع من الاضطرابات النفسية احتمال القيام بجرائم، لكنه ليس ملازم لها بالضرورة.

ويُشير علماء النفس إلى أن التعرض للعنف أو الصدمات في الطفولة قد يكون عاملًا مؤثرًا في القيام بأعمال عنيفة أو جرمية وبالتالي المشاركة في جرائم القتل المتسلسل.

ولعلّ أكثر العوامل النفسية تأثيرًا هي وجود اضطرابات التعلق وقلق الهجر، فقد بينت دراسة أن أكثر من 70% من القتلة المتسلسلين عانوا من هذه الاضطرابات.

 في حين ركزت الكثير من الدراسات على الدراسة الشخصية والعوامل الفردية لدى القتلى المتسلسلين، طرح علماء الاجتماع وجهة أكثر شمولية في البحث عن عوامل اجتماعية مساهمة في بناء هؤلاء القتلة.

فقد اعتبر بعض الباحثين أن العدد الكبير من القتلة الرجال الذين يستهدفون النساء كضحايا لهم، ليس إلا وجهًا من وجوه العنف ضد المرأة وكراهية المرأة في المجتمعات الأبوية والذكورية.

 كذلك يرى البعض أن الحداثة والاقتصادات النيوليبرالية فرضت زيادة في الفردية وفي الفروقات الاجتماعية وأثرت على الحياة الجماعية، مما يعزّز احتماليات الجريمة.

إن الأكيد أن تفسير جرائم القتل بحاجة إلى تكامل هذه النظريات مع بعضها، فكل جريمة تختلف عن غيرها في أسبابها ودوافعها.

تبيّن جرائم قتل المتسلسل أن مجموعة من العوامل الفردية والاجتماعية كفيلة أن تحول الأشخاص إلى وحوش بشرية يقتلون دون رحمة، بل يشعرون باللذة والرضا عند ارتكابهم جرائم قتل بحق آخرين. فإلى أي مدى سيساعدنا العلم على تجنب هكذا جرائم؟

المصادر:

Britannica

ResearchGate

SAGE

Sciencedirect

الذكورة والأنوثة، صفات مكتسبة أم تصنيف بيولوجي؟

إن التنشئة الاجتماعية بين الجنسين هي العملية التي يتم من خلالها توعيه الجنسين بمسؤوليتهما المنفصلة، بعبارة أخرى هو تعلم التوقعات الاجتماعية التي تخص جنسًا معينًا. هناك العديد من التعريفات والتفسيرات التي قدمها علماء الاجتماع لتسليط الضوء على جوانب التنشئة الاجتماعية بين الجنسين وتعريف ماهي الذكورة والأنوثة. فما هي أهم العوامل التي تؤثر في توزيع الأدوار؟ وما مدي تأثير كلا من التنوع البيولوجي وتقاليد المجتمع في فرض الدور الاجتماعي للفرد؟

الجنس من المنظور الاجتماعي

الجنس والهوية أمران حاسمان في تحديد أدوار الفرد في المجتمع، يخلق تصور المجتمع والقوالب النمطية حول النوع الاجتماعي حاجة للتوافق مع المعايير الجنسانية التي يمليها المجتمع. فأدوار الجنسين والصور النمطية تجعل الأطفال في سن مبكرة يعرضون السلوك المناسب للجنس كما تُمليه الأعراف الثقافية.

فهم الجنس: التحليل النفسي للجنس

ينظر علماء النفس إلى الجنس على أنه شرط أن يكون الفرد ذكرًا أو أنثى. في السياق الإنساني، يعكس التمييز بين الجنسين استخدام هذه المصطلحات، فهو يشير عادةً إلى الجوانب البيولوجية للذكور أو الإناث. كما يشير إلى الجوانب النفسية والسلوكية والاجتماعية والثقافية لكونك ذكرًا أو أنثى. فالجنس هو جانب أساسي لاستكشاف الهوية الاجتماعية، فهو يحدد على الأغلب أدوار وتوقعات الفرد في بنيات المجتمع الموجودة مسبقًا.

ولفهم علم نفس الجنس وتأثيراته على الهوية الشخصية والداخلية للفرد؛ طور علماء النفس عِدة نظريات حول الجنس البيولوجي والجنس الاجتماعي والثقافي. والتي تهدف إلى فهم تشكيل وتطوير أداء الجنسين وتفسيرات الفروق بينمها. كذلك التحيزات والتوافق والقوالب النمطية.

ستتناول المقالة التالية إحدى أهم الأعمال البحثية حول علاقة التباين الجنسي وأدوار العمل في المجتمع وهي رواية (الجنس والمزاج قي ثلاث مجتمعات بدائية- Sex and temperament in three primitive societies). والتي تطرح سؤالاً في غاية الأهمية: هل الذكورة والأنوثة صفات مكتسبة أكثر من كونها تصنيفات بيولوجية؟

مارجريت ميد – الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية

مارجريت ميد- Margaret Mead، عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية، تمكنت من تحقيق عملٍ رائد من خلال كونها من أوائل الأفراد الذين أثبتوا أهمية تمايز الثقافات وتأثير ذلك على السلوكيات والمزاجات الفردية. فقد ربطت ميد هذه الجوانب بالجنس، وألفت ما يصل الى 20 كتابًا بناءًا  على أبحاثها.

تتناول روايتها، الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية التي صدرت عام 1935 مظاهر الدور الاجتماعي في ثلاث قبائل في أجزاء مختلفة من غينيا الجديدة. قررت ميد أن تستكشف حياة القبائل الثلات: أرابيش– Arapedh، مندوجومورMundugumor، تشامبوليTchambuli طوال رحلة حياة الأفراد هناك من الطفولة حتى البلوغ.

فتتحدى الرواية المفاهيم التقليدية المتعلقة بمعنى الأنوثة والذكورة. ذلك من خلال تحديد التباين في أدوار الجنسين الموجودة في جميع الثقافات في العالم. كما تُثير روايتها هذه النقاش الكلاسيكي حول “الطبيعية مقابل التنشئة” والتفاعل الحاصل بين الإثنين في تحديد الاختلافات بين الرجال والنساء.

لخصت مارجريت ميد عِدة ملاحظات أساسية تساعدنا في فهم كيف أن التنوع أو التقسيم الجنسي التقليدي للعمل على أساس أدوار الجنسين، يتم تقسيمه بالكامل من قِبل المجتمع الذي نعيش فيه اليوم وليس له علاقة ببيولوجياتنا.

1- قبيلة أرابيش- Arapesh

بالنسبة لقبيلة أرابيش، خَلُصَت الملاحظات التى قدمتها ميد إلى أن الأفراد الذين ينتمون إلى هذه الجماعة كانوا من عشاق السلام، ليس لديهم وعي بمفاهيم مثل “الحرب” و “الاعتداء” و”اللجوء للحرب وأدواته”. أدى هذا الميل نحو السلام  وغياب مفهوم الحرب إلى نشوء مجتمع بلا مناصب قيادية، فكلهم مسئولون ويستمتعون بالعديد من الأنشطة الترفيهية مثل البستنة والصيد. بالإضافة إلى الأنشطة التى تقع في جُعبة مهام الأم كتربية الأطفال والعناية بهم، يتشاركها الرجال والنساء سويًا في تناغم قوي. فإن أهم ما يميز ويهتم به أفراد هذه القبيلة هو اللين واللطف، فهي صفة أساسية.

من ناحية الدور الجنسي، فكما ذكرنا، تنسج القبيلة المساواة في تقسيم العمل بين الرجال والنساء. إذ أن هناك مشاركة لكلا الجنسين- ذكورًا وإناثًا- فيما يُسمى بـ ” الأدوار الأمومية” مثل تربية الأطفال. فتربية الأطفال كانت مهمة الأب والأم حد على حد سواء. يتم أداؤها بإخلاص. توصلت ميد إلى أن أرابيش في الغالب أمومية في جوانبها الذكورية، أنثوية في جوانبها الاجتماعية.

2- قبيلة موندوجومور- Mondugumor

تميزت قبيلة موندوجومور بشكل حاد مع أرابيش، بسبب الصفات التي يمتلكونها. السمة البارزة لهذه القبيلة هي نظام “التجارة”، الذي يتفرع داخل الهياكل الاجتماعية للأسرة. بمعنى أن رجال الأسرة سواء كانوا آباءًا أو أبناء، لهم الحق في التجارة بالنساء مقابل زوجة أخرى وهكذا. إذ يمكن للأب أن يتاجر بالبنت أو الأخت. ويمكن للإبن أن يتاجر بالأخت مقابل الزوجة،.. ونتيجة لذلك، ساد شعور بالتنافس والعداء بين الأب والابن. علاوة على ذلك، غالبًا ما كانت الأمهات ينظرن إلى بناتهن على أنهن ” منافسات جنسيات” ويستكنن مشاعر الغيرة تجاة بناتهن.

في هذا النموذج الأسري، كان يُنظر للبنات على أنهن حلفاء لآباءهن، وكان يُنظر للأبناء على أنم حلفاء لأمهاتهم. مما خلق نوعًا من الانقسام في الأسرة. حيث أدت مشاعر العداء والريبة والوحشية -التى يتقاسمها الرجال والنساء على حد سواء- إلى تفاقم هذا الانقسام. فالإعلان عن الحمل داخل الأسرة كان يؤدي إلى نزاع زوجي حتى ولادة الطفل – ذكرًا كان أو أنثى- إذ يعني ذلك بدء التنافس.

بالنسبة للأطفال تلك القبيلة، تبدأ رحلة حياتهم بشكل سلبي؛ بسبب البيئة المشحونة التى ينبتون فيها. تستمر هذه التجربة السلبية طوال فترة حياة الطفل حتى مرحلة البلوغ، فيصبح جزءًا من النزاع وهكذا. كما أدت هذه الشخصيات القوية والعدوانية وربما الوحشية لهؤلاء الأفراد إلى كثرة نشوب الحروب والعدوان، مما جعلها قبيلة صيد بالدرجة الأولى.

3- قبيلة تشامبولي- Tchambuli

كان لأهل تشامبولي خصائص وميزات تتناقض بشدة مع سمات أرابيش وموندوجومور. في الواقع كان لديهم سمات فريدة من نوعها، فقد صورت قبيلتهم انعكاسًا في الأدوار التي يؤديها الرجال والنساء- عما هو شائع في العالم– ، أي أن الأدوار الجنسية التقليدية للرجال والنساء تبدلت في هذا المجتمع.

من ناحية الدور الأدائي فالنساء في هذه القبيلة قامت بالدور الغير تقليدي، فهن من يقمن بالتجارة والصيد والنسيج وكسب قوت اليوم لأسرهم. بالإضافة لكونهن مقدمات العاطفة والرعاية؛ فهن لا يعتنين بأطفالهن فحسب، بل يدللن ويعاملن أزواجهن أيضًا كأولاد صِغار وليسوا نظرائهم.

من ناحية أخرى، يقوم رجال هذه القبيلة بمزيد من الأنشطة الترفيهية والتزيين والتجميل. وقد شاع ما يُسمى بـ “بيوت النساء” حيث تقوم النساء بأدوارهن المنزلية والتمتع بصحبة بعضهن البعض. مقابل ذلك كان هناك بيوت “الطقوس والترفيه” خاصة بالرجال.

إذًا، يمكن لك أن تتخيل بسهولة كيف كان نظام السُلطة في هذه القبيلة التي تبدلت فيها معايير ومفاهيم الأنوثة والذكورة، فالمجتمع كله بأيديّ النساء. فما زلن يبرزن كأبوين أساسيين، ساعياتٍ إلى تحقيق التوازن بين حياتهن المنزلية وحياتهن العملية.

ما أهمية دراسة الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات مجتمعات مختلفة؟

صرَّحت ميد أنه بينما قامت كل ثقافة بطريقة ما بإضفاء الطابع المؤسسي على أدوار الرجال والنساء، إلا أنها لم تكن بالضرورة من حيث التناقضات بين الشخصيات المحددة لكلا الجنسين ولا من حيث الهيمنة والخضوع. فكما ذكرنا سابقًا، ساعدت دراسة الجنس والمزاج في ثلاث مجتمعات بدائية في هذه القبائل الثلاث على فهم كيفية اختلاف أدوار الجنسين في عِدة بيئات مختلفة جغرافيًا وثقافيًا وتكيفًا. وقد توصلت ميد إلى أربعة استنتاجات أساسية هما:

أولاً: لا يوجد أساس للسلوك الذكوري أو الأنثوي المرتبط بالجنس.

ثانيًا: كانت الاختلافات في الأدوار الجنسية للرجال والنساء في هذه القبائل الثلاث بمثابة إثبات أو دليل على أن التكيف الثقافي والاجتماعي للأفراد كان له تأثيرًا أكبر على سلوكهم وأدوراهم مقارنةً بالتأثير البيولوجي.

ثالثا: تؤدي الثقافات المختلفة إلى تكوين شخصيات مختلفة من حيث التنشئة.

رابعًا: تربية وتنشئة الفرد أكثر أهمية وتأثيرًا من الطبيعة.

ملاحظات حول نظرية ميد

لقد ذكرت ميد أن الغرض من هذا العمل لم يكن فقط لتحديد الأدوار النمطية للجنسين، لكن أيضًا لمراقبة وتحليل ثقافة تختلف فيها المشاعر بشكل صارخ عن تلك الموجودة في العالم في ذلك الوقت.

وعلى الرغم من أن العمل يحظى بالتقدير الكبير لوجهة النظر البناءة التي يقدمها حول الصور النمطية المرتبطة بأدوار النوع الاجتماعي والجنسي. إلا أنه أيضًا تلقى انتقادات بسبب حتميته الثقافية الصارمة. فعندما تظهر مسألة الانحرافات الثقافية أو المجتمعية في الصورة، كانت تلجأ ميد إلى تفسير نفسي أكثر يعترف بمدى وجود المتمردين في كل ثقافة. وكيف لا ينجح المجتمع دائمًا في فرض قِيمه وتعريفاته. إذ يُظهر هؤلاء المتمردون تباينًا بين ما يتوقع المجتمع منهم وبين ميولهم الفطرية. كما أشاد علماء الاجتماع بعمل ميد لإنه يصور كيف يمكن استنتاج المبادئ الاجتماعية

الخلاصة

من خلال أوراق ميد البحثية، يمكننا أن نفهم كيف أن المعتقدات حول التقسيم الجنسي للعمل في المجتمع التى تستند إلى بيولوجيا الرجال والنساء هي حجة لا أساس لها. لذلك، من الخطر على المجتمع أن يُصرح بالخصائص المحددة التي يجب أن يمتلكها الرجال والنساء بسبب جنسهم (معايير الذكورة والأنوثة). من الخطأ وصف بعض الشخصيات بأنها أنثوية وأخرى على أنها ذكورية. فمن أجل مواجهة هذه المشكلة، هناك حاجة لقبول السمات الأنثوية والذكورية في كل من الرجال والنساء. بل يمكن القول إن تصنيف السمات هو أساس المشكلة. فمن الممكن أن تتنوع وتتداخل السمات التي يمتلكها الفرد الواحد.

المصادر

voicesofyouth

oneworldeducation

unicef

BCcampus

التنافر المعرفي: عندما تفشل النبوءة وينتصر الوهم على الحقيقة!

هذه المقالة هي الجزء 18 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

يصعب تغيير الإنسان الملتزم بقناعة راسخة، فإذا عارضته سيشيح بوجهه عنك، وإذا واجهته بالحقائق والأرقام سيسألك عن مصادرك، وإذا احتكمت إلى المنطق فلن يفهم وجهة نظرك

هكذا كتب ليون فيستنجر في كتابه «عندما تفشل النبوءة-When Prophecy Fails» الذي يناقش فيه واحدة من أغرب التجارب التي شهدها. وما يرتبط بها من أحد أهم مفاهيم علم النفس الاجتماعي: «التنافر المعرفي-Cognitive Dissonance»

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

تعريف التنافر المعرفي

التنافر المعرفي هو أحد مفاهيم علم النفس الاجتماعي. ويشير إلى حالة التوتر أو قلة الراحة أو انعدام الانسجام التي تنتاب الشخص حينما تتعارض معتقداته أو مواقفه مع سلوكه. ينتج عن هذا التصادم (بين ما يؤمن به الشخص وما يسلكه بالفعل) شعور بالتناقض أو التصارع، يجعله يغير سلوكه أو يحوّر معتقداته للعودة إلى الراحة والانسجام.

درس فيستنجر هذا التأثير، كما درس الآليات المختلفة التي يسلكها البشر للتغلب على الصراع والوصول إلى حالة الانسجام الداخلي. توصل فيستنجر إلى نتائجه من خلال مجموعة من الدراسات، منها تجربته الكلاسيكية عن التنافر المعرفي. وهاك مقطع منها:

تجربة فيستنجر وكارلسميث عن التنافر المعرفي 1954

خطوات التجربة

جعل فيستنجر المشاركين يقومون بعدد من الأنشطة المملة. ثم طلب منهم مساعده أن يخبروا المشارك التالي كذبًا أن التجربة ممتعة مقابل قدر من المال، المجموعة الأولى مقابل 20 دولارًا والمجموعة الثانية مقابل دولار واحد فقط. سألهم فيستنجر في نهاية التجربة عن انطباعهم عنها، هل كانت التجربة ممتعة؟ هل تشارك بها مرة ثانية؟

يأتي الرد البديهي في أذهاننا جميعًا أن من حصلوا على 20 دولارًا سيجيبون بنعم، على عكس من حصلوا على دولار واحد. لكن ما حدث هو العكس تمامًا! تصدمنا الشابة التي حصلت على دولار واحد وقضت كل هذا الوقت في نشاط ممل بجوابها: “نعم لقد استمتعت وإذا اتيحت الفرصة سأود المشاركة مرة ثانية”

النتائج

فسر فيستنجر النتائج كما يلي: اختبرت المجموعة التي حصلت على قدر أكبر من المال تنافرًا أقل. بمعنى أن الدافع للكذب كان واضحًا وهو الحصول على المال، لذا لم يختبر هؤلاء تنافرًا بين ما يعتقدونه (أن النشاط ممل) وما يفعلونه (الكذب والقول أن النشاط ممتع) لأن الدافع موجود.
أما المجموعة التي حصلت على مبلغ تافه اختبرت تنافرًا أشد. لأنهم لم يستطيعوا إقناع أنفسهم أنهم فعلوها من أجل المال، كما لم يستطيعوا مواجهة حقيقة الموقف (إهدار وقتهم في نشاط ممل والكذب بشأنه) لذا يلجأ العقل إلى الخداع! فيخبر المرء نفسه أن النشاط كان ممتعًا وليس بهذا السوء وربما يفعله مرة ثانية.
ألا يبدو هذا السلوك مألوفًا إليك؟

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

عندما تفشل النبوءة

لم تقتصر دراسات فيستنجر على التجربة السابقة فقط، بل نشر في كتابه عندما تفشل النبوءة أحد الأمثلة الحية المدهشة لمفهوم التنافر المعرفي.

عندما تفشل النبوءة

صاحب فيستنجر عدد من الأفراد المنتمين لطائفة دينية تؤمن بالتواصل مع الكائنات الفضائية. ادّعت زعيمة هذه الطائفة أنها تلقت رسائل سماوية تنبأها بموعد نهاية العالم، لذا قامت هي وعدد من التابعين المخلصين ببيع بيوتهم وجميع ممتلكاتهم استعدادًا لتلك النهاية. وحينما جاء اليوم الموعود ولم يحدث شيء، خرجت لتخبرهم أنهم فعلوا الصواب وأنهم أنقذوا العالم بإيمانهم وإخلاصهم. وبدلًا من أن يندم هؤلاء على فعلهم المتهور ويواجهوا الحقيقة، ازداد حماسهم وانتمائهم!

هذا المثل واقعي للغاية وصادم للغاية عند النظر إليه. لقد هجر هؤلاء الأشخاص عائلاتهم وباعوا جميع ممتلكاتهم سعيًا وراء معتقد. ولك أن تتخيل مقدار التنافر الذي أصاب أحدهم في هذا الموقف، إنها هزة عنيفة وضربة قوية في صميم إيمان راسخ بذل الكثير في سبيله. فيجد نفسه في موقف ممزقًا بين ما يعتقد أنه الحقيقة والحقيقة الفعلية، فيتزعزع انسجامه وتتبدد راحته ويبدأ العقل الخداع!

من الجدير بالذكر أن جميعنا نختبر التنافر المعرفي بنسبة أو بأخرى. لكن ما نحن بصدده الآن هو مثال عنيف لما يمكن أن يؤدي إليه هذا التنافر. فقد تجاهل هؤلاء الأشخاص حقيقة ساطعة حتى لا تتصارع مع معتقدهم المسبق. وهذه الآلية بالتحديد واحدة من آليات ثلاثة شرحها فيستنجر لكيفية تجاوز التنافر المعرفي.

كيف نتجاوز التنافر المعرفي؟

لقد ذكرنا في تعريف التنافر المعرفي أنه حالة من التصارع بين المعتقد والسلوك ينتج عنه التوتر وتبدد الانسجام. لذا لكي يتخلص الشخص من هذا الإزعاج ويستعيد توازنه يلجأ إلى تحوير أحد هذين المتغيرين (إما المعتقد أو السلوك) عن طريق آليات ثلاثة. ولفهم الأمر بشكل أوضح سنطبق كل واحدة من الآليات على شخص مدخن يعلم ضرر التدخين ولا يقلع عنه.

  • تغيير المعتقد أو السلوك المسبب للتنافر كليًا، لكي تستعيد العلاقة بين المتغيرين اتزانها.

في حالتنا هذه يكون تغيير السلوك (الإقلاع عن التدخين) هو الحل لتجاوز التنافر المعرفي. لكن يمكننا توقع أن هذه الآلية بالتحديد صعبة التحقيق، لأنها تتضمن تغييرمعتقد راسخ أو سلوك اعتاد الشخص فعله.

  • تحصيل معلومات جديدة تدحض المعتقد المسبب للتنافر.

يعلم المدخن أن التدخين يسبب سرطان الرئة ويهدد الحياة، لكنه مع ذلك مستمر بسلوك التدخين. ولكي يتغلب على هذا التنافر يبحث على معلومات مثل: لم تؤكد الأبحاث بعد علاقة التدخين بسرطان الرئة.

  • تقليل أهمية المعتقد المسبب للتنافر.

قد يقنع المدخن نفسه أن التدخين ليس بهذا السوء، فحياة قصيرة يتمتع فيها بالتدخين خيرٌ من حياة طويلة خالية من هذه المتعة.

أمثلة من الحياة

لا تقتصر نتائج التنافر المعرفي على الدراسات المعملية فقط، فيمكن للأشخاص التلاعب بالتنافر المعرفي بأشكال مختلفة في حياتنا اليومية. وينتج عن هذا ظواهر جادة وخطيرة للغاية. منها ظاهرة «التشويش-Hazing»

يشير مصطلح التشويش إلى المضايقات التي يتعرض لها المبتديء عند انضمامه لمجموعة جديدة أو التحاقه بعمل جديد. وأحيانًا لا يتوقف الأمر عند المضايقات فقط بل يصل إلى حد الإذلال والإهانة لذا يعد فعلًا غير قانوني.

وما يحدث هو تعرض طالب مستجد يريد الانضمام لمجموعة ما لشتى أنواع الإهانة والتعذيب لفترة من الزمن. وتمامًا كما حدث مع الشابة التي أهدرت وقتها في نشاط ممل مقابل دولار واحد، يقنع هؤلاء الطلاب أنفسهم أنهم خاضوا الكثير المعاناة في سبيل هذه المجموعة، لذا لا بد أنها ممتعة وتستحق هذا العناء.

يظهر التشويش أيضًا عند السياسين، عندما يترشح أحدهم للانتخابات ويطلب تطوع الشباب لمساعدته بدون مقابل. هذا أمر حسن بالنسبة إليه لأنه لن يضطر لدفع المال وهذا بديهي. كذلك سيكون هؤلاء الشباب أكثر ولاءًا وانتماءًا لقضيته. وسبب ذلك هو التنافر المعرفي، فإذا عرض مائة دولار مقابل العمل سيدرك المتطوع أنه يفعله من أجل المال، أما إذا فعله بدون مقابل سيقنع نفسه أن هذا المرشح يستحق الدعم.

مثال آخر أكثر غرابة يظهر عند المعالجين النفسيين. يطلب المعالج المال مقابل العلاج لشتى الأسباب أولها أننا جميعًا نحب المال، ثانيًا أن العلاج المجاني عادة ما يفشل. لا بد أن يبذل المريض شيئًا في سبيل العلاج ليشعر بقيمته، حيث يقوده التنافر المعرفي إلى تقدير العلاج الذي بذل المال من أجله وبالتالي يستفيد منه.

الأمر ليس صراعًا وحسب

والآن لنلقي نظرة أعمق في أسباب حدوث التنافر المعرفي، ليس الأمر صراعًا بين معتقد وسلوك غير متسقين وحسب، ولكن التنافر أكثر دقة من ذلك. فنحن نحوّر أفكارنا أو سلوكنا حتى لا نفقد نظرتنا الأخلاقية المنطقية لأنفسنا. عودة إلى تأثير التشويش، هناك سبب واضح وصريح وراء تقبل الأشخاص الإذلال والإهانة في سبيل القبول بمجموعة، وهو أنهم هذا النوع من الأشخاص الذي يتقبل الإذلال والإهانة. لكن العيش مع هذه الحقيقة أمر مروع وصعب، ومن هنا ينشأ التنافر فيبحثون عن إجابة لا تشوه نظرتهم لأنفسهم مثل: لا بد أنها مجموعة رائعة وتستحق العناء!

التنافر المعرفي: عندما ينتصر الوهم على الحقيقة!

وبهذا يمكننا إنهاء حديث اليوم، التنافر المعرفي ببساطة هو فكرة أن كل ما تفعله منطقي وأخلاقي، فإذا فعلت شيئًا يُظهرك أحمقًا أو متلاعبًا ستحوّره داخل مخك ليصير منطقيًا في نظرك.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والتحيز للتوكيد

المصادر

أنماط الأبوة والأمومة وتأثيرها على الأبناء

تعتبر السنوات الأولى من حياة الفرد من أهم فترات التطور، فالأطفال في تلك المرحلة يصبحون كالإسفنج يمتصون كل شيء من آبائهم، فهم قبلتهم وجهة إتصالهم الوحيدة. وبالتالي فإن أسلوب الأبوة والأمومة والطريقة التي يتفاعل بها الآباء مع الأبناء لها تاثير كبير على أطفالهم. فقد يكون هذا التأثير طويل المدى وقد يكون قصير المدى؛ فهو يؤثر على جميع جوانب الأطفال، من طريقه التفكير حتى طريقه ملابسهم.

في عام 1983، تم توسيع نظرية «ديانا بومريند-Diana Baumrind»، التى طورت ثلاثة أنماط رئيسة للأبوة والأمومة لتصبح أربعة أنماط بواسطة «ماكوبي ومارتن- Maccoby and Martin» وآخرون. فما هما الأربعة أنماط الأساسية في التربية؟ وما هي نتيجة اعتماد كل نمط في التربية؟ وما هو النمط الأمثل؟ وكيف تحدد نمط الأبوة والأمومة المناسب لأطفالك؟

ما هي الأبوة والأمومة؟

تُعرف الأبوة والأمومة على أنها كوكبة من المواقف أو الأنماط للسلطة الأبوية تجاه الطفل والتى تُنقل إليه، مما يخلق السياق العاطفي للتعبير عن سلوك الوالدين. فيُعتقد أنه يوفر المناخ العاطفي للتفاعل بين الوالدين والأطفال، كما أن لها تأثير كبير على نوعية حياة الأسرة.

أهمية الأبوة والأمومة في التربية

إن للآباء والامهات وظيفة يمكن وصفها بأنها الأصعب على الإطلاق، فيُسند إليهم تربية الأبناء ودعمهم، فيمر الشخص خلال فتره نموه بعِدة مراحل وتغيرات، بما في ذلك التغيرات البيولوجية والعاطفية والمعرفية والإجتماعية. فمن الضروري أن يحاول الوالدان تحقيق التوازن في جميع الجوانب. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال معرفة أهم المؤثرات السلوكية إلى جانب بيئة التربية.

كما يتأثر أسلوب التربية بترتيب الطفل، فيتأثر أسلوب الأبوة تجاة الطفل الثانى مثلاً بالتجربة التى مر بها الوالدان أثناء تربيتهم للطفل الأول وهكذا.

وفي بعض الأحيان قد يتعارض كل ذلك مع عوامل أخرى بيولوجية أو بيئية، وبالتالي فإن تحقيق هذا التوازن يمكن أن يُصبح صراعًا للآباء.

نظرية بومريند لأنماط الأبوة والأمومة

في الستينيات ابتكرت عالمة النفس «ديانا بومريند-Diana Baumrind» أربعة أنماط مختلفة من الأبوة والأمومة. بناءًا على الملاحظة والتحليلات، وهم:

نمط الأبوة الموثوقة

نمط الأبوة السُلطوية

نمط الأبوة المُتساهلة

نمط الأبوة الغير مسئولة

وقد صُنفت هذه الأساليب على أساس جانبين أساسيين من جوانب السلوك الأبوي هما: الرقابة الأبوية- Parental Control والدفء الأبوى Parental Warmth. دعنا سريعًا نذكر ما ينطوي عليه المصطلحين:

تشير الرقابة الأبوية إلى الدرجة التي يدير بها الآباء سلوك أطفالهم. بدءًا من التحكم الشديد إلى التراخي، بالإضافة إلى وضع القواعد وتلبية المطالب.

أما عن الدفء الأبوي، فهو يشير إلى الدرجة التي يتقبل بها الآباء سلوك أطفالهم ويستجيبون لها.

1- نمط الأبوة الموثوق

الآباء الموثوقون حازمون مع أطفالهم، لكنهم مانحون جيدون للدفء في نفس الوقت. فالأسلوب الموثوق يعتمد على وضع قواعد معينة للأبناء مع إتاحة الفرصة لهم للمناقشة والاستدلال. فهو اتصال ثنائى الإتجاه.

دائما ما تكون لديهم توقعات عالية من أبناءهم، يشجعونهم على الاستقلال مع الإشارة إلى حدودهم. يستخدم أيضًا هؤلاء الآباء أنظمة المكافآت لتقدير العمل الجيد وتحفيز أطفالهم.

تُظهر الملاحظات أنه عندما يتبنى الوالدان طريقة الأبوة هذه، يكون الطفل قادرًا على التفاوض وإجراء المناقشات بشكل أفضل. ذلك لإنه اعتاد على التعبير عن نفسه أثناء المناقشات مع الوالدين. نظرًا لإن آراءه وأفكاره تؤخذ دائمًا على محمل الجد في المنزل.

فالأطفال الذين يدركون أن آراءهم مهمة وتؤخذ في الاعتبار. يكونون أكثر وعيًا ومسئولية اجتماعيًا؛ مما يعزز ثقة الأبناء بأنفسهم وقدراتهم ومهاراتهم.

2- نمط الأبوة السلطوي

الآباء الذين يتبنون هذا الأسلوب تجدهم يمارسون سيطرة شديدة على أطفالهم، ولا يمنحون الدفء الكافي. فهم يطورون نظامًا للعقوبات من أجل تصحيح أي سلوك غير مرغوب. عادة ما يرون معاملتهم لأبناءهم على أنها حب قاسي. هذا النمط من الأبوة مُقيد وغالبًا ما يكون إتخاذ القرارات حكرًا على الوالدين فقط دون التشاور مع الأبناء. فلا تُجرى أية مناقشات ولا تتبادل الآراء. قليلا ما تُشَجَّع الأبناء على الاستقلالية. أظهرت الملاحظات أن الأطفال مُتلقيّ ذلك النمط إما يميلون إلى الخضوع والإعتماد على والديهم، أو التمرد إظهار ميولاً عدوانية.

3- نمط الأبوة المتساهلة

يتميز الوالدين الذين يتسمون  بنمط التربية المتساهلة بالدفء الشديد والسلبية. مثل هؤلاء الآباء لا يطلبون الكثير من أطفالهم، يواجهون صعوبة في قول لا لأبناءهم؛ بسبب الخوف من استيائهم. الوالدان غير نشطين في جوانب صنع القرار في حياة أبناءهم؛ وبالتالي يتخذ الأطفال العديد من القرارات المهمة بمفردهم. فهم يقدمون النصيحة فقط لأطفالهم، لكن القرار النهائي يُتخذ في النهاية من قِبل الطفل نفسه. أطفال ذلك النمط من التربية لا يدركون مفهوم العواقب. كما أنهم لم يعتادو على الحرمان، مما يؤدي إلى وجود مشاكل في ضبط النفس لديهم. تتأثر علاقتهم مع أقرانهم الآخرين أيضًا؛ لإنهم يميلون إلى تطوير قضايا الأنا فيظهرون بمظهر الأنانيين.

4- نمط الأبوة المهملة

آباء ذلك النمط ليسوا دافئين وليس لديهم أي مطالب من أبناءهم. هم غير مشاركين في أمور أطفالهم ولا يتفاعلون معهم -إلا إذا لزم الأمر- فهم غير مبالين بمشاعر أو حتى مكان تواجد أطفالهم. يميلون إلى الإنشغال بحياتهم الخاصة أو التركيز على الذات فقط. هؤلاء الآباء لا يأخذون في الاعتبار أفكار وآراء أطفالهم. عادة ما يكون هذا النمط من الأبوة نتيجة استسلام الوالدان أو نتيجة الإحباط أو التعب. يظهر أطفال هذا النمط سلوكيات مثل سلوك أطفال الآباء المتساهلين.

بعض العوامل التي تؤثر على أسلوب الأبوة والأمومة المُتبع في الأسرة

مدى توافق أسلوب الوالدان في المنزل، إذا كان الوالدان يتبعان أسلوبان مختلفان من الأبوة -على سبيل المثال: يمكن أن تكون الأم متساهلة والأب سُلطويًا. فمن الضروري أن يجد الوالدان طريقة للعمل معًا والتنازل عن الأسلوب الغير مُوفق في مواقف معينة؛ من أجل الحصول على نتيجة إيجابية. فقد يؤدي عدم موافقة كلا الوالدان علانيةً  أثناء إتخاذ القرارات المتعلقة بالطفل إلى نزاع يمكن للطفل الإستفادة منه لحسابه. – على سبيل المثال: إذا قال الأب أنه لا يُسمح لاطفل بالذهاب إلى مكان ما، لكن والدته قالت نعم! سيستمر الطفل في الذهاب إلى المكان الذي منع الأب الذهاب إليه. على الرغم من تحذيره للطفل من ذلك، لإن الطفل يعلم أن الأم ستضمن عدم توقيع العقوبة.

سلوك الطفل نفسه قد يحكم أسلوب الأبوة المُتبع، يؤثر سلوك الطفل أيضًا على أسلوب التربية. على سبيل المثال: قد يؤدي الطفل المتمرد المُتحدي إلى قيام والديه بممارسة سيطرة قُصوى (النمط السُلطوي) من أجل تقويم الطفل، أو إهمال الطفل (النمط الغير مسئول) لمجرد أن الوالدين قد استسلموا وكلْوا. من ناحية أخرى، فإن الطفل الذي لديه دوافع ذاتية ومتعاون، من شأنه أن يدفع والديه إلى استخدام أسلوب تربية أكثر موثوقية وبناء علاقة جيدة مع طفلهم. وهناك بعض العوامل الأخرى التي قد تؤثر على أسلوب الأبوة والأمومة المُتبع مثل قلة النوم، الاجهاد، حالة مزاج الوالدين، مسئوليات الوظيفة، القيود المالية، التوتر، القلق،..

كيف يمكن تحديد أسلوب الأبوة والأمومة الأمثل؟

بينما لا يوجد أسلوب تريية واحد يمكن وصفه بالأمثل أو الأنسب -بناءًا على الأبحاث والتحليلات- يعتقد علماء النفس أن أسلوب الأبوة والأمومة الموثوق هو الأسلوب الأكثر فائدة، فهم يزعمون ان هذا الأسلوب هو الأكثر مرونة ويحقق التوازن الصحيح بين الرقابة ودفء الوالدين. إذ يُظهر الأطفال الذين يخضعون لأسلوب التربية الموثوقة لديهم علاقة صحية مع والديهم حتى بعد أن يصبحوا بالغين. ومع ذلك من المهم أن نفهم أن هناك العديد من العوامل تلعب دورًا فيما يتعلق بتربية الأطفال، على رأسها الإختلافات الثقافية.

ما هي أهمية الخلفية الثقافية في تحديد النمط الأبوي المناسب؟

من الضروري مراعاة التأثيرات الثقافية في الأسرة. فقد لا تكون أساليب الأبوة والأمومة الموثوقة هي الأنسب لتربية الأطفال من خلفيات عرقية واجتماعية واقتصادية مختلفة. فتُشير الأبحاث أن الأساليب الموثوقة تعمل بشكل أفضل مع الأطفال في جميع الطبقات. في حين أنه قد لا يكون الخيار الأنسب للأطفال الناشئين في ظل قيود اجتماعية واقتصادية معينة. فقد وُجد أنه عندما يعيش الطفل في بيئة آمنة، فإن السماح له بقدر من الحرية المرونة سيُبشر بالخير للطفل وسيتبع ذلك نتائج إيجابية. ومع ذلك قد لا يكون هذا الحال بالنسبة للطفل الذي يعيش في بيئة شديدة الخطورة .سيحتاج الطفل الذي يعيش في مثل هذه البيئة درجة أعلى من التحكم – على سبيل المثال: بالنسبة لطفل نشأ في أسرة مكونة من ثلاثة أفراد في أرقى ضواحى لوس أنجلوس- كاليفورنيا. سيحقق أسلوب الأبوة الموثوقة نتائج إيجابية من الطفل، هنا يتمتع الطفل بامتياز عدم التعرض للتحيز العنصري أو الجنساني ويحيا في مكان آمن. بما أن والديه مستقران اقتصاديًا بشكل واضح للعيش في هذا المكان، فلا ضغوط اجتماعية ولا اقتصاديه على الأسرة.

خُذ مثالاً آخر، من ناحية أخرى، فتاة آسيوية صغيرة تنشأ في أسرة متوسطة الحال بلا أب، تخضع للتحيز العنصري والجنساني. تكافح والدتها من الناحية المالية، فتعمل في وظيفتين لتوفير وجبة على المائدة. لن يعمل أسلوب الأبوة الموثوقة هنا، بدلاً من ذلك ستكون هناك حاجة إلى مزيج من أساليب الأبوة الأخرى لتحقيق النجاح.

عادة ما تُستخدم أساليب الأبوة السلطوية من قبل الآباء الذين ينتمون إلى الأقليات العرقية. على الرغم من أن أسلوب التربية هذا يرتبط بالنتائج الإيجابية المنخفضة، إلا أنه عندما يُطبق من قِبل مجموعات الأقليات مقل العائلات الآسيوية والإفريقية، فإنهم يميلون إلى تحقيق نتائج إيجابية. فإن تحديد أهداف معينة صارمة وحازم يعمل بشكل أفضل لهذه العائلات، ويمكن رؤيته من حيث النجاح الأكاديمي أيضًا -وهو شئ يُقدره الآسيويون جدًا- كما أن هناك شريحة كبيرة جدًا من عائلات الأقليات العرقية تعيش في أحياء خطرة بها العديد من المخاطر التي تُهدد سلامتهم وأمنهم. هذا يتطلب من الآباء وضع قواعد صارمة كتقييد التواجد خارج إطار الجماعة أو المنزل، على الرغم من مقاومة الأطفال لهم، إلا أن هذا هو الخيار الأكثر أمانًا

الخلاصة

يُعد اختيار النمط الأبوي الصحيح أمرًا بالغ الأهمية لضمان التطور الإيجابي للأبناء. الأبوة والأمومة موضوع مُعقد جدًا وتؤثر عليه عوامل مختلفة، يجب على المرء ألا يتبنى أسلوب الأبوة والأمومة بشكل أعمى لمجرد أن أقرانه يتبعونه، ولا يسعى لإتباع أحدث الإتجاهات. عندما يتعلق الأمر بالتربية، سيأخذ الوالد الجيد في الإعتبار حاجة الطفل والأسرة أثناء إتخاذ القرارات. فلا يوجد أسلوب تربية مثالي يمكن تطبيقه بالتساوي على جميع المواقف والظروف كما لا توجد صيغة مؤكدة للنجاح بل يجب على الوالدين التكيف مع الاحتياجات المتغيرة للطفل بناءًا على الموقف. في حين أن أسلوب الأبوة الواحد يمكن أن يعمل بشكل مثالي لعائلة واحدة، فقد يلزم مزيج من أساليب الأبوة والأمومة لعائلة أخرى.

المصادر

ncbi

greatschools

melbournechildpsychology

apa

ncbi

springer

كيف يفسّر العلم نظريات المؤامرة؟

مع انتشار فيروس الكوفيد 19 منذ حوالى السنة، ومع اكتشاف عدد من اللقاحات المضادة له في الأشهر الأخيرة، انتشرت بشكل كبير نظريات المؤامرة حول نشر الفيروس من قبل سلطات معينة تارةً وزرع شريحة من خلال اللقاح تارةً أخرى، وغيرها العديد من النظريات. ولكن نظريات المؤامرة ليست جديدة، فهي واكبت البشر في الكثير من الأحداث الضخمة سابقًا، لكن وسائل الإعلام والتواصل الحديثة تساهم في انتشارها أكثر من ذي قبل. فكيف يفسّر العلم نظريات المؤامرة؟ وما هي الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع البعض إلى الإيمان بها؟

ما هي نظرية المؤامرة؟

يمكن تعريف نظرية المؤامرة بمحاولة لتفسير أحداث معينة على أنها مقصودة ومُنفذة من قبل أفراد أو مجموعات لغايات خبيثة أو مؤذية، والاقتناع بها بدلًا من الرواية الرسمية أو العلمية. بل في بعض الحالات، تُستخدم هذه الرواية لإثبات النظرية المزعومة.

وبحسب دراسة نُشرت عام 2018 في “SAGE journals”، تتضمن إجمالًا نظريات المؤامرة خمسة عناصر على الأقل. أولًا، تفسر هذه النظريات علاقات تشابك بين عناصر مختلفة من أشخاص أو مجموعات أحداث أو مواضيع، أي أنها تتضمن نمطًا معينًا (Pattern) لتفسير هذه العلاقات. ثانيًا، تعتبر نظريات المؤامرة (كما يعبّر اسمها) أن الحدث المُنفّذ هو حدث مقصود. ثالثًا، هي تشمل مجموعة أو ائتلافًا من المتورطين، أي أنها لا تنسب تنفيذ الفعل إلى فرد بل إلى مجموعة. رابعًا، تنطوي نظرية المؤامرة على عامل الأذى والتهديد. وخامسًا، تتضمن عامل السريّة، مما  يُصعِّب مهمة نفيها.   

كيف يفسر العلم انتشار نظريات المؤامرة؟

كتب المؤرخ الأميركي «هوفتاتشر – Hofsdadter» في العام 1966 عن بارانويا السياسة الأميركية في كتابه “The Paranoid Style in American Politics” عن ظاهرة نظريات المؤامرة، واعتبره مرتبطًا بشكل أساسي بالسياسة. كما قارنها بالحالة العيادية النفسية حيث يتوهّم المريض أن أحدًا يتربّص به ليأذيه. وقد أثّر هذا الكتاب على التفسيرات التي تبعته عن نظريات المؤامرة، فاعتبرها العديد من علماء النفس أنها نتيجة مباشرة للأمراض النفسية، كوهم الارتياب (Paranoia) والفصام والنرجسية. لكن هذا التفسير لا يكفي نظرًا لانتشار نظرات المؤامرة بين أعداد كبيرة من الناس، في مختلف الدول ومن مختلف الأعمار. لذلك فتش العلماء عن العديد من الأسباب النفسية والاجتماعية والسياسية لتفسير الانتشار الواسع لنظريات المؤامرة حول العالم.

ضعف التفكير النقدي والتحليلي:

تبين الدراسات أن نظريات المؤامرة تكون أكثر انتشارًا في صفوف الأفراد الأقل تعليمًا، وذلك بسبب ضعف التفكير النقدي (Critical thinking) الذي يشكل حماية من نظريات المؤامرة والأخبار الكاذبة. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن المستوى الأكاديمي لا يشير بالضرورة إلى مستوى التفكير النقدي، لأنه مرتبط أيضًا بالنظام التعليمي ونوعيته.

التفتيش عن الشعور بالسيطرة:

أشار هوفتاتشر إلى أن نظريات المؤامرة تنتشر بشكل أكبر بين الفئات الأضعف. وقد أكّد بعده علماء النفس أنها تنتشر في الفترات الأقل استقرارًا أي في مواجهة الكوارث الطبيعية والأحداث الأمنية والأزمات المالية والأوبئة. فبحسب عالم الاجتماع «تيد غورتزيل – Ted Goertzel»، يلجأ الناس إلى نظرية المؤامرة عندما يفقدون أدوات مواجهة حدث معين، فتعوّض عندهم شعور العجز بشعور أكبر بالسيطرة. في المقابل، يعتبر عالم النفس الاجتماعي الهولندي جان-ويليام فان بروجين أن الشعور بالسيطرة يعزز الحماية من الإيمان بنظريات المؤامرة.

كما تُشير دراسات أخرى أن انتشار نظريات المؤامرة مرتبط بشكل وثيق بفقدان الأمن السياسي-الاجتماعي.

يفتش الأفراد في هذه الحالة عن شعور بالسيطرة، لكن الواقع أن ضحايا نظريات المؤامرة يصبحون أقل قدرة على الفعالية والمواجهة، فقد بينت البروفيسورة الأميركية في علم الاجتماع «كارن دوجلاس – Karen Douglas» أن الأشخاص الذين يميلون إلى تصديق نظريات المؤامرة يكونون أقل مشاركةً في العمليات السياسية (كالانتخابات مثلًا) والانتظام في مجموعات، لأنهم يكونون أقل إيمانًا بالقدرة على التأثير والتغيير.

الدوافع الاجتماعية:

قد تكون الدوافع الاجتماعية جزءاً أساسيًا من اللجوء إلى نظريات المؤامرة، التي غالبًا ما تكون أكثر تفشيًا عند المجموعات المغلوبة أو الضعيفة (مثلًا عند مؤيدي الحزب الخاسر في انتخابات معينة) وعند المجموعات التي تعاني من النبذ أو التمييز لأسباب عنصرية أو إثنية أو طبقية. فيكون الإيمان بنظريات المؤامرة في هذه الحالة يشكل تعويضًا نفسيًا جماعيًا عند الفئة الضعيفة، وهروبًا من الشعور بالذنب الجماعي (بسبب الوضعية الضعيفة للجماعة).

كما أن الدراسات النفسية الاجتماعية تربط بين نظريات المؤامرة والنرجسية الجماعية وهي الشعور بالفخر بالانتماء لجماعة معينة، والشعور بأن هذه الجماعة غير مُقدّرة بشكل كافي من قِبل جماعات أخرى.

الأسباب التطورية:

قدّم علم نفس التطور تفسيرات متعددة لنظريات المؤامرة، واعتبرها نتيجة ثانوية لسمات تكييفية اكتسبها البشر خلال تطورهم، سنذكرها فيما يلي.

السمة الأولى هي القدرة على تمييز الأنماط (Pattern perception)، فنحن البشر نعتمد الأنماط، أي الربط بين عناصر مختلفة، كوسيلة لتعلم وفهم كل ما حولنا. وقد ورثنا هذه القدرة من أسلافنا، الذين تمكنوا من اكتساب الأنماط، وربط الأسباب بالنتائج، من أجل إدراك المخاطر وتجنبها.

لكن هذه السمة، على الرغم من أهميتها، قد توقعنا بالخطأ، وقد تدفعنا إلى خلق روابط وهمية بين عناصر غير مترابطة بالضرورة. فنميل مثلًا إلى نسب مشاعر بشرية للحيوانات أو الآلات أو غيرها، أو نميل إلى خلق أسباب تآمرية لنتائج معينة.

السمة الثانية هي كشف النية (Agency detection)، وهي القدرة التكيفية التي تجعلنا قادرين على فهم نية الأعمال، سواءً كانت جيدة أو سيئة. وتعد هذه السمة مهمة جدًا للبشر إذ مكنتهم من التعاطف والتعاون وتجنب المخاطر. ولكن المبالغة بنظام كشف النوايا قد يجعلنا مشككين بقوة، مما يخلق المجال لنظريات المؤامرة.

أما السمة التطورية الثالثة المسؤولة عن نظريات المؤامرة فهي إدراك ومعالجة الخطر والتهديد (Threat management). فقد عاش أسلافنا في محيط محفوف بالمخاطر، مما سمح بتطوير نظام عقلي يسمح بتوقعها وبالتالي تجنبها. وقد يكون خلق أو تبني نظرية المؤامرة نتيجة لنظام كشف التهديد، مما يخلق شعورًا بالأمان عند البشر.

ختامًا، مازالت الدراسات غير وافية لشرح وتفكيك نظريات المؤامرة، نظرًا لحجم انتشارها في العالم. كما أننا بحاجة ملحة لدراسات حول نتائجها على ضحاياها. ولكن الأكيد أن مواجهة نظريات المؤامرة ممكن من خلال إعلاء صوت العلم والحقيقة على أي صوت آخر.

المصادر:

PubMed

SAGE Journals

Britannica.com

The British psychological society

بين التحيز لمحورية الذات والرهاب الاجتماعي، ما رأي العلم؟

هذه المقالة هي الجزء 17 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

بين التحيز لمحورية الذات والرهاب الاجتماعي، ما رأي العلم؟ هل وجدت نفسك يومًا في موقف محرج وأخذت تعيده في رأسك مرارًا وتكرارًا معتقدًا أنها نهاية العالم؟ هل وقفت أمام حشد للتحدث وشعرت بنظراتهم تخترقك كأنهم يقرأون كل ما تشعر به؟ موقف ليس بالهين، من منا يريد هذا القلق في حياته؟ لا أحد بالطبع. لكن أنا هنا لأخبرك أنك لست وحدك، كما سأطلعك على رأي العلم في هذه المواقف، وربما تدهشك النتائج!

«تحيز التمركز حول الذات-Egocentric Bias»

تحيز التمركز حول الذات هو نوع من التحيز المعرفي يجعل الأشخاص متمركزين حول وجهة نظرهم عن الحياة والأحداث التي تحدث لهم أو لغيرهم. وبالتالي يجدون صعوبة في استيعاب اختلاف وجهات نظر الآخرين، أو يتجاهلونها كليًا. هناك العديد من الأمثلة التي يظهر فيها هذا النوع من التحيز منها:

  • شعور الشخص في الأحاديث العامة أمام جمهور بالتوتر، كما يعتقد أن توتره واضح تمامًا للجميع، فقط لأن توتره واضح لنفسه.
  • عدم قدرة الشخص الذي تعرض لموقف محرج أن يتناساه، كما يبالغ في احتمالية تذكر الجميع لهذا الحدث. فقط لأنه يتذكره جيدًا.
  • اعتقاد الشخص أن زملائه وأصدقائه يتشاركون جميع معتقداته ومبادئه، ذلك لأنه منغمس بها كليًا للدرجة التي لا تمكنه من تخيل أن الآخرين قد يمتلكون آراءًا مخالفة.

وكما يتضح من الأمثلة سنناقش تحيز التمركز حول الذات اليوم في إطار اجتماعي، بالتحديد على مستوى الفرد، كيف يرى الفرد أفعال الآخرين وكيف تكون ردود أفعاله عليها؟

تأثير تسليط الضوء

عرفنا أن تحيز التمركز حول الذات يظهر في كثير من التعاملات الحياتية. ونجد المشترك بينها جميعًا اعتماد الشخص بشكل أساسي على وجهة نظره، فيُسقط مشاعره وأفكاره ومعتقداته ورغباته على الآخرين. مستهينًا أو متجاهلًا مشاعرهم أو أفكارهم الخاصة.

هناك نمطان يظهر فيهما تحيز التمركز حول الذات بشكل واضح وخاص. أولهما «تأثير تسليط الضوء-Spotlight Effect»

يمكننا فهم هذا التأثير من خلال المثال الذي طرحناه سابقًا عن الموقف المحرج وعدم قدرة المرء على تناسيه. فيُعرف علماء النفس الاجتماعي هذا التأثير أنه ميل الشخص للإفراط في تقدير انتباه الآخرين له. فيشعر كأن الضوء مسلط عليه بينما يغفل حقيقة تمركز اهتمام الآخرين حول أنفسهم أيضًا.
أول من درس هذا التأثير وقدمه للعالم هو عالم النفس الاجتماعي توم جيلوفيتش. أحد أشهر التجارب التي قام بها وأكثرها طرافة هي تجربة القميص. سأل جيلوفيتش مجموعة من الطلاب أن يرتدوا قمصانًا ليومهم الدراسي اللاحق. ارتدت نصف المجموعة قمصانًا مطبوع عليها صور محرجة مثل صورة هتلر، وارتدى النصف الآخر قمصانًا مطبوع عليها صور لشخصيات محبوبة مثل مارتن لوثر كينج أو بوب مارلي. ثم سألهم في نهاية اليوم عن تقديرهم لنسبة الأشخاص الذين لاحظوا قمصانهم، كذلك سأل طلابًا عشوائيين في الحرم الجامعي إذا ما لاحظوا أحد هؤلاء الطلاب ذوي القمصان الرائعة أو المحرجة.

جاءت نسبة المشاركين (تقديرهم لنسبة الأشخاص الذين لاحظوهم) مقارنة بنسبة الطلاب (الأشخاص الذين لاحظوهم بالفعل) 2:1. فعندما اعتقد المشاركون أن مائة شخص لاحظ قمصانهم، كانت النسبة الفعلية خمسين شخصًا فقط.

قام جيلوفيتش وغيره بعدد من التجارب الأخرى حتى تأكد من وجود تأثير تسليط الضوء. وهو اعتقاد الأشخاص أن الآخرين يراقبونهم طوال الوقت بينما الحقيقة أنهم لا يفعلون، بل هم منشغلون في مراقبة أنفسهم فقط!

وهم الشفافية

النمط الثاني الذي يظهر فيه تحيز التمركز حول الذات هو «وهم الشفافية-Illusion of Transparency» هذا النمط هو ببساطة اعتقاد الشخص أنه أكثر شفافية ووضوحًا مما هو/هي عليه بالفعل. فيميل إلى المبالغة في تقدير ما يظهر من مشاعره. والمثال على ذلك ما طرحناه في بداية المقال عن الشخص الذي يتحدث أمام جمهور فيشعر أن نظراتهم تخترقه، ويمكنهم رؤية توتره بمنتهى الوضوح.

اختبر العلماء وهم الشفافية بعدد من الدراسات، منها: دراسة طلب فيها العلماء من المشاركين قول عدد من الجمل أمام جمهور، بعضها حقيقي وبعضها كاذب. ثم سؤالهم عن توقعاتهم هل سيصدقهم الجمهور أم لا؟

اعتقد أغلب المشاركين أن دلائل الخداع من توتر وقلق ظهرت على وجوههم عند قول الجمل الكاذبة، وهو ما تعارض مع النتائج الفعلية. بالرغم من مقدرة الأشخاص على اكتشاف الجمل الكاذبة في بعض الأحيان، إلا أن الأغلب لم يستطع ذلك. وهنا نستطيع القول أن وهم الشفافية له وجهان. الأول: إجادة البشر للكذب أكثر مما يعتقدون. الثاني: مبالغة البشر في تقدير ما يظهر من مشاعرهم، فيشعرون تحت الضغط أن جميع أسرارهم ونقاط ضعفهم واضحة أمام الجميع. وهو ما يتعارض مع الواقع بالطبع.

السؤال الأهم: لماذا؟

يمكننا ملاحظة التشابه العام بين نمطي التحيز، فكلا من تأثير تسليط الضوء ووهم الشفافية يتشابه في مصدره. وهو التركيز على آرائنا وأفكارنا ومشاعرنا وصعوبة التحول منها لتبني آراء وأفكار ومشاعر الآخر. والسؤال الأهم هنا: لماذا يحدث ذلك؟

  • السبب الأول بديهي نوعًا ما، نحن نقضي جُل أوقاتنا في التفكير واختبار الأحداث من وجهة نظرنا الشخصية. وبالتالي حينما نشعر بضرورة تبني موقف الآخر أو النظر إليه من وجهة نظره، نجد صعوبة في ذلك. فلا نستطيع الخروج من دائرة أحكامنا ومعتقداتنا، ونعتقد أن الجميع يشاركوننا إياها.
  • ثانيًا الاستدلال: الاستدلال هو اختصارات ذهنية يستخدمها المخ لاتخاذ القرارات وإصدار الأحكام بسرعة وبسهولة، على حساب الوقوع في بعض الأخطاء أحيانًا. يحدث التحيز حينما يستخدم المخ هذه الاختصارات ويفترض أن الآخرين يشاركوننا نفس أفكارنا عوضًا عن تقييم أفكارهم بالفعل.

الرهاب الاجتماعي وتأثير تسليط الضوء

يختبر مصابو الرهاب الاجتماعي خوف مزمن من أي نشاط اجتماعي. خاصة المواقف التي تتضمن احتمالية الحرج أو الرفض أو إصدار الأحكام. وبالرغم من معرفة هؤلاء الأشخاص عدم منطقية خوفهم إلا أنهم لا يستطيعوا التحكم به، وينتهي بهم الأمر متجنبين أغلب هذه المواقف أو مجبرين أنفسهم عليها تحت ضغط وقلق كبير.

يرتبط تأثير تسليط الضوء الذي ناقشناه مسبقًا بهذه الفئة من الأشخاص بشكل كبير. فعلي الرغم من أن جميعنا يختبر الحرج أو القلق في مواقف ما، إلا أن هذا الشعور متضخم للغاية عند مصابي الرهاب الاجتماعي. فيشعرون أن العيون والأضواء مسلطة عليهم في كل لحظة تفحص وتدقق وتضخم عيوبهم. وقد يصل بهم الأمر إلى عدم القدرة على متابعة الحياة بشكل طبيعي. مثال: إذا كنت مصابًا بالرهاب الاجتماعي وخرجت إلى عملك دون أن ترتب شعرك، ستشعر أن الجميع ينظرون ويطلقون أحكامهم عليك، وربما تشعر بالخجل وتختبيء من زملائك في العمل معتقدًا أنهم سيسخرون منك أو يشفقون عليك.

الخطوة الأولى في طريق التعايش مع هذا الرهاب هو الوعي. وعيك ومعرفتك بحقائق بسيطة مثل تأثير تسليط الضوء أو وهم الشفافية يمكن أن يقلل الضغط الذي تشعر به بشكل كبير. ماذا نحتاج أكثر من حقائق مثبتة علمًا كي نتأكد أن البشر لا يلاحظوننا بالقدر الذي نعتقده ولا يقرأون أفكارنا؟

لكن هنا يجدر ذكر أمر آخر وهو أن المعرفة لا تساوي الحل، بعض الحالات لا يكفيها سرد الحقائق والتجارب العلمية كي تتحسن، بل يمكننا القول أن هذا هو الأغلب. وهنا يجدر بالشخص مراجعة الطبيب والالتزام بأدوية معينة.

بين التحيز لمحورية الذات والرهاب الاجتماعي، ما رأي العلم؟

البشر ليسوا قارئي أفكار

هكذا أود أن أختم حديث اليوم، بتذكير بسيط أن البشر لا يستطيعون قراءة أفكارنا ورؤية نقاط ضعفنا. كذلك لا يهتمون كثيرًا بعثراتنا المحرجة وعلى الأغلب لا يتذكرونها. لكن فلتنذكر نحن ما ناقشناه عن بعض مفاهيم علم النفس الاجتماعي (على مستوى الفرد) وهي وهم الشفافية وتأثير تسليط الضوء. كذلك الدور الذي يلعبه هذا التأثير عند مرضى الرهاب الاجتماعي.

اقرأ أيضًا: تجربة ميلغرام: لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

المصادر

كيف تساعد طفلك المصاب بعسر القراءة؟

يتعلم كل طفل ويتطور وفقًا لقدراته وسرعته الخاصة وبشكل فردي. والقراءة مهارة لا تختلف عن المهارات الأخرى. فمن الشائع جدًا أن يجد الأطفال صعوبة في القراءة في مراحل تعليمه الأولى. لكن ماذا إذا أصبح تعلم القراءة صراعًا مستمرًا يجعل الطفل متخلفًا عن أقرانه؟ سيؤدي به الأمر إلى ما يعرف بـ اضطراب التعلم كما يعرف بأنه عُسر القراءة. فما هو عسر القراءة وكيف تساعد طفلك الذي يعاني من صعوبات التعلم الأكثر شيوعًا؟

ما هو عسر القراءة؟

عسر القراءة هو نوع من صعوبات التعلم، يعاني فيه الطفل من صعوبة معالجة الكلمات او الأرقام. وهناك أنواع من صعوبات التعلم، عسر القراءة هو المصطلح المستخدم للتعبير عن صعوبة تعلم القراءة على الرغم من أن الطفل حقًا يريد التعلم. كما يؤثر عسر القراءة على قدرة الأطفال على إدراك الأصوات في اللغة والتلاعب بها. فيصبح لديهم صعوبة في تشفير الكلمات الجديدة أو تقسيمها إلى أجزاء يمكن نطقها مفردة. فيسبب ذلك صعوبة في القراءة والكتابة والهجاء. قد يعوضون ذلك عن طريق حفظ الكلمات الجديدة، وقد يكونون بطيئين في استرجاع الكلمات المألوفة.

إن عسر القراءة ليس انعكاس لمدى ذكاء الطفل- في الواقع هو فجوة بين قدرة الطفل وانجازه_ فيستطيع بعض الأطفال المصابين بعسر القراءة م اكبة أقرانهم بجهد إضافي على الأقل في المراحل الأولى من التعليم الأساسي. لكن بحلول الصف الثالث أو الرابع من المرحلة الأولى في التعليم عندما يحتاجون إلى أن يكونوا قادرين على القراءة بسرعة وطلاقة من أجل مواكبة مهارتهم، فإنهم يشعرون أن هناك مشكلة! بالمساعدة وبعض أساليب التعويض عن ضعفهم في معالجة الكلمات، يمكن للطلاب الذين يعانون من عسر القراءة تعلم القراءة والتفوق أكاديميًا.

ما مدى انتشار عسر القراءة؟

تشير الدراسات إلى أن ما يقرب من واحد من كل خمسة أطفال يعاني من عسر القراءة. وأن من 80 إلى 90 بالمائة من الأطفال الذين يعانون اضطرابات التعلم يعانون من عسر القراءة. وتشير الدكتور سالي شايويتز- المدير المشارك لمركز ييل لعسر القراءة والإبداع، إلى أن العديد نن الأطفال لا يتم تشخيصهم لإن الصعوبات في المدرسة تعزى -بشكل غير صحيح- إلى الذكاء، مستوى الجهد، الأداء والعوامل البيئية. وعلى الرغم من أن الخبراء كانوا دائمًا ما يؤكدون أن صعوبات التعلم تشيع بين الأولاد بصورة أكبر من الفتيات؛ إلا أن الأبحاث الحالية تشير إلى أنه يؤثر على الأولاد والبنات على حد سواء.

ما هي علامات عُسر القراءة؟

تلك هي بعض السلوكيات والأعراض التي تُعتبر علامة على أن الطفل. مصاب بعُسر القراءة:

  • يبذل مجهودًا كبيرًا في تعلم القوافي البسيطة.
  • قد يعاني من تأخر الكلام.
  • يكرر أو يحذف الكلمات القصيرة أو الروابط أثناء النطق مثل و..و .. لكن ،..
  • يجد صعوبة في التمييز بين اليمين واليسار.

وعلى صعيد المدرسة، نجد الأطفال المصابون بعسر القراءة يقومون بما يلي:

  • يجدون صعوبة في نطق كلمات جديدة.
  • يفتقر الطفل إلى الطلاقة في الكلام مقارنةً بأقرانه.
  • يقرأ كلمات الجملة أو الأرقام بشكل عكسي.
  • لديه صعوبة في تدوين الملاحظات أو نسخ الكلمات من على السبورة أو اللوحة التعليمية.
  • يبذل مجهودًا في ربط الأصوات بالحروف وتسلسل الأصوات وترتيبها.
  • يتعثر قي تهجئة الكلمات الشائعة.
  • التهرب من القراءة بصوت عالٍ.

ونجد أن عسر القراءة يؤثر على الأطفال خارج المدرسة، فنجدهم يعانون من بعض الأمور الأخرى كالآتي:

  • يجدون صعوبة في فك وفهم الرموز والشعارات
  • يكافحون عند محاولة تعلم قواعد الألعاب مع أقرانهم.
  • يجدون صعوبة في تتبع الاتجاهات متعددة الخطوات.
  • يجدون صعوبة في تعلم لغة أخرى.
  • يصبحون محبطين بشكل كبير، مما يؤثر على استقرارهم واتزانهم العاطفى.

ومن هنا يمكننا القول بأن صعوبات التعلم يمكن أن يمتد أثرها إلى ما هو أبعد بكثير من القراءة، فيمكن أن يؤثر على الأطفال اجتماعيّا ونفسيًا.

كيف يمكن أن يؤثر عسر القراءة على الأطفال اجتماعيًا ونفسيًا؟

تقول سكوت بيزيلكز- المدير التنفيذي لمدرسة اعداديه متخصصة في تعليم الأطفال الذين يعانون من اضطرابات التعلم،

“يمكن للشخص المصاب بعسر القراءة والذي يعانى من صعوبات في العثور على الكلمات أن يواجه مشكلة في لغته التعبيرية”

كما تؤكد:

“غالبًا ما يُتهمون بعدم بذل جهد كافٍ لتعلم القراءة”

ولهذا تأثير إجتماعي كبير، إذ يجعلهم يشعرون بعدم الراحة تجاه أنفسهم. وغالبًا ما يعاني الأطفال – خاصة أولئك الذين لم يتم تشخيصهم بعد- من تدني احترام الذات لقلقهم وشعورهم بأن هناك شيئًا ما خطأ لديهم.

حيال تلك المشكلة تقول د. بيزيلكو:

“الكثير من عملنا مع الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة هو مساعدتهم على إعادة اكتشاف ذكائهم”

وتؤكد:

“لإنهم توقفوا عن الإيمان بأنفسهم”

كيف يتم تشخيص عسر القراءة؟

من السهل أن تلتفت إلى هذا الأمر إذا كان طفلك لا يؤدي الأداء المتوقع في القراءة حسب مرحلته التعليمية، يمكنك حينها التواصل مع المدرسة التابع لها طفلك لطلب إجراء تقييم صعوبات التعلم، الذي بدوره يحدد العجز في القدرة على القراءة مع استبعاد الأسباب الأخرى المحتملة، كمشاكل السمع أو أحد العومل الاجتماعية أو البيئية أو المعرفية. ثم مشاركة النتائج معك.

ستحاول المدرسة بعد ذلك تقديم توصيات حول كيفية دعم وتعويض تلك الصعوبة لرفع أداء طفلك. يمكنك أيضًا اللجوء إلى المختصين أيضًا في هذا علاج مثل تلك المشكلة كالطبيب النفسي، أخصائي علم النفس بالمدرسة أو أخصائي التخاطب واللغة، لدعم طفلك والحصول على أفضل الأساليب العلاج والمساعدة.

متى يجب عليك تقييم طفلك؟

يقترح الخبراء والباحثون أنه لا يجب خضوع الطفل لتقييم صعوبات التعلم وعسر القراءة حتى يبلغ سن ست سنوات على الأقل. كما ينصحون بأنه مجرد ظهور فجوة الذكاء ومهارات القراءة أو ظهور بعض أعراضها في الصف الأول من التعليم الأساسي مثلاً، فمن الجيد أن تبدأ في فك ضفائر تلك المشكلة والتعامل معها لمساعدة طفلك باللحاق بأقرانه وتعزيز صورته الذاتية التى قد تكون “هشة”.

كيف يمكنك تقديم الدعم والمساعدة للأطفال الذين يعانون من عسر القراءة؟

لا يعني تشخيص صوبات التعلم أن طفلك لن يتعلم القراءة أبدًا! بل هناك العديد من برامج القراءة مثل:

  • نموذج ويلسون للقراءة-Wilson Reading System
  • منهج أورتن جيلينجهام -The Orton-Gillingham Approach
  • منهج منع الفشل الأكاديمي- (Preventing Academic Failure (PAF)
  • برنامج لينداموود- Lindamood-Bell Program
  • اسلوب RAVE-O

تلك البرامج يمكنها أن تساعد طفلك، والتى تتضمن بعض المميزات التى تعمل بشكل أساسي على المهارات الأساسية مثل:

  • وجود تعليمات متعددة الحواس في تعلم مهارات فك التشفير.
  • التكرار ومراجعة الكلمات بإستمرار.
  • التركيز
  • العلاج والممارسة في مجموعة أو بشكل فردي.
  • الإعتماد بشكل كبير على حاسة البصر واستخدامها في ربط المعلومات.
  • استراتيجيات لمساعدة الأطفال على استخلاص المعنى مما يقرؤنه
  • ويمكن للمعالج المختص تحديد البرنامج المناسب والأمثل حسب مرحله طفلك.

طرق اخرى لدعم الطفل المصاب بعسر القراءة.

من المهم جدًا دعم جهود طفلك من خلال التشجيع والمساعدة في القراءة في المنزل. حاول أن تمنح طفلك دائمًا فرصًا لبناء الثقة والنجاح في مجالات أخرى مثل الرياضة والهوايات كما يمكنك القيام ببعض الأشياء التى يمكن أن تساعد الطفل المصاب بعسر القراءة مثل :

  • الإستماع الي الكتب الصوتية كبديل للقراءة.
  • الكتابة على الكمبيوتر أو الجهاز اللوحي بدلاً من الكتابة باليد.
  • استخدام التطبيقات والألعاب التى تجعل عملية التعلم ممتعة عن طريق استخدام الكلمات في الألعاب.
  • استخدام المسطرة لمساعدة طفلك على القراءة بخط مستقيم مما يحافظ على تركيزه.

يمكنك أيضًا الاطلاع على آثار التأديب الجسدي للأطفال من هنا التأديب الجسدي للأطفال

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

هذه المقالة هي الجزء 16 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟ وقعت العديد من الأحداث الشنيعة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ولعل أبرزها المحرقة الجماعية (الهولوكوست) لليهود على يد النازيين في معسكرات الإبادة. بعد انتهاء الحرب العالمية وإعلان هزيمة الحزب النازي وانتحار هتلر، عُقدت محاكمة نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب وقادة الحزب ومرتكبي الإبادة الجماعية. حاول هؤلاء الدفاع عن أنفسهم وساقوا عددًا من المبررات ولعل أكثرها إثارة للاهتمام هو الإدعاء أنهم كانوا يطيعون أوامر السلطة وحسب. لك أن تتخيل مدى برودة هذا الإدعاء واستفزازه لمشاعر الضحايا أو ذويهم أو حتى عالِم نفس فضولي!

دراسة ميلغرام

قرر ستانلي ميلجرام عالم النفس في جامعة يال التحقق من إدعاء الألمان بشأن السلطة، فقام بدراسة للإجابة عن السؤال أيهما ينتصر: الطاعة/ الخضوع للسلطة أم الإرادة/ الضمير البشري؟

https://www.youtube.com/watch?v=mOUEC5YXV8U
مقطع مختصر لتجربة ميلغرام

أُجريت الدراسة عام 1961 في جامعة يال، حيث نشر ميلجرام إعلانًا في الجريدة يطلب متطوعين من الرجال للمشاركة في تجربة عن الذاكرة والتعلم. تقدم أربعين مشاركًا ما بين عمر العشرين والخمسين، جُمع كل واحد منهم مع أحد الحلفاء (ممثل يوظفه القائم بالتجربة يدعي أنه مشارك حقيقي) وقاموا بسحب ما. رتب ميلجرام السحب بحيث يحصل المشارك على دور المعلم والممثل على دور المتعلم دائمًا. من الجدير بالذكر أن ميلجرام لم يظهر في مكان التجربة وإنما عين ممثلًا يرتدي معطفًا أبيضًا ليقوم بدوره. يشرح هذا الممثل للمشارك أن عليه طرح الأسئلة على المتعلم وإذا جاءت إجاباته خاطئة يصعقه كهربيًا، بحيث تزداد شدة التيار عند كل إجابة خاطئة، بداية من 15 فولت وانتهاءًا بـ 450 فولت.

هدف التجربة وخطواتها

هدِف ميلجرام من هذه التجربة معرفة مدى تأثير السلطة على الأشخاص العاديين، وتحت أي ظروف يمكن لهؤلاء الأشخاص ارتكاب أفعال سيئة.

تجري خطوات التجربة كما يلي: يذهب الممثل (المتعلم) إلى غرفة أخرى وتُثبت الإلكترودات بذراعه بينما يحصل المشارك الحقيقي (المعلم) على قائمة بالأسئلة. يبدأ المشارك بقراءة الكلمات ويجيب الممثل دائمًا إجابات خاطئة ثم يدعي التألم والصراخ حينما يضغط المشارك على زر الصعق. يزداد توتر المشاركين بمرور الوقت لسماعهم تألم الشخص في الجانب الآخر، وعندما يعترض أحدهم أو يطالب بالتوقف يستخدم الممثل بالمعطف الأبيض نبرة واثقة ويوضح لهم وجوب استمرار التجربة وأنه يتحمل المسئولية كاملة.

نتائج التجربة

قبل بداية التجربة سأل ميلجرام عددًا من الأشخاص وعلماء النفس عن توقعاتهم لنسبة الأشخاص الذين سيصلون إلى أقصى شدة للصعق الكهربي (450 فولت) وجاءت توقعاتهم أن النسبة لن تتعدى 2%. أثبتت النتائج الفعلية عكس ذلك تمامًا، حيث أشارت الدراسة أن 65% من المشاركين وصلوا إلى الحد الأقصى (450 فولت) و 100% من المشاركين تخطوا حاجز 300 فولت وذلك رغم سماعهم صراخ وتألم الشخص على الجانب الآخر.

يقول ميلغرام:

“على الرغم من أهمية الجوانب الأخلاقية والقانونية لمفهوم الطاعة إلا أنها تخبرنا القليل عن سلوك الأشخاص في المواقف الحقيقية. لقد أعددت تجربة بسيطة في جامعة يال لأختبر قدر الألم الذي يسببه شخص إلى آخر فقط لأن عالم بمعطف أبيض أمره بذلك. عندما حرضت السلطة الحازمة المشاركين ضد الوازع الأخلاقي القوي وهو عدم إيذاء الآخرين، وبالرغم من أن صرخات الألم كانت تملأ آذانهم، انتصرت السلطة دائمًا”

الوصفة المثالية للجريمة!

أعاد ميلجرام التجربة ثماني عشرة مرة بتعديلات مختلفة ليختبر العوامل التي تؤدي إلى هذه النتائج، وجاءت ملاحظاته كالتالي:

تقل نسبة الأشخاص الذين يصلون إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية (450 فولت) في عدد من الحالات:

  • عند نزع سلطة جامعة يال من المعادلة، والقيام بالتجربة خارج الجامعة.
  • عندما يكون المعلم والمتعلم في غرفة واحدة بحيث يمكن للمشارك أن يراه ويلمسه.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات هاتفيًا.
  • عندما يتلقى المشارك التعليمات من شخص عادي لا يرتدى المعطف الأبيض.
  • عندما يثور أحدهم ويرفض استكمال التجربة فيتبعه المشاركين الآخرين.
  • عند منح المشاركين اختيار مستوى الصدمة الكهربية، فيختارون الأقل دائمًا.

وبجمع هذه العوامل معًا توصل ميلجرام إلى الوصفة المثالية لجعل شخص ما يرتكب جرمًا شنيعًا:

  1. السلطة (سلطة جامعة يال- سلطة العلم والمعطف الأبيض)
  2. ثقة وثبات القائم بالتجربة (لو أظهر القائم بالتجربة توتره أو خوفه لاختلفت النتيجة)
  3. المسافة بين المعلم والمتعلم.
  4. موقف جديد بلا أي خبرة سابقة عن كيفية التصرف معه.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

القوى المحركة للشر

الآن كيف يمكن لعناصر هذه الوصفة المثالية أن تدفعنا إلى فعل جرم شنيع؟ ما الذي يحدث على مستوى سيكولوجي فردي يقلل من فداحة الشر ويُسهل ارتكابه؟

هناك اثنان من العوامل الرئيسية التي يمكن وصفها بقوى الشر، أولها:

«تجريد الشخص من فردانيته-Deindividuation of self»

ويحدث ذلك بعدد من الوسائل التي تقلل من شعور المرء بنفسه كفرد مستقل وبالتالي تقلل من شعوره بالمسئولية: –

  • استقبال الأوامر من شخص أو سلطة أخرى.

وبالتالي تتغير عقلية الفرد من: أنا أرتكب فعلًا خاطئًا، إلى: أنا فقط مجرد أداة في يد سلطة أخرى تتحمل المسئولية. يعد تحمل المسئولية بالتحديد أحد العوامل المحورية التي فسر بها ميلجرام نتائج دراسته. فأشار أنه عند تواجد سلطة يراها المشاركون قانونية أو أخلاقية (مثل سلطة العلم) يتحول الشخص في تصرفاته من الحالة الفردية إلى «الحالة العاملية-Agentic State» فيقل شعوره بالمسئولية ويسهل ارتكاب الخطأ.

  • وجود الشخص في مجموعة.

عندما يتواجد الفرد في مجموعة يقل شعوره بفرديته ومسئوليته عن أفعاله. وأشهر الأمثلة التي يبرهن بها علم النفس ذلك: «حادثة كيتي چينوفيز-Kitty Genovese Case»

كيتي جينوفيز فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها. تعرضت لاعتداء أثناء عودتها من العمل أدى إلى وفاتها، حدث الاعتداء في مساحة مفتوحة أمام المبنى الذي تسكنه. وأشار تقرير جريدة نيويورك تايمز أن ما يقرب من 38 شخصًا شهد الحادث ولم يبلغ الشرطة أو يقدم المساعدة. (من الجدير بالذكر أن الجريدة أصدرت تقريرًا آخرًا عام 2016 تعتذر عن التقرير القديم وتصف أرقامه بالمبالغ فيها، كما تؤكد تواجد بعض الأشخاص وتقديمهم المساعدة وقت الحادث بالفعل)

فسر علم النفس هذه الظاهرة فيما يعرف بـ «تأثير المارة-Bystander Effect» وهو انخفاض الشعور بالمسئولية عند التواجد في مجموعة، مثلما تشاهد محتاجًا في الشارع، فتحدث نفسك أنني لست مضطرًا لتقديم المساعدة، من المؤكد أن شخصًا آخرًا سيقدمها. ويوضح علماء النفس أن هذا التفكير يخلق حالة من «تفرق الشعور بالمسئولية-Diffusion of responsibility» فتقل احتمالية تقديم المساعدة.

  • إغفال الهوية

مثلما يفعل الجنود في الحروب فيرسمون على وجوههم أو يرتدون الأقنعة، تعد هذه الوسائل نوعًا من إخفاء الهوية، فيتحرر صاحبها من شعوره بفرديته (لست أنا من يرتكب الفعل السيء) وبالتالي يقل شعوره بالمسئولية.

القوة الثانية: استصغار الآخرين

على عكس الدافع الأول، يعتمد هذا الدافع على تجريد الآخر من فرديته. فهذا الشخص الآخر ليس شخصًا بعد الآن، ولن أشعر بالذنب إن آذيته. وهناك عدد من الوسائل التي تجعلنا نستصغر الآخرين أو ننسى أنهم بشر مثلنا. وهي: –

  • المسافة

كما وضحت تجربة ميلجرام، كلما ابتعدت الضحية عن ناظر المعلم فلا يستطيع رؤيته أو لمسه، يقل إدراكه له كفرد. وبالتالي تقل المسئولية فيصل إلى الحد الأقصى للصدمة الكهربية رغم سماعه صرخات الألم. وتنعكس النتائج عندما يكون الشخصان في نفس المكان.

  • حس الدعابة

لا يقتصر حس الدعابة على الضحك والخفة فقط، بل يمكن أن ينطوى على جوانب أكثر قتامة وخطرًا. فعند استخدامه للسخرية من شخص ما، ستراه تدريجيًا أقل إنسانية منك، مما يزيد من احتمالية الأذى ونقص الشعور بالمسئولية.

  • تجاهل الأسماء

ينص أحد بنود تصريح الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: ” كل فرد لديه الحق في اسم ” وربما تظن أن هذا أمر بديهي. لماذا نحتاج إلى بند لتأكيده؟ والحقيقة أن تجاهل اسم شخص ما أو محوه يقلل من أهميته وقيمته كفرد. يقل احتمال أذاك لشخص ما إن كنت تعرف اسمه، أما عند تجاهله تزداد احتمالية الأذى ويقل الشعور بالمسئولية.

  • التقزز

التقزز شعور عالمي يشعر به جميع البشر، وأساسي له تعبير وجهي مميز. تثير العديد من الأشياء شعورنا بالتقزز مثل البراز أو البول أو الدم أو القيء أو اللحم المتعفن. يمكن أن يمتد شعور التقزز للبشر أيضًا. إذا شعرت بالتقزز تجاه شخص ستقل أهميته وإنسانيته في نظرك، وتزداد احتمالية عدوانك عليه دون شعور كبير بالمسئولية.

تشير مقولة الفيلسوفة مارثا نوسباوم:

“دائمًا ما ارتبطت صفات التقزز باليهود والنساء والمثليين جنسيًا والمنبوذين والفقراء على مدار التاريخ، فكان يُنظر إليهم كأنهم أصحاب أجسام مدنسة”

كل شخص ينتمي لهذه الفئات تعرض لنوع من الاعتداء أو الأذى، وساهم شعور التقزز الذي حمله الناس تجاه هذه الفئات في تقليل إنسانيتهم في نظرهم، وبالتالي تسهيل الاعتداء عليهم دون احساس كبير بالمسئولية.

تجربة ميلغرام : لماذا يرتكب الأشخاص الصالحون أفعالًا شنيعة؟

أود أن أنهي الحديث بأشهر الانتقادات التي وجهت لتجربة ميلجرام. يجدر بالذكر أن هذا النوع من التجارب لا يسمح بتكراره حاليًا ولا يعد أخلاقيًا. فلم يكن من حق القائم بالتجربة تحت أي ظرف من الظروف أن يضع المشاركين تحت هذا الضغط، ليخرج أحدهم من الغرفة وهو يعلم أن بإمكانه إيذاء شخص ما وربما قتله إذا توافرت الظروف لذلك. لكن على الرغم من ذلك تظل أعمال ميلجرام عن الطاعة والسلطة مثيرة للاهتمام وتكشف لنا جوانب مثيرة وغامضة عن النفس البشرية لم نكن نعلم بوجودها!

اقرأ أيضًا: الاستثمار الأبوي كيف نفسر الاختلافات بين الرجال والنساء؟

المصادر

  1. BBC
  2. Simplypsychology
  3. Britannica
  4. Verywellmind

معنى الحياة في الرهان المعرفي

معنى الحياة في الرهان المعرفي

جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لستُ أدري!

يثير إيليا أبو ماضي في قصيدة الطلاسم أكثر القضايا قدمًا في تاريخ السؤال البشري. اعتاد الإنسان أن يستفسر عن معنى وجوده في سياقات متباينة ووضع فرضيات كثيرة للوصول إلى إجابة مقنعة، بحيث يمكن وصف المسيرة البشرية بأنها مسيرة موجهة نحو إيجاد معنى للحياة.

وحتى تبدو الحياة ذات قيمة ومعنى، كان على الإنسان أن يتجاوز ظاهرها المادي ويدعي بأنه ثمة هناك جوهر يسكن العالم/الوجود. وهذا ما دفعه إلى تصورات أسطورية في البداية، فقام بأسطرة كل شيء وعرَفه في ظل قوى خفية.

لكن مع مرور الوقت لم يكف الناس عن طرح هذا السؤال بل احدثوا بعض التغيرات في سياقها وحسب. فمنهم من ادعى بأن المعنى يكمن في علاقاتنا الروحية، ومنهم من انزل المعنى إلى مستوى الجسد وقال بأن حياة ذات معنى تتحقق بتحقيق رغباتنا الشخصية. في حين رأى بعضهم في صنع معنى من قبل الفرد كحل حاسم، لكن اخذ اليأس بعضهم من هذا السؤال وقالوا بأن الحياة تفتقر إلى القيمة والمعنى أساسًا.

وفي هذا المقال، سوف نسلط الضوء على النظريات التي ناقشت معنى الحياة.

المنظور الديني:

مسألة معنى الحياة من المسائل المفضلة في النقاش الديني. وقد يحدث أن يتفرد الدين في تقديم الإجابة؛ وذلك لأن الدين نفسه قائم على وجود معنى للحياة سلفًا. ويتمادى في هذا الجانب ويرى في تلك الغاية قيمة أكثر مما تحمله الحياة، لأن تلك الغاية تسبق الحياة ومتقدمة عليها.
على رغم من وجود ديانات كثيرة تتنازع فيما بينها في أكثر القضايا جوهريةً، إلا أن هناك وجهة نظر بهذا الخصوص. وهي: حياة ذات معنى تتطلب وجود الله والإيمان به. بمعنى أن وجود الله جنبًا إلى جنب مع الارتباط المناسب به ضروريين وكافيين لتأمين حياة ذات معنى(1).

يرى الدين في حياة الفرد على أنها جزء من خطة الله في خلق الكون، وما يجعل من حياته ذات قيمة كبيرة ومعنًى نهائي هو أنه يساعد لله في تحقيق تلك الخطة وذلك القصد الإلهي، وإذا ما فشل الفرد في فعل ما يريده الله، يسود اللا معنى في حياته(2).

وفي هذا الصدد يكتب الفيلسوف بليز باسكال: “هذه الهاوية اللانهائية لا يمكن ملؤها إلا بما هو لا متناه وثابت، أي بالله نفسه”. ويعترف القديس أوغسطينيوس: “لقد صنعتنا لنفسك. وقلوبنا مضطربة إلى أن تستقر فيك”(1).

المنظور العلمي:

السؤال عن معنى الحياة إذا ما طُرح في سياق علمي سيحدث الكثير من المغالطات لسببين على الأقل.

أولًا: هناك شيء من الأنانية البشرية في هذا السؤال، إذ نبحث عن معنى يتوافق مع مصالحنا الإنسانية. وهذا السؤال يفترض مسبقًا بأن المعنى يُقاس على الإنسان. أي الإنسان هو العنصر المحكي في تحديد المعنى؛ والعلم لا يمكنه التعامل مع مسألة كهذه. فالإنسان مجرد حلقة تطورية وكيان حيوي كسائر الكائنات.

ثانيًا: لا يتعامل العلم مع غاية الأشياء بالمعنى الذي نريده إنما مع آلية عملها، واستنتاج قيمة أو معنى من هذه الآلية لا يعدو أن يكون أكثر من تأويل فلسفي أو ديني.

ويخبرنا العلماء أن الوجود نشأ من تفاعل عشوائي بين المواد الكيميائية والغازات، وإذا كان له معنى فهو كئيب وضيق جدًا.

فالإنسان حاله حال الأميبا وغيرها من الكائنات، معنى حياته هو انتشار المادة الجينية، هذا صحيح وفي نفس الوقت مؤسف(3). تشبه الحياة لعبة، الهدف منها هو الإستمرار في اللعب.

استطاعت بعض الجينات والأنساب النبيلة من البقاء في اللعبة لفترة أطول، ولكن أين هو المعنى في لعبة لم يسن قواعدها أحد، وفي النهاية لا يمكن الفوز بها. إذن ليس هناك ثمة معنى جوهري للبقاء على قيد الحياة(4). ويعلق لورانس كراوس على ذلك ويقول: “حقيقة تطورنا على هذا الكوكب هي مجرد حادث كوني، والاشخاص الذين يعتقدون بخلاف ذلك من المحتمل أنهم يعانون من وهم ديني”(5).

الطبيعانية أو المذهب الطبيعي:

هناك طبيعانية ذاتية وأخرى موضوعية. الأولى تتميز بكونها متفائلة، فهي تدعي بأن حياة ذات معنًى قوي ممكنة حتى ولو لم يكن هناك إله أو عالم ما بعد الحياة أو فوقها.

وهي تسلم بأن حياة ذات معنى تختلف من شخص لآخر وتقوم على حصول الفرد ما يريده بقوة أو من خلال تحقيق أهداف محددة ذاتيًا أو من خلال تحقيق ما يعتقد المرء أنه مهم حقًا، كما الاهتمام بشيء ما أو حبه بصدق من شأنه أن يجعل الحياة ذات معنى(1).

لكن يؤخذ على هذا المذهب تطرفه الذاتي، فتطبيقه سيكون بمثابة تبرير لكل الأفعال الشنيعة والوحشية طالما أن الأشخاص الذين يقومون بهكذا أفعال يجدون راحة وطمأنينة فيها.

في الطرف المقابل هناك، الطبيعانية الموضوعية. يحاول المذهب الموضوعي معالجة الفجوات التي تتخلل المذهب الذاتي، وهو يؤكد بأن حياة ذات معنى تتأسس على التواصل الفعال والمناسب مع الحقائق الموضوعية المستقلة عن عقل الفرد(1).

ومن الجدير بالقول هو أن الموضوعية لا ترفض الذاتية دائمًا. بل نجد أحيانا أنها ترى في الجانب الذاتي كشرط مهم لتحقيق حياة ذات معنى، وبهذا الصدد تقول سوزان وولف: “ينشأ المعنى عندما يلتقي الانجذاب الذاتي مع الجاذبية الموضوعية”(2).

المنظور الوجودي:

يقسم البعض الوجودية إلى وجودية دينية وأخرى ملحدة، لكن كما يقول بول ريكور التصنيف شأن بيداغوغي وليس معرفي.

ومن جانب آخر يرفض كبار الوجوديين فكرة التمذهب، أي لا يدعون وجود فلسفة وجودية أو موجودية بحتة. لكن هناك نوع من التوافق بين ما نطلق عليهم فلاسفة الوجودية حول إشكال المعنى.

فهم يرفضون وجود معنى للحياة، أي معنًى جاهز، لكنهم يعولون على إمكانية خلق معنى ما في سياق الحرية الفردية. وهذه الحرية كما يقول سارتر، يتم تحديدها بمعزل عن أي تحديد مسبق من قبل الإله أو من خلال قيم أو معرفة موجودة سلفًا”(6).

ولأن الوجودية تخرج الإنسان إلى سياق مختلف عن سياق وجود باقي الكائنات. فهي تركز على الوجود الإنساني على أنه نمط خاص من الكينونة كما يقول هايدغير. فالإنسان حين يلقى في الوجود لا يحمل معه أي معنى أو جوهر، بل هو من يقوم بصنع معنى لوجوده بعد أن يدركه على نحو خاص(6).

وهنا يقول هايدغر في كتابه الأهم (الكينونة والزمان): “السؤال عن معنى الحياة هو السؤال حول كيفية عيش حياة أصيلة، حياة تكون حياتنا نحن دون أن تكون محددة مسبقًا في المجتمع، وأن تعيش حياة أصيلة هي أن تختارها بنفسك”(7).

ولنيتشه فكرة مشابهة، فهو يرسم صورة الإنسان على أنه جسر لا هدف، ويؤكد على أنه مهما كان معنى الحياة أو سيكون، فهو معنًى أرضي وليس سماويًا، ومعنى الحياة هو أن يتم خلقه لا اكتشافه(7).

المنظور العدمي:

ما هو جدير بالإشارة إليه في البداية، أن ما يجعل العدمية مختلفة عن الوجودية هو كونها ترفض حتى إمكانية خلق المعنى.

فهي لا ترفض وجود معنى جاهز وحسب بل تشك حتى في مزاعم الوجودية حول إمكانية صنع معنًى ما؛ وذلك لأنه حياة ذات معنى غير ممكنة على الإطلاق. تركز العدمية على عنصرين مهمين في حياة الإنسان، الشعور بالملل وعدم الرضى، بحجة أن الملل يصف الحياة بشكل كاف على أنها بلا معنى، كما أن حياة الإنسان تفتقر إلى القدر المطلوب من الرضى ليمنحها معنى(1).

وتؤكد بأن ما من شأنه أن يجعل الحياة ذات قيمة إما لا يمكن أن يوجد أو لا يمكن الحصول عليه. كما تزعم بوجود شيء ما في الحالة الإنسانية تمنع المعنى من الظهور(2).

خلاصة:

معنى الحياة من القضايا التركيبية كما يقول أدوارد مور. فمهما حاولنا أن نجعل منها قضية موضوعية نسقط في فخ الذاتية. حكمنا على طبيعة الأشياء لا يتعدى كونه تأويلًا شخصيًا منا، وحتى تلك الاحكام تتغير حسب الزمن وتأخذ مكانها أحكام أخرى. لكن مع ذلك، من الضروري أن يستمر الإنسان في بحثه عن المعنى، وقد يكون البحث هو نفسه المعنى. لا يمكن التغاضي عن أهمية البحث طالما أن السؤال لا يتوقف عن الظهور، ويعد من الاسئلة الحاضرة على الدوام في ظل عالم لا يسكت فيه صوت الحرب. في الوقت ذاته قد يساعدنا هذا السؤال لأن نعيد النظر في الكثير من السرديات التي تربطنا بالعالم وبالآخرين وبأنفسنا.

المصادر:

ما هو التنويم المغناطيسي؟ وما هي تطبيقاته العلاجية؟

ما هو التنويم المغناطيسي؟ وما هي تطبيقاته العلاجية؟

كثيرة هي الخرافات والمفاهيم الخاطئة التي ارتبطت بالتنويم المغناطيسي. وذلك نتيجة للطريقة التي تقدمه بها العروض التلفزيونية والسينمائية على أنه وسيلة للسيطرة على العقول.

التنويم المغناطيسي في السينما

حيث يقوم طبيب نفسي مجنون باستغلال مريضه للانصياع لأوامره وتنفيذ خططه الإجرامية. ولكن خلف هذه الصورة القاتمة تكمن صورة التنويم المغناطيسي الحقيقية، والتي تجيبنا على أسئلة مثل ما هو التنويم المغناطيسي؟ علام يعتمد؟ وما هي تطبيقاته العلاجية؟

بدايةً إن التنويم المغناطيسي هو حالة عقلية طبيعية قد تمر بها في أوقات مخلتفة خلال اليوم الواحد. فمثلا قد تنغمس في نشاط معين يأخذ منك تركيزًا كبيرًا ويفقدك إحساسك بالوقت وبما يحصل حولك في الغرفة. وبالتأكيد هذه الحالة مألوفة لمحترفي الألعاب الإلكترونية والقرّاء النهمين للروايات البوليسية. وبهذا تسقط الخرافة الأولى المتعلقة بالتنويم المغناطيسي. فعلى عكس الصورة النمطية لخبير التنويم المغناطيسي، فإنه لن يجبرك على النوم، بل سيؤمن لك شروطًا تحقق لك يقظة وتركيزًا عاليًا وستخرج من عيادته محتفظًا بذاكرتك حول ما حدث معك أثناء الجلسة لتخبر أصدقاءك عن هذه التجربة الفريدة.

يأخذك المعالج أثناء الجلسة برحلة إلى داخل عقلك الباطن، حيث ُتختَزن جميع ذكرياتك وتجاربك وخبراتك العملية وأفكارك الإبداعية. ومن خلال هذه الرحلة التي تتبع بها إرشادات معالجك يمكنك العثور على إجابات على كثير من الأسئلة العالقة التي تجول في خاطرك، وتساعدك في التخلص من المشاعر السلبية التي تسببت لك بالألم. ولكن هنا قد يطرح تساؤل، هل باستطاعة المعالج السيطرة على عقلك والتحكم بتصرفاتك وخاصة أنك تكون أكثر عرضة لتقبل الاقتراحات والأوامر في هذه الحالة؟

السيطرة على العقول هي الخرافة الثانية المرتبطة بالتنويم المغناطيسي فخلال الجلسة يبقى المريض واعيًا بما يقوله ويفعله وبإمكانه رفض تنفيذ أي طلب يتعارض مع قيمه الأخلاقية ومفاهيمه الأساسية للحياة.(1)

ما هي التطبيقات العلاجية للتنويم المغناطيسي؟


يمكن أن يكون العلاج بالتنويم المغناطيسي وسيلة فعالة للتعامل مع القلق والتوتر فيمكن أن يُستخدَم قبل الإجراءات الجراحية الخطيرة لتخفيف الضغط النفسي على المريض. تمت دراسة التنويم المغناطيسي في حالات أخرى مثل:

قد يساعد التنويم المغناطيسي في تسكين آلام الحروق وآلام الولادة وتخفيف مضاعفات العلاج الكيميائي للسرطان. كما قد يساعد في تخفيف أعراض الهبات الساخنة المرافقة لانقطاع الطمث، بالإضافة إلى ذلك فقد لاقى التنويم المغناطيسي نجاحًا في علاج الأرق والتبول اللاإرادي والمساعدة في الإقلاع عن التدخين و تخفيف الشهية.(2)

تاريخ التنويم المغناطيسي

يعود استخدام حالات النشوة الشبيهة بالمنوم إلى آلاف السنين، لكن التنويم المغناطيسي بدأ في النمو خلال أواخر القرن الثامن عشر على يد طبيب يُدعى فرانز ميسمير. لكن البداية كانت بسبب آراء مسيمير الصوفية، لكن الاهتمام تحول في النهاية إلى نهج أكثر علمية.

أصبح التنويم المغناطيسي أكثر أهمية في مجال علم النفس في أواخر القرن التاسع عشر واستخدمه جان مارتن شاركوت لعلاج النساء اللاتي يعانين مما كان يعرف حينها بالهستيريا. أثر هذا العمل على سيغموند فرويد وتطور التحليل النفسي.

في الآونة الأخيرة، كان هناك عدد من النظريات المختلفة لشرح بالضبط كيفية عمل التنويم المغناطيسي.واحدة من أكثر النظريات شهرة هي نظرية هيلجارد للانفصال الجديد عن التنويم المغناطيسي.
وفقًا لهيلجارد، يعاني الأشخاص في حالة التنويم المغناطيسي من انقسام في الوعي حيث يوجد مساران مختلفان للنشاط العقلي. بينما يستجيب تيار من الوعي لاقتراحات المنوم المغناطيسي ، يقوم تيار آخر منفصل بمعالجة المعلومات خارج الإدراك الواعي للفرد المنوم مغناطيسيًا.(3)

المصادر:

hypnosistrainingacademy
mayoclinic
verywellmind


الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

هذه المقالة هي الجزء 15 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟ يعد الجنس أحد أكثر الأنشطة التي يستمتع بها البشر، ولذلك يحتل مساحة كبيرة في حياتنا. وعده علماء النفس التطوريون واحدًا من أربعة دوافع أساسية محركة للانسان. وهناك بعض الدراسات المثيرة للاهتمام التي تستطلع حجم الجنس في حياتنا. تشير هذه الدراسات أن ممارسة الجنس هو النشاط الأكثر امتاعًا للشخص الأمريكي العادي. فيضعه في مرتبة أعلى من ممارسة الرياضة والصيد والتقبيل والعناق والحديث مع العائلة ومشاهدة التلفاز والأكل والرحلات والتسوق. وتشير أيضًا أن متوسط الوقت الذي يقضيه الشخص العادي في ممارسة الجنس لا يتعدى الأربع دقائق وثلاث ثوان (مع استبعاد الوقت الذي يمر في المداعبة أو القراءة عن الجنس أو التفكير في الجنس أو تصفح المواقع الإباحية). وهو نفس الوقت الذي يقضيه الشخص الأمريكي العادي في ملأ استمارات الضرائب!

الجنس كدافع للحياة

تجعلنا نتائج الدراسات التي أسلفنا ذكرها نتسائل: من أين تأتي أهمية الجنس إذا كان يحتل نفس المساحة التي يحتلها نشاط ممل مثل ملأ استمارات الضرائب؟ والإجابة هي لا، رغم الوقت الضئيل الذي يحتله الجنس في حياتنا إلا أن له أهمية كبرى، وينشأ عنه كل شيء في الحياة تقريبًا. مثل: الزواج والأطفال والفن وحتى العنف والتنافسية.

يمكننا تعريف الجنس من وجهة نظر تطورية أنه بوابة لعبور الجينات إلى الأجيال اللاحقة وبالتالي تحقيق هدف التكاثر. لكن بالنظر في واقعنا الحالي، نجد صورًا متعددة من الجنس غير التكاثري. مثل: الجنس مع استخدام موانع الحمل والجنس المثلي والجنس الشرجي. وهي صور لا تخدم هدف التكاثر وبالتالي يمكن اعتبارها غير طبيعية، فهل يعني هذا أنها خاطئة؟

الأخلاقية والحتمية

هذا ما أود أن نبدأ به مقال اليوم قبل التطرق إلى موضوعه الأساسي، توضيح اثنين من المفاهيم الهامة التي تناقش أخلاقية بعض أوجه الحياة الجنسية عند البشر. وسأبدأ بمقولة لعالم النفس ستيف بينكر:

“لا تملي الطبيعة علينا ما ينبغي تقبله أو كيفية عيش حياتنا، فأنا لم أنجب أطفالًا في سنوات شبابي واستهلكت مواردي البيولوجية في القراءة والكتابة والبحث ومساعدة الطلبة والأصدقاء، متجاهلًا أولوية نشر جيناتي. وبالتالي فأنا خطأ شنيع بالمعايير الداروينية، لكن حياتي تعجبني بهذه الطريقة، وإذا لم ترض جيناتي عن هذا فيمكنها أن تذهب وتلقي نفسها في البحيرة”

نستنتج من مقولة بينكر أن الطبيعي ليس بالضرورة صحيحًا أو مناسبًا أو حتى أخلاقيًا. فمع أن أجسامنا وأدمغتنا تطورت لتخدم هدف التطور فذلك لا يعني أنه ليس بإمكاننا استخدام هذه الأدمغة لتحديد أقدارنا.

أما عن الحتمية فيقول عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز:

“لو أن طفلًا تلقى تعليمًا فقيرًا للرياضيات، فمن السهل تقبل فكرة أن بذل مجهود أكبر العام اللاحق سيحسن من مستواه. لكن لو اقترحنا أن أداء الطفل السيء جيني الأصل سوف ييأس الجميع من تحسن مستواه، إنه أمر حتمي ويستحيل تغييره لو كان جيني الأصل. وهذا هراء كبير! لا تختلف المسببات الجينية والمسببات البيئية عن بعضها، ولكن يسهل عكس تأثير أحدها بينما يصعب الآخر. ماذا فعلت الجينات لتستحق هذه السمعة الشريرة؟ ولماذا يُعتقد أن تأثيرها ثابت ولا مفر منه مقارنة بتأثير الكتب أو التلفاز؟”

ونستنتج من مقولة دوكينز انفصال مسببات الأمور عما يعكس تأثيرها. فهناك حالات ذات منشأ جيني ويسهل عكس تأثيرها، بينما أخرى ذات منشأ ثقافي ويصعب عكس تأثيرها. مثل: ضعف البصر، وهو أمر جيني المنشأ لكن يمكن عكس تأثيره ببساطة. أما نظرة المجتمع للسمنة أمر ثقافي يختلف من مكان لآخر، لكن يمكننا الاتفاق على صعوبة عكس تأثيره.

كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

تحدثنا عن عملية الجنس وهدفها التطوري وهو التكاثر، لكن هل يمكن تحقيق هذا الهدف بدون طرفي المعادلة، الرجال والنساء؟ لا أعتقد ذلك. وسنتحدث اليوم عن الاختلافات بين ذكور وإناث البشر، انطلاقًا من دور كل منهما في العملية الجنسية وما يليها حتى يحدث التكاثر. فما هي هذه الاختلافات؟

بداية ليس الاختلاف اختلاف أعضاء تناسلية، فلا يمكننا القول القضيب أو المهبل. لأنه ببساطة هناك حيوانات لا تمتلك أيًا منهما. أما التمييز التصحيح فيقوم به علماء الأحياء بناءًا على حجم الخلايا الجنسية. يمتلك الذكور خلايا جنسية صغيرة تحوي الجينات فقط، وتمتلك الإناث خلايا جنسية كبيرة تحوي الجينات والغذاء وغلاف واقي وغيرها. لكننا نجد بالرغم من هذا الاختلاف في حجم الخلايا الجنسية ذكور البشر أكبر حجمًا من الإناث، فما تفسير ذلك؟

الاستثمار الأبوي

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

قام بهذا التفسير العالم «روبرت تريفرز-Robert trivers» الذي وضع نظرية الاستثمار الأبوي. ويمكن تعريفه أنه أي بذل أبوي (في الطاقة أو الوقت أو الموارد) يزيد فرصة نجاة الذُرية الحالية، وذلك على حساب قدرة الآباء في الاستثمار في ذرية أخرى.

مثال: تخيل معي اثنين من الحيوانات أحدهما يتكاثر بطرفة عين، والآخر يتكاثر كل عشر سنوات. الحيوان الأول مثال للاستثمار الفقير، لأن ذريته لا تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده. أما الحيوان الثاني فمثال للاستثمار الضخم لأن ذريته تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده.

أشار تريفرز إلى ارتفاع نسبة الاستثمار الأبوى في إناث أغلب الحيوانات مقارنة بالذكور. وذلك لامتلاكهن الخلايا الجنسية كبيرة الحجم، فيقمن بحضانة/حماية/حمل الذرية لفترة من الزمن. أما الذكور فيمتلكون خلايا جنسية أصغر، ولا يتخطى استثمارهم لحظات الاتصال الجنسي. لكن مازال السؤال مطروحًا، كيف يفسر هذه اختلاف حجم الذكور والإناث؟

ينتج عن الاستثمار الأبوي الضخم عند الإناث مقارنة بالذكور عددًا من الاختلافات النفسية والفسيولوجية:

  • يمكن لذكر واحد أن يخصب عددًا من الإناث، فينتج عن هذا وجود عدد من الذكور بدون إناث فتظهر التنافسية والعنف.
  • لا تقلق الإناث بشأن وجود شريك جنسي لأنها دائمًا ستجده. لكن يظهر نوعًا آخرًا من التنافس لاختيار الذكور المناسبين، الذين تتمتع جيناتهم بفرص نجاة أكبر.
  • تخلق الطبيعة الانتقائية للإناث نوعًا جديدًا من التنافس بين الذكور، ليس لإيجاد الإناث وحسب وإنما إغرائهم أيضًا.

والآن يمكننا باستخدام هذه الاستنتاجات الثلاث للتوصل إلى سر اختلاف حجم الذكور عن الإناث، وذلك لأن التنافسية تضع عليهم ضغطًا أكبر للتصارع مع الذكور الأخرى للفوز بالإناث. كذلك السعي إلى إغراء الإناث ومطابقة مواصفاتهم عن الشريك المثالي ومنها البنية الجسدية الأقوى. وسنتعرف على مزيد من التفاصيل عن هذا الأمر عند مناقشة معايير الانجذاب الجسدي.

ما الأدلة على نظرية الاستثمار الأبوي؟

تتلخص فكرة الاستثمار الأبوي في وجود اختلاف بين حجم الخلايا الجنسية عند الذكور والإناث، فينتج عن هذا تباين الدور الذي يقوم به كل منهما في العملية الجنسية والتكاثر ومن هنا تظهر الاختلافات النفسية والفسيولوجية بين الجنسين. وهناك عدد من الأدلة على ذلك:

  • يكون الاستثمار الأبوي معكوسًا في بعض الحالات مثل: السمكة الأنبوبية. فنجد الذكور تحتفظ بالبيوض بينما تهرب الإناث. وتبعًا للنظرية فلابد أن تكون الإناث أكبر حجمًا وأكثر عنفًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • يتساوى كل من ذكور وإناث البطاريق في الاستثمار الأبوي، فيسير كل منهما مسافة طويلة لحماية الأبناء. وحسب النظرية فلابد أن تتساوى أحجامهم أيضًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • تتمتع ذكور فيلة البحر بقدر عالٍ من التنافسية، فلا تتنافس على أنثى واحدة وإنما جميع الإناث. ونتيجة لذلك نجد الذكور أكبر حجمًا بأربع مرات من الإناث.
  • أما في البشر فنجد -كما أسلفنا- أن الذكور أكبر حجمًا بنسبة 15% من الإناث. وهذا يرجح تواجد صراع ذكوري/ذكوري على مدار تاريخنا التطوري، نتيجة لعدم تساوي الاستثمار الأبوي.
  • ذكور البشر أكثر عنفًا من النساء. بداية من الرحم فنجدهم يركلون أكثر، والطفولة فينخرطون في صراعات وشجارات ومزاح عنيف، حتى البلوغ فنجد عدد السجناء الذكور دائمًا أكبر من النساء. الأمر الذي يمكن تفسيره بالتنافسية الناتجة عن عدم تساوي الاستثمار الأبوي.

الجاذبية الجسدية

لا يقتصر تأثير التنافس الأبوي على اختلاف الذكور والإناث في الحجم والتنافسية فقط، إنما تختلف تفضيلاتهم الجنسية أيضًا.

  • نجد الإناث تنجذب للقوة والمكانة الاجتماعية والاستثمار في تربية الأطفال. الذكور القادرون على تأمين الموارد اللازمة للنجاة وتوفير الملجأ والحماية أكثر جاذبية من غيرهم. وهذا أمر مفهوم تطوريًا.
  • تميل النساء إلى اختيار الذكور الأكبر سنًا، لكن بشكل عام لا يهم العمر كثيًرا طالما كان الذكر قادرًا على التكاثر.
  • هناك بعض الخصائص الجسدية أكثر جاذبية للإناث مثل: البنية الجسدية القوية ودلالاتها مثل: عرض المنكبين والفك القوي وبروز عظمة الحاجب. كذلك تماثل نصفي الجسم الذي يدل على سلامة الجينات وقدرة الذكر على تحمل ضغوطات البيئة.

أما عن الذكور فعامل الانجذاب الأول لديهم هي الأنثى التي يستطيع تخصيبها وبالتالي نشر جيناته. وبناءًا على ذلك تظهر تفضيلاتهم الجنسية:

  • يهتم الذكور بالعمر أكثر من الإناث، فينجذبون للنساء الأصغر سنًا لقدرتهن على التكاثر.
  • ينجذب الذكور للإناث ذوات الخصر الرفيع والنهود الكبيرة، لأنها دلالات على الشباب والخصوبة.
  • ينجذب الذكور لسمات جمالية معينة مثل العيون الواسعة والشفاه الممتلئة والبشرة النضرة. لأنها تمثل أيضًا النضوج الجنسي والشباب.

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

في الختام أود العودة إلى نقطة الأخلاقية والحتمية، إن كل ما هو جيني وطبيعي ليس بالضرورة مناسبًا أو حتميًا لا يمكن تغييره. وهو ما نفسر به الاعتراض الذي لابد أن يكون خطر لك عند قراءة المقال، أنا لست هكذا -ذكرًا كنت أم أنثى- ولا أتصرف أو أنجذب لنفس الصفات التي يفترض يتمتع بها بنو جنسي. لذا لا تنسى أدمغتنا التي تطورت لتخدم هدف التطور، يسعها دومًا التفكير وتحديد أقدارها!

اقرأ أيضًا: لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

مصدر
yalecourses

ما تفسير تسارع الزمن الّذي نشعر به مع تقدمنا في السن؟

عندما كنا أطفالًا، بدت العطلة الصيفية كأنها تستمر إلى الأبد، وبدا انتظار الأعياد أبديًا. فلماذا عندما نتقدم في السن يبدو مرور الوقت أسرع بكثير؟ فتسير الأسابيع والأشهر والفصول بأكملها بسرعة مذهلة. إن تسارع الزمن المُدرك على ما يبدو ليس نتيجةً لامتلاء حياتنا كبالغين بمسؤوليات ومخاوف الكبار. في الواقع، الأمر يسير في الاتجاه الآخر. فالأبحاث تظهر أن الوقت المُدْرَك يمر بسرعة أكبر بالنسبة لكبار السن مما يجعلنا نشعر بالانشغال والاندفاع (وليس العكس).

هناك العديد من النظريات التي تحاول تفسير سبب تسارع إدراكنا للوقت مع تقدمنا ​​في السن. تتمثل إحدى الأفكار في تغيير تدريجي لساعاتنا البيولوجية الداخلية. يتوافق تباطؤ عملية التمثيل الغذائي مع تقدمنا ​​في السن مع تباطؤ ضربات القلب وتنفسنا. تجري الفعاليات البيولوجية للأطفال بسرعةٍ أكبر، مما يعني أنهم يمتلكون المزيد من العلامات البيولوجية (دقات القلب، والتنفس) في فترة زمنية محددة، مما يجعلهم يشعرون وكأن المزيد من الوقت قد مر.

تقترح نظرية أخرى أن مرور الوقت الذي ندركه مرتبطٌ بكمية المعلومات الإدراكية الجديدة التي نستقبلها. إذ مع وجود الكثير من المحفزات الجديدة، تستغرق أدمغتنا وقتًا أطول لمعالجة المعلومات بحيث تبدو الفترة الزمنية أطول. هذا من شأنه أن يساعد في تفسير «إدراك الحركة البطيئة-slow motion perception» (وهو حين يُنظر إلى الأشياء على أنها تتحرك ببطء شديد على عكس العادة). نشعر بإدراك الحركة البطيئة غالبًا في اللحظات التي تسبق وقوع الحادث. فالظروف غير المألوفة تعني أن هناك الكثير من المعلومات الجديدة التي يجب استقبالها ومعالجتها. في الواقع، قد نشعر به عندما نواجه مواقف جديدة فتسجل أدمغتنا ذكريات شديدة التفصيل، بحيث أن تذكرنا للحدث يبدو أبطأ من الحدث نفسه. لقد ثبت تجريبيًا أن هذا هو الحال للأشخاص الذين يمارسون «السقوط الحر-free fall».

ولكن كيف يفسر هذا تسارع الزمن المُدرك المستمر مع تقدمنا ​​في العمر؟ تقول النظرية أنه كلما تقدمنا ​​في السن، أصبحنا أكثر درايةً بمحيطنا. لا نلاحظ التفاصيل الدقيقة لمحيطنا (كمنازلنا وأماكن عملنا). لكن بالنسبة للأطفال، غالبًا ما يكون العالم مكانًا غير مألوف ومليء بالتجارب الجديدة للتعامل معها. هذا يعني أنه يجب على الأطفال تكريس قدرٍ أكبر من القوة الذهنية لتكوين أفكارهم العقلية للعالم الخارجي. تقترح النظرية أن هذا يجعل الوقت يبدو وكأنه يمر بشكلٍ أبطأ للأطفال مقارنةً بالبالغين العالقين في روتينهم اليومي. لذلك كلما أصبحنا أكثر دراية بتجارب الحياة اليومية، كلما زاد تسارع الزمن، وعموماً، تزداد هذه الدراية مع تقدم العمر. تم اقتراح الآلية الكيميائية الحيوية وراء هذه النظرية على أنها إطلاق الناقل العصبي «الدوبامين-Dopamine» عند إدراك الأمور الجديدة مما يساعدنا على تعلم قياس الوقت. بعد سن العشرين وحتى الشيخوخة، تنخفض مستويات الدوبامين مما يجعل الوقت يبدو أسرع. ولكن لا يبدو أن أيًا من هذه النظريات توضح بدقة المعدل الحسابي لعملية تسارع الزمن المُدْرَك.

يشير النقصان الواضح لطول فترة محددة مع تقدمنا ​​في العمر إلى “مقياس لوغاريتمي” للوقت. تستخدم المقاييس اللوغاريتمية بدلاً من المقاييس الخطية التقليدية عند قياس الزلازل أو الصوت. نظرًا لأن الكميات المُقاسة يمكن أن تظهر فروقات ضخمة فيما بينها، فإننا بحاجة إلى مقياس أوسع نطاقاً لفهم ما يحدث. وهذا ينطبق على موضوع تسارع الزمن. على مقياس ريختر اللوغاريتمي (للزلازل) لا تتوافق الزيادة بمقدار 10 إلى 11 مع زيادة في حركة الأرض بنسبة 10% كما هو الحال في المقياس الخطي. فكل إضافة واحدة إلى مقياس ريختر تقابل زيادة في الحركة بمقدار عشرة أضعاف.

أوقات الطفولة

ولكن لماذا يجب أن يتبع إدراكنا لعملية تسارع الزمن مقياسًا لوغاريتميًا؟ الفكرة هي أننا ندرك الفترة الزمنية على أنها نسبة الوقت الذي عشناه حتى تلك اللحظة. بالنسبة لطفلة تبلغ من العمر عامين، تعتبر السنة الواحدة نصف عمرها، ولهذا السبب تبدو فترة الانتظار بين أعياد الميلاد طويلةً جدًا عندما تكون صغيرًا. بينما بالنسبة لشخص يبلغ من العمر عشر سنوات، يمثل العام الواحد 10% فقط من حياته (مما يجعل الانتظار أكثر سهولة)، وبالنسبة لشخص يبلغ من العمر 20 عامًا يمثل العام الواحد 5% فقط من حياته. على المقياس اللوغاريتمي، لكي يمر شابٌ يبلغ من العمر 20 عامًا نفس الزيادة النسبية في العمر (بين أعياد الميلاد) التي يمر بها طفل يبلغ من العمر عامين، يجب عليه الانتظار حتى بلوغ سن الثلاثين. وفقًا لوجهة النظر هذه، ليس من المستغرب تسارع الزمن الذي نشعر به مع تقدمنا ​​في السن.

عادةً ما نفكر في حياتنا من منظور العقود – العشرينات والثلاثينيات وما إلى ذلك – مما يشير إلى وزنٍ متساوٍ لكل فترة. ومع ذلك، حسب المقياس اللوغاريتمي فإننا ننظر لفتراتٍ زمنية على أنها مختلفة رغم امتلاكها نفس الطول. يُنْظَرُ إلى الفروق التالية في العمر على النحو نفسه بموجب هذه النظرية: من 5 إلى 10، ومن 10 إلى 20، ومن 20 إلى 40، ومن 40 إلى 80. إذًا فترة الخمس سنوات التي مررت بها بين سن الخامسة والعاشرة قد تشعرك بنفس طول الفترة بين سن 40 و 80. لذا أشغل نفسك. فالوقت يمر بسرعة، سواءٌ كنت مستمتعًا به أم لا. وهو يمر بشكل أسرع وأسرع كل يوم.

شاهد الفديو التالي حيث يشرح استخدام المقياس اللوغاريتمي لتسارع الزمن:

المصادر: Science Focus, The Conversation, Scientific American
إقرأ أيضًا: لماذا نشعر بالتعب أكثر خلال فصل الشتاء؟

ما هو علم الجريمة؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

على الرغم من تطوّر المجتمعات وتمدّنها، وعلى الرغم من القوانين وأنظمة المحاسبة التي تحكم معظم دول العالم، ما زالت الأعمال الإجرامية تشكّل خرقًا خطيرًا لكل الأنظمة والمجتمعات البشرية وتهدد حياة وأمن الكثيرين حول العالم. فما هو تفسير انتشار الجرائم؟ وهل هي ناتجة عن أسباب فردية وشخصية أم أن ظروف المجتمع هي المسؤولة عن حدوثها؟ ما السبيل لتجنّب الجريمة، وفي حال حدثت، ما هو نظام المحاسبة الأكثر عدالة؟ نشأ علم الجريمة كعلم مستقل ليبحث عن إجابات لهذه الأسئلة والتعمّق في أسباب الجريمة ونتائجها.

ما هو علم الجريمة (أو علم الإجرام)؟

يدرس علم الجريمة الأعمال الجرمية الفردية والجماعية والجنوح، ويتناول أسبابها وأساليب تصحيحها وتجنبها. ينطلق علم الجريمة من نظريات متعدّدة في علوم مختلفة من علوم الحياة إلى علم النفس والطب النفسي إلى علوم الاجتماع والاقتصاد وعلوم الإنسان والإحصائيات.

نبذة تاريخية عن نشأة علم الجريمة:

رغم أن علم الجريمة كما نعرفه الآن لم يبدأ قبل القرن الثامن عشر، إلا أنه يجد أصوله في حضارات قديمة. فقد واجه الإنسان السلوكيات “الشريرة” والإجرامية منذ أقدم العصور، لذلك كان لا بد للبشر أن يضعوا قوانين رادعة للأعمال الجرمية ولو كانوا عاجزين في حينها عن فهم أسباب هذه الأعمال.

العصور القديمة

من أشهر وأقدم القوانين التي عرفتها الحضارات هي شريعة حمورابي في الحضارة البابلية (في عام 1754 قبل الميلاد)، واحتوت على 282 قانون تحت قاعدة “العين بالعين والسن بالسن”.

بدورهم تحدث الفلاسفة الإغريق عن السلوكيات الإجرامية، فاعتبر الفيلسوف أفلاطون أن سبب مخالفة القوانين هو غياب التعليم، فيما شدد أرسطو على أهمية العقاب لتجنب الأعمال الإجرامية.

تطورت فيما بعد النظرة الحديثة للأعمال غبر القانونية في الجمهورية الرومانية، التي شهدت في عام 494 قبل الميلاد ثورة من قبل عامة الشعب لفرض قوانين تمنع استغلالهم وتعاقب الأعمال الجرمية. وقد شكلت هذه المقاربة أسس المقاربة الغربية الحديثة، التي تعاقب فيها الدولة مرتكبي الأعمال الجرمية.

العصور الوسطى

أما في العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا تحت تأثير حكم الكنيسة الكاثوليكية، رُبطت الجريمة بالشر الإلهي. وتراوحت الأفكار بين العقاب الشديد للمجرمين، وبين مسامحتهم وتخليصهم من الشر.

كانت بدايات علم الجريمة في القرن الثامن عشر مع الحركة الإنسانية في أوروبا التي شدّدت على قيمة الإنسان وكرامته والتي ألقت الضوء على وحشية أنظمة السجون وعدم فعاليتها لتجنب الجرائم. وكانت في ذاك الوقت تُستخدم أشد الأساليب تعذيبًا من طعن أجساد المُتهمين إلى سحقها. فنشأت المدرسة الكلاسيكية في علم الجريمة لتدعو إلى تطوير نظام المحاسبة وتخفيف أو إلغاء التعذيب للمُتهمين وقد كان من رواد هذه المدرسة الكاتب والفيلسوف الإيطالي «سيزار بيكاريا-Cesare Beccaria» والمحامي البريطاني «سير صامويل روميلي-Sir Samuel Romilly »  والعالم البريطاني «جون هووارد-John Howard». ولعبت المدرسة الكلاسيكية لعلم الجريمة دورًا هامًّا في جعل نظام المحاسبة أكثر عدالة وإنسانية.

القرن التاسع عشر وحديثًا

في بداية القرن التاسع عشر، نشرت فرنسا للمرة الأولى إحصائيات وطنية لمستويات الجريمة. وتم تحليل هذه الأرقام الإحصائية من قِبل عالم الرياضيات والاجتماع البلجيكي «أدولف كيتيليت – Adolph Quetelet» فوجد أن توزع الجرائم ليس عشوائي، بل يخضع إلى أنماط اجتماعية معينة. من هنا، تم الربط للمرة الأولى بين الجريمة والبنية الاجتماعية، أي أن المجتمع يتحمل مسؤولية جرائمه. واعتبر كيتيليت أن المجرمين هم مجرد أدوات لتنفيذ الجرائم التي يتحمّل مسؤوليتها المجتمع ككل.

ثم جاءت المدرسة الوضعية (Positivist school) التي درست خصائص الأفراد المرتكبين للجرائم، وتأسست على يد الطبيب الإيطالي «سيزار لومبروزو- Cesar Lombroso» الذي اكتشف وجود فروقات بيولوجية وجسدية بين مرتكبي الجرائم وغير المرتكبين. تطورت المدرسة الوضعية لتشمل أيضًا دراسة الخصائص النفسية والعقلية والاجتماعية المسؤولة عن ارتكاب الجرائم. وبالتالي اعتبرت أن مرتكبي الجرائم غير مسؤولين فعليًا عنها، بل هم ضحايا ظروفهم وخصائصهم. لذلك هي تفترض أن “العقاب” يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الخصائص الفردية بدلًا من الجريمة المُرتكبة.

ما هي النظريات المعتمدة حاليًا في علم الجريمة؟

تعددت النظريات في علم الجريمة بين نظريات بيولوجية ونفسية واجتماعية. فتفترض النظريات البيولوجية وجود أسباب جسدية، غالبًا جينية، تحفز العنف والانفعال. أما النظريات النفسية فهي تفسر العمل الجرمي بخلل نفسي، وتربطه أحيانًا بعدد من الأمراض النفسية كاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. في حين أن النظريات الاجتماعية تلقي المسؤولية الأكبرعلى المجتمع الذي يحفز، من خلال الظروف القاسية وانتشار العنف وغياب القانون والإحساس بالأمان، على ارتكاب الجرائم.

لم تكفِ أي من النظريات المطروحة لتفسير الأعمال الجرمية، فهي أعمال بالغة التعقيد. لذلك يعتمد علماء الجريمة حاليًا تشابك النظريات والأسباب البيولوجية والنفسية والاجتماعية لتفسير الجرائم وبالتالي معالجتها وتجنبها.

وغالبًا ما تصنف الجريمة حاليًا إلى نوعين بحسب دافعها: وسيلي وانفعالي.

الدافع الوسيلي يعني أن الجريمة تُرتكب عن سبق إصرار وتصميم، وغالبًا ما تعود بالنفع على المُرتكب (مثلًا: القتل المأجور أو القتل بهدف السرقة …). أما في حالة الدافع الانفعالي، تكون الجريمة بنفسها هي الهدف، وتنتج عادةً عن انفعال شعوري تلقائي (غيرة أو غضب أو خوف…). يكون العقاب أكثر قساوةً في حالة الجريمة الناتجة عن الدافع الوسيلي.

ختامًا، ما زالت المجتمعات بحاجة لإجابات أكثر دقة حول دوافع الجرائم وأسبابها، لتتمكن من تطوير بنية اجتماعية سليمة تخفف من مستويات العنف والجريمة، والأهم تطوير أنظمة محاسبة قائمة على مبدأ إعادة التأهيل، فتعطي الفرد فرصة جديدة لحياة متوازنة، وتعطي المجتمع فرصة للاستفادة من طاقاته.

المصادر:

Britannica.com

Criminology.com

Legal service india

إقرأ أيضًا: التنشئة الاجتماعية: الطبع مقابل التطبع

كيف تتحدث إلى طفلك عن العنصرية؟

تصاعدت في الأونة الأخيرة أحداث العنف الناتجة عن التمييز العرقي والعنصرية، وأصبح الحديث عن التمييز العرقي والعنصرية بمثابة تحديًا كبيرًا أمام الآباء. فلماذا أصبح من المهم الحديث عن العنصرية؟ وما هو العمر المناسب لإجراء المحادثات معهم حول العنصرية؟ وما هي أفضل النصائح التي يمكن أن تتبعها لإجراء المناقشات الناجحة حول تأثير تلك المشاهد العنصرية على أطفالك؟

إن العنصرية في معناها البسيط هي: التحيز العرقي الذي تدعمه القوة الإجتماعية والمؤسسية. فهو نظام تمييز على أساس العرق، ونظام القهر على أساس العرق.

والعنصرية موضوع معقد. يوثر في حياتنا اليومية وعلى طريقة تفاعلنا مع بعضنا البعض. فينبغي معالجته بطرق تتناسب مع عمر الطفل. فقد لا يدرك الطفل مصطلح العنصرية، لكنه يفهم معني الصواب والخطأ، ويدرك معنى العدل ويميز الظلم.

لماذا من المهم الحديث مع أطفالك عن العرق والعنصرية؟

دائمًا ما يتعرض الأطفال لمواقف تُبرز معنى العنصرية. سواء عبر وسائل التواصل الإجتماعيي أو في الأماكن العامة. وقد يكونو هم من في قلب الموقف أو شاهدين عليه. فيأتي هنا دور التنشئة الإجتماعية والحديث عن الإختلاف العرقي والإختلافات بين الناس على احترامهم وتقديرهم، مما يؤدي إلي بناء التعاطف والرحمة مع الآخرين. فيصبح الأطفال أكثر قدرة على رؤية الأشياء في عالمهم، مما يؤهلهم لفعل شئ حيال ذلك في المستقبل.

ما هو العمر المناسب للحديث عن العنصرية مع الطفل؟

لكن تشيرالأبحاث إلى أنه حتى مرحلة الطفولة، يبدأ الطفل في إظهار التفضيل لبعض ألوان البشرة والوجوه. وأن الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 2 أو 3 أعوام، يمكنهم البدء في استخدام العرق لشرح السلوك. ومع تطور اللغة قد يبدأ الأطفال في إبداء الملاحظات أو طرح الأسئلة حول كيفما يبدو الأشخاص حولهم.

فقد يسأل الطفل شيئّا كهذا “لماذا تبدو بشرة هذا الشخص هكذا؟” أو “لماذا يبدو شعره هكذا؟” عندما يبدأ الطفل في طرح أسئلة حول كيف يبدو الناس، استغل فورّا استخدام هذه اللحظات كفرص لإجراء المناقشات معه.

ما هي بعض الإرشادات للحديث عن العرقية والعنصرية؟

تختلف المحادثات عن مثل هذا الموضوع من عائلة إلى أخرى، اعتمادا على العرق، الجنسية، التجارب الشخصية مع العنصرية،.. لكن هناك بعض الطرق والأدوات التي ستساعدك على إجراء محادثات ناجحة مع طفلك حول موضوع العنصرية إليك بعضها:

كن على علم بالتحيزات الخاصة بك

فإن ما ينتبه إليه الأطفال حقًا هو سلوك البالغين، يمكنك التحدث مع طفلك كيفما تشاء بإستمرار. لكن إذا كنت تتصرف بطرق تُظهر إجتنابك للأشخاص ذوي البشرة السمراء فسيلاحظ أطفالك ذلك، وسيقلدون سلوكك بشكل كبير، سيقلدون حتى لغة الجسد الخاصة بك وما يصدر منك تجاه الآخرين.

إنه لأمر مهم جدًا أيضًا للآباء ذوي البشرة البيضاء، فقد أظهرت الأبحاث أن الأطفال من جميع الأعراق يبدأون في تطوير” تفضيل اللون الأبيض” في سن مبكرة، ويستمرون في التفضيل حتى مرحلة البلوغ. فيتلقى الأطفال ذوي البشرة البيضاء هذه الرسائل حول كونهم مُفضلين ومثاليين، لذلك فهو بمثابة تحديّا كبيرًا للآباء.

استخدم الكتب المصورة

لاحظ ما قد يتعلمه طفلك من خلال القصص المصورة، إذا كانت جميع الشخصيات قي الكتاب تبدو متشابهة، اسأل طفلك عن رأيه في ذلك. وإذا كانت الشخصيات متنوعة، فاسأله شيئًا مثل: ما الشخصة التي تريد أن تكون صديقًا لها؟ ستُصدم بإجاباته لكن حاول ألا تتفاعل مع إجابته، فالهدف هو  فهم ما يعرفه وما لا يعرفه وما قد يفكر به بالفعل. يمكنك بعد ذلك مساعده طفلك على التعلم من خلال طرح المزيد من الأسئلة واعداد نفسك للمزيد من المحادثات في المستقبل.

تدرب على ما تريد قوله قبل أن تقوله

دائمًا ما نواجه صراعًا  كبيرًا عندما يتعلق الأمر بمعالجة العنصرية مع أطفالنا، فالبعض يخشى أن تثير مثل تلك النقاشات الخوف وعدم الراحة بسبب عدم الجاهزية لما قد يسأل عنه الطفل.

لكن يمكنك أن تتغلب على تلك الأزمة بالتحدث مع شخص بالغ آخر أولاً، فيساعدك الأمر على الشعور بالراحة تجاه ما تريد قوله. حاول أن تتخيل أسئلة قد يطرحها طفلك وكن مستعدًا للإجابة.

أسأل طفلك عما يشعر به باستمرار وبشكل مباشر

يبدو الأمر بسيطًا، لكنها خطوة مهمة، خاصةً عند تعرض الأطفال للمواقف والأخبار السيئة. فأحيانًا لا يستطيع الطفل التعبير عما يشعر به، أو إذا ما كان قلقًا بشأن شئ ما. أنت أفضل من يعرف طفلك، فكن على دراية دائمًا بمشاعره، وما إذا كان هناك شيئًا يقلقه أو يخاف منه، أو ما إذا تعرض للأذى.

ستتفاجئ أيضّا أن الأطفال ذوي البشرة السمراء يشعرون بالقلق والخوف على والديهم، حينها يجب على الآباء أن يكونوا صادقين مع أبناءهم والعمل على إقناعهم بأنهم بعيدون عن الأذى، كما أنهم يبذلون ما في وسعهم للإبتعاد عن أي أذى، كما يمكنهم توضيح ما يجب عليهم فعله بشكل صحيح حيال وقوع الأذى.

كيف تجيب على سؤال طفلك “لماذا يحدث كل هذا؟”

باستخدام نشاط بسيط جدًا يمكنك الإجابة على هذا السؤال لطفلك. يمكنك استخدام “بكرة من الخيط” وجعل طفلك يسحب طرفها ويقوم بسحب المزيد من الخيط مع لفه بيديه وجعله متشابكًا بيديه، وهكذا حتى تصبح هناك كرة متشابكة بيد صغيرك، ثم اخبره عن حقيقة العنصرية والقمع والتمييز، وأنها تراكمت لفترة طويلة وتشابكت كالخيط في يديه، وتحدث معه حول الفترة والمجهود التي سيحتاجها لفك تشابك الخيط و”العنصرية”.

اجعل الهدف من محادثاتك مع طفلك غرس الثقة

من خلال القصص والحكايات يستطيع الآباء غرس الثقة في نفوس أطفالهم، لاسيما أصحاب البشرة السمراء، فمن المهم أن يسمعون دائمًا من والديهم ومن المحيطين بهم كم تبدو بشرتهم وملامحهم ونفوسهم جميلة.

ادعم هذه الثقة بإحاطة طفلك في المنزل بالكتب والمجلات والصور والأعمال الفنية والتحف الثقافية التى تبرز جمال وتفضيل أصحاب البشرة السمراء، واسرد لهم حكايات وحدثهم عن القادة والرياضيين من أصحاب البشرة السمراء. سيؤدي ذلك أيضًا إلى تحسين مهارات حل المشكلات وتحسين السلوك في المدرسة، وقدرتهم على تذكر الحقائق والمعلومات لحل المشكلة

ساعد طفلك أن يكون داعمًا

يمكنك بعد ذلك البدء في إجراء محادثات مع طفلك حول كيفية الدفاع عن زملائهم وأصدقائهم في المدرسة مثلاً، اسأل طفلك عما سيفعله إذا رأى شخصيات في قصة ترويها له يستهزأ بها الآخرون، أو يطلقون عليها أسماء قبيحة أو مخيفة بسبب لون بشرتهم، اجعل طفلك يتفاعل مع المشكلة بشكل واضح وصريح، اجعله يرسم صورة أو يكتب عبارة يتفاعل بها مع العنصرية التي تتعرض لها الشخصية في القصة.

أخيرًا، اشرح لطفلك دائمًا أن هناك العديد من الجنسيات والألوان والجماعات. تمامًا كاختلاف ألوان الزهور من حوله واختلاف ألوان وأشكال أقلامه في حافظة أقلامه. فهو ليس صغيرًا أبدًا على التعرض لمثل هذا الموضوع، مقنعًا إياه أنه لا يجب أن نعتقد مجرد اعتقاد أن لونًا أو عرقًا أفضل من الآخر، ولا يجوز أن يعامل الأشخاص بطريقة سيئة بسبب لون البشرة أو الشعر، وأننا جميعًا متساوون ولنا جميعًا نفس الحقوق والاحترام وعلينا نفس الواجبات.

المصادر:

unicef

pbs

kidshealth

لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

هذه المقالة هي الجزء 14 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟ هل تسائلت يومًا ما الذي يجمعنا كلنا كبشر؟ جميعنا نختبر نفس المشاعر ونستخدم نفس أدوات التواصل وندرك العالم من حولنا بنفس الطريقة. لكن هل تسائلت يومًا ما الذي يميز بيننا كبشر؟ ما الذي يجعلني في هذه اللحظة تحديدًا سعيدة بينما أنت حزين وآخر لا يشعر شيئًا؟ كيف نفسر هذه الفروقات الفردية؟ والأهم من ذلك كيف نفسر الفروقات الجماعية؟ ما الذي يجعل طائفة من البشر أكثر انفتاحًا أو ذكاءًا أو تطرفًا من غيرها؟ هذا ما سنناقشه في مقال اليوم.

عاملي الاختلاف بين البشر

يمكننا حصر جميع الاختلافات بين البشر في كل أنحاء العالم في عاملين، وهما: الشخصية والذكاء. شخصيتك ومعدل ذكائك هما ما يحددا موقفك من العالم وموقف العالم منك. بمعنى أن الطريقة التي يراك بها الآخرون وكذلك الطريقة التي ترى بها الآخرين تندرج تحت بند الشخصية، وهي سماتك المحددة والثابتة -إلى حد ما- التي تحملها معك طوال الوقت.

أما معدل الذكاء فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بأدائك التعليمي والمهني وحتى الاجتماعي والاقتصادي. وهو أمر نختلف فيه جميعًا كأفراد وجماعات.

والآن بما أننا بتنا نعرف ما الذي نختلف فيه، كيف يمكننا تفسير هذه الاختلافات؟

طبيعي أم مكتسب؟

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

تقتضي العادة عند إجابة أي سؤال يبحث في أصل الظواهر الانسانية تحديد أي جوانب هذه الظاهرة طبيعي/وراثي/جيني وأيها مكتسب/بيئي/تربوي؟

لم يحد العلماء عن هذا المنهج عند تفسيرهم الاختلافات الشخصية واختلافات معدل الذكاء بين البشر، وحصروا أسباب الاختلاف في نقطتين:

  • الجينات/ الوراثة

يجب توضيح نقطة هامة عند الحديث عن الجينات، وهي الفارق بين دور الجينات في تفسير الاختلافات بين البشر وتفسير صفاتهم، بمعنى أننا سنتحدث عن الاختلافات الناتجة من اختلاف الجينات، وليس دور كل جين في تكوين صفة محددة. ويشبه ذلك طرح السؤال: ما هو دور الجينات في اختلاف أطوال البشر؟ وهنا يمكننا قول أن الاختلافات الجينية تجعل طولي مختلفًا عنك وعن قاريء آخر. لكن عندما نقول: ما هو دور الجينات في تحديد طولك؟ هنا نتحدث عن دور الجينات في تكوين صفة محددة.

  • البيئة/ التجربة

ينبغى الفصل بين نوعين من البيئة عند الحديث عن الاختلافات بين البشر، وهما: البيئة المشتركة والبيئة غير المشتركة.

تعني البيئة المشتركة الاختلافات الناتجة عن الظواهر والأحداث التي يتعرض لها/ يتشاركها أفراد العائلة الواحدة.

مثال: تعيش أنت واخوتك في بيت واحد مع أب غير سوي، ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (تشاركك أنت واخوتك نفس ظروف المعيشة جزء من البيئة المشتركة)

أما البيئة غير المشتركة فتشمل كل ما هو ليس وراثيًا، وليس بيئة مشتركة.

مثال: لقد انزلقت ووقعت على رأسك حينما كنت صغيرًا ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (هذا ليس بالضرورة ما حدث لاخوتك وهذه هي البيئة غير المشتركة)

السؤال هنا الآن: حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

حل مبتكر!

حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

والإجابة واقعيًا: يصعب علينا كثيرًا الفصل بين ما هو جيني وغير جيني.

على سبيل المثال: أنا مختلفة عنك، والسبب أنني لا أتشارك معك نفس الجينات، كما أنني ولدت لوالدين مختلفين ونشأت في بيئة مختلفة. ولا نستطيع الفصل أيهما سبب اختلافي عنك.

شكل هذا السؤال عائقًا أمام العلماء، وتوجب عليهم التفكير في حلول مبتكرة للإجابة عنه، أحد هذه الحلول هو استغلال الحقائق الخاصة بالجينات ووضع بعض الفرضيات بناءًا عليها ثم اختبارها. هذه الحقائق هي:

  • التوائم أحادية الزيجوت تتشارك 100% من الجينات.
  • الأخوة العاديين وكذلك التوائم ثنائية الزيجوت تتشارك 50% من الجينات.
  • الأطفال المتبنون واخوتهم يتشاركون 0% من الجينات.

وتتشارك الحالات الثلاثة 100% من البيئة المشتركة، بمعنى أنهم ينشأون في بيت واحد. وجاءت الفرضيات كالتالي:

  • عند ظهور تشابه أكبر في الشخصية ومعدل الذكاء بين التوائم أحادية الزيجوت أكثر من الثنائية، يدلنا على دور أكبر للجينات.
  • عندما يتساوى معدل التشابه بين التوائم أحادية وثنائية الزيجوت، يدلنا أن دور الجينات ليس مهمًا كثيرًا ( لأن 50% الإضافية من التشابه الجيني لم تحدث فرقًا)
  • عند ظهور تشابه بين الأطفال المتبنين واخوانهم، يدل ذلك على أهمية البيئة المشتركة.

لكن المعيار الذهبي الذي وضعه العلماء لاختبار دور الجينات والبيئة في تحديد الاختلافات في الشخصية والذكاء هو: التوائم المتماثلة مختلفة النشأة. يتشارك هؤلاء الأشخاص 100% من جيناتهم و0% من البيئة المشتركة.

دور الجينات والبيئة في تفسير الاختلاف

توصل العلماء باستخدام هذه الفرضيات واختبارها إلى اكتشافين مذهلين في علم الجينات السلوكي.

أولًا: تتمتع أغلب الصفات الشخصية بدرجة عالية من التوريثية.

تأثير الجينات قوي على كل الصفات، ابتداءًا بمعدل الذكاء والشخصية وانتهاءًا بمدى سعادتك أو تدينك أو حتى ميولك السياسية. أقر العلماء هذا الأمر بناءًا على عدد من الاكتشافات المثيرة للاهتمام، أولها ما ذكرناه عن التوائم المتماثلة مختلفة النشأة.

وجد العلماء أن التوائم المتماثلة الذين لم ينشأوا معًا في نفس البيت متشابهين في كثير من الصفات، فوجدوا لديهم نفس الآراء تجاه عقوبة الإعدام والدين والموسيقى الحديثة. كما وجدوا تشابهًا سلوكيًا مثل: معدلات انخراط هؤلاء الأشخاص في الجريمة، أو لعب القمار، أو حتى الطلاق.

وهنا يمكننا القول أن للجينات دور كبير في الاختلافات الفردية بين البشر، لكن ماذا الاختلافات بين المجموعات البشرية، ما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

دعونا نبدأ الإجابة بالإشارة إلى دراسات تثبت وجود اختلافات في معدل الذكاء بين المجموعات العرقية المختلفة. كذلك دراسات تثبت وجود فروق جينية بين هذه المجموعات، فنجد أحدها أكثر عرضة للإصابة بمرض ما مثلًا أكثر من غيرها. والسؤال هنا هل يمكننا بناءًا على هذه الدراسات استنتاج أن الفروق بين الجماعات ذات أصل جيني؟

الإجابة لا. أثبت العلم أن الاختلافات الجينية (بين الأفراد) لا تلعب دورًا في تشكيل الاختلافات بين الجماعات. ولفهم ذلك بشكل أوضح تأمل هذا المثال: ستزرع قطعتين من الأرض بنفس بذور القمح، أحد الحقلين ستعتني به وتخصبه بسماد جيد، والآخر ستهمله. ستجد أن جودة نمو البذور في كلا الحقلين يرتبط بجيناتها (هذه بذرة ذات صفات جيدة فستنمو سواء اهتممت بها أم لا وتلك سيئة لن تنمو بنفس الجودة) لكن الاختلاف بين الحقلين بشكل عام ليس جيني على الإطلاق، وإنما بيئي يرتبط بمدى اهتمامك بكل منهما.

وهذا هو ما اكتشفه العلماء، فوجدوا أن الاختلافات بين المجموعات البشرية تعزى إلى البيئة وليس الجينات، لأن انتمائك لأحد هذه الجماعات قرار اجتماعي لا سلوك جيني. وهاك بعض الأدلة على ذلك:

أدلة على الأصل البيئي للاختلافات بين المجموعات البشرية

  • ترتبط الاختلافات في معدلات الذكاء بشكل أكبر بالمجموعات المصنفة اجتماعيًا (تتشابه في السلوك والآراء وطريقة العيش) وليس المجموعات المصنفة جينيًا (تتشابه في الحمض النووي).
  • يؤكد العلم امكانية تغير معدلات الذكاء بشكل جذري دون أي تغير جيني. (تأثير فلين)

ثانيًا: تلعب البيئة غير المشتركة دورًا أهم مما نعتقد، فيمكننا عزو كل اختلاف غير جيني إليها!

وجد العلماء أن الارتباط بين معدلات الذكاء لأشخاص بالغين غير مرتبطين جينيًا نشأوا في بيئة مشتركة هو صفر. بمعنى أن التشابه بين الطفل المتبني واخوته (المختلفين جينيًا ويتشاركون نفس البيئة) لا يختلف عن التشابه بينه وبين أي طفل من خارج الأسرة.

تطبيقات هذا الاكتشاف تحديدًا مثيرة للجدل لأنها تقدم رؤية جديدة لعلاقة الآباء والأبناء، فمن المتفق عليه أن أي فعل يقوم به الآباء يؤثر على أبنائهم لهذا يبذل الآباء مجهودًا مضاعفًا ليكونوا قدوة حسنة. لكن ربما ليست هذه الحقيقة كاملة.

يتشابه الآباء والأبناء إلى حد كبير، لا ينكر أحد هذه الحقيقة، وربما تتشارك أغلب صفاتك التي تتمتع بها الآن مع والديك. لكن سبب ذلك ليس بالضرورة تأثير آبائك عليك، بل يقدم لنا العلم تفسيرات جديدة:

  • سبب تشابهك أنت ووالديك هو تشارككم نفس الجينات، فأنت تحمل 50% من جيناتهم وبالتالي ترث منهم بعض الصفات
  • ربما الأمر معكوس، الأبناء هم أصحاب التأثير على آبائهم وليس العكس.

هذا التفسير صادم بالفعل ومثير للجدل، لأنه يهدم اعتقادات نفسية راسخة (أنا شخص سعيد لأن والداي أحسنوا تربيتي أو أنا شخص تعس لأن والداي أهملوني). والاستنتاج الذي يقدمه لنا هذا التفسير أنه لا فرق! لن يختلف الأمر كثيرًا إذا نشأت في بيئة صحية أو غير صحية، لأن تأثير البيئة المشتركة في خلق الاختلافات بين البشر ضئيل مقارنة بالبيئة غير المشتركة.

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

وبهذا نصل إلى نهاية الحديث، بعد أن طرحنا أغلب الإجابات والتفسيرات الممكنة لسؤال الاختلافات بين البشر -أفرادًا كانوا أو جماعات- واستعرضنا تفاصيل كل من الجينات والبيئة والدور الذي تلعباه في تكوين هذه الاختلافات. كذلك الجدل والصدام الناتج عن بعض اكتشافات علم الجينات السلوكي، التي لا يسعك -مهما كان موقفك منها- إلا الانبهار بها وبالعلم وتطوره!

اقرأ أيضًا: الشخصية والذكاء أصل اختلافنا نحن البشر!

المصادر

yalecourses

Exit mobile version