ما أصل اللغة البشرية؟ وما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 6 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

تعد اللغة جانبًا غامضًا من الحياة العقلية البشرية الذي يحتاج للكثير من التفسير. ما اللغة؟ وكيف نحصل عليها؟ ما القواسم المشتركة بين جميع لغات العالم؟ وكيف تطورت جميعها؟ كل هذه الأسئلة ليست جديدة، بل طرحها كل فيلسوف أو عالم نفس أو عالم أعصاب اهتم يومًا بالطبيعة البشرية وتفسيرها. فاللغة جزء لا يتجزأ منا وتدور حولها الكثير من الأسئلة.

ما هي اللغة؟

تُعرف اللغة بأنها القدرة على إنتاج واستيعاب الكلمات سواء كانت منطوقة أو مُشار بها (في حالة لغة الإشارة). ويُعرف العلم المختص بدراسة اللغة وتركيباتها بـ «علم اللغويات-Linguistics». وهناك حقيقتان يجب معرفتهما عن اللغة:

  • تتشارك جميع اللغات في بعض القواسم العامة، منها قدرة اللغة على التعبير عن أي فكرة مجردة.
  • اختلاف جميع اللغات، فلا توجد لغة مطابقة لأخرى.

لذا تُدرس جميع النظريات عن اللغة من هذا المنظور. منظور وجود بعض القواسم المشتركة وكذلك الاختلافات، وسنتطرق لكليهما لاحقًا.

اللغة البشرية وداروين

قدم داروين نظرية شيقة عن اللغة فقال:

لدى الإنسان ميل خاص للحديث. ونرى ذلك حتى في ثرثرة أطفالنا الصغار. بينما لا نرى طفلًا منهم يميل إلى تعلم الخبز أو الكتابة

وما تعنيه جملة داروين أن اللغة البشرية مميزة وتختلف عن الأنشطة الأخرى، وأنه هناك نوع من الميل الغريزي تجاه تعلم هذه اللغة. وتدعم بعض الحقائق هذا الادعاء، منها:

  • لكل مجتمع بشري لغة خاصة به.
  • على الرغم من الاختلاف الواسع بين الثقافات البشرية إلا أن اللغة (بأشكالها المختلفة) هي وسيلة التواصل المشتركة بينهم جميعًا. وربما يشير هذا إلى وجود ميل غريزي لتعلم اللغة داخلنا
  • هناك الكثير من الحالات عبر التاريخ التي تنشأ فيها اللغة بشكل طبيعي ومذهل. منها: تجارة العبيد قديمًا. عمد القائمون على هذه التجارة على خلط العبيد من خلفيات ثقافية مختلفة لكي يصعب التواصل بينهم فتقل احتمالية الثورة، لكن ما حدث هو تطوير هؤلاء الأشخاص ذوي اللغات المختلفة نظامًا جديدًا. نظام اتصال مؤقت يسمح لهم بالتواصل مع بعضهم فيما يُعرف بـ «اللغة المبسطة-Pidgin» واللغة المبسطة ليست حقيقية وإنما هي خليط من الكلمات المستعارة من لغات مختلفة.
    بمرور الوقت وإنجاب هؤلاء الأشخاص أطفالًا. نجدهم -على عكس المتوقع- لا يتحدثون لغة آبائهم المبسطة. وإنما يطورون لغتهم الخاصة. هذه اللغة كاملة وثرية وتامة التكوين. وتعُرف باسم «اللغة الهجين أو الكريول-Creole».
  • هناك دراسات علم الأعصاب أيضًا التي تدعم نظرية داروين. فكما أشرنا سابقًا في سلسلة علم النفس إلى وجود أجزاء مخصصة من المخ لتعلم اللغة فقط، ويصاب الإنسان عند تلفها بعجز لغوي ما.
  • توجد أيضًا بعض الدراسات التي تبحث في الأصل الجيني للغة.

اكتشف العلماء وجود بعض الجينات المسئولة عن استخدام وتعلم اللغة. ويفقد الشخص القدرة على تعلم اللغة عند إصابتها بأي خلل.

فيم تتشارك جميع اللغات؟

ذكرنا قبل قليل أن أطفال ضحايا تجارة العبيد طوروا لغة آبائهم وحولوها إلى لغة كاملة وثرية. فما المعايير التي يتحدد بها كمال اللغة؟

علم الأصوات

أول خطوة لتعلم اللغة هي تعلم أصواتها. وهنا يأتي دور «علم الأصوات-Phonology»، وهو نظام الأصوات في اللغة. فتستخدم الإنجليزية على سبيل المثال أربعين صوتًا. وتقع جميع الكلمات التي يسمعها المتحدث الأصلي بها في نطاق هذه الأصوات، كما يستطيع تمييزهم جميعًا. فيمكنه التمييز بين صوتي L و R كما في كلمتي Lip و Rip. بينما لا يمكن لبعض غير المتحدثين الأصليين تمييز هذا الفرق.

يمكن أيضًا للمتحدثين الأصليين وضع الحدود بين الكلمات وتحديد بدايتها ونهايتها. وعلى عكس المتوقع هذه الحدود أو «الوقفات-Pauses» بين الكلمات لا تُتعلم، بل هي وهم نفسي. فعندما يتحدث شخص عبر جهاز الذبذبات الذي يقيس ذبذبات الصوت نجد أنه لا توجد وقفات بين الكلمات، وإنما يتعلم العقل متى تبدأ الكلمة ومتى تنتهي ويدرج الوقفة بينهما. ونلاحظ هذا بوضوح عند الاستماع للغة غريبة فلا نسمع سوى ضوضاء متواصلة.

علم الصرف

«علم الصرف أو المورفولوجيا-Morphology»، وهو علم الكلمات. المورفيم هو أصغر وحدة بنائية ذات معنى في اللغة، وهناك فارق بين المورفيم والكلمة. فتتكون جميع الكلمات من مورفيم واحد أو أكثر. بينما توجد مورفيمات مفردة لا تكون كلمات.

مثال: كلمة Dogs. هي كلمة واحدة لكنها تتكون من المورفيم Dog ومورفيم الجمع S. تصل عدد المورفيمات التي يعرفها المتحدث العادي إلى ثمانين أو مائة ألف مورفيم. وتصل إلى مائتي أو ثلاثمائة ألف عند متعددي اللغات. وهذا كم مذهل من الكلمات يحمله العقل البشري. ويستطيع الوصول إليه في جزء من الثانية!

وتظهر خاصية مميزة للغة في إطار المورفولوجيا وهي «اعتباطية الإشارة-Arbitrariness of the sign» بمعنى عدم وجود علاقة بين شكل الكلمة أو الإشارة (في حالة لغة الإشارة) ومعناها، فالرابط بينهما اعتباطي. فنجد كلمة كرسي أو دولة لا تعبر بأي شكل عن الشكل المادي لهما، وإنما تعبر عن فكرتهما فقط. وعن طريق هذه الخرائط الاعتباطية تنشأ كلمات اللغة.

علم بناء الجملة

  • «علم بناء الجملة-Syntax»

وهي مجموعة القواعد التي تساعدنا على تكوين عددًا لا نهائيًا من الجمل المفيدة. وهنا تظهر خاصية مميزة للغة أيضًا. وهي امتلاكها «نظام دمج-Combinatorial System». بمعنى استخدام اللغة لوسائلها المحدودة (أصواتها وكلماتها) بشكل غير محدود (تكوين عدد لا نهائي من الجمل).

تتمتع الموسيقى بهذا النظام أيضًا، فتمتلك عددًا محدودًا من النغمات التي ينطلق منها عددًا لا محدودًا من المقطوعات الموسيقية. وآلية اللامحدودية هي التكرار، بمعنى أن القدرة على تكرار الكلمات (في أُطر نحوية معينة) يضمن لنا عددًا لا نهائيًا ومتجددًا من الجمل.

نمو اللغة البشرية

سنعود مرة أخرى إلى العالم الذي سبق وعرفنا أنه وضع نهاية للسلوكية: نعوم تشومسكي. أتى تشومسكي بادعاء ثوري حول أصل اللغة. فرأى أن تعلم اللغة ليس تعلمًا حقيقيًا، وإنما يجب النظر إليه كشكل من أشكال النمو. فكما تنمو أعضاء الجسم المختلفة، تنمو أيضًا القدرة على فهم اللغة داخل المخ. لكن ما مدى صحة هذا الادعاء؟

  • لا ينكر العلم حقيقة تأثير البيئة المحيطة على تشكيل اللغة. فلا يمكن تعلم أي لغة بشكل كامل دون سماعها والتأثر بها.
  • تثبت دراسات الأعصاب وجود مراكز خاصة بتعلم اللغة في المخ. وعند تلفها يصاب الشخص بأمراض مثل «الحبسة-Aphasia». كذلك توجد بعض الاضطرابات الجينية التي تسبب عدم قدرة الأطفال على تعلم اللغة وتعرف باسم «اعتلالات اللغة الخاصة-Specific language impairments». وهنا يمكن القول أن تعلم اللغة منفصل عن باقي جوانب الحياة العقلية البشرية. فهؤلاء الأطفال ذوي الاضطرابات الجينية لا ينقصهم الذكاء العقلي أو الاجتماعي، لكنهم فقط لا يستطيعون تعلم اللغة.
  • يحدث تعلم اللغة دون أي نوع من التدريب أو التقييم. فبينما تنتشر ثقافة الحديث مع حديثي الولادة لكي يتعلموا اللغة، نجد مجموعات من البشر الذين يجدون هذه الفكرة سخيفة، ولا يتحدثون مع أطفالهم إلا بعد أن يكتسبوا هم القدرة على الحديث. وفي الحالتين، يتعلم الأطفال اللغة. كذلك تثبت دراسة أخرى عدم أهمية التقييم. فلا يصحح الآباء حديث صغارهم عندما يقعوا في أخطاء لغوية أو نحوية (مثل الإشارة إلى المؤنث بالمذكر أو العكس) بل يستقبلونها بعاطفة بحتة ولا يهتمون بتلك الأخطاء. ومع ذلك تتلاشى هذه الأخطاء بمرور الوقت دون أي تدريب أو تصحيح.

وهنا تقترح هذه الأدلة انفصال مراكز تعلم اللغة عن باقي الحياة العقلية. كما أنها تنمو وتتطور دون أي تدريب كما يحدث مع باقي أعضاء الجسم. لذا ربما يحمل ادعاء تشومسكي على الرغم من غرابته بعض الصحة.

نظام لا مثيل له!

دراسة اللغة والنظريات المتعلقة بها حقل واسع للغاية، وربما تظل الأسئلة التي تدور حولها بلا إجابات شافية لوقت طويل. لكننا نعلم حقيقة أن اللغة البشرية لا مثيل لها. فعلى الرغم من وجود لغات وسبل تواصل بين فصائل مختلفة من الكائنات الحية. إلا أن اللغة البشرية بتكويناتها الثلاث من أصوات وكلمات وقواعد، وما يرتبط بهم من خصائص مميزة مثل نظام الدمج واعتباطية الإشارة، لا مثيل لها في أي نظام آخر.

المصادر

  1. languagelog
  2. britannica
  3. britannica
  4. lumenlearning

متلازمة الموهوب ومتلازمة الموهوب المكتسبة: المتلازمة التي تجعلك عبقريًا

لطالما كانت العبقرية ظاهرة محيّرة، تميز عددًا محدودًا من الأشخاص بموهبة خارقة للمعايير البشرية. وتتعدد مجالات العبقرية بين العلوم والحساب والموسيقى والرسم وغيرها. فقد لعب العباقرة حول العالم دورًا هائلًا في تطوير العلوم والفنون عبر التاريخ، وساهموا في شكل العالم الذي نعرفه اليوم. لكن ماذا لو نتجت العبقرية عن مرض عقلي أو إصابة دماغية؟ في هذه الحالة، نتحدث عن متلازمة الموهوب ومتلازمة الموهوب المكتسبة، فما الفرق بينهما؟

ما هي «متلازمة الموهوب-The Savant Syndrome»؟

متلازمة الموهوب هي حالة نادرة تصيب عددًا من الأشخاص ذوي الإعاقة العقلية أو الأمراض العصبية واضطرابات النمو العصبي، تخلق عندهم قدرات عقلية عالية  في مجال أو أكثر. ونقصد بالقدرات العقلية العالية أنها لا تتخطى قدرات الأشخاص المُصابين بالمرض أو الاعاقة العقلية نفسها فقط، بل أيضًا قدرات الأشخاص الأصحاء.

تختلف مجالات العبقرية بين شخص وآخر، لكن الأكثر شيوعًا هي مجالات الذاكرة والموسيقى والفن والحساب.

يكون الأشخاص المصابون بمتلازمة الموهوب غالبًا مُشخصين أساسًا باضطراب طيف التوحد، الذي يعتبر واحدًا من اضطرابات النمو العصبي، وهو يتصف بضعف السلوك الاجتماعي والتواصل والمهارات اللغوية وبعدد من السلوكيات النمطية المتكررة. وتقدر الدراسات بأن حوالى 10 الى 30 بالمئة من الأشخاص المصابين باضطراب طيف التوحد هم مصابون بمتلازمة الموهوب.

أشهر المصابين بالمتلازمة

من أشهر الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة رجل أميركي، جُسدت شخصيته في فيلم “Rain man”، وكان يتمتع بذاكرة بصرية خارقة. كان قد حفظ أكثر من 6000 كتاب، وكان لديه معلومات موسعة جدًا عن الجغرافيا والموسيقى والتاريخ والحساب. ذاكرته البصرية مكنته من حفظ جميع شوارع الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة الى قدرته على الحساب التقويمي (أي القدرة على معرفة اليوم المصادف مع تاريخ معين أو العكس). رجل آخر مصاب بالمتلازمة هو ديريك بارافيتشيني، وهو بريطاني كفيف ومصاب باضطراب الطيف التوحدي، يتمتع بقدرات خارقة في حفظ الآلاف من المقطوعات الموسيقية وعزفها ببساطة مطلقة.

https://www.youtube.com/watch?v=36K1HQvUdWg

تُعد أسباب الاصابة بمتلازمة الموهوب غير واضحة، فيعتبر بعض العلماء أنها مرتبطة بأسباب جينية، أما البعض الآخر فيعتقد أنها ناتجة عن كثرة تمرين وظيفة عقلية معينة. على المستوى العصبي، اقترح علماء أن المتلازمة قد تكون ناتجة عن عمليات نمو عصبي في مناطق معينة من الدماغ على حساب مناطق أخرى، وبالتالي تطور وظيفة عقلية مقابل ضعف في وظائف ثانية.

في دراسة أُجريت عام 2018، تم دراسة العلاقة بين أعراض معينة خاصة باضطراب طيف التوحد وبين وجود متلازمة الموهوب. وقد بينت االدراسة أن الأشخاص المصابين باضراب طيف التوحد مع متلازمة الموهوب هم أكثر حساسية على المحفزات الحسية، ولديهم سلوك ذا طابع وسواسي أكثر من الأشخاص المصابين باضراب طيف التوحد دون متلازمة الموهوب. وقد تكون هذه السمات ساهمت في نمو الموهبة (خاصة الطابع الوسواسي بحيث يحفز الشخص على التمرين يشكل مبالغ به على وظيفة معينة).

«متلازمة الموهوب المكتسبة- The Acquired Savant syndrome»:

كما يدل اسمها، هي قدرات عقلية خارقة يكتسبها الشخص بعد اصابة دماغية (سواءً بحادث أو بمرض عقلي).

تُعد هذه الحالة نادرة جدًا حول العالم، وتختلف أسبابها بين ضربة على الرأس مسببة إصابة في الدماغ أو مرض يؤثر على الدماغ ( التهاب السحايا، أمراض الخرف،…).

في معظم حالات المتلازمة، تكون الإصابة في الجزء الأيسر من الدماغ ويقوم الجزء الأيمن منه بالتعويض. وتكون الموهبة عادةً تنتمي الى أحد المجالات التالية: الحساب التقويمي، الرياضيات، الفن، الموسيقى والمهارات المكانية.

من الجدير بالذكر أن معظم حالات المتلازمة هي من الذكور. نذكر هنا قصة شخصين أصيبا بمتلازمة الموهوب المكتسبة:

أورلانرو سيريل تلقى ضربة من طابة البيسبول في العاشرة من عمره، مما سبب له صداعًا قويًا لأكثر من يوم. لكن المفاجأة أن بعد اختفاء الصداع، ظهرت عنده القدرة على الحساب التقويمي وتذكر الأحداث بدقة عالية.

في قصة أخرى، تلقى طبيب يدعى طوني سيكوريا صاعقة أثناء تكلمه عبر الهاتف. نجا سيكوريا من الحادثة وشفي بعد عدة أسابيع، إلا أنه شعر برغبة قوية في السماع لموسيقى كلاسيكية. ولكن رغبته لم تتوقف هنا، بل اشترى آلة بيانو وبدأ بالعزف عليها دون تعلم، وبدل أن يعزف موسيقى مكتوبة شعر برغبة جامحة في عزف موسيقى ألفها بنفسه. عام 2008، أطلق سيكوريا ألبوم موسيقي له بعد تأليفه العشرات من المقطوعات الموسيقية.

لم يُعرف أسباب واضحة لمتلازمة الموهوب المكتسبة، غير أنها تجعلنا نطرح سؤالًا مهمًا: هل الموهبة المكتسبة ناتجة عن الاصابة؟ أم أنها موجودة أصلًا عندنا جميعًا والإصابة كشفتها؟

لا شك أن متلازمتي الموهوب والموهوب المكتسبة هما من أكثر المتلازمات المدهشة، فهما تكشفان عن عبقرية الدماغ البشري. لكنهما أيضًا يبينان أن الدماغ ما زال لغزًا لم نستطع كشف كل جوانبه بعد، ولعل اكتشاف هذه الجوانب سيكون مفتاحًا في المستقبل لإطلاق العنان للإبداع الإنساني.

المصادر:

Molecular autism
NCBI
Brain injury law center
Europe PMC

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

هذه المقالة هي الجزء 5 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف غير بياجيه نظرتنا لأطفال العالم؟

  • يمكنك الاستماع لهذا المقال صوتيًا من هنا، سنبدأ حديث اليوم بطرح عدة أسئلة. كيف يكتسب الإنسان المعرفة؟ ما طبيعة الذكاء البشري؟ وكيف ينشأ وينمو؟ لا يمكننا إجابة هذه الأسئلة دون التطرق إلى علم نفس النمو. تحديدًا نظرية «النمو المعرفي- Cognitive Development» لعالم النفس السويسري «جان بياجيه-Jean piaget».

عن النظرية

لا يمكننا تفسير النمو المعرفي دون ذكر دور بياجيه. فهو أول عالم يضع نظرية تفسر طبيعة الذكاء عند الأطفال. كما يطرح أسئلة عن المعرفة نفسها، كيف تُكتسب ويستفيد منها البشر. اهتم بياجيه بنشأة المعرفة بشكل عام. واعتقد أن دراسة النمو الفردي للطفل سيرشده إلى الإجابة. فكان مؤمنًا أن نمو الفرد يحاكي النمو المتكرر للفصيلة. وصف بياجيه الأطفال أنهم مفكرون نشطون، أو علماء صغار. يحاولون اكتشاف العالم دائمًا. ويفعلون هذا عن طريق آليتين تعملان بالتبادل وتقودان الطفل خلال مراحل نموه المختلفة:

  1. «Assimilation -التماثل» وهي عملية إدخال معلومات جديدة على نظام معرفي موجود مسبقًا. أو بمعنى آخر توسيع نطاق المعرفة. مثل قدرة الطفل على التعرف على الكلب (هذا نظام معرفي وجد مسبقًا) تمتد لتسميته جميع الحيوانات ذوات الأرجل الأربع كلب.
  2. «التكيف-Accommodation» وهي عملية تكوين نظام معرفي جديد،يُمكن إدخال معلومات جديدة عليه. أو بمعنى آخر تغيير منظومة المعرفة نفسها. مثال: عندما يصحح الوالدان الطفل ويقولان أن هذا الحيوان صاحب الأرجل الأربع قطة وليس كلب، يكتسب الطفل معرفة جديدة.

بياجيه ومراحل نمو الطفل

آمن بياجيه بـ «المعرفة الجينية-Genetic Epistemology» بمعنى أن النمو المعرفي للطفل يحدث تبعًا لمخطط فطري وُجد قبل الولادة. وراقب بياجيه واختبر التغيرات التي تحدث للأطفال في مراحل عمرية مختلفة ومن خلالها وضع نظريته عن النمو المعرفي للطفل وقسمها إلى عدة مراحل:

  1. «المرحلة الحسية الحركية-sensorimotor stage» والتي تمتد حتى عمر السنتين. وفيها يكون الطفل كائنًا ماديًا للغاية. ليس لديه أي فهم للعالم الخارجي. يرى ويسمع ولا يفكر. وعند عمر الستة أشهر، يبدأ الطفل اكتساب مفهوم «ديمومة الأشياء-Object Permenance».

    أطلق بياجيه هذا الاسم على ظاهرة استيعاب البشر استمرار وجود الأشياء حتى عند غيابها عن النظر. البالغون يدركون هذه الفكرة، لكن الأطفال -حتى عمر الستة أشهر- كما ادعى بياجيه لا يدركونها. وهو ما فسر به انزعاج الأطفال عندما تخفي لعبتهم وراء ظهرك، فيعتقدون أنها اختفت للأبد.

فكرة أخرى مرتبطة بهذه المرحلة وهي فشل الأطفال الأكبر سنًا -عمر التسعة أشهر- في اختبار (أ وليس ب). مثال: تأخذ غرضًا يخص طفل عمره تسعة أشهر وتضعه في فنجان (نقطة أ) فتجد الطفل يمد يده ويأخذه.

تعيد التجربة عدة مرات فيتكرر نفس رد فعل الطفل. أما عند وضع الغرض في مكان آخر (نقطة ب) تجد الطفل يمد يده إلى النقطة أ. كأن الطفل في هذا العمر ليس ذكيًا بما يكفي ليمد يده إلى النقطة ب رغم رؤية الغرض يُنقل إليها. ومن هنا استنتج بياجيه قصور فهم عند الأطفال في هذا العمر، هذا القصور يتطلب الوقت والمرور بباقي المراحل ليتطور.

2. «مرحلة ما قبل العمليات-Preoperational stage» والتي تمتد حتى سبع سنوات. وهنا يتعلم الطفل اللغة، ويتطور خياله واستخدامه للرموز. وتتشكل فكرته عن العالم، لكن هذه الفكرة محدودة بمفهومين:

  • «التمركز حول الذات-Egocentrism» وهنا لا يقصد بياجيه الأنانية. وإنما عدم قدرة الطفل على استيعاب أن الآخرين يرون العالم بشكل مختلف عنه. أشهر التجارب التي توضح ذلك هي «مهمة الجبال الثلاث-Three mountains task».

    حيث عرض بياجيه مجسم ثلاثي الأبعاد لثلاثة جبال على أطفال في عمر الرابعة والخامسة، وطلب منهم رسم المشهد كما يرونه أمامهم. فلم يواجهوا صعوبة في ذلك. ثم طلب منهم رسم الجبل كما سيبدو لشخص يقف على الجانب الآخر. فواجه الأطفال صعوبة بالغة في فعل ذلك.
  • «الاحتفاظ-Conservation». بمعنى فهم أن إعادة توزيع المادة لا يؤثر على حجمها أو كتلتها أو طولها أو عددها. والأطفال في هذا السن كما يرى بياجيه لا يدركون هذا المفهوم. أحد التجارب الشهيرة التي توضح ذلك تضمنت وضع كميتين متماثلتين من الماء في إنائين متماثلين. ثم نقل الماء من أحدهما إلى إناء آخر أطول وأنحف. وسؤال الأطفال أي الإنائين يحوي كمية ماء أكبر. ورغم رؤية الأطفال تماثل كميات الماء في المقام الأول إلا أنه يقع اختيارهم على الإناء الأطول دائمًا.

3. «مرحلة العمليات الملموسة-Concrete Operations Stage» التي تمتد من سن السابعة حتى الحادية عشر. وهنا يدرك الطفل مفهوم الاحتفاظ. ويكتسب القدرة على التفكير المنطقي ولكن في نطاق مادي ملموس فقط. فلا يمتلك القدرة على التفكير المجرد.

4. «مرحلة العمليات الشكلية المجردة- Formal Operational Stage» التي تبدأ من سن الثانية عشر وتمتد فيما بعدها. وهنا يكتسب الطفل القدرة على التفكير المجرد خارج حدود العالم المادي.

نقد نظرية بياجيه

نجح بياجيه مقارنة بفرويد وسكينر وذلك لعدة أسباب: نظرية بياجيه عن النمو المعرفي للطفل متماسكة بما يكفي لاختبارها وإثبات خطأها. بمعنى أنها تتمتع بما ذكرناه سابقًا عن «قابلية الدحض-Falsification» على عكس فرويد وسكينر. كما حقق بياجيه نتائج مذهلة.

فلم يكن يدري أحد أن الأطفال يفكرون بشكل مختلف عن البالغين، بل اعتقد الجميع أنهم فقط غير قادرين على التفكير مثلهم. وجاءت مفاهيم بياجيه عن الاحتفاظ وديمومة الأشياء لتدحض هذه الفكرة.

لكن لم تخل نظرية بياجيه من بعض القصور. بعضها قصور نظرية: فلم يوضح بياجيه بشكل كامل كيف يكتسب الطفل المعرفة. كيف ينتقل من مفكر ملموس إلى مفكر مجرد. أو كيف يتحول من عدم إدراك ديمومة الأشياء إلى إدراكها. وبعضها قصور منهجية: اعتمد منهج بياجيه على الأسئلة والإجابات. لكن المشكلة أن الطفل ليس متمكنًا من التعبير واستخدام اللغة. وربنا يؤدي هذا إلى الاستهانة بما يعلمه الأطفال بالفعل. خاصة الأطفال الأصغر سنًا.

طفلك أذكى مما تعتقد!

يتشارك أغلبية البشر في نظرتهم تجاه الأطفال، أنهم صغار وسذج ولا يعلمون الكثير عن العالم. لكن العلم الحديث يثبت عكس ذلك. فالأطفال أذكي مما نعتقد. ولاكتشاف المدى الكامل لقدراتهم ربما علينا أن نكون أكثر ذكاءًا ونطور وسائل البحث. بدلًا من طرح الأسئلة وانتظار الإجابات هناك وسائل أكثر فاعلية. مثل: دراسة الموجات الدماغية، أو تحديد وقت النظر الخاص بهم. يعد الأخير أحد أهم الوسائل التي ساعدت في دراسة نمو الأطفال.

أحد التجارب الشهيرة التي قام بها العالم روبرت فانتز تضمنت عرض صورتين على أطفال بعمر يومين فقط وملاحظتهم. فوجد اختلاف في وقت نظرهم إلى الصورتين مما يقترح رؤيتهم للاختلاف بينهم. كذلك تفضيلهم للصورة التي ينظرون إليها لوقت أطول. وبهذا اكتشف العالم تفضيل الصغار للأسطح المزخرفة على الأسطح الفارغة.

تعتمد تجارب “وقت النظر” على مبدئين وهما:

  • التعود: كما فسرناه عند مناقشة السلوكية هو انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. وباستخدامه يمكن تحديد ما يراه الطفل مختلفًا. مثال: عرض صورة باللون الأحمر بشكل متكرر حتى يمل الطفل منها. ثم عرض صورة باللون الأخضر وملاحظة رد فعله. في حال انتباه الطفل لحدوث اختلاف فسينظر لوقت أطول.
  • المفاجأة: وتعتمد على رؤية الأطفال لأحداث تخالف فكرتهم المسبقة عن الأشياء وطريقة عملها. فنلاحظ ازدياد وقت نظرهم. مثال: «تجربة الجسر المتحرك-DrawBridge Study» الشهيرة. وُضعت شاشة متحركة على طاولة، تدور من وضع رأسي، وكذلك بشكل أفقي موازٍ للطاولة. رأي الأطفال هذا المشهد حتى اعتادوا عليه. ثم وُضع صندوق خلف الشاشة ليمنع دورانها بشكل كامل.

    تعرض الأطفال لنوعين من المحفزات أثناء الاختبار: محفز واقعي وهنا يعيق الصندوق الشاشة فتتوقف عن الدوران. ومحفز غير واقعي وهنا يُسحب العائق سرًا فتستمر الشاشة في الدوران بشكل طبيعي. ازداد وقت نظر الأطفال بشكل ملحوظ في الحالة الثانية مما يقترح فهم الأطفال لقوانين العالم المادي، واستيعابهم لديمومة الأشياء (استمرار وجود العائق خلف الشاشة حتى عندما لا يرونه) قبل عمر الستة أشهر.

والآن يثبت العلم إدراك الطفل للعالم المادي منذ البداية، لكن ليس بشكل كامل. بالرغم من وجود بعض المعرفة الفطرية إلا أنه هناك مساحة للتعلم والتطور. وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن تفسير معرفة الطفل لأشياء لم يكن يعرفها من قبل؟ كيف نفسر هذا النمو؟

كيف نفسر النمو؟

أولًا: عن طريق نمو المخ أو النضج العصبي. الخلايا العصبية التي يمتلكها الشخص البالغ هي نفس الخلايا التي امتلكها حينما كان جنينًا في رحم أمه. وما يحدث هو عملية تشذيب، أو تخلص من فائض الخلايا العصبية غير المفيدة. الأمر الذي يغير من الهيكل العصبي بشكل جذري.

ثانيًا: نمو الوصلات العصبية بشكل كبير، تصل «الوصلات العصبية-Synapses» إلى ذروة نموها عند عمر السنتين.

ثالثًا: نمو «الغشاء الميليني-myelin sheath». وهو الغشاء الذي يحيط بمحور الخلية العصبية ليزيد من سرعتها وكفائتها. ينمو هذا الغشاء بشكل تدريجي، فنجده غير مكتمل النمو عند المراهقين، خاصة في الفص الجبهي من المخ. وهو الجزء المسئول عن الإرادة وضبط النفس.

رابعًا: عدم قدرة الأطفال على «المنع-Inhibition». ولفهم ذلك سنعود إلى تجربة (أ وليس ب) في بداية المقال. فسر العلماء تكرار ذهاب الطفل إلى النقطة أ رغم رؤيته تغير مكان الغرض أنه يصعب على الطفل التحكم في الفعل وإيقافه بعد أن قام به بشكل متكرر. وذلك لأن الجزء الخاص بالتحكم/ المنع في المخ لم ينشط بعد. بل لاحظ العلماء أيضًا أن الطفل يمد يده إلى النقطة أ بينما ينظر إلى النقطة ب. كأنه يعرف الخيار الصحيح لكنه فقط لا يستطيع التحكم ومنع نفسه.

الأطفال اجتماعيون بالفطرة

لا يتوقف ذكاء الأطفال عند إدراكهم للعالم المادي وبعض قوانينه فقط. بل تقترح بعض التجارب امتلاك الأطفال قدرًا من الذكاء الاجتماعي الفطري، الذي يتيح لهم التفاعل مع عناصر البيئة المحيطة بهم. ومن هذه التجارب:

تجربة روبرت فانتز التي ذكرناها سابقًا. حيث لاحظ روبرت انجذاب الأطفال (بمعنى النظر لوقت أطول) إلى الصور التي تحمل أنماطًا تشبه الوجوه البشرية.

تجربة أخرى شهيرة قام بها ميلتزوف تتضمن التفاعل مع أطفال حديثي الولادة. وجدت أن الأطفال يقلدون تعابير وجه الشخص البالغ الذي يقف أمامهم مثل فتح الفم وإبراز اللسان. نتائج هذه التجربة على وجه الخصوص مدهشة، لأنها تثبت أن الأطفال مقلدون بطبيعتهم. وأن هؤلاء الأطفال يمتلكون نوعًا من المعرفة الفطرية أن الشخص الذي يقف أمامهم (مثلهم) ومن نفس نوعهم.

تجربة أخرى قام بها العالم بول بلوم تضمنت عرض أفلام على أطفال بعمر التسعة أشهر. أحد شخصيات الفيلم متعاونة تساعد الكرة على تحقيق الهدف. والشخصية والأخرى تعيقها. ثم اختبار أي الشخصيات تلفت انتباه الأطفال أكثر. وجائت النتائج بميل الأطفال إلى الشخصية المساعدة. ومن هنا يمكن استنتاج أن الأطفال لديهم نوع من التفسير الاجتماعي لمفاهيم المساعدة والإعاقة. كما يمكن القول أنهم يميلون فطريًا إلى التعاون.

أبيض أم أسود؟

وهنا قد يعتقد البعض ان هذا الأمر مبالغ فيه، لماذا ندرس علم النفس النمو؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بالصغار؟ فهم سيكبرون في جميع الأحوال! والإجابة أن دراسة نمو الأطفال ليس هامًا لهم فقط، بل لنا كبالغين أيضًا. هناك بعض الأسئلة التي لا يمكن إجابتها إلا بالعودة إلى الوراء والنظر في بدايات الأشياء. أحد الأمثلة الشهيرة: هل الحمار الوحشي أبيض بخطوط سوداء أم أسود بخطوط بيضاء؟ وهنا يمكنك التأمل والتفكر في جسد الحمار الوحشي كما تشاء ولن تصل إلى إجابة. أما إذا قررت العودة إلى الوراء، وقمت بالنظر في نمو جنين الحمارالوحشي ستجد الإجابة. وهنا تكمن أهمية ما نفعله.

المصادر

  1. britannica
  2. webmd
  3. verywellmind
  4. simply psychology
  5. cell

متلازمة كلوفر-بوسي: متلازمة التصرفات الغريبة

يتألف الدماغ من أربعة فصوص هي : الجبهي، والصدغي، والجداري والقذالي. ويلعب كل منها أدواراً مختلفة ومتشابكة فيما بينها. وقد تشكل اصابة أي واحدة منها ضررًا كبيرًا على الحياة العقلية والسلوكية للفرد. لطالما اعتُقد أن الفص الصدغي يقتصر دوره على السمع وإدراك الأصوات وفهم اللغة، إلّا أن إصابة الفص الصدغي التي أنتجت متلازمة كلوفر-بوسي أثبتت أن دوره أكثر تعقيدًا وأهمية. فما هي أعراض متلازمة كلوفر-بوسي؟ وماذا نعرف عن أدوار الفص الصدغي؟

تعريف:

«متلازمة كلوفر-بوسي – Klüver-Bucy syndrome » هي متلازمة عصبية نفسية نادرة تنتج عادةً عن ضرر في الدماغ تحديدًا في الفص الصدغي خصوصًا في «الحُصين- Hippocampus» وفي «اللوزة الدماغية-Amygdala». وتتجلّى من خلال مجموعة من الاضطرابات المعرفية العقلية والسلوكية والتصرفات الغريبة.

وُصفت للمرة الأولى من قِبل عالم النفس الألماني «هينريش كلوفر-Heinrich Klüver» وطبيب الأعصاب الأميركي «بول بوسي-Paul Bucy» في العام 1937، عند القرود الهندية بعد استئصال الفص الصدغي في جانبيه الأيمن والأيسر. وقد تشابهت الأعراض بين القرود الهندية والبشر بعد اصابة الفص الصدغي.

تعريف الفص الصدغي ووظائفه:

يُقسم الدماغ الى أربعة فصوص (وهي أجزاء من الدماغ)، منها الفص الصدغي الذي يقع بجانب العظم الصدغي على مستوى الأذنين داخل الجمجمة.

يتضمن الفص الصدغي بشكل أساسي «منطقة فرنيك-Wernicke’s area» و«منطقة بروكا-Broca’s area» المسؤولتين عن التواصل الكلامي و«الجهاز الحوفي-Lymbic system» المسؤول عن التحفيز والشعور والذاكرة والتعلم.

بدوره يتضمن الجهاز الحوفي الحُصين الذي يلعب دورًا هامًّا في الذاكرة ، واللوزة الدماغية التي تساهم في السلوك والتفاعلات الشعورية والوظائف المتعلقة بالشهية والاثارة الجنسية.

أعراض متلازمة كلوفر-بوسي:

تتضمن هذه المتلازمة أعراض سلوكية غريبة منها الميل الى وضع كل الأغراض في الفم، والحاجة الى استكشاف كل شيء حوله، وفقدان الذاكرة، والشبق (أي فرط الرغبة والأفعال الجنسية)، والتغيرات المزاجية، والهدوء أو عدم الاكتراث المُبالغ فيه، وتشتت الانتباه البصري و فقدان الادراك البصري (أي عدم القدرة على تمييز الأشياء عند النظر اليها) والشره المرضي (أي فرط الشراهة في تناول الطعام).  ويكفي وجود ثلاثة من الأعراض المذكورة كي يتم تشخيص متلازمة كلوفر-بوسي جزئية بعد إصابة الفص الصدغي.

أسباب الإصابة بمتلازمة كلوفر-بوسي:

تنتج المتلازمة عن إصابة الفص الصدغي من الدماغ، إما نتيجة حوادث مؤذية للدماغ أو نتيجة أمراض معينة تصيب الدماغ تختلف بين أمراض انتكاسية (كالألزهايمر ومرض باركنسون ) والأورام الدماغية وحتى الالتهابات الدماغية.

تصيب متلازمة كلوفر-بوسي الرجال والنساء بنسب متساوية.

قد تصيب المتلازمة الأطفال أيضًا، وتكون في هذه الحالة ناتجة عن التهاب الدماغ، وتختلف الأعراض بشكل طفيف عن الأعراض التي تصيب الكبار.

التشخيص:

يتم التشخيص من خلال المراقبة العيادية للأعراض، بالإضافة الى تقنيات التصوير العصبي التي تسهل تشخيص موقع الضرر الدماغي وتأثيره.

ترتبط المتلازمة غالبًا بأمراض أو إصابات أخرى مسببة لها، ممّا يستوجب تشخيصها لفهم أسباب المتلازمة وطرق علاجها.

العلاج:

يصعب علاج هذه المتلازمة النادرة كونها ناتجة عن اصابات غالبًا ما تكون بالغة في الدماغ، لذلك يختلف العلاج من شخص لآخر ويهدف الى التخفيف من حدة الأعراض وتأثيرها على الشخص المُصاب.

تتضمن طرق العلاج الأدوية من مثبتات المزاج والمهدئات ومضادات الاكتئاب، والعلاجات النفسية والسلوكية لضبط التصرفات السلوكية، والعلاجات المعرفية لمعالجة فقدان الذاكرة وتشتت الانتباه البصري.

كما يحتاج المريض أحيانًا للمتابعة الغذائية في حال وجود عارض الشره المرضي.

تثبت متلازمة كلوفر-بوسي مدى تشابه الدماغ البشري ودماغ أسلافه من القرود (في هذه الحالة القرود الهندية)، بحيث تتسبب إصابة منطقة معينة من الدماغ أعراض متشابهة عند النوعين. كما ساعد هذا النوع من المتلازمات على فهم كيفية عمل كل منطقة من الدماغ وتشابك وظائفها مع مناطق الدماغ الأخرى. لكن على الرغم من التقدم الهائل الذي حققه القرن الأخير في علوم الدماغ، فمازلنا نجهل الكثير عنه.

المصادر:

NCBI
Rarediseases
MedicalNewsToday
JAMA network

حديث عن السلوكية وسكينر

هذه المقالة هي الجزء 4 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

حديث عن السلوكية وسكينر

ذكرنا في الجزء السابق من سلسلة علم النفس دور فرويد وإسهاماته الفكرية ورأي العلم فيها. واليوم سنتعرض لمدرسة فكرية أخرى حظت بشهرة واسعة في القرن العشرين وهي السلوكية وأشهر مناصريها «بي.اف. سكينر- B. F. Skinner».

على عكس فرويد الذي طور نظرية التحليل النفسي بنفسه، فهي أقرب إلى الاختراع الفردي. ظهرت السلوكية قبل سكينر بوقت طويل. وناصرها علماء أهمهم جون واتسون. وترجع شهرة سكينر إلى جمعه أفكار السلوكية وتنقيحها وتطويرها وتقديمها للمجتمع العلمي.

مباديء السلوكية الثلاث

تتبنى السلوكية ثلاث رؤى متطرفة وشيقة للغاية وهي:
١. التشديد القوي على أهمية التعلم والتجربة. فيري السلوكيون أن طبيعة الإنسان كلها نتاج التجربة. ليست هناك طبيعة بشرية حقيقية، فالبشر طيعون وقابلون للتشكيل.

ويقول جون واتسون: “أعطني مجموعة من الأطفال الأصحاء المعافين ومساحتي الخاصة لتربيتهم بها. وأضمن لك أنني سأحول أي شخص منهم عشوائيًا إلى المتخصص الذي أختار، طبيب أو محامي أو تاجر أو مدير وحتى متسول أو لص. بغض النظر عن مهاراته أو إهتماماته أو ميوله أو قدراته أو مشاعره أو أصوله”

وفي هذا السياق، نجد واتسون مؤمنًا بالمساواة. فلا يوجد فصيل من البشر أفضل من الآخر. بل يعتمد الأمر كله على التعلم وأسلوب المعاملة.
٢. «معاداة السيطرة الذهنية-Anti mentalism». قدس السلوكيون كل ما هو علمي. وعلى عكس فرويد، آمنوا أن الحديث عن الحالة الذهنية الداخلية مثل الرغبات والأمنيات والأهداف والمشاعر غير علمي. لذا طوروا منهجهم دون الاعتماد على أي شيء غير قابل للرصد. بل استخدموا مفاهيم مثل: المحفزات وردود الأفعال والتعزيز والعقاب. وتشير جميعها إلى أحداث ملموسة في العالم الحقيقي.
٣. عدم وجود اختلاف يُذكر بين فصائل الكائنات الحية. رأي السلوكيون أن المفاهيم السالف ذكرها يمكن تعميمها على جميع الكائنات الحية. لذا طوروا منهجًا لدراسة السلوك البشري عن طريق دراسة سلوك الحيوانات.

كيف فسرت السلوكية السلوك البشري؟

وضع السلوكيون ثلاثة مباديء للتعلم. وزعموا أنها يمكنها تفسير كافة الحياة العقلية والسلوكيات البشرية.

المبدأ الأول وهو «التعود-Habituation». يمكن تعريف التعود أنه انخفاض الاستجابة للمحفزات المألوفة بسبب التعرض المستمر لها. مثل اعتياد صوت دقات الساعة أو ضوضاء المرور. ويعد التعود صورة هامة من صور التعلم وآلية تكيف مفيدة. تُمكن البشر من تعقب الأحداث والتغيرات الجديدة لتحديد إذا كانت ستؤذيهم أم لا. ومن ثم التوقف عن ملاحظة الأشياء بعد فترة، بعد أن تُثبت اندماجها بالبيئة المحيطة استعدادًا لملاحظة تغير جديد وهكذا.

المبدأ الثاني: «الشرطية الكلاسيكية-Classical Conditioning». يعد عالم النفس الروسي «إيفان بافلوف-Ivan Pavlov» أشهر من تحدث عن الارتباط الكلاسيكي. قامت تجربة بافلوف على تقديم الطعام إلى كلب وملاحظة كمية اللعاب التي ينتجها. كان بافلوف يقرع الجرس أولًا ويتبعه بتقديم الطعام للكلب فينتج اللعاب. ومع الوقت لاحظ بافلوف أن قرع الجرس وحده دون تقديم الطعام تسبب أيضًا في إنتاج اللعاب.

وهنا قدم بافلوف نتائجه التي فرقت بين نوعين من الارتباط بين المحفز ورد الفعل: أولًا، الارتباط غير المشروط. عندما يُسبب محفز غير مشروط (تقديم الطعام للكلب) رد فعل غير مشروط (إنتاج اللعاب). ويحدث هذا الأمر بشكل طبيعي، لم يضطر الكلب لتعلمه. ثانيٌا، الارتباط المشروط. عندما يُسبب محفز مشروط (صوت الجرس) رد فعل مشروط (إنتاج اللعاب). يحدث هذا الارتباط عبر التعلم، وفيه يتحول صوت الجرس تدريجيًا من عامل محايد إلى محفز مشروط. وهنا نجد أن الاقتران المتكرر بين المحفزات غير المشروطة والمحفزات المشروطة يؤدي في النهاية إلى إنتاج رد فعل مشروط.

المزيد من الشرطية الكلاسيكية

لم تقتصر تجارب الشرطية الكلاسيكية على الحيوانات فقط، بل عُممت على البشر أيضًا. قام سكينر بتجربة «ألبرت الصغير-Little Albert» الشهيرة. حيث أتي بالطفل ألبرت صاحب التسعة أشهر وعرض عليه مجموعة من “المحفزات” مثل: جريدة مشتعلة وقرد وأرنب وفأر أبيض. ولاحظ ردود أفعاله، فلم يبد الطفل أي إشارة خوف أو اضطراب.

أعاد سكينر التجربة، لكن عندما ظهر الفأر الأبيض أثار ضوضاء مزعجة، فأخذ الطفل يبكي. بعد إعادة التجربة عدة مرات وإقران الفأر الأبيض بالضوضاء كل مرة، صار ألبرت يبكي عند رؤية الفأر الأبيض فورًا حتى في غياب الضوضاء. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لاحظ سكينر بكاء الطفل عند رؤيته الأرنب أو معطف من الفرو أو قناع سانتا. امتد خوفه إلى كل ما هو أبيض ومكسو بالفراء فيما عرفه سكينر بـ «تعميم المحفز-Stimulus Generalization»

وهنا يمكننا القول أن الشرطية الكلاسيكية ليس مجرد ظاهرة معملية. فقد عُممت نتائجه على مختلف أنواع الحيوانات. بل وأدعى البعض أنه يفسر بعض الجوانب الشيقة من ردود الفعل البشرية. مثل: حالات «الرهاب-Phobia».

رأي السلوكيين في تجربة ألبرت الصغير تفسيرًا لنشأة الرهاب. وأيضًا شعور الجوع، تُفسر تجربة الجوع بوجود إشارات في البيئة المحيطة مرتبطة ومحفزة لهذا الشعور. وآمن السلوكيون أنه يحدث بسبب التاريخ الارتباطي بين المحفزات وردود الفعل. وأخيرًا تكوين الرغبة الجنسية خاصة الفيتيشية. رأي السلوكيون أنه إشراط كلاسيكي مباشر. فبينما يختبر الشخص المتعة الجنسية مع شريكه يحدث أن تقع عيناه على الحذاء مثلًا ومن هنا يحدث الارتباط. فيصبح الحذاء محفز مشروط لرد فعل مشروط وهو المتعة الجنسية.

الإسهام الأبرز لسكينر

المبدأ الثالث والأخير للتعلم عند السلوكية هو «الشرطية الإجرائية-Operant Conditioning». وهنا يحدث التعلم عن طريق المكافأة والعقاب، فيربط الشخص بين سلوك معين ونتائجه. طُور هذا المبدأ على يد سكينر. الذي اعتمد على «قانون التأثير-Law of Effect» لثورندايك بشكل أساسي وبنى عليه نظريته. ينص قانون التأثير أن احتمالية تكرار الأفعال المتبوعة بنتائج إيجابية أعلى من تلك المتبوعة بعواقب سلبية.

طور سكينر هذا المفهوم وأضاف إليه مصطلح «التعزيز-Reinforcement». ومعناه أن السلوك الذي يُعزز يتكرر وينمو تأثيره، أما السلوك الذي لا يُعزز يضعف تدريجيًا حتى يتلاشى. مثال على ذلك: تملك خنزيرًا وتود تدريبه على السير إلى الأمام فقط. عندما يسير الخنزير للأمام تكافئه وتقدم له الطعام. وعندما يسير للخلف تعاقبه وتمنعه عن الطعام. وبمرور الوقت وباستخدام تقنية المكافأة والعقاب ستحصل على خنزير يسير للأمام فقط. وهكذا استخدم سكينر الإشراط الإجرائي لتدريب الحيوانات. ولم يتوقف على تعليمها السير للأمام فقط بل دربها لفعل أمور أكثر تعقيدًا. مثل لعب كرة الطاولة، وأيضًا طور خلال الحرب العالمية الثانية قذيفة موجهة بطيور الحمام. لكن لحسن الحظ لم تُستخدم قط!

لو اقتصرت تجارب سكينر على الحيوانات فقط لما اتسعت شهرته. لكنه عممها على البشر وسلوكياتهم أيضًا. ناصر سكينر مبدأ الإشراط الإجرائي وآمن أنه يجب تطبيقه على الحياة اليومية لتصبح حياة البشر أكثر رضا وكمالًا. فطالب بإعادة إصلاح نظام السجون. وبدلًا من التركيز على مباديء العدالة والعقاب، ينبغى تعزيز التصرفات الحميدة والعقاب على التصرفات المسيئة.

رأي العلم في السلوكية

أثبت العلم أن الأفكار الثلاث التي قامت عليها السلوكية خاطئة بشكل كامل. وفيما يلي تفصيل للنقد الموجه للسلوكية:

أولًا: هل كل المعرفة تأتي من التعلم؟ أثبت العلم يقينًا أن كل شيء لا يأتي عن طريق التعلم. وهناك ما يكفي من الأدلة على وجود قدر من المعرفة والرغبات الفطرية عند البشر والحيوانات على حد سواء.

ثانيًا: هل الحديث عن الحالة العقلية غير علمي؟ ثبت خطأ هذا الاعتقاد أيضًا. تعتمد علوم مثل الفيزياء والكيمياء بشكل كبير على أشياء غير قابلة للرصد. ويبدو تفسير السلوك الإنساني تبعًا للآليات الداخلية له أكثر منطقية. مثلما يحدث مع الحاسوب فلن نستطيع تفسير لماذا يقدر على لعب الشطرنج مثلًا دون التطرق إلى برامجه وآلياته الداخلية.

ثالثًا: هل تحتاج الحيوانات للتعزيز والعقاب كي تتعلم؟ الإجابة أيضًا لا. ظهرت دراسات للعالم تولمان في القرن الماضي تثبت عكس ذلك. حيث وُضعت بعض الفئران في متاهة ووجدوا أنها تنهيها بسرعة عند تعزيزها بشكل مستمر. لكنهم وجدوا أيضًا أنها تنهيها بشكل أسرع إذا لم تُعزز على الإطلاق. لذا يمكننا القول أن مبدأ التعزيز والعقاب يساعد لكنه ليس الخيار الأمثل.

رابعًا: هل يمكن تعليم الحيوانات أي شيء دون قيود؟ والإجابة هي لا. لدى الحيوانات ردود فعل فطرية، التي يمكن استخدامها في تجارب التعلم لكن لا يمكن تغييرها. فيمكن تعليم حمامة أن تنقر الأرض من أجل الطعام أو ترفرف جناحيها للهروب لكن يصعب تعليمها العكس.

صحة الشرطية الكلاسيكية

أثبت العلم وجود استثناءات للشرطية الكلاسيكي منها ظاهرة تدعى «تأثير جارسيا-The Garcia Effect» التي تفسر النفور من الطعام عند الحيوانات والبشر. فعندما يتزامن شعور الغثيان مع وجود طعام جديد يتطور نفور تجاه هذا الطعام. والمثير هنا أن هذا النفور خاص ومميز. فإذا حُقن حيوان بعقار ما يجعله يشعر بالغثيان، وقدم له في نفس الوقت طعامًا جديدًا فسينفر من هذا الطعام. أما إذا صُعق كهربيًا وقُدم له طعامًا جديدًا فلن ينفر منه. ثنائية النفور من الطعام والغثيان فطرية وبالتالي فهي أقوى من ثنائية النفور من الطعام والألم.

استثناء آخر للشرطية الكلاسيكية وهو نشأة الرهاب. ثُبت خطأ الإدعاء القائل أن تطور الرهاب يحدث نتيجة ارتباطات كلاسيكية. بل اتضح أن هناك بعض أشكال الرهاب التي تطورنا كبشر لنصاب بها. فنجد أن البشر وحيوانات الشمبانزي أكثر عرضة للإصابة بالخوف من الثعابين. لذا من المرجح أن الإصابة بالرهاب لها علاقة بالتاريخ التطوري وليس التاريخ الشخصي.

النقد الأخير والأكثر قوة الذي وضع نهاية للسلوكية كنظرية سائدة كتبه المفكر نعوم تشومسكي. الحجة الرئيسية التي ساقها تشومسكي هي افتقار السلوكية -كما الحال مع فرويد- لـ «القابلية للدحض-Falsification». فعندما يتعلق الأمر بالبشر، تعد أفكار التعزيز والعقاب غامضة للغاية ولا يمكن احتسابها علمًا صحيحًا.

ختامًا، يمكننا الجزم أن السلوكية تلاشت تمامًا في وقتنا الحالي. لكنها تركت ورائها إرثًا هامًا ولا تزال تعد أحد أكبر الإسهامات الفكرية في القرن العشرين. فقد منحتنا فهمًا أفضل لآليات التعلم، فلا ننكر حقيقة آليات مثل التعود والإشراط الكلاسيكي ولا إمكانية دراستها بشكل علمي ولا الدور الهام الذي تلعبه في حياة الحيوانات وربما البشر أيضًا. لكنها فقط لا تشرح كل شيء.

المصادر

  1. verywellmind
  2. simplypsychology
  3. britannica
  4. verywellmind

متلازمة الكوخ والعزلة المرضية

متلازمة الكوخ والعزلة المرضية

أتت جائحة كورونا عام 2020 لتفرض علينا حجرًا منزليًا طويلًا، فصلنا عن الحياة الصاخبة التي اعتدنا عليها. وعلى الرغم من الراحة النفسية التي تعطيها العطلة في العادة، إلا أن هذه العطلة القسرية سببت للكثير من الأشخاص حول العالم عوارضًا نفسية عديدة، وعاد الحديث حول ما يسمَى بمتلازمة الكوخ. فما هي متلازمة الكوخ؟ وما هي أعراضها؟

ما هي متلازمة الكوخ؟

متلازمة الكوخ، أو ما يُسمى باللغة الانكليزية ب«Cabin fever»، هي مجموعة من الأعراض النفسية التي تصيب الشخص بسبب مكوثه لفترات طويلة في المنزل. وعلى الرغم من أنها غير مُصنفة كمرض نفسي حقيقي، إلا أن عدد كبير من الأشخاص يشعرون بأعراضها. وهي تتراوح بين المشاعر السلبية والتوتر الناتجة عن قضاء وقت طويل في المنزل، حتى تصل الى مشاعر حادة من الوحدة والعزلة  أو حتى أذية النفس.

من الأرجح أن أول استخدام لمفهوم هذه المتلازمة يعود الى أوائل القرن العشرين، حيث تكلم عنها سكان المناطق الشمالية من القارة الأميركية، الذين كانوا يضطرون للبقاء في منازلهم لفترات طويلة خصوصًا في أيام الشتاء. وبعض المصادر تعتبر أنه بدأ الحديث عن متلازمة الكوخ في أوائل القرن التاسع عشر مع انتشار حمى التيفوئيد المُعدية التي أجبرت السكان على البقاء في المنازل لأيامٍ عديدة.

يربط العلماء أحيانًا متلازمة الكوخ بالاكتئاب الموسمي، الذي يصيب بعض الأشخاص عند حلول فصل الشتاء.

شكلت متلازمة الكوخ لفترة طويلة معضلة لعلماء النفس، بحيث اعتبر البعض أن عوارضها حقيقية، فيما رأى البعض الآخر أنها مجرد معتقد اجتماعي غير دقيق ولا يرقى للتشخيص الطبي. اليوم يعترف علماء النفس بمتلازمة الكوخ كمجموعة من الأعراض المختلفة الناتجة عن المكوث في البيت، لكنها غير مُصنفة كتشخيص وليس لديها تعريف محدد.

ما هي الأعراض؟

تختلف أعراض متلازمة الكوخ بين شخصٍ وشخص. وهي  تشمل المزاج السيئ والملل والضجر والقلق والتوتر والغضب واليأس وفقدان التحفيز أو الرغبة بالعمل والانزعاج السريع والأرق وصولًا الى الاكتئاب وأحيانًا العنف تجاه الآخرين أو أذية النفس.

وتنعكس هذه الأعراض على الحياة اليومية للأشخاص المُصابين بها  فتؤثر على الانتاجية، وتقلل نسبة التركيز. كما يمكن أن تسبب اضطرابات في النوم بين الأرق وقلة النوم أو النوم لفترات طويلة من اليوم. كذلك تسبب المتلازمة أحيانًا اضطراب في الطعام، وتحفز عند بعض الأشخاص شرب كميات كبيرة من الكحول.

من يُصاب بمتلازمة الكوخ؟

تنتج المتلازمة عن أسباب خارجية (البقاء في المنزل) لكنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأسباب الداخلية الفردية. بحيث تُصيب متلازمة الكوخ بشكل أكبر الأشخاص الانبساطيين (Extrovert) أي الأشخاص الذين يميلون الى الخروج من المنزل ولقاء الآخرين بكثرة، فهم ليسوا معتادين على روتين المنزل.

ارتباط متلازمة الكوخ بوباء كورونا

أجبر وباء كوفيد-19 المليارات من البشر على التباعد الجسدي والاجتماعي، وقضاء فترات طويلة في المنزل. لذلك فهو مرتبط بشكل بديهي ومنطقي بمتلازمة الكوخ. فبدأت الصحف حول العالم تتكلم مجددًا عن المتلازمة، وتشدّد على أهمية الانتباه الى الصحة النفسية الى جانب الصحة الجسدية والوقاية من الوباء.

لا شك أن تكنولوجيا الاتصالات لعبت دورًا هائلًا في الحفاظ على التواصل مع العالم الخارجي ممّا خفف من الشعور بالوحدة عند الكثيرين، ولكنها لم تعوض عن الاتصال المباشر والحقيقي عند آخرين ولم تمنع ظهور أعراض المتلازمة بعد فترة طويلة من الحجر.

الوقاية من متلازمة الكوخ والعلاج منها

بما أن متلازمة الكوخ غير مصنفة كمرض نفسي، فلا يوجد إجراء علاجي واضح. إلا أن علماء النفس ينصحون إجمالًا الأشخاص المعرضين للمتلازمة باللجوء الى اعتماد روتين صحي، من خلال تنظيم النوم ووجبات الغذاء. كما ينصحون بشدة بالبقاء على تواصل مع العالم الخارجي والأهل والأصدقاء (حتى لو كان هذا التواصل افتراضيًا)، وبالابقاء على النشاط الذهني من خلال العمل أو الدراسة أو المطالعة أو أي نشاط ذهني آخر، والنشاط الجسدي من خلال الحركة والرياضة.

أما في الحالات الحادة، عندما تصل أعراض المتلازمة الى اليأس الحاد والاكتئاب والقلق والعنف، يحتاج المُصاب بها الى مساعدة من خلال العلاج النفسي وأحيانًا الى علاج طبي دوائي.

العزلة أمر جيد، ولكنك تحتاج شخص ما لتخبره بأن العزلة جيدة.
-هونوري دي بالزاك

 الانسان حيوان اجتماعي، وعقله يتغذى بالتواصل الاجتماعي تمامًا كما يتغذى بالطعام والنوم. وعلى الرغم من اختلاف حاجات البشر بين أشخاص يميلون الى الوحدة وآخرين يفضلون وفرة العلاقات الاجتماعية على أنواعها حولهم، إلا أن التواصل يبقى أوكسيجين العقل البشري.

المصادر:
Medical News Today
CNN
Washington Post

اقرأ أيضًا، متلازمة أليس في بلاد العجائب

ماذا قدم فرويد للبشرية؟

هذه المقالة هي الجزء 3 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

هل شعرت يومًا أنك تحب شخصًا ما أو تبغضه لسبب غير معلوم؟ هل وجدت نفسك في موقف ما تجادل وتدافع لأسباب لا تستطيع صياغتها بوضوح؟ أو هل نسيت اسم شخص ما في الوقت غير المناسب ولا تعرف لماذا؟ أجاب فرويد عن هذه الأسئلة، وطور نظرية شيقة للغاية عن دوافع البشر ورغباتهم. لكن في البداية دعونا نتعرف على عالم النفس الأشهر في التاريخ الحديث الذي تؤثر أفكاره على رؤيتنا للأمور حتى وقتنا الحالي.

حياة فرويد

ولد سيجموند فرويد في النمسا عام 1856م. وعاش في مدينة فيينا حتى عام 1938م، حيث انتقل إلى لندن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ليتوفى فيها بعد مرور عام واحد إثر إصابته بالسرطان. لا ترجع شهرة فرويد إلى اكتشاف بعينه ولكن لتطويره نظرية شاملة للعقل البشري. ورغم شهرته الواسعة إلا أنه كان محل نفور كبير بسبب تعصبه لنظريته عن التحليل النفسي والترويج المستمر لها. كان نتاج فرويد الفكري غزير، لكنه لم يخل من شطحات وأراء غريبة حقًا منها فكرته حول «حسد القضيب-Penis Envy». حيث اعتبر فرويد النساء ببساطة رجال بدون قضيب. واعتبر حسد القضيب مرحلة تمر بها جميع الفتيات في نموها الجنسي، حيث تكتشف افتقادها للقضيب فتتمحور حياتها حول هذا النقص دائمًا! جانب آخر أكثر تشويقًا وأهمية من فرويد هو فكرته عن وجود الدافع اللاواعي، وفكرته عن ديناميكية اللاوعي أو الصراع اللاواعي.

رغبة صادقة.. ربما لا؟

يفسر «الدافع اللاواعي-Unconscious Motivation» السلوك البشري أنه نتاج لرغبات ودوافع وذكريات مكبوتة في اللاوعي. حيث آمن فرويد أن الجزء الأصغر من العقل البشري واعٍ وقابل للملاحظة، أما النسبة الأكبر لا واعية ولها التأثير الأكبر على أفعالنا. مثال على ذلك: إذا سألك أحدهم لماذا تود الزواج من هذا الشخص؟ فيأتي جوابك لأني أحبه، أو لأني أود تكوين عائلة. وربما تكون إجابتك صادقة لكن فرويد له رأي آخر، بالرغم من صدق إجابتك لايزال هناك رغبات ودوافع قد لا تكون واعيًا بها. لذا ربما تود الزواج من هذا الشخص لأنك تود الانتقام من شخص قام بخيانتك! قبول فكرة الدافع اللاواعي مخيف للغاية، على الرغم من سهولة استيعابه في إطار الإدراك البصري، حيث ننظر حولنا فنرى الأشياء ونتعرف عليها بشكل لاواعي ولا نتذمر بهذا الشأن. لكن تطبيقها على المشاعر والقرارات مرهق ويشكك في صدق كل شيء.

الهو والأنا والأنا الأعلى

الشخصية البشرية معقدة وتتكون من عدة عناصر تبعًا لفرويد، وهي الهو والأنا والأنا الأعلى. يظهر كل عنصر منها في مرحلة عمرية مختلفة ويسهم في تطوير جانب معين من الشخصية.

يظهر «الهو-The Id» عند الولادة ويعمل بشكل لا واعي. فهو الجزء الحيواني البدائي من الإنسان الذي يريد إشباع رغباته من جوع وعطش ودفء ويريد إشباعها فورًا. يعمل الهو على مبدأ اللذة وهو ما يفسر به فرويد نشأة البشر، الهو الخالص والرغبة الخالصة في اللذة.

لكن سرعان ما يدرك الطفل أن هذا الأمر ليس واقعيًا، ليس كل ما تريده تحصل عليه. مما يؤدي إلى تطوير مجموعة من ردود الأفعال للتكيف مع هذه الحقيقة. إما عن طريق التخطيط لإشباع الرغبة أو التخطيط لكبحها. وهذا النظام يُعرف باسم الأنا. يعمل «الأنا-The Ego» على مبدأ الواقعية، ويرشد الهو للحصول على اللذة بطريقة واقعية ومقبولة. ويمثل الأنا بالنسبة لفرويد أصل الوعي البشري.

وأخيرًا «الأنا الأعلي-Super Ego» الذي يظهر في سن الخامسة ويعمل تبعًا لمجموعة القواعد المنضوية للأبوين والمجتمع. فما يحدث هو أنك تحاول إشباع اللذة لكن تُؤنب أو تُعاقب. وما يمثله الأنا الأعلى هنا هو صوت الضمير الذي يمنع كل رغبات الهو تبعًا لمعايير مثالية وليست واقعية. لذا لا يقل الأنا الأعلى سذاجة عن الهو.

صراع دائم

يقع الأنا بين الهو والأنا الأعلى، ويستمر الصراع بشكل لا واعي بين هذه العناصر الثلاث دائمًا. وهذا ما يفسره فرويد في فكرته عن ديناميكية اللاوعي أو «الصراع اللاواعي- Unconscious Conflict». فلا ينهاك الأنا الأعلى عن فعل الأشياء الخاطئة فقط، بل ويمنعك من التفكير فيها. حيث يبعث الهو كل هذه الرغبات المجنونة والعنيفة ويقوم الأنا الأعلى بكبحها فلا تصل إلى الوعي. لكن للأسف لا تسير الأمور بسلاسة طوال الوقت. فتتسلل بعض هذه الرغبات لتظهر في الأحلام أو زلات اللسان أو حتى كأعراض مرضية.

وصف فرويد الآليات المختلفة التي نستخدمها لمنع رغبات الهو من الوصول إلى الوعي بـ «آليات الدفاع-Defense Mechanisms». وهي الآليات التي نستخدمها بشكل لا واعي لإنكار رغباتنا المشينة. كأن نمنحها تبريرًا لائقًا، أو نقوم بإسقاطها على شخص آخر، أو تركيزها على شيء آخر،أو حتى الهروب منها. وتبعًا لفرويد هذه الآليات ليست مَرضِيةً على الإطلاق، بل هي جزء من الحياة الطبيعية للحفاظ على التوازن بين أجزاء اللاوعي المختلفة.

فرويد وتطور الشخصية

أشهر أعمال فرويد وأكثرها إثارة للجدل هي نظريته عن النمو النفسي الجنسي للطفل. رأى فرويد أن الطفل يمر بعدة مراحل نفسية جنسية حتى تتطور شخصيته البالغة. قسم فرويد هذه المراحل إلى خمس، كل منها مرتبط بمنطقة شبقية محددة وحدوث خلل في أي من هذه المراحل يؤدي إلى ثبات الشخص بها.

المرحلة الأولى وهي «المرحلة الفموية-Oral Stage» التي يكون الفم فيها مصدر اللذة. ويبدأ الصراع عند الفطام المبكر للرضع، الذي يسبب صفات مثل الاعتمادية أو العدوانية عند الكبر، كما يرتبط بمشكلات أخرى مثل الإسراف في الأكل والتدخين واستهلاك الكحول.

المرحلة الثانية وهي «المرحلة الشرجية-Anal Stage» ويصبح التحكم في حركة الأمعاء والمثانة هو مصدر اللذة، لذا يتدرب الطفل على استخدام المرحاض، وتبعًا لفرويد يرتبط حدوث خلل في هذه المرحلة بصفات مثل البخل أو الهوس.

المرحلة الثالثة وهي «المرحلة القضيبية-Phallic Stage» وتكون الأعضاء التناسلية فيها مصدر اللذة. تفسير فرويد لهذه المرحلة شيق للغاية ويرتبط بمصطلح “عقدة أوديب”. تبعًا لفرويد يرى الطفل والده كخصم أمام عاطفته تجاه أمه، ويفكر في التخلص منه بقتله مثلًا، لكن بما أن الطفل لا يدرك وجود الحواجز بين ما يحدث داخل عقله والعالم الخارجي يشعر أن والده يعلم ما يدور بعقله وسيعاقبه، العقاب الذي يخشاه الطفل هو استئصال أعضائه التناسلية!

المرحلة الرابعة وهي «مرحلة الكمون-Latent Stage» تستمر هذه المرحلة حتى البلوغ، وفيها تهدأ جميع المشاعر الجنسية وتتطور الجوانب الأخرى من الشخصية.

المرحلة الخامسة وهي «المرحلة التناسلية-Genital Stage» التي تبدأ عند البلوغ وتستمر حتى الموت، ويتطور فيها الاهتمام بالجنس الآخر.

التقييم العلمي لنظريات فرويد

تتعرض نظريات فرويد للكثير من النقد وتعد محل جدل كبير. وبالرغم من غزارة إنتاج فرويد الفكري ألا أن أغلبه يرفضه العلم ولا يُدرس بشكل أكاديمي ولا يعمل به علماء النفس في وقتنا الحالي. النقد الأكبر الذي تتعرض له هذه النظريات هو افتقادها لما عرفه الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر بـ «القابلية للدحض-Falsification». وصف بوبر الفارق بين العلمي وغير العلمي بأن العلم يقدم إدعاءات قوية عن العالم وهذه الإدعاءات يمكن اختبارها وإثبات خطأها، أما إذا استحال إثبات خطأها فهي ليست جيدة بما يكفي لاعتبارها علم.

وهنا تكمن مشكلة نظريات فرويد، فهي مرنة وغامضة للغاية لدرجة لا يمكن إثبات صحتها بأي طريقة موثوقة. مثال على ذلك: لا يوجد أي دليل أن الصفات المرتبطة بالمرحلة الفموية أو الشرجية مثل الاعتمادية والبخل ذات علاقة بالفطام المبكر أو التدرب على استخدام المرحاض. كذلك أراء فرويد حول الجنس والمثلية لها قليل من الدعم التجريبي. أما الإدعاء أن التحليل النفسي أثبت نجاحه في علاج الأمراض العقلية فهو ليس صحيحًا تمامًا أيضًا، فيوجد علاجات أسرع وأكثر مصداقية. كذلك لا تساعد هذه الطريقة في تخفيف أعراض بعض الأمراض مثل القلق والاكتئاب.

لكن على الرغم من النقد اللاذع الذي تعرض له فرويد، تبقى فكرة ديناميكية اللاوعي ذات أهمية كبيرة. حيث أُثبت أن الكثير من العمليات العقلية تعمل بشكل لا واعي مثل: فهم اللغة الذي يحدث بشكل طبيعي وغريزي في جزء من الثانية، كذلك الأنشطة التي تتكرر بشكل يومي. وفي الختام يمكننا التأكيد أن الجزء الأكبر من نظريات فرويد وتفاصيلها خاطئة ومرفوضة تمامًا، لكن تبقى الفكرة العامة لفرويد، فكرة أننا لا نعي بشكل كامل لماذا نحب ما نحب ونكره ما نكره، صحيحة وتثبت نفسها في فروع علم النفس حتى اليوم.

المصادر

  1. IEP
  2. thepsychologist
  3. psychology
  4. verywellmind
  5. verywellmind

متلازمة القدس : بين الايمان والجنون

لطالما ارتبط اسم مدينة القدس، عاصمة فلسطين المُحتلّة، بالتاريخ الحضاري والديني لمنطقة الشرق الأوسط. فهي لم تسمَّ “القدس” (أي البيت المقدس) أو “أورشليم” (أي بيت السلام) من باب الصدفة، بل لأنها تُعتبر القلب النابض للأديان السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.ولكن هل كنت تعلم أن اسم القدس يرتبط أيضًا بمتلازمة نفسية غريبة؟ فما هي هذه المتلازمة؟ وما علاقتها بزيارة القدس؟

تعريف متلازمة القدس

متلازمة القدس هي متلازمة نفسية، وهي مجموعة وساوس أو أوهام ذهانية ذات طابع ديني تطغى على عدد من الأشخاص خلال زيارتهم لمدينة القدس. تصيب المتلازمة حوالى المئة شخص أو أكثر كل عام، ويحتاج حوالى الأربعون شخصًا الدخول الى المستشفى لمعالجة عوارضهم النفسية. ويُعتقد أن عددًا من الحالات يبقى غير مُشخّص. يشكل الزوار المسيحيون واليهود غالبية الحالات، بينما حالات الزوار المسلمين تبقى نادرة.

نبذة عن القدس وعلاقتها بالأديان السماوية

لفهم متلازمة القدس يجب فهم المحيط الثقافي الموجود في هذه المدينة والذي يحفز هذا النوع من الأوهام. تتميز زهرة المدائن بغناها الفريد بالمعالم السياحية الدينية التاريخية، وتحتل القدس مكانة دينية مهمة جدًا ممّا يفسر الصراعات السياسية القائمة حولها.

فبالنسبة للديانة اليهودية، تحتوي القدس على حائط المبكى، الذي يعتقد اليهود أنه ما تبقّى من هيكل النبي سليمان وهو أكثر الأماكن قداسةً عند اليهود.

بالنسبة للمؤمنين المسيحيين، تشكل القدس أهمية قصوى كونها المدينة التي شهدت صلب المسيح وقيامته، وتُعتبر كنيسة القيامة مكانًا للحج يقصده الملايين من المؤمنين سنويًا.

أما بالنسبة للإسلام، فمدينة القدس تحتوي المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وقبة الصخرة التي عرج منها النبي محمد.

إضافةً إلى هذه المعالم، مدينة القدس غنية بعشرات المعالم الدينية والتاريخية والأثرية.

أنواع متلازمة القدس

قُسّمت حالات الإصابة بمتلازمة القدس إلى ثلاثة أنواع بحسب العوارض والسوابق الطبية والخلفية النفسية للأشخاص المُصابين.

النوع الأول: متلازمة القدس الناتجة عن مرض ذهاني سابق

في هذه الحالة، يكون الشخص المُصاب بمتلازمة القدس مُصاب سابقًا بمرض ذهاني قبل زيارته القدس. وغالبًا تكون زيارة القدس ناتجة في الأساس عن المرض النفسي الذهاني (مثلًا يتوهم المريض أنه في مهمة إلهية يجب أن يزور القدس).

«الذهان-Psychosis» هو مرض نفسي يسبب الانفصال عن الواقع، وهو يشمل «الفصام-Schizophrenia» الذي يسبب الهذيان بأفكار وهمية مع هلاوس بصرية أو سمعية، و«الاضطراب الثنائي القطب-Bipolar disorder» الذي يسبب التأرجح بين فترات من الهوس (نشاط مفرط وارتفاع غير طبيعي في المزاج والإثارة) وفترات من الاكتئاب.

يتخيل المريض أنه واحد من الشخصيات الدينية أو أنه في مهمة دينية بأمر إلهي، مثلًا توهم شخص أنه شمشون وهو شخصية دينية يهودية وأنه في مهمة لإزاحة صخرة من حائط المبكى، كما توهم أشخاص آخرون أنهم يتقمصون شخصية السيد المسيح أو القديس يوحنا المعمدان، وبعض النساء تخيلن أنهن السيدة مريم العذراء.

النوع الثاني: متلازمة القدس ناتجة عن مرض نفسي غير ذهاني ومترافق مع عادات غريبة

ينتج هذا النوع إجمالًا عن اضطرابات في الشخصية أو عن أفكار وسواسية، وغالبًا ما يصيب مجموعة من الزوار، فيقومون بتصرفات غريبة.

فقد قامت مجموعات من الزوار المسيحيين بزيارات متتالية لعدم تفويت إعادة ظهور المسيح. وقامت مجموعات من الزوار اليهود بمحاولات لخلق “البقرة الحمراء” كالتي ذُكرت في التوراة.

النوع الثالث: متلازمة القدس غير المسبوقة بأي مرض نفسي

يُصاب بعض الأشخاص بنوبة ذهانية حادة عند زيارتهم القدس، رغم عدم وجود أي سابقة مرضية نفسية.

 ويشترط التشخيص بهذا النوع من المتلازمة بعدم ارتباط الزيارة بأي نوع من الأوهام أو الوساوس الدينية، وبمرورهم بسبعة مراحل مرضية وهي: قلق وتوتر حاد، ثم رغبة في الانفصال عن المجموعة السياحية أو العائلة الذي أتى معها، ثم وساوس قهرية متعلقة بالنظافة والطهارة، ثم تحضير لباس ذي طابع ديني (غالبًا ثوب أبيض)، ثم الحاجة إلى صراخ أو إنشاد أحاديث مقدسة، ثم المسيرة إلى أحد الأماكن المقدسة، وأخيرًا إلقاء خطبة دينية (غاليًا غير منطقية) في مكان مقدس.

إجمالًا، يأتي الأشخاص الذين يصابون بالنوع الثالث من متلازمة القدس من عائلات دينية محافظة. يتم معالجة هذا النوع من المتلازمة سريعًا من خلال الأدوية وتختفي العوارض نهائيًا بعد مغادرة القدس.

توضح متلازمة القدس الغريبة مدى تأثر العقل البشري بالمحيط الثقافي والفكري والديني، يصل أحيانًا إلى الهذيان والهلوسة. ويتحول الايمان الديني إلى جنون.غير أن هذا النوع من المتلازمات لا يقتصر فقط على التأثر بالأفكار الدينية، بل أيضًا بالمحيط الفني والهندسي، تمامًا كما يحصل عند الاصابة بمتلازمة ستندال التي تصيب مهووسي الفن عند زيارتهم فلورينسا الايطالية.

المصادر:

Cambridge University Press
The Guardian
The Telegraph
Livescience

متلازمة كابجراس أو “المُنتحِل”: الوهم الذي يحوّل الأقرباء إلى غرباء

تخيّل أنك تعيش مع أشخاص يبدون تمامًا كأهلك لكنهم في الحقيقة كائنات فضائية أخذوا مكانهم. هي قصة تشبه أفلام الرعب، لكنها قد تتحول إلى حقيقة في حال إصابتك بمتلازمة كابجراس.

تعريف متلازمة كابرجاس

 متلازمة «كابجراس-Capgras» تُسمّى أيضًا ب«متلازمة المُنتحل-Imposter Syndrome». وهي متلازمة نادرة تجعل الشخص المُصاب بها يعتقد أن شخص أو أكثر من المحيطين به قد استُبدلوا بأشخاص مُنتحلين أو كائنات مُنتحلة (كائنات فضائية، وحوش، …). في أغلب الأحيان، يكون هذا الشخص “المُنتحَل” الزوج/الزوجة،أو فرد من العائلة، أو صديق مقرّب، أو فرد من الطاقم الطبي.

تمّ وصف وتشخيص هذا الوهم لأول مرة من قِبل الطبيب النفسي الفرنسي «جوزيف كابجراس-Joseph Capgras» عام 1923. وقد أطلق عليه اسم «L’illusion des sosies» بالفرنسية والتي تعني وهم المتشابهين.

تعتبر متلازمة وهم كابجراس واحدة من «متلازمات سوء التعرف الوهمي –Misidentification delusions». وهي مجموعة من الأوهام  تؤدي إلى خطأ في تعريف هوية الشخص نفسه، أو أشخاص آخرين، أو حيوانات، أو أشياء، أو أماكن.

من يُصاب بالمتلازمة؟

تُعد متلازمة كابجراس نادرة، وهي غالبًا ترتبط بمرض نفسي أو حالات عصبية وعقلية أخرى، سنذكر منها:

– «الفصام البارانويدي-Paranoid schizophrenia»: وهي حالة مرضية نفسية يفقد فيها المريض ارتباطه بالواقع، ويعاني من توهم الاضطهاد تغذيه هلوسات بصرية و/أو سمعية.
– اضطرابات المزاج.
– مرض الألزهايمر.
– «خرف أجسام ليوي-Lewy Body dementia»: هو خرف يؤدي إلى انخفاض في القدرات الذهنية والهلاوس البصرية وغيرها من العوارض.
– إصابات الرأس.
– تعاطي المخدرات.

وتجدر الإشارة إلى أن النساء أكثر عُرضةً للإصابة بالمتلازمة من الرجال.

أعراض متلازمة كابرجاس

تختلف العوارض بين مريض وآخر بحسب المرض الأساسي المُرافق لمتلازمة كابجراس. ولكن تتميّز المتلازمة إجمالًا بالتوهم بأن شخص أو أشخاص معينين تم استبدالهم بمُنتحلين لهم. ويكون عادةً الشخص المنتحَل تربطه علاقة عاطفية قريبة جدًا من المريض. يقتصر الوهم على شخص أو أشخاص معينين ولا يطال الأشخاص الآخرين المحيطين بالمريض. ومن أكثر الاعتقادات شيوعًا هي أن المنتحِل شخص شرير أو كائن فضائي أو رجل آلي.

يكون المريض مقتنعًا اقتناعًا تامًا بالوهم، ولا يمكن لأي أحد إقناعه بالحقيقة رغم تقديم الأدلّة المادية والمنطقية له. وهو يكون غير قادر على التخلّي عن اقتناعه بالوهم رغم اقتناعه أحيانًا بعبثيته.

يتحول أحيانًا المريض، في حال لم يتم علاجه، إلى شخص عنيف. وقد يشكل خطرًا على الشخص الذي يتعلّق به الوهم، إذ إن المريض قد يحاول أذيته أو حتى قتله لاقتناعه بأنه مخلوق شرير.

أسباب الإصابة بالمتلازمة

لم يتمكن العلماء من تحديد أسباب واضحة للإصابة بمتلازمة كابجراس، لكنها تجمع بين أسباب نفسية وأسباب عضوية عقلية.

فقد بينت بعض دراسات الحالات أن الأشخاص الأكثر عرضةً للإصابة هم الأشخاص الذين يملكون قلق الاضطهاد، خصوصًا بعد تعرضهم لصدمة نفسية كبيرة. كما بيّنت دراسات الحالات (خصوصًا إصابات الرأس) وتقنيات التصوير العصبي أن الاصابات في النصف الأيمن من الدماغ قد تكون مسؤولة عن عوارض المتلازمة.

ومن النظريات الأكثر شيوعًا لتفسير المتلازمة هو ضرر في التواصل بين المنطقة الدماغية المسؤولة عن التعرف على الوجوه، والمنطقة المسؤولة عن المشاعر (الصور العقلية)، بحيث يتعرف المريض على وجه الشخص لكنه لا يشعر تجاهه بالعاطفة بطريقة طبيعية ولا يعتبره مألوفًا فيعتبر أن هذا شخص آخر مُنتحل للشخص الأساسي. وقد عززت هذه النظرية بعض الحالات التي يتوهم المريض أن شخصًا ما هو منتحل عندما يراه، لكن يختفي هذا التوهم عندما يسمع صوته فقط (مثلًا عندما يكلّمه عبر الهاتف).

ولكن النظريات المفسرة للأسباب النفسية والعضوية ما زالت غير دقيقة وهي بحاجة لمزيد من الدراسات.

شاب يخبر عن تجربته مع متلازمة كابجراس بعد تعرضه لإصابة في رأسه جراء حادث سير.

علاج المتلازمة

 يختلف العلاج بحسب العوارض والمرض الأساسي الذي يرافق متلازمة كابجراس. لكنه عادةً يتضمن العلاج الدوائي من خلال مضادات الذهان ومضادات الاكتئاب ومضادات الخرف، والعلاج النفسي والسلوكي لتخفيف قلق المريض وخطر العنف الذي قد تسببه المتلازمة. وكون المتلازمة ترتبط بأمراض نفسية وعقلية أخرى، هي غالبًا ما تترافق مع انخفاض في القدرات الذهنية والذاكرة والصعوبة في التركيز، ممّا يتطلب مقاربة علاجية معرفية.

في الختام، يستمر الدماغ البشري في مفاجأتنا، في صحته كما في مرضه، بحيث تخلق إصابة أي جزء منه أكثر المتلازمات غرابةً وعبثية، كفيلة بقلب عالمه رأسًا على عقب. وقد تشكّل دراسة هذه المتلازمات مفتاحًا إضافيًا لفهم كيفية عمل الدماغ.

مصادر
Science direct
WebMD
JAMA network
DUMAS
NCBI

المزيد: متلازمة الاستذئاب السريري: وهم التحول إلى حيوان

كيف يرى علم النفس الطبيعة الفريدة لعمل المخ؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يرى علم النفس الطبيعة الفريدة لعمل المخ؟

طرحنا في الجزء الأول من سلسلة علم النفس السؤال: ما هي طبيعة عمل المخ؟ وكيف ينشأ التفكير من المخ؟ وللإجابة على هذا السؤال ينبغي التعرف أولًا على تركيب المخ وأجزائه المختلفة.

مم يتكون المخ؟

الوحدة الرئيسية التي يتكون منها المخ هي «الخلية العصبية-Neuron»، وتعد الخلايا العصبية أصغر أجزاء المخ وأكثرها تشويقًا، حيث تقوم بعملية التفكير عن طريق استقبال الإشارات الحسية ثم تحويلها لأفعال أو أوامر حركية. وتتكون الخلايا العصبية بشكل رئيسي من ثلاثة أجزاء:

  • أولًا، «التغصنات-Dendrites» وهي زوائد تخرج من جسم الخلية العصبية وتستقبل الإشارات من الخلايا العصبية الأخري ثم تقوم بتوصيلها إلى المحور.
  • ثانيًا، «المحور-Axon» وهو تركيب رفيع وطويل وظيفته توصيل الإشارات العصبية التي تم استقبالها إلى الخلايا العصبية الأخرى.
  • ثالثًا، «الجسم-Soma» وهو الجزء الذي يحوي النواة التي تحمل الحمض النووي الخاص بالخلية العصبية وتقوم بتصنيع البروتينات الخاصة بها.

بالإضافة إلى جزء آخر لا يتواجد في كل أنواع الخلايا العصبية وهو «غشاء الميالين-Myelin sheath» الذي يحيط بالمحور ويعمل كعازل ويزيد من سرعة توصيل الإشارات العصبية. يبلغ عدد الخلايا العصبية حوالي مائة مليار خلية، ويمكن لكل خلية أن ترتبط بآلاف أو مئات الخلايا الأخرى. وتتنوع الخلايا العصبية ما بين الخلايا العصبية الحسية، والخلايا العصبية الحركية، والخلايا العصبية المتوسطة. والأخيرة تقوم بعملية التفكير عن طريق استقبال الإشارات الحسية وتحويلها إلى أوامر حركية.

مبدأ الكل أو لا شيء

تتبع الخلايا العصبية مبدأ الكل أو لا شيء، فإما أن تصل شدة الإشارة العصبية إلى حد معين يكفي لاستثارة الخلية أو لا تُثار الخلية مطلقًا. والسؤال هنا، كيف يمكن للخلايا العصبية التي تعمل بمبدأ الكل أو لا شيء أن تنقل المشاعر بتدرجاتها؟ والإجابة عن طريق ترميز شدة الإشارة العصبية بواسطة: عدد الخلايا العصبية المستثارة، ومعدل تكرار الاستثارة.

كيف تتواصل الخلايا العصبية مع بعضها؟

اعتقد العلماء أن الخلايا العصبية ترتبط ببعضها مثل أسلاك الحاسوب لكن الحقيقة أن الخلايا العصبية تتواصل كيميائيًا عن طريق «الناقلات العصبية-Neurotransmitters». يوجد بين كل خلية عصبية وأخرى فجوة ضئيلة تُعرف باسم «الوصلة العصبية-Synapse» وهي المنطقة التي تُنقل فيها الإشارات العصبية من خلية لأخرى بواسطة الناقلات العصبية. تنقسم الناقلات العصبية إلى نوعين: المنشطة والمثبطة. وتعتمد الكثير من الأدوية على تأثير الناقلات العصبية، وهذه الأدوية نوعان: أدوية من النوع «الناهض-Agonist» الذي يزيد من تأثير الناقلات العصبية عن طريق زيادة نسبة تصنيعها أو عرقلة القضاء عليها أو حتى محاكاة تأثيرها. وأدوية من النوع «المعارض-Antagonist» الذي يقلل تأثير الناقلات العصبية عن طريق تدميرها أو تقليل تصنيعها. مثل: عقار كوراري وهو من النوع المعارض الذي يمنع تأثير الخلايا العصبية الحركية على العضلات فيسبب الشلل التام ثم الموت. والكحوليات أيضًا من النوع المعارض، التي تثبط مراكز التثبيط في الفص الجبهي من المخ، هذه المراكز هي التي تمنع الشخص من القيادة بسرعة جنونية أو السب في مكان عام أو حتى ارتكاب جريمة وبالتالي عند تثبيط الأجزاء المثبطة من المخ يفقد الشخص القدرة على التمييز.

مثال آخر هو عقار بروزاك الذي يستخدم في علاج الاكتئاب، حيث يعمل على زيادة نسبة السيروتونين الذي يعد نقصه عاملًا من عوامل الاكتئاب. وأيضًا عقار إل دوبا الذي يستخدم مع مرضى الشلل الرعاش، حيث يعمل على زيادة نسبة الدوبامين وتقليل حدة الأعراض. والآن بعد أن تعرفنا على تركيب الخلية العصبية وكيفية التواصل بينها، كيف يعمل كل هذا لخلق كائنات لديها القدرة على التحدث والتفكير واتخاذ القرارات؟ اعتقد العلماء أن المخ موصل بطريقة أشبه بحاسوب هائل، لكن ثبت خطأ هذا الاعتقاد وظهر الاختلاف بين الحاسوب والمخ:

أولًا، المخ مقاوم للتلف

يتميز المخ بقدر كبير من المرونة والقدرة على تحمل التلف، بل ويمكننا القول أنه هناك نوع من المقاومة مبنية داخل المخ، مما يسمح لأجزاء مختلفة من المخ بتولي الأمور عند تلف أجزاء أخرى.

ثانيًا، المخ سريع للغاية

يعتمد المخ على الأنسجة بينما يعمل الحاسوب على الأسلاك والكهرباء. لكن أنسجة المخ بطيئة للغاية، لذا لو تم توصيلها بطريقة تشبه الحاسوب لاستغرقك الأمر أربع ساعات للتعرف على وجه شخص ما. وهنا يظهر السؤال كيف يمكن صنع تركيب على هذا القدر من السرعة والتعقيد باستخدام تلك الأنسجة البطيئة؟ كيف تتواصل هذه الأنسجة؟ والإجابة أن آلية عمل المخ تعتمد على عمليات معالجة متوازية هائلة.ما الذي يفعله المخ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال سنفسر ما الذي لا يفعله المخ. توصل العلماء إلى بعض الأنشطة التي لا تتطلب عمل المخ، وتم اكتشافها باستخدام منهجية غريبة حيث كانت تُقطع رؤوس المرضى بينما يسرع علماء النفس لاختبار ردود أفعال الجسم. ومن هذه الأنشطة: رضاعة حديثي الولادة، أو انثناء الأطراف ابتعادًا عن الألم، أو انتصاب القضيب أو القيء. هذه بعض الأفعال الغريزية اللاإرادية التي لا تتطلب عمل المخ.

أما عمل المخ فيعتمد على بنية داخلية معقدة للغاية، وتنقسم أجزاء المخ إلى: النخاغ وهو الجزء المسئول عن تنظيم معدل ضربات القلب والتنفس والنوم. والمخيخ وهو الجزء المسئول عن التوازن والتنسيق الحركي، والقشرة وهي أكثر أجزاء المخ تشويقًا وتمثل 80% من حجم المخ. «قشرة المخ-Cortex» تنقسم القشرة إلى عدة أجزاء أو فصوص وتشمل: الفص الجبهي، والفص الجداري، والفص القذالي، والفص الصدغي. والمثير فيما يخص هذه الفصوص أنها تحمل خرائط طوبوغرافية/خرائط للجسد. توصل العلماء إلى تلك الخرائط عندما قام أحدهم بفتح جمجمة كلب ثم باستخدام صاعق كهربائي صدم أجزاءًا مختلفة من المخ ولاحظ ارتفاع قدم الكلب للأعلى. واعتمادًا على نفس المبدأ قام الدكتور بينفيلد من جامعة ماكجيل بتجاربه على مرضى في جراحة المخ،حيث صدم أجزاءًا مختلفة من المخ ولاحظ النتائج، رفع بعض المرضى أقدامهم بشكل لا إرادي، وبعضهم رأى ألوانًا أو سمع أصواتًا أو شعر بلمسات.

وبفضل هذه الأبحاث وأبحاث تبعتها توصل العلماء إلى خرائط الجسد في المخ، تحديدًا في القشرة الحسية والقشرة الحركية من المخ. وهناك ملاحظتان حول هذه الخرائط: أولًا، هذه الخرائط طوبوغرافية. بمعني أنه إذا تواجد جزئان على مسافة قريبة من بعضهما في الجسم فسيكونان قريبين أيضًا في المخ. ثانيًا، ما يمثله حجم العضو في المخ لا يتناظر مع حجمه الحقيقي في الجسم، نشاط العضو والتحكم الحسي والحركي له هو ما يحدد حجمه في المخ، فيفوق حجم اللسان في المخ حجم الكتف مثلًا. وتمثل هذه الخرائط أقل من ربع حجم القشرة أما البقية فتشارك في عمليات مثل اللغة والتفكير المنطقي والأخلاقي، وكلما زاد تعقيد الكائن الحي كلما قلت النسبة التي تشغلها هذه الخرائط. والسؤال هنا كيف نكتشف ما تفعله الأجزاء الأخرى من المخ؟

كيف نكتشف ما تفعله الأجزاء الأخرى من المخ؟

أولًا، بواسطة طرق التصوير الحديثة مثل: التصوير بالأشعة المقطعية أو أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي. والتي ذكرنا دورها في توضيح الأجزاء النشطة من المخ أثناء أداء المهام التي تتناظر معها. فيمكن تصوير شخص عند قيامه بمهمة لغوية مثلًا لمعرفة أي أجزاء المخ مسئول عن اللغة.
ثانيًا، ملاحظة التغيرات التي تطرأ على الشخص عند إصابة المخ بالأورام أو الجروح أو السكتات الدماغية أو الحوادث. فيمكن التوصل إلى دور أجزاء المخ المختلفة عن طريق دراسة التلف الذي يصيبها. والأمثلة على ذلك كثيرة. منها:

«اللا أدائية-Apraxia» وهو ليس شللًا، فيمكن للشخص المصاب الحركة والقيام بالأعمال لكنه لا يستطيع تنسيق حركاته، فلا يستطيع التلويح مودعًا أو إشعال سيجارة.

«العمه-Agnosia» وهنا يستطيع الشخص الرؤية بشكل جيد، فهو ليس أعمى لكنه يفقد القدرة على التعرف على الوجوه أو الأشياء.

«اضطرابات الإهمال الحسي-Disorders of sensory neglect» وهنا المريض ليس مصابًا بالشلل أو العمى لكنه يفقد فكرة أنه هناك جزءًا أيسر من جسده، أو حتى من العالم.

«الحبسة-Aphasia» اُكتشفت أول حالة عام 1861م لمريض تعرض لتلف في المخ ولم يستطع نطق سوى كلمة واحدة (Tan) وظل يكررها طوال الوقت.

«الحبسة الاستقبالية-Receptive Aphasia» وهنا يتحدث المريض بطلاقة لكنه لا يفهم الآخرين ولا تبدو كلماته منطقية على الإطلاق.

«الاضطراب العقلي المكتسب-Acquired Psychopathy» الذي يتضمن تلفًا في الفص الجبهي من المخ، فيفقد المريض القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.

كم عقلًا نملك؟

ينقسم المخ إلى نصفين، النصف الأيمن والنصف الأيسر ويربط بينهما ما يعرف «بالجسم الثفني-Corpus Callosum». يبدو نصفا المخ متماثلين إلى حد كبير من الخارج إلا أنه توجد اختلافات فعلية بينهما. فبينما يتحكم النصف الأيسر من المخ في مهارات الكتابة والقراءة والعمليات الحسابية والحديث، يتحكم النصف الأيمن في الإدراك البصري والتعبير عن المشاعر وفهم العلاقات وحتى الموسيقى. وتعتمد طبيعة عملهما على «التعابر-Cross Over»، فيستقبل النصف الأيمن من المخ الإشارات الحسية من النصف الأيسر من الجسد وكذلك يصدر الأوامر الحركية إليه، والعكس صحيح.

يتمتع المخ أيضًا بخاصية مميزة وهي «التجنيب-lateralization» فبينما يعتمد كل نصف من المخ على الآخر أثناء عمله، تبقى بعض المهام يهيمن فيها أحدهما على الآخر. مثل: مراكز اللغة التي تقع في النصف الأيسر من المخ عند أيمني اليد وتقع في النصف الأيمن من المخ عند العُسر.

قام بعض العلماء بتجربة مشوقة في ستينات القرن الماضي حينما قطعوا الجسم الثفني بين نصفي المخ في محاولة لفهم طبيعة عملهما. طُلب من المرضى محاولة لمس غرض ما باليد اليمني وتسميته في الوقت ذاته، وبما أن مراكز اللغة وحركة النصف الأيمن من الجسم تقع في النصف الأيسر من المخ لم يواجه المرضى صعوبة في فعل ذلك. لكن حينما طُلب منهم لمس نفس الغرض باليد اليسري وتسميته في الوقت ذاته، أخفقوا في فعل ذلك لغياب الاتصال بين نصفي المخ. وبالفعل حاز القائمون على هذه التجربة على جائزة نوبل لأنها ساعدت كثيرًا في فهم طبيعة نصفي المخ ودورهما.

وأخيرًا، بعد أن تطرقنا للطبيعة الفريدة لعمل المخ، وخلاياه العصبية والاتصال بينها، وأجزائه المختلفة ومقاومتها للتلف، وماذا يحدث عندما يقع هذا التلف. ينقصنا التعرف على جهود العلماء واستغلالهم هذه المعرفة لتفسير أمور على قدر أكبر من الخصوصية مثل الدين والحرب والحب وحتى المرض العقلي. أشهر هؤلاء العلماء هو سيجموند فرويد، الذي سنتعرف على نظريته في التحليل النفسي في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:

1– QBI
2- https://www.britannica.com/science/synapse
3- WebMd
4- McGill
5- Psychology Notes HQ

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

تاريخ علم النفس

يعود مصطلح «علم النفس-Psychology» إلى اللغة اللاتينية ويعني دراسة الروح، تطورت الكلمة عبر العصور ليصبح علمُ النفس حاليًا علمَ السلوك والعمليات العقلية. ظهر المصطلح أول مرة في القرن السادس عشر، ولم تترسخ أسس العلم وقواعده المتعارف عليها حاليًا سوى في منتصف القرن التاسع عشر. شغل سؤال الوعي البشري ومنشأه تفكير العلماء والفلاسفة عبر العصور، منهم أرسطو الذي اقتنع أن الوعي منشأه القلب لا العقل. ومنهم الشعب الصيني، حيث طُورت أول اختبارات نفسية في العالم منذ ألفي عام تقريبًا وأُلزم الموظفون الحكوميون بالخضوع لاختبارات الشخصية والذكاء.

وأيضًا الرازي، الذي يُعد أول من وصف المرض النفسي وعالجه بل وخصص له جناحًا مستقلًا في مشفاه ببغداد. كان الغرض من جهود هؤلاء العلماء واحدًا وهو محاولة إيجاد الإجابات عن الأسئلة المهمة التي تخصنا نحن البشر، من نحن؟ وكيف يعمل عقلنا البشري؟ وماذا يجعلنا على ما نحن عليه؟مجالات علم النفس ينقسم علم النفس إلى خمس مجالات فرعية:

أولها: «علم الأعصاب-Neuro Science» وهو العلم الذي يهتم بدراسة العقل البشري والتفكير عن طريق دراسة المخ.

ثانيًا: «علم نفس النمو-Devlopmental Psychology» وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة تطور البشر ونموهم وتعليمهم.

ثالثًا: «علم النفس المعرفي-Cognitive Psychology» وهذا العلم يُعد بمثابة أسلوب حاسوبي لدراسة العقل البشري، وذلك عن طريق مقارنة العقل بالحاسوب ومحاولة التوصل إلى كيفية فعل البشر الأشياء مثل: تعلم اللغة أو لعب الألعاب أو التعرف على الأغراض المختلفة.

رابعًا: «علم النفس الاجتماعي-Social Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالعلاقات البشرية والطريقة التي يتفاعل بها البشر مع بعضهم البعض. خامسًا «علم النفس السريري-Clinical Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالصحة العقلية والمرض العقلي.الفرضية المدهشة سنلقي الضوء في هذا الجزء على المجال الأول من علم النفس وهو علم الأعصاب.

أول ما سنتحدث عنه هو: المخ. وضع العالم الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك فرضية تُدعى «الفرضية المدهشة-The Astonishing Hypothesis» والتي تنص على: “أنت وأفراحك وأحزانك، وذكرياتك وطموحاتك، وإحساسك بهويتك وإرادتك الحرة ليست سوى نتاج سلوك جماعي للخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها” وهنا يمكننا التمهل قليلًا والتفكير، هل هذه الفرضية قابلة للتصديق؟ الحقيقة أن هذه الفرضية كانت محل جدل كبير، ولا يؤمن أغلب البشر بها.

لأنه في الواقع أغلب البشر “ازدواجيين”. لكن ما هي الازدواجية؟

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

«الازدواجية -Dualism» عقيدة يتبعها أغلب البشر، وتظهر بشكل واضح في كل الأديان وأغلب الأنظمة الفلسفية على مر العصور. أكثر المدافعين عن الازدواجية شهرةً ووضوحًا هو الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت-René Descartes». طور ديكارت نظريته عن الازدواجية التي تصف العقل البشري أنه كيان غير مادي يستطيع القيام بعمليات التفكير والتخيل والشعور والإرادة بشكل منفصل عن الجسد.

وعندما طرح ديكارت السؤال: هل البشر مجرد آلات مادية؟ جاءت إجابته: لا، لسنا مجرد آلات مادية. اعتبر ديكارت الحيوانات آلات مادية بل ووصفها أنها آلات وحشية، أما عند البشر فالأمر مختلف، فبينما يتشارك البشر والحيوانات في امتلاك الجسد المادي، إلا أن البشر يمتلكون الروح/العقل غير المادي الذي يسكن/يتعلق بالجسد المادي.

إثبات الازدواجية ساق ديكارت حجتين لإثبات نظريته عن الازدواجية. الأولى التي تعتمد على تأملات الأفعال البشرية وتثبت أن البشر ليسوا آلات مادية. طور ديكارت هذه الحجة أثناء تأملاته في الحديقة الملكية الفرنسية، تميزت تلك الحديقة بوجود روبوتات هيدروليكية تعمل على تدفق المياه، فعندما تخطو على لوحة ما يظهر لك فارس بسيف في يده وعندما تخطو على أخرى تختبيء امرأة جميلة خلف الشجيرات، وهنا سأل ديكارت السؤال: هذه الآلات تستجيب بصورة معينة وكذلك البشر، فعندما تطرق على ركبة أحدهم سترتفع في الهواء، إذن هل البشر آلات مادية؟ وأجاب ديكارت: لا، لسنا آلات مادية!

لسنا آلات مادية من منظور ديكارت!

فسر ديكارت ذلك بتوضيح أن البشر ليسوا محدودين برد الفعل، بل على العكس لدى البشر القدرة على الابتكار والتصرف بعفوية. مثال على ذلك في اللغة: عندما يحييك أحدهم: مرحبًا، كيف حالك؟ سيأتي ردك فورًا: مرحبًا، أنا بخير. لكن الأمر لا يتوقف عند هذه النقطة، فأنت تملك الخيار أن تجيب على هذا النحو مثلًا: أنا في أحسن حال! وهنا يظهر الاختلاف بين الآلات والبشر، فالآلات لا يمكنها الاختيار ومحدودة برد الفعل، أما البشر فلا وبالتالي البشر ليسوا آلات مادية.

الحجة الثانية وهي الأشهر وتعتمد على مذهب الشك. شكك ديكارت في كل ما حوله، وأخذ يسأل نفسه: “ما الذي يمكنني أن أكون متأكدًا منه؟ فربما يوجد آله وربما لا، وربما أعيش في دولة غنية وربما يتم خداعي، وربما هذا الجسد ليس حقيقيًا، يظن المجانين في بعض الأحيان أن لديهم أطرافًا إضافية أو يرون أجسادهم بصور مختلفة عن الواقع، كيف أعرف أنني لست مجنونًا؟” الشيء الوحيد الذي لم يستطع ديكارت الشك فيه هو أنه يفكر، فلو فعل سيكون هذا بمثابة دحض لذاته. ومن هنا استخلص ديكارت أنه “هناك شيء مختلف فيما يخص امتلاك الجسد، إنه أمر غير مؤكد على عكس امتلاك العقل.”

وهكذا استخدم ديكارت مذهب الشك لإثبات نظريته عن الازدواجية وانفصال العقل والجسد. الازدواجية والفطرة تظهر الازدواجية بوضوح وبشكل فطري في اللغة، فالازدواجية واللغة مترابطان إلى حد كبير.

كافكا وهومر عن الازدواجية

مثال على ذلك، عند الحديث عن أشيائنا العزيزة والمقربة نقول: سيارتي أو كتابي أو قلبي أو ذراعي ولا يتوقف الأمر هنا فنقول: عقلي، نتحدث عن امتلاك العقل كأنه وبشكل ما منفصل عن الجسد. تظهر الازدواجية أيضا بشكل فطري في نظرتنا للهوية الشخصية، فنرى أن مرور الجسم بتغيرات كبيرة وجذرية لا يعني تغير الشخص ذاته. والأمثلة التي توضح ذلك خيالية، منها ما كتبه فرانز كافكا في واحدة من أعظم القصص القصيرة في القرن الماضي:

“استيقظ جريجوري سامسا في صباح ما من ليلة مليئة بالأحلام المزعجة، ليجد نفسه تحول إلى حشرة عملاقة.”

هنا يدعونا كافكا إلى تخيل الاستيقاظ في جسد صرصور ضخم وبالفعل لا نواجه صعوبة في ذلك. مثال آخر يعود إلى مئات السنين قبل الميلاد، حينما يصف “هومر” مصير رفقاء “أوديسيوس” اللذين وقعت عليهم لعنة شريرة ليعلقوا في أجساد خنازير، كان لهم رأس وجسد وشعر وصوت الخنازير لكن ظلت عقولهم/أرواحهم كالسابق لم تتغير.

وهنا أيضًا يتم دعوتنا بشكل فطري إلى تخيل مصير إيجاد أنفسنا في أجساد كائنات أخرى.الازدواجية والبشر يؤمن معظم البشر من جميع الأديان في معظم مناطق العالم على مر العصور بقدرتهم على النجاة من دمار أجسادهم. اختلفت الثقافات في تحديد مصير الروح، منها ما يقول أنها ترتقي إلى الجنة أو تهبط إلى الجحيم، ومنها ما يقول أنها تعود لتشغل جسدًا آخرًا، أو لتشغل حيزًا في عالم روحي لا شكلي. لكن الأمر المشترك بينهم جميعًا هو أن ما تكونه أنت، ما يعنيه وجودك كإنسان منفصل انفصالًا تامًا عن جسدك المادي.

ملحدون في الجنة الإيمان!

أحد المسوحات التي تمت في ولاية شيكاغو استطلعت ديانات الأشخاص وماذا باعتقادهم قد يحدث لهم عند الموت، وجائت النتائج كالتالي: رأت النسبة الأكبر من الأشخاص المعتنقين للمسيحية واليهودية أنهم سيذهبون إلى الجنة عند الموت، نسبة أقل من المشاركين نفت اعتناقها لأي دين، لكنهم اعتقدوا أيضًا أنهم سيذهبون للجنة عند الموت! دحض الازدواجية نستنتج مما سبق أن الازدواجية في كل شيء، وتعتمد عليها الكثير من الثوابت.

لكن يبقى للعلم رأي آخر، أشار كريك أن الإجماع العلمي يرى الازدواجية خاطئة، ليس هناك “أنت” منفصل عن جسدك، وبالتحديد ليس هناك “أنت” منفصل عن مخك، فالعقل هو ما يفعله المخ، العقل انعكاس لعمل المخ.

أما الازدواجية فهي عقيدة غير علمية لا تستطيع الإجابة عن أسئلة مثل: كيف يتعلم الأطفال اللغة؟ أو ما الذي يجعل الشخص جذابًا؟ أو كيف ينشأ المرض النفسي؟

تفسير الازدواجية!

تفسير الازدواجية الوحيد أن كل هذا ليس ماديًا، إنه جزء من كيان الروح/العقل غير المادي. وعاني ديكارت نفسه من هذه النقطة، فقد توصل إلى ضرورة وجود إتصال ما بين الجسد المادي والعقل غير المادي، وإلا فلماذا تشعر بالألم عندما يرتطم اصبعنا بشيء؟ ولماذا تقفز ركبتك في الهواء عند الطرق عليها؟ لكنه فشل في تحديد ماهية هذا الاتصال.

علاوة على ذلك، هناك أدلة قوية تثبت مشاركة المخ في الحياة العقلية، حيث تشير الأبحاث إلى تناظر أجزاء المخ مع نشاطنا العقلي. وهذا ليس بالاكتشاف الجديد، فقد عرف الفلاسفة والعلماء منذ وقت طويل أن الضرب على الرأس يمكن أن يغير القدرات العقلية، كذلك يمكن لمرض الزُهري أن يجعل المرء مختلًا، وللمواد الكيميائية مثل الكافيين والكحول تأثير على نشاط العقل.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، حيث مكنتنا تقنيات التصوير مثل الأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغناطيسي من التعرف على المناطق النشطة من المخ أثناء المراحل المختلفة من النشاط العقلي مثل: الفارق بين رؤية الكلمات وسماعها وقراءتها وتوليدها تتناظر مع مناطق نشطة مختلفة من المخ. مثال آخر: يُمكن بتتبع المناطق النشطة من المخ معرفة ما إذا كان الشخص يستمع إلى الموسيقى أو يفكر في الجنس أو حتى يفكر في حل معضلة أخلاقية ما.

وأخيرًا يمكننا القول أن الإجماع العلمي يتفق مع فكرة أن العقل نتاج لعمل المخ، أن مشاعر البشر وضمائرهم وأخلاقهم وإرادتهم الحرة ذات أصل مادي، أن الإنسان في الحقيقة ليس سوى مخ! لكن يظل السؤال هنا، كيف يمكن أن ننشأ نحن البشر بكل تعقيداتنا من هذا العضو الرمادي الصغير بتلافيفه وتجاويفه؟ كيف يعمل العقل؟ والسؤال الأهم كيف ينشأ التفكير من العقل؟ وهذا ما سنتطرق إليه في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:
Psychology
Mind-body dualism
The Astonishing Hypothesis
PhilPapers

متلازمة كوتارد أو الجثة المتحركة: توهم الموت

متلازمة كوتارد أو الجثة المتحركة: توهم الموت

“أنا عايش ومُش عايش”. تحوّل متلازمة كوتارد المُصابين بها إلى زومبي أو أحياء-أموات، فهم يعتقدون أنهم فقدوا حياتهم بالفعل، وبأن أجسادهم تحوّلت إلى جثث، وكل شيئ يفقد معناه ويُصبح عدمًا بالنسبة لهم. فما هي متلازمة كوتارد؟

تعريف:

متلازمة وهم كوتارد، التي تسمّى أيضًا بمتلازمة “الجثة المتحركة”، هي متلازمة نفسية نادرة  يتوهّم الشخص المُصاب بها أنه قد مات أو اختفى أو فقد أعضاءً من جسمه، وصولًا الى الاعتقاد بأنه غير موجود أصلًا.

سُمّيت المتلازمة نسبةً لطبيب الأعصاب الفرنسي «Jules Cotard-جول كوتارد» الذي قام بتوصيف هذه الحالة للمرة الأولى عام 1880، لمرأة تبلغ من العمر 42 عامًا، حيث كتب أنها “تؤكد أنها فقدت دماغها وأعصابها وصدرها وأحشاءها، وأنه لم يتبقَ منها سوى جلدها وعظامها من جسدها المتحلل… كما تقول أنها ليست بحاجة للطعام، وهي ستبقى الى الأبد إن لم تُدفن، وقد يكون حرقها بالنار هو الحل الأفضل لها.”  وهي امتنعت عن تناول الطعام حتى توفيت.

لم يتم تصنيف هذه المتلازمة كمرضٍ مستقل، بل هي حالة ترافق حالات مرضية عصبية – نفسية أخرى، وبشكل خاص الاكتئاب الحاد و«اضطراب ثنائي القطب-Bipolar disorder» (وهو تغير شديد في الحالة المزاجية للمريض بين نوبات اكتئاب يشعر فيها بالحزن وفقدان الرغبة والاهتمام بأي شيء، ونوبات هوس يصاب فيها بالنشاط الزائد وكثرة الكلام) وأمراض «الذهان-Psychosis» و«الفصام-Schizophrenia» (وهي حالات مرضية يفقد فيها المريض ارتباطه بالواقع ويعاني من الهلوسات البصرية والسمعية). في حالات أكثر ندرة، تنتج المتلازمة عن إصابة دماغية، أو أمراض الشقيقة (الصداع النصفي)، أو الخرف، أو باركنسون وغيرها من الأمراض العصبية.

تُصيب المتلازمة النساء بنسبة أكبر من الرجال، وتزيد احتمالية الإصابة مع التقدّم بالعمر. نادرًا ما تصيب الأطفال أو المراهقين، ولكن الإصابة بها تحت عمر الخامسة والعشرين ترتبط إجمالًا بمرض اضطراب ثنائي القطب.

العوارض:

كما يدل اسمها، يتوهّم الشخص المُصاب بمتلازمة “الجثة المتحركة”  بأن جسده مات أو لم يكن موجود أصلًا، وهذا ما يسمّى ب«الوهم العدمي-Nihilistic delusion». وقد يتخذ هذا الوهم أشكالًا مختلفة:

  • أفكار وهم المرض: توهم اختفاء أعضاء من الجسد، أو توهم عدم القدرة على الأكل أو التنفس.
  • أفكار العدم الخارجي: نفي وجود عالم خارجي، نفي وجود أشخاص معينين أو أغراض معينة.
  • أفكار وهم العظمة: الاعتقاد بالخلود.

إلى جانب هذا الوهم، يكون معظم الأشخاص مُصابين باكتئاب حاد.

تختلف العوارض بين شخص وآخر بحسب المرض الأساسي الذي ترافقه المتلازمة، ولكنها تشمل التخشُّب (Catatonia، وهي حالة من الجمود النفسي-الحركي بحيث يعجز المريض عن الحركة بشكل طبيعي)، وإحساس كبير باليأس أو الذنب، والقلق الحاد، والميول الانتحارية وأحيانًا هلوسات بصرية وسمعية، واضطرابات الادراك الحسي (عدم الاحساس بالألم، أو انخفاض الاحساس بالجوع والعطش). وكنتيجة لكل هذه العوارض، يرفض المريض تناول الطعام والشراب ويهمل نظافته الشخصية.

مراحل المرض:

يمر مريض متلازمة وهم كوارد بثلاثة مراحل:

  • المرحلة الأولى: «مرحلة الإنبات-Germination stage» وتغلب عليها عوارض الاكتئاب الحاد وتوهم المرض، في هذه المرحلة لا يمكن تشخيص المتلازمة.
  • المرحلة الثانية: «مرحلة التفتح-Blooming stage» حيث تظهرعوارض المتلازمة بشكل واضح.
  • المرحلة الثالثة: «المرحلة المزمنة-Chronic stage» وهو بقاء بعض العوارض إما على شكل اكتئاب مزمن أو وهم الاضطهاد.

الأسباب:

بسبب ندر متلازمة كوتارد وارتباطها بأكثر من مرض نفسي آخر، تشكل هذه المتلازمة صعوبة لعلماء النفس والأطباء النفسيين لدراستها. غير أن تقنيات التصوير العصبي سمحت للعلماء بمقارنة أدمغة الأشخاص المُصابين بها بالدماغ السليم، وقد بيّنت فروقات ملحوظة خصوصًا في الفصين «الصدغي-temporal» و«الجبهي-frontal».

كما يوجد أسس نفسية متعلّقة بالشخصية، بحيث بينت دراسات عدة أن الأشخاص الذين يلقون اللوم على أنفسهم عند حدوث أي حدث سيئ (الاحساس بالذنب) معرّضون أكثر من غيرهم للإصابة بمتلازمة كوتارد. ولكن ما تزال المعلومات متضاربة وغير ثابتة فيما يخص الأسباب الفيزيولوجية والنفسية للمتلازمة، وهي بحاجة لمزيد من الدراسة.

العلاج:

تختلف طريقة العلاج من مريض لآخر بحسب الحالة المرضية الأساسية المسبّبة للمتلازمة، وهو إجمالًا يشمل واحدًا أو أكثر من العلاجات التالية:

  • العلاج الدوائي: من خلال مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان.
  • العلاج بالصدمة الكهربائية (ECT): أثبتت عدة دراسات فعاليته في علاج المتلازمة في حال فشل العلاج الدوائي.
  • العلاج النفسي: لحماية المريض من خطر الانتحار، وتحسين حالته النفسية ومساعدته على القيام بنشاطات الحياة اليومية وخصوصّا الأكل والنظافة الشخصية.

تكون هذه العلاجات غالبًا كافية لتتغلب على عوارض المتلازمة.

ختامًا، تشكل هذه المتلازمة معضلة علمية وطبية وهي بحاجة للكثير من التعمق في دراستها لمعرفة أسبابها والطريقة الأفضل لعلاجها، ولكنها أيضًا تتداخل مع الفلفسة العدمية، فالأفكار التي نشرها الكتاب العدميون أمثال جاكوبي ونيتشه وغيرهم، تتشابه مع أوهام النفي والأوهام العدمية التي بعبّر عنها الأشخاص المُصابون بمتلازمة كوتارد، فهل عانى هؤلاء من حالات نفسية مرضية؟

مصادر:

Psychiatry online

NCBI

Scielo

Research gate

Science direct

المزيد:

متلازمة الاستذئاب السريري: وهم التحول إلى حيوان

متلازمة الاستذئاب السريري: وهم التحول إلى حيوان

متلازمة الاستذئاب السريري: وهم التحول إلى حيوان هل سبق لك أن قرأت رواية كافكا الشهيرة «المسخ-The Metamorphosis» ؟ في هذه الرواية يستيقظ رجل يُدعى “غريغور” ليجد نفسه قد تحوّل لحشرة صرصار عملاقة. إن ما اختبره بطل رواية كافكا يختبره أيضًا من يُصاب بمتلازمة «الإستذئاب السريري-Clinical lycanthropy» .

فما هي هذه المتلازمة؟

متلازمة الإستذئاب السريري هي متلازمة نفسية نادرة يعتقد الشخص المُصاب بها أنه قد تحوّل أوهو في خضم التحول إلى كائن غير بشري. وقد أخذت هذه المتلازمة اسمها من الأساطير القديمة القائلة بتحول البشر إلى ذئاب. هذه المتلازمة هي نوع من عوارض الوهم أو الهذيان ولكنها ليست مرتبطة بمرض نفسي دون غيره. وهي غالبًا ما ترافق مرضًا نفسيًا آخرًا مثل «اضطرابات المزاج-Mood disorders» و«الفصام-Schizophrenia». في حالات أكثر ندرة، تظهر هذه المتلازمة في حالات تعاطي مواد مخدّرة أو الكحول، واضطرابات الشخصية وأمراض الخرف والصرع.

أعراض المتلازمة:

لا يقتصر الاستذئاب السريري على الاعتقاد بالتحوّل إلى مخلوق غير بشري، بل أيضًا يعتقد المريض بأن جسمه ينمّي شعرًا أو وبرًا أو أجنحةً أو مخالبًا وغيرها من السمات الجسدية الحيوانية، تمامًا كشخصية “نينا” (تجسّدها الممثلة «ناتالي بورتمان-Natalie Portman») في فيلم “Black swan” التي تتوهّم أن جسمها يتغطى بالريش وينمو لها جناحان في إطار تحوّلها لأوزّة. بالإضافة إلى أن عدد من المرضى يقومون بإصدار أصوات حيوانية دون القدرة على السيطرة عليها.

إعلان فيلم “Black swan”

الاستذئاب السريري تاريخياً وجغرافياً

يُعتبر الاستذئاب السريري متلازمة مرضية قديمة جدًا وقد كتب عنها للمرة الأولى الطبيب الاغريقي «مارسيلّوس-Marcellus» في القرن الثاني بعد الميلاد. وقد ساد لوقت طويل الاعتقاد بأن عوارضها ناتجة عن سحر أو شعوذة أو مس شيطاني. في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بدأ النقاش حول كون هذه العوارض ناتجة عن مرض أو سحر أو مواد سامة. ومع بداية عصر التنوير الأوروبي الذي عُرف أيضًا بعصر المنطق، بدأ البحث عن أجوبة علمية ومنطقية لهذه الأمراض بعيدًا عن السحر.

ترتبط متلازمة الاستذئاب السريري بالمحيط الجغرافي والثقافي والديني للمريض بشكل كبير، إذ يمثل غالبًا الحيوان الذي يشكل موضوع التحوّل صورة الشر بالنسبة له (مثلًا الثعبان في قصة آدم وحوّا)، أو صورة الحيوان الأخطر في المنطقة التي ينتمي إليها (مثلًا ذئب أو دب في دول أوروبا، النمر في الهند). ومن أكثر الحيوانات التي تشكّل مواضيع التحول عند الأشخاص المُصابين بالمتلازمة هي: ذئب، دب، كلب، أرنب، حصان، فأر، عصفور، ضفدع، نحلة، ثعبان،… في أفريقيا وأميركا الجنوبية تم تسجيل أيضًا حالات توهم التحول لنمر،أو ضبع أو تمساح وغيرها من الحيوانات الحقيقية أو الخيالية. تنتشر المتلازمة بصورة أكبر عند الأشخاص الذين ينتمون الى بيئة قروية أو محافظة دينيًا، أوعند الأشخاص الذين يؤمنون بالمس الشيطاني أو التقمص أو تناسخ الأرواح أو السحر أو الطوطمية (تقديس نوع معيّن من الحيوان أو النبات أو الظاهر الطبيعية). وهي تُفسّر في علم النفس على أنها قد تكون ناتجة عن شعور بالذنب، فيكون التحول بمثابة عقاب إلهي بالنسبة للمريض.

لحسن الحظ، غالبًا ما تكون عوارض هذه المتلازمة الغريبة مؤقتة وقابلة للعلاج من خلال أدوية معينة كمضادات الذهان ومثبتات المزاج، وتخف أعراض المتلازمة تدريجيًا مع علاج المرض النفسي الأساسي.

مصادر(متلازمة الاستذئاب السريري: وهم التحول إلى حيوان):

Wiley

Live science

neuro psychiatry online

Britannica

Research gate

المزيد:

ما علاقة القدرات العقلية والمعرفية بالأمراض النفسية؟

ما علاقة القدرات العقلية والمعرفية بالأمراض النفسية؟

ما علاقة القدرات العقلية والمعرفية بالأمراض النفسية؟
هل تعلم أن انخفاض التركيز أو الانتباه أو الذاكرة وغيرها من الوظائف العقلية يُمكن أن يكون عارضًا من عوارض الأمراض النفسية؟
عند الحديث عن الأمراض النفسية غالبًا ما يتم التركيز على العوارض الشعورية كالاكتئاب، والقلق، والهلوسة وغيرها. لكن للأمراض النفسية جانب آخر كالاضطرابات المعرفية. فما هي هذه الاضطرابات؟ وهل تختلف من مرضٍ لآخر؟ وكيف تؤثر هذه الاضطرابات على حياة الأشخاص المصابين بأمراض نفسية؟

ما هو الاضطراب المعرفي؟

يُعرَّف الاضطراب المعرفي بخلل في واحدة أو أكثر من الوظائف المعرفية التي تتضمن كلًا من «الانتباه-Attention» و«الذاكرة-Memory» و«اللغة-Language» و«التوجه-Orientation» و«إصدار الأحكام-Judgement» و«العلاقات الاجتماعية-Social abilities» و«الوظائف التنفيذية-Executive functions» و«حل المشكلات-Problem Solving». وهي قد تكون ناتجة عن أمراض نفسية / عقلية خلقية أو مُكتسبة، أو خلل عصبي، أو صدمة رأس، أو التقدّم بالعمر وغيرها من الأسباب.

الاضطرابات المعرفية في مرض «الفُصام-Schizophrenia»:

يعاني مريض الفصام من أعراض تتسبب في انفصاله عن الواقع المحيط به؛ فيسمع أصوات غير موجودة ويرى العديد من الهلاوس إلى جانب المعاناة من الأفكار المغلوطة. كان الخلل المعرفي في مرض الفُصام معروفاً منذ زمن؛ فقد أثبت العلماء على مدى السنين خللًا في وظيفة الانتباه مترافقًا مع مرض الفُصام حتى أنه كان يسمّى مرض الخرف المبكر بحسب «كريبلن-Kraepelin» (عام 1893).
وقد توالت الدراسات في القرن العشرين لتثبت أن مرض الفُصام يترافق مع ضعف الانتباه والتركيز والذاكرة والقدرة على التخطيط. في عام 1997، أثبت « بالمر-Palmer» من خلال دراسة أجراها على 171 مريض فصام و63 شخص من العيّنة السليمة أن فقط 28% من مرضى الفصام حصلوا على معدلات “طبيعية” في اختبار القدرات المعرفية. وفي دراسات حديثة (2016) أُجريت في كلٍّ من المملكة المتحدة، والولايات المتحدة والسويد، تبيّن أن الأطفال الذين سيُصابون بالفصام لاحقًا يُبدون ضعفًا على المستويين المعرفي والسلوكي نسبةً للأطفال الآخرين، أي أن الخلل الإدراكي يسبق مرض الفُصام وقد يكون مؤشرًا له!

الخلل المعرفي في «اضطراب ثنائي القطب-Bipolar disorder»:

اضطراب ثنائي القطب عبارة عن تغير شديد في الحالة الشعورية أو مزاج المريض حيث يمر بنوبات اكتئاب شديدة يعاني فيها من الحزن وفقدان الاهتمام في فعل أي شيء، ونوبات أخرى تتميز بالنشاط الزائد والثقة القوية في النفس وكثرة الكلام تُسمى «الهوس-Mania». الخلل المعرفي الموجود في الفصام يتواجد كذلك في اضطراب ثنائي القطب، تبين الدراسات أن هذا المرض يترافق مع صعوبات معرفية، وهي تختلف من مريض لآخر، فهي تزيد مع زيادة عدد نوبات «الهوس-Mania» ومع تزايد فترات العلاج في المستشفى. ولوحظ أن «الذاكرة التقريرية اللفظية-Verbal Declarative Memory» المسؤولة عن تذكّر الأحداث هي من أكثر الوظائف المتأثرة بهذا المرض.
في مرض الاكتئاب، تتأثر قدرات الانتباه، والتركيز، والذاكرة السمعية والبصرية، وسرعة التحليل. وقد يكون هذا الضعف مُرتبط بانخفاض «التحفيز-Motivation» أي أن المريض المُصاب بالاكتئاب يكون فاقدًا القدرة على الاهتمام بما يدور حوله وبالتالي على التفاعل معه.

كيف يؤثر هذا الخلل على الأشخاص المُصابين بأمراض نفسية؟

باختصار، أصبحت عوارض الخلل المعرفي جزءًا لا يتجزأ من عوارض الأمراض النفسية. وهي تؤثر بشكل كبير على نوعية الحياة الخاصة بالمرضى، خصوصًا أنها مُهملة ولا تُعالج بالقدر الكافي. فهي تؤثر على الحياة الدراسية والعملية، والعلاقات الاجتماعية وأحيانًا حتى على الحياة العائلية.
لطالما عملت الأدوية على معالجة العوارض النفسية الشعورية والفكرية، لكنّها أهملت الاضطراب المعرفي وحتى أنها كانت أحيانا تزيدها سوءًا.
ولكن هذا لم يمنع بعض الأشخاص المُصابين بأمراض نفسية أن يبدعوا في مجالات فكرية متعدّدة. نذكر منهم عالم الرياضيات الشهير «جون ناش-John Nash» المصاب بالفصام والذي نال جائزة نوبل عام 1994. وقد جُسّدت حياته في فيلم “A Beautiful Mind”. كذلك الكاتبة و الدكتورة المتخصصة في علم النفس «كاي ريدفيلد جاميسون-Key Redfield Jamison» التي نجحت نجاحًا باهرًا في مجالها ونالت جوائز متعددة حتى أنها في كتابها «عقل غير هادئ-An Unquiet Mind» تعتبر مرضها مساهمًا في نجاحها وتميزها رغم كل الصعوبات التي مرّت بها.

حاليًا، يتم العمل على علاجات دوائية تساعد على المحافظة أو استعادة القدرات المعرفية، ولكنها ما زالت قيد الدراسة. في المقابل، يتم الحديث عن أهمية العلاجات البديلة والتي تعني المقاربات النفسية، والوظيفية، والمعرفية – السلوكية وغيرها. ممّا يؤكد على أهمية وجود فريق عمل صحي – نفسي – اجتماعي كامل حول الأشخاص المُصابين بأمراض نفسية، لتحسين نوعية حياتهم.

ختامًا، إن المعطيات العلمية تثبت وجود عوارض معرفية مرتبطة بالأمراض النفسية، لكنها لا تزال غير كافية لتبيان أسبابها وطريقة علاجها. لذلك، من المهم اليوم إعطاء هذه الاضطرابات حقها في العلاج من خلال التدريب المستمر للوظائف المعرفية والعقلية لدى هؤلاء المرضى. إضافةً إلى احترام القدرات المعرفية لكل شخص وبالتالي الأخذ بعين الاعتبار أي خلل معرفي لدى الأشخاص المصابين بأمراض نفسية وتقديم الدعم اللازم لهم في محيطهم الأكاديمي والعملي والاجتماعي.

المصادر(ما علاقة القدرات العقلية والمعرفية بالأمراض النفسية؟):

Nature

Nepal Journals online

Cambridge university press

Wiley

Britannica

هل أنت حزين أم مكتئب؟

هذه المقالة هي الجزء 15 من 19 في سلسلة رحلة بين أشهر الاضطرابات النفسية

ما الفرق بين الحزن والاكتئاب؟

يصاب نصف البشر -تقريبا- بالاكتئاب في وقت أو آخر من حياتهم، لكن مرض الأكتئاب غالبا ما يعالج بطريقة خاطئة أو لا يعالج على الأطلاق خاصة في مجتمعاتنا الشرقية التي مازالت تنظر للأمراض النفسية بأنها وصمة عار أو وهم؛ يمكن أن يعالج بالصبر والصلاة ولدى رجال الدين والقبيلة قائلين: صل، تزوج، سافر، أقرأ… فماذا إن لم أتحسن بكل هذا!

السبب الأخر لعدم علاج الأكتئاب هو خلطة بالحزن؛ فكلا الحالتين تتشابهان في بعض المظاهر مثل: البكاء، الكسل والفتور، الإحساس بالغربة عن المجتمع والانسحاب من الأنشطة المختلفة، فما الفرق بين الحزن والاكتئاب؟

الفرق بين الحزن والاكتئاب؟

الحزن

هو رد فعل طبيعي على الخسارة أو خيبة الأمل أو المشكلات والمواقف الصعبة الأخرى في حياتنا وهو شعور طبيعي للغاية مثل الجوع والعطش والألم، جزء لا يتجزأ من كون المرء إنسانًا. لكن مشاعر الحزن تزول على الأغلب في غصون أسبوعين ويمكنك العودة لممارسة حياتك اليومية بعدها، فماذا يحدث إن استمرت طويلا أو أثرت على ممارسة حياتك اليومية؟

الاكتئاب

هو مرض عقلي يؤثر على حالتك المزاجية والطريقة التي تفهم بها نفسك والأحداث والأشخاص من حولك، يمكن أن يأتي الاكتئاب دون سبب ويستمر لفترة طويلة وهو أكثر من مجرد حزن أو مزاج عكر مؤقت، في العادة يستمر الاكتئاب لفترة أطول من أسبوعين ولا يختفي من تلقاء نفسه ويؤثر على حياتك اليومية وتصرفاتك و علاقتك بالمحيطين بك.

وهو مرض حقيقي ويمكن علاجه لكن من المهم جدا طلب المساعدة إذا كنت تشعر بأعراضهُ لفترات طويلة، وهناك أنواع مختلفة من الاكتئاب هي:

  1. الاكتئاب السريري – clinical depression
  2. اضطراب الاكتئاب الشديد – major depressive disorder
  3. الاكتئاب الهوسي – manic depression
  4. اكتئاب ما بعد الولادة – Postpartum Depression
  5. الاكتئاب الموسمي – Seasonal Depression
  6. الاكتئاب النفسي – Psychotic Depression
  7. اكتئاب شاذ – Atypical Depression
  8. الاكتئاب الموضعي – Situational Depression
  9. اضطراب خلل النطق المزاجي – Disruptive Mood Dysregulation
الأعراض النفسية والجسدية للاكتئاب

الأعراض النفسية للاكتئاب

  1. اليأس وكراهية الذات.
  2. الشعور بالذنب غير المبرر.
  3. الغضب أو التهيج السريع.
  4. صعوبة التفكير والتركيز والأبداع أو اتخاذ القرارات.
  5. فقدان الشغف والاهتمام بالأشياء المعتاد الاستمتاع بها.
  6. العزلة عن الآخرين.
  7. وجود أفكارًا جادة حول الموت أو إنهاء الحياة (الانتحار).

الأعراض الجسدية للاكتئاب

  1. اضطرابات النوم أو النوم أكثر من اللازم.
  2. تغييرات كبيرة في الوزن والشهية.
  3. تباطؤ الحركة والتصرف معظم الوقت
  4. التململ وسرعة الحركة معظم الوقت
  5. الشعور بالتعب و الركود وانخفاض الطاقة في معظم الأيام.
  6. الأوجاع والآلام الغير مبررة.
الشعور بالتعب و الركود وانخفاض الطاقة في معظم الأيام.

الهوس – Mania

على الجانب الأخر، هناك الهوس وهو نوع من الاكتئاب الذي يبدو مثل السعادة، فتجد الشخص يفرط في الحديث والحركة والعمل والمرح بكل أنواعه، لكن ستجد أن كلامهُ في الغالب لغطًا لا طائل منه ولا هدف ولا يقدم قيمة حقيقية عن ذواتهم.

mania

الفرق الجوهري بين الحزن والاكتئاب

هناك 2 من الفروق الجوهرية بين الحزن والاكتئاب.

  • الفرق الأول: هو أن الشخص الحزين يمكنه في العادة أخبارك بسبب حزنه مثلا «أنا حزين لأني فقدت وظيفتي، أو لا أستطيع أن أحتفظ بعلاقاتي العاطفية، أو فقدت عزيزا، أو مالًا، أو أملًا» حتى وأن بدا السبب واهنًا فكل منا له قدرته الخاصة على التحمل والشعور. أما الشخص المكتئب فهو لا يستطيع تحديد لماذا هو حزين؛ مما يجعله عرضة للاتهام بالكذب أو التمثيل أو محاولة جذب الاهتمام، حتى أن محاولاته المستمرة لمعرفة سبب شعوره وعدم إيجاد السبب قد تدفعه في الأتجاه المعاكس نحو الإحساس بمزيد من الإحباط والألم والخوف!
  • الفرق الثاني: هو أن الشخص الحزين يجد سبب حزنه منعكسًا على العالم الخارجي ولا يتأثر إحساسه بذاته جراء ذلك، أما المكتئب فينعكس أحساسه داخليا بالشعور بكراهية النفس والإذلال والإحساس بالذنب واتهام الذات، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى الأفكار الانتحارية.

أسباب الإصابة بالاكتئاب

يمكن أن يصيب الاكتئاب أي شخص -حتى الذي يبدو أنه يعيش في ظروف مثالية نسبيًا- وهناك عدة عوامل يمكن أن تلعب دوراً في الإصابة بمرض الاكتئاب:

  1. الكيمياء الحيوية: الاختلال في بعض المواد الكيميائية في الدماغ قد تساهم في أعراض الاكتئاب.
  2. الوراثة: الاكتئاب يمكن أن ينتشر في الأسر، على سبيل المثال إذا كان أحد التوأم المتماثل مصابًا بالاكتئاب فلدى الآخر فرصة بنسبة 70 في المائة للإصابة بالمرض في وقت ما من حياته.
  3. الشخصية: الأشخاص الذين يعانون من تدني احترام الذات، والذين يرضخون للضغط بسهولة، أو المتشائمون يبدو أنهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب.
  4. العوامل البيئية: التعرض المستمر للعنف أو الإهمال أو سوء المعاملة أو الفقر قد يجعل بعض الناس أكثر عرضة للاكتئاب.

فما هو الحل؟

أنواع العلاج

العلاج الكيميائي / الدوائي:

قد يقال أنه بسبب عدم وجود سبب مادي لشعور الإحباط والحزن لدى مرضى الاكتئاب فالحل يكمن في أدوية تعديل المزاج وضبط الخلل الكيميائي في عقولهم، وهذا بالفعل أحد الحلول التي لا يجب أن نشعر بالذنب لاستخدامه.

وهو مناسب بشكل كبير للمؤسسات والشركات التي تبحث عن أسرع وأسهل الحلول لمشاكل موظفيها، أو الأباء القلقين الذين يسعون لعلاج أبنائهم سريعًا كي يتمكنوا من العودة لممارسة حياتهم الطبيعية، وبالطبع هو مناسب للشركات المصنعة لأدوية تعديل المزاج والضوابط الكيميائية للمخ والمنتفعين من ورائها، لكن هل ذلك هو الحل الأفضل أو الوحيد؟ بالطبع لا!

قد نقول أنه لا يوجد سبب مباشر للاكتئاب لكن ذلك لا يعني عدم وجود سبب على الإطلاق فالسبب موجود، لكن لا يستطيع المرئ أخبارك به لأنه إما قديم جدا يرجع لمرحلة الطفولة، أو صعب التعامل معه لذا يدفعه العقل الواعي إلى اللاواعي ويظل قابع هناك يسبب مشكلات لشخص لا يعرف من أين تأتى أو لماذا.

فقد يفضل العقل الواعي أن لا يحس بشئ على الأطلاق بدلًا من أن يتألم بشكل لا يُحتمل من مصدر واحد معروف، لذا فيمكننا القول أن الاكتئاب هو حزن نُسى سببه الأساسي.

كما يرجع جزء كراهية الذات في كثير من الأحيان لكراهية شخص أخر أو حدث ماضي يرفض العقل قبول كراهية له فيعكسه داخليًا نحو المريض نفسه.فبدلًا من أن يفكر عقل المريض أن (أحد الآباء أو المعلمين أو الشريك العاطفي) قد أهانني أو أذاني، يفكر العقل المريض بطريقة عكسية؛ أنا غير جدير بالمحبة أو أنا شخص سيء لا يمكن احتماله.

ما الرابط بين الحزن الشديد والفرح الشديد؟

الرابط هو عدم وجود الوعي الذاتي في الحالتين؛ لذا فأكثر ما يحتاجه مريض الاكتئاب هو الوعي والفهم العميق بسبب حزنه ومشاعره المختلفة.

ولذلك فهم يحتاجون في الغالب مستمع صبور وحكيم يؤدي دوره على أفضل الأحوال الطبيب أو المعالج النفسي، والذي قد يعالج بشكل مؤقت عن طريق الأدوية حتى يتمكن المريض من معاينة مشاعره بعيدًا عن إحساسه المستمر بالقلق والحزن والإحباط ومن ثم تغيير سلوكياته وتفكيره المسببان للمرض.

العلاج النفسي – Psychotherapy:

أنواع العلاج النفسي

قد يشمل العلاج النفسي على الفرد المصاب فقط، أو قد يشمل آخرين مثل العلاج الأسري أو الزوجي أو العلاج الجماعي الذي يشمل أشخاص يعانون من أمراض مماثلة، واعتمادًا على شدة الاكتئاب قد يستغرق العلاج بضعة أسابيع أو أكثر، في كثير من الحالات يمكن ملاحظة تحسن كبير بعد 10 إلى 15 جلسة.

العلاج الجماعي

العلاج بالصدمة الكهربائية (ECT)

وهو علاج طبي يستخدم بشكل شائع للمرضى الذين يعانون من الاكتئاب الشديد أو الاضطراب الثنائي القطب الذين لم يستجيبوا للعلاجات الأخرى. وهو ينطوي على تحفيز كهربائي قصير للمخ أثناء تعرض المريض للتخدير.

يتلقى المريض عادة العلاج بالصدمات الكهربائية مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع ليصبح المجموع 6 إلى 12 مرة. تم استخدام العلاج بالصدمات الكهربائية منذ الأربعينيات وأدت سنوات عديدة من البحث إلى تحسينات كبيرة عليه. تدار عادة من قبل فريق من المهنيين الطبيين المدربين بما في ذلك طبيب نفساني وطبيب تخدير وممرض أو مساعد طبيب.

لذا نرجو منك طلب المساعدة إذا وجدت نفسك في حاجة إليها ولاحظ سلوك المحيطين بك و نبههم وساعدهم على قدر استطاعتك فالمرض النفسي لا يجب أن يكن ذو تأثير نهائي على حياة البشر بل يمكن علاجه وتجاوزه بمساعدة بعضنا الآخر وقبول ضعفنا الإنساني.

مصادر:
medical news today
here to help
psycom
psychiatry association
mayo clinic
school of life/How To
Cope With Depression
اختبار مبدئي لمعرفة إن كنت تعاني من الاكتئاب
بعض الأنشطة التي قد تساعد في تخفيف أعراض الاكتئاب 1 , 2 , 3

Exit mobile version