مدخل إلى الأخلاقيات في العمل

ما هي الأخلاقيات؟

تشكّل الأخلاقيات أساساً لعمليات اتّخاذ القرار سواءاً في الحياة اليومية أو في الأعمال. فسيرة الإنسان تحددها مجموعة قراراته، الصغير منها والكبير. وتأخذ عملية اتخاذ القرار شكل السلسلة -كما في لعبة كانسة الألغام-، حيث يفتح كل قرار الباب لمجموعة أخرى من القرارات، وهذا يعني أن قدرة الإنسان على اتخاذ القرارات الصحيحة بشأن ما هو صائب وما هو خاطئ هي الحد الفاصل بين حياة ناجحة وحياة أقل نجاحاً.

وتوفّر الأخلاق مجموعة من معايير السلوك التي تساعدنا على تحديد التصرّف المناسب للمواقف وأبعاد تصرّفاتنا على حيوات الآخرين. فالأخلاق على اختلاف مناهجها هي الأساس الذي نأخذ به في عملية صنع القرار، وهي التي توفّر لنا الأسباب والحجّة لاتّخاذ أحد القرارات دون غيره [1].

يتقاطع هدف الأخلاق مع هدف القانون، وأيضاً مع هدف الدين بشكل جزئي في أن الثلاثة يوفّرون إجابات عن أسئلة كيفية العيش مع الآخرين. لكن بالرغم من أن العديد من الأديان تشجّع اتخاذ القرارات الأخلاقية إلا أنها لا تعالج النطاق الكامل للخيارات الأخلاقية التي نواجهها. وقد يخيّل لنا أن القانون بدوره أيضاً يوفّر أرضية مرجعية للأخلاق إلا أن القانون يُبنى بمبادئ توجيهية عالمية، وغير قادر على الاستجابة للسياقات الفردية -جميع المواقف التي نجد أنفسنا إزائها في حياتنا الفردية-. فضلاً عن أن القانون بطيء في معالجة المشاكل. ويواجه صعوبة في تصميم وتطبيق المعايير الأخلاقية في بعض المجالات الهامة [1].

كما أن الإنسان في سياق حياته اليومية قد يقع في فخ اعتبار أن الأخلاق واحدة. فيخلط الأخلاق بعضها ببعض، كما قد يخلط بين الطرق والأساليب لتنفيذ القرارات الأخلاقية والقرارات الأخلاقية ذاتها. ويمكن أن يفيد الوعي بالمغالطات المنطقية في الحد من هذا الخلط. حيث يعتمد القرار الأخلاقي على قيم معينة تتعلق بالجدارة والثقة، والاحترام، والمسؤولية، والإنصاف، والرعاية والمواطنة الصالحة. وتولّد القرارات الأخلاقية سلوكيات أخلاقية بدورها، وتوفّر أساساً نظرياً للأخلاقيات في العمل [2].

أهمية أخلاقيات العمل

تأتي أهمية الأخلاق في العمل على أساس المسؤولية المشتركة للعاملين، وذلك في ثلاثة مواضيع [2]:

  • الحفاظ على ثقة الجمهور.
  • إنفاق واستخدام الموارد بالطريقة المُثلى.
  • المسؤولية أمام أصحاب المصلحة من مانحين ووكالات تمويل وطلاب وأولياء أمور.. الخ.

ومن الممكن توزيع القيم الأخلاقية الأساسية في عالم الأعمال إلى مجموعة القيم التالية [2]:

  1. الجدارة بالثقة: افعل ماستقول أنك ستفعله. تصرّف بنزاهة، واوف بالوعود، واجعل أفعالك تتسق مع أقوالك. كن مخلصاً لمن لم يكن حاضراً، وحافظ على السمعة الطيّبة.
  2. الاحترام: معاملة الآخرين بأفضل مما يعاملوك. كُن منفتحاً ومتسامحاً مع الخلافات، وراعِ الآخرين وهذّب تدخّلاتك، وتعامل بسلام، وعامل الآخرين بالطريقة التي يريدون أن يُعاملوا بها.
  3. المسؤولية والإنصاف: افعل ما هو متوقّع منك فعله وتحرّى العدالة في سلوكك وأحكامك. وحافظ على الانضباط الذاتي، وفكر مليّاً قبل الفعل، وتحمّل مسؤولية أفعالك، ولا تتحيّز، واسمع للآخرين.
  4. الرعاية: أظهر اهتمامك وعبّر عن امتنانك، واغفر للآخرين، وساعد من يحتاجك.
  5. المواطنة: لتكن عضواً فاعلاً، تعاون مع زملائك في العمل، وشارك معلوماتك، وابق على اطلاع، وأحسن للجوار. التزم بالقانون، واسعى للصالح العام.

وتقوم الكثير من المؤسسات والشركات بصناعة مدوّنة سلوك يوقّع عليها الموظف حال التحاقه بالوظيفة. ومدونة السلوك هي إحدى طرق التحدث بوضوح ومشاركة الأخلاقيات المهنية. تشمل أيضاً مشاركة العواقب التأديبية التي تلزم خرق مدوّنة السلوك هذه، غير أنه ثمة مدوّنات أخلاقية أخرى تتعلّق بحساسية وطبيعة مهن معيّنة مثل قسم أبقراط في المجال الطبّي. والمدوّنة الأخلاقية أو ما تسمّى بمدوّنة السلوك تهدف بشكل عام إلى منع الفساد، والحفاظ على أداء صحيح، ومشرّف، ولائق ويمنع تضارب المصالح [3].

بحث في أساس أخلاقيات العمل

إذا ما وضعنا الأخلاق تحت المجهر سنجد أنه لا وجود لنهج أخلاقي واحد مثالي وكافي. وإنما هناك مناهج أخلاقية متنوّعة قد تشترك في نواحي وتتباين من نواحي أخرى. وهي تعمل إلى جانب بعضها البعض بحسب إملاءات سياق اتخاذ القرار، وبحسب ميولات المشاركين في عملية صنع القرار. ومعرفتنا لهذه الأنواع الأخلاقية تزيد من قدرتنا -كصنّاع قرار- على الحوار مع الآخر، و تحسّن من القدرة على تفّهم منطلقاته النظرية. مما يجعلنا نهتدي إلى القرارات الصائبة دون إلحاق الضرر بعملية التواصل والحفاظ على بيئة عمل تعاونية.

أولاً) منهج الصالح العام وتاريخه

من الممكن أن يكون الكذب فعل أخلاقي عند التركيز على العواقب.

أصل هذه النهج الفيلسوف اليوناني أبيقور «270-347 D.C» مؤسس الفلسفة الأبيقورية. والتي ذهبت إلى أن المتعة هي القيمة الجوهرية للإنسان، أما باقي الأمور هي مجرد طرق لتأمين هذه المتعة.

خضعت هذه الأخلاق إلى تطوير على يد الفيلسوف البريطاني جيريمي بينثام «1748-1832». حيث صنّف في نظامه الأخلاقي الأفعال الجيدة تبعاً لمقدار ما تجلبه من متعة، وتحجبه من ألم، وذلك لمجموعات من الناس وليس للفرد الواحد نفسه. وذهب بعدها جون ستيورات ميل «1806-1873» إلى أن الأمر ليس حكراً على المتعة المادية فقط، بل بمقدار ما يجلب سلوكنا من سعادة للكم الأكبر من الناس. ومنهج “الصالح العام في الأخلاق” مستمد من هذا النوع، وتبلور بشكل خاص مع أفلاطون «347-427 ق.م» وأرسطو «322-384 ق.م». ودعمه فلسفة جان جاك روسو «1712-1778»، حيث يتحدد الفعل الجيد بحسب هؤلاء الفلاسفة بقدر ما يساهم في الحياة المجتمعية الأخلاقية، ويؤكد هذا النهج على الاحترام والتعاطف مع الآخرين ويأخذ ويسترشد بالإرادة العامة. [2]

ثانياً) منهج الواجب وتاريخه: التركيز على الواجبات والالتزامات

الكذب غير أخلاقي، بغض النظر عن العواقب.

يعود أصل المنهج الفعلي إلى كانط «1724-1804»، إلا أن بعض الفلسفات الدينية تعرّضت له بشكل غير مباشر، مثل أعمال القديس أوغسطين «350-430». ويشدد هذا النهج على أهمية الإرادة الشخصية والنية في اتخاذ القرار الأخلاقي. وعند كانط لا يتعلق فعل الصواب بعواقب أفعالنا، فهي أشياء لا سيطرة لنا عليها في النهاية. بل الصواب متعلق بالنوايا السليمة، والنابعة من حتمية الواجب الإنساني الذي يتلخّص بالتالي: “تصرف بطريقة تعامل الإنسانية، سواء في شخصك، أو في شخص آخر. ودائما كغاية لا كوسيلة حتى النهاية”.

ويندرج قانون حامورابي الذي ينص على وجوب معاملة الأحرار على حد سواء، والعبيد على حد سواء، وبدون الاهتمام بالعواقب ضمن هذا النهج. كما تندرج الأخلاقيات الدينية المستمدة من الأمر الإلهي ضمن هذا النهج أيضاً. فالمعيار الأخلاقي بحسب الأخلاقيات الدينية هو ما يقرّه الله في شرعه وما يلزم أتباعه به، دون أن يلزَم الله بمعيار معين للصواب والخطأ [2].

ثالثاً) منهج الفضيلة وتاريخه: التركيز على الشخصية التي يجب أن نكونها

من يكذب، يمكن أن يقوم بأي فعل آخر غير أخلاقي، وهذا الشخص ليس فاضلاً.

ليس لهذا المنهج أصل معيّن إلا أن له شعبية في حضارات شرق آسيا، ويظهر في تعاليم كونفوشيوس «551-479 ق.م». حيث يؤكد كونفوشيوس على أن الخلوق هو الذي يتصرف بذكاء وبطريقة مناسبة في مجموعة متنوعة من المواقف. والأخلاق حسب منهج الفضيلة لا ترتبط بسلوك معين يقوم به الشخص في موقف معين، بل هي سمت لهذا الشخص. ويجب أن تتجسّد الفضائل الإنسانية المُثلى في حياته ككل، ووفق هذا الإطار يعمل منهج الفضيلة. وحسب أفكار كونفوشيوس؛ فإن أخلاق الفضيلة تُعلّم بالقدوة، وعملية التدريب والتعليم الأخلاقي هي أمر جاد وملزَم [2].

ثلاثة أطر لأخلاقيات العمل

تتطلب عملية اتخاذ قرارات أخلاقية جيّدة حساسية مدرّبة، وطريقة في موازنة الاعتبارات التي يجب أن تؤثر على اختيارنا لمسار العمل. حيث تشكّل عملية اتخاذ القرار بطريقة أخلاقية منتظمة “حدساً أخلاقياً”. هذا الحدس سيمكّننا من التقرير الأخلاقي التلقائي. ويشبه هذا الأمر العزف على البيانو و قيادة السيّارة. وبما أنه لا يوجد نظرية أخلاقية مثالية تصح في كافة السياقات، فمن الضروري التفكير وفق ثلاثة أطر:

مصدر: https://www.brown.edu/academics/science-and-technology-studies/framework-making-ethical-decisions

والملاحظ أن الأسئلة الأخلاقية في كل إطار غير متعارضة، إلا أنه يمكن استخدام كل إطار بهدف تحقيق بعض التقدم في تقديم إجابات لأنفسنا وللآخرين. ففي كثير من الحالات، قد تؤدي الأطر الثلاثة إلى استنتاجات متشابهة حول ما يجب فعله. إلا أن الأطر المختلفة قد تعطي أسباب مختلفة للوصول إلى هذه الاستنتاجات.
ومن الخطوات التي تمر بها عملية التقرير هي [1]:

  • تحديد الجوانب الأخلاقية للمسألة المطروحة.
  • الأخذ بالاعتبار جميع مصالح الأطراف المعنية.
  • جمع كل المعلومات ذات الصلة.
  • صياغة الإجراءات والنظر في البدائل عن طريق الأسئلة التالية:
    • نفعي أوّلي: ما الإجراء الذي سينتج أكثر فائدة وأقل ضرراً؟
    • واجبي حقوقي: ما الإجراء الذي يحترم حقوق كل من له مصلحة؟
    • واجبي تحرّي العدالة: ما الإجراء الذي يعامل الناس على قدم المساواة؟
    • نفعي ثانوي: ما الإجراء الذي يخدم المجتمع ككل، لا بعض الأعضاء فقط؟
    • فضائلي: ما الإجراء الذي يقودني إلى التصرف كنوع الشخص الذي يجب أن أكونه؟
  • بعد صياغة الإجراءات يتم اتخاذ القرار.
  • معاينة النتائج وتقييمها والتفكّر فيما إذا كان من الممكن تغيير شيء ما لتحسين النتيجة.

الأخلاقيات الشخصية في مقابل الأدوار في العمل

ترتكز مرجعياتنا الأخلاقية على أحد المناهج الأخلاقية السابقة (منهج النفعية والصالح العام، أو منهج الواجب، أو منهج الفضيلة). إلا أننا قد نشهد تعارضاً بين أدوارنا في العمل وبين ما تمليه عليه أخلاقياتنا الشخصية. فكل مهنة تلعب دوراً في المجتمع وتتطلب ممارسات متخصصة للوصول إلى الأهداف المهنية. لكن في الوقت ذاته، قد نكون أمام مواقف مثيرة للجدل، وإليكم مثالاً عن هذه المواقف [3].

توصيف الحالة: لدى منظّمة خيريّة هدف الحصول على طعام لمنطقة تعاني من مجاعة، وتعيّن عليها اختيار أشخاص لتلبية أدوار مختلفة في توصيل الطعام. من هؤلاء المختارين موظّف لديه شاحنات لنقل الطعام من المخزن إلى الأشخاص المحتاجين. ويتّضح أن هذا الشخص منخرط في أنواع غير قانونية من الأنشطة مثل الابتزاز. وله سوابق في استخدام المال الذي يوفّره له صاحب المصلحة (المنظمة في حالتنا هذه)، وذلك في أغراض غير قانونية. وهذه الممارسات تتسبب في حصول تهديدات وأضرار فعلية لأشخاص آخرين. غير أن ثمة حاجة لهذه الشاحنات ولا توجد وسيلة نقل أخرى متاحة.

التعارض الأخلاقي: إعطاء الأعمال إلى مجرم هو دعم غير مباشر للأنشطة الإجرامية.
كيفية الحل: يمكن للموظف حل المأزق عن طريق استراتيجية لوبان المؤلفة من أربع خطوات [4]:

  1. أن يكون الفرد قادراً على تبرير المؤسسة الاجتماعية ذات الصلة بناء على الصالح الأخلاقي الذي تقوم به.
  2. تبرير دوره المهني بناءاً على هيكل المؤسسة.
  3. تبرير الالتزام بدور خاص -والذي يعتبر قيد البحث- من خلال توضيح أن السلوك المطلوب ضروري لذلك الدور.
  4. تبرير الفعل الذي يتطلّبه الدور من خلال توضيح أن الالتزامات بالدور تتطلّب هذا الفعل.

وإذ كان هناك ترابطاً في الإجابات؛ يكون من الواجب القيام بالفعل، وإن تعارض مع الأخلاقيات الشخصية. وهذه الخطوات عبارة عن إطار إرشادي فقط يوفر مساءلة نقدية لدورنا المهني. وعليه؛ قد يجد الموظّف المسؤول عن التعاقد مع موظف الشاحنات؛ أنه لا ينبغي أداء المتطلّب المهني هذا.

مثلاً: إذا توفّرت شاحنات أخرى لكن الحصول عليها يستلزم جهد إضافي، فلا يوجد حينها خطأ في اتباع الخطوتين 1و 3. لكن الخطوة 4 ستكون غير ممكنة حيث التزامات الدور تفترض هذه المهمة. وهنا نجد أن التعارض بين الأخلاقيات المهنية والشخصية تعارض وهمي.

مغالطات أخلاقية

تؤدي اللامبالاة بعملية اتخاذ القرار، أو عدم توافر الوعي الأخلاقي عند من يقوم باتخاذ القرار إلى مجموعة من المغالطات، نذكر منها [2]:

  1. هذا ضروري إذن هو أخلاقي: حيث ليس كل ما هو ضروري هو أخلاقي.
  2. فخ الضرورة الزائف: قد نبالغ في تقدير تكلفة القيام بالشيء الصحيح، ونصوّب تفكيرنا تجاه تنفيذ الأمر بأي وسيلة ممكنة. وعلينا أن نستحضر هنا أن الضرورة تفسير وليست حقيقة.
  3. إذا كان الأمر قانونياً وجائزاً، إذن هو مناسب: ليس كل ما هو قانوني أخلاقي بالضرورة. حيث أن ما هو متاح فعله حسب اللوائح القانونية، لا يعفينا من مهمة أن تكون لنا أخلاق شخصية.
  4. إنها مجرد جزء من الوظيفة: كون الفعل جزء من الوظيفة لا يعني أن الفعل أخلاقي بالضرورة أو يصح في كافة السياقات. فالأشخاص الواعون يشعرون أنهم مبررون للقيام بأشياء في العمل يعرفون أنها خاطئة في سياقات أخرى.
  5. كنت أفعل ذلك من أجلك فقط: هذا التبرير يضع قيمتي الصدق والاحترام مقابل قيمة الاهتمام. كما يبالغ في تقدير رغبة الآخرين في الحماية من الحقيقة، وهو التبرير الأساسي للكذبة البيضاء.
  6. الجميع يفعل ذلك: لا يمكن أن نأمن لأرقام الجموع التي تفعل أمر ما للتدليل على صحّته أخلاقيًا. وتنطوي هذه المغالطة على خلط بين السلوكيات، والعادات الثقافية، والتنظيمية، والمهنية والمعايير الأخلاقية.
  7. حان الوقت: حيث يشعر من هو مرهق أو يتقاضى راتب منخفض أن الوقت حان لبعض الامتيازات البسيطة. ويعتبرها تعويض عادل لقاء خدماته المقدّمة. ومنها قبول الإكراميات، واساءة استخدام الإجازة المرضية، والاستخدام الشخصي للوازم المكتبية، إلخ.
  8. أنا فقط أحارب النار بالنار: وهذا افتراض خاطئ. يُبنى على أساس ردة الفعل، فلا أخلاقية الشخص الآخر معي يعني أن سلوكي غير الأخلاقي معه مبرر بدوره. وهذا الأمر يعرّض نزاهتك للخطر.

في الوقت الذي نلعن به الظلام، لابد أن نشعل شمعة. وكما تعج أعمالنا اليومية بمواقف تتطلّب منا اتخاذ قرارات صائبة، من المفيد أن نشعل الشموع عوضاً عن تحطيم ما تبّقى منها. ومن المهم التفكير بإنسانية ومسؤولية حول مواقفنا وأفعالنا، وآثار هذه الأفعال ليس فقط على الآخرين، بل على أنفسنا أيضاًَ كأثر رجعي. لعلّ هذا التفكير يكون معدياً ويمكّننا من العيش السعيد.

المصادر

[1] Brown University
[2] UC SanDiego
[3] UNODC
[4] .Lawyers and Justice: An Ethical Study, Luban David

لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

هذه المقالة هي الجزء 14 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟ هل تسائلت يومًا ما الذي يجمعنا كلنا كبشر؟ جميعنا نختبر نفس المشاعر ونستخدم نفس أدوات التواصل وندرك العالم من حولنا بنفس الطريقة. لكن هل تسائلت يومًا ما الذي يميز بيننا كبشر؟ ما الذي يجعلني في هذه اللحظة تحديدًا سعيدة بينما أنت حزين وآخر لا يشعر شيئًا؟ كيف نفسر هذه الفروقات الفردية؟ والأهم من ذلك كيف نفسر الفروقات الجماعية؟ ما الذي يجعل طائفة من البشر أكثر انفتاحًا أو ذكاءًا أو تطرفًا من غيرها؟ هذا ما سنناقشه في مقال اليوم.

عاملي الاختلاف بين البشر

يمكننا حصر جميع الاختلافات بين البشر في كل أنحاء العالم في عاملين، وهما: الشخصية والذكاء. شخصيتك ومعدل ذكائك هما ما يحددا موقفك من العالم وموقف العالم منك. بمعنى أن الطريقة التي يراك بها الآخرون وكذلك الطريقة التي ترى بها الآخرين تندرج تحت بند الشخصية، وهي سماتك المحددة والثابتة -إلى حد ما- التي تحملها معك طوال الوقت.

أما معدل الذكاء فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بأدائك التعليمي والمهني وحتى الاجتماعي والاقتصادي. وهو أمر نختلف فيه جميعًا كأفراد وجماعات.

والآن بما أننا بتنا نعرف ما الذي نختلف فيه، كيف يمكننا تفسير هذه الاختلافات؟

طبيعي أم مكتسب؟

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

تقتضي العادة عند إجابة أي سؤال يبحث في أصل الظواهر الانسانية تحديد أي جوانب هذه الظاهرة طبيعي/وراثي/جيني وأيها مكتسب/بيئي/تربوي؟

لم يحد العلماء عن هذا المنهج عند تفسيرهم الاختلافات الشخصية واختلافات معدل الذكاء بين البشر، وحصروا أسباب الاختلاف في نقطتين:

  • الجينات/ الوراثة

يجب توضيح نقطة هامة عند الحديث عن الجينات، وهي الفارق بين دور الجينات في تفسير الاختلافات بين البشر وتفسير صفاتهم، بمعنى أننا سنتحدث عن الاختلافات الناتجة من اختلاف الجينات، وليس دور كل جين في تكوين صفة محددة. ويشبه ذلك طرح السؤال: ما هو دور الجينات في اختلاف أطوال البشر؟ وهنا يمكننا قول أن الاختلافات الجينية تجعل طولي مختلفًا عنك وعن قاريء آخر. لكن عندما نقول: ما هو دور الجينات في تحديد طولك؟ هنا نتحدث عن دور الجينات في تكوين صفة محددة.

  • البيئة/ التجربة

ينبغى الفصل بين نوعين من البيئة عند الحديث عن الاختلافات بين البشر، وهما: البيئة المشتركة والبيئة غير المشتركة.

تعني البيئة المشتركة الاختلافات الناتجة عن الظواهر والأحداث التي يتعرض لها/ يتشاركها أفراد العائلة الواحدة.

مثال: تعيش أنت واخوتك في بيت واحد مع أب غير سوي، ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (تشاركك أنت واخوتك نفس ظروف المعيشة جزء من البيئة المشتركة)

أما البيئة غير المشتركة فتشمل كل ما هو ليس وراثيًا، وليس بيئة مشتركة.

مثال: لقد انزلقت ووقعت على رأسك حينما كنت صغيرًا ونتيجة لذلك فأنت مصاب بداء القلق. (هذا ليس بالضرورة ما حدث لاخوتك وهذه هي البيئة غير المشتركة)

السؤال هنا الآن: حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

حل مبتكر!

حينما يأتي الأمر إلى الشخصية والذكاء، كيف نفصل بين ما هو وراثي وما هو بيئي؟

والإجابة واقعيًا: يصعب علينا كثيرًا الفصل بين ما هو جيني وغير جيني.

على سبيل المثال: أنا مختلفة عنك، والسبب أنني لا أتشارك معك نفس الجينات، كما أنني ولدت لوالدين مختلفين ونشأت في بيئة مختلفة. ولا نستطيع الفصل أيهما سبب اختلافي عنك.

شكل هذا السؤال عائقًا أمام العلماء، وتوجب عليهم التفكير في حلول مبتكرة للإجابة عنه، أحد هذه الحلول هو استغلال الحقائق الخاصة بالجينات ووضع بعض الفرضيات بناءًا عليها ثم اختبارها. هذه الحقائق هي:

  • التوائم أحادية الزيجوت تتشارك 100% من الجينات.
  • الأخوة العاديين وكذلك التوائم ثنائية الزيجوت تتشارك 50% من الجينات.
  • الأطفال المتبنون واخوتهم يتشاركون 0% من الجينات.

وتتشارك الحالات الثلاثة 100% من البيئة المشتركة، بمعنى أنهم ينشأون في بيت واحد. وجاءت الفرضيات كالتالي:

  • عند ظهور تشابه أكبر في الشخصية ومعدل الذكاء بين التوائم أحادية الزيجوت أكثر من الثنائية، يدلنا على دور أكبر للجينات.
  • عندما يتساوى معدل التشابه بين التوائم أحادية وثنائية الزيجوت، يدلنا أن دور الجينات ليس مهمًا كثيرًا ( لأن 50% الإضافية من التشابه الجيني لم تحدث فرقًا)
  • عند ظهور تشابه بين الأطفال المتبنين واخوانهم، يدل ذلك على أهمية البيئة المشتركة.

لكن المعيار الذهبي الذي وضعه العلماء لاختبار دور الجينات والبيئة في تحديد الاختلافات في الشخصية والذكاء هو: التوائم المتماثلة مختلفة النشأة. يتشارك هؤلاء الأشخاص 100% من جيناتهم و0% من البيئة المشتركة.

دور الجينات والبيئة في تفسير الاختلاف

توصل العلماء باستخدام هذه الفرضيات واختبارها إلى اكتشافين مذهلين في علم الجينات السلوكي.

أولًا: تتمتع أغلب الصفات الشخصية بدرجة عالية من التوريثية.

تأثير الجينات قوي على كل الصفات، ابتداءًا بمعدل الذكاء والشخصية وانتهاءًا بمدى سعادتك أو تدينك أو حتى ميولك السياسية. أقر العلماء هذا الأمر بناءًا على عدد من الاكتشافات المثيرة للاهتمام، أولها ما ذكرناه عن التوائم المتماثلة مختلفة النشأة.

وجد العلماء أن التوائم المتماثلة الذين لم ينشأوا معًا في نفس البيت متشابهين في كثير من الصفات، فوجدوا لديهم نفس الآراء تجاه عقوبة الإعدام والدين والموسيقى الحديثة. كما وجدوا تشابهًا سلوكيًا مثل: معدلات انخراط هؤلاء الأشخاص في الجريمة، أو لعب القمار، أو حتى الطلاق.

وهنا يمكننا القول أن للجينات دور كبير في الاختلافات الفردية بين البشر، لكن ماذا الاختلافات بين المجموعات البشرية، ما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

دعونا نبدأ الإجابة بالإشارة إلى دراسات تثبت وجود اختلافات في معدل الذكاء بين المجموعات العرقية المختلفة. كذلك دراسات تثبت وجود فروق جينية بين هذه المجموعات، فنجد أحدها أكثر عرضة للإصابة بمرض ما مثلًا أكثر من غيرها. والسؤال هنا هل يمكننا بناءًا على هذه الدراسات استنتاج أن الفروق بين الجماعات ذات أصل جيني؟

الإجابة لا. أثبت العلم أن الاختلافات الجينية (بين الأفراد) لا تلعب دورًا في تشكيل الاختلافات بين الجماعات. ولفهم ذلك بشكل أوضح تأمل هذا المثال: ستزرع قطعتين من الأرض بنفس بذور القمح، أحد الحقلين ستعتني به وتخصبه بسماد جيد، والآخر ستهمله. ستجد أن جودة نمو البذور في كلا الحقلين يرتبط بجيناتها (هذه بذرة ذات صفات جيدة فستنمو سواء اهتممت بها أم لا وتلك سيئة لن تنمو بنفس الجودة) لكن الاختلاف بين الحقلين بشكل عام ليس جيني على الإطلاق، وإنما بيئي يرتبط بمدى اهتمامك بكل منهما.

وهذا هو ما اكتشفه العلماء، فوجدوا أن الاختلافات بين المجموعات البشرية تعزى إلى البيئة وليس الجينات، لأن انتمائك لأحد هذه الجماعات قرار اجتماعي لا سلوك جيني. وهاك بعض الأدلة على ذلك:

أدلة على الأصل البيئي للاختلافات بين المجموعات البشرية

  • ترتبط الاختلافات في معدلات الذكاء بشكل أكبر بالمجموعات المصنفة اجتماعيًا (تتشابه في السلوك والآراء وطريقة العيش) وليس المجموعات المصنفة جينيًا (تتشابه في الحمض النووي).
  • يؤكد العلم امكانية تغير معدلات الذكاء بشكل جذري دون أي تغير جيني. (تأثير فلين)

ثانيًا: تلعب البيئة غير المشتركة دورًا أهم مما نعتقد، فيمكننا عزو كل اختلاف غير جيني إليها!

وجد العلماء أن الارتباط بين معدلات الذكاء لأشخاص بالغين غير مرتبطين جينيًا نشأوا في بيئة مشتركة هو صفر. بمعنى أن التشابه بين الطفل المتبني واخوته (المختلفين جينيًا ويتشاركون نفس البيئة) لا يختلف عن التشابه بينه وبين أي طفل من خارج الأسرة.

تطبيقات هذا الاكتشاف تحديدًا مثيرة للجدل لأنها تقدم رؤية جديدة لعلاقة الآباء والأبناء، فمن المتفق عليه أن أي فعل يقوم به الآباء يؤثر على أبنائهم لهذا يبذل الآباء مجهودًا مضاعفًا ليكونوا قدوة حسنة. لكن ربما ليست هذه الحقيقة كاملة.

يتشابه الآباء والأبناء إلى حد كبير، لا ينكر أحد هذه الحقيقة، وربما تتشارك أغلب صفاتك التي تتمتع بها الآن مع والديك. لكن سبب ذلك ليس بالضرورة تأثير آبائك عليك، بل يقدم لنا العلم تفسيرات جديدة:

  • سبب تشابهك أنت ووالديك هو تشارككم نفس الجينات، فأنت تحمل 50% من جيناتهم وبالتالي ترث منهم بعض الصفات
  • ربما الأمر معكوس، الأبناء هم أصحاب التأثير على آبائهم وليس العكس.

هذا التفسير صادم بالفعل ومثير للجدل، لأنه يهدم اعتقادات نفسية راسخة (أنا شخص سعيد لأن والداي أحسنوا تربيتي أو أنا شخص تعس لأن والداي أهملوني). والاستنتاج الذي يقدمه لنا هذا التفسير أنه لا فرق! لن يختلف الأمر كثيرًا إذا نشأت في بيئة صحية أو غير صحية، لأن تأثير البيئة المشتركة في خلق الاختلافات بين البشر ضئيل مقارنة بالبيئة غير المشتركة.

لماذا يختلف البشر وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك ؟

وبهذا نصل إلى نهاية الحديث، بعد أن طرحنا أغلب الإجابات والتفسيرات الممكنة لسؤال الاختلافات بين البشر -أفرادًا كانوا أو جماعات- واستعرضنا تفاصيل كل من الجينات والبيئة والدور الذي تلعباه في تكوين هذه الاختلافات. كذلك الجدل والصدام الناتج عن بعض اكتشافات علم الجينات السلوكي، التي لا يسعك -مهما كان موقفك منها- إلا الانبهار بها وبالعلم وتطوره!

اقرأ أيضًا: الشخصية والذكاء أصل اختلافنا نحن البشر!

المصادر

yalecourses

Exit mobile version