الشخصية والذكاء: أصل اختلافنا نحن البشر

هذه المقالة هي الجزء 13 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

الشخصية والذكاء: أصل اختلافنا نحن البشر اهتم العلماء كثيرًا بسؤال الأمور المشتركة بين البشر، والبحث في أصلها سواء كانت أمور غريزية أم مكتسبة. مثل: اللغة والمشاعر والإدراك والنمو. جميعها مفاهيم هامة وحيوية وتمسنا جميعًا. لكن السؤال الذي لا يقل أهمية سنطرحه اليوم وهو: ما الذي يختلف فيه البشر؟ وكيف نميز هذه الاختلافات؟

الاختلاف الأول: الشخصية

الشخصية والذكاء: أصل اختلافنا نحن البشر

يمكننا تقليص جميع الاختلافات بين البشر وحصرها في عاملين مهمين: وهما الشخصية والذكاء. وسنتعرض في هذا المقال إلى وصف كل عامل منهم وتفسيره.

أولًا الشخصية

الشخصية والذكاء: أصل اختلافنا نحن البشر

يمكن تعريف الشخصية أنها الأسلوب الذي تتبعه في التعامل مع العالم، تحديدًا الأشخاص الآخرين. فكر في صديقك المقرب وحاول أن تصف شخصيته: ربما تقول أنه كسول وغير مسئول وطيب القلب. بينما تفكر في صديق آخر وتراه مجتهد ومسئول وصادق. هذه هي شخصيتهم التي تراها وفقًا لأسلوب تعاملهم مع العالم من حولهم بمن فيهم أنت.

تعريف آخر للشخصية أنها صفة ثابتة تحملها معك طوال الوقت، وهي مختلفة عن رد الفعل.

إذا جاء أحدهم وصفعك الآن فجأة، ستشعر بغضب شديد، وهذا هو رد الفعل. لكن إذا كنت تستيقظ وتنام وتمارس حياتك غاضبًا فهذه هي الشخصية.

وبما أن حديثنا اليوم عن الاختلافات، كيف يمكننا -بشكل علمي- قياس الاختلافات بين شخصيات البشر؟

اختبارات الشخصية

قبل الإجابة عن هذا السؤال سنتعرف أولًا على اثنين من الصفات التي يجب أن يتمتع بها أي اختبار علمي. وهما:

  • «الدقة-Reliability»

بمعنى عدم وجود خطأ في القياس، وعند تكرار نفس الاختبار مع نفس الشخص في أوقات مختلفة يتوجب الحصول على نفس النتائج.

مثال: إذا أظهر اختبار الشخصية أنك متفتح وهاديء اليوم، ثم أظهر أنك مندفع وقلق غدًا، فهو بالتأكيد لا يتمتع بخاصية الدقة.

  • «الصدق-validity»

بمعنى أن الاختبار يقيس ما وُضع لقياسه.

مثال: إذا افترضنا وجود اختبار يقيس نسبة ذكائك من يوم ميلادك، فيُظهر أن مواليد شهر يناير حمقى وديسمبر أذكياء وهكذا. هذا الاختبار ليس صادقًا على الإطلاق، لأنه لا توجد علاقة بين نسبة الذكاء ويوم الميلاد. على صعيد آخر نجد أن هذا الاختبار مثالًا رائعًا للدقة، لأنه سيظهر نفس النتائج إذا أخذته اليوم أو غدًا أو حتى يوم موتك.

«اختبار رورشاخ-Rorschach test»

اختبار رورشاخ أو اختبار بقعة الحبر مثال واقعي ومشهور لاختبارت الشخصية. وضعه هيرمان رورشاخ، الذي كرس حياته حرفيًا لبقعة الحبر لدرجة أنه صار لقبه في مراهقته.

ويقوم الاختبار على عرض صورة لبقعة حبر على الشخص وسماع انطباعه عنها ثم تكوين رؤية عن شخصيته.

اختبار بقعة الحبر (حقوق الصورة: wikipedia)

اختبار بقعة الحبر مشهور للغاية، ويستخدمه كثير من علماء النفس أو الأطباء النفسيين في عياداتهم. لكن يمكننا القول أنه عديم الفائدة، ولا يُعول على نتائجه. فهل هناك بديل أفضل؟

تاريخ اختبارات الشخصية

بحث العلماء في الشخصية وحاولوا إيجاد طرق مبتكرة لقياسها وتحديد الاختلافات بينها. أول هذه الطرق وضعها عالم النفس الأمريكي «جوردون ألبورت-Gordon Allport».

بحث ألبورت في القاموس عن جميع الكلمات التي اعتقد أنها تصف الشخصية، وتوصل إلى ما يقرب من خمسة آلاف منها. لكن المشكلة أن هذه الصفات لم تكن قائمة بذاتها، بمعني أن صفات مثل: ودود، واجتماعي، ولطيف تبدو متشابهة للغاية. وهنا جاء دور كاتل.

حاول «كاتل-Cattell» مع آخرين تقليل عدد هذه الصفات عن طريق طرح السؤال: كيف تختلف شخصيات البشر عن بعضها؟ وما المعايير التي يمكن وضعها لقياس ذلك؟ وتوصل إلى ست عشرة صفة تختص كل منها بنمط معين من أنماط الشخصية.

لاحقًا توصل «آيزنك-Eysenck» إلى معيارين فقط يمكن من خلالهما تحديد الشخصية. الأول: انطوائي-اجتماعي الثاني: عصبي-مستقر وبناءًا على هذين المعيارين يوجد أربع أنماط للشخصية.

وأخيرًا استقر العلماء على صيغة أكثر صحة مما سبقها، فلا تتحدد الشخصية بمعيارين فقط أو ستة عشرة واحدًا. وإنما خمسة معايير تُعرف باسم «العوامل الخمس الكبرى للشخصية-The five big personality factors»

العوامل الخمس الكبرى

انطلاقًا من جهود العلماء السابقين توصل العلم إلى نظرية العوامل الخمس الكبرى، التي تشير أنه يمكننا وصف شخصياتنا وشخصيات من حولنا بآلاف الصفات. وستقع هذه الشخصية مهما كانت صفاتها في نطاق العوامل الخمس الكبرى دائمًا. وهذه العوامل الخمس هي:

  • الاستقرار-العصبية

بمعنى هل أنت شخص هاديء ومتزن، أم قلق ومتشائم؟

  • الاجتماعية-الانطوائية

بمعنى هل أنت شخص منفتح ومحب للمرح، أم متحفظ وتفضل العزلة؟

  • القبول-عدم القبول

بمعنى هل أنت شخص مهذب ومتعاون، أم مرتاب وغير متعاون؟

  • الانفتاح- عدم الانفتاح

بمعنى هل أنت شخص منفتح للتجارب الجديدة، أم عملي تفضل الروتين؟

  • الحذر-التهور

بمعنى هل أنت شخص منظم وحذر، أم مهمل ومندفع؟

وهكذا استطاع العلماء قياس الاختلافات بين شخصيات البشر باستخدام هذه العوامل الخمس، والمشوق أن هذه النظرية تستخدم أسلوب «المدى-Spectrum» كما بالصورة

مدى العوامل الخمس الكبرى للشخصية (حقوق الصورة: المنفى)

على عكس أساليب القياس الأخرى مزدوجة الاختيار. بمعنى أنه يمكنك أن تجد نفسك شخصًا منفتحًا فقط أو غير منفتح فقط أو نقطة ما بينهما.

والسؤال هنا الآن، أين تقع هذه النظرية من خاصيتي الدقة والصدق؟ وما الأدلة عليها؟

ما الأدلة عليها؟

  1. تتميز هذه النظرية على عكس اختبارات الشخصية الأخرى بخاصية الدقة، فإذا اختبرت الصفات الخمس الآن ثم أعدت نفس الاختبار بعد خمس سنوات، فلن تجد تغيرًا كبيرًا. خاصة بعد سن الثلاثين، حيث تستقر هذه الصفات إلى حد كبير.
  2. تتميز هذه النظرية أيضًا بخاصية الصدق، لأنها تقيس ما وُضعت لقياسه. فنجد موقفك من الصفات الخمس يتنبأ بسلوكك في العالم الحقيقي. فيقيس الانفتاح مثلًا احتمالية تغييرك لوظيفتك، بينما يقيس القبول مدى نجاح علاقاتك.
  3. تتفق نتائج هذه النظرية مع انطباع الآخرين عنك. فإذا سألت والدتك ورفيقك في العمل واستاذك في الجامعة عن انطباعهم عنك، ستتداخل إجاباتهم إلى حد كبير، وستتفق مع موقفك من الصفات الخمس.

الاختلاف الثاني: الذكاء

الذكاء هو العامل الثاني الذي يحدد الاختلافات بين البشر، لكنه -على عكس الشخصية- يصعب تعريفه. لأنه ليس محدود بصفات معينة يمكن اختبارها.

عندما استقطبت أحد الدراسات ألف خبير وسألتهم عن تعريفهم للذكاء، اشتركت إجابات معظهم في بعض النقاط مثل: القدرة على حل المشكلات، والتعلم، والتفكير المجرد. وجاءت بعض الإجابات الأخرى مثل: الذاكرة، وسرعة البديهة، والإبداع، واللغات.

لذا نستنتج من هنا أن تعريف الذكاء أمر يصعب الاتفاق عليه. فما هو الأمر الذي نتفق عليه عند حديثنا عن الذكاء؟ الأمر الذي نتفق عليه أن تصنيفنا للذكاء أمر بديهي، بمعنى أنك تملك حسًا داخليًا عنه. فتعرف أن آينشتاين مثلًا شديد الذكاء، وأستاذك في الجامعة ذكي أيضًا، بينما “بسيط نجم” (شخصية من عرض سبونج بوب) ربما ليس الأنبغ!

سبيرمان وأنواع الذكاء

والآن سنناقش أنواع الذكاء تبعًا لاثنين من المفاهيم الهامة. هذان المفهومان يرتبطان بـ «نظرية الذكاء ثنائية العامل-Two factors theory of intelligence» لعالم النفس «تشارلز سبيرمان-Charles Spearman» أشار سبيرمان إلى نوعين من الذكاء عند البشر:

  • النوع S: أي الذكاء الخاص، الذي يتحدد بنتائجك المختلفة في كل اختبار ذكاء منفرد مثل: اختبار القراءة، والحساب، والقدرة المكانية.
  • النوع G: أي الذكاء العام، الذي يتحدد بنتائجك في هذه الاختبارات جميعها بشكل عام.

وما توصل إليه سبيرمان هو نوع من الارتباط بين نوعي الذكاء، فلا ينفصل النوع G عن النوع S وإنما يؤثر بشكل كبير عليه. فبينما تمدنا الاختبارات المنفردة بنتائج مختصة بمهارة ما تحديدًا، إلا أنها تدلنا أيضًا على نوع من الأداء المشترك/ الذكاء العام بينهم جميعًا.

ولفهم ذلك بشكل أوضح سنشبه الأمر بامتلاكك صالة رياضية، هناك عدد من الاختبارات التي يقوم بها المشاركون، أحدها لاختبار سرعة الجري، أو السباحة، أو التسلق، ثم آخر لتقدير الأداء بشكل عام. عند مراجعة نتائج المشاركين ستجد أن هؤلاء الذين يحرزون نتائج مرتفعة في كل اختبار منفصل يأتي تقديرهم العام مرتفعًا أيضًا، والعكس صحيح. لذا يمكننا القول أن نتائج هذه الاختبارات مهما كانت منفصلة إلا أنه هناك نوع من الأداء المشترك بينها. فلا ينفصل الذكاء العام عن الذكاء الخاص مطلقًا!

أهمية اختبارات الذكاء

لاختبارات الذكاء أهمية كبرى في حياتنا اليومية، فتتأثر الحالة الاجتماعية للأشخاص في المجتمع، ومدى نجاحهم وثرائهم بمعدل ذكائهم الذين يحصلون عليه من اختبارات الذكاء

هكذا أشار هيرنستين وموراي في كتابهم «منحنى الجرس-The Bell Curve».

كتاب منحنى الجرس لهيرنستين وموراي (حقوق الصورة: wikipedia)

ويمكنك أن تتخيل الجدل الذي أثاره هذا التصريح في المجتمع العلمي، فظهرت على إثره عدد من الأبحاث المشوقة. قامت جمعية علم النفس الأمركية بواحد من هذه الأبحاث، حيث طلبت من خمسين من كبار الباحثين كتابة تقرير عن معدل الذكاء، هل يؤمنون بأهمية اختبارات الذكاء؟ وهل ترتبط نتائجها بالذكاء الفعلي؟

جاءت النتائج باتفاق واسع على أهمية معدل الذكاء، وأشاروا أن معدل الذكاء -أكثر من أي صفة بشرية أخرى قابلة للقياس- مرتبط بالعديد من الانجازات التعليمية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية.

  • في بعض الحالات يكون الارتباط قويًا جدًا مثل: النجاح في الدراسة.
  • أو معتدلًا مثل: الكفاءة الاجتماعية.
  • أو طفيفًا مثل: احترام القوانين.

إذًا نستنتج من هنا أن معدل الذكاء مهم، خاصة في مواضع التحصيل الاجتماعي والوظيفي، لكن تظل هناك بعض الشكوك!

لدى بعض العلماء تخوفًا أن يكون تأثير معدل الذكاء مثل نبوءة ذاتية التحقق، حيث أدت نظرة المجتمع الجدية لاختبارات الذكاء في المقام الأول إلى زيادة أهميته.

لذا نعم، يتأثر نجاحك بمعدل ذكائك لأن نجاحك/التحاقك بجامعة مرموقة يعتمد على نتيجتك في اختبارات القبول (SAT) وهي شكل من أشكال اختبارات الذكاء.

لفهم ذلك بشكل أوضح تخيل معي أننا نعيش في عالم يشترط ألا يقل طولك عن 170 سم لكي تلتحق بالجامعة، هنا يؤثر الطول على نجاحك، وبمرور الوقت لن نتعجب ربط أحد العلماء بين الطول والإنجاز العلمي!

الشخصية والذكاء: أصل اختلافنا نحن البشر

والآن بعد أن تعرفنا على جهود العلماء في فهم الفروقات بين المجموعات البشرية، ومحاولة إيجاد الطرق المبتكرة والموثوقة لقياسها ومن ثم المقارنة بينها. بداية من اختبار رورشاخ لفهم الشخصية وانتهاءًا باختبار معدل الذكاء الاعتيادي الذي نراه دائمًا. يتبقى لنا أن نعرف أسباب هذه الاختلافات، ما أصلها؟ جيني موروث أم بيئي مكتسب أم خليط بين الاثنين؟ هذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم.

اقرأ أيضًا: ما الابتسامة؟ وما فوائدها؟ وهل تصف دائمًا السعادة؟

المصادر

  1. verywellmind
  2. verywellmind
  3. simplypsychology

ما هو اضطراب طيف التوحد ؟

يعد «اضطراب طيف التوحد -Autism spectrum disorder» من الاضطرابات العصبية التطورية. وتتميز تلك الاضطرابات بمجال واسع من أعراض واعتلالات تظهر في سن مبكرة من مرحلة الطفولة وتستمر مدى الحياة. ومن بينها صعوبات في التعلم والتواصل الاجتماعي وغلبة الأنماط الحركية والكلامية المتكررة إضافة إلى السلوك العدواني في بعض الحالات.

تبعًا لمنظمة الصحة العالمية فإن اضطراب طيف التوحد في مرحلة نمو مستمر بمعدل انتشار عالمي وصل إلى مريض واحد من كل 160 طفل مع شيوع أكبر بأربع إلى خمس مرات لدى الذكور منه لدى الإناث.

تأثير اضطراب طيف التوحد على الدماغ

تمت دراسة التغيرات البنيوية والوظيفية الطارئة على بنية الدماغ لدى مرضى التوحد وذلك باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي (MRI) التي تعد من أكثر التقنيات المستخدمة في هذا المجال.

أظهرت التحاليل أنّ لدى الأطفال ما بين السنتين والخمس سنوات تطورًا غير طبيعي في تلافيف الفصين الجبهي والصدغي (الجانبي) للدماغ وكميةً أقل من المادتين الرمادية والبيضاء وحجمًا أقل للجسم اللوزي، وذلك بالمقارنة مع الأطفال السليمين من هذا الاضطراب. وفي مقارنة أخرى باستخدام الرنين المغناطيسي ثلاثي الأبعاد (3D MRI) لوحظ ازدياد في حجمي المخ والجسم اللوزي لدى الأطفال المصابين من عمر الثلاثة إلى أربع سنوات مقارنة بالأطفال السليمين من نفس العمر. (1)

تشخيص اضطراب التوحد

شهد العقد الماضي تقدمًا ملحوظًا في مجال تشخيص الاضطراب من حيث تطوير الفحوصات الكاشفة والأدوات اللازمة لها، كما تعمّق فهم العلماء في التباين الكبير للأعراض والأنماط السلوكية بين المرضى.

يتصف تشخيص مرض التوحد بالصعوبة ذلك لأنّ الطفل قد يقوم بسلوكيات معينة ناتجة عن عوامل غير مرتبطة بالاضطراب،مثل العمر والإدراك المعرفي المرتبط بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها الطفل.

في أعمار معينة قد ترتبط بعض الخصائص المعروفة في التوحد باضطرابات مختلفة لذلك يتطلب إجراء التشخيص فحوص دقيقة ومنتقاة بعناية يقوم بها أخصائيين على مستوى عالي من الاحترافية وينبغي لهذه الفحوص أن تؤمن معلومات دقيقة حول مقدرات الطفل وأدائه الوظيفي العام في كل من المجالات اللغوية والمجالات غير لغوية وبالتالي توفير نقطة انطلاق حاسمة للطبيب لتحقيق أفضل النتائج الممكنة. من المهم جدًا الفصل بين تقييمات المهارات اللغوية والمهارات غير اللغوية فالعديد من الأطفال المصابين بالتوحد قد يظهرون مهارات حركية غير متوقعة إذا ما نظرنا إلى أنماطهم اللغوية المتكررة وطريقة لعبهم بالمقارنة مع أقرانهم غير المصابين.(2)

العوامل المسببة للاضطراب

لايوجد في الوقت الرهن تفسير شامل لاضطراب طيف التوحد إلا أن الدراسات الحالية ترجع الاضطراب لأسباب بيئية ووراثية، وفي دراسة مؤخرة أجريت على مرضى يابانيين اكتشف العلماء طفرتين في موقعين مختلفين من جين(DAB1) المسؤول عن إنتاج بروتين داخل خلوي يلعب دورًا أساسيًا في عمليات التموضع العصبي الصحيح والتشكل الطبقي الخلوي أثناء تطور الدماغ بالإضافة إلى دوره في وظائف التشابك العصبي والتعلم والذاكرة في دماغ البالغ.

لا يمكن اعتماد نتائج هذه الدراسة كتفسير نهائي للاضطراب. فلا بدّ من زيادة حجم العينة المدروسة لتحقيق تقييم أكثر شمولية للجين (DAB1) والجينات المتعلقة به. (3)

علاج اضطراب التوحد

للأسف لا يوجد حتى الآن أي علاج فعال وجذري لاضطراب طيف التوحد. فالطرق العلاجية الحالية والتدخلات الطبية المدروسة كلها تسعى إلى تخفيف الأعراض المعيقة وتطوير القدرات الإدراكية والمهارات الحياتية اليومية للطفل المصاب. فاكتساب مهارات اجتماعية تساعده في الاندماج والمشاركة الفاعلة في مجتمعه المحيط.

يؤثر اضطراب طيف التوحد على شخصية كل مصاب بشكل قد يختلف كثيرًا عن المصابين الآخرين فيكون لكل طفل قدراته و مشكلاته الخاصة في السلوك والتواصل والإدراك، وهذا ما يتطلب خططًا علاجية تشترك بها عائلة المريض مع الطبيب المعالج لتلبية الاحتياجات الخاصة للطفل المصاب لتحقيق أفضل نتائج ممكنة. تركز الخطط العلاجية بشكل أساسي على العلاج النفسي والسلوكي، وقد يلجأ الطبيب إلى العلاج الدوائي للتخفيف من أعراض القلق والاكتئاب ورفع مستويات الطاقة والقدرة على التركيز. بالنسبة للأطفال الأكبر عمرًا والبالغين فهناك جهود تبذَل لتطوير خطط علاجية مناسبة لهم، ذلك لأنّ الخطط الحالية وللأسف لاتحقق نتائج فعالة بالنسبة لهذه الفئة من المصابين.(4)

في الآونة الأخيرة تزايد الوعي الشعبي حول هذا الاضطراب وعواقبه، وبات المجتمع العربي أكثر تقبلًا لشريحة المصابين به، وتزايد عدد الجمعيات والجهات المعنية بحماية حقوقهم ومساعدتهم في الاعتماد على أنفسهم ليصبحوا أعضاء فاعلين ومؤثرين في مجتمعاتهم.

المصادر

1_ nature
2_ ncbi
3_ nature
4_ cdc



ما هو الإرهاق وما هي أسبابه؟ وطرق التعامل معه؟

صديق لي يعمل في مكان ما، بدأ مؤخرًا يشعر بفقدان الطاقة ومعنى ما يفعله، ودائمًا ما يشعر بالإرهاق ذهنيًا أو جسديًا، أصبح قليل الصبر، منفعلًا لأبسط الأشياء، أصبحت أبسط المهمات في عمله شديدة التعقيد لديه، في البداية ظننت أنه يعاني من ضغط العمل فقط، مثلما نتعرض جميعًا للضغوطات الحياتية بصورة مستمرة! ولكن خلال بحث بسيط، اكتشفت بإن هذه الأعراض التي ربما تكون إعتيادية لنا جميعًا، لها مصطلح أخر يسمى (الإرهاق – Burn out). إذًا ما هو الإرهاق وما هي أسبابه؟ وكيف نتعامل معه؟ هذا ما سنجيب عنه في هذا المقال.

ما هو الإرهاق؟

عام 1974 وضع (هربرت فرودنبيرجر-Herbert Freudenberger) مصطلح جديد يسمى (الإرهاق- Burn out). خلال عام 2019 صنفت منظمة الصحة العالمية (WHO) الإرهاق على أنه حالة مرضية، كما أنها ضمت الحالة ضمن كُتيبها، والذي يضم التصنيفات العالمية للحالات المرضية، والذي يستخدمه مقدمي الخدمات الطبية في تشخيص الأمراض. وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن الإرهاق هو متلازمة تنتج من الضغط مستمر في بيئة العمل، والذي لم يتم إدارته بنجاح. (3) وهناك بعض الأعراض التي ربما تساهم في التعرف عليه مثل: الشعور بالاستنزاف سواء جسديًا أو نفسيًا، الابتعاد الذهني عن العمل ومهماته الشعور بالسلبية تجاه العمل، إنخفاض الكفاءة المهنية.(3)

ما الفرق بين الإرهاق والضغط؟

رسميًا يعتبر الإرهاق أزمة مزمنة في بيئة العمل، وحاليًا تأخذ الشركات تلك الأزمة بجدية أكبر. كما أن طبيعة الإرهاق مختلفة تمامًا عن ضغط العمل عادي، فهو لا ينتهي عندما تأخذ عطلة طويلة، أو حتى عندما تقلل من إيقاع أو ساعات العمل. عندما تكون واقعًا تحت ضغط ما، فإنك تكافح للتعامل مع تلك الضغوط، أما في حالة الإرهاق، فإنك تكون حرفيًا فاقدًا للطاقة، وتشعر باليأس من التعامل مع تلك الضغوطات.

أظهرت الدراسات الاستقصائية أن 60٪ من حالات التغيب عن العمل، تكون بسبب الضغط الجسدي والنفسي المصاحب الإرهاق. خلال دراسة استقصائية في عام 2018 قال 40٪ من ضمن 2000 موظف، أنه فكر في الاستقالة بسبب الإرهاق. قدر الخبراء بأن الإرهاق يكلف الشركات الأمريكية من 150-350 مليار دولار سنويًا. وبالطبع نتائج تلك الدراسات مخيفة لكل رب عمل. ويقول الباحث (كريستيان دورمان -Christian Dormann)والذي قام بدراسة في جامعة (يوهانس جونيرج- Johannes Gutenberg) ” إن أهم أعراض الإرهاق، الشعور بالإجهاد الكلي للحد الذي لا يمكن تصحيحه بأخذ عطلة، أو حتى قضاء أمسية هادئة”. الذين يتعرضون الإرهاق يحاولون حماية أنفسهم عبر بناء مسافة نفسية بينهم وبين عملهم وزملائهم في العمل. (1)

هل الضغط هو الدافع وراء الإرهاق؟

ولأن الفكر السائد هو أن ضغط العمل هو الدافع وراء الإرهاق، قام فريق من جامعة (ماينز- Mainz) بإجراء 48 دراسة على ضغط العمل والإرهاق، ضمت هذه الدراسات 26,319 مشاركًا، وكان متوسط الأعمار حوالي 42 عام، وبنسبة 44٪ من الذكور. شملت الدراسة الفترة من 1986-2019، وفي بعض دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا وجنوب إفريقيا والصين وتايوان واستراليا. وأظهرت الدراسة الجديدة أن الضغط والإرهاق يعزز كل منهما الآخر، ولكن على العكس الإرهاق له تأثير أكبر على ضغط العمل وليس العكس. وهذا معناه أنه كلما شعر أحدهم بالإرهاق، كلما زادت عليه ضغوط العمل، وصعب عليه التعامل معها. لذا يقول الخبراء أن مثل هؤلاء الموظفين لا بد أن يتم تزويدهم بالدعم الكافي في الوقت المناسب، لكسر تلك الحلقة المفرغة من الضغط والإرهاق، كما أن الإرهاق يبدأ ويتطور تدريجيًا، ويتراكم مع مرور الوقت، وفي النهاية يؤدي إلى الشعور بأن العمل مرهق، وأن أبسط المهام تكون مرهقة للغاية. (1)

ما هي أسباب الإرهاق؟

هناك عدة أسباب، ولكن كما قلنا فإن المشكلة تنبع أكثر من بيئة العمل، ولكن أي شخص يشعر بعدم التقديرأوالضغط يمكن أن يصل لتلك الحالة، بداية من الموظف العادي وصولًا إلى ربة المنزل. لكن الإرهاق لا يكون فقط بسبب ضغط العمل أو تحمل مسئولياتٍ كثيرة، فهناك عوامل أخرى، مثل أسلوب حياتك وسماتك الشخصية، كما أن طريقتك في رؤية الحياة ربما تؤثر في الأمر برمته. ومن الأسباب المهنية: الشعور بعدم سيطرتك على عملك، عدم التقدير من قبل مرؤسيك على عملك الجيد، العمل في بيئة عالية الضغط أو غير منظمة. ومن الأسباب الشخصية: عدم أخذ الوقت الكافي للراحة، تحمل الكثير من المسئوليات بدون مساعدة من أحد، عدم وجود علاقات داعمة بجوارك، عدم أخذ كفايتك من النوم، الشعور بحتمية الكمال، وأن أي شيء تفعله غير كافي أو مثالي، نظرة متشائمة للعالم ولنفسك، الحاجة للشعور بالسيطرة. (2)

كيف أتعامل مع الإرهاق؟

إذا شعرت بأن أغلب الأعراض والأسباب تنطبق عليك، ربما يجب عليك أن تلتقط أنفاسك وتركز في تلك الحلول، والتي ربما تساعدك قليلًا في التخفيف عنك خلال تلك المرحلة. أول شيء، أن تُقر بوجود المشكلة، و تطلب الدعم وتحاول إيجاد طرق لإدارة هذا الضغط، وأخيرًا أن تكون مرنًا، لتسترجع صحتك النفسية والجسدية، وإليك هذه النصائح البسيطة. (2)

تواصل مع الآخرين

عند شعورك بالإرهاق، فإن قدرتك على الرغبة في التواصل مع الأخرين تقل وتصبح أثقل، ولكن التواصل طبيعة بشرية، ووجود أشخاص حولك يستمعون لك، هو حل إيجابي ومساعد كثيرًا، ليس بالضرورة أن يكون عندهم حلول لكل مشكلة، ولكن الاستماع الفعال والمتفهم، يشعرك بالراحة ويقلل من حجم توترك. (2) تواصلك مع المقربين منك سواء عائلتك أو أصدقائك، ربما يشعرك بإن الحديث عما يؤرقك معهم سيجعلك عبء عليهم، ولكن هذا ليس حقيقيًا، فمحاولتك تلك ستكون نقطة إيجابية أخرى، فمن خلالها سيشعرون أنك تثق بهم، وبالتالي ستقوي من علاقتك بهم.

كون علاقات جيدة في بيئة العمل

حاول أن تكون علاقاتك جيدة مع زملائك في العمل، بحيث تقلل من ضغط بيئة العمل، كذلك حاول أن تبتعد عن الأشخاص السلبيين، حتى لا يتفاقم وضعك وتشعر بالضغط أكثر. إعادة ترتيب أولوياتك في الحياة، أمر لا بد منه من حين لأخر، ومحاولة اكتشاف أشياء وأهداف جديدة في حياتك، أمر منعش ومحفز.

تعود أن تقول: “لا”!

ضع بعض الحدود، لا تحاول أن ترهق نفسك بالمهمات التي لا تريدها، تعود أن تقول لا، وأعلم أنها وسيلة تتيح لك الوقت لتفعل ما تريد حقًا.

قلل من التكنولوجيا

بالطبع التعامل مع التكنولوجيا في تلك الفترة ستزيد من سوء الوضع، حيث أن التكنولوجيا من إحدى أسباب الضغط في الحياة اليومية، حاول أن تنقطع عنها خلال وقت بسيط من اليوم، لتحافظ على حالتك الذهنية.

عليك بالرياضة والحركة

مارس الرياضة، لأنها تخفف من التوتر وتحسن من حالتك الجسدية والنفسية على حد سواء، حاول أن تجرب ألعاب رياضية جديدة وأن تستمتع خلال هذا الوقت.

نم لوقتٍ كافٍ

النوم بعمق يُريح الجسد والعقل، لذا حاول أن تعمل على هذا الجانب، حتى تحصل على يوم جيد، إذا كنت تعاني من إضطرابات النوم، يمكنك استشارة طبيب.

حسن عاداتك الغذائية

أخيرًا تناول الطعام الصحي مثل الفاكهة والخضروات وغيرها من الأطعمة، التي تحسن من الحالة الذهنية والجسدية، وابتعد عن تناول السكريات والكربوهيدرات بكثرة.

كل تلك النصائح البسيطة مع الاستمرار اليومي، ستحقق غايتها. بالطبع الأمر مرهق تمامًا، وربما تبدو تلك النصائح غير فعالة أو ليست حل جذري، ولكن العادات البسيطة، وأسلوب الحياة الصحي، يغير من نظرتك للحياة ولنفسك، لذا ربما يجب عليك أن تحدد من جديد أولوياتك في الحياة، وأن تدرك تمامًا أن طلب المساعدة الطبية متاح، طالما شعرت أنت بحاجتك لذلك.

اقرأ أيضًا: ما الابتسامة؟ وما فوائدها؟ وهل تصف دائمًا السعادة؟

المصادر

  1. The Surprising Difference Between Stress and Burnout. (2020). https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-right-mindset/202011/the-surprising-difference-between-stress-and-burnout
  2. Burnout Prevention and Treatment – HelpGuide.org. (2020). https://www.helpguide.org/articles/stress/burnout-prevention-and-recovery.htm
  3. Burn-out an “occupational phenomenon”: International Classification of Diseases. (2020). https://www.who.int/news/item/28-05-2019-burn-out-an-occupational-phenomenon-international-classification-of-diseases

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

هذه المقالة هي الجزء 12 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

يقول أحد العلماء أن الابتسامة هي الوسط الأمثل للغموض. نحن نبتسم ونرى الابتسامات طوال الوقت حينما نكون سعداء، أو نتعامل مع الناس، أو نلتقط الصور. لكن هل يُمكن أن تخفي هذه البادرة الإنسانية البسيطة مزيدًا من التعقيد؟ دعونا نسكتشف ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

ما الابتسامة؟

هناك عدد من الحقائق حول الابتسامة يتفق عليها العلماء وهي:

  • الابتسامة لغة عالمية مشتركة بين جميع البشر.

طرح داروين هذا السؤال وليتوصل إلى إجابته، عرض مجموعة من إحدى عشر صورة على ضيوفه وسألهم عن انطباعهم عنها. واتفقت إجاباتهم أن الصور تعبر عن السعادة والحزن والمفاجأة والخوف مع بعض المشاعر الأخرى، ومن هنا استنتج داروين أن هذه المشاعر عالمية يتعرف عليها جميع البشر.

  • الابتسامة فعل غريزي

هناك عدد من الدراسات تثبت أن الأطفال يبتسمون وعمرهم عدة أيام فقط، بل وتثبت دراسات أخرى أنهم يبتسمون داخل الرحم. بالطبع لم يتلق هؤلاء الأطفال أي تعليم للابتسامة مما يدل أنها فعل غريزي.

  • تستخدم الابتسامة كإشارات اجتماعية.

لا يبتسم البشر حينما يكونوا سعداء فقط، وإنما حينما يريدون نقل الشعور بالسعادة. أجريت أحد التجارب في صالات البولينج، حيث تم تصوير اللاعبين أثناء رمي الكرة وبعد إصابتهم جميع القطع. وجد العلماء أن هؤلاء الأشخاص لا يبتسمون عند نجاحهم في ذلك، وإنما تظهر الابتسامة حينما يلتفتون إلى أصدقائهم لينقلوا لهم الخبر السار.

  • لا تقتصر الابتسامة على البشر فقط، وإنما تظهر الرئيسيات أنواعًا من الابتسامات أيضًا.

هل تعبر الابتسامة دومًا عن السعادة؟

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا والذي يبحث فيه عدد من العلماء، على رأسهم «ماريان لافرانس-marianne lafrance» التي تعد خبيرة العالم الأولى في الابتسامة. يظهر البشر أنواعًا مختلفة من الابتسامات، وليس من الضروري أن تعبر جميعها عن السعادة.

قام أحد الطلاب في جامعة مينيسوتا عام 1924 بتجربة غريبة، جمع عددًا من الطلاب والأساتذة وعلماء النفس وأجلسهم في كراسي مريحة في غرفة واحدة وعرضهم لعدد من المؤثرات الغريية والخطيرة. بداية من وضع ألعابًا نارية تحت كراسيهم، وخداعهم بصعقهم كهربائيًا، وانتهاءًا بجلب فأر أبيض وسؤالهم قطع رأسه. تم تصوير وجوه المشاركين خلال جميع خطوات التجربة، وأمدتنا هذه الصور -رغم بشاعة التجربة وعدم أخلاقيتها- بنتائج مثيرة.

جاءت النتائج أن المشاركين لم يظهروا تعابير مثل الخوف أو الغضب بل أظهروا تعبير مشترك وهو الابتسامة!

فسر العلماء ذلك لاحقًا أن الابتسامة لا تعبر بالضرورة عن السعادة، وإنما يحتمل أن تعبر عن مشاعر مناقضة تمامًا، وفيما يلي سنتعرض للأنواع المختلفة للابتسامة.

أنواع الابتسامة

«ابتسامة دوشين-Duchenne smile»

سميت بهذا الاسم نسبة لعالم الأعصاب الفرنسي دوشين دي بولون الذي اكتشفها. اهتم دوشين بتعابير الوجوه، وكذلك بصعق الأشخاص كهربيًا، فكان يسرع إلى رؤوس الثوار الذين تم قطع رأسهم حديثًا ليصعقهم ويختبر ردود أفعالهم. حتى حالفه الحظ ووجد مريضًا مصابًا بانعدام الحس في وجهه وأجرى عليه جميع تجاربه.

اكتشف دوشين أكثر من 60 تعبيرًا للوجه، من بينهم الابتسامة. التي تتضمن رفع الخدين ووجود خطوط -تعرف باسم قدم الغراب- حول العينين. وتعد الابتسامة صادقة تعبر عن السعادة عندما يتوفر بها هذان المكونين.

ابتسامة الخوف

وتظهر الأدلة على وجود هذه الابتسامة في الرئيسيات. فيشير العلماء إلى إظهار حيوانات الشمبانزي نوعًا من الابتسامة حيث تفتح فمها وتضم أسنانها وتظهر لثتها. وتستخدم هذه الابتسامة عند وقت التوتر أو الخوف، لإظهار الخضوع للأفراد الأكثر هيمنة وقوة.

وبالرغم من أن الشعور بالخوف والابتسام لا يجتمعان عادة عند البشر، إلا أنه ثبت وجودهما عند الاطفال الصغار، الذين يظهرون ابتسامة حقيقية/دوشين عند رؤية أمهاتهم، وابتسامة الخوف أو التوتر عند اقتراب غريب.

فسر داروين هذه التصرفات بأنها يجب أن تخدم وظيفة تطورية ما، فكما فسر رفع البشر حاجبهم وقت الدهشة لزيادة مدى نظرهم وبالتالي سهولة الهروب من الخطر. فسر ابتسامة الشمبانزي أنها تظهر أسنانها مضمومة معًا لتعطي الإيحاء أنها مسالمة لا تنوي للخطر.

ابتسامة بان آم أو الابتسامة الزائفة

تختلف هذه الابتسامة عن ابتسامة دوشين في فقدانها لعنصر حركة العينين. وسُميت باسم «Panam- بان آم» نسبة إلى شركة الطيران الشهيرة، ونوع الابتسامة التي تظهرها مضيفات الطيران. فهي نوع من الابتسامة المهذبة التي تظهر وقت التحية ولا تعكس بالضرورة شعورًا بالسعادة.

ووجد العلماء أن حوالي 71% من الأشخاص يمكنهم التحكم في حركة العين بشكل إرادي، وبالتالي إظهار ابتسامة زائفة على أنها ابتسامة حقيقية.

ابتسامة الازدراء

وهي نوع آخر من الابتسامة التي لا تعكس بالضرورة شعورًا بالسعادة، رغم أنها تشبه إلى حد كبير ابتسامة دوشين. الفرق بينهما هو زم جانبي الفم في حالة ابتسامة الازدراء.

تعكس هذه الابتسامة مزيجًا من شعور الازدراء والاحتقار، وتظهر بشكل واضح في مجتمعات شرق آسيا التي تحرص على استمرار التناغم المجتمعي وعدم خوض صراعات. فنجد أن الأفراد هناك لا يظهرون غضبهم، وإنما يخفونه تحت ستار ابتسامة الازدراء.

ابتسامة الخجل

تظهر هذه الابتسامة في المواقف عالية التوتر التي تتضمن مخاطرة، وتريد عندها ترك انطباع إيجابي. تشبه هذه الابتسامة ابتسامة دوشين إلا أنها تتضمن حركة الرأس إلى الأسفل والجانب مع تجنب التواصل بالعينين.

فوائد الابتسامة

الابتسام فعل رائع، يجعلنا نشعر بشعور جيد حيال أنفسنا وحيال الآخرين أحيانًا. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، يكاد يكون للابتسامة قوى خارقة لا ندرى عنها شيئًا. فما هي؟

  • يحسن الابتسام المزاج العام ويرفع من شعورك بالسعادة.

يشير أحد علماء النفس أن الابتسام يشبه إقامة حفل رفع معنويات لعقلك، فيزيد من معدل إفراز الدوبامين والسيروتونين والإندورفين. فيعمل الإندورفين كمسكن طبيعي للألم.

  • يزيد الابتسام من شعورك بالسعادة أكثر مما تفعل الشوكولاتة.

يشير عالم النفس الشهير رون جوتمان أن ابتسامة واحدة يمكنها أن تولد إثارة مخية بكمية تعادل تلك التي تولد عند أكل ألفي لوح شوكولاتة.

  • يتوقع الابتسام مدى نجاح علاقاتك على المدى الطويل.

قام جوتمان بتحليل العلاقات بين الأزواج، وتوقع ما إذا كان سيدوم زواجهم أم لا عن طريق أنواع الابتسامات التي يظهرونها لبعضهم.

  • يحسن الابتسام مظهرك أمام الآخرين.

عندما تبتسم، يزداد تقدير الآخرين لك، بمعنى أنهم يرونك مهذبًا ولطيفًا وأكثر كفاءة. ومن البديهي فهم كيف يجعلك الابتسام مهذبًا ومحببًا. لكن كيف يجعلك كفؤًا؟ تكمن الإجابة أن البشر يميلون إلى تفسير الحزن أو القلق أنه نقص خبرة أو كفاءة. لذا ربما الابتسام هو طريقك للنجاح في عملك!

  • تتنبأ ابتسامتك الآن بمدى سعادتك في المستقبل.

درست أحد التجارب العلاقة بين صور الطلاب في المرحلة الثانوية في فترة الخمسينات وشكل ابتسامتهم، وبين مدى سعادتهم في الوقت الحالي. وجد العلماء أن الطلاب الذين ابتسموا في صورهم أكثر سعادة وقدرة على تخطى العقبات من الطلاب الذين لم يبتسموا.

كذلك أظهرت الدراسات بعض الأدلة عن وجود علاقة بين الابتسامة وأعمار الأشخاص. الأشخاص ذوي الابتسامات في شبابهم يعيشون عمرًا أطول من هؤلاء قليلي الابتسام.

  • يجعلك الابتسام أكثر جمالًا.

أجريت أحد الدراسات على طلبة جامعيين طُلب منهم تقدير أعمار الأشخاص في الصور، وجاءت النتائج أنهم يتوقعون أن المبتسمين في الصور أصغر سنًا مما هم عليه في الواقع. كذلك ينطبق الأمر على الوزن، فيجعلك الحزن تبدو أكثر وزنًا وأكبر سنًا.

علم نفس الابتسامة: ما فوائد الابتسامة وأنواعها ودلالاتها؟

والآن بعد أن تعرفنا على واحدة من الأمور المشتركة التي تجمعنا كبشر وغير بشر معًا وهي الابتسامة، كذلك تعرفنا على أنواعها ودلالاتها المختلفة، وقواها الخارقة التي تعينك في كثير من جوانب حياتك. فلا تنس أن تبتسم، الابتسامة حقًا قد تنير لك الطريق!

اقرأ أيضًا: نظرة في تطور المشاعر

المصادر

Natgeo
BBC
psychologytoday

لماذا يصعب علينا الانقطاع عن قراءة “هاري بوتر”؟

لماذا يصعب علينا الانقطاع عن قراءة “هاري بوتر”؟

لقد مررنا جميعًا بشعور الانغماس الكامل عند قراءة قصة خيالية رائعة. غالبًا ما يوصف الشعور بأنه “ضياع في كتاب”، فهو شائع وقوي جدًا، ومع ذلك لم يُدرس العلم الكامن وراءه حتى الآن إلا قليلاً.

لذلك قرر فريق بحثي من جامعة برلين الحرة في ألمانيا دراسة هذا الأمر من خلال مشاهدة ما يحدث داخل أدمغة القراء عندما ينغمسون في قراءة بعض قصص هاري بوتر الرائعة.

قرر الفريق، بقيادة عالم النفس تشون تينغ هسو (Chun-Ting Hsu)، اختبار صحة ما يشيرون إليه على أنه «’فرضية الشعور بالخيال’-‘fiction feeling hypothesis’».

تنص هذه الفرضية على أن الروايات ذات المحتوى العاطفي تدفع القراء إلى الشعور بالتعاطف مع أبطال الرواية – وهو شعور يتم تنشيطه بواسطة شبكة عصبية خاصة تقع في الجزء الأمامي ومناطق القشرة الحزامية الوسطى في الدماغ. وبالطبع، من خلال تعزيز مشاعر التعاطف في الدماغ، ستكون الروايات المشحونة عاطفياً دائمًا أكثر غامرة من القصص ذات المحتوى الأكثر حيادية أو حبكة.

لاختبار هذه الفرضية، جمع الفريق مجموعتين من المشاركين وأعطاهم عدة مقاطع من سلسلة هاري بوتر، من تأليف الكاتبة ج.ك.رولينج، لقراءتها.

طُلب من المجموعة الأولى قراءة مقاطعهم داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، مما سمح للباحثين بالتقاط صور لنشاط أدمغتهم أثناء قراءتهم. طُلب من المجموعة الثانية قراءة نفس المقاطع دون أن يتم مسحها ضوئيًا، ولكن بعد ذلك كان عليهم تقييم كل مقطع بناءًا على مدى شعورهم بالانغمار في القراءة.

وفقًا لإريك جافي من شركة فاست كومباني، كان طول كل مقطع أربعة أسطر، وتراوحت بين إثارة التشويق والخوف (مثل عندما يرى هاري ساحرًا هجين يُدعى كورينيوس كويريل يشرب دم وحيد القرن في هاري بوتر وحجر الفيلسوف)، إلى السيناريوهات المحايدة عاطفيًا (مثل عندما يراقب هاري بومته جالسًا هناك دون فعل أي شئ قبل النوم في هاري بوتر ومقدسات الموت).

وكما كان متوقعًا، تلقت المقاطع المخيفة تقيمًا أعلى بكثير من ناحية الانغمار في القراءة من المقاطع المحايدة. هذا بالطبع ليس مفاجئًا، لكن المثير للاهتمام هو ما كان يحدث في أدمغة المشاركين.

كانت المقاطع المثيرة للخوف في الواقع تدفع مسارات عصبية مختلفة في منطقة «التلفيف الحزامي الأوسط-middle cingulate gyrus» في الدماغ إلى العمل، مما لم تنتج عنه المقاطع الخالية من المشاعر والمحايدة.

يُعتبر التلفيف الحزامي الأوسط جزءًا من «شبكة التعاطف-empathy network» في الدماغ، وترتبط بشكل خاص بالتعاطف مع الألم. نشر الفريق النتائج في مجلة Neuro Report.

إذن تقدم النتائج دليلًا يشير إلى أن دماغ القارئ يتصرف بشكل مختلف وفقًا لمدى عاطفية النص الموجود أمامه. لكن الانغماس في قراءة مقطع من أربعة أسطر يعد تجربة مختلفة اختلافًا جوهريًا عن الانغماس في قراءة كتاب لساعات.

لذا فإن هذه الدراسة بالتأكيد ليست نظرة علم الأعصاب النهائية لـ «رواية القصص-storytelling». إنه لأمر رائع أن يبدأ العلماء أخيرًا في الانتباه إلى الأنشطة الدماغية التي تمكننا من فصل الكتب الجيدة عن الكتب العظيمة.

المصدر: ScienceAlert, PubMed, Fast Company

اقرأ أيضًا: كيف تختار كتاباً جديداً مناسب لك؟

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

العلاج النفسي الوجودي والبحث عن جذور مشاكلنا

لم تعد تكتفي ذات الإنسان الفرد بمواجهة مجتمعها وقضاياه، فهي صارت ذات عالمية. كما أن العالم لم يعد مجرد مجموعة من الدول والثقافات المغلقة على نفسها، فهو عالم واحد في مشكلاته بالنسبة لكل فرد منا. شهد العالم حربين عالميتين حصدتا أرواح ملايين البشر، غير أن من لم يشهدوا المعارك لم يفكروا في تلك الحربين، والكثيرين منهم لم يسمعوا بهما حتى. لكن الآن، تغريدة واحدة قادرة على هز كيان ملايين البشر، كل صغيرة وكبيرة في العالم باتت تخصنا حيثما كنا. هذا وفضلا عن الأزمات الاقتصادية ومشاكل التفاوت الطبقي وخطابات الكراهية وبروز قيم جديدة تناقض موروثنا الثقافي والأخلاقي. في عالم كهذا، غالبا ما نشعر باللا جدوى من محاولاتنا في تغيير يومنا للأفضل، نواجه صعوبة في تغطية مصاريفنا اليومية، نشعر بأن اللا معنى يكتسح العالم. نستطيع القول بأننا نعاني من مشاكل وجودية بحتة؛ لذا، فإن العلاج الوجودي قد يستطيع مساعدتنا في إضفاء معنى لحياتنا وتفعيل إمكاناتنا لمواجهة المعاناة المستمرة.

العلاج النفسي الوجودي:

حسب فيلسوف القرن العشرين باول تيليش، يواجه العلاج النفسي الوجودي هواجس الحياة المطلقة المتمثلة بالوحدة والمعاناة وانعدام المعنى ضمن قالب من العدل والصدق والتي يمكن تشخيصها في كل فرد منا وذلك لكونها متجذرة في تجاربنا الشخصية(1). فهذا النوع من العلاج لا يبحث في ماضي الفرد والتاريخ المرضي في العائلة. وبدلًا من إلقاء اللوم على أحداث من الماضي فالعلاج الوجودي يرى فيه بصيرة لتصبح أداة لتعزيز الحرية والإصرار(2). وأغلب الأساليب المستخدمة في العلاج الوجودي تركز على المسؤولية وحرية الاختيار وذلك لأن الكينونة التي تعاني من المشاكل اختيرت لأن تكون ذلك، بمعنى أن الفرد قد اختار هذه المعاناة أو الطريقة المؤدية إليها، لذا، فالمعالج النفسي كما يقول إرفين يالوم هو رفيق درب المريض، يساعده من خلال التعاطف والدعم لاستنباط البصيرة وتحديد الاختيارات وتهيئة أفق مناسب لملاقاة الذات.
يعتمد العلاج الوجودي على بعض الأفكار الرئيسة الكامنة وراء الوجودية كفلسفة، وهي:

  • نحن مسؤولون عن اختياراتنا الشخصية.
  • الاختيارات التي نتخذها تجعلنا أفرادًا مميزين، ونحن نعيد تشكيل أنفسنا باستمرار من خلال تلك الخيارات.
  • نحن من نصنع لنا معنى في الحياة.
  • القلق خاصية طبيعية في حياة الإنسان.
  • يجب أن نتصالح مع القلق لنعيش بشكل أصيل(3).

رواد العلاج الوجودي:

كان أوتو رانك من بين المعالجين الوجوديين الأوائل الذين سعوا بنشاط نحو هذا التخصص، وبحلول منتصف القرن العشرين رفع كل من باول تيليش ورولو ماي وإرفين يالوم أفق النظرية الوجودية في العلاج النفسي من خلال كتابات تأسيسية لها، كما أثرت الوجودية في المدارس والنظريات الأخرى مثل العلاج المنطقي الذي طوره فيكتور فرانكل وعلم النفس الإنساني، وهناك جمعية باسم التحليل الوجودي تأسست في عام 1998، وتم إنشاء المجتمع الدولي للمستشارين الوجوديين في عام 2006(4).

الفرضيات الوجودية المتعلقة بالشخص:

التعامل مع المريض أو العميل تحدده الاعتبارات التي نعطيها له وذلك من أجل بناء ثقة قوية والتي هي أساس كل علاج نفسي. لذا فالعلاج الوجودي ينطلق من تصورات أو فرضيات أساسية لنبني عليها علاقتنا مع المريض، والتي هي:
1- كل الكائنات الحية تتمركز حول ذاتها وتسعى جاهدة للمحافظة على التمحور أو التمركز، وهذه هي المشكلة التي يقع فيها المريض أثناء المعالجة.
2- الكائنات البشرية لديها النزعة وإمكانية مشاركة الآخرين والخروج من دائرة التمحور الذاتي.
3- المرض أو الاضطراب طريقة يسعى الفرد من خلالها إلى الحفاظ على كينونته.
4- الكائنات البشرية يمكن أن تشترك في مستوى معين من الوعي الذاتي الذي يتيح لها تجاوز الوضع الآني أو الموقف الفوري والنظر إلى مجالات أرحب تسمح بكم هائل من الاحتمالات(5).

مراحل الوعي الذاتي:

كل فرد منا يمر في مراحل مختلفة، ولكل منها مشاكلها وتحدياتها وخصائصها الحيوية والمعرفية، السابقة تؤثر في اللاحقة، وهكذا فإن شخصيتنا في مرحلة الشباب غير مستقلة تمامًا عن التجارب التي عشناها في الطفولة والمراهقة. والوعي الذاتي من الأسس الرئيسة في علم النفس الوجودي، وهذا الوعي يمر بأربع مراحل:
1- البراءة والطهارة: تظهر قبل ولادة الوعي بالذات وهي تمثيل واقعي وخاصية للرضيع.
2- العصيان: تشمل هذه المرحلة الطفولة والمراهقة حيث يسعى الفرد إلى تكوين قوة داخلية تكفل له تأمين حقوقه الخاصة، ومن علامات هذه المرحلة العدوانية والانحراف.
3- الوعي الطبيعي بالذات: وهي المرحلة التي نعني عندما نتحدث عن الشخصية السوية، حيث ان الشخص قادر على التعليم والاستفادة من أخطائه والعيش كفرد مسؤول.
4- مرحلة الوعي الإبداعي: تتضمن القدرة على رؤية شيء ما خارج نطاق التصورات والقيود العادية وذلك باكتساب واكتشاف شيء خاطف ولماح من الحقيقة الموضوعية كما تظهر في الواقع(5).

القضايا الأربع في التشخيص:

عكس المدارس التقليدية ومنها التحليلية والسلوكية، لا يعول العلاج الوجودي على الجانب الحيوي للفرد أو البيئة التي تحيطه، فالفرد أكثر من مجرد كائن يخضع لشروط البيئة، كما يتعدى كيانه الحيوي؛ فهو في مواجهة مستمرة وحوار لا ينقطع مع الوجود في كليته. لذا فالمعالج النفسي الوجودي بدلًا من أن يعود إلى ماضي الفرد أو يحلل البيئة الثقافية والفيزيائية المحيطة به، يمضي قدمًا نحو المخاوف الكامنة في الإنسان والتي تحول بينه وبين حياة مستقرة. وهذه القضايا أو المخاوف التي تقف وراء الاضطرابات النفسية هي:

  • الحرية والمسؤولية.
  • الموت.
  • العزلة.
  • اللا معنى(6).

ما هي الاضطرابات التي يمكن معالجتها وجوديًا؟


طالما أن الناس عادة ما يقعون في إشكالية عدم التمييز بين المشكلة النفسية والاضطراب النفسي؛ يقتضي الأمر توضيح الفرق بينهما. فعندما نفقد شخصًا عزيزًا علينا مثلاً، نجد بأننا لا نرغب في الأكل، نواجه صعوبة في النوم أو ننام لساعات طويلة، نفقد شغفنا بممارسة النشاطات التي كنا نستمتع بها، لا نؤدي واجباتنا المدرسية أو المهنية بصورة جيدة، نعيش حالة حزن شديد وحتى الرغبة في الموت. ففي هذه الحالة لدينا مشكلة نفسية، وهي ستزول مع الوقت، ويمكننا أيضا حلها عن طريق تقنية حل المشكلات أو الدعم النفسي، وإذا ما أردنا أن نزور معالجًا نفسيًا فجلسات نفسية قليلة كافية لنستعيد حيويتنا وشغفنا.
لكن، حينما نجد فجأة بأن صحتنا النفسية بدأت تتدهور وتستمر معنا أعراض الاكتئاب: فقدان الشهية، فقدان أو زيادة الوزن، الأرق أو النوم لساعات كثيرة، الأفكار الانتحارية، الحزن الشديد والتشاؤم، نوبات من البكاء، صعوبة في التركيز، لأسابيع ودون وجود سبب واضح؛ فهذا يعني لدينا اضطراب نفسي (الاكتئاب) ويجب أن نزور معالجًا نفسيًا. ومعالجة الاضطراب تستغرق شهورًا من الجلسات النفسية. والعلاج النفسي الوجودي من بين الأساليب العلاجية الكثيرة التي يمكن أن يلجأ إلى استخدامها المعالج النفسي. والاضطرابات التي يمكن للعلاج الوجودي التعامل معها، هي كالتالي:

  • القلق.
  • اضطراب الشخصية الاعتمادية.
  • الاكتئاب.
  • «اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية – PTSD»
  • «اللامبالاة – Apathy»
  • الخجل.
  • الاستياء.
  • الغضب والعدوانية.
  • اليأس والشعور باللا معنى.
  • الذهان(6).

ملخص:

ليس العلاج النفسي الوجودي هو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه مع الاضطرابات المذكورة؛ مستوى تعليم المريض، عمره وطبيعة الاضطراب تحدد الاساليب والتقنيات التي يلجأ إليها المعالج النفسي، كما أنه يمكن استخدام أكثر من اسلوب وتقنية في الخطة العلاجية. غير أن هذا العلاج فعال مع الاضطرابات التي يكون سببها الشعور بلا معنى الحياة وعدم الجدوى من العيش مع الظروف والاستسلام لها، وبما أن السوداوية من الاعراض البارزة للكثير من الاضطرابات النفسية فالعلاج الوجودي بإمكانه مساعدة المريض في تصحيح تصوراته ومفاهيمه حول الحياة وعلاقاته مع الآخرين.

مصادر:


1- psychology today

2_ Counselling Directory
3_ positive psychology
4- good therapy
5- باربرا انجلر، مدخل إلى نظريات الشخصية، ترجمة فهد بن عبدالله، ص420-421.
6- healthline

لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟ نظرة في تطور المشاعر

هذه المقالة هي الجزء 11 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟ “ليتني أستطيع التحكم بمشاعري، ليتني أنحيها جانبًا واعتمد على عقلانيتي فقط في الحكم على الأمور”.هل سمعت هذا الكلام من قبل؟ ربما حدثك به صديق أو قلته لنفسك؟ يمكننا الجزم أن أغلبنا بالفعل سمع أو تحدث به. لكن هل التخلص من المشاعر نافع حقًا؟ لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟

لماذا نخاف ؟ لماذا نحب أطفالنا ؟ لماذا نكره الخيانة ؟

النظرية الخاطئة للمشاعر

لمعرفة الإجابة سأقص عليك أولًا قصة صغيرة:
في الرابع والعشرين من سبتمبر عام 1848، تعرض الشاب «فينياس جايدج-phineas gage» صاحب الخمسة وعشرين عامًا لحادث مروع. عمل جايدج رئيسًا للعمال في منجم، وأثناء تأديته عمله حدث انفجار مفاجئ، أُصيب جايدج على إثره بأنبوب طوله متر تقريبًا دخل من خده الأيسر ليخرج من مؤخرة رأسه “ملطخًا بقطع من مخه” كما أدلى الطبيب المُستدعى إلى مكان الحادث.

المدهش أن جايدج لم يمت بعد هذا الحادث، ولم يفقد حتى الوعي، بل ركب على ظهر دابة حتى وصل إلى المشفى، وهناك تولى الطبيب علاجه حتى استقرت حالته بعد مدة. لو انتهت القصة هنا لقلنا هذا مثال رائع لحسن حظ جايدج وخبرة الطبيب المعالج. لكن لسوء الحظ، لم يحدث هذا.

لاحظ الطبيب تغير سلوك جايدج ووصفه بالطفولي المتقلب. لم يستطع جايدج التحكم في رغباته، وأهمل عمله حتى خسره، وانتهى به الأمر بترك عائلته والالتحاق بسيرك متنقل مع الأنبوب الذي أصابه!
تقدم لنا هذه القصة مثالًا رائعًا عن الفكرة الخاطئة عن المشاعر. التخلص من المشاعر ليس أمرًا جيدًا، والفصل بين العقلانية والمشاعر ليس منطقيًا. فنجد جايدج فقد جزءًا من قدرته الشعورية بسبب الحادث، وترتب على ذلك تأثر نشاطه العقلي بشكل كبير.

حالة فريدة

لفهم ذلك بشكل أوضح، سأقص عليك قصة أخرى.
بطل هذه القصة مريض لعالم الأعصاب «أنطونيو داماسيو-Antonio damasio» يُدعى إليوت. عمل إليوت في شركة تجارية، كان موظفًا ممتازًا وزوجًا مسئولًا. إلى أن أتته بعض نوبات الصداع اكتشف بعدها إصابته بورم في المخ. تم استئصال هذا الورم مع جزء كبير من الفص الأمامي من المخ ومن هنا بدأت المشكلة.

لم تتأثر ذاكرة إليوت بعد العملية، أو إدراكه، أو حتى معدل ذكائه، لكنه فقد القدرة على اتخاذ قرارته. كان إليوت يقضي الظهيرة بأكملها محاولًا إيجاد طريقة لتصنيف ملفات عمله، هل يصنفها حسب التاريخ أو الحجم أو النوع؟ ونتيجة لتأثر أدائه فقد إليوت عمله، كذلك انتهى زواجه سريًعا ولم تتحسن حالته مجددًا.
فقد إليوت جزءًا من مشاعره، لم يستطع التواصل مع ما يجلب له السعادة أو الحزن أو الغضب أو الخوف. عندما عرض عليه طبيبه صورًا تنقل هذه المشاعر، قال إنه يتذكر هذه المشاعر لكنه فقط لم يعد يختبرها. وهو ما وصفه الطبيب “أن تعرف لكن لا تشعر”
نتيجة لهذا الخلل تأثرت قدرات إليوت على اتخاذ القرارات، وهذا مثال آخر على عدم التعارض بين العقلانية والمشاعر. فبدون المشاعر لن نتمكن من فعل أي شيء.
لذا عندما يشكو لك صديقك مشكلته المرة القادمة، صرت تعرف ماذا عليك إخباره!

السؤال الأهم: لماذا؟

والآن بعد أن تعرضنا للنظرة الخاطئة عن المشاعر، دعنا نسرد الرواية الصحيحة لها.
يقول الفيلسوف ويليام جيمس

هناك عدد من الأسئلة تخطر في ذهن عالم النفس فقط. مثل: لماذا نبتسم عندما نشعر بالسعادة؟ لماذا لا نتجهم؟ لماذا لا نستطيع التحدث إلى جمهور كبير كما نتحدث مع صديق؟ ولماذا تثير فتاة معينة مشاعرنا بالكامل؟

وهنا يثير جيمس نقطة هامة، أننا نتعامل مع المشاعر كأنها حقائق مطلقة عن العالم، تحدث لأنها تحدث ولا بديل لذلك. أما التفسير فيكمن في علم النفس التطوري.
يجبرنا علم النفس التطوري على رؤية الأحداث بشكل علمي، أن نبتعد عن كونها طبيعية وغريزية ونتحرك خطوة للوراء لنسأل السؤال الأهم: لماذا؟
لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ ولماذا نكره الخيانة؟
تلك هي التساؤلات الثلاثة الكبري التي سنتعرض لها ونفسرها في مقال اليوم. نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

لماذا نخاف؟

تنقسم المشاعر إلى مشاعر غير اجتماعية مثل الخوف ومشاعر اجتماعية مثل المشاعر تجاه الأقارب، وغير الأقارب.
الخوف شعور أساسي، وعالمي (يشعر به جميع البشر)، وله تعبير وجهي مميز يمكن لكل البشر التعرف عليه، كذلك تمتلكه معظم الفصائل غير البشرية. والسبب وراء تصنيف الخوف تحت بند المشاعر غير الاجتماعية هو أنك يمكنك أن تخاف شخصًا، كذلك يمكنك أن تخاف شيئًا مثل الأماكن المغلقة. وذلك على عكس المشاعر الاجتماعية التي تختص بالبشر فقط.
هناك مثيرات عالمية للخوف مثل: الثعابين والعناكب والعواصف والمرتفعات والظلام والمياه العميقة والحيوانات الضخمة. لكن ما الأمر المشترك بينهم جميعًا؟
الإجابة أن هذه المثيرات كانت مخيفة ومهددة للحياة في بيئة أجدادنا. فشكلت خطرًا على مدار التاريخ التطوري لنا، وانتقلت هذه المعلومات على مر الأجيال. لذا بالمقارنة بالسيارات والأسلحة ومفاتيح الكهرباء -رغم زيادة معدل خطرهم علينا في البيئة الحالية- نجد أننا لا نخافها مثل الثعابين مثلاً، لأنها اختراعات مستحدثة لم تؤثر في تاريخنا التطوري.
هناك دراسة تمت على أطفال نشأوا في ضواحي شيكاغو، سُئلوا عن أكبر مخاوفهم. وجاءت الثعابين والعناكب في المركز الأول، ليس القتل أو الأسلحة أو التعرض لحادث سيارة.
دراسة أخرى تمت على نوع من القردة، نشأت هذه القردة في المعمل فلم تتعرض لهذه المؤثرات قبلًا في الطبيعة. عُرضت عدة مقاطع لمجموعة من القردة ترى ثعبانًا فيظهر عليها الخوف وتبتعد عنه. ثم عُرضت قردة المعمل على ثعبان فأظهرت خوفًا كبيرًا. لكن هذا لم يثبت شيئًا، ربما خوف القردة من الثعابين فطري وريما اكتسبته من رؤية المقاطع، لذا قام العلماء بخطوة إضافية. نجحوا باستخدام تقنيات تعديل الصور والفيديو في عرض عدة مقاطع لقردة تخاف الزهور وتبتعد عنها. وعند تعريض قردة المعمل لنفس المؤثر. لم يظهروا أي خوف.
لذا توصل العلماء أن البشر والرئيسيات على حد سواء لديها النزعة للخوف من الثعابين أو العناكب، لأن تلك الكائنات شكلت خطرًا على أجدادنا، والأفراد الذين خافوها وتجنبوها استطاعوا النجاة والبقاء والتكاثر، وهذا هو الهدف التطوري الذي نسعى له جميعًا. نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

لماذا نحب أطفالنا؟

ذكرنا سابقًا أن المشاعر الاجتماعية تشمل مشاعرك تجاه اقاربك، وغير أقاربك. جميعنا نحب أبنائنا وأخوتنا وآبائنا، لكننا أسلفنا أن علم النفس التطوري يسأل دومًا السؤال: لماذا؟
لماذا تطور البشر ليصبحوا طيبين وعطوفين؟ ما تفسير هذا السلوك الإيثاري؟
يكمن السر هنا في التكاثر وليس البقاء، لا تساعد الطيبة والإيثار والعطف على بقاء الإنسان، فمن المحتمل أن يدفعك الحب إلى التضحية بروحك من أجل ابنك مثلاً. لكنها تساعد على التكاثر وتكرار الجينات، وهذا هو الهدف الأكبر.
تخيل معي اثنين من الحيوانات يحملان جينين مختلفين، أحدهما يجعل الحيوان يهتم بذريته والآخر يجعله يهتم بنفسه فقط. ماذا سيحدث في الجيل التالي؟
سيتفوق الحيوان الذي تطور ليهتم بذريته -من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي- على الحيوان الذي يهتم بنفسه فقط، لأن جيناته ستنتقل وتتكرر عبر الأجيال.
وتعرف هذه النظرية باسم نظرية «الجين الأناني-Selfish gene theory» لصاحبها العالم ريتشارد دوكينز. وتعد واحدة من أشهر النظريات وأكثرها جدلًا في علم بيولوجيا التطور التي شهدها القرن الماضي.

نظرية الجين الأناني

دعنا نتعمق قليلًا في نظرية دوكينز، ولفعل ذلك علينا تبني منظورًا مختلفًا. وهو منظور فيروس نزلة البرد. لماذا نعطس عندما نصاب بالبرد؟
أحد الإجابات أن الجسد يود التخلص من الجراثيم بداخله. لكنها ليست صحيحة تمامًا. تأتي الإجابة الأكثر تشويقًا عند التخلي عن المنظور الأناني (أنا مصاب بنزلة برد)، وتبني منظور فيروس نزلة البرد: تطورت الفيروسات عبر السنين مثل باقي الحيوانات، وجاء تطورها عن طريق البقاء والتكاثر. ووسيلة الفيروس للتكاثر هو جسمك، والتحكم به كي تعطس وتطرده خارجًا لينتشر ويتكاثر.
يستخدم الفيروس جسمك كأداة للتكاثر!
مثال آخر: أحد تأثيرات الأمراض المنتقلة جنسيًا مثل الزهري أنه يزيد الرغبة الجنسية ويدفع الناس إلى الانخراط في المزيد من العمليات الجنسية. هذه هي وسيلة الفيروس في الانتشار.
يوجد الجين الأناني أيضًا في الحيوانات. مثل طفيل «المقوسات-Toxoplasmosis» الذي يعيش في أجساد الفئران، ثم ينتقل إلى أجساد القطط التي تتغذى عليها، ومنه إلى فضلات القطط ثم أجساد الفئران مرة أخرى. الفأر المصاب بداء المقوسات معافٍ تمامًا، باستثناء أمر واحد فقط: يعدل الطفيل مخ الفأر ويجعله أقل خوفًا من القطط، وهذه هي آلية الطفيل لاستخدام جسد الفأر للتكاثر.
إذًا يرى دوكينز أن جسد الحيوان هو وسيلة الجين لصنع جين آخر/التكاثر. لكن ما أهمية هذا في علم النفس؟ وكيف يجيب عن سؤال الطيبة والإيثار؟

تطبيق نظرية الجين الأناني في علم النفس

قبل الإجابة عن هذا السؤال، دعونا نوضح اثنين من المفاهيم الهامة في علم النفس: «السببية القصوي والمباشرة-Ultimate and proximate causation»
السببية المباشرة: هي تفسير سلوك الحيوان وفقًا لآلياته الداخلية وعوامل الإثارة.
السببية القصوى: هي تفسير سلوك الحيوان وفقًا للتطور، كيف يساهم هذا السلوك في الانتقاء الطبيعي؟
لذا عندما سُئل أحد المفكرين: هل تضحي بحياتك من أجل أخيك؟
أجاب: لا، لكني سأمنحها بكل سرور لثلاثة أخوة، وخمسة من أبناء الأخ، وتسعة من أقارب الدرجة الأولى.
وهو بالطبع يمزح، لا يوجد شخص سوي يحسب هذه الحسابات عند التعامل مع أبنائه أو إخوته. إننا نحبهم لأننا فقط نفعل، نشعر بالسعادة في وجودهم، ونلجأ إليهم وقت الحاجة، نحب منحهم وقتنا ومالنا وربما أرواحنا، دون أن نسأل لماذا. وهذا بالتحديد السبب المباشر للإيثار.
أما الإجابة الأكثر علمية والتي تفسرها نظرية الجين الأناني: هي إجابة المفكر السابقة. نحن نحب أبنائنا وإخواننا وأقاربنا لأننا نتشارك معهم نفس الجينات. وإذا خُير الجين الأناني بين التضحية بالجسد الذي يسكنه، أو موت عدد من إخوته، سيختار التضحية. لأنها صفقة مثالية، حيث يحمل إخوته نفس جيناته، ويضمن بقائهم التكاثر وتكوين عدد أكبر من النسخ. وهذه هي السببية القصوى التي تفسر الإيثار من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي. نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

لماذا نكره الخيانة؟

لم يواجه التطور صعوبة كبيرة في تفسير المشاعر تجاه الأقارب، بما أن التطور مدفوع بقوى تهدف إلى تكرار الجين وتكاثره، فمن المنطقي أن تحب الحيوانات ذريتها وتعتني بها، لأنها حاملة جيناتها. لكن الأمر المحير حقًا هو علاقات البشر والحيوانات بغير أقاربها، كيف تعود هذه العلاقات المعقدة بالفائدة من وجهة نظر الانتقاء الطبيعي؟

تظهر أمثلة كثيرة لهذا النوع من العلاقات في الطبيعة. منها:

  • اعتناء الحيوانات بنظافة بعضها البعض، كما يحدث في القردة فتجدها تزيل الحشرات من أجساد رفاقها.
  • إطلاق صرخات تحذيرية عند اقتراب الخطر، رغم تهديد هذا الفعل لحياة صاحبه.
  • ترعى الحيوانات أطفال أحدها الآخر. ومن وجهة نظر تطورية بحتة، من الأفضل أن تلتهم هذه الحيوانات الأطفال، فهي مصدر البروتين كذلك لا تحمل جيناتها. لكن ما يحدث عكس ذلك.
  • تتشارك الحيوانات الطعام كما يحدث في الخفافيش.

الإيثار المتبادل

تعمل الخفافيش معًا في نظام دقيق، حيث تذهب مجموعة للصيد وجمع الدماء وتعود لتوزيعه على باقي الأفراد. وبهذا تتبع الخفافيش مبدأ «الإيثار المتبادل-Reciprocal alturistim»
بمعنى أن العمل معًا يعود بفائدة أكبر من العمل وحيدًا، أي تفوق المنفعة التكلفة.
فعندما يبدأ أحد الخفافيش بالإيثار يعود الأمر بالفائدة عليه، لأنه سيلتقي مساعدة في المقابل.
لو توقف الأمر عند هذا الحد، لصار التفسير سهلًا. نحن نعطي ونتوقع أن نأخذ في المقابل، أي تفوق المنفعة التكلفة، هذا ليس هدفًا تطوريًا سيئًا، أليس كذلك؟
لكن اللغز لا يتوقف هنا، حيث تظهر مجموعة من الغشاشين أو ما يطلق عليهم علماء الاقتصاد: المنتفعين بالمجان.
تخيل معي اثنين من الجينات، الجين الأول لخفاش يخرج للصيد ويشارك ما يحصل عليه مع باقي الأفراد. والجين الثاني لخفاش لا يخرج للصيد لكنه ينتفع مما يجلبه الآخرون. أيهما أكثر تفوقًا تطوريًا؟
الجين الثاني يحصل على كميات طعام أكبر وعمل أقل، وبالتالي يتفوق بلا شك على الجين الأول.
لكن أين التفسير؟ إذا كانت آليات الغش والانتفاع بالمجان أكثر تفوقًا، فكيف تطورت آليات التعاون وترسخت هكذا؟
تكمن الإجابة في «اكتشاف الغشاشين-Cheaters Detection»
لا يمكن للايثار المتبادل العمل إلا إذا كانت الحيوانات مهيئة مسبقًا لاكتشاف الغشاشين.
لفهم ذلك أكثر، دعني أسرد لك هذه التجربة.
تابع العلماء عشًا للخفافيش، وراقبوا نشاط خفاش معين خرج للصيد ثم عاد بعد فترة حاملًا الدم ليوزعه على رفاقه. لكن العلماء قاموا بطريقة ما بمنع هذا الخفاش من مشاركة الدم مع رفاقه. فماذا حدث؟
عندما خرج أفراد آخرون للصيد وعادوا بالدماء، لم يشاركوه الطعام وتركوه يتضور جوعًا.
ومن هنا نستنتج أن الاختيار الأفضل دائمًا هو التعاون، تعلمت الحيوانات هذا النظام، ونشأ من إيثارها المتبادل علاقات معقدة ومدهشة.
وبالطبع يظهر الإيثار المتبادل في البشر أيضًا، بل ويجادل بعض علماء النفس أن هذه الحساسية تجاه الغشاشين والتركيز على عملية الايثار التبادلي لها دور هام في تطور السلوك الاجتماعي عند البشر.

معضلة السجين

التفسير الكلاسيكي لهذا الرأي يأتي باستخدام «معضلة السجين-Prisoner’s dilemma»
معضلة السجين هي لعبة يستخدمها الباحثون في علم النفس لمعرفة متى يختار البشر التعاون أو الخيانة. لهذه اللعبة صور كثيرة، لكن الشكل الكلاسيكي لها كالتالي:
أنت وصديقك قررتما السطو على بنك لكن قُبض عليكما، فيأتي إليك الضابط ليعرض عليك مجموعة من الخيارات.

  • تخون وتعترف على السجين الثاني، فيُطلق سراحك ويقضي هو مدته في السجن.
معضلة السجين (حقوق الصورة: University of Michigan Heritage Project)
  • تتعاون ولا تشي بالسجين الثاني، بينما هو يشي بك، فيطلق سراحه، وتقضي أنت مدتك في السجن.
  • تتعاونا معًا ولا يشي أحدكما بالآخر، فيطلق سراحكما.
  • تشيا بأحدكما الآخر، فتذهبا كلاكما إلى السجن.


عند تحليل هذه الاختيارات، نجد أن أحسنها هو أن يتعاون كلاكما معًا فلا يُسجن أحد. وأسوأها أن تشيا ببعضكما فيذهب كلاكما إلى السجن.
لكن الاختيار الأسلم في كل مرة هو الخيانة، فأنت لا تضمن تعاون صديقك معك. لذا إذا اخترت الخيانة واختار صديقك التعاون فستخرج حرًا، وإذا اخترت الخيانة وكذلك صديقك فلن ينتهي بك الأمر وحيدًا في السجن.
وبتحليل الاختيارات المختلفة لمعضلة السجين، وجد العلماء أن مشاعرنا تتناظر مع كل اختيار منها:

  • نحب الأشخاص الذين يتعاونون معنا، ونتشجع أن نكون أكثر لطفًا معهم في المستقبل.
  • لا نحب أن يخدعنا أحد، يجعلنا هذا نشعر بالغضب والخيانة، ويحفزنا لتجنبهم في المستقبل.
  • نشعر بالسوء حينما نخون شخص تعاون معنا، ويحفزنا ذلك للتعامل بشكل أفضل في المستقبل.

نظرة في تطور المشاعر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟

والآن بعد أن تعرضنا لسؤال المشاعر وتفاصيله الدقيقة، وتعرفنا على الحالات المؤسفة لاختلال العقل نتيجة فقدان جزء من المشاعر، وفسرنا الرؤية الصحيحة لها، وأجبنا عن الأسئلة الثلاث الأكبر: لماذا نخاف؟ لماذا نحب أطفالنا؟ لماذا نكره الخيانة؟
في المرة القادمة التي تبتسم فيها، أو تتجهم، أو تستمتع بصوت ما، ويزعجك آخر، تذكر ألا تنظر إلى هذه الأمور كأنها حقائق كونية، واسأل نفسك دومًا السؤال الأهم: لماذا؟

اقرأ أيضًا: نظرية مثلث الحب

المصادر

التنشئة الاجتماعية: الطبع مقابل التطبّع

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مقدمة في علم الاجتماع

هل يولد الطفل بشخصية محددة؟ أم أنه يكتسب صفاته من محيطه؟ إلى أي مدى توثر التنشئة الاجتماعية على نمو شخصياتنا؟ لماذا يختلف أخوان توأم في الشخصية إلى هذا الحد، رغم جيناتهم وظروفهم الاجتماعية المشتركة؟  تدور كل هذه الأسئلة في بالنا عند محاولة فك لغز شخصيتنا أو شخصيات الأشخاص المحيطين بنا، وتظهر التنشئة الاجتماعية كعامل فاعل ومؤثر في تحديد هوياتنا؟ فما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي مكوناتها؟ وما الذي يغلب، الطبع أم التطبع؟

ما هي التنشئة الاجتماعية؟ وما هي أهميتها؟

في صيف عام 2005، اشتكى عدد من سكان فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية لقسم الشرطة من وجود فتاة غريبة تظهر من النوافذ المكسورة لبيتٍ في حالة رثّة. بالفعل، اقتحمت الشرطة المنزل المذكور وكانت الصدمة! فقد وجدوه مليئًا بالأوساخ والحشرات، أبوابه ونوافذه مخلوعة، ومفروشاته قديمة ومهترئة. ثم وجدوا فتاة صغيرة، تبدو في السابعة من عمرها، ملقاةً على فراش ممزق وجسدها مليء بلسعات الحشرات والقروح. بحسب والدتها، التي كانت موجودة في المنزل أيضًا، تُدعى الفتاة “دانييل”. أُجليت سريعًا من المنزل وأُخذت إلى المستشفى لفحصها. وُجدت دانييل، حتى بعد استعادة عافيتها (والتأكد من عدم إصابتها بمرض مزمن أو جيني)، عاجزة عن أي نوع من التواصل بالكلام أو بالتعابير أوالبكاء وعاجزة عن علك الطعام وبلعه ولا تجيد استخدام أدوات الطعام والمرحاض، وحتى لا تستطيع الوقوف أو المشي ولا تفهم ماهية الكرسي وطريقة استخدامها.

قد تبدو بعض تصرفاتنا اليومية طبيعية وسهلة، فيُخيّل إلينا أنها قد وُلدت معنا. لكن الحقيقة أننا اكتسبناها على مر الوقت من محيطنا من خلال التنشئة الاجتماعية. فالفتاة “دانييل” تعطينا مثالًا حيًا عن أهمية التفاعل العاطفي والاجتماعي لتنمية كل القدرات الفكرية والجسدية والنفسية، حتى أكثرها بساطة.

التنشئة الاجتماعية هي عملية اكتساب الفرد للأفكار المجردة (القيم والمبادئ وتمييزالصح من الخطأ …) والأفعال العمليّة (طريقة التعبير والحديث والسلام والأكل والتعامل مع الآخرين …) من مجتمعه، ليصبح فعالًا في هذا المجتمع. ويتم الاكتساب إجمالًأ من خلال مراقبة الأشخاص الآخرين وتقليدهم، أو من خلال تعليم أو تشريط مقصود من قِبل المحيطين به أفرادًا أو مؤسسات. وتلعب التنشئة الاجتماعية دورًا جمًا في نمو وتحديد شخصية كلٍّ منا، ورسم دوره الاجتماعي فيما بعد. وتُصنف التنشئة الاجتماعية نوعين:

– «التنشئة الاجتماعية الأولية-Primary Socialization» وهي تعلم الفرد من عمر باكر للقيم والمبادئ والأفكار والأفعال الاجتماعية وهي إجمالًا تبدأ في المنزل مع أفراد العائلة.

– «التنشئة الاجتماعية الثانوية-Secondary Socialization» وهي مسار اكتساب التصرفات المحبذة لمجتمع معين أو المناسبة له. وهي تبدأ خارج المنزل في المناسبات الاجتماعية.

هل يغلب الطبع التطبع فعلًا؟

من يحدّد شخصية الإنسان؟ هل يُولد الطفل بشخصية تحدّدها الجينات أم يلعب المجتمع الدور الأكبر في رسم ملامحها؟  لطالما شكّلت هذه الأسئلة صلب نقاش طويل دار بين علماء النفس والطب النفسي والجيني وعلماء الاجتماع والجريمة.

في السنوات الأخيرة، اعتُبر هذا النقاش عقيم وغير مُجدٍ من قِبل العديد من العلماء، فاعتبره طبيب الأعصاب «نيك كرادوك- Nick Craddock» نقاشًا قديمًا وسادجًا وغير مفيد (سنة 2011)، وسمّى طبيب الأعصاب «برايان ترينور-Brian Traynor» ثنائية الطبع والتطبّع بالثنائية المغلوطة (سنة 2010).  ويقول علماء الجينات أن الجينات تتفاعل مع المحيط، بطريقة معقدة جدًا ولا يمكن تفسيرها أو توقعها بالوسائل العلمية الموجودة حتى الآن. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر علم ما فوق الجينات (Epigenetics) أن الظروف الحياتية تؤثرعلى التعبير الجيني.

يتداخل سؤال الطبع والتطبع مع سؤال الإرادة الحرة، وبالتالي يطرح صحة كل الأنظمة الأخلاقية والقوانين وأنظمة المحاسبة. وعلى الرغم من أن الاتفاق أن التفاعل بين “الطبع” و”التطبع” هو الجواب الأكثر دقة، إلا أنه جواب غير كافٍ، بحيث يبحث العلماء عن مزيد من الدلائل حول السمات الفطرية والمشتركة بين كل الشعوب والمجتمعات، والسمات المُكتسبة من التربية والتنشئة الاجتماعية.

من الأمثلة على ذلك، سأل العلماء طويلًا: هل تعبيرات الوجه هي فطرية أم مكتسبة؟ وأثبتت آخر دراسات علم النفس الاجتماعي أنها فطرية، كونها مشتركة عند كل الثقافات. كما يعتمدها الأطفال المكفوفون أيضًا، رغم أنهم لا يتعلمون تعابير الوجه بالتقليد، فهم يمارسونها فطريًا فيبتسمون عند فرحهم ويبكون عند غضبهم.

من الأسئلة الشائعة أيضًا: هل يولد الأطفال عنيفين؟ يختلف العلماء حول الإجابة، فتعتبر بعض الدراسات أن سمات العنف تولد مع الإنسان، ويتعلم الطفل كيفية السيطرة عليها (فيقول البروفيسور في طب الأطفال والطب النفسي للأطفال ريتشارد تريمبلاي أن العنف مشكلة تطال كل أطفال العالم خصوصًا تحت عمر الثالثة)، حتى أن بعضها تعطي للعنف تاريخ تطوري، بحيث احتاج الإنسان البدائي إلى العنف ليعيش، فاكتسبنا جميعًا جينات عنفية. في المقابل بيّنت دراسات أخرى بحثت في تصرفات الأهل والأطفال بين عمر الصفر وعمر ال7 سنوات أن العنف مكتسب ويتأثر خصوصًا بتربية الأهل.

وكلاء التنشئة الاجتماعية:

يُعتبر مسار التنشئة الاجتماعية مسارًا طويلًأ ومعقدًا، تتداخل فيه أدوار العديد من المجموعات والمؤسسات التي تتفاعل مع الشخص وتؤثر على نموه الاجتماعي، وتسمّى ب”وكلاء التنشئة الاجتماعية”. فمن هم هؤلاء الوكلاء؟

العائلة:

تشكل العائلة التجربة الاجتماعية الأولى للطفل، فهو يؤمن كل حاجاته ويكتسب كل قدراته من خلالها. ولا تقتصر على العائلة والأخوة فقط، بل تطال الأقرباء أيضًا. ولكن من المهم الإشارة أن تربية العائلة للطفل لا تحصل بطريقة معزولة عن المجتمع الأوسع، فتتأثر العائلة بالقيم والعادات العامة وثقافة البلد ووضعه التاريخي والسياسي والاقتصادي. كما تتأثر التنشئة بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها العائلة، والأدوار الاجتماعية لأفرادها. فمثلًا في معظم المجتمعات الشرقية التقليدية تكون الأم ربة منزل، وتهتم بالقسم الأكبر من التنشئة. بينما في السويد مثلًا، تُعد ظاهرة الأب الملازم للبيت شائعة، لا بل محبذة من الدولة (بحيث تعطي عطلة أبوّة عند ولادة طفل جديد)، فيكون الوالدان متشاركان في التنشئة الاجتماعية.

 فحتى أبسط علاقات التنشئة بين الطفل وعائلته هي علاقة معقدة ومتداخلة مع عوامل أخرى.

مجموعة الأقران:

وهي تتألف من الأشخاص المشابهين بالعمر والطبقة الاجتماعية والاهتمامات. ويختبر الطفل التفاعل مع أقرانه حتى قبل دخوله إلى المدرسة أحيانًا (أولاد الجيران مثلًا). ويكون هذا الاحتكاك بغاية الأهمية للطفل، بحيث يتعلم المشاركة والالتزام بقواعد بسيطة (قواعد لعبة) ويشكل الخطوة الأولى في طريق إنماء شخصيته الاجتماعية.

المدرسة:

هي المؤسسة الأولى التي ترسم ملامح الحياة الاجتماعية للطفل. فهو للمرة الأولى يتفاعل مع عدد كبير من الأفراد والأقران، بالإضافة إلى أنه يلتزم بقواعد ومبادئ عامة صارمة.

ولا يقتصر تعليم المدرسة على المنهج الأكاديمي التي تعطيه، بل تحمل أيضًا ما يسميه علماء الاجتماع ب”المنهج الخفي”، بحيث يتعلم الولد احترام الآخرين والالتزام بقواعد الصف وتبادل الأدوار ومشاركة الأغراض، ثم كيفية التعبير عن الرأي والقيم المدنية والوطنية والدينية أحيانًا.

وتثبت الدراسات يومًا بعد يوم، خاصة تلك المتعلقة بعلم نفس التعلم، أن أسلوب التعليم يؤثر بشكل هام على الحالة النفسية للأطفال، فأثبتت دراسة للتلاميذ الثانويين، أجرتها جامعة ميامي، الفروقات النفسية بين التلاميذ الذين يتعلمون بأساليب تنافسية مقابل آخرين يتعلمون بأساليب تعاونية.

مكان العمل:

يقضي البالغون معظم أوقاتهم في مكان عملهم. ورغم أنهم قد اكتسبوا الكثير من التنشئة الاجتماعية منذ طفولتهم، إلا أن مسار التنشئة لا يتوقف. فيختبر الشخص البالغ أنواعًا جديدة من الأدوار الاجتماعية والعلاقات الرسمية.

الدين والمؤسسات الدينية:

يختلف تأثير الدين على التنشئة الاجتماعية مع اختلاف الحقبات والبلدان والمناطق في العالم. ولكن في كثير من الأحيان ترتبط العادات والقيم والممارسات التي يتعلمها الفرد من طفولته، بالتعاليم والممارسات الدينية.

وتؤثر المؤسسات الدينية أحيانًا على شكل الحكم السياسي، أو التعليم (من خلال مدارس دينية)، وبالتالي يتعاظم دورها في التأثير على طبيعة التنشئة الاجتماعية.

الدولة:

قد يكون دور الدولة غير ظاهر في التنشئة، لكنها فعليًا من أكثر الوكلاء تأثيرًا على طبيعة التنشئة الاجتماعية. فالدولة هي التي تفرض نظام الحكم، وهي تصوغ القوانين التي ترعى كل المؤسسات الأخرى. فتمنع الدول الأوروبية بحسب القوانين أي نوع من العنف اللفظي أو الجسدي في العائلة. بينما لا تتدخل دول أخرى بالعنف المنزلي وتعتبره شأنًا خاصًا بالعائلة نفسها. وهنا يظهر تأثير الدولة على التنشئة العائلية.

الإعلام:

يلعب الإعلام اليوم دورًا كبيرًا في نشر الأفكار، ويتعاظم دوره تدريجيًا في التأثير على الرأي العام وعلى التنشئة الاجتماعية. ونقصد بالإعلام وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والراديو) من جهة، والإعلام الإجتماعي (Social media) الذي يُعد تأثيره أكبر وأضخم في التأثير على شكل الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.

ختامًا، رحلة اكتشاف ذواتنا شيقة وصعبة وما زالت في بداياتها، فنحن بحاجة للكثير من البحث والتفتيش لمعرفة تأثير كل من جيناتنا ومحيطنا الاجتماعي وكيفية التفاعل بينهما. والأكيد أنه علينا مراجعة أهمية التنشئة الاجتماعية، وبالتالي إصلاح المجتمع من أعلاه إلى أسفله، لخلق شخصيات أكثر صحة وتوازن.

المصادر:

edX courses: Introduction to Sociology
NCBI
Science Daily

ما هو اكتئاب ما بعد التخرج وكيف يمكن التخلص منه؟

ما هو اكتئاب ما بعد التخرج وكيف يمكن التخلص منه؟

قد يكون مصطلح “اكتئاب ما بعد التخرج” غير شائع وقد لا تجده في قاموس الجمعية الأمريكية للطب النفسي، ولكن تؤكد الإحصائيات والأبحاث الأخيرة أن أكثر من 90% من حديثي التخرج يصابون بنوبات اكتئاب متفاوتة الحدة بعد إنهاء مسيرتهم التعليمية وذلك لعدة أسباب.

العوامل التي تؤدي إلى اكتئاب ما بعد التخرج

غالبًا ما يحدث هذا النوع من الاكتئاب بسبب الضغط النفسي الذي يتعرض له الشباب نتيجة تغير نمط حياتهم.

انخرط طلاب التعليم العالي ما يقرب من 20 عامًا في روتين الحياة الدراسية حتى أنها أصبحت جزءًا من هويتهم، وقد أكد ذلك مات جلوياك الدكتور في جامعة نيوهامشر بقوله:

“عندما يواجه الناس عقبة تهدد هويتهم، قد تتعرض صحتهم النفسية للخطر”

كما تسبب صعوبة التواصل مع أصدقاء الجامعة بعد التخرج الحزن والضيق والشعور بالوحدة.

في كثير من الأحيان يكون اكتئاب ما بعد التخرج مصحوبًا بأزمة ربع العمر “فترة العشرينيات” والتي يكون الشباب خلالها أكثر تشوشًا، يشككون في قيم حياتهم وأهدافها وفي أهمية وجودهم في الأساس.

أزمة رُبع العمر غالبًا ما تكون مصحوبة بالشعور بالعزلة وعدم الكفاءة والشك بالنفس والخوف الشديد من الفشل.

تسبب مطالعة وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة والتدقيق في حياة الآخرين ومقارنة نفسك بأصدقاء دراستك بعد التخرج وما وصلوا إليه ولم تستطع أنت الوصول إليه حتى الآن، كأن يجد أحدهم وظيفة براتب عالي مثلا سبب أساسي في الإصابة بالاكتئاب أيضًا.

أعراض اكتئاب ما بعد التخرج

  • الشعور الشديد بالحزن والميل إلى العزلة وفقدان الشغف ودوافع الاستمرار، وعدم الاهتمام بالأشياء المفضلة والهوايات.
  • الشعور بالوحدة.
  • الشعور بالتشوش والقلق وعدم القدرة على التفكير.
  • الشعور بعدم الكفاءة والخوف الشديد من الفشل.
  • الشعور العام باليأس.
  • الشعور العام بالإرهاق والتعب وإيجاد صعوبة في النهوض من السرير في الصباح عن أي وقت مضى.

كيف يمكنك التغلب على اكتئاب ما بعد التخرج؟

يمكنك أن تتغلب على هذا الشعور بمحاولة التخلص من مشاعر اليأس والقلق عن طريق القيام بالأعمال التطوعية وممارسة الرياضة ومحاولة الاهتمام بالهوايات التي تحسن المزاج، كما أنه من المهم استشارة أخصائي نفسي للسيطرة على التغيرات العاطفية التي يواجهها الشباب جراء تلك العملية الانتقالية الضخمة في حياتهم.

التخطيط الجيد للحصول على وظيفة آمنة عن طريق التواصل مع مستشار مهني مثلًا أو وكالة توظيف لتسهيل عملية البحث، وإنشاء جدول يومي لتنظيم المهام ووضع خطة للوصول إلى الأهداف الشخصية والمهنية يساعد على ترتيب الأفكار وتخفيف أعراض القلق والتوتر، كما أن اتباع عادات نوم صحية يساعد على صفاء الذهن وزيادة حدته والقدرة على التفكير السليم.

مصادر:

Southern New Hampshire University: What is Post-Graduation Depression and How to Overcome it

Studyusa:Post-Graduation Crisis in the U.S.

Hercampus

Fenews

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

هذه المقالة هي الجزء 10 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

لقد استيقظت توًا من النوم، نهضت لتستعد للذهاب إلى عملك، بينما تتسائل هل أذهب مشيًا أم أقود السيارة؟
وفجأة تظهر لك الإجابة، تتذكر أن طريق العمل مسدود منذ يومين لذا تختار الذهاب مشيًا.
ما الذي حدث هنا؟
لقد اتخذت قرارًا وحللت مشكلة بناءًا على تحليل منطقي، وهذه العمليات الثلاثة (اتخاذ القرار وحل المشكلات والتحليل المنطقي) مرتبطة بمهارة «الفكر-Thought» في نظامنا المعرفي. لكن السؤال هنا، هل تقوم بهذه العمليات الثلاثة في كل مرة تتخذ قرارًا في حياتك؟ التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

التحيز المعرفي والاستدلال

الإجابة، قطعًا لا. وهنا يأتي دور الاستدلال.
اعتقد العلماء قديمًا أن البشر مفكرون منطقيون، يستخدمون المنطق والعقلانية لاتخاذ قراراتهم. لكن أثبتت الدراسات أن لدينا نوع من الآليات المجهزة مسبقًا، مخطط للأنواع والمفاهيم التي يمكن أن نصادفها في حياتنا، فنعود إليها وقت الحاجة. فيما يُعرف بـ «الاستدلال-Heuristic»
وصف العلماء الاستدلالات أنها نوع من الاختصارات التي تساعدنا في اتخاذ القرارات بشكل أسرع، لكنها غالبًا ليست دقيقة تمامًا، بل يُمكن القول أنها مضللة في بعض الأحيان. وهناك أربعة أنواع من الاستدلالات التي يُمكن أن تعيق التفكير المنطقي فيما يُعرف بـ «التحيز المعرفي-Cognitive Bias»

التحيز المعرفي وتأثير التشكيل

أولًا. «تأثير التشكيل-Framing Effect»
هو نوع من التحيز المعرفي الذي يؤثر على قرارتنا عند تغير شكله، أو بمعنى آخر اختلاف القرارات باختلاف شكل نفس السؤال أو المشكلة.
مثال: ترى إعلانًا لمطعم بيتزا يخبرك أنها 90٪ خالية من الدهون، وآخرًا يخبرك أنها تحتوي على 10٪ من الدهون. أيهما ستختار؟
ستختار على الأغلب المطعم الأول. رغم أن كلا المطعمين يقدمان نفس نسبة الدهون، لكن طريقة عرض المعلومة أثرت على اختيارك، وهذا هو تأثير التشكيل.

ولا يقتصر تأثير التشكيل على البشر فقط، أجريت أحد الدراسات على قردة الكابوتشين لتختبر تأثير التشكيل عليهم. فكان هناك شخصان يقدمان الطعام للقردة، أحدهم يعرض عليهم موزتين أولًا، ثم يعطيهم الموزتين نصف عدد المرات، ويعطيهم موزة واحدة النصف الآخر. الشخص الثاني يعرض عليهم موزة واحدة في المقام الأول، ثم يفعل مثل زميله، يمنحهم موزتين نصف عدد المرات وموزة واحدة النصف الآخر. وجدت الدراسة أن القردة يفضلون الشخص الثاني على الشخص الأول، رغم حصولهم على نفس كمية الطعام في الحالتين. وذلك بسبب تأثير التشكيل.

التحيز المعرفي ومعدلات الإسناد

ثانيًا. «مغالطة معدلات الإسناد-Base rate Fallacy»
تخيل معي مجموعتين من سبعين مهندسًا وثلاثين محاميًا، من بينهم جون. جون رجل في منتصف الأربعينات، متزوج ولديه طفل، انطوائي، لا يهتم بالسياسة، هواياته الإبحار وحل الألغاز. فإلى أي المجموعتين ينتمي جون؟
ربما تقول مهندسًا، وهكذا يجيب أغلب الناس أيضًا. لكن هل وضعت في اعتبارك حجم المجموعتين عند اتخاذ قرارك؟
هذا هو تأثير معدلات الإسناد. عند جمع معلومتين إحداهما فردية تخص شخصًا ما، والأخرى إحصائية. يميل الناس إلى تجاهل الأعداد (معدلات الإسناد) والتركيز على المعلومة الشخصية.

التحيز للوفرة

ثالثًا. «التحيز للوفرة-Availability Bias»
أيهما تعتقد أكثر خطورة: سمكة القرش أم سلطة البطاطس؟
ربما يبدو هذا السؤال سخيفًا، بالطبع سمكة القرش أكثر خطورة. لكن دعنا نراجع بعض الأرقام أولًا: معدل الإصابة من أسماك القرش هو 1 من كل 6 مليون شخص، ومعدل القتل من أسماك للقرش هو 1 من كل 500 مليون شخص. معدل الإصابة بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 800 ألف شخص، أما معدل الموت بسبب تسمم الطعام هو 1 لكل 55 ألف شخص. إذن سلطة البطاطس أخطر ألف مرة من أسماك القرش!
والسبب في اعتقادنا أن أسماك القرش أكثر خطورة هو التحيز للوفرة. بمعنى أننا نميل إلى المبالغة في تقدير الحدث إذا كان مآساويًا أو رائعًا أو مثيرًا للانتباه فيسهل تذكره. وبالتأكيد موت شخص جراء هجوم سمكة قرش أكثر إثارة من الاختناق بسلطة بطاطس!
مثال آخر: أيهما تعتقد له النسبة الأكبر في اللغة الإنجليزية: الكلمات التي تنتهي بـ ng أم الكلمات التي تنتهي بـ ing؟
يميل أغلب الناس إلى الإجابة الثانية، لأن هذه المجموعة من الكلمات أسهل وأسرع تذكرًا. بينما الحقيقة أن الكلمات التي تنتهي بـ ng تحتوي الكلمات التي تنتهي بـ ing أيضًا وبالتالي لها النسبة الأكبر.

التحيز للتوكيد

رابعًا. «التحيز للتوكيد-Confirmation Bias»
تخيل معي أنك قاضٍ تحكم بين زوجين لتقرر أيهما يستحق حضانة طفلهما. أولهما صاحب دخل متوسط، ومهارات اجتماعية فقيرة، وبصحة جيدة، وعلاقة متوسطة مع الطفل، ولا يتنقل كثيرًا. والثاني له دخل مرتفع، وحياة اجتماعية ممتازة، ويعاني من مشاكل صحية طفيفة، وعلى علاقة مقربة بالطفل، ويسافر كثيرًا لقضاء أعماله. أيهما ستمنحه حضانة الطفل؟
من المرجح أنك ستختار الشخص الثاني، وهذا ما ذهب إليه أغلب الناس أيضًا.
أما عند عرض نفس المواصفات على مجموعة مختلفة من البشر وسؤالهم: أي الزوجين ستحرمه حضانة الطفل؟
تقع النسبة الأكبر على الشخص الثاني أيضًا، فما تفسير ذلك؟
يُمكن تفسير هذه النتائج وفقًا لمفهوم التحيز للتوكيد وهو تفضيل المعلومات التي تتماشي مع معتقداتنا أو تحيزاتنا السابقة وتجاهل تلك التي لا تتماشى معها. فتجد في السؤال الأول كلمة: منح الحضانة، ويتجه تفكيرك تلقائيًا إلى الصفات الإيجابية التي تستدعي المنح، ونجد أن الشخص الثاني يتمتع بها. أما في السؤال الثاني: حرمان الحضانة، وهنا يتجه تفكيرك إلى الصفات التي تستدعي الحرمان، ونجد هذه واضحة أيضًا في الشخص الثاني.
ونلاحظ أن هذا المثال ينطبق كذلك على تأثير التشكيل، فعندما اختلف شكل السؤال اختلفت الإجابة.

التحيز للتوكيد والأرض المسطحة

وأمثلة التحيز للتوكيد في واقعنا كثيرة، منها: المؤمنون بالأرض المسطحة، أو إنكار هبوط الإنسان على القمر. فنجد هؤلاء الأشخاص يفضلون المعلومات التي تتماشي مع معتقداتهم السابقة، ويرفضون أي معلومات مغايرة. ويمكن أن يؤدي هذا النوع من التحيز إلى حالة من «ترسخ الاعتقاد-Belief perseverance» ورؤية العالم بذهن ثابت يرفض التغيير!

اقرأ أيضًا: كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

المصادر

١. Boycewire
٢. Verywellmind
٣. Verywellmind
٤. Decisionlab

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

هذه المقالة هي الجزء 9 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟ وما العوامل التي تضمن حدوثه؟

الحب، إنه الشعور الأروع على الإطلاق. التجربة التي نتوق لها جميعًا ونحاول فك شفرتها. ونتمنى لو نجد إجابات سهلة عنها. لكن ما هو الحب؟ وهل حقًا استطاع العلماء فك شفرته؟

كيف عرف ستيرنبرج الحب؟

علم النفس الاجتماعي هو الفرع الذي يهتم بدراسة مشاعر الحب والانجذاب، وقام علمائه بتجارب جمة للتوصل إلى تعريف للحب وتحديد عوامل نجاحه. تطرق عدد من العلماء إلى تعريف الحب، لكن الأشهر بينهم وضعه العالم روبرت ستيرنبرج في ثمانينات القرن الماضي وعُرف نظرية مثلث الحب.

وتُفسِر هذه النظرية الحب أنه شعور يتكون من ثلاثة عناصر أساسية: الحميمية، والشهوة، والالتزام. الحميمية هي شعور القرب والتواصل، أو بمعنى آخر مشاركة الأمور الشخصية التي لا تتشاركها مع أي شخص آخر. والشهوة هي الرغبة أو الانجذاب الجسدي. والالتزام هو وضع عنوان للعلاقة أنها علاقة حب ومن ثم اتخاذ قرار الالتزام -على المدى الطويل- بها. وهكذا رأى ستيرنبرج أن وجود هذه العناصر ثلاث يعني تكامل الحب وتمامه. لكن ماذا يحدث عند وجود عنصر واحد من العناصر الثلاث؟ أو اثنان؟ أو لا عناصر على الإطلاق؟

أنواع الحب

هذا هو الجزء الأكثر تشويقًا من نظرية ستيرنبرج، فيمكن القيام بعمليات تبادلية بين العناصر الثلاث للتوصل إلى الأنواع المختلفة من الحب في أغلب العلاقات البشرية. وسنتطرق أولًا إلى العلاقات ذات العنصر الواحد:

  • الصداقة: عند وجود الحميمية أو شعور القرب والتواصل فقط، وغياب الرغبة والالتزام، نحصل على علاقات الصداقة، أو الإعجاب، التي يمكن أن تتطور إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الافتتان: عند وجود الرغبة فقط، وغياب الحميمية والالتزام نحصل على الافتتان. وهي علاقات تقوم على الانجذاب الجسدي فقط دون معرفة عميقة أو قرار بالالتزام. ويكون تأثيرها عادةً قوي للغاية، ومن المحتمل أن ينمو إلى علاقات حب لاحقًا.
  • الحب الخاوي: عند وجود الالتزام فقط، وغياب الحميمية والرغبة نحصل على علاقات الحب الخاوي. ويظهر هذا كمرحلة أخيرة في العلاقات التي تسوء بمرور الوقت فيقرر طرفاها الالتزام من أجل الأطفال أو المظهر العام أو أسباب مادية. أو كمرحلة أولى في علاقات الزواج التقليدي التي تتم بدون معرفة مسبقة.

وثانيًا، العلاقات ذات العنصرين:

  • الحب الرومانسي: عند وجود الحميمية والرغبة وغياب قرار الالتزام نحصل على الحب الرومانسي. وهي علاقات تقوم على القرب والتواصل الجسدي دون أي قرار بالالتزام على المدى الطويل.
  • العشرة/الصداقة المقربة: عند وجود الحميمية والالتزام وغياب الرغبة نحصل على علاقات مثل الصداقة المقربة أو الزواج بدون جنس. أي علاقات تقوم على القرب وقرار الالتزام دون أي اتصال جسدي.
  • الحب الوهمي: عند وجود الشهوة والالتزام وغياب الحميمية نحصل على علاقات الحب الوهمي أو الحب الأبله. ونجد هذا في علاقات الزواج المتسرع قصير المدى.
  • أما عند غياب العناصر الثلاث نحصل على علاقات اللاحب، وهي العلاقات التي تربطك بالغريب الذي يمر بجانبك في الشارع. فلا توجد حميمية ولا شهوة ولا قرار بالالتزام.
  • وأخيرًا، الحب المتكامل وهو الحب الذي يتضمن العناصر الثلاث بدرجات متفاوتة خلال مراحل مختلفة من العلاقة. وهو الشكل الأمثل للحب في نظر ستيرنبرج.

كيف يحدث الحب؟

بحث علماء النفس الاجتماعي في الحب، وحاولوا فك شفرته، لكن جميع التجارب والنتائج التي وصلت إلينا تخص الانجذاب وليس الحب. باعتباره الخطوة الأولى التي يمكن أن تتطور لاحقًا إلى علاقات حب. وبهذا توصل علماء النفس إلى سبع عوامل/متغيرات لحدوث الانجذاب، منها ثلاثة عوامل رئيسية واضحة التأثير، وأربعة عوامل أخرى قوية أيضًا لكنها أقل وضوحًا وربما يغفل عنها الكثير.

أولًا، العوامل الثلاث الرئيسية:

  • «التقارب-Proximity»

هل حلمت يومًا بالغريب المثالي الذي ستلتقيه صدفة في ليلة ماطرة، تتبادلان حديثًا رائعًا ثم تقعان في الحب؟ باختلاف بعض التفاصيل -من المحتمل أنه صباح صيفي لا ليلة ماطرة- يمكننا القول أن أغلبنا اختبر هذا الأمر، الذي يمكن أن نصفه بالخرافة الثقافية. فيرى علماء النفس أنه من المرجح أنك ستنجذب لشخص مجاور لك، شخص يقع في حيز مكاني قريب عوضًا عن الغريب الرائع، وهذا هو مبدأ التقارب.

  • «التشابه-Similarity»

هل سمعت عن القاعدة الفيزيائية أن الأقطاب المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب؟ ربما سمعت بها قبلًا ورأيت من حاولوا تطبيقها على علاقاتهم. لكن علماء النفس الاجتماعي أثبتوا فشلها، ووجدوا أنه كلما زاد التشابه بين شخصين كلما زادت احتمالية انجذابهما لبعضهما. وذلك لعدد من الأسباب أهمها: أنه شعور رائع! تواجدك مع شخص يشبهك في نفس المكان يسهل التواصل بينكما، ويعطي نوع من التوكيد لكل منكما عندما تتبنيان نفس الرأي. فتزيد الثقة فيما تقولان وتتحمسان لقول المزيد.

  • «الألفة-Familiarity»

عرض العلماء مجموعة من الكلمات بلغة غريبة على عدد من الأشخاص لثوان معدودة، ثم عرضوا مجموعة أكبر من الكلمات الغريبة من بينها الكلمات التي رآها المشاركون سابقًا، ثم سألوهم: مع العلم أنكم لا تعرفون معنى أى من هذه الكلمات لكن أيها تفضلون؟ وجاءت إجابات المشاركين أنهم يفضلون الكلمات القديمة التي رأوها في المرة الأولى، حتى وإن لم يتذكروا رؤيتها من قبل!

وهذا هو تأثير الألفة، الذي يمكن تطبيقه على البشر بكل تأكيد. فيجد علماء النفس أننا نميل وننجذب للأشخاص اللذين نألفهم ونشاركهم نفس البيئة.

العوامل الأقل وضوحًا

الأربعة عناصر الأقل وضوحًا وهم:

  • «تأثير السقوط-Pratfall Effect»

من المعروف أننا ننجذب للأشخاص المهرة الأكفاء، الذين يدرون دورهم في الحياة. وهذا أمر طبيعي تمامًا لكنه غير مشوق، فمتى تحدث الإثارة؟

تحدث الإثارة حينما يرتكب الشخص الماهر خطأ أحمق، فيتضاعف إعجابنا به! وهذا ما يُعرف بتأثير السقوط. يشعرنا وقوع الشخص الماهر في الخطأ بشعورًا جيدًا حيال أنفسنا، نراه فجأة أكثر إنسانية وتواضعًا وقربًا، ونشعر أنه يشبهنا في نهاية المطاف، فننجذب له أكثر.

أشهر التجارب التي تفسر تأثير السقوط قام بها العالم إليوت أرنسون وجاءت النتائج مذهلة. أُجريت التجربة على طلاب جامعيين، طُلب منهم الاستماع إلى تسجيل صوتي للمتقدمين إلى تمثيل الجامعة في مسابقة تليفزيونية. التسجيل الأول لطالب مثالي، يحصل على علامات ممتازة ويشترك في كثير من الأنشطة. والتسجيل الآخر لطالب متوسط، علاماته جيدة، وأقل انخراطًا في أنشطة الجامعة. ثم سُأل المشاركون عن الطالب الذي يفضلونه؟

فذهب أغلبهم بالطبع إلى اختيار الطالب المثالي. لكن الأمر لم يتوقف هنا، استمر التسجيل الصوتي وسمع الطلاب قرقعة وضوضاء وبعدها شخص يقول: “اللعنة، لقد سكبت القهوة على بذلتي الجديدة”، سُأل المشاركون مجددًا عن الطالب الذي يفضلونه، فارتفع تقديرهم للطالب المثالي الذي سكب القهوة كثيرًا. ولسوء الحظ، انخفض تقديرهم للطالب المتوسط الذي سكب القهوة أكثر. وبهذا وجد ارنسون أن تأثير السقوط يعمل في كلا الاتجاهين، فيرفع من جاذبية الشخص الماهر، ويقلل من جاذبية الشخص المتوسط.

الجاذبية الجسدية

المظهر هو أحد الأمور المزعجة التي يرفض أغلبنا الاعتراف بأهميتها، فنقول لأنفسنا أنه ليس عادلًا أن الانجذاب الجسدي له أهمية في الحياة، خصوصًا إذا وجدنا أنفسنا خارج تصنيف الجاذبية الجسدية. وإذا سألت مجموعة من طلبة الجامعة عن الصفات التي يبحثون عنها في علاقاتهم، سيقولون لك صفات مثل التفاهم والذكاء وحس الفكاهة والتعاون، أما المظهر فليس هامًا للغاية. أما الحقيقة أنه إذا قابلت شخصًا للمرة الأولى، ولم يعجبك مظهره فمن المرجح أنك لن تراه ثانيةً.

أحد الدراسات التي بحثت أهمية الجاذبية الجسدية تُدعى «تجربة الشعر المستعار المجعد-The frizzy wig experiment». استعان القائمون على هذه التجربة بممثلة يراها أغلب الناس جذابة، وغيروا مظهرها لتصبح أقل جاذبية باستخدام شعر مستعار مجعد. كانت الممثلة تقابل مجموعة من الشباب وتطرح عليهم عددًا من الأسئلة ثم تعطيهم تقييمًا. وعندما كانت الممثلة أقل جاذبية لم يهتم المشاركون بتقييمها سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا. أما عندما ظهرت الممثلة بهيئتها الجذابة، فرحوا بتقييمهم الإيجابي كثيرًا، واستاء هؤلاء الذين حظوا بتقييم سلبي، بل وطالبوا بإعادة المقابلة!

وهكذا توضح لنا هذه التجربة أننا نتأثر برأي الأشخاص الجذابين، ونعطيه أهمية كبيرة على عكس الأشخاص الأقل جاذبية. وهذا أمر غير عادل وغير منطقي لكنه عمليًا موجود. وتوضح أيضًا التناقض الكلاسيكي بين ما نعتقد أنه تافه وغير هام، وما يُثبت عمليًا أنه أكثر أهمية. لكن لحسن الحظ تثبت هذه الدراسات أيضًا أن الجاذبية الجسدية مهمة في تحديد نجاح المقابلات الأولى فقط، أما نجاح العلاقات على المدى الطويل فيحدده عوامل أقل سطحية من المظهر بالطبع.

«تأثير المكسب والخسارة-Gain loss effect»

هناك صفة تطورية اكتسبها البشر على مر الزمان، وهي حساسيتهم وانتباههم للتغيير. وهذا أمر طبيعي لأن الاستقرار يعني الأمان، أما التغيير فهو مؤشر للخطر أو فرصة جديدة، وقد يساعد التنبه لهذا التغيير على الاستمرار والبقاء. لكن كيف يحدث هذا في حالات الحب والانجذاب؟
هناك شخصان، أحدهما يحبك ويظهر مشاعره لك بصورة مستمرة، والآخر ينمو انجذابه لك مع الوقت. أيهما سيجذب انتباهك أكثر؟
الإجابة هي الشخص الثاني، الذي ينمو تقديره لك مع الوقت، حتى وإن كان متوسط مشاعره أقل من الشخص الأول. وهذا هو تأثير المكسب. التغير المفاجيء والنمو التدريجي للمشاعر يجذب الانتباه أكثر من المشاعر الثابتة.
ويمكن تطبيق ذلك أيضًا على المشاعر السلبية، فلا يقع عليك الأذى بسبب شخص يكرهك ويُظهر لك هذا دائمًا. وإنما يأتي الألم من تقدير الأشخاص المرتفع الذي يتلاشى بمرور الوقت. وهذا هو تأثير الخسارة، أو تحول المشاعر من إيجابية إلى سلبية بمرور الوقت.

«الإسناد الخاطيء لأسباب الإثارة-Misattribution of arousal»

يحدث هذا الأمر عندما تشعر بالإثارة الجنسية لكنك لا تعلم السبب، فتفسره تفسيرًا خاطئًا وتعتقد أنه حب أو انجذاب.
ولفهم هذا العامل ودوره في حدوث الانجذاب قام العلماء بعدد من التجارب، أشهرها «تجربة الجسر المتهالك-Rickety bridge experiment»، أُجريت هذه التجربة على جسر عالٍ ومتهالك يقع في مدينة فانكوفر بكندا، وعلى جسر آخر أكثر استقرارًا وثباتًا يؤدي إلى نفس الوجهة. استعان العلماء بممثلة جذابة، كانت تستوقف الذكور الذين يعبرون كلا الجسرين وتطلب منهم مساعدتها في استبيان ما ثم تعطيهم رقمها وتخبرهم أن يتواصلوا معها إذا أرادوا معرفة النتيجة.

وجد القائمون على التجربة أن هؤلاء الذين عبروا الجسر المتهالك اهتموا بالممثلة وتواصلوا معها بالفعل، على عكس هؤلاء الذين عبروا الجسر الآمن. وفسر العلماء ذلك أن عبور الجسر المرتفع المتهالك مرتبط بزيادة ضربات القلب وسرعة التنفس والتعرق. لذلك أسقط المشاركون هذه الإثارة على الممثلة الجذابة واعتقدوا أنهم منجذبون لها.

قام العلماء بتجربة أخرى طلبوا من المشاركين فيها وضع سماعات رأس تضخم صوت ضربات القلب بينما يتصفحون أحد المجلات الإباحية، ثم اختيار صورتهم المفضلة. جاءت النتائج أن أغلب المشاركين اختاروا الصورة التي زادت ضربات قلبهم عند رؤيتها. لكن الحيلة هنا، أنهم لم يستمعوا إلى نبص قلبهم الحقيقي وإنما إلى تسجيل صوتي لضربات القلب يقوم المسئول بتسريعه عشوائيا عند أي صورة. وبهذا يقع هؤلاء الأشخاص في فخ الإسناد الخاطيء للإثارة، فيعتقدون أن ضربات قلبهم المتسارعة دليل على الانجذاب والحب.

وهنا يجب القول أن هذا المفهوم تحديدًا له آثار أكثر خطورة في الواقع، منها: ضحايا العلاقات المسيئة والعنف المنزلي. ما يحدث أن هؤلاء الأشخاص لا يدركون أنهم في علاقات مسيئة، حيث يسبب لهم الصراخ والشجار والغصب إثارة من نوع ما، تُترجم خطئًا أنها حب. فيرددون عبارات مثل: لم يكن ليصرخ بي لو لم يكن يحبني. وبالطبع هذا خاطيء وغير حقيقي تمامًا.

خاتمة

تعرفنا على نظرية مثلث الحب لستيرنبرج، والعناصر الثلاثة الضرورية التي وضعها لتكامل الحب وتمامه، وهي الحميمية والشهوة والالتزام. بالإضافة إلى أنواع الحب المختلفة التي تنشأ عند وجود عنصر واحد فقط أو اثنين أو لا شيء على الإطلاق. كما تعرفنا على سبع عوامل تؤثر في حدوث الانجذاب الذي يمكن أن يتطور إلى حب. منها ثلاث ذات تأثير واضح وهي التقارب والتشابه والألفة. وأربع أقل وضوحًا وهي تأثير السقوط والانجذاب الجسدي وتأثير المكسب والخسارة واالإسناد الخاطيء للإثارة. لذا ربما حين تجتمع بأصدقائك المرة القادمة، ناقشوا علاقاتكم في ضوء عناصر الحب الثلاث لستيرنبرج، وربما تصدمك النتائج!

اقرأ أيضًا: متلازمة ستوكهولم: تعاطف الضحية مع جلادها

المصادر

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

هذه المقالة هي الجزء 8 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

بينما يجلس كلايف ويرنج يعزف البيانو، تدخل عليه زوجته فيقوم ليحييها بحرارة. وبعد قليل عندما تخرج زوجته لتعد كوبًا من الشاي يعود كلايف إلى عزفه. حينما تدخل الزوجة الغرفة حاملة الشاي يحييها كلايف بنفس الحرارة مجددًا كأنه لم يراها منذ دقائق معدودة. فما تفسير هذا التصرف؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مفهوم الذاكرة واسع ومراوغ للغاية. فلا تشمل الذاكرة معرفتك لاسمك وأحداث حياتك فقط، بل تمتد لتشمل أدق أجزاء المعرفة، منها معرفتك للمشي والوقوف والجلوس والمضغ والبلع. لكن ما هي الذاكرة؟ كيف تعمل ومم تتكون؟ هل يسعنا اختيار ما نتذكره؟ وإذا كانت الإجابة نعم، كيف يحدث ذلك؟ وفي ضوء القصة التي ذكرناها، كيف يحدث النسيان؟ وما تفسير تصرف كلايف ويرنج؟ كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

ما هي الذاكرة؟

يشير مصطلح الذاكرة إلى قدرتنا على الحصول على المعلومات، وتخزينها، وحفظها، ولاحقًا استرجاعها. وذلك عن طريق عمليات ثلاثة وهي: الترميز، والتخزين، والاسترجاع.

كل منها يمثل مرحلة مختلفة لتكوين الذكريات. فتمثل عملية الترميز التجربة التي تمر بها، او النشاط الذي تقوم به، والتخزين هو انتقال المعلومات الى الذاكرة، والاسترجاع هو القدرة على استخراج هذه المعلومات وقت الحاجة. لكننا نمر بمئات التجارب يوميًا ويحيط بنا كميات هائلة من المعلومات، فأيها نتذكره؟ وأيها لا؟ وعلى أي أساس يتم الاختيار؟ والإجابة هي الانتباه.

الانتباه

يشير مصطلح الانتباه إلى قدرتنا على معالجة المعلومات في البيئة المحيطة بنا. فهناك العديد من المؤثرات تحيط بنا دائمًا، مثلما تجلس أنت الآن وتقرأ هذا المقال، ويضغط الكرسي الذي تجلس عليه على جسدك، وتسمع أصوات الجيران، وتشعر بدفء ملابسك، وترى مكونات الغرفة التي تجلس بها. كل هذه مؤثرات تحيط بنا طوال الوقت، لكننا لا ننتبه لها ولا نتذكرها جميعًا. لو حدث ذلك، فسنصاب حتمًا بالجنون.

لذا يأتي السؤال، ما الذي يتحكم في دخول المعلومات الذاكرة؟ والإجابة هي الانتباه. يمكن اعتبار الانتباه بمثابة ضوء مسلط على التجربة التي تمر بها الآن، فيختار الحدث الأهم ويركز عليه ليدخل الذاكرة.

وللانتباه عدة خصائص:

١. محدود:

يمكننا الانتباه لعدد محدود من المحفزات ولفترة محدودة فقط. ويعتمد هذا الأمر على عدة متغيرات منها: وجود عوامل تشتت، ومدى الاهتمام بالمحفز المذكور. ولهذا السبب اعتبر العلماء عملية «تعدد المهام-Multitasking» خرافة لا أساس علمي لها. لأنها ستكلف الشخص وقتا أطول كما تقلل من جودة الانتباه إلى جميع المهام.

٢. اختياري:

يمكننا اختيار الأشياء التي نتنبه لها. لكن لا يحدث هذا دائمًا، فهناك بعض الأشياء التي نتنبه لها تلقائيًا، مثل: معاني الكلمات. فيما يُعرف بـ «تأثير ستروب-Stroop Effect». ولفهمه يمكنك إجراء هذا الاختبار الذي يطلب منك نطق لون الكلمة وليست الكلمة نفسها وتسجيل الوقت الذي يستغرقك لفعل هذا. من هنا

يفسر فارق الوقت بأن معرفتك للقراءة تصعب عليك مهمة نطق الألوان، فأنت تنتبه لمعاني الكلمات تلقائيًا رغم إرادتك لمزيد من الانتباه وجد العلماء أن الخاصية الاختيارية للانتباه مرتبطة بظاهرة شيقة أخرى تعرف باسم «عمى التغير-Change Blindness». ولفهم ذلك سأطلب منك مشاهدة هذا المقطع وعد التمريرات التي يقوم بها الفريق بالزي الأبيض.

الإجابة الصحيحة هي ١٥، لكن هل انتبهت للغوريلا؟ حوالي ٥٠٪ من الأشخاص الذين لم يروا هذا المقطع من قبل وقاموا بالعد لا يلاحظوا الغوريلا. أما الأشخاص الذين لم يقوموا بالعد لاحظوها.

تجربة أخرى أجراها العالم دان سايمونز يختار فيها أحد المشاة بشكل عشوائي ويسأله عن الطريق، وبينما يتحدثان يمر بينهما شخصان يحملان باب ويُستبدل السائل الأول بشخص آخر. وجاءت النتائج أن حوالي ٥٠٪ من الأشخاص لم يلاحظوا تغير السائل مطلقًا. فكيف يحدث هذا؟

يمكننا القول أن الانتباه نافذة ضيقة للغاية، فبينما تركز على شيء معين، تغفل عن الكثير من الأشياء من الأخرى. وهذا أمر طبيعي ومقبول، لأن الذاكرة تعمل وفقًا لحقيقة أن معظم الأشياء تظل على حالها طول الوقت، وليس من الضروري حفظ التفاصيل الدقيقة لكل مشهد، فمن غير المتوقع أن يتبدل الغريب الذي التقيته في الشارع إذا أشحت بوجهك عنه لثوان معدودة. والمغزى العام هنا هو أن إدراكنا للواقع ضئيل ومحدود أكثر مما تعتقد.

مم تتكون الذاكرة؟

عندما تشاهد فيلمًا يتحدث عن فقدان الذاكرة، تجد البطل يتجول في الشوارع شاردًا لا يتذكر اسمه أو أحداث حياته. وهذه هي الصورة التقليدية التي يتبناها البشر عن الذاكرة، ذاكرة السيرة الذاتية. لكن الحقيقة كما أسلفنا أن الذاكرة تشمل معرفتك لأصغر الأفعال مثل المشي والأكل والحديث، وهناك أنواع مختلفة لها: الذاكرة الحسية، والذاكرة قصيرة المدى أو الذاكرة العاملة، والذاكرة طويلة المدى.

كل عملية من عمليات تكوين الذاكرة التي أسلفنا ذكرها -الترميز والتخزين والاسترجاع- تختص بنوع من أنواع الذاكرة الثلاث.

أولًا: عملية «الترميز-Encoding»

بعد انتهاء دور الانتباه، واختياره المعلومات التي ستدخل المخ، يبدأ دور الترميز. والترميز هو عملية تحويل الإشارات/المعلومات القادمة من أعضاء الحس إلى صيغة يستطيع المخ التعامل معها وبالتالي تخزينها. وهناك تلاثة أنواع للترميز:

  • ترميز بصري: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة صور.
  • ترميز سمعي: وهنا تُخزن المعلومة على هيئة أصوات.

وكلاهما يعرف بـ «المعالجة السطحية-Shallow Processing» وتختص بالذاكرة قصيرة المدى.

  • ترميز دلالي: وهُنا تخزن المعلومة على هيئة معاني. فيما يُعرف بـ «المعالجة العميقة-Deep Processing» وتختص بالذاكرة طويلة المدى.

    مثال: عندما تقرأ (ترى) كلمة في كتاب، يخزنها المخ بعد تحويلها إلى صوت أو معنى. الصورة الأولى للكلمة تخزن في الذاكرة الحسية لكنها سرعان ما تتلاشى. أما عند حفظ الكلمة وتكرارها عدة مرات فتخزن كصوت في الذاكرة قصيرة المدى، لكنها أيضًا تتلاشى بعد وقت قصير. وأخيرًا عند معرفة معنى هذه الكلمة فإنها تخزن في الذاكرة طويلة المدى لفترة طويلة جدًا. وهذا يأخذنا إلى المرحلة الثانية من عمل الذاكرة وهي التخزين.

ثانيًا: «التخزين-Storing»

هي عملية تخزين المعلومات لمدة قصيرة تصل إلى ثلاثين ثانية فقط في الذاكرة قصيرة المدى عن طريق التكرار (الاحتفاظ بالصوت أو الصورة). أو لمدة طويلة قد تصل إلى عمر كامل في الذاكرة طويلة المدى عن طريق الترميز الدلالي (الاحتفاظ بالمعنى). وتتأثر عملية التخزين بعوامل أخرى مثل: كمية المعلومات المخزنة ونوعها وكذلك مدة ومكان تخزينها.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

مكان التخزين نوعان:
الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى وهناك العديد من الدراسات التي توضح الفرق بينهما:

الذاكرة طويلة المدى

لدى الذاكرة طويلة المدى مساحة تخزين هائلة. فتتضمن مثلًا جميع كلمات اللغة(٦٠-٨٠ كلمة) ،ووجوه وأسماء جميع الأشخاص اللذين تعرفهم، والأماكن التي تتردد عليها، والكتب التي تقرأها، والأغاني التي تسمعها وغيرها الكثير، وهذه كمية معلومات هائلة. حتى الآن لم يستطع العلماء حصر المساحة الكاملة للذاكرة طويلة المدى.

الذاكرة قصيرة المدى

أما عن الذاكرة قصيرة المدى فهي محدودة للغاية مقارنة بنظيرتها. فلا تحمل من يزيد عن تسع قطع أو Chunks. والقطعة هي المصطلح الذي أعطاه عالم النفس جورج ميلر لوحدات التخزين الرئيسية للذاكرة. مثال: l a m a i s o n كل حرف من هذه الحروف يمثل قطعة أو Chunk، وإذا لم تستطع تكوين كلمات منها فستراها كسبع قطع منفردة. أما إذا كنت تعرف الفرنسية فستراها كقطعتين فقط، كلمة la وكلمة maison بمعنى المنزل.

وبالطبع يصبح تذكرها في هذه الحالة أسهل. وهنا يمكننا القول أن مقدار المعرفة يؤثر على مقدار ما نتذكر. لأنه يؤثر على ما يمكن احتسابه كقطعة/وحدة تخزين في الذاكرة، وهذا يظهر في «تأثير الخبراء-Expertise effect».

يظهر تأثير الخبراء في أحد التجارب التي أُجريت على مجموعة من المبتدئين والخبراء في لعبة الشطرنج. عُرضت عليهم اللوحة لعدة ثوان، وقطعها مرتبة بترتيب معين لاستراتيجية معروفة لممارسي اللعبة، ثم طُلب منهم إعادة ترتيبها بأنفسهم. استطاع الخبراء فعل هذا الأمر بسهولة بينما تعثر المبتدئين ووقعوا في بعض الأخطاء. وعند إعادة التجربة بترتيب القطع ترتيبًا عشوائيًا لا يشبه أي استراتيجية مألوفة. تعثر كل من الخبراء والمبتدئين في إعادة الترتيب.

وتؤكد هذه التجربة أن زيادة المعرفة وإضفاء المعنى والمنطق على المعلومة يساهم في تذكرها وسهولة تخزينها. رجوعًا إلى الذاكرة طويلة المدى، كيف تنتقل المعلومات من تذكرها لعدة ثوانٍ فقط (الذاكرة قصيرة المدى) إلى الاحتفاظ بها لعمر كامل (الذاكرة طويلة المدى)؟

ذكرنا أن الممارسة أو تكرار المحفز داخل رأسك مرارًا وتكرارًا يُمكنك من الاحتفاظ به في الذاكرة قصيرة المدى. فيظل الأمر عالقًا داخل رأسك طالما تكرره، لكنه لا يترسخ في الذاكرة طويلة المدى. تحتاج المعلومات إلى التنظيم والمعنى لكي تترسخ فيها. بمعنى أنه كلما فكرت في الأمر بشكل أعمق، كلما أكسبته المعنى والمنطق فيما عرفناه بالمعالجة العميقة، صار تذكره أسهل.

ثالثًا: عملية «الاسترجاع-Retrieval»

وكما يوضح الاسم تختص هذه العملية باسترجاع المعلومات المخزنة.

وتنقسم عملية الاسترجاع إلى مرحلتين:

أولًا «الاستعادة-Recall» وهي استخراج الذكرى فقط.
ثانيًا «الادراك-Recognition» وهو إدراك معنى الذكرى، وما كانت تتناظر معه في الماضي.

ويحدث الاسترجاع بشكل أساسي عن طريق «دلالات الاسترجاع-Retrieval cues» وهي إشارات ترتبط بالأمر الذي تحاول تذكره، فعندما تدعو شخصًا لموعد غداء ثم تراه صدفة، تتذكر هذا الموعد. وهذه الحالة (عندما يتماثل السياق الذي حدث فيه ترميز المعلومة واسترجاعها) تُعرف بمبدأ التوافق.

بمعنى أنك تتذكر الأشياء بشكل أفضل في السياق الذي تعلمته بها. فيما يعرف أيضًا بـ «الذاكرة المعتمدة على السياق-Context dependent memory» و«الذاكرة المعتمدة على الحالة-State dependent memory».

مثال: -من المرجح أنك ستتذكر المعلومات بشكل أفضل في امتحانك النهائي، إذا حضرته في نفس القاعة التي حضرت فيها محاضراته. لأن وجودك في نفس الغرفة سيعيد إليك دلالات الاسترجاع.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء تحت تأثير المخدرات (تأثير منخفض لا يؤثر على النشاطات العقلية الأخرى) يتذكرونها بشكل أفضل وهم تحت تأثير المخدرات مجددًا لا في حالتهم الواعية. هذا الأمر ينطبق أيضًا على شرب الكحوليات.

-الأشخاص اللذين يتعلمون أشياء وهم في حالة اكتئاب، أكثر قدرة على تذكره وهم في نفس الحالة المزاجية لا في حالتهم الطبيعية. وهنا توضح لنا هذه الأمثلة أن جزء كبير من استرجاع المعلومات يعتمد على استرجاع السياق الذي تم ترميزها به.

عندما تخفق الذاكرة- النسيان

تحدثنا عن العالم من حولنا ودور الانتباه في انتقاء المعلومات البارزة أما إراديًا أو لا إراديًا لكي تدخل المخ. وكيف تتم معالجة المعلومات في المخ من ترميز وتخزين واسترجاع. لكن يبقى مسار آخر لم نتحدث عنه وهو النسيان، ليس كل ما نتذكره نحتفظ به للأبد.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

كيف يحدث النسيان؟

النسيان نوعان:

النسيان الطبيعي

الذي يحدث بمرور الزمن وتغير الأشياء وله أسبابه:

أحد التفسيرات أن المخ شيء مادي، وجميع الأشياء المادية تتلف مع الوقت، كذلك مسارات المخ فيحدث النسيان.

الإجابة الثانية هي التداخل. تزداد صعوبة استرجاع المعلومات عندما يتعلم الشخص معلومات أخرى مشابهة لها. لذا يمكن القول أن قدرة الشخص على التعلم تضعف عندما يتعلم المزيد من الأشياء المتصلة بها، بسبب حدوث التداخل أو ارتباك داخل الذاكرة. بسبب تغير دلالات الاسترجاع: كلما مر الوقت كلما تغير العالم، وبما أن التذكر يعتمد بشكل كبير على دلالات الاسترجاع، فكلما تتغير أو تقل يحدث النسيان.

النسيان الذي يحدث بسبب تلف المخ.

مثل: «فقدان الذاكرة الرجعي-Retrograde amnesia» وهو فقدان جميع ذكريات الماضي، وقد يحدث نتيجة صدمة في الرأس فيفقد الشخص جميع ذكريات ذاكرته العرضية/ذاكرة السيرة الذاتية المختصة بأحداث حياته، وهذه هي الصورة التقليدية لفقدان الذاكرة كما ذكرنا.

«فقدان الذاكرة التقدمي-Anterograde amnesia» وهو فقدان القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة، والمثال الأشهر على ذلك هو كلايف ويرنج الذي ذكرناه في بداية المقال.

ويرنج موسيقي بريطاني أُصيب يومًا بفيروس الزهري، الذي انتقل إلى مخه وأحدث تلفًا في الحصين وهو الجزء المختص بالذاكرة. فقد ويرنج ذاكرته الرجعية باستثناء بعض الأحداث المهمة مثل حبه لزوجته وامتلاكه لأولاد لا يذكر أسمائهم وكيفية لعب البيانو. وفقد ذاكرته التقدمية ففقد القدرة على تكوين أي ذكريات جديدة وعاش في حاضر دائم. لذا ينسى أنه رأى زوجته منذ دقائق معدودة فيحييها كأنه يراها أول مرة، وينسى أنه استيقظ من النوم فيقضي يومه في الاستيقاظ مجددًا كل بضعة دقائق!

يُفسر عدم نسيان ويرنج لكيفية لعب البيانو إلى أن هذا الفعل يُخزن في «الذاكرة الاجرائية-procedural memory» من الذاكرة طويلة المدى، وهذا الجزء من المخ لم يُصب بأذى. فبينما تتذكر أصابعه كيفية اللعب تغيب عن ذاكرة ويرنج أية ذكرى لتعلمه العزف. واعتبر العلماء حالة كلايف ويرنج من أشد حالات فقدان الذاكرة التي عرفتها البشرية على مر التاريخ.

كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟

والآن إذا نجح هذا المقال في الاستحواذ على انتباهك، واستطاعت بعض معلوماته اجتياز حاجز الترميز والتخزين ووصلت بمساعدة المعنى والمنطق إلى الذاكرة طويلة المدى. فلا تنسى حديثنا عن الانتباه ورؤيته المحدودة للواقع بأفكارنا ومشاعرنا وتفضيلاتنا. كذلك كيفية صنع الذكريات، والعمليات الثلاثة التي تمر بها المعلومات لتصنع ماضينا وحاضرنا. وأخيرًا النسيان كناتج طبيعي لتغير المخ والعالم. وحالة كلايف ويرنج الشهير الذي يعيش في حاضر دائم.

اقرأ أيضًا: التحيز المعرفي والاستدلال: كيف يمكن لعقولنا أن تخدعنا؟

مصادر ( كيف تعمل الذاكرة؟ وكيف يحدث النسيان؟ ):

1- simplepsychology
2- psychology.wikia.
3– /psychology.wikia

متلازمة الرأس المنفجر : أصوات تحرمك النوم

يشكّل النوم حوالى ثلث حياتنا البشرية، وهو حاجة جسدية أساسية تكاد تفوق في أهميتها المأكل والمشرب. فالنوم لا يلبّي فقط حاجتنا للاسترخاء والراحة، بل هو يؤمن التوازن في وظائف الدماغ وأعضاء الجسم، وأي خلل يصيبه يؤثر على الصحة الجسدية والنفسية. لذلك أبدت العلوم الطبية اهتمامًا أكبر باضطرابات النوم، وواحدة من هذه الاضطرابات هي متلازمة الرأس المنفجر. وهي متلازمة غريبة تعرقل النوم بهلوسات صوتية مرعبة. فما هي أعراض متلازمة الرأس المنفجر؟ ومن يُصاب بها؟

ما هي متلازمة الرأس المنفجر؟

متلازمة الرأس المنفجر، التي تُعرف بالانكليزية ب«Exploding Head Syndrome» أو EHS، هي اضطراب في النوم نتيجة هلوسات سمعية تحدث عند الانتقال من حالة الصحو إلى حالة الغفو أو العكس، وتكون الأصوات المُهَلوسة غالبًا قوية ومزعجة جدًا، ورغم أنها في العادة تكون غير مؤلمة، غير أنها قد تحمل تأثيرًا كبيرًا على حياة الفرد وتتطلّب في هذه الحالة تدخلًا طبيًا.

وُصفت الحالة الأولى من المتلازمة في عام 1920 من قِبل الطبيب البريطاني روبيرت أرمسترونغ – جونز. وتم استخدام كلمة “الرأس المنفجر” لأول مرة في عام 1989 من قبل بيرس الذي وصف حالة 40 شخص يشعرون بالأعراض نفسها.

ما هي أعراض متلازمة الرأس المنفجر؟

بحسب التصنيف الطبي الدولي لاضطرابات النوم (International Classification of Sleep Disorders- 3rd edition)، يتضمّن تشخيص متلازمة الرأس المنفجر ثلاثة أعراض أساسية:

– سماع صوت مفاجئ أو الاحساس بانفجار مصدره الرأس في أول فترات النوم أو عند فترات الاستيقاظ في الليل.
– الاحساس بقلق وخوف شديدين (يكون مصحوبًا عادةً بسرعة في دقات القلب وفي سرعة وقع التنفس).
– عدم الإحساس بالألم.

تختلف الأصوات المُهَلوسة بين الأشخاص المُصابين بالمتلازمة وقد تم تشبيهها من قِبلهم ب: صوت انفجار قوي، أو صوت إطلاق نار، أو دوي الرعد، أو زئير حيوان مفترس، أو صوت إغلاق باب بعنف، أو صوت صرخات بعيدة، أو أصوات أزيز التيار الكهربائي وغيرها من الأصوات. وهي غالبًا تدوم للحظات قليلة.

تكون هذه الأصوات مصحوبة أحيانًا بهلاوس بصرية (كتوهّم وجود ضوء قوي أو ومضات سريعة من الضوء)، وتشنّج في بعض العضلات خصوصًا في عضلات الأطراف.

ويشعر الفرد بعدها بأعراض تشبه نوبة الهلع ك الاحساس بالخوف الشديد وعدم القدرة على التنفس وتسارع ضربات القلب والتعرق وغيرها. وهي بالتالي تعطل النوم في كثير من الأحيان.

متلازمة نادرة أو شائعة؟

لا يوجد دراسات كافية لتأكيد مدى شيوع متلازمة الرأس المنفجر. ففي حين يعتبر البعض أنها متلازمة نادرة، يرى آخرون أنها في كثير من الأحيان تبقى بلا تشخيص، لذلك قد تكون أكثر شيوعًا ممّا نعتقد. وقد أثارت بعض الدراسات الحديثة الصدمة بعد أن بيّنت انتشار متلازمة الرأس المنفجر عند الطلاب الجامعيين.

 وقد يكون السبب في هذا التباين هو اختلاف عدد نوبات المتلازمة بين الأشخاص، بين نوبة واحدة خلال عدة أشهر (في هذه الحالة تبقى بلا تشخيص ولا تتطلّب العلاج)، وبين عدة نوبات في الليلة الواحدة (حينها تحتاج للعلاج).

تُصيب المتلازمة الأشخاص من كل الأعمار، لكنها أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين بلغوا الخمسين عامًا أو أكثر.

ما هي أسباب المتلازمة؟

لا تزال أسباب المتلازمة المجهولة، لكن تمّ طرح عدة نظريات لتفسيرها. أولها تفترض خلل في عمل التشكل الشبكي في الدماغ، وهو مسؤول عن تنظيم ايقاع النوم. فيؤدي هذا الخلل إلى نشاط دماغي زائد في الفترة الانتقالية بين اليقظة والنوم، فيخلق هذه الهلوسات السمعية. نظرية أخرى تفترض وجود نوبات جزئية في الفص الصدغي. هذه النظريات وغيرها تفترض أن المشكلة تكمن في إحدى وظائف الدماغ.

لكن هناك نظريات أخرى تعتبر أن المتلازمة قد تكون ناتجة عن أمراض في الأُذُن، خصوصًا في الأذن الوسطى والداخلية.

تجدر الإشارة إلى أن المتلازمة قد تكون مرتبطة بالتوتر والقلق. وهي أكثر شيوعًا عند الأشخاص الذين يظهرون مشاكل واضطرابات سابقة في النوم.

ما هو علاج متلازمة الرأس المنفجر؟

تختلف حاجة الأشخاص المُصابين بمتلازمة الرأس المنفجر بحسب عدد النوبات التي يشعرون بها.

فإذا كانت النوبات نادرة (مرة واحدة كل عدة أشهر مثلًا)، يكتفي العلاج بمعرفة الفرد بأن الذي يعاني منه هو متلازمة مشخصة، وتصيب أشخاصًا آخرين وهي لا تشير إلى خلل نفسي أو مرض دماغي خطير. ويُنصح إجمالًا بالتخفيف من حدة التوتر والقلق خصوصًأ قبل النوم، ومحاولة تنظيم أوقات النوم.

أما إذا كانت النوبات كثيرة (أكثر من مرة في أسبوع واحد أو في ليلة واحدة)، فهي في هذه الحالة تؤثر بشكل كبير على كمية ونوعية النوم الذي يحصل عليهما الشخص، وبالتالي على إنتاجيته ووظائفه النفسية والجسدية. من هنا، تظهر أهمية التدخل العلاجي الذي يتضمن في العادة أدوية معينة كمضادات الاكتئاب وأدوية الصرع وغيرها، وتكون فعالة غالبًا إلى حد اختفاء الأعراض نهائيًا.

رغم أن متلازمة الرأس المنفجر غير خطيرة، غير أنها لا شك تجربة تثير الخوف والقلق عند من يُصاب بها. وعلى الرغم من أن التقدم الطبي جعلها سهلة العلاج، لكن تبقى التوعية عنها مهمة لتشجيع الأشخاص المُصابين بها لفهم حالتهم وتلقي المساعدة التي تلزمهم لتخطيها.

المصادر:

NCBI
Journal of Clinical Sleep Medicine
Wiley Online Library
Science Direct

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

كيف يحدث إدراك الصور؟ ولماذا نقع بسهولة تحت تأثير الخداع البصري؟ سنتحدث اليوم عن جانب آخر مثير للإهتمام من الحياة العقلية البشرية، وهو الإدراك. ما الإدراك؟ كيف نتعرف على العالم من حولنا؟ وهل كل ما نراه حقيقيًا؟

دعونا نبدأ حديثنا بهذه الجملة: أيًا كان ما تراه أمامك حاليًا وتظنه حقيقيًا، فأنت على الأغلب مخطيء حياله، أو دعنا نقول (واهم)!

ما الإدراك ؟

الإدراك هو قدرة المخ على إيجاد المعنى فيما تختبره الحواس. فيدرك الشخص ماهية الأشياء والأشخاص من حوله. فيمكنه التمييز بين وجه صديقه وغريمه، ويدرك الفرق بين رائحة العطر والحريق! وعملية الإدراك تحدث بشكل لا واعي كما أنها ليست محايدة على الإطلاق. فيتأثر إدراكنا للعالم بالمعرفة والخبرة والمعايير الثقافية وحتى الحالة المزاجية.

عند دراسة الآلات والروبوتات، وُجد أن جميع المحاولات لصنع آلة تستطيع إدراك الأشياء فشلت فشلًا ذريعًا. فلا يوجد آلة على الأرض تستطيع التعرف على الأشخاص والأشياء بمستوى طفل ساذج بعمر السنة الواحدة. فما سبب هذه الصعوبة؟

دعونا نشرح الأمر من البداية، هناك العين، وهناك الشبكية الحساسة للضوء التي تقع في الجزء الأعمق من العين. عندما يصطدم الضوء المنعكس من البيئة حولنا بالشبكية، تستقبل خلاياها الضوء وتحوله إلى إشارات كهربية/نبضات عصبية تنتقل إلى الدماغ. حيث يحدث الإدراك. لكن هنا تظهر مشكلة جديدة. كيف يمكن للشبكية إدراك الأشكال والأجسام من حولنا؟

عبقرية الشبكية

الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، ويرى البشر العالم من حولهم بشكل ثلاثي الأبعاد. وهذا الأمر (أن تختبر العالم من حولك بشكل ثلاثي الأبعاد مستخدمًا سطحًا ثنائي الأبعاد) مستحيل رياضيًا. إلا أنه حقيقي وحي فينا، فكيف يحدث؟

الحقيقة أن رؤية البعد الثالث: العمق -وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا- خدعة من المخ. حيث ترسل كل عين نسختها -ثنائية الأبعاد- إلى المخ، الذي يستخدم بعض الدلالات أو الافتراضات ليكون نسخته ثلاثية الأبعاد عن العالم. ويستخدم المخ هذه الدلالات بشكل لا واعي، وهي لا تختص بإدراك العمق فقط بل بإدراك الألوان والأجسام أيضًا.

وما يعنيه هذا أن المخ هو المسئول بشكل كامل عن الإدراك وبالتالي تكوين الصورة ثلاثية الأبعاد. أما العينان فهما مصادر خام للبيانات فقط. وهذه البيانات ليست ما نراه فعليًا. ما نراه فعليًا يحكمه المخ (بمعرفته وخبراته وخلفيته الثقافية وحالته المزاجية) وليس العينان.

أولًا: إدراك الألوان

العين البشرية مدهشة في رؤية الألوان. فيمكن للشخص العادي التمييز بين ما يقرب من مليون درجة لون مختلفة. ولا يرتبط تمييزنا لأبيض الثلج وأسود الفحم مثلًا بالمادة التي تكون كل منهما فقط. ولكن بكمية الضوء المنعكس عن كل منهما أيضًا. وهو ما يجعلنا نرى شخص يتحرك من النور إلى الظل دون أن نهلع ونعتقد أنه شخص آخر! بل تدرك عقولنا -وبشكل تلقائي- أنه مازال نفس الشخص.

ثانيًا: إدراك الأجسام

برمجة حاسوب يستطيع التمييز بين عدة أشكال مختلفة أمر صعب للغاية. وأحد الإجابات المقترحة لطريقة تعرف البشر على الأجسام المختلفة هي «التقسيم- Segmentation».

ويحدث التقسيم عن طريق عدة دلالات في الطبيعة ترشد المخ أنه يتعامل مع أشكال مختلفة. وهذه الدلالات تعرف باسم «مباديء الجشطالت-Gestalt principles». كل منها موضح في الصورة التالية:

  • «الإغلاق-Closure» بمعنى أننا نميل إلى ملأ الفراغات، ورؤية العناصر في أشكال كاملة. عوضًا عن أجزاء متفرقة.
  • «التقارب-Proximity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر القريبة من بعضها في مجموعة واحدة.
  • «الاتصالية-Continuity» بمعنى أننا نربط بين العناصر التي تتبع خطًا أو منحنى واحدًا. على عكس العناصر التي لا تتبع نمطًا معينًا.
  • «التشابه-Similarity» بمعنى أننا نميل لوضع العناصر المتشابهة في مجموعة واحدة، كما نعتقد أن لديهم نفس الوظيفة.
  • «الشكل/الخلفية-Figure ground» بمعنى أننا نميل تلقائيًا لتحديد العناصر وفصلها عن عن الخلفية المحيطة بها.

وباستخدام هذه المباديء/الدلالات يحول المخ المعلومات البصرية غير المألوفة إلى صور أكثر منطقية وقابلة للإدراك والفهم. فتتحول الصورة من مجرد عدة مكونات متفرقة لا رابط بينها إلى لوحة متكاملة ذات معنى.

ثالثًا: إدراك العمق

ندرك بواسطة العمق مسافة الأشياء وشكلها الحقيقي. وذكرنا قبل قليل أن الشبكية سطح ثنائي الأبعاد، وأن إدراك البعد الثالث -العمق- يحدث في المخ. باستخدام عدد من الدلالات المثيرة للاهتمام. وتنقسم هذه الدلالات إلى:

  • «دلالات ثنائية العينين-Binocular Cues» ومنها:

«التفاوت الشبكي-Retinal Disparity». وهي دلالة العمق الوحيدة التي تتطلب استخدام العينين. وما يحدث أنه نتيجة لبعد العينين عن بعضهما بحوالي ٦ سم، تختلف الصورة في كلا الشبكيتين اختلافًا بسيطًا. ويستخدم المخ هذه الدلالة ليحكم على المسافة. فكلما قَرُب الجسم، كلما زاد الاختلاف بين الصورتين والعكس صحيح. ويمكنك رؤية التفاوت الشبكي بوضوح عندما تضع اصبعك مباشرة أمام عينيك. فتراه اثنين وليس واحدًا.

  • «دلالات أحادية العينين-Monocular Cues» وهي الدلالات التي تتطلب استخدام عين واحدة. وتساعد في تحديد مسافات الأجسام البعيدة ومقاسها. ومنها:

– «الحجم النسبي-Relative size» وهنا يستخدم المخ حجم الأجسام لتحديد مسافتها. فعند مقارنة جسمين من نفس الحجم تقريبًا، سيظهر الجسم الأقرب أكبر حجمًا من الجسم الأبعد.
– «المنظور الخطي-Linear Perspective» وهنا يرى المخ أنه كلما اقترب خطان متوازيان من بعضهما. كلما زادت المسافة.
– «التداخل-Interposition» ويحدث هذا عندما يحجب جسم جزءًا من جسم آخر. فيرى المخ الجسم الذي يظهر بشكل كامل (غير المحجوب) أقرب من الجسم المحجوب.
– «تدرج النسيج-Texture gradient» وهو ما يحدث حينما تراقب حقلًا ممتدًا، فتتلاشى تفاصيل شكل العشب بابتعاد المسافة. وتظهر التفاصيل واضحة بالقرب منك.

اقرأ المزيد عن عملية الرؤية وتفسيراتها

لا تثق في كل ما تراه!

رغم دقة عمل هذه الدلالات التي سبق وسردناها. والتفاصيل الصغيرة التي تختص بها كل منها. إلا أنه لا يمكننا الثقة بها دائمًا، فهناك حالات حيث تخدعنا جميعًا. وهنا يظهر مفهوم «الخداع البصري-Optical illusion».

يحدث الخداع البصري عن طريق ترتيب الأشكال أو تغيير الألوان أو الإضاءة بشكل معين، مما يضلل المخ فيرى ما ليس حقيقيًا. وللخداع البصري أمثلة كثيرة منها:

  • «خداع ميولر لاير-Muller lyer illusion» وهو عبارة عن خطين كما بالصورة. فأيهما أطول؟

إذا كنت مثل أغلب الناس ستكون إجابتك ان الخط العلوي أطول. أما الحقيقة أن الخطين متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك عن طريق دلالات العمق: يحتل الخطان نفس المسافة على شبكية عينك. لكن رغم ذلك يظهر أحدهما أطول من الآخر، لأنه هناك خطوط أخرى في الصورة تجعل مخك يصنع تخمينات عن المسافة. فيعطي السهم الذي يشير للخارج إيحاء أنه يقع على مسافة أبعد من السهم الذي يشير للداخل، وبالتالي يستنتج المخ أنه لا بد للخط الأبعد أن يكون أكبر حجمًا من الخط الأقرب.

  • «خداع بونزو-Ponzo illusion»

وهنا يظهر خطان أيضًا، وعلى الأغلب سترى الخط العلوي أطول من الخط السفلي. لكنهما في الحقيقة متماثلان. فما التفسير؟

يمكن تفسير ذلك في إطار دلالة المنظور الخطي التي سبق وشرحناها. فنجد الخطين المتوازيين يقتربان من بعضهما في حالة الخط العلوي مما ينبه المخ أن المسافة هنا أبعد. وبالتالي لا بد أن يكون حجم الخط أكبر.

نسختك المميزة عن العالم

في الختام، يمكننا القول أن عملية الإدراك البشري بالغة التعقيد. وأنه لكي تنظر إلى وجه صديقك وتعرف أنه صديقك -لا مجموعة أشكال غير مترابطة أو مألوفة- يبذل مخك الكثير من المجهود. فتتعاون الشبكية المدهشة مع خلايا المخ لتكوين الصورة الكاملة في جزء من الثانية. صورة تدرك فيها الجسم ولونه وحجمه وبعده وحركته. صورة مميزة يستخدم فيها عقلك البيانات الخام ثم يضفي عليها المعنى والسحر. لترى العالم بطريقة لا يراها أحد غيرك، فتتكون نسختك المميزة عن العالم!

المصادر

  1. britannica
  2. lumenlearning
  3. verywellmind
  4. verywellmind
  5. newworldencyclopedia

متلازمة سلامة الهوية الجسدية : أريد أن أبتر ساقي

“لا تكتمل سلامة جسدي إلا من خلال نقصها”.

تختصر هذه الجملة متلازمة سلامة الهوية الجسدية. فما هي هذه المتلازمة؟ وما هي أسبابها؟

ما هي متلازمة سلامة الهوية الجسدية؟

هي متلازمة نفسية نادرة ناتجة عن اختلاف بين صورة الجسد العقلية والجسد المادي، تجعل الشخص المُصاب بها يرغب ببتر أو تعطيل أحد أعضائه أو يرغب بالشلل. تصيب عادةً الأشخاص منذ مرحلة الطفولة، وفي كثير من الأحيان تصل حالتهم إلى مرحلة خطرة تتضمن محاولات لإيذاء النفس أو إجراء عملية جراحية للبتر.

تاريخ المتلازمة

وُصف اضطراب سلامة الهوية الجسدية لأول مرة عام 1977، من قِبل الباحث في علم النفس و علم الجنس «جون نوني-John Money». وقد سُميت وقتئذٍ بال«أبوتيمنوفيليا-Apotemnophilia»، وهي تعني بالإغريقي “حب القطع/ البتر”. وبيّن موني في دراسته أن الأشخاص المُصابين بمتلازمة سلامة الهوية الجسدية ينجذبون جنسيًا الى أشخاص مشلولين أو مبتورين أو حتى إلى أغراض معينة مرتبطة بالإعاقة الجسدية كالكرسي المتحرك والعكاز والأطراف الاصطناعية. لذلك اعتُبرت متلازمة الهوية الجسدية نوع من ال«بارافيليا-Paraphilia» التي كانت تُعرف باسم الانحراف الجنسي.

يقترح أيضًا تسميتها بالxenomelia.

عام 1997، قام الطبيب ريتشارد برونو المتخصص في الأمراض الجسدية-النفسية بدراسة متلازمة سلامة الهوية الجسدية، وصنف الأشخاص المُصابين بها إلى ثلاثة أنواع:

1) الأشخاص الذين يرغبون البتر رغبةً بالإعاقة الجسدية نفسها، وتكون رغبتهم غير مرتبطة بهواماتهم الجنسية.
2) الأشخاص الذين يتظاهرون بالإعاقة الجسدية (من خلال استخدام كرسي متحرك مثلاً) ويقصدون الحصول على الانتباه.
3) الأشخاص الذين يُثارون جنسيًا بالجسد المبتور/المشلول، لذلك يرغبون بالظهور بهذا الشكل الجسدي.

حالياً، يُعتقد أن الأبوتيمنوفيليا هي اضطراب في الهوية، لذلك أصبح الاسم الأكثر شيوعًا لها هو متلازمة “سلامة الهوية الجسدية”.

أعراض المتلازمة

تبدأ عادةً الإشكالية الجسدية بالظهور منذ الطفولة. وقد يقوم الطفل بمحاولات لإيذاء الطرف الذي يرغب ببتره.

العارض الوحيد الذي يظهر هو الرغبة الحقيقية ببتر طرف معين، أو الشلل (من خلال قطع الحبل الشوكي) أو تعطيل عضو معين (مثل العيون مثلًا) بهدف خلق إعاقة جسدية. فيشعر الشخص المُصاب بالمتلازمة أن عضو معين بشع، ومن خلال التخلص منه يحصل على جسد أجمل. وأحيانًا يشعر بخط فاصل (بين العضو الذي يرغب ببتره و باقي جسده) يؤلمه.

وقد يحاول بكل الوسائل تحقيق رغبته من خلال إما إقناع الطاقم الطبي بالقيام بعملية بتر أو يقوم بها بنفسه (مثلًا اطلاق النار على قدمه، نشر يده بالمنشار، وضع مواد كيميائية مؤذية في عيونه،…).

أسباب متلازمة سلامة الهوية الجسدية

تصعب دراسة متلازمة سلامة الهوية الجسدية كونها نادرة في العالم، ولصعوبة تشخيصها كونها غير مصنفة في الدلائل التشخيصية العالمية المُعتمدة من قبل الأطباء النفسيين. لذلك لم تُدرس بشكل كبير الأسباب المؤدية لها.

ترتبط المتلازمة عادةً بأمراض نفسية أخرى: اضطرابات المزاج،  واضطراب القلق، واضطرابات الأكل، وتعاطي المخدرات وغيرها. لكن هذه الأمراض لا تُعتبر مسببة للمتلازمة.

تُظهر صور الرنين المغناطيسي أن الأشخاص المصابين بالمتلازمة يظهرون خللًا في الفص الجداري من الدماغ. فيكون الفص الجداري أقل نشاطًا ويحمل كمية أقل من المادة الرمادية الدماغية. من الجدير بالذكر أن الفص الجداري هو المسؤؤل عن تكوين صورة الجسد العقلية، وبالتالي أي خلل في هذه المنطقة الدماغية يؤدي إلى اضطراب في الهوية الجسدية.

علاج المتلازمة

لم ينجح أي علاج دوائي أو نفسي حتى الآن بمعالجة هذه المتلازمة. ولكن العلاج النفسي يساهم في فهم الشخص المصاب لحالته المرضية.

الطريقة الوحيدة لعلاج الرغبة الحقيقية بالبتر هي بتحقيقها! وقد خلقت هذه الطريقة “العلاجية”  جدلًا كبيرًا في المجال الطبي النفسي، بين اعتبار الشخص المصاب مستقل في قراره ومسؤول عن هذا القرار أو اعتباره مريضًا نفسيًا غير قادر على أخذ قرار يؤدي إلى إعاقته.

ولكن تجارب عدة مع أشخاص مصابين بالمتلازمة المذكورة أثبتت أنهم يرضون تمامًا بعد إجراء عملية البتر، ولا يبدون أي ندم حتى مع الصعوبات التي تنتج عن الإعاقة بعد العملية.

متلازمة سلامة الهوية الجسدية واحدة من أكثر المتلازمات غرابةً، ولا شك أنها تستحق تصنيفًا طبيًا واضحًا، تساهم في تعميق الدراسات حولها، وتبيان أسبابها ووسائل علاجها. ولكنها تثبت أن، في بعض الأحيان، الجسد السليم في الدماغ السليم.

المصادر:

Taylor and Francis Online
NCBI
Independant
Research Gate

Exit mobile version