حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

هذه المقالة هي الجزء 4 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

حرية الإرادة والحتمية في الفلسفة

يعد موضوع حرية الإرادة من المواضيع القديمة في الفلسفة، ومثلها فكرة الحتمية. وقد شكّلت الحرية على مر التاريخ معضلة للكثيرين، طرح فيها العديد من الفلاسفة آراءهم وتحليلاتهم. فالبعض يرى أننا نحن البشر نتمتع بالحرية في تصرفاتنا واختياراتنا. في حين يرى البعض الآخر أننا محكومون بحتمية الكون الذي يسير وفق خطة محددة تشترك فيها جميع العناصر، بما فيها نحن البشر.

لا تكمن المشكلة فقط في الخلاف على مدى حرية البشر في إرادتهم أم حتمية مصيرهم. بل تقود هذه البداية إلى مسألة أشد تعقيداً، وهي المسؤولية الأخلاقية. فما هي درجة المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها البشر تجاه أفعالهم؟ وكيف تتغير هذه الدرجة عند الأخذ بوجهة نظر الحتمية دوناً عن حرية الإرادة؟ [1]

سنستعرض في هذا المقال بعضاً من الأفكار والتحليلات لمسألة حرية الإرادة وعلاقتها (أو عدم علاقتها!) بالحتمية، إضافة إلى ارتباطها بالمسؤولية الأخلاقية.

حرية الإرادة (Free Will)

تنطوي حرية الإرادة على حرية المرء في اتخاذ القرار بالأفعال التي يقوم بها. وفقاً لديفيد هيوم (David Hume) وتوماس هوبز (Thomas Hobbes)، تعني الحرية عدم وجود عوائق خارجية تمنع المرء من القيام بما يريد. ويمكن توسيع هذا إلى افتراض أن الحرية هي عدم إجبار الشخص على القيام بما لا يريد. فامتلاكنا لحرية الإرادة يؤدي إلى حريتنا في اختيار الأفعال التي نقوم أو لا نقوم بها. أي يربط كل من هيوم وهوبز حرية الإرادة بحرية الأفعال [2].

من الاعتراضات التي واجهت هذا الرابط هي أنه يمكن للمرء أن يكون حراً باختيار أفعاله، لكن قد يحدث ما يمنعه من القيام بهذه الأفعال. فالعوائق الخارجية التي قد تمنع الشخص من القيام بنشاط محدد لا تلغي حرية هذا الشخص باختياره للقيام بهذا النشاط أصلاً. فمثلاً، يمكن لأحد ما أن يختار الذهاب في نزهة، ولكن الطقس يمنعه من تنفيذ هذا الفعل. فهذا الشخص كان حر الإرادة باختيار ما سيفعله. أي أنه قرر بكامل إرادته أنه يرغب بالذهاب في نزهة. ولكن عوامل الطقس منعته من تنفيذ هذا العمل. لكن هذه الإشكالية التي يراها البعض في الربط بين حرية الإرادة وحرية الأفعال تتوقف على كيف نعرّف حرية الإرادة بالأصل [2].

الحتمية (Determinism)

الحتمية هي النظرة التي تربط الأمور في الكون بعلاقة سببية. فمن وجهة النظر هذه، لا يحدث شيء ما إلا ويكون وراءه سبب محدد أدى إلى حدوثه، قد يكون هذا السبب مباشراً أو غير مباشر. ولكن العلاقة بين جميع العوامل هي التي تؤدي إلى حدوث هذا الأمر بعينه دوناً عن سواه. وفقاً للحتمية السببية، يتحدد مسار المستقبل بأكمله وفق ما حدث في الماضي وحسب قوانين الطبيعة. فمثلاً إذا وقعت أحداث الماضي بطريقة معينة ورافقتها قوانين الطبيعة بصيغة معينة، سيؤدي اجتماع كل من هاتين القوتين إلى مسار وحيد للمستقبل لا يمكن أن يحيد عنه. وهذه هي حتمية المستقبل التي سببتها عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. ولكن الحتمية لا تنطوي على ضرورة توقع المستقبل. إذ يمكن للمستقبل أن يكون محتوماً بعوامل الماضي وقوانين الطبيعة دون أن يكون باستطاعة أحد أن يتوقعه [2].

لكن النتيجة التي تقودنا إليها الحتمية هي أننا غير قادرين على امتلاك الحرية التي نظن أننا نملكها. ولا يمكننا أن نقوم بأي شيء مغاير للأمور المحتومة الناتجة عن اجتماع عوامل الماضي وقوانين الطبيعة. وفقاً لهذا، فحتى الأمور التي نقررها، ظناً منّا أنها بمحض إرادتنا “الحرة”، هي نتائج محتومة بناء على ما مضى.

فأين حريتنا إذاً؟ وكيف لنا أن نخرج من عباءة الماضي؟ لا يمكننا، وفقاً للحتمية، فنحن محكومون، وأفعالنا نافذة شئنا أم أبينا ولا تصدر عنا. بالتالي، لا تحمّلنا وجهة النظر هذه مسؤولية أفعالنا. وفيما يلي سنتوسع في هذه النقطة [3].

التوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Compatibilism)

بالعودة إلى حرية الإرادة، يرى البعض أن الحتمية لا تتناقض مع حرية الإرادة. فيمكن للمرء أن يقرر ما يريد حتى وإن كان هذا الأمر محتوماً. يمكن لنا أن نختار الأمر “المحتوم” دون أن تكون حتميته قد أجبرتنا على اتخاذ رأي أو موقف معين منه. تدعى وجهة النظر هذه بالتوافقية [1].

تأتي التوافقية رداً على فكرة الحتمية. وكما ذُكر في الفقرة السابقة، تعزو الحتمية أفعالنا إلى عوامل جرت في الماضي البعيد. أدت هذه العوامل، نتيجة وجودها مع قوانين الطبيعة المعينة، إلى ما نحن عليه الآن وإلى ما سيحدث في المستقبل. فنحن غير مسؤولين عما نختار. ولن يكون لخيارنا أي أثر فيما سيحدث، فما سيحدث هو أمر محتوم [3].

يأتي رد التوافقية على هذا الطرح لا ليناقضه أو ينفيه. بل يرى التوافقيون أن حتمية الأفعال لا تنفي أو تقوّض فكرة الحرية بقيامنا بهذه الأفعال أو اتخاذ القرارات المرتبطة بها. فالمرء يكون أمام خيارات متعددة ليقوم بها، ولديه الحرية في اتخاذ القرار بما سيفعل. إن كان هذا الفعل محتماً لا يعني أن المرء لم يكن لديه خيارات أخرى. لهذا يرى التوافقيون أننا مسؤولون عن أفعالنا لأن حتميتها لا تنفي حرية اختيارنا لها [3].

اللاتوافقية بين حرية الإرادة والحتمية (Incompatibilism)

بالمقابل، يرى مناصرو اللاتوافقية أن الحتمية، إن كانت صحيحة، لا تتوافق مع حرية الإرادة. أي أن حتمية سير الأمور في المستقبل تنفي امتلاكنا للحرية. وهذا يعني أننا، حتى وإن ظننا أننا نملك حرية الاختيار، فإن الخيار الوحيد الذي سنقوم به هو الخيار المحتم. وسبب حدوث هذا الخيار ليس إرادتنا بذلك، بل حتميته بناء على ما مضى [4].

وفق وجهة النظر هذه، يمكن تفسير عدم توافق حرية الإرادة والحتمية بطريقتين مختلفتين. تقول إحداهما أنه بسبب الحتمية، يستحيل علينا أن نكون نحن السبب في أفعالنا، ولا نستطيع التحكم بها. أما وجهة النظر الأخرى فتشرح أن الحتمية تجردنا من القوة أو القدرة على اختيار شيء أو القيام بفعل غير الأمر المحتوم مسبقاً [4].

المسؤولية الأخلاقية بين حرية الإرادة والحتمية (Moral Responsibility)

لنقف قليلاً عند بعض الآراء حول المسؤولية الأخلاقية. فعند الحكم على شخص ما أنه مسؤول من الناحية الأخلاقية، فمعناه أن هذا الشخص يتمتع بقدرة معينة، وأن سلوكه نابع من تطبيقه لهذه القدرة بطريقة ما. عندها، يمكن القول بأن هذا الشخص مسؤول عن أفعاله التي نتجت عن هذه القدرة [5].

لكن يرى بعض الفلاسفة أن افتقارنا لحرية الإرادة – أي في حال كانت الحتمية أمراً حقيقياً – يجعلنا غير مسؤولين من الناحية الأخلاقية [6]. كما ذُكر سابقاً، تعتبر الحتمية أن كل شيء ناتج عن عوامل من الماضي، من ماضٍ لا علاقة لنا به، ومن قوانين الطبيعة. وفق هذا، لا علاقة لنا بكل ما يحدث من حولنا، حتى الأفعال التي نقوم بها. ولذلك، فنحن لا نتحمل مسؤولية تلك الأفعال [5].

من جهة أخرى، يرى البعض أن الحتمية لا تلغي بالضرورة مسؤوليتنا الأخلاقية. فحتى إذا ألغت الحتمية قدرتنا على التحكم بما يجري، فهي لا تلغي قدرتنا على التحكم بكل ما تتطلبه المسؤولية الأخلاقية [2].

يمكننا هنا التوقف عند ما يسمى بمبدأ الإمكانيات المحتملة (The Principle of Alternative Possibilities). وفق هذا المبدأ، نتحمل مسؤولية أفعالنا فقط إذا كان لدينا القدرة على القيام بغير ما قمنا به. أي إذا كان أمامنا فعلان أو أكثر، وكان بمقدورنا الاختيار فيما بينها، وقررنا اختيار فعل ما، نتحمل مسؤولية خيارنا بسبب وجود بدائل عنه. لكن مبدأ الحتمية ينقض هذه المسؤولية لأنه لا يرى أن اختيارنا كان بسبب حرية إرادتنا. بل كان هذا الخيار محتوماً مسبقاً، ولم يكن باستطاعتنا القيام بغير ذلك حتى مع وجود بدائل [6].

تتشعب التحليلات والآراء فيما يتعلق بالمسؤولية الأخلاقية. وتبقى قضية حرية الإرادة والحتمية من القضايا الأساسية في الفلسفة لأهميتها في فهم مدى تحكمنا نحن البشر بأفعالنا.

اقرأ أيضاً: الفردية بين حرية الفرد والمجتمع

المصادر

  1. Coursera: Mason, Elinor, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  2. Free Will – Internet Encyclopedia of Philosophy
  3. Compatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  4. Incompatibilism – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  5. Moral Responsibility – Stanford Encyclopedia of Philosophy
  6. JOHN FISCHER: FREE WILL AND MORAL RESPONSIBILITY

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

هذه المقالة هي الجزء 15 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟ يعد الجنس أحد أكثر الأنشطة التي يستمتع بها البشر، ولذلك يحتل مساحة كبيرة في حياتنا. وعده علماء النفس التطوريون واحدًا من أربعة دوافع أساسية محركة للانسان. وهناك بعض الدراسات المثيرة للاهتمام التي تستطلع حجم الجنس في حياتنا. تشير هذه الدراسات أن ممارسة الجنس هو النشاط الأكثر امتاعًا للشخص الأمريكي العادي. فيضعه في مرتبة أعلى من ممارسة الرياضة والصيد والتقبيل والعناق والحديث مع العائلة ومشاهدة التلفاز والأكل والرحلات والتسوق. وتشير أيضًا أن متوسط الوقت الذي يقضيه الشخص العادي في ممارسة الجنس لا يتعدى الأربع دقائق وثلاث ثوان (مع استبعاد الوقت الذي يمر في المداعبة أو القراءة عن الجنس أو التفكير في الجنس أو تصفح المواقع الإباحية). وهو نفس الوقت الذي يقضيه الشخص الأمريكي العادي في ملأ استمارات الضرائب!

الجنس كدافع للحياة

تجعلنا نتائج الدراسات التي أسلفنا ذكرها نتسائل: من أين تأتي أهمية الجنس إذا كان يحتل نفس المساحة التي يحتلها نشاط ممل مثل ملأ استمارات الضرائب؟ والإجابة هي لا، رغم الوقت الضئيل الذي يحتله الجنس في حياتنا إلا أن له أهمية كبرى، وينشأ عنه كل شيء في الحياة تقريبًا. مثل: الزواج والأطفال والفن وحتى العنف والتنافسية.

يمكننا تعريف الجنس من وجهة نظر تطورية أنه بوابة لعبور الجينات إلى الأجيال اللاحقة وبالتالي تحقيق هدف التكاثر. لكن بالنظر في واقعنا الحالي، نجد صورًا متعددة من الجنس غير التكاثري. مثل: الجنس مع استخدام موانع الحمل والجنس المثلي والجنس الشرجي. وهي صور لا تخدم هدف التكاثر وبالتالي يمكن اعتبارها غير طبيعية، فهل يعني هذا أنها خاطئة؟

الأخلاقية والحتمية

هذا ما أود أن نبدأ به مقال اليوم قبل التطرق إلى موضوعه الأساسي، توضيح اثنين من المفاهيم الهامة التي تناقش أخلاقية بعض أوجه الحياة الجنسية عند البشر. وسأبدأ بمقولة لعالم النفس ستيف بينكر:

“لا تملي الطبيعة علينا ما ينبغي تقبله أو كيفية عيش حياتنا، فأنا لم أنجب أطفالًا في سنوات شبابي واستهلكت مواردي البيولوجية في القراءة والكتابة والبحث ومساعدة الطلبة والأصدقاء، متجاهلًا أولوية نشر جيناتي. وبالتالي فأنا خطأ شنيع بالمعايير الداروينية، لكن حياتي تعجبني بهذه الطريقة، وإذا لم ترض جيناتي عن هذا فيمكنها أن تذهب وتلقي نفسها في البحيرة”

نستنتج من مقولة بينكر أن الطبيعي ليس بالضرورة صحيحًا أو مناسبًا أو حتى أخلاقيًا. فمع أن أجسامنا وأدمغتنا تطورت لتخدم هدف التطور فذلك لا يعني أنه ليس بإمكاننا استخدام هذه الأدمغة لتحديد أقدارنا.

أما عن الحتمية فيقول عالم الأحياء التطوري ريتشارد دوكينز:

“لو أن طفلًا تلقى تعليمًا فقيرًا للرياضيات، فمن السهل تقبل فكرة أن بذل مجهود أكبر العام اللاحق سيحسن من مستواه. لكن لو اقترحنا أن أداء الطفل السيء جيني الأصل سوف ييأس الجميع من تحسن مستواه، إنه أمر حتمي ويستحيل تغييره لو كان جيني الأصل. وهذا هراء كبير! لا تختلف المسببات الجينية والمسببات البيئية عن بعضها، ولكن يسهل عكس تأثير أحدها بينما يصعب الآخر. ماذا فعلت الجينات لتستحق هذه السمعة الشريرة؟ ولماذا يُعتقد أن تأثيرها ثابت ولا مفر منه مقارنة بتأثير الكتب أو التلفاز؟”

ونستنتج من مقولة دوكينز انفصال مسببات الأمور عما يعكس تأثيرها. فهناك حالات ذات منشأ جيني ويسهل عكس تأثيرها، بينما أخرى ذات منشأ ثقافي ويصعب عكس تأثيرها. مثل: ضعف البصر، وهو أمر جيني المنشأ لكن يمكن عكس تأثيره ببساطة. أما نظرة المجتمع للسمنة أمر ثقافي يختلف من مكان لآخر، لكن يمكننا الاتفاق على صعوبة عكس تأثيره.

كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

تحدثنا عن عملية الجنس وهدفها التطوري وهو التكاثر، لكن هل يمكن تحقيق هذا الهدف بدون طرفي المعادلة، الرجال والنساء؟ لا أعتقد ذلك. وسنتحدث اليوم عن الاختلافات بين ذكور وإناث البشر، انطلاقًا من دور كل منهما في العملية الجنسية وما يليها حتى يحدث التكاثر. فما هي هذه الاختلافات؟

بداية ليس الاختلاف اختلاف أعضاء تناسلية، فلا يمكننا القول القضيب أو المهبل. لأنه ببساطة هناك حيوانات لا تمتلك أيًا منهما. أما التمييز التصحيح فيقوم به علماء الأحياء بناءًا على حجم الخلايا الجنسية. يمتلك الذكور خلايا جنسية صغيرة تحوي الجينات فقط، وتمتلك الإناث خلايا جنسية كبيرة تحوي الجينات والغذاء وغلاف واقي وغيرها. لكننا نجد بالرغم من هذا الاختلاف في حجم الخلايا الجنسية ذكور البشر أكبر حجمًا من الإناث، فما تفسير ذلك؟

الاستثمار الأبوي

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

قام بهذا التفسير العالم «روبرت تريفرز-Robert trivers» الذي وضع نظرية الاستثمار الأبوي. ويمكن تعريفه أنه أي بذل أبوي (في الطاقة أو الوقت أو الموارد) يزيد فرصة نجاة الذُرية الحالية، وذلك على حساب قدرة الآباء في الاستثمار في ذرية أخرى.

مثال: تخيل معي اثنين من الحيوانات أحدهما يتكاثر بطرفة عين، والآخر يتكاثر كل عشر سنوات. الحيوان الأول مثال للاستثمار الفقير، لأن ذريته لا تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده. أما الحيوان الثاني فمثال للاستثمار الضخم لأن ذريته تستهلك قدرًا كبيرًا من موارده.

أشار تريفرز إلى ارتفاع نسبة الاستثمار الأبوى في إناث أغلب الحيوانات مقارنة بالذكور. وذلك لامتلاكهن الخلايا الجنسية كبيرة الحجم، فيقمن بحضانة/حماية/حمل الذرية لفترة من الزمن. أما الذكور فيمتلكون خلايا جنسية أصغر، ولا يتخطى استثمارهم لحظات الاتصال الجنسي. لكن مازال السؤال مطروحًا، كيف يفسر هذه اختلاف حجم الذكور والإناث؟

ينتج عن الاستثمار الأبوي الضخم عند الإناث مقارنة بالذكور عددًا من الاختلافات النفسية والفسيولوجية:

  • يمكن لذكر واحد أن يخصب عددًا من الإناث، فينتج عن هذا وجود عدد من الذكور بدون إناث فتظهر التنافسية والعنف.
  • لا تقلق الإناث بشأن وجود شريك جنسي لأنها دائمًا ستجده. لكن يظهر نوعًا آخرًا من التنافس لاختيار الذكور المناسبين، الذين تتمتع جيناتهم بفرص نجاة أكبر.
  • تخلق الطبيعة الانتقائية للإناث نوعًا جديدًا من التنافس بين الذكور، ليس لإيجاد الإناث وحسب وإنما إغرائهم أيضًا.

والآن يمكننا باستخدام هذه الاستنتاجات الثلاث للتوصل إلى سر اختلاف حجم الذكور عن الإناث، وذلك لأن التنافسية تضع عليهم ضغطًا أكبر للتصارع مع الذكور الأخرى للفوز بالإناث. كذلك السعي إلى إغراء الإناث ومطابقة مواصفاتهم عن الشريك المثالي ومنها البنية الجسدية الأقوى. وسنتعرف على مزيد من التفاصيل عن هذا الأمر عند مناقشة معايير الانجذاب الجسدي.

ما الأدلة على نظرية الاستثمار الأبوي؟

تتلخص فكرة الاستثمار الأبوي في وجود اختلاف بين حجم الخلايا الجنسية عند الذكور والإناث، فينتج عن هذا تباين الدور الذي يقوم به كل منهما في العملية الجنسية والتكاثر ومن هنا تظهر الاختلافات النفسية والفسيولوجية بين الجنسين. وهناك عدد من الأدلة على ذلك:

  • يكون الاستثمار الأبوي معكوسًا في بعض الحالات مثل: السمكة الأنبوبية. فنجد الذكور تحتفظ بالبيوض بينما تهرب الإناث. وتبعًا للنظرية فلابد أن تكون الإناث أكبر حجمًا وأكثر عنفًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • يتساوى كل من ذكور وإناث البطاريق في الاستثمار الأبوي، فيسير كل منهما مسافة طويلة لحماية الأبناء. وحسب النظرية فلابد أن تتساوى أحجامهم أيضًا وهذا ما وجده العلماء بالفعل.
  • تتمتع ذكور فيلة البحر بقدر عالٍ من التنافسية، فلا تتنافس على أنثى واحدة وإنما جميع الإناث. ونتيجة لذلك نجد الذكور أكبر حجمًا بأربع مرات من الإناث.
  • أما في البشر فنجد -كما أسلفنا- أن الذكور أكبر حجمًا بنسبة 15% من الإناث. وهذا يرجح تواجد صراع ذكوري/ذكوري على مدار تاريخنا التطوري، نتيجة لعدم تساوي الاستثمار الأبوي.
  • ذكور البشر أكثر عنفًا من النساء. بداية من الرحم فنجدهم يركلون أكثر، والطفولة فينخرطون في صراعات وشجارات ومزاح عنيف، حتى البلوغ فنجد عدد السجناء الذكور دائمًا أكبر من النساء. الأمر الذي يمكن تفسيره بالتنافسية الناتجة عن عدم تساوي الاستثمار الأبوي.

الجاذبية الجسدية

لا يقتصر تأثير التنافس الأبوي على اختلاف الذكور والإناث في الحجم والتنافسية فقط، إنما تختلف تفضيلاتهم الجنسية أيضًا.

  • نجد الإناث تنجذب للقوة والمكانة الاجتماعية والاستثمار في تربية الأطفال. الذكور القادرون على تأمين الموارد اللازمة للنجاة وتوفير الملجأ والحماية أكثر جاذبية من غيرهم. وهذا أمر مفهوم تطوريًا.
  • تميل النساء إلى اختيار الذكور الأكبر سنًا، لكن بشكل عام لا يهم العمر كثيًرا طالما كان الذكر قادرًا على التكاثر.
  • هناك بعض الخصائص الجسدية أكثر جاذبية للإناث مثل: البنية الجسدية القوية ودلالاتها مثل: عرض المنكبين والفك القوي وبروز عظمة الحاجب. كذلك تماثل نصفي الجسم الذي يدل على سلامة الجينات وقدرة الذكر على تحمل ضغوطات البيئة.

أما عن الذكور فعامل الانجذاب الأول لديهم هي الأنثى التي يستطيع تخصيبها وبالتالي نشر جيناته. وبناءًا على ذلك تظهر تفضيلاتهم الجنسية:

  • يهتم الذكور بالعمر أكثر من الإناث، فينجذبون للنساء الأصغر سنًا لقدرتهن على التكاثر.
  • ينجذب الذكور للإناث ذوات الخصر الرفيع والنهود الكبيرة، لأنها دلالات على الشباب والخصوبة.
  • ينجذب الذكور لسمات جمالية معينة مثل العيون الواسعة والشفاه الممتلئة والبشرة النضرة. لأنها تمثل أيضًا النضوج الجنسي والشباب.

الاستثمار الأبوي: كيف نفسر الاختلافات بين الذكور والإناث؟

في الختام أود العودة إلى نقطة الأخلاقية والحتمية، إن كل ما هو جيني وطبيعي ليس بالضرورة مناسبًا أو حتميًا لا يمكن تغييره. وهو ما نفسر به الاعتراض الذي لابد أن يكون خطر لك عند قراءة المقال، أنا لست هكذا -ذكرًا كنت أم أنثى- ولا أتصرف أو أنجذب لنفس الصفات التي يفترض يتمتع بها بنو جنسي. لذا لا تنسى أدمغتنا التي تطورت لتخدم هدف التطور، يسعها دومًا التفكير وتحديد أقدارها!

اقرأ أيضًا: لماذا يختلف البشر؟ وما الدور الذي تلعبه الجينات في ذلك؟

مصدر
yalecourses

ما المقصود بفكرة الحتمية الكونية؟ وما هو رأي ميكانيكا الكم في الحتمية السببية؟

ما المقصود بفكرة الحتمية الكونية؟ وما هو رأي ميكانيكا الكم في الحتمية السببية؟

في عشرينيات القرن الماضي احتدم النقاش وحمي الجدال بين العالمَين أينشتاين وماكس بورن وكان صدامًا بين فلسفتين، بين مذهبين متناقضين في التصوّرات الميتافيزيقيّة لطبيعة الواقع وما يمكننا أن نتوقّعه من التصوير العلميّ لهذا.  في ديسمبر من العام 1926 كتب أينشتاين “إنّ لنظرية ميكانيكا الكمّ فوائد جمة، لكنها لا تقرِّبنا من سر الإله”. أنا على يقين تام بأن الله لا يلعب النَّرْد”. كتب أينشتاين هذا في ردِّه على خطاب من الفيزيائي الألماني ماكس بورن. كان ماكس يقول إنّ قلب نظرية ميكانيكا الكم الجديدة ينبض بالشك والعشوائية، وكأنه يعاني من اضطراب النَّظْم القلبي. فحين كانت الفيزياء قبل نظرية الكمّ قِوامها أنّا إذا أدخلنا مُدخلًا معينًا، نحصل على مخرج محدد، بَدَا قِوام ميكانيكا الكمّ أنّا إذا أدخلنا مُدخلًا معينًا نحصل على مُخرج باحتماليّة ما، وفي بعض الحالات يمكننا الحصول على مُخرج آخر. في هذا المقال سنتعرف على مفهوم الكون الحتمي وعلى رأي نظرية ميكانيكا الكم في مفهوم حتمية الكون.

ما المقصود بفكرة الحتمية الكونية؟

اعتقد العديد من جهابذة العلماء كنيوتن ولابلاس وأينشتاين بأن الكون يعمل تمامًا كالساعة، أي بقوانين محددة ودقيقة وما علينا سوى اكتشاف هذه القوانين نتمكّن من التنبؤ بالمستقبل تنبؤًا دقيقًا لا يُساوره الرّيب. يُعرف هذا المنهج بالفلسفة باسم الحتمية السببية وهي الاعتقاد بأنه يمكن استنتاج المستقبل بناءً على الحاضر وقوانين الطبيعة.

طُور المعتقد الفلسفي بالحتمية لأول مرة من قبل الفلاسفة اليونانيين ما قبل سقراط مثل هيراقليطس وليوكيبوس بين القرنين السابع والثامن قبل الميلاد. في السنوات اللاحقة، بنى أرسطو عليها، لكن الفلاسفة الرواقيين هم من قدموا أهم المساهمات وشاعوا هذه الفلسفة. تتجذر فكرة الحتمية بالتأكيد في فكرة فلسفية شائعة جدًا، الفكرة القائلة بأنه يمكن تفسير كل شيء، من حيث المبدأ، أو أن كل شيء له سبب كافٍ للوجود والوجود كما هو، وليس غير ذلك. بعبارة أخرى، تكمن جذور الحتمية فيما أسماه “ليبنيز” مبدأ العقل الكافي ولكن منذ أن بدأت صياغة النظريات الفيزيائية الدقيقة بطابع حتمي ظاهريًا، أصبحت الفكرة قابلة للفصل عن هذه الجذور. غالبًا ما يهتم فلاسفة العلم بالحتمية أو اللاحتمية في النظريات المختلفة، دون أن يبدأوا بالضرورة من وجهة نظر حول مبدأ «لايبنتز-Leibniz».

لا يتعلق مفهوم الحتمية السببية بالكون فقط بل ذهب بعض الحتميين للقول بأن سلوك البشر تحدده مورثاتهم مسبقًا من البيئة التي نشأوا فيها أو من خلال التفاعلات الكيميائية في دماغهم وبالتالي فخياراتنا وقراراتنا هي مجرد نتائج حتمية تحددها قوانين الطبيعة والتي إن استطعنا فهمها فسنكون قادرين على التنبؤ بسلوك البشر تنبؤًا حتميًا. بعبارة أخرى، أنت لا تمتلك إرادة حرة وليس لديك حرية الاختيار فيما تفعله ولكن عارض هذا الرأي الكثير من العلماء وطوّرا نظرياتهم بخصوص مفهوم الإرادة الحرة. الحقيقة ليس هذا مجرد نقاش فلسفي بل هو موضوع هام ومتعلق بالمسؤولية الأخلاقية، فهل يجب أن نعاقب المجرم إذا لم يكن الجرم الذي اقترفه نابعًا من إرادته بل نتيجة حتمية لقوانين الطبيعة-مُقدّر له ومكتوب بواسطة قوانين الطبيعة-؟

الحتمية وعلم الفيزياء الكلاسيكية

حتى نهاية القرن التاسع عشر، كان علم الفيزياء يسير بشكل عام على نهج وفلسفة العالم “إسحاق نيوتن”. فقد كانت آلية عمل قوانين الفيزياء مفهومة جيداً، ولا شيء فيها يدعو إلى القلق. فالسببية والحتمية منسوجتان في صُلب قوانين الطبيعة. وكل ما نحتاجه لمعرفة حالة الكون المستقبلية هو معرفة شروطه الحالية فقط. بمعنى آخر، بات الكون أشبه بآلة عملاقة تعمل بدقة الساعة، لا يصيبها الخلل ولا الملل منذ أن أُطلقت للعمل. فإذا ما علمنا عن موضع وسرعة كوكب أو نجم ما أو حتى ذرة شاردة في الكون في لحظة معيَّنة، يمكننا تحديد كل حركات هذا النجم أو تلك الذرة في المستقبل تحديدًا دقيقًا، شرط أن نأخذ في الحسبان جميع التأثيرات الخارجية. وبهذه الطريقة نستطيع، من حيث المبدأ، عبر استخدام قوانين الفيزياء أن نحدِّد حالة كل ما في الكون، من أكبر مجراته إلى أصغر ذراته. عندها فقط ستكون صورة الكون المستقبلية ماثلة أمام أعيننا، تماماً كالماضي.

ما الذي قصده أينشتاين في قوله ” إنّ الله لا يلعب بالنرد مع الكون”؟

ما الذي قصده أينشتاين بالضبط عندما قال هذا؟ لفهم طبيعة اعتراض أينشتاين، من المهم تقدير الدور الذي تلعبه الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية. وفقًا لمعادلات الفيزياء الكلاسيكية -من حيث المبدأ-يمكن حساب جميع الأحداث المستقبلية والتنبؤ بها بدقة تامة.

إذا كان من الممكن معرفة الموقع الدقيق وسرعة كل ذرة وكل جسيم آخر في الكون، وإذا كان بإمكان المرء اختراع جهاز حاسوب ذي قدرات هائلة للغاية، فيمكن عندئذٍ استخدام معادلات الفيزياء الكلاسيكية لحساب كل شيء يمكن أن يحدث على الإطلاق في المستقبل. سيكون من الممكن أيضًا تشغيل هذه المعادلات للخلف لمعرفة كل ما حدث في الماضي. في الواقع، وفقًا للفيزياء الكلاسيكية، يمكن تحديد المستقبل يتحدد بدقة من قبل الحاضر. يشبه الكون ساعة كبيرة ومعقدة، تتحرك للأمام بطريقة معقدة، ولكن يمكن التنبؤ بها تمامًا. أيّد أينشتاين هذه الرؤية للكون؛ وفقًا للفيزياء الكلاسيكية، لا دور للصدفة أو الاحتمال وهذا يعني أن إله الفيزياء الكلاسيكية لا يلعب النرد. ولكن مع تقديم تفسير بورن لميكانيكا الكم صورة مختلفة، لم يعد الكون قابلاً للتنبؤ به كما كان في الفيزياء الكلاسيكية.

تفسير ماكس بورن لميكانيكا الكم

وفقًا لبورن وطريقته في التفكير حول ميكانيكا الكم، فإن الإلكترون (أو أي جسم كمي آخر) يمتد عبر حجم الفضاء الذي تغطيه الدالة الموجية. عندما نقيس موقع الإلكترون، فإنه دائمًا ما يشبه النقطة دون أي مدى مكاني. ومع ذلك وقبل أن يُقاس، يكون الإلكترون في نفس الوقت في جميع المواقع التي تغطيها دالة الموجة الخاصة به، أي أنه فعال في العديد من الأماكن وكلها في نفس الوقت. بهذا المعنى، تتمتع الإلكترونات والأجسام الكمومية الأخرى بنوع من الوجود الاحتمالي، حيث توجد في جميع الأماكن الممكنة وتقوم بكل الأشياء الممكنة في جميع الأوقات الممكنة.

يمكن وصف ذلك أيضًا من منظور مبدأ اللايقين لهايزنبرج. وفقًا لهذا المبدأ، كلما تم تحديد موقع الكائن الكمي بدقة أكبر، كلما قلت قدرتنا على تحديد سرعته بشكلٍ دقيق، والعكس صحيح. لذا، ما تقوله ميكانيكا الكم هو أن الجسيم الكمي لا يمكن أن يكون في مكان واحد فقط ويتحرك بسرعة واحدة فقط.

تخيل إلكترون يُوصف من خلال دالة موجية تبلغ ذروتها بشكل حاد في مكانين، والتي سنسميها الموقعين “أ” و “ب “. الآن، دعنا نفترض أن شكل الدالة الموجية يغطي المواقع “أ” و”ب” بالتساوي وبنفس المدى. في هذه الحالة، إذا تم أُجريت تجربة لقياس موقع الإلكترون، فستكون هناك فرصة بنسبة 50٪ للعثور عليه في الموقع “أ” وفرصة بنسبة 50٪ العثور عليه في الموقع “ب”.

قد يبدو هذا المثال مطابقًا لرمي قطعة نقود معدنية والذي يقدم نتيجتين متساويتين في الاحتمال -50% للشعار 50% للكتابة-. ومع ذلك، قد تفشل مثل هذه المقارنة في أن تأخذ في الاعتبار شيئًا مهمًا حول الدور الذي يلعبه الاحتمال في ميكانيكا الكم.

عند رمي قطعة معدنية فإن احتمالية ظهور الشعار أو الكتابة هي بالتساوي 50% لكل منهما (حقوق الصورة: W. Scott McGill/Shutterstock)

عندما ترُمى عملة معدنية وتُغّطى، فمن الممكن تشبيهها بالإلكترون المذكور أعلاه. يمكن أن يكون الوجه الذي ظهر شعارًا أو كتابةً. الاختلاف الجوهري هو أنه في الوقت الحالي يتم تغطية العملة المعدنية، وقد حدث النتيجة بالفعل إما للشعار أو الكتابة ونحن لا نعرف ذلك حتى الآن. في حين أن الإلكترون في التجربة المذكورة أعلاه موجود في نفس الوقت في كلا الموقعين “أ” و “ب “.

توضح هذه التجربة أنه حتى لو كنا نعرف كل شيء عن الإلكترون، حتى لو عرفنا الشكل الدقيق لدالة الإلكترون الموجية، فلا يزال هناك احتمال بنسبة 50٪ أن يتم العثور عليه في الموقع “أ”، وفرصة بنسبة 50٪ أن يكون يمكن العثور عليها في الموقع “ب”. لذا، فإن الكون لا يتصرف بشكل حتمي  بل يحمل في ثناياه على الدوام جزءًا من العشوائية وهذا ما تم تأكيده في مؤتمر «سولفاي-Solvay» عام 1927 بحضور كوكبة من علماء الفيزياء آنذاك.

صورة جماعية لكوكبة من علماء الفيزياء في مؤتمر سولفاي

المصادر

thegreatcoursesdaily
Stanford University
aeon
simplypsychology

Exit mobile version