ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

يحاول زكي نجيب محمود في كتابه “نظرية المعرفة” أن يعرض أبرز مشاكل المعرفة وكيف تعاطى معها الفلاسفة على مر العصور على اختلاف مذاهبهم الفكرية، فقام بحصر مشاكل المعرفة في ثلاثة أسئلة رئيسية:
1- ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟
2- ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟
3- هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟

وأفرد زكي نجيب محمود لكل سؤال منهم بابًا من الكتاب ليتحدث عنه سنناقشهم فيما يلي.

الباب الأول: طبيعة المعرفة

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الأول “ما هي طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟”، فقام بتقسيمه إلى ثلاثة فصول.

طبيعة المعرفة عند الواقعيين

• الواقعية الساذجة

إذا قلنا “على المكتب مصباح مضيء” فكلمة “مكتب” تكوّن في ذهنك صورة للمكتب، وكلمة “مصباح” تكوّن صورة مصباح، وكلمة “مضيء” تشير إلى الضوء المنبعث من المصباح، وكلمة “على” تشير إلى العلاقة بين المكتب والمصباح.
فيخلصون إلى حقيقة أن العالم موجود بذاته بغض النظر عن وجودنا، والدليل على ذلك هو أنك حين توجّه بصرك للنظر إلى شيء ما، فهذا الشيء كان موجودًا سواء نظرت إليه أم لم تنظر، كونك توجّه نظرك إليه دليل على وجوده المستقل غير المحتاج إلى وجودك.

ومن هنا يرى أصحاب نظرية الواقعية الساذجة في المعرفة أن معرفة الشيء هي صورة مطابقة للشيء المعروف.

ولكن هناك مشكلة، وهي أنك أنه وفقًا لهذه النظرية فإن معرفتك بالمكتب الذي أمامك ليست بالضرورة هي حقيقة المكتب، فقد تلمس المكتب فتشعر بصلابته، ثم يأتي عالم ليخبرك أن المكتب ما هو إلا مجموعة من الذرات التي يتكون مُعظم كل ذرة منها من الفراغ، فهنا ما ترصده بحواسك ليس بالضرورة هو الحقيقة.

كما أن رصد الشيء يتغير بتغير موقع الراصد أو زمان الرصد، فإذا أحضرنا 10 رسامين وأجلسناهم حول منضدة وطلبنا من كل منهم أن يرسم ما يراه، فسيرسم كل منهم ما يراه من المنضدة من زاوية نظره، فينتج لدينا 10 رسومات مختلفة للشيء نفسه.

وبالتالي فنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة بحاجة إلى تعديل يزيد من دقتها.

• الواقعية النقدية

تكمن مشكلة الواقعية الساذجة في أنها تلغي دور العقل البشري في المعرفة فتجعله مجرد متلقي لما يراه، إلا أن هذا ليس دقيقًا، فإذا رأيت برتقالة فأنت تعرف أنها برتقالة، ولكن كيف هذا؟

حدث هذا نتيجة لرؤيتك العديد من البرتقالات المختلفة في اللون والاستدارة والمذاق، إلا أن عقلك استطاع توحيد هذه الفروقات في صورة واحدة وقام بطرح الاختلافات ليسهل عليك التعرف على البرتقال متى رأيته.

فعندما ترى جسمًا مستديرًا ذا لون برتقالي وملمس معين تستطيع القول بأنه برتقالة، إلا أن هذه الصفات ليست على قدم المساواة، فبعضها صفات أولية، وهي صفات موجودة في الشيء بذاته. البعض الآخر صفات ثانوية وهي الصفات التي تنشأ من تفاعل الإنسان مع الشيء، فالبرتقالة مستديرة سواء نظرت إليها أم لم تنظر أو لمستها أم لم تلمسها، إذا فهذه صفة أولية.

لكن أشياء كلون البرتقالة ليست صفة أساسية في البرتقالة بذاتها، فلون البرتقالة لا يتكون إلا بعد سقوط الضوء عليها وانعكاسه إلى عينك، ومن ثم يتكون اللون في دماغك، كما أن طعم البرتقالة كذلك، فهو ينشأ عند اتصال البرتقالة بلسانك ليتكون الطعم في دماغك، وهذا يفسّر اختلاف طعم الأشياء وقت مرضك.

فبعض الصفات هي صفات ثانوية لا معنى لها إلا بوجود متلقي، فلا معنى للألوان بدون وجود عين ترى، ولا معنى للأصوات بدون وجود أذن تسمع، ولا معنى للحلاوة أو المرارة بدون لسان يتذوق.

وبالتالي فالواقعية النقدية ترى وعي الإنسان جزءًا من عملية المعرفة.

طبيعة المعرفة عند البراجماتيين

يرى البراجماتيون أن المعرفة هي الفكرة التي يترتب عليها فعل في الواقع العملي، فإذا لم يكن للفكرة فائدة عملية فإنها لا ترقى لأن تكون معرفة، ويمكن أن تكون لدينا فكرتين صحيحتين، ولكن واحدة فيهم أصح من الأخرى، وهذه الأصح هي الحقيقة التي تقدم أكبر إفادة لنا، أي أنني إن أخبرتك بوجود تنين خارج الكون لا يمكنني أن أراه أو أسمعه أو أتواصل معه، فإن هذه في نظر البراجماتيين ليست معرفة، فلا يترتب على علمي بأمر هذا التنين فعل أفعله.

طبيعة المعرفة عند المثاليين

المعرفة من منظور المثاليين مصدرها العقل، فهم لا يعترفون بوجود العالم الخارجي بشكل مستقل عن الإنسان – كما يرى الواقعيون والبراجماتيون -، فالعالم بالنسبة للمثاليين هو ما يدور في عقل الإنسان، مثال:

إذا رأيت شجرة في الطريق فكل ما تملكه هو صورة هذه الشجرة في ذهنك، وليس الشجرة نفسها.

فلا وجود إلا لما يدركه العقل، وأي شيء لا يدركه العقل مستحيل الوجود.

الباب الثاني: مصدر المعرفة

يجيب زكي نجيب محمود في هذا الباب عن السؤال الثاني، “ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟”.

مصدر المعرفة عند التجريبيين

يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هي الحواس البشرية التي عن طريقها يختبر الإنسان العالم، فكل فكرة لا يمكن إرجاعها إلى حاسة من الحواس لا تعتبر حقيقية، كالسببية على سبيل المثال، إذ أنه لا يمكن إرجاع السببية إلى شيء تختبره الحواس، فكل ما نراه هو حوادث يرتبط بحدوثها حدوث حوادث أخرى، وليس هناك سبب حسّي لادعاء رابط سببي بينهما.

كذلك هو الحال مع الجوهر (الشيء مستقل عن صفاته)، والذات (الإنسان مستقل عن صفاته وحالاته)، إذ أن كل ما تراه هو الإنسان بحالاته أو الشيء بصفاته، ولا يمكنك إرجاع مفاهيم مثل الجوهر أو الذات إلى شيء مرصود بالحواس البشرية.

مصدر المعرفة عند العقليين

يخالف العقليون التجريبيون في تحديد مصدر المعرفة، فبينما يرى التجريبيون أن مصدر المعرفة هو الحواس فقط، يرى العقليون أن الحواس قد تخدع، وليس كل ما ترصده بحواسك يكون حقيقيًا، ولكن إن قلت “(أ) أكبر من (ب)، و(ب) أكبر من (ج)، إذن (أ) أكبر من (ج)”، فهذا لا يمكن أن يكون غير حقيقي، إذ أنه مستند على العقل وليس الحواس التي يمكنها خداعك، وبالتالي يرى العقليون أن مصدر المعرفة هو العقل.

مصدر المعرفة عند النقديين

بينما يكون مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فقط، ومصدرها عند العقليين هو العقل، فمصدرها عند النقديين هو الحواس والعقل معًا، حيث وقف النقديون من المعرفة موقفًا بين الواقعيين والمثاليين، فلم ينكروا أن معرفة الإنسان قائمة على ما يدركه في العالم الخارجي، ولكن اعتبروا العقل البشري هو القالب الذي يستقبل ويترجم هذه المدركات الحسية لتكون ذات معنى، مثال:

إذا قُلنا “النار أحرقت الورقة” فنحن هنا نشير إلى مدركات حسية وهي النار والورقة، ولكننا أيضًا نشير إلى مبدأ من صنع العقل البشري (أو من فطرته إن صح التعبير) وهو السببية، فيرى النقديون أن رصد عملية الاحتراق (المدرك الحسي) ضروري للمعرفة، إلا أن هذا المدرك لم يكن ليكون ذو معنى إن لم تحكمه علاقة السببية (المنتج العقلي)، فالنار هي ما تسبب بإحراق الورقة.

فبينما أشياء مثل السببية والجوهر والذات ليست مدركات حسية، إلا أنها ضرورات لفهم المدركات الحسية وجعلها ذات معنى، فهي من الأشياء التي زُوّدت بها فطرة الإنسان لتفهم العالم الخارجي.

مصدر المعرفة عند المتصوفة

خلصنا إلى أن رؤية التجريبين للحواس كمصدر وحيد للمعرفة، وبينما يرى العقليون العقل المصدر الوحيد للمعرفة، ويجمع النقديون بين العقل والحواس كمصادر للمعرفة، نجد أن المتصوفة لهم مصدر مختلف للمعرفة وهو الحدس.

ويرتبون درجات المعرفة من الأعلى إلى الأسفل، حيث تكون الحواس أدناها، والعقل أوسطها، والحدس أعلاها.

وبينما يسعى المتكلمون والفلاسفة لإثبات وجود الله باستخدام حجج وبراهين عقلية، يرى المتصوفة أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى الله تكون عن طريق الحدس.

فيقول زكي نجيب محمود في هذا الفصل:

“وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان – كما يقول المتصوفة – أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودًا مباشرًا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده.”

الباب الثالث: إمكان المعرفة وحدودها

يناقش زكي نجيب محمود في هذا الباب السؤال الثالث وهو “هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودًا؟”

الاعتقاديون والشُّكاك

يرى الاعتقاديون من أنصار المذهب التجريبي والمذهب العقلي أنه لا حدود للمعرفة التي يمكن للإنسان الحصول عليها، فما دامت المعرفة مصدرها هو العقل عند العقليين فلا يوجد شيء في العالم الخارجي يمكنه أن يضع حدًا لهذه المعرفة، وما دام مصدر المعرفة عند التجريبيين هو الحواس فلا شيء يعوق معرفة الإنسان إذا لم يكن هناك ما يعوق اتصال الحواس بالمحسوسات.

أما الشُّكاك فيرون استحالة أن يعرف الإنسان الحقيقة الموضوعية لأي شيء، فكل ما يعرفه الإنسان نسبي، وحتى إن أراد أن ينقل معرفته هذه إلى غيره فإنه ينقلها عن طريق الكلام، ولن تعبّر الألفاظ عن حقيقة الشيء.

وتجب هنا التفرقة بين الفيلسوف الشاك، وبين الفيلسوف الذي يتبع منهج الشك، فالأول يشك في إمكان حصول الإنسان على المعرفة، بينما يؤمن الثاني بإمكانية المعرفة ولكنه يحتاج إلى حذر وحرص للحصول على المعرفة اليقينية.

حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين

لما كانت الحواس هي الشرط اللازم للمعرفة عند النقديين كما ناقشنا أعلاه، كانت معرفة الإنسان ممكنة طالما هي في حدود المدركات الحسّية، إذ أن ما يجاوز هذه المدركات لا يمكن للإنسان معرفته (في رأيهم).

فإذا تساءل الإنسان عن محدودية المكان في الكون أم أنه لا نهائي وجد نفسه أمام تناقض، فلا يمكن للعقل تصور نهاية للمكان، إذ أن كل مكان هناك ما هو أبعد منه، وكذلك لا يمكنه تصور مكان لا نهائي، وهذا التناقض سببه هو أن الإنسان حاول أن يتناول بمعرفته ما وراء المدركات الحسّية.

ويوافق الوضعيون النقديين في رأيهم فيرون وجوب الوقوف بمحاولاتنا للمعرفة عند الظواهر التي يمكن أن نشاهدها ونجري التجارب عليها، أما أن نجاوز الطبيعة المنظورة إلى ما وراء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة.

للمزيد من ملخصات الكتب اضغط هنا.

للمزيد من المعلومات عن زكي نجيب محمود اضغط هنا

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

إن الخوض في بدايات الفلسفة يكون مقلقًا لعدم وجود مصادرها بين أيدينا، إلا أن هذه المجازفة لا تخلو من المتعة. فحين نقطع مسافة زمنية من ألفي وخمسمائة عام نكون قد وصلنا إلى المعركة الأشرس للفكر ضد الأسطورة. شهدت بلاد الإغريق الكثير من الحروب، الأهلية تارة ومع الفرس تارة أخرى، إلا أن الحرب الأهم والأكثر إثارة كانت تلك التي أدت إلى بزوغ شمس التفلسف في ظلمة الإيمان. كان الفيلسوف أناكسيماندر قد رفع سقف الحرب إلى مستوى الأبيرون، حيث الموجود ينزع نفسه من العدم. في المقال هذا سنفتح أفق السؤال الفلسفي على دوامة اللانهائي لولادة المزيد من المعرفة بالفيلسوف الملطي الثاني.

الطريق إلى أناكسيماندر

عاش أناكسيماندر ما بين عامي (546_610) ق.م. تقريبًا، وكان معاصرًا لطاليس ويصغره سنًا. لا توجد سوى قطعة واحدة باقية ومنسوبة إلى أناكسيماندر فضلًا عن تعليقات من الآخرين مثل أرسطو الذي عاش من بعده، بقرنين من الزمن تقريبًا.(1)

هو أول فيلسوف قد كتب أطروحة فلسفية وكانت تسمى (حول الطبيعة). فُقد هذا الكتاب مع أنه كان متاحًا في زمن أرسطو و(ثيفراستوس-Theophrastus). يُقال قد عثر على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة الإسكندرية، وتفيد بعض الأدلة بأنه كان متوفرًا في مكتبة تاورمينيا في صقلية.(2)

حاله حال طاليس، كان قد انشغل بالبحث العلمي أيضًا، وينسبون إليه الفضل في تصميم خريطة للعالم وكان يرى بأن الأرض أسطوانية الشكل.

أناكسيماندر ضد طاليس

كان يعتقد مواطنه طاليس بأن الماء أصل العالم وما الظواهر المختلفة إلا صور لحالات الماء. اعترض أناكسماندر وكانت حجته في ذلك أن العنصر الأولي لا يمكن أن يكون الماء ولا عنصرًا آخر غير الماء؛ لأنه لو كان بين هذه العناصر عنصر أولي لاكتسح العناصر الأخرى. يروى عنه أرسطو أنه قال: إن هذه العناصر المعروفة لنا  يعارض بعضها بعضًا؛ فالهواء بارد والماء رطب والنار حارة، وعلى ذلك فلو كان أحد هذه العناصر لانهائيًا لزالت العناصر الباقية اليوم، وإذن فلا بد أن يكون العنصر الأولي محايدًا في هذا الصراع الكوني.(3)

الأبيرون

إن الكائن الحقيقي [المبدأ الأول] لا يمكن أن يملك أية صفة محددة، وإلا فأنه يكون قد ولد ويصبح بذلك محكومًا بالزوال والموت ككل الأشياء الأخرى. ولكي لا تنقطع الصيرورة، فلا بد للكائن الأصلي إلا أن يكون غير محدد. فخلود الكائن الأصلي يقوم على خلوه من الصفات المحددة التي تقود إلى الموت.(4)

المبدأ الذي يفترضه الفيلسوف أناكسماندر هو الأبيرون، وهو يعني حرفيًا، اللانهائي على المستوى الزماني، اللامحدود من حيث المكان، اللامتعين من حيث الماهية. إن الأبيرون الذي يمتلك صفات إلهية، يحرك دوامة الوجود الدائرية بشكل أبدي، والموجودات تظهر بانفصالها وخروجها من تلك الدوامة.

إن عملية الانفصال هذه أبدية بالضرورة، وذلك لأن دوامة الأبيرون لا نهاية لها، وبالتالي فالموجودات والعوالم لا تكف عن الولادة والفناء في الأبيرون من جديد. (2). ومن الجدير بالذكر هو أن هذه الفكرة تؤدي إلى الإمكانات غير المحددة للأبيرون في خلق الأكوان والعوالم.

العدالة الكونية:

ما هو مربك في نظرية الخلق عند أناكسيماندر، هو أن الوجود/الحياة يمثل الخروج من قرار الأبيرون ومشيئته، فالأبيرون دون أن يقول (كن) تكون الكائنات، وبالتالي فالوجود خطيئة، والكائن/الموجود محكوم عليه بالعودة إلى الأبيرون والفناء فيه. إن كل الصيرورة طريقة مذنبة للتحرر من الوجود الأبدي، وهي ظلم يجب التكفير عنه بالموت.(5).

يؤمن الفيلسوف أناكسيماندر بعدالة الأبيرون المطلقة وكذلك بالصراع المتأصل في الوجود. فكل عنصر من العناصر لا يكف عن السعي في سبيل اتساع رقعة مُلكه، غير أن ثمة نوعًا من الضرورة أو القانون الطبيعي لا ينفك يرد التوازن إلى حيث كان. العدالة هنا معناها عدم مجاوزة الحدود المفروضة منذ الأزل.

أناكسيماندر ونظرية التطور:

قبل داروين ولامارك، كان الحديث عن تطور الكائنات سيبدو جنونًا، إلا أن أناكسيماندر كان قد فجر فكرة التطور في الوسط الإغريقي قبل ألفين وخمسمائة عام في سياق تناوله لفكرة الخلق والأبيرون. ما لدينا مما قاله في التطور قليل جدًا، لكن مع ذلك تستحق الفكرة التأمل فيها.

يقول بأن الأرض في البداية كانت عبارة عن سائل، بدأت الأرض بالتجمد مع الوقت، وبفعل الحرارة تبخر البعض من سائلها مشكلًا طبقات الهواء. نتيجة تفاعل الضدين، الحرارة والبرودة، تكونت أولى الكائنات الحية. كانت الكائنات بسيطة في البداية ومن ثم تطورت وتأقلمت مع البيئة. فسلف الإنسان كان سمكة وبعد انحسار الماء تأقلمت بعض الأسماك مع البيئة الجديدة. (6) إذ أن التطور بدأ من البحر بإتجاه اليابسة.

اقرأ أيضًا الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

أناكسيماندر علامة فلسفية بارزة

رغم قلة معرفتنا بفلسفة أناكسيماندر إلا أنه يعد علامة فلسفية بارزة، ففكرة الأبيرون ما زالت تحتفظ ببريقها ولو بشكل شاعري. يعلق نيتشه على أسلوبه قائلًا: فكره وأسلوبه يشكلان حدودًا قصوى على طريق الحكمة الفائقة. ما يميز طرح أناكسيماندر حول الخلق والكون يمكن تأويله في سياق أخلاقي أيضًا، وكان نيتشه أول من توقف عند ذلك بإعجاب.

المصادر:

  1. غنار سكيربك ونلر غيلجي، تاريخ الفكر اليوناني، ترجمة د.حيدر حاج اسماعيل، ط1، المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص47.
  2. https://iep.utm.edu/anaximan/
  3. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية،الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب محمود، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص65.
  4. فردريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، ط2، المؤسسة الجامعية، 1983، ص51.
  5. محمد حسن النجم، السفسطائية في الفكر اليوناني، ط1، بيت الحكمة العراقي 2008، ص35.
  6. https://www.famousscientists.org/anaximander/

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

هذه المقالة هي الجزء 1 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

إن البحث في فلسفة فيلسوف ما يمثل مشقات كبيرة، منها صعوبة إيجاد رأس الخيط في فلسفته والقبض على قلبها النابض. لكن في حالة فيلسوف لا نكاد نعرف عنه شيئا تتحول الصعوبة إلى نوع من الاستحالة والخيوط إلى طين وماء. كل البدايات تركت خلفها علامات دالة وكأنها كانت على وعي بما ستفعل بها الصيرورة، ومن خلال تلك العلامات تستمر في ترديد قولها لتجذب إلى نفسها المحاولات البحثية. غير أن بداية الفلسفة لم تترك لنا سوى ما يشبه أنين يصعب الكشف عنه وسط صراخ التاريخ وصخب جريان الزمن. في هذا المقال سنسعى إلى عرض بداية القول الفلسفي والفيلسوف طاليس.

جدل البداية

تثير موضوعة بداية الفلسفة في الجدالات الفكرية والتاريخية خصامات ثقافية وحتى سياسية في تحديد هوية المولود الفلسفي الأول. معظم فلاسفة الغرب ينسبون الفلسفة إلى الإغريق حتى وهم يتحدثون عن تأثير الثقافات الشرقية في الحضارة الإغريقية وفكرها. من أبرز الأصوات الداعمة لهذا الاتجاه، أرسطوطاليس، وهيغل، ونيتشه، وهايدغر، وراسل، ودولوز. في حين يشك بعض المؤرخين والمفكرين في هذا التحديد ويزعمون أن الفلسفة قد شقت خطاها من الشرق.

يذكر تلميذ فيثاغورس “يمليخيا” إن معلمه قد زار طاليس، وبعد أن وجده لا يشبه الشباب الآخرين، حثه على الإبحار إلى مصر والاختلاط، بالدرجة الأولى، في ممفيس وديوسبول، مع الكهنة حيث سيحصل منهم على كل ما يجعل منه حكيمًا(1). وتؤكد جميع المصادر أن طاليس نفسه كان قد سافر إلى مصر وبابل وفيهما تعلم الحكمة.

على جانب زيارات الفلاسفة الأوائل إلى الشرق، يتحجج البعض بأن الفلسفة والفكر الشرقي قد سبقا الفكر الإغريقي بقرون، فالألواح التي وصلت إلينا من بلاد الرافدين ومصر إلى جانب الكتابات المقدسة كآفستا والعهد القديم تحتوي على حكمة ومعرفة واسعة جدا في الأخلاق وعلم الطبيعة ومبحث المعرفة. غير أن فلاسفة الغرب يعتبرون الفكر الشرقي مجرد درب من دروب الإيمان، وحجتهم حول الأصل الغربي للفلسفة هي أن الفلسفة عكس ذلك تماما. يقول نيتشه: “يبرز طاليس كمعلم مبدع بدأ بسبر غور الطبيعة دون الاستعانة بالروايات الخيالية…فهذا هو بالتحديد الخط الذي يتميز به الفكر الفلسفي”.(2)

محاولة البحث عن طاليس

لا نعرف بعد إلا القليل عن حياة طاليس. المقتطفات الواردة عنه في كتابات أرسطو وهيرودوت وغيرهما من الفلاسفة والمؤرخين لا يأخذها أغلبية الباحثين على محمل الجد. كأية شخصية قديمة، هناك روايات أسطورية حول طاليس ولا تفتح لنا أي أفق في حياة الفيلسوف الأول. حسب المؤرخ ديوجين لايرتيوس (Diogenes Laërtius) ولد طاليس في دورة الألعاب الأولمبية التاسعة والثلاثون، حوالي 624 ق.م وتوفي في الدورة الثامنة والخمسين، حوالي 545 ق.م (3).

كانت انشغالات طاليس واسعة، فكان باحثًا في جميع مجالات المعرفة والفلسفة والتاريخ والعلوم والرياضيات والسياسة والجغرافيا والفلك. قدّم نظرياته في شرح العديد من الظواهر الطبيعية والجوهر الأساسي وشكل الأرض (4)

إن غياب الأدلة المباشرة لا يعني إنه لم يكن فيلسوفًا وعالمًا متميزًا. فمن جهة، نستنتج من اهتماماته ورحلاته إلى الشرق بأنه كان كثير المعرفة وواسع الإطلاع وشديد الشغف بهما. من جهة أخرى، فكون طاليس مؤسس المدرسة الطبيعية يعني أنه كان ذو تأثير كبير على التفكير الإغريقي.

التحرر من التصور الأسطوري

بداية القول الفلسفي هي  تحرر العقل من الأسطورة، ومن الأسئلة التي تلقي بظلالها على النقاش الفلسفي هو ماهية مصادر طاليس المعرفية. زار طاليس كل من بابل ومصر، ويقال بأن فكرته الرئيسة التي تقول بأن الماء هو المبدأ الأول كانت فكرة معروفة لدى البابليين (5). إلا أن ما يميز طاليس كما يؤكد أرسطوطاليس ويضعه في مرتبة الفيلسوف الأول هو أنه قد انتقل من التصور الأسطوري إلى التفكير المنطقي. في بلاد الأغريق شأنها شأن باقي امصار العالم، كان يُعتقد بأن الكون مخلوق وله خالق ولم يفكر الإغريق في طبيعة الكون إلا في سياق إيمانهم بالآلهة. أما طاليس فقدم تفسيرات قائمة على الملاحظة حول أصل الكون والمبدأ الأول (4).

فلسفة طاليس

المبدأ الأول عند طاليس

 كل ما نعرفه عن فلسفة طاليس هو أنه قال بأن المبدأ الأول هو الماء، أي أن الماء هو الأصل وأن العالم بتنوعه ما هو إلا حالات الماء. يقول نيتشه عن ذلك: “إن ما دفعه إلى ذلك إنما هو مسلمة ميتافيزيقية…إنها مسلمة أن (الكل هو واحد)”.

هذا المبدأ يؤكد بأنه لا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا اختلاف في كمية الماء التي يتركب منها هذا الشيء وذاك، فالماء يصعد في الفضاء بخارًا ومن ثم يعود إلى الأرض مطرًا ويصيبه برد الشتاء فيصير ثلجًا. فكان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت عنها الكائنات وإليها تعود (6).

حسب راسل فأن قول طاليس بأن كل شيء مصنوع من الماء يمكن اعتباره فرضًا علميًا (7). بينما نيتشه له قول آخر، فيقول عن هذا المبدأ:

أولًا لأن هذه الجملة (الماء أصل كل الأشياء) تتناول بطريقة ما أصل الأشياء. ثانيًا لأنها منعزلة عن السرد الخيالي. ثالثًا لأنها تتضمن فكرة أن الكل واحد. حسب السبب الأول، ما زال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينيين والخرافيين، لكنه يخرج عن هذه الطائفة للسبب الثاني ويظهر لنا كمفكر في الطبيعة، أما السبب الثالث يجعل منه أول فيلسوف يوناني.(8)

الأخلاق عند طاليس

إن مبحث الأخلاق لم يلق اهتمامًا كبيرًا قبل سقراط رغم أن الأساطير اليونانية وقصائد هومر وهزيود ركزت على الأخلاق كثيرًا. لكن، ثمة إشارة واضحة في كتاب يمليخيا (فيثاغورس – حياته وفلسفته) على نظرية طاليس في الأخلاق. فيقول يمليخيا: ” تلقى (فيثاغورس) من طاليس عددًا من النصائح المفيدة، لا سيما تقدير الوقت، والامتناع عن النبيذ واللحوم وتلافي التخمة وضرورة الاعتدال في تناول الأطعمة اللذيذة”(9).

هذه النصائح والتي صارت بعد ذلك بمثابة نهج أخلاقي في فلسفة فيثاغورس، تقدم لنا صورة عن أخلاقيات طاليس. فيظهر كأنه أشبه بحكيم ومتصوف شرقي منه إلى فيلسوف يوناني.

اقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

تحمل الفلسفة هوية غربية، نظرًا لما تملك من خصائص لم تتوفر في الشرق. لا يعني ذلك بأن الشرق لم يكن يفكر، إذ قدمت الحضارات الشرقية إسهامات كبيرة في شتى المجالات المعرفية والعلمية، إلا أن التفلسف لا يعني التفكير كما يقول دولوز. يبدأ القول الفلسفي مع طاليس، بسيطًا وغامضًا في آنٍ، طافيًا على السطح وعميقًا بنفس الرهبة. من تلك البساطة والعفوية بدأت الفلسفة تتوغل في مفاصل حضارتنا البشرية وتكشف الأسرار تارة وتلقي بالمعروف في المجاهل تارة اخرى.

المصادر

  1. يمليخا، فيثاغورس حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، دار أمل الجديدة، ط1، 2017، ص17-18.
  2. نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي، ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية، ط2، 1983، ص49.
  3. brittannica
  4. internet Encyclopedia of Philosophy
  5. ancient
  6. زكي نجيب، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017، ص22-23.
  7. برنارد راسل، تاريخ الفلسفة الغربية – الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010، ص63.
  8. نيتشه، مصدر سابق، ص46.
  9. يمليخا، مصدر سابق، ص19

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور

حين نلقي نظرة في تراثنا المعرفي، نستسلم لغبطة كبيرة لما بين أيدينا من كتب استطاعت الصمود لأكثر من ألفي عام. لا يزال بإمكاننا تسجيل حضورنا في بلاد أوروك لنقرأ كلكامش، ونسير مع سقراط في أثينا وهو يجادل الفلاسفة والسفسطائيين. أثرت تلك الكتب بشكل رهيب في واقعنا الثقافي، غير أن النظرة لو طالت سيأخذنا الحزن بعيدًا. ملايين الكتب كان مصيرها الفناء بسبب حروب سياسية ودينية وعوامل بيئية، فالكثير من الأسماء اختفت من ذاكرة التاريخ. كان أبيقور قد ألف 300 كتابًا، لم يصلنا منها سوى بعض الشذرات والرسائل. المصدر الأكثر أهمية في فلسفة أبيقور بين أيدينا الآن هو قصيدة لوكريتوس (حول الطبيعة). في هذا المقال سنسلط الضوء على ثلاثة مباحث من فلسفة أبيقور.

لمحة عن أبيقور ومدرسته

ولد أبيقور في (ساموس – Samos) عام 342 ق.م من عائلة فقيرة جدًا. وفي ساموس كان قد استمع إلى فيلسوف أفلاطوني يدعى (بامفيلوس – Pamphilus)  وبعد ذلك إلى (نوزيفان – Nousiphanes) من أتباع ديمقريطس(ص 535 تاريخ). إلا أن أبيقور يتباهى بأنه طفق يتفلسف وهو في الرابعة عشرة من العمر(1).

أسس أبيقور مدرسته عام 306 ق.م (311 حسب راسل) تزامنًا مع تأسيس المدرسة الرواقية. بينما سارت الرواقية تتطور في مذهبها الفلسفي في طريق طويل من مراحل التطور(2)، بقت المدرسة الأبيقورية قائمة نحوًا ستة قرون، وهو الذي وضع أساس مذهبه وأكمله ولم يزد معتنقو مذهبه شيئًا ذا قيمة ولا غيروا من آرائه (3).

لم يكن أبيقور يمثل مؤسسًا لمدرسة حاله حال زينون وحسب. ففي حين نجد في الرواقية من تجاوز بداياتها على نحو ديمقراطي وأضاف عليها، كان أبيقور يمثل شخصية مقدسة بالنسبة لأتباعه. بعد مرور مئتي سنة من وفاة المعلم وصفه لوكريتوس بالإله في أبيات شعرية:

(كان إلهًا، أجل إلهًا، فهو أول من اكتشف ذلك الاسلوب في الحياة الذي يقال له اليوم الحكمة، وهو من نجانا بفنه من عواصف عاصفة ومن ليل دامس وجعل حياتنا تدور في هدوء وضياء عظيمين.(4).

وكما كان بسيطًا في فلسفته، كان بسيطًا جدًا وهو يواجه الموت، ففي اليوم الأخير له في الحياة كتب لأحد اتباعه: “أكتب إليك في نهاية يوم سعيد من أيام حياتي، فأوصابي لا تفك طوقها عني وما عاد في مقدورها أن تزيد عما هي عليه؛ كل ذلك أقابله بفرح الذي أسكنته في نفسي ذكرى مناقشتنا الماضية.(5)

إقرأ أيضًا الفلسفة الرواقية ووصفة حياة سعيدة

أصل المجتمع:

إن النظرية التي يفسر فيها أبيقور أصل المجتمع واللغة والدين والقانون والملكية قريبة جدًا من الطرح الماركسي حول هذه المسائل.

في البداية، كان يعيش البشر في عزلة ويتكاثرون عشوائيًا، وما كان بإمكانهم أن يتواصلوا لفظيًا ولا كانت لهم مؤسسات إجتماعية. ويعزو أبيقور نجاة الإنسان من ويلات الطبيعية إلى القوة الجسدية الجبارة التي امتلكها عصرئذ، حيث كان في صراعات مستمرة. بفضل اكتشاف النار وظهور الأسرة والمشاعر الحارة تجاه الأزواج والذرية خفت حدة الصراعات تلك. في المرحلة هذه كان البشر في وضع يسمح لهم بالإتحاد ليكونوا في مأمن من أخطار الطبيعة كالوحوش البرية. فقاموا بتطوير أنواع مختلفة من المهارات التقنية، مثل الزراعة، بناء المنازل وكذلك اللغة.(6)

أن الأسماء في البداية نشأت بشكل طبيعي، بحيث كلما تعرض الإنسان إلى مثير من المثيرات، اطلق صوتًا معبرًا له. ونظرًا لإختلاف خصائص الإنسان الفيزيائية من بيئة لأخرى اختلف الاصوات التي انتجها الإنسان إستجابة للمثيرات، وذلك يعلل وجود لغات مختلفة. والنقاشات النظرية أدخلت مفردات جديدة في اللغة حتى وصلت لحالة متقدمة وهذا ما ساعد الناس في تكوين صداقات وتحالفات جديدة مما حقق المزيد من الأمن الإجتماعي.(6)

لم تكن هناك منافسة على السلع بعد، وبالتالي لم تكن هناك هناك صراعات وحروب. ومن جهة أخرى كانت المفردات اللغوية ما زالت تتوافق مع موضوعاتها البدائية ولم تكن بعد مصدرًا للإرتباك العقلي. ولكن بفضل التراكم التدريجي للثروة ، جاء الصراع على السلع ليؤثر على العلاقات الاجتماعية ، وظهر ملوك أو طغاة حكموا على الآخرين ليس بحكم قوتهم الجسدية ولكن بفضل الذهب. تم الإطاحة بهؤلاء المستبدين بدورهم، وبعد فترة من الفوضى العنيفة، وجد الناس أخيرًا حكمة العيش في ظل حكم القانون.(6)

الأخلاق:

حالها حال الرواقية، تختصر الأبيقورية الفلسفة في الأخلاق، وتعتبر الأخلاق كممارسة حياتية سليمة للوصول إلى حياة سعيدة خالية من الألم. يترتب على ذلك ابتعاد المدرسة هذه من كافة أشكال التعقيد وإبعاد الآلهة والتصورات الميتافيزيقية والمفاهيم المجردة عن الحالة الإنسانية.

تدور الأخلاق الأبيقورية حول فكرتين محوريتين: اللذة و(الطمأنينة-Ataraxia)، بشكل، تكون الطمأنينة تابعة للذة التي هي غاية. غائية اللذة وضعت الفلسفة الأبيقورية في مرمى الانتقادات ابتداءًا من الرواقية إلى يومنا هذا، فاللذة كانت ولا زالت قرينة الشر. غير أن أبيقور كان قد برر موقفه: “عندما نقول أن اللذة غاية لا نقصد الكلام عن لذة الفساق والمجانين”(7).

يجعل أبيقور من الرغبات مراتب؛ فهناك الطبيعية والضرورية كالرغبة في الاكل، وهناك طبيعية وغير ضرورية كالرغبة في نوع معين من الطعام، وهناك رغبات لا هي طبيعية ولا ضرورية كالرغبة في تاج أو تمثال. والحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإشباع النوع الأول من الرغبات. (7)

وحول علاقة اللذة بالسعادة والخير يقول أبيقور: “إننا نؤكد أن اللذة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرفنا على ذلك على أنه الخير الأول، الفطري فينا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه”(8).

وكون اللذة غاية لذاتها، لا يعني أن الفضائل الأخرى ليس لها أي اعتبار بل أن اللذة متجذرة فيها. فيقول عن ذلك: “ليس من الممكن أن نعيش في سعادة دون أن نعيش على نحو شريف، وعادل وحكيم، كما لا يمكن أن نعيش على نحو شريف وعادل وحكيم دون أن تكون سعيدًا. فالرجل العادل هو أكثر الناس تحررًا من القلق والإنزعاج، أما الرجل الظالم فهو فريسة دائمة لهذا القلق والإنزعاج”(9).

الميتافيزيقيا:

كان أبيقور شديد الحذر من إدخال دور الآلهة في فلسفته وشؤون الناس، لكنه درس ظاهرة الدين ووجود الآلهة دراسة دقيقة. فسر السلوك البشري البدائي وعلاقته بظهور الحالة الدينية وتطورها. فالظواهر الطبيعية كالرعد والبرق تُفسر على أن الآلهة غاضبة على خطايا البشر، في حين أن الناس البدائيين في مراحل ما قبل ظهور المجتمع رغم شعورهم بالرعب إزاء الظواهر الطبيعية وتفسيرهم لها بأنها من صنع الآلهة لم يحسبوها كعقوبة. رغم أن موقف أبيقور من الآلهة غير واضح لكنه أقرب إلى بروتوغوراس، فهو ينفي تدخل الآلهة في شؤون البشر.(6).

بسبب موقفه الحاد من الآخرة والعناية الإلهية وخلود النفس وعقاب الآلهة، كان يتم إتهامه بالإلحاد. أن أبيقور لا ينفي وجود الآلهة، لكن يضعها في عزلة تامة عن البشر وحياتهم. الآلهة كما يتصورها أبيقور، مختلفة عن المفهوم الشائع، فهو يقول بأن الآلهة خالدة في الفضاء البعيد ولا تهتم بأمرنا.(10)

نجد أن هذا الاهتمام الذي يعطيه أبيقور للآلهة آت عبر تفسيره الرئيس للألم ومشكلة اجتناب الخوف. يرى بأن الدين والخوف من الموت هما من أكبر مصادر الخوف، وهما متصلان أحدهما بالآخر. فالدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء. أما أبيقور يجد في تدخل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع وأن الخلود يقضي على كل أمل في النجاة من الألم.(11)  

الخلاصة:

إن المدرسة الأبيقورية استمرت لستة قرون إلا أن روح المذهب بقت كما هي، وظل التلاميذ يدافعون عن نظريات المعلم المبارك. هذه المدرسة يمكن القول بأنها مطبخ  السعادة البشرية، فهي لم تخوض معاركها في تخوم المنطق والرياضيات والمعرفة الخالصة. قالت قولها في الحياة ببساطة مفرطة، إن الحياة السعيدة هي تحقيق اللذة وتثبيط الألم، واللذة تكون في أبسط صورها. هذه اللذة مثلت الخيط الذي يربط كافة المباحث ببعضها، لا سيما المباحثة الثلاثة الرئيسة في فلسفة أبيقور.

المصادر:

  1.  امييل بريهييه، الفلسفة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى، دار الطليعة، ص94.
  2. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة زكي نجيب، الهيئة المصرية العامة 2010، ص375.
  3. زكي نجيب محمود وأحمد امين، قصة الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، ص182.
  4. اميل برهييه، مصدر سابق، ص96-97.
  5. نفس المصدر، ص 124.
  6. https://plato.stanford.edu/entries/epicurus/#SociTheo
  7. اميل برهييه، مصدر سابق،ص110.
  8. فردريك كوبلستون، تاريخ الفلسفة، المجلد الأول، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، ط1، المشروع القومي، ص542.
  9. نفس المصدر، ص544.
  10. https://iep.utm.edu/epicur/#SH3e
  11. برتراند راسل، مصدر سابق، ص382.

تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي

تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي

تتبع الحجج المُقنعة هيكلًا وتركيبًا معينًا، لذلك من السهل عادةً معرفة ما إذا كنت تستمع إلى حُجة مُقنعة أم لا. والهيكل المنطقي للحُجة بسيط جدًا ولكنه قوي جدًا في ذات الوقت. نجمع الأشياء التي نعرفها، أو نعتقد أنها صحيحة حول قضية ما، ثم نحاول وضع هذه الأشياء معًا بطريقة متماسكة في ترتيب معيّن بحيث تقودنا إلى نتيجة.

الأشياء التي نعتقد أنها قد تكون صحيحة تسمى “مقدمات منطقية – PREMISES”. نُدرجها بالتسلسل المنطقي الذي نعتقد بسهولة فهم الآخرين له. وينتهي هذا التسلسل بـ “الخلاصة-CONCLUSION”، فهو نقطة نهاية منطقنا، على الأقل لتلك الحجة بعينها.

تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي

ندعو التحرك من المقدمة إلى الخلاصة “بالاستنتاج-REFERRING”، فلو عدنا لمثال السمك الطائر كمحاججة سنجد أن “أ” لديه مقدمتين، الأولى هي أن “زعانف السمكة أطول وأخف وتتصل بعضلات أقوى” والثانية هي أن “ذيل تلك السمكة يضرب الماء بقوة تدفعها خارج الماء لأمتار قليلة”، وتلك المقدمتين هما اللتين دفعتانا إلى الاستنتاج بأن السمك الذي يأكله “ب” يمكنه الطيران!

الآن نعلم بأن حُجة “أ” لها مقدمة وخلاصة قادتا عملية الاستنتاج، ولكن كيف نعرف أنها حُجة صحيحة؟

يمكننا تقييم الحجج بطريقتين، هيا بنا لنعرفهما.

1. فحص المقدمات

المقدمة الأولى

لنتأكد من صحة المقدمات التي استخدمها “أ” في مثاله إن كانت حقيقة أم لا، هل “زعانف السمكة أطول وأخف وتتصل بعضلات أقوى”، تدفعنا تلك الحُجة لطرح عدة أسئلة، فهل طول وخفة الزعانف تساهم بالأساس في عملية الطيران؟ وإن كانت كذلك، فهل طول وخفة زعانف تلك الأسماك كافي حقًا للطيران؟ كيف نعرف أن العضلات التي تتصل بتلك الزعانف أقوى؟

المقدمة الثانية

ولننظر للمُقدمة الثانية التي استخدمها “أ”، “ذيل تلك السمكة يضرب الماء بقوة تدفعها خارج الماء لأمتار قليلة”، ستدفعنا تلك المقدمة أيضًا لطرح عدة أسئلة، مثل كيف نقيس قوة ضرب ذيل تلك السمكة بالماء لنقييّمها؟ وهل يعتمد طيران السمكة فوق الماء على قوة ضربة الذيل فقط أم أن اتجاه الضربة يساهم أيضًا بدفعها خارج الماء؟ هل تضرب السمكة الماء في الاتجاه الصحيح كي تتمكن من الطيران؟ وغيرها من الأسئلة.

إن وضع المقدمات تحت المنظار وتقييمها وطرح الأسئلة حول مدى صحتها بهذا الشكل هو ما سيمكننا من تقييم تلك الحُجة.

2. قوة المسار بين المقدمات والخلاصة

هل استخلصنا النتيجة أو الخلاصة بسهولة من المقدمات؟
إن كانت المقدمات صحيحة فربما لدينا بعض الثقة في النتيجة أو الخلاصة، أي أن صحة المقدمات وانسياب النتيجة منطقيًا منها سيؤدي إلى “حُجة صالحة”، لكن إن لم يحدث هذا فـ “الحُجة باطلة”.

إن كانت الحُجة كالآتي مثلا:
– مقدمة أولى: “زعانف السمكة أطول وأخف وتتصل بعضلات أقوى”
– مقدمة ثانية: “ذيل تلك السمكة يضرب الماء بقوة تدفعها خارج الماء لأمتار قليلة”
– النتيجة / الخلاصة: “تلك السمكة طعمها سيء!”

فمن الواضح أن الحُجة باطلة، فلا مسار منطقي يدفعك لهذه النتيجة بداخل المقدمتين المذكورتين!

إن كانت الحجة ذات مقدمات صحيحة، وتنساب عبر مسار منطقي من التسلسل إلى النتيجة أو الخلاصة، فهي “حجة صالحة وتبدو صحيحة”، بالتالي فهي حجة مقبولة.

مصطلحات فلسفية

كما قرأت بالأعلى، فهناك مجموعة مصطلحات مكنتنا من الحُكم على الحُجة التي نسمعها، مثل:
– مقدمات
– نتائج
– تسلسل منطقي
– حجة:
– صالحة / باطلة
– تبدو صحيحة/تبدو خاطئة
– مقبولة/مرفوضة

مثال من نقاش يومي

  • ليلى: “يا إلهي، لقد سقطت القهوة على ملابسي!”
  • آدم: “تفضلي هذا المنديل، لا تقلقي، فسقوط القهوة يجلب الخير”

    كما سمعت، لا علاقة بين المقدمات والنتيجة، ويمكن منح آدم لقب “صاحب الحُجة الحمقاء” فهو يتفاءل بأشياء غير منطقية ولا يجب التعامل مع تفاؤله بجدية بأي حال من الأحوال.

مصادر:

Thoughco
Futurelearn
Coursera
Edx

كيف تنظر الفلسفة إلى مفهوم الوعي؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 10 في سلسلة 9 موضوعات في علم النفس التطوري

تُعتبر إشكالية الوعي من أعقد الإشكاليات العلمية. رغم أننا كبشر نختبر الوعي ونعرفه بطبيعتنا، إلا أن تفسيراتنا الفلسفية والعلمية في مجال الوعي ما زالت مبتدئة. ففي حين اعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الوعي حقيقة بديهية وصافية ندركها بالعقل، إلا أن مفهوم الوعي ما زال غامضًا وما زلنا بعيدين عن فهم تفسير مفهوم الوعي وأسبابه العلمية. فما هو تعريف الوعي؟ وكيف تناول الفلاسفة هذا المفهوم المعقّد ؟ وما طبيعة العلاقة التي تجمع الوعي والفلسفة؟

مفهوم الوعي وتعاريفه المختلفة

نستخدم كلمة “وعي” ومشتقاتها في حياتنا اليومية لنعبّر عن مفاهيم مختلفة (فنقول مثلًا فقد فلان وعيه أو لم أكن واعيًا،…). لذلك يسمّي الفلاسفة الوعي بـ«المفهوم الشعبي – Folk concept»، أي أنه متجذّر في اهتماماتنا اليومية ونابع منها.

ولكن الملفت أيضًا هو أن استخدام كلمة الوعي لا يرد في سياق واحد، أي أنها تحمل معانٍ مختلفة.

المعنى الأول للوعي هو «الإحساس –Sentience  »، أي الإدراك الحسّي والقدرة على التفاعل مع المحيط.  ويُستخدم مفهوم الوعي أيضًا بمعنى «اليقظة – Wakefulness»، فنعتبر أن الكائن واعي بمجرّد أنه غير نائم أو مخدّر، ويكون الوعي بهذا المعنى حالة من حالات الحياة العقلية التي نحظى بها.

أما المعنى الثالث للوعي هو ما يسمّيه الفيلسوف الأميركي «نيد بلوك – Ned Block» بـ«الوعي الوصولي –Access consciousness » وهو ببساطة الأفكار التي تدور في رأسنا في لحظة معينة، وتتفاعل مع بعضها وتؤثر بشكل مباشر على سلوكنا. وقد اعتقد الكثيرون قبل القرن العشرين أن كل أفكارنا متاحة لوعينا، غير أن المدرسة التحليلية في علم النفس التي تأسّست على يد فرويد بيّنت أن الأفكار والسلوكيات الواعية ليست إلا جزءًا صغيرًا من حياتنا العقلية والنفسية، وهي تخبئ الكثير من الأفكار والعواطف اللاواعية والتي تؤثر بشكل لاواعٍ على تصرفاتنا.

وأخيرًا، المعنى الرابع للوعي هو ما يسمّى بـ«الوعي الهائل أو الخبرة الذاتية – Phenomenal consciousness (Qualia)»، وهي حالة الوعي الشاملة التي لا تقتصر على كل المعارف والمعلومات والإدراكات الحسية والذكريات والرغبات والمخططات الموجودة في العقل، بل تشمل أيضًا التجربة الذاتية والمشاعر الشخصية التي يعيشها كلٌّ منا في معظم أوقاتنا. فمن الممكن أن تميز آلة معينة بين أطعمة ذات مذاقات مختلفة أو أي إدراكات حسية مختلفة. ورغم أن هذه الآلة تملك قدرات معرفية لكنها لا تعيش ما تعيشه أنت، ككائن واعٍ، من تجربة شخصية عند تذوق كل من الأطعمة، وبالتالي لا تملك الوعي.  

كيف تناول الفلاسفة مفهوم الوعي عبر التاريخ؟

يُقال أن تساؤلاتنا كبشر حول الوعي والعقل بدأت منذ زمن بعيد. فكان لحضارات العصر الحجري الحديث و ما بعدها ممارسات عقائدية وروحية تبين حدًا أدنى من التفكير والتساؤل حول مفهوم الوعي.

غير أن آخرين يعتبرون أن مفهوم الوعي كما نعرفه حاليًا يُعد حديث نسبيًا، أي أنه لم يبدأ قبل العصر الهوميري (أي تقريبًا في العام 750 قبل الميلاد). حتى أن اللغة الإغريقية القديمة لم تكن تحتوي على كلمة مرادفة للوعي، رغم اهتمام الإغريق بالكثير من الإشكاليات العقلية.

قفزة الوعي في منتصف القرن السابع عشر

ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر، بدأ الحديث عن الوعي بشكل كبير، وتم اعتباره موضوعًا مركزيًا في أي حديث عن العقل، حتى أن ديكارت عرّف “الفكرة” نفسها على أنها الوعي بحدوثها. وفي نهاية القرن السابع عشر، لاقاه الفيلسوف البريطاني «جون لوك – John Locke» في أفكار مشابهة عن الوعي، بحيث اعتبر أنه أساسي ليس فقط للفكرة، بل أيضًا للهوية الذاتية.

ثم أتى عالم المنطق والرياضيات والفلسفة الألماني «ليبنيز – Leibniz» ليقدم نظرية عقلية، اعتبر فيها أن الوعي مُجزأ إلى درجات لا متناهية، حتى أنه طرح احتمالية أن تكون بعض الأفكار لا واعية. كما كان من أوائل الذين ميّزوا بين «الإدراك – Perception » و«الإدراك بالترابط – Apperception» وبين الوعي والوعي الذاتي.

وبقيت «المدرسة الترابطية –Associanism  »التي بدأت مع لوك  مسيطرة على كل النظريات المتعلقة بالفكر والوعي لمدة قرنين، وهي تؤمن أن كل العمليات العقلية مترابطة ، وأن كل معرفة تبدأ عن طريق الحواس. وقد تبع هذه المدرسة الفيلسوف الاسكتلندي «ديفيد هيوم – David Hume» في القرن الثامن عشر وبعده الفيلسوف الاسكتلندي «جيمز ميل- James Mill» في القرن التاسع عشر، فاكتشفا مبادئ ترابط الأفكار وتفاعلها.

في المقابل، انتقد الفيلسوف الفرنسي ايمانويل كانت المدرسة الترابطية، بحيث اعتبر أن الوعي الهائل لا يمكن أن ينتج فقط عن ترابط الأفكار، بل هو يستلزم بنية عقلية غنية ومنظمة.

في كل هذه الفترة، كانت العلاقة بين الوعي والدماغ البشري غامضة جدًا بالنسبة للباحثين.

بدأت تتكشف هذه العلاقة في القرن العشرين مع بداية المدرسة السلوكية في علم النفس، ومن بعدها بشكل أكبر مع صعود علم النفس المعرفي الذي وضع أسسًا علمية لكيفية عمل الدماغ ومعالجة المعلومات والعمليات العقلية.

ولكننا حتى الآن، لم نتوصّل بعد إلى إيجاد الإجابات حول الكثير من الأسئلة حول الوعي. مثل ما الذي يجعلنا بالتحديد كائنات واعية، وإمكانيات وجود الوعي عند كائنات أخرى غير بشرية. والأهم أن العلاقة بين الفلسفة والعلوم المعرفية ما زالت تحمل حلقات ناقصة، لذلك تحدّث الفلاسفة عن وجود «مشكلة الوعي الصعبة – The hard problem of consciousness».

مشكلة الوعي الصعبة

مشكلة الوعي الصعبة تكمن في تفسير وجود الوعي الذاتي (الخبرة الذاتية أو الكواليا). وهنا السؤال الأساسي: ما الذي يجعل منا، ككائنات جسدية ومادية، كائنات واعية؟

إذا أردنا تشريح هذه المشكلة يمكن النظر إلى الوعي الذاتي من زاويتين مختلفتين.

من الزاوية الأولى، نحن نعرف أننا نملك الوعي، بكل بساطة لأننا نختبره. من خلال هذه النظرة الذاتية، يمكن وصف تجاربنا الشخصية المختلفة مع كل المشاعر الواعية التي تصحبها.

في المقابل، إذا نظرنا إلى الوعي الذاتي من منظور خارجي، يصعب تحديد الوعي وتعريفه. فلننظر مثلًا إلى الدماغ كعضو مادي، نعرف أنه عضوًا فائق التعقيد مع أكثر من مئة مليار خلية عصبية متصلة ومتشابكة. كما نعرف أنه قادر على تخزين المعلومات والتمييز بين المحفزات الحسية والتخطيط والسيطرة على سلوكياتنا. لكننا لا نملك أدنى فكرة كيف يمكن لهذا النشاط الدماغي أن يصنع الوعي الذاتي.

هل يستطيع العلم حل معضلة الوعي؟

يعتبر عدد من الفلاسفة أمثال «فرانك جاكسون – Frank Jackson» و«ديفيد تشالمرز – David Chalmers»  أن العلم لن يستطيع حل مشكلة الوعي الصعبة، ولن يستطيع اختصار الوعي بتفسيرات العلوم المعرفية والنشاط العقلي. ويعطي فرانك جاكسون هذا المثال كدليل على ذلك. تخيّل أن “ماري” هي عالمة أعصاب عبقرية، لكنها وُلدت في غرفة خالية من الألوان، وكل ما من حولها بالأبيض والأسود. استطاعت ماري من داخل غرفتها تعلم كل المعلومات عن نشاط الدماغ، بما فيها قدرة الدماغ على تمييز الألوان. تخيّل أن ماري خرجت في يوم من الأيام إلى العالم الملوّن. في هذا اليوم، رغم معرفة ماري السابقة عن كل المعلومات المتعلقة بالألوان ومعالجتها، فهي اكتسبت خبرة جديدة لمجرد رؤيتها للألوان. وبالتالي، فإن فهم النشاط الذهني غير كافي لتفسير الوعي.

ختامًا، تبقى إشكالية الوعي عصية حتى الآن على التفسير العلمي والفلسفي. لكن استطاع العلم قبل ذلك أن يشرح الضوء بخصائص فيزيائية رغم اعتقاده عصيًا على هذا الشرح. فهل سيتوصّل العلم إلى تفسير الوعي خصوصًا مع صعود العلوم العصبية في عصرنا؟

المصادر
Coursera
Stanford Encyclopedia of Philosophy

إقرأ أيضًا: قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

تاريخ الكتابة

ما الذي له اليد الطولى في وصول العالم إلى ما هو عليه الآن؟ بالطبع، ليس هناك سبب واحد للتطور الحضاري. لكن ثمة أسباب معينة كانت وراء انتقال البشرية من استخدام العصا إلى استخدام الأجهزة الذكية. قد يقول البعض بأن النار هي مفتاح الحضارة، وهم محقون في ذلك. وقد يعول البعض على الخيال الأسطوري الذي مهد إلى معرفتنا الحالية بالعالم والكون، وهم بدورهم على الصواب. بيد أن الكتابة هي العنصر الأكثر فاعلية في رحلة الإنسان الشاقة نحو المزيد من المعرفة. هذه الأداة التي أُستخدمت قبل آلاف الأعوام في بلاد ما بين النهرين لأغراض تجارية هي الحارس الوحيد لاقتصادنا المعرفي. فتاريخ التقدم البشري هو على الأغلب تاريخ الكتابة، أو على الأقل لما كان هناك أي نقاش دون وجود هذه العلامات ذات البعدين. فسنخصص هذا المقال في البحث عن تاريخ الكتابة.

ما قبل الكتابة

إذا كانت اللغة المنطوقة هي أساس بناء علاقة أفقية مع الآخر في حدود زمانية ومكانية محددة، فالكتابة هي دعوة للحوار العمودي بين الأسلاف والاخلاف. تسعى اللغة المنطوقة إلى أهداف آنية وتواصل آني سرعان ما يُنسى. في حين، الكتابة هي مقاومة الزمن في سعي مستمر نحو أهداف طويلة المدى.

مع أن الكتابة لعبت دورًا مشابهًا للدور الذي لعبته النار في الحضارة البشرية، إلا أن تاريخ الكتابة فتي وقصير جدًا. اللغة المنطوقة سبقت المكتوبة بآلاف السنين ولا نعرف لماذا تكاسل البشر في هذا الاكتشاف. لكن، الكتابة ما هي إلا شكلٌ من أشكال التواصل الحر العمودي؛ ترك البشر الكثير من الرموز الأخرى لإقامة علاقة معنا. فالرسومات الفنية على جدران الكهوف تمثل بدورها نوعًا من اللغة المكتوبة ومع تفسير تلك الرسومات يمكن فهم الكثير عن الحالة البشرية قبل عشرات الآلاف من الأعوام.

الكتابة هي المظهر المادي للغة المنطوقة. ويُعتقد بأن البشر قد طوروا هذا المظهر المادي حوالي (50000 إلى 35000 ق.م) كما هو واضح من الرسوم الكهفية في عصر إنسان كرو-ماجنون. فتلك الرسومات كانت تعبر عن مفاهيم من الحياة اليومية، كرحلة صيد وما وقع فيها من الأحداث على سبيل المثال(1).

تاريخ الكتابة

الرموز الممهدة للكتابة

كان السلف المباشر لخط بلاد ما بين النهرين عبارة عن جهاز تسجيل (Recording Device) يتكون من قطع طينية ذات أشكال متعددة. تم العثور على الكثير من تلك الاشكال الطينية الهندسية مثل المخاريط والأسطوانات والأقراص والاشكال البيضوية  وهي تعود إلى 8000 إلى 3000 ق.م. هذه الاشكال تجسدت رموز دلالية ونظام من الإشارات لنقل المعلومات. على سبيل المثال، كان المخروط والكرة يمثلان على التوالي مقدارًا صغيرًا أو كبيرًا من الحبوب(2). بيد أن هذه الاشكال لم يكن لها سياق قواعدي. قثلاثة مخاريط وثلاث بيضات متناثرة بأي شكل من الأشكال كان من المقرر ترجمتها “ثلاث سلال من الحبوب، وثلاث أوعية زيت”(2).

الكتابة التصويرية

بعد أربعة آلاف عام، أدى النظام الرمزي (Token System) إلى الكتابة. حيث حل الخط (Script) محل العدادات (Counters) في كل من بلاد السومر وعيلام عندما كانت الأخيرة تحت الحكم السومري في فترة 3500 ق.م. كان يتم تخزين الرموز (Tokens) في مظاريف طينية مسدودة، من المرجح كانت تمثل الديون، ويقوم المحاسبين بوضع علامة خطية على تلك المظاريف. وتلك العلامات كانت أولى علامات الكتابة(2). بيد أن التحول هذا لم يكن كبيرًا ولم تتحرر الكتابة بعد من نظام الرمز سوى في تحويل الرموز من ثلاثية الأبعاد إلى ثنائية الأبعاد. كان الخروج الرئيسي الوحيد من نظام الرمز يتمثل في إنشاء نوعين متميزين من العلامات(signs): الرسوم التصويرية المحفورة(incised pictographs) والأرقام المؤثرة (impressed numerals). بدأ هذا المزيج من العلامات في التقسيم الدلالي بين العنصر المحسوب والرقم(2).

اقرأ أيضًا: ملخص كتاب دروس من التاريخ لويل ديورانت

اللوغرام

المرحلة الثانية في تطور الكتابة تبدأ من حوالي 3000 ق.م. وذلك عند إنشاء علامات صوتية، بحيث تحولت العلامة الكتابية من عالم البصر إلى عالم السمع.

مع بناء الدولة، تطلبت اللوائح الجديدة تسجيل أسماء الأفراد الذين استلموا البضائع المسجلة على الألواح الطينية. وكانت العلامة الكتابية تكون بمثابة صورة ومحاكاة للعلامة المنطوقة، على سبيل المثال، يمكن كتابة اسم ربيع بعلامة دالة لفصل الربيع. وفي حال العبارات كان يتم استخدام رموز دالة وحسب لا الأفعال. هذه المرحلة من تطور خط بلاد ما بين النهرين والتي تميزت بإنشاء العلامات الصوتية، لم تؤدي فقط إلى فصل الكتابة عن المحاسبة ، بل أدت أيضًا إلى انتشارها من سومر إلى المناطق المجاورة، الحضارة المصرية على سبيل المثال(2).

ظهور الأبجدية

بدأت المرحلة الثالثة من تطور الكتابة حوالي 1500 ق.م مع اختراع الأبجدية. الأبجدية الأولى والتي تسمى بالسينائية (Porto-Sinaitic) والتي نشأت في أرض لبنان الحالية تأسست على حقيقية أن كل لغة تتألف من عدد محدد من الحروف وكل حرف يمثل صوتًا(2).

وكان قد حدث الانتقال من الكتابة المسمارية إلى الأبجدية في الشرق الأدنى القديم على مدى قرون. هذه الثورة المعرفية العظمى صدرها الشرق إلى بلاد الأغريق من خلال التجار الفينيقيين أبان القرن الثامن قبل الميلاد.

الجدير بالإشارة هو أن الفيضانات التي كانت تحدث في بلاد ما بين النهرين كان لها دور في ابتكار الأبجدية. حيث وجدت المجتمعات التي بنت المدن المبكرة أنها بحاجة إلى الاحتفاظ بسجلات لمخزوناتها وممتلكاتها وتجارتها(3).

الكتابة في مصر

منذ عام 3200 ق.م فصاعدًا، ظهرت الكتابة المصرية الهيروغليفية على ألواح عاجية صغيرة تُستخدم كملصقات للبضائع الجنائزية في المقابر. و تم العثور على الكتابة بالحبر باستخدام فرش وأقلام القصب لأول مرة في مصر. عُرفت هذه الكتابة بالحبر في اليونانية بالهيراتيكية (النص الكهنوتي) ، في حين أن الأحرف المنحوتة والمرسومة التي نراها على الآثار تسمى الهيروغليفية (المنحوتات المقدسة).

وكان للكتابة في مصر وظيفتان: الأولى كانت احتفالية وكانت كتابة منحوتة، والأخرى كانت في خدمة الإدارات الملكية والمعابد وكانت مكتوبة(4).

الكتابة في الصين

تطورت الكتابة في الصين من طقوس العرافة باستخدام عظام أوراكل عام 1200 قبل الميلاد. يبدو أن الكتابة الصينية نشأت بشكل مستقل، حيث لا يوجد دليل على انتقال ثقافي في هذا الوقت بين الصين وبلاد ما بين النهرين. تضمنت ممارسة العرافة الصينية القديمة نقوشًا على العظام أو الأصداف التي تم تسخينها بعد ذلك حتى تشققها. ومن ثم يتم تفسير الشقوق بواسطة العراف (Diviner) إذا كان هذا العراف قد حفر “الثلاثاء القادم سوف تمطر” و “الثلاثاء القادم لن تمطر” فإن نمط الشقوق على العظم أو الصدفة سيخبره ما هو الحال. بمرور الوقت ، تطورت هذه النقوش إلى النص الصيني(1).

تسجل عظام أوراكل هذه (شفرات كتف الثيران والسلاحف) الاسئلة التي طُرحت على النسب الملكي حول مواضيع متنوعة مثل تناوب المحاصيل والحرب والولادة وحتى وجع الأسنان. حتى الآن، تم العثور على ما يقرب من 150000 نموذج لمثل هذه العظام، تحتوي على أكثر من 4500 رمز مختلف، يمكن تحديد العديد منها على أنها أسلاف الأحرف الصينية التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم(4).

الخلاصة

منذ اختراع الكتابة في بلاد ما بين النهرين بدأت الحضارة ترتقي أكثر فأكثر. فاللغة قديمة جدًا، لكنها لم تكن قادرة على القيام بوظيفتها الكاملة دون وجود الكتابة. العالم نفسه لما كان سيكون بهذا الشكل لولا الهبة التي قدمتها لنا الكتابة. لما كنا سنعرف ملحمة جلجامش ولا الفلسفة اليونانية ولا كتاب مبادئ الرياضيات ولا حتى النصوص الدينية. ثمة أمر مثير للإهتمام في تاريخ الكتابة ألا وهو حدوثها الحتمي. إذ أن الكتابة كانت ستكون حتى دون أن يجازف السومريون؛ فحسب الأدلة التاريخية تمكن الصينيون من اختراع نظام للكتابة خاص بهم بمنأى عن السومريين. والكتابة لم تأتي فجأة بشكلها الحالي إنما تطورت بما يخدم الحاجات البشرية.

المصادر:

  1. ancient.eu
  2. sites.utexas.edu
  3. sciencedirect
  4. bl.uk

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

فلسفة التنوير وتفكيك المقدس

يجب ألا ننظر إلى كل فلسفة باعتبارها حالة تراكمية أو مجموعة من التأملات المجردة التي لا أثر لها في الواقع. كل فلسفة تتأثر بعصرها وتؤثر فيه، إذ يمكن أن نقول بأن الفلسفة لا تفسر العالم وحسب بل تشارك في تغييره أيضًا. ففلسفة التنوير من الفلسفات التي غيرت وجه العالم على نحو جذري وقادت محاولات تفكيك الخطاب المقدس. في القرن الثامن عشر برزت حركة التنوير بشكل مدهش في أوربا وقضت على معظم السرديات التأسيسية في السياسة والفلسفة والاخلاق. في هذا المقال سنسلط الضوء على أهم جوانب وافكار فلسفة التنوير وتداعياتها.

مفهوم التنوير:

في النصف الأول من القرن الثامن عشر، جاء جان جاك روسو بسردية فلسفية سرعان ما تحولت إلى شبح يهدد أوربا. لم تكن سردية التنوير وليدة الصدفة أو حادث عرضي من تاريخ التخبط الفلسفي، إنما كانت مدفوعة بروح الثورة العلمية آنذاك. فكانت للاكتشافات العلمية والتقدم الصناعي دور بارز في حث العالم نحو إيجاد منهجية جديدة لتفسير العالم، إذ أن الحجة الدينية التقليدية كانت تسقط أمام الدليل العلمي. لهذا، نجد في أولى كتابات التنوير الشغف الكبير بالعلم، ففي كتابه (رسائل فلسفية) يتحدث فولتير عن نيوتن بإجلال. حيث اثبتت قوانين نيوتن بإن العالم قابل للتفسير والوصول إلى الحقائق القطعية ممكن.  شعر الإنسان بأن مفاتيح الأسرار الكونية لم تعد بيد السلطة الدينية؛ وهذا ما دفعه للتمرد ضد كافة اشكال التبعية ولإعادة النظر في مكانته.

يحمل التنوير دلالتين ثوريتين: كينونة الإنسان عابرة للهويات الوطنية والدينية والقومية، وبالتالي له وجود كوني. قدرة العقل الإنساني على بناء عالم مضيء ومتنور، بالتالي الإنسان مشروع التنوير. ففي الدلالة الأولى اطاح التنوير بالقوالب الدينية والطبقية التي وضع فيها الإنسان واعلن القطيعة مع التراث القديم. وفي الدلالة الثانية ايقظ القدرة الفكرية للفرد لمعارضة الدور الدين الإرشادي في الفكر والعمل(1).

التنوير الفرنسي:

حمل الفلاسفة الفرنسيون قضية التنوير نحو الأمام مثل مونتسكيو وفولتير وروسو وديدرو وكويسناي وألمبيرت، ولعبوا دورًا بارزًا في زرع روح التفكير المستقل وعرض العقلانية. كما هاجموا عدم المساواة والقسوة والاستغلال في المجتمع الفرنسي وبشروا بمستقبل ليبرالي وتقدمي حر(2). والثورة الفرنسية كانت ثمرة هذه الجهود الفلسفية.

مونتسكيو:

ردًا على الطروح القومية التي تنظر إلى الآخر نظرة دونية وعدائية يقول مونتسكيو بأنني إنسان بالضرورة وفرنسي بالصدفة (3). وسخر من المجتمع الفرنسي وهاجم نظام الحكم المطلق الذي انشأه لويس الرابع عشر والكنيسة الكاثوليكية وجميع طبقات المجتمع(4). في كتابه (روح القوانبين) دعا مونستكيو إلى نظام دستوري من شأنه أن يخدم مصالح الشعب الفرنسي، كما أكد على أن حرية الافراد لا يمكن أبدًا أن تكون آمنة بدون فصل سلطات الحكومة إلى ثلاثة أجهزة مستقلة – تشريعية وقضائية وتنفيذية(2).

فولتير:

يعد فولتير من الفلاسفة الأكثر ارتباطًا بالتنوير ليس فقط لما له من أطروحات تنويرية، فدخوله السجن كان بمثابة توقيع فلسفي على الثورة الفرنسية. هاجم نظام الحكم رغم الاستبداد والعادات والمفاهيم السائدة في المجتمع واعتبر الكنيسة الكاثوليكية كوكر للخرافات ومركزًا للتعصب وترسيخ العبودية(2).

روسو:

فتح جبهته أولًا ضد العقلانية المتمثلة بديكارت، وأسس لعقلانية خصبة قادرة على مواجهة المشاكل الاجتماعية والسياسية. ودافع عن الحريات والحقوق المدنية وحق التمرد ضد النظام حين يفشل في خدمة الناس(2).

التنوير الإنكليزي:

يمثل التنوير الإنكليزي الحجر الأساس لفلسفة التنوير، فاكتشافات نيوتن العلمية هي التي الهمت فلاسفة التنوير الفرنسي. كان لتوماس هوبز وديفيد هيوم وآدم سميث حضورًا مميزًا في بلورة فكرة التنوير على جميع الاصعدة. شارك هوبز في إرساء العقد الاجتماعي والنظام السياسي. أما هيوم فكان رائد التجريبية ونقد الدين، ففسر هيوم الحالة الإنسانية في ضوء العلم التجريبي. وانطلاقًا من دراساته التجريبية انتقد هيوم اللاهوت والمعجزات والتفسيرات الأسطورية. بينما آدم سميث فهو مهندس النظام الاقتصاد السياسي(5).

التنوير الألماني:

وصل التنوير ألمانيا متأخرًا مقارنة مع فرنسا وبريطانيا، كمان أن التنوير الألماني كان يختلف كثيرًا عن باقي الحركات التنويرية لقربه الشديد من الميتافيزيقيا. كان كانط من أبرز فلاسفة التنوير في ألمانيا. حول مفهوم التنوير يقول كانط “التنوير هو انعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لاستخدام عقلك بنفسك”(6). فكانط كان من انصار الحرية الفردية، بوصفها الأفق المناسب لفهم العالم.

موقف التنوير الديني:

لم يكن لفلسفة التنوير طرح موحد حول مسألة الإيمان، لكن كان هناك تأويل موحد للأساطير والخرافات الدينية. رفض التنوير العقل الأسطوري والخرافات وسلطة الكنيسة المطلقة.  كانت هناك أربعة اشكال للدين في عصر التنوير: الربوبية، دين القلب، الإيمانية والإلحاد.

الربوبية:

تمثل الربوبية الشكل الديني الأكثر ارتباطًا بعصر التنوير، ووفقًا لها، فأنه بإمكاننا أن نستدل إلى الخالق من خلال العقل وهذا الخالق هو الذي يدير الكون وله خطة، ولا يتدخل الخالق في شؤون الخلق. كما رفضت الربوبية الإيمان الأعمى بالمعجزات وكذلك رفضت ألوهية المسيح بل اعتبرته معلمًا صالحًا(2).

دين القلب:

رفض هذا الاتجاه الطرح الربوبي بحجة أنه يخلق هوة بين الخالق والمخلوق، ويصور الخالق على أنه مجرد مهندس للكون. كان روسو من مؤمني دين القب، فوفقًا لروسو الدين قائم على المشاعر الإنسانية(2).

الإيمانية:

كان كانط من الفلاسفة المؤمنين، وهو أكثر فيلسوف ساهم في نقد الدين التقليدي. يؤمن هذا الإتجاه بإلوهية المسيح وقيامته، فضلًا عن الإيمان بالكتاب المقدس. بالنسبة لوجود الله فهو يقع في حدود المعرفة القبيلة، بحيث يصعب على الإنسان الوصول إلى الكينونة الإلهية السامية على العالم سواء عن طريق التجربة أو العقل. لكن نجد لدى كانط بأنه كان يستدل إلى وجود الله من خلال تصميم الكون والضمير.

الإلحاد:

يعلن الإلحاد حضوره في التنوير الفرنسي بشكل أكبر، فطبقًا لدينيس ديدرو يجب أن نبحث في مبادئ النظام الطبيعي داخل العمليات الطبيعية وليس في كائن خارق متعال على العالم(2).

موقف التنوير الاخلاقي:

قبل عصر التنوير، في الغرب كان التفكير الاخلاقي يتمحور حول العقيدة الدينية المتعلقة بالله والحياة الآخرة. لكن مع بزوغ نجم التنوير، تم قطع اوصال الاخلاق مع تلك الحياة الافتراضية وربطوها بالحياة الدنيا نفسها، داخل الإطار الفلسفي بشكل عام وداخل المجتمع إلى حد ما. فالسعادة بعدما كانت تتحقق برضى السماء والزهد صارت خاصية لعلاقات الإنسان في سياق العالم الحسي.

كانت للحروب المذهبية والقومية في فترة ما قبل التنوير دلالات اخلاقية خطيرة، إذ أن الاخلاق الدينية فشلت في وقف سفك دماء ملايين البشر بل كانت تبرر لتلك الجرائم أحيانًا، ومن هنا برزت الحاجة لإرساء أسس اخلاقية علمانية قادرة على احتواء الإشكالات الاخلاقية.

واجه فلاسفة التنوير تحديات كبيرة في تحديد النظام الاخلاقي، لهذا كان هناك تباين بين الآراء التي ناقشت المسألة الاخلاقية. توماس هوبز كان يميل إلى الاخلاقية الذاتية، ربط بين القيمة الاخلاقية والموضوع الاخلاقي من خلال الانطباع الفردي. فما هو خير هو  موضوع الرغبة أو الشهية، وما هو شر هو موضوع الكراهية والنفور، ورفض هوبز وجود ما هو خير بذاته أو العكس(2). هذه الفكرة فيها نوع من التناقض مع روح التنوير الداعية للعقلانية والموضوعية.

في الطرف المقابل كان كل من صامويل كلارك وإيريل شافتسيري يرفضان نظرة هوبز ويؤكدان على أن ذاتية هوبز تتناقض مع حرية الآخر. وأكدا على اخلاقية موضوعية، بحيث ما هو خير هو ما يحقق مصلحة الجميع(2).

في ألمانيا كان الطرح الاخلاقي مختلفًا، كانت الاخلاق ما زالت تتألق في سماء الميتافيزيقيا. كان يعتبر كانط الحكم الاخلاقي من الاحكام القبلية. رفض كانط النسبية الاخلاقية، فالكذب مثلًا، غير اخلاقي مهما كانت الظروف والاسباب.

اقرأ ايضًا: فلسفة الجنس والجنسانية

موقف التنوير السياسي:

كانت الثورات الإنكليزية (1688) والأمريكية (1877-1783) والفرنسية (1789-1799) قد تأثرت وأثرت في الحركة الفلسفية آنذاك. ففلاسفة التنوير كانوا ينظرون إلى الانظمة السياسية والاجتماعية عصرئد على أنها هشة بما يكفي لتسقط أمام النقد العقلاني؛ لكونها محاطة بالأساطير الدينية والتقاليد الغامضة(2). كان يصعب في عصر تكتشف فيه القوانين التي تحكم الكون أن يؤمن الإنسان بسلطة تفرض عليه العبودية بحجج واهية. كانت تطلعات التنوير تتجه نحو بناء مجتمع يحترم حرية الفرد والمساواة والتنوع الديني والعقائدي. وكان كتاب توماس هوبز اللفياثان يعد كتابًا تأسيسيًا لنظرية التنوير السياسية، ومع أن هوبز كان مناصرًا للسلطة المطلقة إلا أنه كان يؤمن بسلطة يشارك فيها الجميع وتحقق مصلحة الافراد.

 لكن آراء روسو كانت الأكثر إثارة لكونها كانت تمس علاقة الفرد مع السلطة على أساس أن الإنسان غاية والسلطة وسيلة. رأى روسو بأن الديمقراطية الخالصة هي الشكل الوحيد للحكومة التي يمكن من خلالها أن يحقق فيها الفرد حريته. وحرية الفرد تكون ممكنة من خلال الإرادة العامة التي هي إرادة الجهاز السياسي العام، وهذا الجهاز يختاره ويحدده الأفراد بكامل إرادتهم(2).   

موقف التنوير الجمالي:

حسب ما يلاحظه كاسيير فأن القرن الثامن عشر لم يكن عصر الفلسفة وحسب بل هو عصر النقد ايضًا، إذ كان النقد مركزيًا في عصر التنوير. كان لازدهار الجماليات علاقة طردية مع ميول العصر، ألكسندر بومغارتن يعد مؤسس منهجية الجماليات للتنوير، وبالنسبة لومغارتن علم الجماليات هو علم الحواس أو الإداراك الحسي. لم يعول التنوير على الجماليات النومينية والمثالية، إنما بحث في العلاقة الجمالية بين الموضوع الجميل والذات المدركة والمتعة الناتجة منها(2).

وفي ألمانيا أسس كريستان وولف لعقلانية ميتافيزيقية للتفكير الجمالي، ويؤكد على أن الجمال حقيقة مدركة من خلال الشعور بالمتعة. يرى وولف بأن الجمال هو الكمال الموجود في الموضوع، فالموضوع فيه نسق وترتيب وانسجام، وبالتالي فأننا نقول عن شيء ما جميل لما له من الانسجام والكمال. لذا، طبقًا لوولف الجمال هو الإداراك الحسي للكمال(2).  

الخلاصة:

منذ أن سادت الفلسفة الأرسطية العالم -المسيحي خاصة- لم تحدث ثورة فلسفية تضاهي ثورة التنوير. فعصر النهضة لم يحقق الكثير إلا على المستوى الفني والجمالي، والعقلانية ابت أن تتحرر من المنطق القديم. ما حققه التنوير أثر في كل العالم، سواء من خلال إعادة تأويل وتفكيك النص المقدس أو نقد الخطاب السياسي والإجتماعي أو تبنيه المنهجية العلمية. كما يقدم التنوير تحديات قاسية لكل مجتمع يدعو إلى التغيير، فكل محاولة إصلاحية تلازمها ضرورة إعادة هيكلة الخطاب الديني والسياسي، لا يمكن لأي تقدم أن يحصل فعليًا دون أن تكون العقلانية والمنهجية العلمية أداةً لها. إذ أن التنوير هو دعوة إلى تفكيك كل خطاب ديني ودنيوبي.

المصادر:

  1. https://plato.stanford.edu/entries/enlightenment/#RatEnl
  2. https://www.historytuitions.com/world-history/french-revolution/#Role_of_Philosophers_in_French_Revolution
  3. https://plato.stanford.edu/entries/montesquieu/
  4. https://www.encyclopedia.com/humanities/culture-magazines/french-literature-during-enlightenment
  5. https://www.encyclopedia.com/religion/encyclopedias-almanacs-transcripts-and-maps/enlightenment-philosophy
  6. http://www.columbia.edu/acis/ets/CCREAD/etscc/kant.html

قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

قضية موت الفلسفة ومساءلة العلم

لم تعد الفلسفة تشكل رؤية معرفية وحسب في سعينا للوصول إلى الحقائق واليقينيات. فهي صارت رؤيا جمالية في سياق تعاملنا مع ذواتنا ومع أشياء العالم. فهي لا تمثل تراكم معرفي بقدر ما تكون تراثًا روحيًا نحمله معنا كمصدر من مصادر أنفسنا العميقة؛ لذا، فعلاقتنا مع الفلسفة تحمل مفارقة عجيبة، فرغم أن الفلسفة غالبًا ما تشير إلى ما هو عصي على القراءة، سرديات فيها الكثير من الالتباس، مقولات تحيل واقعنا الحسي إلى أفق مجرد ومثالي ولغة بالكاد تفهم، إلا أننا نشعر بأن الفلسفة هي من تصون ذواتنا وعلاقاتنا.
الحديث عن موت الفلسفة لا يشبه الحديث عن الميتات التي جاءت بها الحداثة وما بعد الحداثة كموت الإله أو موت المؤلف أو موت الناقد. ففي هذا المقال سنسلط الضوء على مبررات هوكنغ وتايسون وكراوس وغيرهم من العلماء الذين ادعوا بأن الفلسفة ميتة وغير نافعة في عالمنا الذي يتقدم فيه العلم، كما سنبين الرؤى المدافعة عن الفلسفة والقضايا التي يمكن للفلسفة وحدها طرحها ومناقشتها.

حول ماهية الفلسفة والعلم وحدودهما:

بعض الفلسفات نفت وجود عقل مجرد وبعضها ركزت على الحدس وأخرى وثقت بإمكانية الحواس في الوصول إلى الحقيقة وأخرى لجأت إلى التجربة في مساعيها المعرفية. رغم ذلك، الفلسفة هي شيء والعلم شيء آخر، لكل منهما أدواته وطرقه ومنهجيته. يمكن تعريف الفلسفة على أنها استخدام العقل المجرد لفهم الأشياء مثل طبيعة العالم والوجود (1). في حين أن العلم هو الدراسة الدقيقة لبنية وسلوك العالم المادي من خلال الملاحظة والقياس والتجربة وتطوير النظريات لوصف نتائج هذه الأنشطة(2) . لكن هذا التحديد المفاهيمي يتلاشى في الكثير من النقاط التي تتداخل فيها الفلسفة مع العلم أو العكس. من السهل أن نقول بأن إسهامات فيثاغورس وديكارت وباسكال في علم الرياضيات كانت علمية بحتة. لكن كيف يمكن تحديد هوية الانشغال الفلسفي – الإغريقي على سبيل الذكر- في قضايا علمية، مثل طبيعة العالم، أصل الحياة، بنية المادة، المسائل الاجتماعية والنفسانية؟ هناك من الفلاسفة (أنكسيماندر مثلا) من قالوا بأن الكائنات انحدرت من أصل واحد، ومنهم من قال أن الموجودات تتكون من ذرات مثل ديمقريطس، وهناك من ذهب ليقول بأن النجوم هي عبارة عن شموس تدور حولها كواكب كالارض وعليها حضارات. ومن جانب آخر، هل يمكن أن نسلم بسهولة بأن كل ما يكتبه العلماء هو بالضرورة علم؟ ثمة علماء ناقشوا مسائل أخلاقية، اجتماعية، ثقافية وسياسية دون الاعتماد على التجربة والقياس. يرى لورانس كراوس بأن انشغال الفلاسفة في القضايا الفيزيائية هو علم ولا قيمة أو تأثير للفلسفة في التطور العلمي الحالي(3). بينما الفيزيائي الشهير فيكتور ستينجر قبل فترة وجيزة من وفاته، قال بأنه عندما يتحدث علماء الفيزياء حول الكون فأنهم يشاركون في تقليد فلسفي عظيم يعود لآلاف السنين؛ فلا مفر من أن الفيزيائيين هم أيضا فلاسفة (4). والفيلسوف كارل ياسبرس يؤكد على استقلالية كل من الفلسفة والعلم، غير أنه لا يرى في تلك الاستقلالية نوع من الانفراد والانفصال التام، فثمة علاقة جوهرية بين العلم والفلسفة، إذ يقول بأن طريق العلم لا غنى عنه للفلسفة، لأن وحدها المعرفة بهذا الطريق تمنع الفلسفة من تقديم ادعاءات غير سليمة وذاتية لفهم الواقع وفي الجانب الآخر فإن الوضوح الفلسفي لا غنى عنه لحياة ونقاء العلم الحقيقي ولا يستطيع العلم أن يفهم نفسه من دون الفلسفة(5).

العلم وموت الفلسفة:

يقول ستيفن هوكنغ في مقدمة كتاب التصميم العظيم بالنص: الفلسفة ماتت ولم تحافظ على صمودها أمام تطورات العلم الحديثة، وخصوصًا في مجال الفيزياء. وأضحى العلماء هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلة التنقيب وراء المعرفة (6). ما قاله هوكنغ فتح جبهة ربما كانت متوقعة بين العلم والفلسفة. وصف الفيلسوف جوليان باجيني هذه المزاعم بأنها طموحات العلم الامبريالية، فثمة هناك قضايا تمس الوجود الإنساني لا شأن للعلم بها(4). في حين يأتي لورانس كراوس ليعلق على هذا التوتر بين الفلسفة والعلم ويقول بأنه من الطبيعي أن يشعر المهتمين بالشأن الفلسفي بالتهديد ولهم كل الحق في أن يشعروا بالتهديد طالما العلم وحده يتقدم، ويؤكد بأنه في النهاية المصدر الوحيد للحقائق هو الاكتشاف العلمي(4). سارا كل من نيل ديغراس تايسون والحاصل على جائزة نوبل ستيفن وينبرغ على خطى هوكنغ وكراوس، فيقول الأول بان العلم يمضي قدمًا وتبقى الفلسفة غارقة وعديمة الفائدة، فهي ميتة بالفعل، ويزعم الثاني بأن الفلسفة غير فعالة بشكل غير معقول(4).

ما يمكن للفلسفة وحدها أن تقوله:

انزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض – على حد تعبير شيشرون- بعد أن وضع الذات الإنسانية في مرمى السؤال الفلسفي. بمجرد أن قال سقراط “اعرف نفسك” صارت هذه النفس أو الذات مسألة لا تقل غموضا عن أصل العالم، المسألة التي فجرتها الفلسفة الطبيعية. ربما، الأسئلة البدائية وجدت لنفسها من يطرحها في عالمنا اليوم، لكن هل إعادة التفلسف إلى السماء عبر التلسكوب، تشكل تهديدًا على السؤال السقراطي القديم؟ إذا ما توقفنا قليلًا عند حجة هوكنغ، نلاحظ بأنه لا ينظر إلى الفلسفة أكثر من مجرد أسئلة طرحها بعض الفلاسفة قبل أكثر من ألفي عام حول طبيعة العالم المادي وأصله، وبالتالي فالفيزياء لا تحتاج إلى صحبة الفلسفة في إيجاد الأجوبة. لكن ثمة سؤال يلوح في الأفق، حتى ودون أن يعلن هوكنغ موت الفلسفة. ماذا بإمكان الفلسفة وحدها أن تقوله اليوم؟

الواقع:

اعتبر أفلاطون عالم الصيرورة أي عالمنا المحسوس ما هو إلا ظل عالم حقيقي، وكل ما هو موجود نسخة غير أصلية من المثل. في حين زعم الواقعيون بأن العالم المحسوس هو العالم الوحيد الحقيقي وللأشياء وجود مستقل عنا والصورة التي نكونها عنها تعبر تماماً عن ماهيتها، هذا بالنسبة للفلسفة. أما بالنسبة للعلم فهناك طروح في غاية الغرابة، فبحسب المبدأ الهولوغرافي فإن عالمنا رباعي الأبعاد مجرد ظلال على حدود زمكان أكبر وخماسي الأبعاد. كما أن هوكنغ نفسه يفلسف هذه المسألة في فصل “ما الواقع” من كتابه التصميم العظيم ويجد بأنه يمكن معرفة الواقع وما هو عليه الوجود من خلال الواقعية المعتمدة على النموذج. مع أن هوكنغ لا يستخدم العقل وحده في تفسير الواقع، لكنه مع ذلك يتفلسف في هذا الشأن، لأن البحث في ماهية الواقع ولو في سياق علمي يعد مشاركة في التراث الفلسفي بالنسبة لإشكال الماهية.

علاقتنا بالعالم:

قبل فترة وجيزة من وفاته خرج هوكنغ بتصريحات خطيرة ومرعبة حول مصير الأرض، وحذر العالم من نهاية وشيكة للحضارة البشرية وذلك بسبب الحروب النووية والتغير المناخي وتطور الذكاء الاصطناعي. أن هذه التصريحات فيها دعوة إلى التفلسف؛ طالما أن العلم ليس لديه ما يقوله بشأن تلك الكوارث. فالحرب والتسبب بالتغير المناخي والقلق بشأن الذكاء الاصطناعي تعد من الإشكالات الأخلاقية وبالتالي الفلسفية. يدعو الفيلسوف لوتشيانو فلوريدي إلى إعادة النظر في مهمة الفلسفة، فهو ينتقد الحركة الفلسفية الحالية لانشغالها عن العالم الرقمي والانصراف في مناقشة قضايا لا تمت إلى العالم بصلة، ويؤكد على ضرورة إعادة تأويل انطولوجيا الأشياء والبحث في قضايا تخص العالم الرقمي وضمن شروطه(7). ما يمكننا استنتاجه مما قاله هوكنغ، هو أن العالم موجه نحو كوارث حقيقية وما نستنتجه مما يقوله فلوريدي هو أن مهمة الفلسفة هي منع وقوع تلك الكوارث من خلال تقديم تفسير جديد للعالم؛ فكل كارثة تعبر عن نوع العلاقة التي تربطنا بالعالم، وهذه العلاقة تُفسر وتُصحح فلسفيًا لا علميًا. إذ، يمكن للفلسفة تحشيد الجهود في زيادة التفاهم المتبادل في المجتمع لمعالجة القضايا المشتركة ذات أهمية سواء في التعليم أو السياسة أو البيئة(8).

ثالوث المعنى والقيمة والحقيقة بين الفلسفة والعلم:

نجد بأن الكثير من العلماء يدافعون عن المثلية الجنسية، ومنهم من يرفع شعارات حقوق المرأةً، فضلا عن دفاعهم عن الحريات. فكيف لهذه المسائل أن تكون ذات معنى في حدود العلم؟ القيمة التي نضيفها على الأشياء حتى وإن كانت لها أبعاد منفعية فهي تخرج عن كل سياق علمي بل وعليه أيضًا. ثمة أسئلة كثيرة نواجهها اليوم وهي تشكل أهم أركان العالم المدني المعولم. متى يكون القتل الرحيم أمرًا صحيحًا؟ ما هي الحقوق العالمية التي يجب أن يتمتع بها البشر؟ هل للحيوانات حقوق؟ هذه الأسئلة مهمة، لكن لا يستطيع البحث العلمي تقديم جواب علمي صِرف، يمكن للعلم أن يساعدنا في التعرف على الأمراض المزمنة وتاريخ حقوق الإنسان والحيوان، وهذه المعرفة من شأنها أن تكون مصدر إلهام لآرائنا وقراراتنا، لكن العلم نفسه لا يستطيع أن يصدر أي أحكام حول ما إذا كانت هذه الحالات صحيحة أم خاطئة (8)، فهي تدخل في مجال فلسفة الأخلاق. وثمة الكثير من القضايا الأخرى التي لا يستطيع العلم مناقشتها مثل الحكم الجمالي والهدف من الحياة ومعنى أن نكون ونحيا.

خلاصة:

التقدم العلمي على مر العصور لم يقتصر على تقديم صورة واضحة ودقيقة لأول مرة في تاريخنا عن العالم وعن أنفسنا، بل أثر حتى في الجانب الروحي والوجداني والأخلاقي ولو بشكل غير مباشر؛ فنظرية التطور مثلًا، دفعتنا لأن نعيد طرح السؤال السقراطي – اعرف نفسك – في سياق جديد. كما أن علم الكونيات قدم مواد ومواضيع جمالية ألهمت الكثير من الأدباء. في الطرف الآخر، نحن البشر كائنات تتفلسف غريزيًا، إذ، نطرح من تلقاء أنفسنا اسئلة حول معنى حياتنا وحقيقة الأشياء وقيمتها. ربما لا تستطيع الفلسفة أن تكتشف كواكب أخرى صالحة للحياة ولا شأن لها في إيجاد لقاح ضد فايروس كورونا، لكنها بالفعل مسؤولة عن تفسير حياتنا وتقلباتها وأزماتها في ظل جائحة كورونا على سبيل الذكر. وإذا ما اردنا أن ندرك حقيقة حاجتنا للفلسفة من الضروري أن نطرح بعض الاسئلة ونتأملها، على سبيل المثال، في ظل التقدم العلمي السريع على كافة مستوياته لماذا تفاقمت أزماتنا ومشاكلنا، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الجماعي؟

المصادر:


1- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/philosophy
2- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/science
3- https://www.scientificamerican.com/article/the-consolation-of-philos/
4- https://www.scientificamerican.com/article/physicists-are-philosophers-too/
5- http://inters.org/jaspers-philosophy-existence
6- Hawking, Stephen. The Grand Design. P10
7- https://valenzine.medium.com/luciano-floridi-philosophy-439cd5014235
8- https://www.nature.com/articles/s41599-018-0163-z
9- https://undsci.berkeley.edu/article/0_0_0/whatisscience_12

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية لزكي نجيب محمود وأحمد أمين

في صفحات هذا الكتاب استطاع الكاتب الكبير زكي نجيب محمود، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والكاتب أحمد أمين أن يأخذوا عقولنا في آلة الزمن؛ ليعودوا بنا آلاف السنين فنقابل أبرز العقول المنتجة للفكر، والحضارة، والتي تجلى فيها إعمال العقل لأول مرة في التاريخ تقريباً.

رصد الكاتبان ما أنتجته أدمغة هؤلاء، وكيف نظروا للوجود وما وراء الوجود والسعادة والشقاء وغيرها، كل ذلك وأكثر في ملخص كتاب قصة الفلسفة اليونانية.

فلاسفة يونيا:

في يونيا أو أيونيا الواقعة في الجانب الغربي في آسيا الصغرى كانت بداية كل شئ، فلو دخلنا آلة الزمن لنصل لأول نقطة بدأ عندها التفكير حتماً سنسافر ليونيا؛ حيث التفكير في علل الكون.

من أين جاء الكون؟ وما السر وراء تصرفه على ذلك النحو؟ فهناك ولأول مرة لم تكن إجابات تلك الأسئلة مرتبطة بالأساطير، بل بالتفكير الباحث عن الحقيقة لا الأوهام.

1. طاليس

كانت السؤال الأول الذي دار في أذهان المفكرين الأوائل هو: ما هو أصل الكون؟ هل هناك مادة معينة تشكل منها الكون بأكمله؟ هذا ما حاول طاليس الإجابة عنه ووقع اختياره على الماء؛ فالماء تارة يصبح غازاً، وتارة صلب، وتارة أخرى سائل. لم لا يكون أساس كل المواد هو الماء باعتبار حالات المادة الثلاث؟ فباختلاف كمية الماء وحالته يختلف العنصر المتكون.

افترض طاليس أيضًا أن الأرض ما هي إلا قرص يطفو فوق سطح من الماء غير متناهي الأبعاد. وقد كان طاليس عالماً بالرياضيات؛ فقيل أنه علّم المصريين كيفية قياس ارتفاع الهرم عن طريق ظله. وكان مولعاً بالفلك فاستطاع أن يتنبأ بكسوف الشمس عام 585 قبل الميلاد.

قد ترى أن نظرياته تلك محض خرافة يزدريها العقل ولكن تذكّر أنه أول من حاول أن يفسّر الكون دون الاعتماد على أساطير الشعراء، ويصعب عليه بمقتضيات عصره أن يصل للحقيقة لكن على الأقل بدأ تشييد مفهوم “التفكير لتفسير الطبيعة”.

2.أنكسمندر

نفى تماماً اقتناعه بأن الماء هي الأساس، ولم يضع مادة بديلة واضحة. بالطبع لم يكن عمله الفلسفي مقتصر على نفي رؤية طاليس؛ حيث افترض أنكسمندر أن الأرض في الأساس كانت سائل أخذ يتغير في أحواله بين التجمد والتبخر حتى تكونت طبقات الهواء فالتقى البخار الساخن مع الثلج البارد فكوّنا الكائنات الحية.

اقتصرت الكائنات الحية في بدايتها على الكائنات البحرية فقط ثم أخدت المياه في الانحسار فطورت الأسماك أرجل بدل من الزعانف لاستيطان الأرض، وظلت ترتقى حتى وصلت لأرقى الكائنات وهو الإنسان. يظهر بوضوح التشابه بين نظرية أنكسمندر ونظرية التطور لداروين.

3. أنكسمينس

الجوهر من وجهة نظر أنكسمينس في الهواء؛ فهو يتكاثف ويكوّن السحاب وينزل كقطرات، ويتبخر، ومن الممكن أن يتجمد ويكون مواد الصلبة مثل التربة والصخور وغيرهم. وكذلك الهواء منتشر في كل أجزاء الأرض فهل يوجد على الأرض ما هو فارغ من الهواء؟! إذا -من وجهة نظر أنكسمينمس- الهواء هو الأصل وليس الماء كما رأى طاليس، ولا مادة غامضة كما رأى أنكسمندر.

الفيثاغوريون:

فيثاغورس

كثرت الحكايات والأساطير حول فيثاغورث الذي نُسبَ إليه العديد من المعجزات صعبة التصديق حتى صعب تتبع حياته، ولكن ظلت بعض الحقائق لا شك فيها حيث كان فيثاغورس رجل ينشد للزهد والورع وحياة التقشف هو وجماعته.

كانوا يدعون للإصلاح الديني ولا صلة بينهم وبين أمور السياسة، لكن تعاليمهم المتصوفة الغريبة جعلتهم محط لأنظار حكومة كروتونا -مكان إقامة الجماعة- فاضطهدتهم الحكومة وأحرقت مقرهم، وقتلت بعضهم وشردت البعض، لكن بعد فترة استطاعوا أن يعودوا من جديد.

تُنسب لتلك الجماعة اهتمامهم بالتفكير بشكل ضخم، فمن وجهة نظرهم فالتفكير هو سبيل لتطهير الإنسان. وقد اهتموا بالموسيقى والعلوم الطبيعية من الطب وغيره، وطبعاً معروف اهتمامهم بالعلوم الرياضية أشد اهتمام.

بحث الفيثاغوريون عن علة الأشياء، أو المشترك بينها فوجدوا أنه العدد؛ فجميع الصفات من لون ورائحة وطعم وشكل وغيرهم صفات تتغير ويختلف إدراكها من شخص لآخر، وهذا لا ينطبق على الأعداد؛ فيستطيع الشخص تصور برتقالة ملونة باللون الأحمر أو الأرزق أو حتى شفافة، لكن مستحيل أن يتخيلها بلا عدد.

كان الفيثاغوريون محقين في ذلك، ولكن يُعتقد أنهم غالوا في قيمة الأعداد حتى أنهم لم يميزوا بين عد الأمور الملموسة وبين الأعداد الهندسية؛ فسقط من حساباتهم أن الخط المستقيم يتكون من عدة نقاط وهمية، بل افتراضوا أن تلك النقط الوهمية حقيقية، فاعتبروا أن العدد هو أساس الكون مثله مثل الماء عند طاليس والهواء عند أنكسمينس.

افترض الفيثاغوريون أيضاً أن كل عدد يعبّر عن شئ مثل ستة فهو حياة ونشاط، أما سبعة عقل وصحة، إلا أن ذلك ممكن أن يكون من قبيل الرمز، فقد اشتهرت تلك الجماعة باستخدامهم رموز بلغت من الغموض ما بلغت في صياغة أقوالهم الحكيمة. استطاعت تلك الجماعة أن تجعل الفكر أكثر تجريدا ناظراً للأمور الأساسية للتعرف على ميزات وهوية المادة.

الإيليون:

يُنسب اسمها لإيلية وهي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا.

إكزنوفنس

كان جوالاً يطوف البلاد ناشداً الأشعار تلك الأشعار التي شكلت أساس لأفكار تلك المدرسة. فاقتبسها بارميندس وجعلها عمود الخيمة لمدرسته الفكرية. وكان من أهم ما ورد في إشعاره دعوته للإصلاح الديني حيث ازدرائه لآلهة اليونانيين حيث يُنكر على الشعب تشكيل آلهته في صورة البشر؛ قائلاً أنه لو كان الثور أو القرود حيوانات عاقلة لحسبت آلهتها في شكل ثور وقرد. معناه أن تشكيل اليونانيين لآلهتهم في شكل بشر نابع من قصور في خيالهم ليس إلا. وأنكر على شعرائهم كيف أنهم صوروا الآلهة تمكر وتخدع وتخطأ كما يفعل البشر، فمن وجهة نظره لا يصح أن يشبه الإله البشر بأي شكل من الأشكال لا في الصورة ولا في الفكر. وافترض إكزنوفنس أن الإله والعالم شيئ واحد لا شيئين. ورأى أن الأرض ستغرق في الماء ويفنى كل من عليها ثم تعود من جديد ثم تغرق مرةً أخرى. ورأى أن الشمس لا تدور حول الأرض أو العكس، بل أنها تتحرك في خط مستقيم حتى تفنى في الفراغ ثم تُخلق واحدة جديدة في اليوم التالي وقال هذا الكلام ليثبت فناء الشمس فإذا لا تصح أن تكون إله.

بارمنيدس

لا شيئ ثابت إذا لا شيئ حقيقي عدا الوجود. هذه الجملة تختصر فلسفة بارمنيدس حيث أنه تأمل من حوله فوجد أن كل شيئ نهايته الزوال أو التغير. فكل ما نشاهد متغير إذا لابد من وجود حقيقة مطلقة ثابته لا تتجزأ موجودة منذ الأزل لا تتغير مع الزمن تلك الحقيقة ما هي إلا الوجود. أنكر ما نشاهده من أشياء حولنا فكلها متغيره فانكر إدركنا لها، ولكن اعترف بما سماه الوجود الذي لا يدركه حس ولا حتى عقل. وقد رأي أن حقيقة الكون الوجود هذا فيه تجريد للمادية، لكنه ناقض نفسه حين صور الكون كرويا فكيف يكون الوجود غير مادة ويُصف بأنه كروي ويشغل حيز من المكان؟! أن في هذا لتناقض واضح.

زينو

لم يكن له آرائه المطلقة بل كل ما فعله هو إضافة البراهين على صحة وجهة نظر معلمه بارميندس. فأنكر كلاً من الحركة والكثرة. فمن وجهة نظرهه حقيقة الكون مطلقة مفردة لاحركة فيها جامدة، بمعنى أن كل ما نشاهد من تعدد وكثرة للأنواع في الأشياء في الكون ما هو إلا ظلال تخدعنا بها حواسنا فنحسبها حقيقةً لكنها ليست كذلك. والأمر ذاته ينطبق على الحركة.

الدليل على بطلان الكثرة:

لو افترضنا أن الكون مكون من أجزاء أصغر حجماً فذلك حتماً سيقودنا لتناقض صعب. حيث أن تلك الأجزاء بطبيعة الحال لابد لها من أن تتجزأ إلى ما هو أصغر منها فأصغر منها حتى تصل لأجزاء بالغة الصغر لا حجم لها إذا سيكون الكون كذلك بالغ الصغر لا حجم له؛ لأنه مجموع الأجزاء الصغيرة تلك. وكذلك سيكون الكون كبير جدا غير متناهي في الحجم حيث ستظل تلك الأجزاء الصغيرة تتجمع مع بعضها البعض إلى ما لا نهاية. هذا هو التناقض إذا فالكون لا يتجزأ، مثلما قال بارميندس أن الكون هو الوجود المطلق الغير قابل للتجزئة.

الدليل على بطلان الحركة:

إذا انطلق سهم من الرمح صوب هدف معين لابد له ان يكون ثابت في كل لحظة زمنية في مكان محدد حيث لا يمكن أن يكون في مكانين في الوقت ذاته؟! إذا مجموع اللحظات الزمنية ستكون السكون وليست الحركة. وهذا يعني ان الحركة وهم تختلقه حواسنا.

الغريب في الأمر ان تلك الحجج قد تظهر غريبة أو تافهة إلا أنها خلفت وراءها جدل لايزال قائم، وشارك فيه هيجل وكانت وغيرهم حول حقيقة الزمان والمكان. إذا تتبعنا ما نتج عن تلك المدرسة سنجد انها تؤمن بالوجود المطلق غير المتغيرفي الحركة ولا قابل للتجزئة وأن كل ما هو متغير ومتعدد هو بالضرورة وهم ليس إلا. وبذلك تكون شيدت تلك المدرسة عالمين متخلفين منفصلين أحدهما الوجود الحقيقي والآخر الوهم اللذي نراه فزادت من المشكلة تعقيداً.

هرقليطس

كان هرقليطس شخص أرستقراطي معتز بنفسه بشدة يرى العامة مجرد أنعام تؤثر الكلأ على الذهب، محتقراً قادة الفكر في عصره أمثال فيثاغورس، وإكزنوفنس. أنكر مبدأ الوجود المطلق الذي آمنت به مدرسة الإيليون؛ فهو مؤمن بأن لا شيئ ثابت لحظتين متتابعتين، حتى ذلك الجبل فهو يطرأ عليه التغيرات مع ما يحيطه من بيئة فيظهر أمامنا ثابت لكنه دائم التغيير لا فرق بينه وبين الحشرة الواقفة عليه دائمة الحركة. فهرقليطس اختلف مع تلك المدرسة التي قسمت الدنيا إلى الوجود المطلق الحقيقي والوهم الباطل المتشكل لحواسنا، أما هرقليطس فآمن بأن كل شيئ موجود دائم التغير فهو موجود وغير موجود في آنٍ واحد مثلا الهاتف الذي تقرأ به المقال بين يديك موجود لكنه دائم التغير. هذا ما أسماه بالصيرورة: هي التحول بين الموجود ولا موجود فلا يبقى هاتفك على حاله لحظة واحدة. كما أن هرقليطس بحث هو الآخر عن مادة أصل الكون كما فعل سابقيه وافترض أنها النار فالنار دائمة التغير تحول المواد من حالة لحالة، وما أصل الإنسان سوى النارالتي تتغذى على الهواء والمدركات الحسية ولذلك عقل الإنسان دائم النشاط حتى يتوقف تماماً عندما تنطفأ جذوة تلك النار، وهنا يموت الإنسان. لعلك لاحظت أن اختياره للنار نابع من إيمانه بالتغير الدائم للأشياء (الصيرورة) وهذا يظهر بشدة في النار.

إمبذقليس

لم يكن مبدعاً خالصاً فكان دوره أشبه بالمصلح ليس إلا؛ فقد أراد أن يوفق بين فلسفة هرقليطس والمدرسة الإيليون. فأمامه الأول مؤمن بالصيرورة والتغير الدائم للأشياء، والثاني مؤمن بالوجود المطلق الثابت غير المتجزأ. ليوفق بينهم افترض أن الأشياء جميعاً تتكون من ذرات ثابته تنطبق عليها مواصفات الوجود المطلق التي افترضتها مدرسة الإيليون، ولكن صورتها قد تتغير فتتحول لمادة أخرى ولكن بنفس الذرات فما يتغير هو الصورة والهيئة أما الجوهر من الذرات فهو ثابت. وافترض أمبذقليس أن أصل الكون يتكون من أربع مواد أساسية لا يتحول أحدهم للآخر، وعند اختلاطهم ببعض بنسب مختلفة تتكون مختلف المواد وهم: التراب، والماء، والنار، والهواء. لكن اختلاط تلك المواد يتطلب حركة وأمبذقليس قال أن تلك الذرات ثابته لا تتحرك مطلقاً فكيف يكون ذلك؟! لابد أن تكون طاقة الحركة خارجية في الحقيقة هما طاقتان تعملان ضد بعضهم البعض وهما الحب والبغض. ففي البداية كانت تلك المواد الأربعة مختلطة مع بعض ثم أخذت قوة البغض أو الكراهية تبعدهم عن بعض وأخذت العناصر المتشباهة تتجذاب فتكونت الماء والتراب والهواء والنار مستقلين ثم سيطر الحب مرة أخرى ليحاول أن يجمع بينهم ثم البغض وهكذا دواليك سيطرة تلك القوتين المتضادتين على الكون بين الجمع والانحلال.

المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد

ديموقراطيس

كان الغريب من أمبذقليس أنه لم يعط أي اهتمام لمبدأ الذرة الذي ذكره على الرغم من كونه أساس كلامه. كما أن فرض أن الحب والكره هما أساس الحركة الدائمة بين العناصر كان مبدأ شعري أكثر من كونه مبدأ منطقي فلسفي. فجائت المدرسة الفلسفية الجديدة لمؤسيسيها ديموقراطيس وليوسبس تقول أن المواد جميعاً تتكون من ذرات أولية وليست العناصر الأربعة التي ذكرها أمبذقليس تلك الذرات صغيرة جدا بحيث لا تدركها الحواس مطلقاً وباختلاف طريقة تراكب تلك الذرات تختلف خواص الأشياء وهيئتها. وقالوا أن الذرات تتصف بالصلابة بحيث لا تقبل التقسيم لأجزاء أصغر، ولها وزن وحجم ولها غلاف. وبين تلك الذرات في المادة يوجد الفراغ بمعنى أن المادة تتكون من ذرات وهي الممثلة للوجود وبينها فراغات وهي الممثلة للعدم. فبذلك ضمت المادة عنصري الوجود والعدم في آنٍ واحد. وكان تفسيرهم لمبدأ الحركة معتمد بشكلٍ أساسي على صفة الثقل التي امتازت بها الذرات حيث نتيجة لاكتسباها تلك الصفة فهي إذاً تسقط بشكل لا نهائي في الفراغ، وكلما زاد الثقل زادت سرعة السقوط -هذا ما ظنه الذريين- وعند تصادم تلك الذرات تتكون العوالم وليس عالمنا هو الوحيد الموجود فبناءاً على ذلك هناك عدة عوالم مختلفة. وكان فكر ديموقراطيس ملحد حيث من وجهة نظره الآلهة تولدت من خوف الإنسان من الظواهر الطبيعية المختلفة مثل الزلازل والبراكين وغيرها، وكنتيحة لذلك ظل الإنسان يلوم نفسه أنه هو من أغضب الآلهة أو أن تلك الآلهة يوجد بينها خصومة تضر بعالم البشر المهم أنه يوجد كائنات ضخمة جبارة هي السبب في تلك الظواهر.

أناكسجوراس

تأثر أناكسجوراس بآراء سابقيه أيما تؤثر فرفض بعض مبادئهم وطور من آخرين. فهو ينكر قول الذريين بأن المواد جميعاً على مختلف أشكالها تتكون من ذرات واحدة وأنكر مبدأ العناصر الأربعة مظهراً تعجبه في إعادة أصول المواد المختلفة لمواد أخرى فلماذا لا يكون الذهب ذهباً منذ الأزل؟ لماذا يرجعون تكوينه لعناصر أربعة أو لذرات؟! فوجد أن كل المواد هي نفسها منذ الأزل، وكانت خليطاً ثم أخذت في الانحلال والاتصال مراراً وتكراراَ، فلن تصل لحالة النقاء الخالص حيث لن يكون الذهب ذهباً دون شوائب من مواد أخرى وفي نفس الوقت سيظل ذهباً. والحركة ما هي إلا بحث المادة عن شبيهها، وهي لن تصل أبداً للنقاء الكامل. ولكن ما أصل تلك الحر كة من الأساس ما هي القوة المؤسسة لها؟ هنا يجيب أناكسجوراس أنه عقل رشيد منظم للكون يسيره في نظام، وأنه هو أصل ذلك الجمال الذي يملأ الكون فقد أنكر ظاهرة الحب والبغض التي قصها أمبذقليس وكذلك أنكر السقوط الحر على غير هدى الذي تبناه الذريين.

السوفسطائيون

كانت الأحوال الاجتماعية والسياسية في اليونان مناسبة لظهور تلك المدرسة؛ حيث بلغت الديموقراطية حد قبيح حتى أن بعض المدن التي تتكون من عدد محدود من الأفراد أصبحت تُحكم من قبل الأفراد جميعاً كلٌ يبحث عن مصلحته، ويبحث عن التفرد حتى كان الحكم للغوغاء ليس لإولي العلم. وهذا ما سمح بخروج تلك المدرسة التي تنكر المعرفة وتهتم بالخطابة. فتلك المدرسة ترى أنه يمكن أن تجهل مبادئ ما تتحدث فيه، ويكفيك الاستعانة بمحسنات اللغة من الاستعارة والكناية ومهارات الخطابة حتى تكون محنكاً فيما أنت بصدده رغم جهلك. وقد اتخذوا مبدأ الفترة الزمنية وقتها وهو أن الإنسان هو مقياس كل شئ فلا صح ولا خطأ مطلقين هناك فقط الإنسان. وقد رأوا أنه لا سبيل لمعرفة الحقيقة؛ نتيجة للاختلافات بين الناس في تأويل الأشياء. فمثلا منهم من يرى الجسم مكعب والآخر يراه كورة إذا لا سبيل لمعرفة حقيقة الجسم. بل لا وجود للحقيقة أصلا ذلك الجسم موجود في أذهاننا لا وجود له في الواقع. بمعنى أن إنكار تلك المدرسة لوجود الأشياء نابع من الاختلاف في التأويل بين الناس فهم يرون أنه لا وجود للخطأ بحكم أن كل أنسان هو المقياس إذا فلا خطأ، ولا حقيقة مستقلة، وبالأحرى المعرفة ما هي إلا وهم من وجهة نظرهم؛ فهم نحوا الحكم العقلي جانباً وتركوا الحكم للحواس التي تختلف في إدراكها للأشياء ونتجية لذلك الاختلاف أنكروا وجود الأشياء من الأساس.

سقراط

كان رجل الحوار؛ حيث كان يطوف الأسواق والتجمعات يحاور الناس ويتحدث معهم كاشفاً نقاط قوة وضعف أفكارهم. كان رجلاً محب للحكمة غير معترف بتميزه فدائماَ ما كان يقول: (أنا أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئ) كانت نهايته مأساوية فاتهم بالإلحاد والسفسطة وإفساد الشباب فحُكم عليه بالإعدام بالسُم ومات. لكنه خلف ورائه إرث أعاد إحياء الفلسفة، والتفكير بعدما قتلوا على يد السوفساطئيين. حيث ذهب السوفساطئيين كما عرفنا أن الإدراك الحسي هو أساس كل شيئ وهذا ما نفاه سقراط حيث أن ذلك الإدراك ما هو إلا إدراك جزئي للأشياء لكن إدراك الصفات المميزة للمواد والأشياء، وحصرها تلك الصفات التي تشيع بين أفراد نفس النوع هو بحد ذاته المعرفة. فمثلا تختلف الأحصنة في عدة صفات مثل اللون والحجم وغيرهم وهم يعدون من المدخلات الحسية دورالعقل هنا البحث عن أمور مشتركة مثل الصهيل حتى يحدد تعريف الحصان ويحصل على المعرفة. فبذلك كان طريق سقراط للمعرفة هو التجريد من المتغيرات أو الصفات الجزئية للوصول لوصف كلي يضمن المعرفة القويمة بالشيئ. فبذلك كان الإدراك العقلي للأشياء القائم على التجريد فهو أساس المعرفة. كانت تلك المفاهيم من أهم ما أنتجه سقراط للعقل البشري ليمثل النور بعد غياهب جهل السوفساطئيين، لكنه لم يقتصر على ذلك فأخذ يتسائل ما هي الفضيلة؟ كان عمل سقراط في تعريف المعرفة هادف لمعرفة الفضيلة فبالنسبة له الفضيلة والمعرفة ملتصقين ببعض؛ بحيث أنه عندما يدرك الشخص الخير، ويفهمه ويدرك الشر والفساد ويفهم عواقبهما مؤكد أنه سيسلك طريق الخير ويترك طريق الشر. إذا فالفضيلة قائمة على المعرفة أو الإدراك العقلي. بذلك يكون سقراط وقع في الزلل حيث أنه لم يفهم أن الإنسان أيضاً يحمل العاطفة والشهوة ليس العقل وحده؛ فلا تكفي المعرفة العقلية لأداء الفضيلة بل لابد من وجود إرادة للتغلب على الشهوات. وبذلك كان إرث سقراط متمثل في نظريته المعرفية وفلسفتة في الفضيلة.

أفلاطون

نشأ في ظروف تسودها الفوضى في المجتمع الأثيني حيث الحرب الشديدة مع الفرس وفساد كلاً من الديموقراطية والأرستقراطية. وكان كثير الترحال يتعلم عن مختلف المدارس الفسلفية المختلفة من خلال تلك الرحلات فقد عرف فلسفة هرقليطس، وسقراط فقد كان أفلاطون تلميذاً مخلصاً له، والفيثاغوريين، والمدرسة الإيلية. واستقر في أثينا في المرحلة الأخيرة من حياته وهناك أسس أكاديمية أفلاطون. فقد كان أفلاطون أول فيلسوف تأمل في جميع مناحي الحياة مثل أساسها ومن أين جاء الكون، الأخلاق، السياسة، الفن….إلخ فخلف وراءه منظومة فلسفية متكاملة لها ما لها وعليها ما عليها. وقد امتازت كتبه بأسلوبها الحواري المميز واعتماده في بعض الأحيان على الشعر والأساطير والقصص التي غلفت بعض النقاط في فلسفته بالغموض. وقد كان أفلاطون مكملاً لكلام أستاذه في نظرية المعرفة، وله فلسفته الخاصة المعتمدة على المُثل، كما أنه له طريقته في النظر للإنسان والدولة.

نظرية المعرفة

بدأ أفلاطون يهدم كلام السوفساطئيين من أساسه عن طريق الحجج المناسبة فمثلاً:

1.إذا كان لا وجود للخطأ لأن كل شيئ مقياسه الإنسان فماذا لو قال أحدهم أنه سيصبح وزيراً بعد عام وانتهى العام ولم يصبح شيئاً هل سيكون توقعه بهذا الشكل صحيح؟ّ!

2. ما الفرق إذا بين الإنسان والحيوان إذا كانت المعرفة يتم الحصول عليها من قبل الحواس فقط دون تدخل عقلي؟! وكيف يكون الإدراك لو كان عن طريق الحواس فقط ونحن نعطي الأشياء مسمياتها ونتعرف عليها من خلال الإدراك العقلي؛ فالعين وحدها غير كافية للإدراك؟!

وغيرهم العديد من الحجج التي ساقها أفلاطون ليثبت خطأ نظرة السوفساطئيين ويثبت كلام معلمه حول نظرية المعرفة.

نظرية المُثل

كما اتضح في السطور السابقة أن أفلاطون سار على خطى أستاذه سقراط بأن الحقيقة في المدركات العقلية المجردة. لكن أفلاطون ذهب لأبعد من ذلك حيث رأى أن تلك المدركات المعرفية، أو الحقائق لابد أن يكون لها وجود حقيقي. من وجهة نظره كيف نسمي الحقيقة حقيقةً إن لم يكن لها وجود حقيقي؟! بمعنى أن إدراك العقل للحصان يعتمد على صفات مشتركة مجردة من التغيير، وهي ما تُسمى معرفة إذا فلابد لوجود مثال لتلك المعرفة وفي تلك الحالة سنقول عنه (مثال الحصان). وعندما يصف الإنسان بعض الأشياء بصفة الجمال مثل وصف الوردة أو القمر أو مشهد الغروب… إلخ لابد من وجود مثال للجمال، كذلك مثال للخير والشر والقبح والزريلة وهكذا دواليك. تلك الأمثلة متواجدة في عالمها المستقل متصفة بعدة صفات مثل الأزلية وأنها غير محدودة بزمان ولا مكان وأنها عناصر مستقلة لم يتسبب في وجودها شيئ وغيرها من الصفات التي تدل على التجريد والعموم. وشرح العلاقة بين تلك الأمثلة وأنها ممكن أن يكون بعضها منبثق من الآخر فهناك أمثلة دُنيا منبثقة من أمثلة أخرى أعلى منها وهكذا حتى نصل لقمة البناء الهرمي وهو (مثال الخير) فمنه كل شيئ وإليه كل شيئ.

رأيه في العالم المحسوس

العالم المحسوس ما هو إلا صورة لعالم المُثل، وقد وقع أفلاطون في مأزق حينما وصف المُثل بصفات تجريدية؛ فلا يمكن للمثل أن تخلق عالماً من تلقاء نفسها لأنها بذلك ستتخذ صفات التغيير التي يتصف بها العالم المحسوس. فرأى أفلاطون أن العالم قد انبثق من ثلاثة شركاء الأول هي المُثل والثاني هو المادة -قد استخدام لفظ المادة للتعبير عن العدم فالمادة عنده هي ما ليس لها صفات أو أشكال وقد فسرها البعض أنها الخلاء- أما الثالث فهو الإله الذي طبع المادة على صورة المُثل فالناتج لم يكن عدم مطلق، ولا وجود مطلق إنما خليط بين الإثنين وهنا كان العالم المحسوس. بالطبع رأى الكثيرين أن أفلاطون لم يحل مشكلة تكون الكون، إنما يضيف عالم جديد وهو المُثل الذي يحتاج لتفسيرات هو الآخر وبذلك زاد من المشكلة تعقيداً.

النفس البشرية

اشتهر أفلاطون بنظرته للنفس الإنسانية؛ فقد قسم النفس لثلاثة أقسام أرقاها العقل، والنبيل في اللاعقلاني أو العاطفة الصادرة من القلب مثل الحب والشجاعة وغيرهم، والجزء الوضيع وهو الشهوات البهيمية. وينبغي على الإنسان أن يحتكم لعقله ويضيق الخناق على شهواته البهيمية. وقد أعتقد أيضا بالتناسخ وهي أن النفس بعد الموت لا تفنى بل تسكن كيان آخر محدد بتصرفاتها فلو كان الشخص شهوانيا فستتناسخ النفس بعد ذلك لتسكن حيوناً وهكذا.

رأيه في الأخلاق

لا داعي للذكر أن افلاطون اختلف مع السوفساطئيين في وجهة نظرهم حول الخير والشر والأخلاق؛ فلم يرى أن تلك الأمور محكومة بأحكام شخصية فقط لا مقياس لها. وقد رأى أن اكبر هدف من معرفة الخير وتأديته هو السعادة. والسعادة بالنسبة له متمثلة في أربع نقاط أولها العلم بعالم المُثُل الذي أرسى قواعده ثانيها التأمل في الصلة بين العالم المحسوس والمُثُل عن طريق التأمل في جمال وتناسق العالم من حولنا، ثالثاً التثقف بمختلف العلوم، رابعاً التمتع باللذائذ النقية الطاهرة والترفع عن ما انحط منها. وقد اختلف عن معلمه سقراط حول تعريف الفضيلة فلم يحسب أن الفضيلة هي المعرفة إنما لخصها في أربع نقاط: الأولى هي فضيلة العقل وهي الحكمة، الثانية فضيلة الجزء الشريف من الجزء اللاعقلاني هي الشجاعة، الثالثة هي العفة وضبط الشهوات، رابعاً هي اجتماع تلك الصفات لإنتاج العدل.

رأيه في الدولة

كان له في السياسة وتشييد دولة سعيدة ذاع طويل عبر عنه في “كتاب جمهورية أفلاطون” الذي تضمن معانى العدل والرزيلة ووجهة نظره في الحقيقة والنفس وغيرها. وفي هذا الكتاب أرسى دعائم تنظيم الدول المعتمدة على تقسيم الدول لثلاثة أقسام مشابه لتقسيمه للنفس فقد رأى أن من تميزت عقولهم كانوا الفلاسفة ولهم أمور الحكم، ومن تميز الجزء النبيل اللاعقلي لديهم متمثلاً في الشجاعه وحب الدولة كان الجيش، أما ما عدا ذلك فهم العامة من صناع وتجار وغيرهم. وقد وضع أفلاطون أسس قوية لتربية الأطفال بدنيا، وذهنياً. وكان يرى أنه لابد من حصر المؤلفات والأشعار وتدقيقها لنتخلص من الرزائل فيها، ونتخلص من المؤلفات التي تحط من قدر الآلهة وتصفهم بالغدر والطمع وغيرها من قبيح الأوصاف. فقد يرى أن أحد دعائم الدولة أن يكون أصحابها مؤمنين بالإله وأن يقتنعوا أن غضبه واقع على من يخالف مبادئ الدولة. وقد رفع أفلاطون من قدر الدولة على حساب الفرد؛ فالأفراد بالنسبة له جزء من نسيج المجتمع يعملون لصالحه، وليس لصالح أحلامهم وطموحاتهم. وقد بالغ في تلك النظرة حتى أنه أنهى وجود الأسرة المستقلة في بعض الطبقات فلا زوجة خاصة، ولا حتى أولاد يعرفون من أمهاتهم أو أبائهم؛ لأن الدولة هي من ستتولى تربيتهم منذ الولادة. كل هذا وأكثر شرحه افلاطون في كتاب جمهورية افلاطون الذي لم يسلم من التحليل والنقض من وقتها حتى الآن.

أرسطو

كثيراً ما ينصب الناس أرسطو منصب الخصم لأفلاطون وفي الحقيقة أرسطو كان أحد تلامذة أفلاطون، لكنه كان ذي شخصية مستقلة يزن ما يسمع بعقله ويميز صحيحه من خطأه وهذا ما فعله مع فلسفة أفلاطون؛ فلم يشربها شربا بغير تعليق أو مراجعة، بل على العكس تماماً. نتيجة لذلك استطاع أرسطو بناء منهج خاص به مختلف عن سابقيه.

المنطق

تشهد الفلسفة أنه لا منطق قبل منطق أرسطو؛ فهو من أول من عُني بصحة القول والعبارة ووضع لها المقاييس. والمنطق نوعان إما منطق الصورة وإما منطق المادة وقد اهتم أرسطو بمنطق الصورة مشيداً إياه بأكمله، وكل ما بين أيدينا في منطق الصورة هو من إنتاج أرسطو لم يضاف إليه إلا القليل، أما منطق المادة فلم يُفتح بابه إلا حديثاً.

ما بعد الطبيعة

لم يقتنع أرسطو بفسلفة أفلاطون حول وجود كيان يُسمى المُثل وأن كل حقيقة معرفية لابد لها من تجسيد. فقد رأى أن ألفاظ مثل العدل والظلم والجمال والقبح…إلخ لا حرج في أن تكون مجرد معانٍ عقلية ليس لها كيان مستقل كما إدعى أفلاطون. ورأى أرسطو أن خلق أفلاطون لعالم المُثل لم يحل لغز الوجود بل أضاف ألغاز جديدة غير قابلة للتمحيص والدراسة. وشيد أرسطو وجهة نظره المستقلة فرأى أن كل ما في الوجود هو عبارة عن المادة أو الهيولي والصورة. أما الهيولي فهو العنصر منعدم الصفات فلا لون ولا رائحة ولا شكل ولا أي شيئ فجاءت الصورة فاسبغت عليه تلك الصفات. وعلى عكس ما فعل أفلاطون حيث فصل بين المادة والمُثل أرسطو افترض أن لا هيولي بلا صورة ولا صورة بلا هيولي. والهيولي يُمكن أن يكون أي شيئ بمعنى أن الهيولي قد يكتسب صورة معينة فيكون ذهب ولا يمنع أن يكتسب صورة أخرى فيكون فضة المهم أن كل ما في الوجود ما هو إلا اتحاد بين الصورة والهيولي. وقد رأى أن كل ما في الوجود يتحرك لغاية وقد عرف تلك الغاية على أنها الإله فهو غاية الغايات وإليه يسعى كل موجود. وأمعن أرسطو في الحديث عن الإله ونسب له العديد من الصفات؛ فالإله -كما قولنا- بالنسبة لأرسطو هو غاية الغايات فهو من يجذب العالم في اتجاهه، وهو منتهى الرُقي والرُقي ما هو إلا إمعان في الصورة وتقليل من الهيولي، إذا فالله صورة خالصه مفكرة فهو فكرة الأفكار وأكملها يعيش في سعادة أبدية وفي فكر لا ينتهي.

الطبيعة

على عكس أفلاطون لم يهمل أرسطو الكون المحسوس إنما اهتم به جداً وعُني بتفسيره وتقسيمه؛ فقسم الموجودات في تسلسل هرمي طبقا للنشوء والارتقاء. لكنه لم يرى أن الأرقى تطور للأدنى بمعنى أنه لم يرى أن الإنسان تطور لسابقيه، فمن وجهة نظره الإنسان موجود وجود أزلى مثله مثل الباقي لم يتطور نوع من آخر إنما يتقدم نوع على الآخر حتى نصل لأعلى مراحل التقدم وهو الإنسان. وذلك التسلسل تتحرك فيه الموجودات بين طرفين الأدنى هو الهولي، والأعلى هو الصورة وبينهما يتم التقسيم. ولا يمكن أن نفهم من ذلك التسلسل أن ما هو أدنى من الإنسان يكون الإنسان غايته، ومسخر له. فالإنسان قادر على التحكم فيما هو أدنى منه باستخدام عقله، ويسخره لخدمته ولكن لا يعني ذلك أن ما أدنى له منعدم الغاية، لا بل كلٌ له غايته إليها يسعى في حركة دائمة حتى إن لم يكن سعياً مبنياً على العقل بل الغريزة لكنه في النهاية سعيٌ لغاية. وقد وضح أرسطو أسباب الانحطاط وأسباب الرقي، حيث أن كل الكائنات العضوية أول ما تسعى إليه هو النجاة والحياة عن طرق الغذاء، ثم استمرار نوعها عن طريق التناسل. وما اقتصر من الكائنات على أداء تلك الوظيفتين فقط كان الأدنى مثل النبات، وكان الحيوان أرقى من النبات لقدرته على الحس والاستمتاع باللذة والهروب من الألم، أما الإنسان فقد حقق كل ما سبق وأضاف استمتاعه بالفكر لذلك كان أقرب المخلوقات للإله.

الأخلاق

رأى أرسطو أن أفلاطون بالغ في عداوته لشهوة وغريزة الإنسان، حيث أن تلك الشهوة أوالاحتياجيات الغريزية هي من مكونات الإنسان، واسئصالها بمثابة هدم للإنسان إذا لابد من وجود عقل يتحكم بها لا عقل يقتلها. وقد اختلف أيضاً مع سقراط حين رأى أن الفضيلة هي المعرفة أن بمجرد معرفة الإنسان للفضيلة سيفعلها لا محالة فرأى أرسطو أن هذا الكلام غير دقيق فقد تتغلب الشهوة على العقل وتبتعد عن الفضيلة التي تم إدراكها فلابد من معرفة الفضيلة وتوافر إرادة تحقيقها.

الدولة

اختلف أرسطو هنا أيضا مع أفلاطون؛ فأفلاطون قتل مصلحة الفرد لصالح الجماعه فها هو يجعل طبقة الحكام يعيشون عالة على أموال الناس وفي بيوتٍ بدائية، حتى أنه قتل الأسرة فلا زوجة مستقلى ولا أولاد. رأى أرسطو أن في ذلك خطأ فلابد من وجود أسرة ولابد من أن يحقق الفرد ذاته مع تحقيقه لمجتعمه.

ما بعد أرسطو

لاجديد…انحدرت الفلسفة بشدة بعد أرسطو نتيجة لما تعرض له المجتمع من غزو وتشتت في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فليست الحياة الفكرية بمعزل عن الحياة المادية. وعليه كان اهتمام العقول في الهروب من شرور الحياة بالبحث عن السعادة والأخلاق. مات البحث في الطبيعة، وعلة الوجود، وأصبحت النظرة للإنسان مركزية سطحية وظلت هكذا لفترة طويلة من الزمن كل ما تم فيها هو إعادة إحياء بعض القديم ليس إلا. ومن أشهر تلك المدارس التي جائت بعد أرسطو: الرواقيون والأبيقوريون.

إقرأ المزيد:

ملخص كتاب مغامرة العقل الأولى للكاتب فراس السواح

لوحة مدرسة أثينا

بين الفلسفة والتفكير النقدي، لماذا أدرس الفلسفة جامعيًا؟

بين الفلسفة والتفكير النقدي، لماذا أدرس الفلسفة جامعيًا؟

يتعجب البعض أحيانا من حماسة المتحدثين عن الفلسفة والراغبين في دراستها ويتسائلون:

ما دمت لا أرغب في العمل الأكاديمي الجامعي كمدرس للفلسفة فماذا سأفعل بعد التخرج من قسم الفلسفة؟ أو لماذا أدرس الفلسفة جامعيًا؟ أو ما دمتم لن تصبح فيلسوفًا، فلماذا تدرس الفلسفة؟

إذن وجب علينا أولًا تحطيم بعض الخرافات المنسوجة عن الفلسفة ودراستها وقراءتها، فإليك بعض أهم تلك الخرافات في هذا المقال.

أولًا: دراسة الفلسفة لن تمنحك مستقبل مهني مناسب

الفلسفة بالفعل ليست أحد الأقسام المهنية بشكل مباشر، لكنها تعلمنا كيفية التفكير، وليس فيما نفكر. لا تهتم الفلسفة بمنحك دور اجتماعي محدد، فهي لن تمنحك رخصة لمزاولة مهنة بعينها، ولهذا يقع الكثيرون في معضلة “لماذا أدرس الفلسفة؟”، والمشكلة تكمن في “لماذا تدرس أصلا؟”.

تهتم الفلسفة بالأساس بتعليمك بعض المهارات المهمة مثل كيفية التفكير بشكل ناقد، وكيفية تحليل المعلومات، وكيفية بناء حجج منطقية، وكيفية الكتابة بشكل واضح ومُقنع.

هذه هي المهارات التي يبحث عنها كل صاحب عمل في موظفيه تقريبًا في الصناعات كافة. إن أصبحت استشاري أو خبير في أي مجال، فأنت تحتاج إلى تكوين الحجج المنطقية باستمرار في مجالك. إن أصبحت صاحب عمل أيضًا، فأنت تحتاج إلى إقناع موظفيك بأهمية ما تطلبه منهم وعدالته ومنطقيته، وتحتاج لتفكير ناقد وقدرات تحليل هائلة كي ينجح مشروعك.

إليك بعض إعلانات الوظائف كي تلمس الاحتياجات بنفسك:

ذكرت هذه الإعلانات بعض من المهارات التي تتعلمها عند دراستك للفلسفة، مثل مهارات التواصل، والتفاوض، ومهارات التحليل، والتفكير وحل المشكلات وغيرها.

تشير بعض الدراسات إلى أن متوسط تغيير المهن في أستراليا قد وصل ما بين 5 – 7 مرات في عمر الفرد، والمهن لا يُقصد بها مكان العمل ولكن نوع العمل ذاته، بالتالي فإن فكرة زواج المهنة لحد الارتباط الأبدي غير مناسبة لعالمنا الرقمي الحديث ولم تعد واردة.

من هنا، تكتسب الفلسفة ميزة عظيمة وهي قدرتها على إكسابك المهارات الأساسية التي ستساعدك للانتقال بين المهن والصناعات المختلفة بسلاسة وقتما تشاء.

الأمر هنا مختلف عن شهادة الطب التي ستبقيك طبيبًا طيلة حياتك، أو الهندسة الإنشائية التي ستجعلك ملازمًا لمواقع البناء للأبد، الوضع هنا أكثر حرية واستقلالية ومتعة.

ريادة الأعمال نموذجًا

يستخدم رواد الأعمال مهاراتهم التحليلية والنقدية لمعرفة احتياجات السوق وفجواته ومشكلاته لإيجاد حلول إبداعية لتلك المشكلات والفجوات. تمامًا مثلما فعل خريج قسم الفلسفة لاري سانجر عند مشاركته في تأسيس موقع Wikipedia والحاصل على الماجستير والدكتوراة في الفلسفة أيضًا، وكذلك ستيوارت بترفيلد المشارك في تأسيس موقع Flicker لمشاركة الصور وهو للعلم حاصل على ماجستير في الفلسفة أيضًا.

كثير من خريجي الفلسفة يعملون في المجالات الآتية:

  • القانون.
  • الدين.
  • إدارة الأعمال.
  • الدبلوماسية الدولية.
  • العمل الاجتماعي.
  • الإدارة الطبية.
  • العلاقات العامة.

مما يجعل خريجي الفلسفة قادرين على شغل العديد من الأعمال والمناصب بعكس المتوقع.

ثانيًا: لن تملك المال الوفير لدراستك كانط وهيجل

تقول جين ويلز ل yahoo finance بناءًا على دراسة مالية لعدد من المواقع الإلكترونية:

“خريجي كليات الإنسانيات وتحديدًا الفلسفة هم أكثر جاهزية لاقتناص الوظائف ذات الرواتب المرتفعة”

والحقيقة أن خريجي الفلسفة يحصلون على فرص مادية أفضل من خريجي المجالات الفنية والإنسانية كافة، وهم من بين أعلى أربع فئات في متوسط الدخل للخريجين غير الحاصلين على دراسات عليا، وهم الأعلى في معدلات نمو الراتب بين قرنائهم في مراحل حداثة التخرج وحتى المراحل المهنية الوسيطة.

والآن، أنت تعرف أن ما يقال عن الفلسفة ودراستها هو محض خرافات لا أساس لها. إذن فدراسة الفلسفة تساعدك مهنيًا وماديًا.

ثالثًا: دراسة الفلسفة غير مهمة وتناسب الفاشلين!

الحقيقة أن خريجي الفلسفة هم أذكى طلاب المرحلة الجامعية، ويسجلون باستمرار في أفضل ثلاثة برامج في امتحانات المتطلبات الأساسية للدراسات العليا الأمريكية الـ GRE. في إحدى الدراسات، لوحظ حصول خريجي الفلسفة على أعلى معدل تقدّم في كليات الطب الأمريكية، وبعضها معدلات أعلى من طلاب علم الأحياء أنفسهم!

تحتاج صناعة التكنولوجيا خريجي الفلسفة لأن طريقة تفكيرهم الإبداعية مناسبة بشكل مثالي لتسارع الخطى التكنولوجية في عالمنا. كما تقدر مهنة المحاماة أيضًا المتقدمين الحائزين على درجات في الفلسفة لأنهم يفهمون مستوى الصرامة الفكرية في برامج التعليم القانونية وفي ممارسة المحاماة كوظيفة.

لم تظهر الفلسفة فجأة كما يعتقد البعض، بل كانت موجودة طوال الوقت ولفترة أطول من العلوم والرياضيات والأدب. في الواقع، كل هذه المجالات بدأت بفيلسوف يتساءل عن طبيعة الكون. لذلك، تقضي بعض الفصول مفكرًا في أسباب وجودك كإنسان في هذا العالم، فأنت كذلك تطور بعض المهارات المطلوبة بشدة في سوق العمل والتي يبحث عنها أصحاب العمل بنهم وبشكل متزايد في السنوات القادمة.

إذن، بعد هذا المقال، أعتقد أن سؤال “لماذا ندرس الفلسفة؟” لم يعد هو السؤال الأنسب، ولكن السؤال الأكثر ملاءمة الآن هو “لماذا لا ندرس الفلسفة؟”، أليس كذلك؟

——————————-

This quiz is for logged in users only.


ما هي النظرية العلمية ؟ وهل هي مجرد رأي؟

ما هي النظرية العلمية ؟ وهل هي مجرد رأي؟

تختلف الطريقة التي يستخدم بها العلماء كلمة “نظرية” قليلًا عن الطريقة التي يشيع استخدامها بين العامة.

يستخدم معظم الناس كلمة “نظرية” للإشارة إلى فكرة شخص ما أو حدسه حول موضوع معين. ولكن الأمر يختلف في العلم، إذ تشير كلمة “نظرية” إلى الطريقة التي نفسر بها الحقائق العلمية.

خطوات الوصول إلى النظرية العلمية

تبدأ كل نظرية كفرضية. الفرضية العلمية هي حلٌ مقترح لتفسير حدث لا نملك له تفسيرًا بعد، ولا تفسره نظرية علمية مقبولة حاليًا. وحسب قاموس (مريام ويبستر): الفرضية فكرة لم يتم إثباتها بعد. فإذا تراكمت أدلة تكفي لدعم هذه الفرضية، فإنها تنتقل إلى الخطوة التالية، المعروفة في المنهج العلمي باسم (النظرية)، وتصبح مقبولة كتفسير صالح للظاهرة.

عندما يتوصل العلماء إلى حقائق أو ملاحظات معينة، فإنهم يحتاجون إلى وضع تلك الحقائق والملاحظات في إطار معين، وهنا يستخدم العلماء النظرية العلمية لهذا الشأن. لذلك، فالنظريات قابلة للتغير، أي أن طريقة تفسيرنا للحقائق قد تتغير، لكن الحقائق نفسها لا تتغير.

يشبّه (جايمي تانر)، أستاذ البيولوجيا في كلية (مارلبورو)، النظريات بسلة يحتفظ بداخلها العلماء بالحقائق والملاحظات التي يتوصلون إليها. وقد يتغير شكل هذه السلة كلما توصل العلماء إلى المزيد من الحقائق.

على سبيل المثال، لدينا أدلة وافرة على تغير السمات في جماعات الكائنات بمرور الوقت (التطور)، لذا فإن التطور هو حقيقة لا تتغير. ولكن النظريات التي نستخدمها لتفسير التطور هي التي قد تتغير في حال توفر لدينا المزيد من الملاحظات حول التطور.

أسس النظرية العلمية

تعرف جامعة كاليفورنيا، النظرية بأنها “تفسير شامل وطبيعي لمجموعة واسعة من الظواهر”، فالنظريات تتسم بالإيجاز والترابط المنطقي والمنهجية وقابلية التنبؤ، كما أنها قابلة للتطبيق على نطاق واسع، وغالبًا ما تدمج وتعمم العديد من الفرضيات.

يجب أن تقوم أي نظرية على فحص دقيق وعقلاني للحقائق. وهنا يجب التأكيد على أن الحقائق والنظريات شيئان مختلفان. ذلك أنه في المنهج العلمي، ثمة تمييز واضح بين الحقائق التي يمكن ملاحظتها وقياسها، والنظريات، والتي هي تفسيرات العلماء للحقائق.

كما إنه من المهم لما تتوصل إليه النظرية العلمية أن ينعكس إلى أمور يمكن ملاحظتها، فالنظرية الجيدة، مثل نظرية الجاذبية لنيوتن، تتسم بالوحدة والتماسك، ما يعني أنها تتكون من عدد محدود من آليات حل المشكلات، يمكن تطبيقها على مجموعة واسعة من الظروف العلمية بغرض تفسيرها. ميزة أخرى للنظرية الجيدة هي أنها تتكون من عدد من الفرضيات التي يمكن اختبارها بشكل مستقل.

تطور النظرية

ليست النظرية العلمية النتيجة النهائية للمنهج العلمي. فالنظريات يمكن إثباتها أو رفضها، تمامًا مثل الفرضيات. ويمكن تحسين النظريات أو تعديلها إذا تم جمع المزيد من المعلومات، ما يجعلها أكثر دقة في التنبؤ بمرور الوقت.

لا تصبح النظريات قوانينًا كما يعتقد البعض، ذلك أن النظريات والقوانين لها أدوار منفصلة ومتميزة في المنهج العلمي. القانون هو وصف لظاهرة ملحوظة في العالم الطبيعي والتي تكون صحيحة في كل مرة يتم اختبارها. لا يفسر القانون سبب صحة أمر ما؛ إنما يقر على صحته فحسب.

من ناحية أخرى، تشرح النظرية الأمور التي لوحظت أثناء العملية العلمية. لذلك، في حين أن القانون والنظرية جزء من العملية العلمية، فهما جانبان مختلفان تمامًا، وهذا وفقًا لجمعية معلمي العلوم الوطنية.

مثال جيد على الاختلاف بين النظرية والقانون هو قانون العالم جريجور مندل. نحن نعلم أن قانون مندل ينص على أن سمتين وراثيتين منفصلتين ستظهران بشكل مستقل عن بعضهما البعض في ذرية مختلفة. اكتشاف مندل ظل قانونًا منذ ذلك الوقت، لكن تفسير هذا القانون لم يعرفه العلماء إلا بعد قرن من الزمان عند اكتشاف الحمض النووي و الكروموسومات، ووضْع نظرية وراثة الكروموسومات التي لا تزال مقبولة عالميا لتفسير قانون مندل إلى يومنا هذا.

تكمن أهمية النظريات في أنها أسس لتعزيز المعرفة العلمية، وتطبيق المعلومات المجمعة واستغلالها للاستخدام العملي. إذ يستخدم العلماء النظريات لتطوير الاختراعات المختلفة أو إيجاد العلاج لمرض ما.

مصدر
Livescience

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 21 في سلسلة مقدمة في علم النفس

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

تاريخ علم النفس

يعود مصطلح «علم النفس-Psychology» إلى اللغة اللاتينية ويعني دراسة الروح، تطورت الكلمة عبر العصور ليصبح علمُ النفس حاليًا علمَ السلوك والعمليات العقلية. ظهر المصطلح أول مرة في القرن السادس عشر، ولم تترسخ أسس العلم وقواعده المتعارف عليها حاليًا سوى في منتصف القرن التاسع عشر. شغل سؤال الوعي البشري ومنشأه تفكير العلماء والفلاسفة عبر العصور، منهم أرسطو الذي اقتنع أن الوعي منشأه القلب لا العقل. ومنهم الشعب الصيني، حيث طُورت أول اختبارات نفسية في العالم منذ ألفي عام تقريبًا وأُلزم الموظفون الحكوميون بالخضوع لاختبارات الشخصية والذكاء.

وأيضًا الرازي، الذي يُعد أول من وصف المرض النفسي وعالجه بل وخصص له جناحًا مستقلًا في مشفاه ببغداد. كان الغرض من جهود هؤلاء العلماء واحدًا وهو محاولة إيجاد الإجابات عن الأسئلة المهمة التي تخصنا نحن البشر، من نحن؟ وكيف يعمل عقلنا البشري؟ وماذا يجعلنا على ما نحن عليه؟مجالات علم النفس ينقسم علم النفس إلى خمس مجالات فرعية:

أولها: «علم الأعصاب-Neuro Science» وهو العلم الذي يهتم بدراسة العقل البشري والتفكير عن طريق دراسة المخ.

ثانيًا: «علم نفس النمو-Devlopmental Psychology» وهو العلم الذي يهدف إلى دراسة تطور البشر ونموهم وتعليمهم.

ثالثًا: «علم النفس المعرفي-Cognitive Psychology» وهذا العلم يُعد بمثابة أسلوب حاسوبي لدراسة العقل البشري، وذلك عن طريق مقارنة العقل بالحاسوب ومحاولة التوصل إلى كيفية فعل البشر الأشياء مثل: تعلم اللغة أو لعب الألعاب أو التعرف على الأغراض المختلفة.

رابعًا: «علم النفس الاجتماعي-Social Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالعلاقات البشرية والطريقة التي يتفاعل بها البشر مع بعضهم البعض. خامسًا «علم النفس السريري-Clinical Psychology» وهو العلم الذي يهتم بالصحة العقلية والمرض العقلي.الفرضية المدهشة سنلقي الضوء في هذا الجزء على المجال الأول من علم النفس وهو علم الأعصاب.

أول ما سنتحدث عنه هو: المخ. وضع العالم الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك فرضية تُدعى «الفرضية المدهشة-The Astonishing Hypothesis» والتي تنص على: “أنت وأفراحك وأحزانك، وذكرياتك وطموحاتك، وإحساسك بهويتك وإرادتك الحرة ليست سوى نتاج سلوك جماعي للخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها” وهنا يمكننا التمهل قليلًا والتفكير، هل هذه الفرضية قابلة للتصديق؟ الحقيقة أن هذه الفرضية كانت محل جدل كبير، ولا يؤمن أغلب البشر بها.

لأنه في الواقع أغلب البشر “ازدواجيين”. لكن ما هي الازدواجية؟

ما هي الازدواجية في علم النفس؟

«الازدواجية -Dualism» عقيدة يتبعها أغلب البشر، وتظهر بشكل واضح في كل الأديان وأغلب الأنظمة الفلسفية على مر العصور. أكثر المدافعين عن الازدواجية شهرةً ووضوحًا هو الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت-René Descartes». طور ديكارت نظريته عن الازدواجية التي تصف العقل البشري أنه كيان غير مادي يستطيع القيام بعمليات التفكير والتخيل والشعور والإرادة بشكل منفصل عن الجسد.

وعندما طرح ديكارت السؤال: هل البشر مجرد آلات مادية؟ جاءت إجابته: لا، لسنا مجرد آلات مادية. اعتبر ديكارت الحيوانات آلات مادية بل ووصفها أنها آلات وحشية، أما عند البشر فالأمر مختلف، فبينما يتشارك البشر والحيوانات في امتلاك الجسد المادي، إلا أن البشر يمتلكون الروح/العقل غير المادي الذي يسكن/يتعلق بالجسد المادي.

إثبات الازدواجية ساق ديكارت حجتين لإثبات نظريته عن الازدواجية. الأولى التي تعتمد على تأملات الأفعال البشرية وتثبت أن البشر ليسوا آلات مادية. طور ديكارت هذه الحجة أثناء تأملاته في الحديقة الملكية الفرنسية، تميزت تلك الحديقة بوجود روبوتات هيدروليكية تعمل على تدفق المياه، فعندما تخطو على لوحة ما يظهر لك فارس بسيف في يده وعندما تخطو على أخرى تختبيء امرأة جميلة خلف الشجيرات، وهنا سأل ديكارت السؤال: هذه الآلات تستجيب بصورة معينة وكذلك البشر، فعندما تطرق على ركبة أحدهم سترتفع في الهواء، إذن هل البشر آلات مادية؟ وأجاب ديكارت: لا، لسنا آلات مادية!

لسنا آلات مادية من منظور ديكارت!

فسر ديكارت ذلك بتوضيح أن البشر ليسوا محدودين برد الفعل، بل على العكس لدى البشر القدرة على الابتكار والتصرف بعفوية. مثال على ذلك في اللغة: عندما يحييك أحدهم: مرحبًا، كيف حالك؟ سيأتي ردك فورًا: مرحبًا، أنا بخير. لكن الأمر لا يتوقف عند هذه النقطة، فأنت تملك الخيار أن تجيب على هذا النحو مثلًا: أنا في أحسن حال! وهنا يظهر الاختلاف بين الآلات والبشر، فالآلات لا يمكنها الاختيار ومحدودة برد الفعل، أما البشر فلا وبالتالي البشر ليسوا آلات مادية.

الحجة الثانية وهي الأشهر وتعتمد على مذهب الشك. شكك ديكارت في كل ما حوله، وأخذ يسأل نفسه: “ما الذي يمكنني أن أكون متأكدًا منه؟ فربما يوجد آله وربما لا، وربما أعيش في دولة غنية وربما يتم خداعي، وربما هذا الجسد ليس حقيقيًا، يظن المجانين في بعض الأحيان أن لديهم أطرافًا إضافية أو يرون أجسادهم بصور مختلفة عن الواقع، كيف أعرف أنني لست مجنونًا؟” الشيء الوحيد الذي لم يستطع ديكارت الشك فيه هو أنه يفكر، فلو فعل سيكون هذا بمثابة دحض لذاته. ومن هنا استخلص ديكارت أنه “هناك شيء مختلف فيما يخص امتلاك الجسد، إنه أمر غير مؤكد على عكس امتلاك العقل.”

وهكذا استخدم ديكارت مذهب الشك لإثبات نظريته عن الازدواجية وانفصال العقل والجسد. الازدواجية والفطرة تظهر الازدواجية بوضوح وبشكل فطري في اللغة، فالازدواجية واللغة مترابطان إلى حد كبير.

كافكا وهومر عن الازدواجية

مثال على ذلك، عند الحديث عن أشيائنا العزيزة والمقربة نقول: سيارتي أو كتابي أو قلبي أو ذراعي ولا يتوقف الأمر هنا فنقول: عقلي، نتحدث عن امتلاك العقل كأنه وبشكل ما منفصل عن الجسد. تظهر الازدواجية أيضا بشكل فطري في نظرتنا للهوية الشخصية، فنرى أن مرور الجسم بتغيرات كبيرة وجذرية لا يعني تغير الشخص ذاته. والأمثلة التي توضح ذلك خيالية، منها ما كتبه فرانز كافكا في واحدة من أعظم القصص القصيرة في القرن الماضي:

“استيقظ جريجوري سامسا في صباح ما من ليلة مليئة بالأحلام المزعجة، ليجد نفسه تحول إلى حشرة عملاقة.”

هنا يدعونا كافكا إلى تخيل الاستيقاظ في جسد صرصور ضخم وبالفعل لا نواجه صعوبة في ذلك. مثال آخر يعود إلى مئات السنين قبل الميلاد، حينما يصف “هومر” مصير رفقاء “أوديسيوس” اللذين وقعت عليهم لعنة شريرة ليعلقوا في أجساد خنازير، كان لهم رأس وجسد وشعر وصوت الخنازير لكن ظلت عقولهم/أرواحهم كالسابق لم تتغير.

وهنا أيضًا يتم دعوتنا بشكل فطري إلى تخيل مصير إيجاد أنفسنا في أجساد كائنات أخرى.الازدواجية والبشر يؤمن معظم البشر من جميع الأديان في معظم مناطق العالم على مر العصور بقدرتهم على النجاة من دمار أجسادهم. اختلفت الثقافات في تحديد مصير الروح، منها ما يقول أنها ترتقي إلى الجنة أو تهبط إلى الجحيم، ومنها ما يقول أنها تعود لتشغل جسدًا آخرًا، أو لتشغل حيزًا في عالم روحي لا شكلي. لكن الأمر المشترك بينهم جميعًا هو أن ما تكونه أنت، ما يعنيه وجودك كإنسان منفصل انفصالًا تامًا عن جسدك المادي.

ملحدون في الجنة الإيمان!

أحد المسوحات التي تمت في ولاية شيكاغو استطلعت ديانات الأشخاص وماذا باعتقادهم قد يحدث لهم عند الموت، وجائت النتائج كالتالي: رأت النسبة الأكبر من الأشخاص المعتنقين للمسيحية واليهودية أنهم سيذهبون إلى الجنة عند الموت، نسبة أقل من المشاركين نفت اعتناقها لأي دين، لكنهم اعتقدوا أيضًا أنهم سيذهبون للجنة عند الموت! دحض الازدواجية نستنتج مما سبق أن الازدواجية في كل شيء، وتعتمد عليها الكثير من الثوابت.

لكن يبقى للعلم رأي آخر، أشار كريك أن الإجماع العلمي يرى الازدواجية خاطئة، ليس هناك “أنت” منفصل عن جسدك، وبالتحديد ليس هناك “أنت” منفصل عن مخك، فالعقل هو ما يفعله المخ، العقل انعكاس لعمل المخ.

أما الازدواجية فهي عقيدة غير علمية لا تستطيع الإجابة عن أسئلة مثل: كيف يتعلم الأطفال اللغة؟ أو ما الذي يجعل الشخص جذابًا؟ أو كيف ينشأ المرض النفسي؟

تفسير الازدواجية!

تفسير الازدواجية الوحيد أن كل هذا ليس ماديًا، إنه جزء من كيان الروح/العقل غير المادي. وعاني ديكارت نفسه من هذه النقطة، فقد توصل إلى ضرورة وجود إتصال ما بين الجسد المادي والعقل غير المادي، وإلا فلماذا تشعر بالألم عندما يرتطم اصبعنا بشيء؟ ولماذا تقفز ركبتك في الهواء عند الطرق عليها؟ لكنه فشل في تحديد ماهية هذا الاتصال.

علاوة على ذلك، هناك أدلة قوية تثبت مشاركة المخ في الحياة العقلية، حيث تشير الأبحاث إلى تناظر أجزاء المخ مع نشاطنا العقلي. وهذا ليس بالاكتشاف الجديد، فقد عرف الفلاسفة والعلماء منذ وقت طويل أن الضرب على الرأس يمكن أن يغير القدرات العقلية، كذلك يمكن لمرض الزُهري أن يجعل المرء مختلًا، وللمواد الكيميائية مثل الكافيين والكحول تأثير على نشاط العقل.

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، حيث مكنتنا تقنيات التصوير مثل الأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغناطيسي من التعرف على المناطق النشطة من المخ أثناء المراحل المختلفة من النشاط العقلي مثل: الفارق بين رؤية الكلمات وسماعها وقراءتها وتوليدها تتناظر مع مناطق نشطة مختلفة من المخ. مثال آخر: يُمكن بتتبع المناطق النشطة من المخ معرفة ما إذا كان الشخص يستمع إلى الموسيقى أو يفكر في الجنس أو حتى يفكر في حل معضلة أخلاقية ما.

وأخيرًا يمكننا القول أن الإجماع العلمي يتفق مع فكرة أن العقل نتاج لعمل المخ، أن مشاعر البشر وضمائرهم وأخلاقهم وإرادتهم الحرة ذات أصل مادي، أن الإنسان في الحقيقة ليس سوى مخ! لكن يظل السؤال هنا، كيف يمكن أن ننشأ نحن البشر بكل تعقيداتنا من هذا العضو الرمادي الصغير بتلافيفه وتجاويفه؟ كيف يعمل العقل؟ والسؤال الأهم كيف ينشأ التفكير من العقل؟ وهذا ما سنتطرق إليه في الجزء القادم من سلسلة علم النفس.

المصادر:
Psychology
Mind-body dualism
The Astonishing Hypothesis
PhilPapers

كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

 

اهلا بكَ عزيزي القاريء بين سطور مقالنا هذا، وكنوع من حسن الضيافة اسمح لنا عزيزي بطرح سؤال صغير عليك، الأ وهو كيف وصلت إلى مقالنا أو بعبارة أخرى كيف وجهت أصبعك للضغط على رابط المقال؟ لا بد أنك تقول بالتفكير بذلك، بعدها تحرك أصبعك بالكيفية التي أردتها. لنضعها في سياق آخر، ونقول أن دماغك سينشط خلايا عصبية في تسلسل صحيح ليتحرك بذلك أصبع يدك ، لكن كيف تخبر دماغك بفعل ذلك؟ كيف تتواصل مع دماغك؟ معضلة العقل والجسم

 

معضلة العقل والجسم

هناك فجوة غير قابلة للعبور بين تجربة العقل وشكل الجسد الفيزيائي، وتعد معضلة الجسم والعقل «The mind body problem» معضلة قديمة قِدم الفيلسوف سقراط وحتى نكون واضحين، نحن لسنا أقرب منه في حل هذه المعضلة، لكن لدينا عدد من الأفكار الجيدة التي تناقش هذه القضية، نطرح عليك عزيزنا جزءا منها.

 

الثنائية

ترى الثنائية أن الوعي والفيزياء الجسدية كيانان منفصلان تماماً، فالحالة العقلية لا تتشابه مع عمل الدماغ، تخيل أنك تمتلك قدرة بصرية خارقة تستطيع اختراق جمجة احدهم والوصول للدماغ، ربما تستطيع رؤية السيالات العصبية لكنك لا تستطيع القول أنك تشاهد الوعي الخاص بهذا الشخص.
الوعي مختلف عن الحالة الفيزيائية للدماغ حتى لو بدا الأمران متقاربان، تتفرع الثنائية إلى عدة أفرع لكل منها تفسيره، نذكر منها:

ثنائية المادة

العقل والروح والوعي كلها أمور منفصلة تتفاعل فقط مع العالم الفيزيائي من خلال الدماغ.

ثنائية الخاصية

بعض أنواع المادة كالدماغ تملك نوعين من الخصائص، الخاصية الفيزيائية والخاصية اللافيزيائية.

الظاهراتية المصاحبة

المادة الفيزيائية تستطيع فقط أن تتفاعل مع المادة الفيزيائية، لذلك العقل اللافيزيائي لا يستطيع أن يحدث أي تغيير في الدماغ، وحدها السيالات العصبية هي من تحرك الدماغ وتتحرك لانها مربوطة بالقوانين الفيزيائية.
المادة اللافيزيائية أو المادة الناشئة منها تؤثر على جانب من عمل الدماغ حتى لو لم يكن لها تأثير حقيقي على العالم.

التوازي

العالم الفيزيائي واللافيزيائي لا يتفاعلان لكنهما يسيران بشكل متواز، أي حدث يتطابق بالضبط مع الحدث الذي يليه.

 

الوحدوية

مبدأ ينافس الثنائية، بدلاً من القول بوجود نوعين من الأشياء، تنص على ان هناك نوع واحد من المادة في الكون وهي الحالة الفيزيائية، وكما هو حال الثنائية تنقسم الوحدوية إلى عدة أقسام لكل منها تفسيره، نذكر منها:

المادية

هناك نوع واحد من الأشياء في الكون وهي مصنوعة من الذرات والجسيمات التحت ذرية، أما أمالنا ومشاعرنا فهي ناتجة عن «المدخلات الحسية-Sensory inputs»

المثالية

ليس هناك شيء يسمى المادة الفيزيائية، العقل الواعي اللافيزيائي هو الوحيد الموجود.

الوحدوية الطبيعية

ماذا لو كان هناك نوع واحد من المادة وهي ليست بفيزيائية أو لافيزيائي؟ هل من الممكن وجود شيء واحد يجمع بينهما، حاول أن تفكر في الهيئة الفيزيائية واللافيزيائية للأشياء كجهتين لعملة واحدة.

الوحدوية المعاكسة

هناك نوع واحد من المادة وهي ليست بفيزيائية أو لافيزيائية لكنها تعتمد على ما يحيط بها.

 

في الواقع كلا الفكرتين الثنائية أو الوحدوية غير قادرة على تفسير ما نخبره في العالم يومياً، لكن النقطة هنا هي ضرورة توسيع عقولنا ومداركنا وتقبل إحتمالية وجود عدد كبير من الإجابات للسؤال الذي لازم البشر منذ القدم.

 

Curiosity

لماذا نشعر بالملل؟ وكيف ننتصر عليه؟

لماذا نشعر بالملل؟ وكيف ننتصر عليه؟

رفع الشاب حقيبة الظهر السوداء فوق ظهره وخرج من أمام شباك التذاكر واضعا تذكرته في جيب سترته، وانطلق مسرعا للحاق بالقطار، وما هي إلا دقائق حتى وصل لمقعده بجواري. وضع حقيبته ثم تهيأ معتدلا في جلسته، ونظر للأمام لنصف دقيقة في سكون أعقبه ملامح الشعور بالملل. أكره مثله ساعات السفر الطويلة وخاصة عندما علمت بانتهاء شحن هاتفي المحمول. لقد أصبحنا سجناء كراسينا تحت رحمة هذا القطار ولساعات. حاولت الانشغال بوجوه المسافرين حولنا. يبدو علينا جميعا الشعور بالملل، أليس كذلك؟ فجأة طرأ في ذهني ذلك السؤال، لماذا نشعر بالملل؟ وما هو بالأساس؟ وكيف ننتصر عليه؟ لا أعلم عزيزي القارئ ما إذا كان الملل هو الداعي لهذا السؤال أم هو الرغبة في المعرفة، ولكن لا شك أننا جميعا نشعر بالملل ونمر بمثل هذا الموقف، لذا دعنا نكتشف الأمر.

ما هو الملل؟

اقترح مقال بحثي منشور عام ٢٠١٢ في Educational Psychology Review أن الملل عبارة عن نقص في الإثارة العصبية يصحبه شعور مختلط من عدم الرضا والغضب أو عدم الاهتمام.

يشعر ٩١ إلى ٩٨٪ من الشباب بالملل بشكل يومي، ويظهر لدى الذكور أكثر من الإناث. فكلما ارتفعت نسب الملل، صاحبها ارتفاع مخاطر معاقرة الخمور وإدمان المخدرات وهو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني كريكيغارد قائلا عن الملل: “هو أصل كل الشرور”. يتفق معظم البشر على أن الملل شعور سلبي.

هل يختلف الملل عن اللا مبالاة أو الاكتئاب؟

بالتأكيد يختلف عن اللا مبالاة، إذ أن الملل يدفعنا للقضاء عليه في أسرع وقت. كما أنه يختلف عن الاكتئاب، فهو ناجم عن ظروف خارجية محيطة بنا. اقرأ أيضًا: الفارق بين الحزن والاكتئاب في هذا المقال.

لماذا نشعر بالملل؟

وفقا للدراسات، هناك سبعة أسباب للملل:

أولا، الرتابة:

أول المتهمين قد يكون هو الإرهاق العقلي، إذ أن أي مهمة متوقعة ومتكررة ستقودك مباشرة إلى الملل. فالكثير من الشيء ذاته سيشعرك بالاكتفاء، ثم تفقد اهتمامك به تماما (Toohey, 2012)، إلى أن تمارسه بملل مثل المهام المنزلية اليومية.

ثانيا، قلة الأحداث:

قد يضعك أحدهم يوما ما أمام مهمة قليلة الأحداث والمتغيرات، مثل مراقبة كاميرا ما، وشعورك بالملل طبيعي تماما، فمئات الساعات تمر بسلام دون أي حادث يستحق المراقبة. المهمة هنا قليلة الأحداث وبلا أي متغيرات حقيقية تتناسب مع عقولنا المتحفزة فهل تتوقع أن استقلال وسيلة مواصلات طويلة أو انتظار دورك في الطوابير قد يكون أمر مثير؟ بالتأكيد لن يكون، لكن لا تتعجب أيضا إذا عرفت أن ممارستك لمهمة صعبة وسريعة المتغيرات قد يقودك للنقيض وهو الشعور بالقلق.

ثالثا، الحاجة إلى الجديد:

بعضنا قد يكون مختلف بعض الشيء، مثل أولئك الذين يمارسون الرياضات الخطرة أو من اعتادوا على المخاطر في حياتهم المهنية. من الطبيعي أن يشعر هؤلاء ببطء الحياة من حولهم مقارنة بما اعتادوا أن يمارسوه. هم يحتاجون إلى ممارسة شيء جديد على نفس المستوى من الخطر والإثارة كي تنتبه حواسهم. وهو ما يفسر أيضا سبب تعرض الأشخاص الاجتماعيين والمنفتحين للملل أكثر من الانطوائيين. فيدفعهم ذلك لخوض المزيد من المغامرات للقضاء على الملل.

رابعا، منح الاهتمام:

هل فكرت مسبقا أنك قد تكون مصاب بمشكلة صحية تتسبب في شعورك بالملل؟ نعم، وفقا للأبحاث فالمصابون بفرط الحركة وضعف التركيز والانتباه أكثر عرضه للملل من غيرهم. فلا يمكن أن تهتم بشيء يصعب أن تنتبه إليه.

خامسا، الوعي العاطفي:

ربما ينقصك الوعي الذاتي اللازم. فبعض من يشعرون بالملل هم أشخاص غير قادرين على تحديد ما يريدون أو ما يرغبون فيه. غياب قدرتك على تحديد ما يسعدك قد يتسبب في شعورك بالملل. لذلك ينصح بتحديد الأهداف المنطقية المناسبة لرغباتك وما يشعرك بالسعادة. (Eastwood, 2012)

سادسا، غياب الإرادة:

فترة المراهقة هي أكثر فترات الشعور بالملل، أليس كذلك؟ تبدو تلك الحقيقة قاسية ومجربة، فكلنا قد شعرنا بها في حيواتنا. يعود الأمر إلى غياب تحكمنا في سير الأحداث من حولنا. إذ نشعر بأننا محتجزين وعالقين في حياة لا نرغب فيها ونريد تغييرها بأي شكل. نريد السيطرة الكاملة والحرية. نريد أن نفعل ما نريد وقتما نريد. إذا فحرمانك من السيطرة على مجريات حياتك وإجبارك على فعل ما لا تريده سيقودك حتما للملل وربما ما هو أكثر خطورة منه.

سابعا، تأثير الثقافة:

الشعور بالملل هو رفاهية عصرية بشكل أو بآخر. (Spacks, 1996) إذ لم تعرفه البشرية أو تسميه حتى أواخر القرن الثامن عشر إبان الثورة الصناعية. قبل ذلك، لم تكن البشرية بهذا الترف، إذ قضى الإنسان معظم وقته لتأمين الطعام والمسكن، حينها لم يكن للملل وجود.

ماذا لو لجأنا إلى هواتفنا المحمولة؟

قد يتخيل البعض أن اللجوء إلى الهاتف المحمول أثناء ممارسة المهام سيقضي على الملل، إلا أنها تزيد من إدمانك لها وارتباطك بها، حتى أنها تمنحك قدر من الإثارة أكثر مما تتوقعه لدرجة تؤثر على علاقتك بأسرتك وأصدقائك. فلا تتعجب حينها عندما يشتكي منك كل من حولك. وربما تزيد الألعاب التكنولوجية أو وسائل التواصل الإجتماعي من أعراض مللك، لأنك رفعت من مستوى الإثارة الذي تتعرض له يوميا، فتكاد لا تطيق البقاء دونها، فاحذر هذا العلاج فهو كارثي.

نظرة مختلفة للملل

على النقيض من كريكيغارد، اعتبر الفيلسوف الشهير نيتشة الملل دافعا للإنجاز، أو على أقل تقدير قد يكون علامة على عدم أهمية شيء ما أو أن هذه المهمة سخيفة وليست إلا مضيعة للوقت. وحينها عليك ترك ما تفعل وتتحول لشيء آخر أكثر فائدة. والفضل في ذلك التحول يعود إلى شعورك بالملل. (Svendsen, 1999)

كيف نتغلب على الملل؟

تقترح الدراسات أن نواجه المهام المملة بطريقة تفكير غير تقليدية، أي أن نفكر في تلك المهام بشكل مختلف. ربما يساعدك إدراك مدى أهميتها للآخرين على التغلب عليها، أو إيجاد معنى أكبر لما تفعله، فيضع عقلك بعيدا ليتجاوز التكرار والتفاصيل.

كما يقترح بعض الباحثين ممارسة التأمل والتمارين الذهنية ولكن وجب التنويه أن تأثيرها غير مؤكد بعد.

يحتاج الملل كشعور إنساني للمزيد من الدراسة والفحص، فهو مرتبط ببعض الآثار السلبية مثل الاكتئاب والقلق وانخفاض الأداء الأكاديمي للطلاب وارتفاع معدلات الرسوب، كما يرتبط ببعض الأخطاء المهنية والتي قد تقود بعضها لكوارث وخسائر في الأرواح. حتى وإن لم يقودنا الملل لتلك النتائج السلبية. ما زلنا نحتاج لدراسته لتصميم بيئات تعلم ممتعة وبيئات عمل متطورة والقيام بمهامنا اليومية على أكمل وجه. يبدو عزيزي القارئ أن الملل قد وجد من لا يملون من دراسته لمساعدة البشرية.

 

مصادر:

springer

psychology today

livescience

Exit mobile version