النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

هذه المقالة هي الجزء 9 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

النظرية والتجربة عند بويل وهنري مور ونقد الفرضية العلمية

ماذا يحدث عندما يفسر أشخاص مختلفون التجربة نفسها بطرق مختلفة؟ هم لم ينفوا التقرير التجريبي ذاته، أي أنهم لم ينفوا حقيقة أن استخراج الهواء من مضخة الهواء، سيبقي قطعتا الرخام ملتصقتين في الهواء. لكن ما سبب الجدل والخلاف بينهم هو افتراض بويل نفسه!

بالنسبة لبويل، لم تنفصل قطعتا الرخام عن بعضهما نظرًا لاختلاف ضغط الهواء في قمة قطعتي الرخام وفي القاع. كانت هذه نظرية بويل عن الزنبرك أو مرونة الهواء. ومع ذلك، فإن أشخاصًا آخرين -بسبب معتقداتهم اللاهوتية أو الميتافيزيقية- لم يقبلوا رأيه.

شرح الآخرون ما حدث في مضخة الهواء بطرق مختلفة. لم يقبل فرانسيس لينوس مثلًا نظرية مرونة الهواء. إذ افترض لينوس أن بعض الهواء المخلخل كان يشغل المساحة الكاملة في مضخة الهواء بالفعل لكن هناك شيء آخر مثل الخيط يحافظ على قطعتي الرخام ملتصقتين في الهواء. [1]

هنري مور وروبرت بويل

كذلك هنري مور، الذي انتقد ادعاء بويل بافتراض أنه إذا حدث امتصاص للهواء من مضخة الهواء حقًا، فستميل الطبيعة لإعادة ملئه بمجرد غياب قوة تعيقه. واعتبر أن هذا ينطوي على افتراض أساسي مفاده أن المادة ستعيد ملء الفراغ. اعتقد هنري مور أن الفلسفة الميكانيكية وحدها -كالتي اعتمدت عليها نظرية مرونة بويل- لا يمكنها تفسير الظواهر.

ظن هنري أن وجود كائن غير مادي ضروري لشرح الظواهر التي تلاعبت بها بمضخة الهواء. في هذا المثال، يمكننا أن نرى كيف يمكن لمعتقدات المرء أن تؤثر على الطريقة التي يصف بها الظاهرة ذاتها. لم تكن تلك سمة من سمات العلم الحديث، بل هي سمة من سمات العلم بشكل عام. تعتبر العلاقة بين النظرية والتطبيق من أكثر القضايا تعقيدًا في النهج العلمي. [2]

لفترة وجيزة، اعتبر أن التجارب الحديثة المبكرة تستخدم فقط لاختبار الفرضيات والنظريات. هذا يعني أنها صُممت خصيصًا لتأكيد أو رفض الادعاء النظري، كما رأينا بالفعل في مثال تجربة المثانة لتأكيد الفرضية القائلة بأن الهواء يتحول إلى ماء بسبب البرد. بعد ذلك، أصبح للتجارب -حتى في الفترة الحديثة المبكرة- وظائف أكثر من مجرد اختبار للفرضيات. غالبًا ما تستخدم التجارب للإجابة على الأسئلة المفتوحة وصياغتها بشكل مختلف. بعبارة أخرى، صممت التجارب خصيصًا لتوفير معلومات حول ظاهرة ما؛ معلومات لم تكن موجودة في السؤال الأولي المطروح وهو أمر جديد حقًا بالنسبة للعلماء حينها. لكن هذا لا يعني أن التجارب مستقلة تمامًا عن النظرية. لا تزال التجارب مصممة للإجابة على سؤال معين، مما يجعلها مصممة للنظرية. [4]

بين بويل ونيوتن و نقد الفرضية العلمية

قَبِل بويل استخدام الفرضيات إذا كانت مؤقتة. واعتبر أن التجارب ستوفر معلومات كافية في النهاية لتوضيح المعرفة النظرية المثبتة. من ناحية أخرى، اعترض نيوتن على استخدام الفرضيات في الفلسفة الطبيعية، واعتقد بضرورة البحث في الطبيعة دون أي التزامات نظرية. ومع ذلك، استندت تحقيقاته الخاصة إلى بعض الفرضيات الأساسية، مثل النظرية الجسيمية للمادة.

اعتقد روبرت بويل أنه يمكن للفرضيات أن تصبح جزءًا من الفلسفة التجريبية إذا كانت تخمينية، ورأى أن التجربة ستخلق في النهاية معرفة يقينية. لكن رفض إسحاق نيوتن قبول الفرضية في الفلسفة التجريبية، معتبرًا إياها عائق على التحقق العلمي. واختلفا في أن المعرفة النظرية الوحيدة المقبولة هي تلك التي يجب أن تكون مستنبطة بالكامل من النتائج التجريبية.

الفرضية العلمية بين الأمس واليوم

تقدم مناهجنا الحديثة اليوم الطريقة العلمية كمرادف لاختبار الفرضيات. ومع ذلك، فإن الفرضيات هي مجرد أفكار حول كيفية عمل الطبيعة، أو ما أسماه العالم والفيلسوف ويليام ويويل من القرن التاسع عشر “التخمينات السعيدة”. وتنظم الفرضيات تفكيرنا بشأن ما قد يكون صحيحًا، بناءً على ما لاحظناه حتى الآن. فإذا كان لدينا تخمين حول كيفية عمل الطبيعة، فإننا نجري تجارب لاختبار التخمين.

في العلوم الكمية، يتمثل دور النظرية في إيجاد نتائج التخمين بالاقتران مع الأشياء التي نعرفها. ربما تكون الفرضية الأكثر شهرة في كل العلوم هي أن الأنواع الجديدة تنشأ من فعل الانتقاء الطبيعي على الطفرات العشوائية. بنى تشارلز داروين فرضيته على ملاحظة بعض الأنواع خلال رحلته الشهيرة إلى جزر غالاباغوس. فرضية داروين -عندما كانت مجرد فكرة- تنطبق على كل أشكال الحياة، في كل مكان وفي جميع الأوقات، مشحونة بقوة تنبؤية.

اختبرت أجيال من علماء الأحياء فرضية داروين تلك وبنت عليها مع مجموعة واسعة من الاكتشافات الجديدة. أصبحت نظرية التطور الآن راسخة باعتبارها الركيزة المركزية لعلم الأحياء، وكذلك مدعومة بالأدلة مثل أي نظرية في العلوم. ولكن ما الذي كان سيكتبه داروين لو أنه اضطر إلى كتابة مقترح بحثي لتمويل رحلته على متن سفينة بيجل الشهيرة؟ لم تكن لديه فرضية الانتقاء الطبيعي حينها بالطبع، أي قبل الرحلة. لقد نشأت فرضيته من الملاحظات ذاتها التي ينوي القيام بها. إذا كتب، بصدق، أن “الجزر المعزولة التي سنزورها هي مختبرات طبيعية ممتازة لمراقبة ما سيحدث للأنواع الوافدة إلى منطقة جديدة”، فسيُحكم على مقترحه البحثي وفقًا لمعايير اليوم باعتباره مقترح رحلة صيد بدون فرضية قوية. [3]

هل استخدم نيوتن الفرضية العلمية رغم نقده لها؟

ماذا عن نيوتن نفسه رغم احتجاجه على استخدام الفرضية؟ حدد نيوتن المتغيرات الصحيحة لمشكلة حركة الكواكب وهي القوة والزخم. لكن إذا وضعنا أنفسنا مكان نيوتن لنقرأ مقترحه البحثي بعيون اليوم، سنجده يكتب مثلاً: “أفترض أن العزم والقوى هي المتغيرات الصحيحة لوصف حركة الكواكب. أقترح تطوير طرق رياضية للتنبؤ بمداراتها، وسأقارنها مع الملاحظات الحالية “.

أعمال نيوتن لم تكن تخمينًا حول كيفية عمل الطبيعة، ولكنها أفضل طريقة لوصف الحركة رياضيًا، والتي من خلال نجاحها الواسع رسّخت مفاهيم بديهية للقوة والزخم والطاقة.

“لم أتمكن حتى الآن من اكتشاف سبب خصائص الجاذبية هذه من الظواهر، ولن أضع فرضيات. فكل ما لم يتم استنتاجه من الظواهر يجب أن يسمى فرضية؛ والفرضيات، سواء كانت ميتافيزيقية أو مادية، أو قائمة على صفات غامضة أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية. ففي هذه الفلسفة يتم استنتاج افتراضات معينة من الظواهر، وبعد ذلك يتم تحويلها إلى عامة عن طريق الاستقراء.”

إسحاق نيوتن

دوامات الجاذبية لرينيه ديكارت وكريستيان هيغنز

كتب نيوتن ردًا على نظريات دوامة الجاذبية التي وضعها رينيه ديكارت وكريستيان هيغنز. إذ تخيلا أن ما يسمى بالفضاء الفارغ مليئًا في الواقع بدوامات من الجسيمات غير المرئية التي اجتاحت الكواكب في مداراتها. فكرة الدوامة هي بالتأكيد تخمين حول كيفية عمل الجاذبية. لكنه ليس التخمين المفيد للغاية. إن فكرة الجسيمات غير المرئية التي تكشف عن نفسها فقط من خلال التأثيرات على الكواكب البعيدة التي يصعب الوصول إليها هي فكرة مطاطة وليست محددة بما يكفي لتقديم تنبؤات قابلة للاختبار. بلغة فيلسوف العلوم في القرن العشرين كارل بوبر، لا يمكن دحضها بسهولة.

لم يقدم نيوتن قصة عن آلية خيالية تفسر سبب الحفاظ على الزخم أو كيفية نشوء الجاذبية. بدلاً من ذلك، صاغ قواعد بسيطة تصف كيفية تحرك الكواكب. وكما تبين فيما بعد أنها تفسر كيف يتحرك كل شيء تقريبًا في الظروف العادية. وكما كانت رؤية نيوتن قوية، فإن وصفه للجاذبية كان أيضًا ذو خاصية مقلقة تتمثل في ذلك “الأثر المخيف الذي يقع” من الشمس على الكواكب، وفي الواقع من كل كتلة على كل كتلة أخرى.

الفرضية بين نيوتن وأينشتاين والعلم الحديث

استغرق الأمر 250 عامًا أخرى لشرح الأصل المادي للجاذبية. فكانت فرضية ألبرت أينشتاين حول الجاذبية ميكانيكية، بخلاف نيوتن، حيث تحني الكتلة الفضاء. ونتيجة لذلك، تنحني الخطوط المستقيمة بالقرب من الأجسام الضخمة، بما في ذلك مسار الضوء من النجوم البعيدة التي تمر بالقرب من الشمس في طريقها إلى تلسكوباتنا. لقد استغرق أينشتاين سنوات لتطوير معادلات رياضيات لإظهار أن وصف نيوتن، الذي كان متسقًا مع العديد من الملاحظات، كان مجرد تقدير. كما استغرق سنوات لصياغة تنبؤات مذهلة للأشياء التي تحدث للكتل الضخمة مثل الانهيار في الثقوب السوداء أو عندما تتحرك الكتل الكبيرة بسرعة هائلة مثل موجات الجاذبية.

فلماذا يتركز التمويل البحثي الحديث في يومنا هذا على البحث المبني على الفرضيات؟ إن التصميم التجريبي القائم على الفرضيات هو الأنسب لبعض المجالات المؤثرة، وخاصة البيولوجيا الجزيئية والطب. يدرس الباحثون في تلك المجالات أنظمة معقدة وغير قابلة للاختزال (كائنات حية)، ولديهم تحقيقات تجريبية محدودة، وغالبًا ما يُجبرون على العمل بمجموعة بيانات صغيرة. لا مفر من أن يكون البروتوكول التجريبي الأكثر شيوعًا في هذه المجالات هو الضغط على نظام حي معقد من خلال إعطائه عقارًا أو مادة كيميائية ثم قياس بعض الاستجابة غير المباشرة ذات الصلة. ويعتقد البعض أن هذه التجارب تعيش وتموت من خلال الاختبار الإحصائي، مما دفعهم إلى نقد الفرضية العلمية.

عن نقد الفرضية العلمية اليوم

يعتقد البعض أن هذا نموذج ضيق للغاية لما يمكن أن تكون عليه التجارب. ففي العلوم الفيزيائية، يصبح الباحثون أكثر قدرة على التعامل مع النظام المهتمون بدراسته وتبسيطه. كما يتمتعون أيضًا بتقنيات تجريبية أقوى من نواحٍ عديدة وتعتبر امتدادات لحواس الإنسان. تسمح تلك التقنيات برؤية المادة، والاستماع إلى كيفية رنينها استجابة لتعرضها لضغوط من المجالات الكهرومغناطيسية، ليشعر الباحث بكيفية استجابتها للدفع الحساس على مقياس النانو.

حين تتمكن من القيام بهذه الأشياء، يمكن أن تصبح التجارب أكثر بكثير من مجرد اختبار فرضيات، أي اختبار ما إذا كان تغيير X يؤثر على Y بدلالة إحصائية. في الواقع، يمكن النظر إلى تاريخ العلم باعتباره تطورًا لطرق جديدة لاستكشاف الطبيعة. لم يكن تلسكوب هابل الفضائي مدفوعًا بفرضية بل رغبة في النظر بعيدًا في عمق الكون. تمكّن الأرصاد والبيانات المأخوذة من هابل والتلسكوبات الحديثة الأخرى من صياغة واختبار فرضيات جديدة حول الكون المبكر. غالبًا ما يعتمد التقدم في العلم على التقدم في كيفية قياس شيء مهم. وبعد قرن من أينشتاين، أكدت أجهزة الكشف فائقة الحساسية توقعه لموجات الجاذبية.

تعتمد هذه الكواشف على أفكار ذكية لاستخدام الليزر وقياس التداخل لقياس تغيرات طفيفة للغاية في المسافة بين نقطتين على الأرض. ما كان لهذا العمل أن يصبح مدفوعًا بالفرضية، إلا بالقول بأن النسبية العامة تتنبأ بموجات الجاذبية. وبالمثل، غالبًا ما يعتمد التقدم في العلوم الكمية على التقدم في قدرتنا على حساب عواقب الفرضيات الموجودة بالفعل.

في تقييم مقترحات البحث اليوم، يعتقد البعض أنه يجب يكون المعيار الرئيسي هو ما إذا كان المقترح البحثي سيساعدنا في الإجابة عن سؤال مهم أو الكشف عن سؤال جديد كان يجب طرحه. فهل تتفق مع نقد الفرضية العلمية اليوم كمعيار في المقترحات البحثية أم أنها ضرورية حقًا؟

المصادر:
[1] Journals Index copernicus
[2] Jstor
[3] Physics Today
[4] Futurelearn: The Roots of the scientific Revolution

فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة

هذه المقالة هي الجزء 8 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

فلسفة الشهادة وعلاقتها بالمعرفة

تركز فلسفة الشهادة على دراسة ما يتم تناقله بين الأشخاص ويمكن أن يكون أساساً معرفياً. تعد الشهادة (Testimony) مصدراً كبيراً لما نعرفه عن العالم من حولنا. والشهادة هنا تعني ما يخبرنا به الآخرون – أي ما يشهد به الآخرون. فنحن نعرف التاريخ من الكتب التي كتبها المؤرخون، ونعرف الأخبار مما نقرأه في الصحف أو نراه على شاشة التلفاز. كما أن العلم وتطوراته كافة تأتينا عن طريق “الشهادة” من أشخاص قاموا بأبحاث ودراسات وأطلعونا على نتائجها [1].

تعريف فلسفة الشهادة

تركز فلسفة الشهادة أو نظرية معرفة الشهادة (Epistemology of Testimony – Philosophy of Testimony) على كيفية تقييم هذه الاعتقادات التي نبنيها على شهادات الآخرين. فتطرح تساؤلات حول إمكانية تبرير هذه الاعتقادات، ومتى يمكن لها أن ترقى لمستوى المعرفة [2].

يمكن تعريف فلسفة الشهادة على أنها التقاء “طبيعة المعرفة” و”اللغة”، وهما من المواضيع المهمة في الفلسفة. فما نكتسبه من شهادة الآخرين – ويمكن أن نعتبره معرفة – يصل إلينا عن طريق اللغة. فالمرء الناقل للشهادة يحتاج وسطاً ينقل به شهادته، ويشترط لتحقيق عملية نقل فعالة أن يكون هذا الوسط ملائماً للمتلقي. إذ إنّ هذا الوسط هو ما يمكن للشخص الآخر اكتساب المعرفة من الشهادة عن طريقه. ويتمثل هذا الوسط بشكل رئيسي باللغة التي نقرأها أو نسمعها [3].

وعند التدقيق في هذين العاملين، نرى أن انتشار المعرفة عن طريق اللغة هو أمر واقع لا غبار عليه. فنحن نسمع أو نقرأ شهادة غيرنا، ونفهمها، من خلال اللغة التي توصلها لنا. ولكن الجدال يكمن في طبيعة هذه المعرفة. وكما ذُكر آنفاً، تطرح فلسفة الشهادة تساؤلات حول إمكانية اعتبار ما يصلنا بطريق الشهادة على أنه معرفة [3]. وهنا تختلف وجهات النظر المجيبة على هذا التساؤل.

الاختزالية (Reductionism)

ترى الاختزالية أنه يشترط لاكتساب المعرفة عن طريق الشهادة أن يكون لدينا أسباب موجبة للإيمان بأن الشخص الناقل للشهادة هو محلّ ثقة [2]. وفي هذا الصدد، يعد الفيلسوف ديفيد هيوم (David Hume) من أوائل المنادين بأهمية الدليل في تبرير تصديق الشهادة. وهذا الدليل، إما أن يكون دليلاً على مصداقية الشخص المعني، أو دليلاً عاماً على مصداقية البشر بالمجمل [4].

ويرى هيوم أن ثقتنا تتناسب طرداً مع معقولية محتوى الشهادة. أي أنها تتناقص بالقدر الذي تكون فيه الشهادة غير اعتيادية أو غريبة. والعكس صحيح، فعادة ما نميل إلى تصديق ما يقوله الآخرون إذا كان أقرب للواقع، أو إذا كان لحدوثه احتمالية عالية [4].

لنفرض أنك ذهبت إلى مقهى وطلبت فنجاناً من القهوة. ولكن النادل اعتذر عن تلبية طلبك لأن آلة صنع القهوة معطلة. يسهل هنا تصديق شهادة النادل نتيجة ارتفاع احتمال حدوثها. ولكن تخيل أن يقول لك النادل أن فضائيين أتوا ليلاً وسرقوا مخزون القهوة من المقهى، ولهذا لا يمكنه تلبية طلبك. مع هذه الشهادة، يصعب إعطاء المصداقية لناقلها. فمن غير المحتمل، بل ربما من المستحيل، أن يحدث هذا في الواقع [4].

ويتوسع هيوم في شكوكه حول الشهادة، ويطال بذلك المعجزات (miracles). ففي كتابه مبحث في الفاهمة البشرية، يعبر عن رأيه بوجوب عدم تصديق حدوث المعجزات بناءً على شهادة الغير. حيث يعرّف المعجزة على أنها “نقض لقوانين الطبيعة.” وعليه، لا يرى أنه من الممكن أن تصل أية شهادة إلى درجة من المصداقية يمكن معها تصديق حدوث شيءٍ منافٍ لقوانين الطبيعة. والاستثناء الوحيد الذي يطرحه هيوم، والذي يمكن معه تصديق حدوث المعجزة، هو أن يكون عدم حدوثها أمرٌ أكثر إعجازاً وأكثر غرابة من حدوثها [4].

يدعم هيوم موقفه من الشهادة بأن الناس عادة ما يميلون إلى إعطاء شهادات غير دقيقة. ربما يكون هذا بدافع الكذب أو المزاح أو المبالغة. وربما يكون من دون دافع، أي أنهم لا يعلمون أن شهادتهم خاطئة، بل لديهم اعتقاد بأن ما يقولونه هو الصواب [4].

اللا اختزالية (Non-Reductionism)

من جهة أخرى، يرى منتقدو الاختزالية أن الأدلة الموجِبة غير ضرورية. بل للمرء حق مفترض بتصديق شهادة الآخرين، طالما أنه لا يوجد سبب قاهر يقتضي عدم تصديق ناقل الشهادة. فتصديق الشهادة في هذه الحالة هو الأمر الطبيعي [1].

ويعد الفيلسوف توماس ريد (Thomas Reid) من مناصري هذا الفكر الذي يعبر عن جاهزية أكبر ورغبة أقوى في تصديق الغير. حيث يدافع ريد عن رأيه عن طريق الأطفال الذين يميلون إلى تصديق كل ما يسمعونه، مع أنهم لا يملكون أية قاعدة استقرائية من تجارب سابقة. ويقول إنه إذا كانت الرغبة في تصديق الآخرين مبنية على التفكير والتجارب، فبالأحرى لها أن تتعزز مع تزايد التجارب والقدرة على التفكير المنطقي. لكن ما يحدث هو أن هذه الرغبة أو الجاهزية تكون في أقوى درجاتها عندما تأخذ شكل الفطرة أو الهبة الطبيعية. تكون الفطرة وفقًا لما هو متعارف عليه لدى الأطفال، مما يدفعهم تلقائياً إلى تصديق كل ما يقال لهم. لكنها تتضاءل مع تقدمهم في العمر ومرورهم بالتجارب وتشكيلهم للمنطق [2].

على عكس فكرة هيوم الذي يرى أنه من الممكن للبشر أن ينطقوا بشهادات مغلوطة لأسباب متعددة، يرى ريد أنه من الممكن لنا أن نعتمد على شهادة المتحدث للأسباب التالية. أولاً، إن البشر يتمتعون بميل لقول الحقيقة. ثم إن لديهم نزعة لتصديق ما يسمعون. وأخيراً يستطيعون أن يشعروا عندما يكون المتحدث غير أهل للثقة [1].

ومن غير المستغرب هذا الموقف من ريد. فهو رجل دين، يرى الأمور من منظور مؤمن بالطبيعة البشرية كإيمانه بخالقها. أما هيوم، فقد حملت كتاباته أفكاراً مناهضة للدين وللعقائد الدينية. وهذا ما جعله محل انتقاد للبعض، ومن بينهم ريد نفسه [5] [6].

علاقة فلسفة الشهادة بالاستقلال/التضامن الفكري

وأخيراً، يمكن تبنّي إحدى وجهتي النظر في التعامل مع الشهادة. فالبعض يرى أهمية كبيرة لكسر التفكير التقليدي والابتعاد عن التلقي. ومن الأمثلة على هذا ما كتبه الفيلسوف إيمانويل كانت (Immanuel Kant) عند حديثه عن التنوير (Enlightenment). ويرى (كانت) أن التنوير هو انبثاق المرء من حالة عدم النضج المنغمس فيها. ويعرّف “عدم النضج” بأنه عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون الاستدلال بالآخرين. ويقصد هنا مدى اعتماد الشخص في تكوين الآراء والمعتقدات على شهادة الآخرين وعدم الخروج من عباءتهم. فيرى (كانت) أهمية كبيرة – بل فضيلة – في قدرة الشخص على الاستغناء عن شهادات الآخرين كقاعدة للأفكار. وهذا ما يدعوه الفلاسفة المعاصرون بالاستقلال الفكري [4].

ومن جهة أخرى، قد يفضل البعض وجهة النظر التي تحافظ على العادات السائدة ولا تنسلخ عنها. وفي هذا تضامن فكري يرى فيه ريد فضيلة تفوق الفردية والاستقلال. فهذا النمط من التفكير يحافظ على معتقدات المجتمع ككل، ولا يؤدي إلى ابتعاد جذري عنه [4].

اقرأ أيضاً نظرية المعرفةالشكوكية الفلسفيةفلسفة التنوير

المصادر

  1. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemological Problems of Testimony
  2. Internet Encyclopedia of Philosophy – Epistemology of Testimony
  3. Elizabeth Fricker and David E. Cooper – The Epistemology of Testimony
  4. Coursera: Hazlett, Allan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – David Hume
  6. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Thomas Reid

إسهامات هارييت مارتينو في علم الاجتماع: سيرة ذاتية

هارييت مارتينو، كانت أول امرأة عالمة اجتماع ويشار إليها أيضا باسم “أم علم الاجتماع” من قِبل العديد من علماء الاجتماع المعاصرين الذين يعيدون أعمالها إلى الصدارة. وبالتالي، على الرغم من أنها كانت كاتبة سياسية واجتماعية واقتصادية قوية وصحفية بارزة في العصر الفيكتوري. ترجمت أوغست كونت، وهو أيضا الأب المؤسس لعلم الاجتماع, “Cours de philosophie positive” إلى اللغة الإنجليزية. ويعتقد أيضا أن كونت بدأ في قراءة ترجمات مارتينو بدلا من عمله الأصلي وذهب إلى حد ترجمة عمل مارتينو إلى الفرنسية مرة أخرى. سنتناول في هذه المقالة إسهامات هارييت مارتينو في علم الاجتماع.

حياة مارتينو الأولى

لعل المصدر الأبرز الذي يجب معرفته عن حياة مارتينو هو “سيرتها الذاتية” التي كتبت في عام 1855، هارييت مارتينو- Harriet Martineau، كاتبة إنجليزية، إحدى المتمسكات بالفلسفة الوضعية، كما كانت واحدة من أكثر الكتاب إثارة للإعجاب في عصرها.

ولدت هارييت مارتينو في نورويتش لعائلة من الطبقة المتوسطة في 12 يونيو 1802. تعتبر حياتها قصة ملهمة للتغلب على الشدائد. كانت مارتينو متعلمة ذاتيا في المنزل، لديها طفولة مشوهة محملة بمشاعر الشك الذاتي والخوف. فكانت تتحدى الصمم، وتبعياته من فقدان حواسها من إدراك رائحة وطعم، واضطراب عصبي واسع النطاق، وأخيرًا، أمراض القلب. توفي والدها عندما كانت في بداية عمرها. ترك الأسرة المعوزة بدون عائل، عملت مارتينو مقابل أجر ضئيل عن طريق الكتابة والحياكة بالإبرة.

نشأت مارتينو على أنها موحدية متدينة، كانت أعمالها الأولية دينية بحماس. ومع ذلك، سرعان ما تحولت إلى ملحدة ومعظم أعمالها الأدبية تدل على ذلك. خلال هذه الفترة، أمضت وقتها في لندن بصحبة شخصيات شعبية مثل تشارلز ديكنز وتشارلز داروين.

أولى خطوات مارتينو الأدبية على الإطلاق

 كان ذلك مع نشر سلسلة من القصص القصيرة في 1832-1834 التي تفسر الاقتصاد السياسي للشخص العادي، فبحلول الوقت الذي كانت فيه في الخامسة عشرة من عمرها، كانت مارتينو، بكلماتها الخاصة أصبحت اقتصادية سياسية دون أن تعرف ذلك فكانت  قد قرأت بالفعل للإقتصادي البريطاني الشهير توماس مالتوس – Thomas Robert Malthus وبدأت تفكر بجدية في الأوضاع الاجتماعية والسياسية. اكتسبت جمهور واسع من القراءة. بدأت عملها في المجلات والنشرات، وكذلك كتبها، في تحقيق عائد كافي للغاية، على الرغم من عدم كونها غنية آنذاك، إلا أنها سرعان ما أصبحت واحدة من الأسود الأدبية في لندن. كانت إنجلترا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر عبارة عن عالمًا تودد فيه السياسيون إلى الكتاب المشهورين للحصول على الدعم السياسي. وأصبحت هارييت مارتينو واحدة من أكثر الكتاب التى يتودد إليها السياسيين. فقد تبعها الإعجاب والجدل في كل مكان.

في محاولة لتحسين صحتها، قضت مارتينو الفترة من 1834‘لى 1836 في الولايات المتحدة. وفي السادسة عشرة من عمرها، أجبرت على مواجهة الصمم المتزايد والتعامل معه، والذي وصفته بأنه “أصبح ملحوظ جدا وغير مريح للغاية ومؤلم للغاية.” لقد علمت نفسها كيفية إدارة عائقها حتى تتمكن من أخذ ما تحتاجه بطرق غير مزعجة خلال هذا الوقت تبنت قضية إلغاء العبودية، وهي الأولى من بين العديد من الأسباب السياسية الراديكالية نسبيًا التي دافعت عنها.

استثمرت مارتينو وقتها بشكل كبير في الصحافة، ومع ذلك كانت تنتج مجلدًا جديدًا كل عام تقريبا، متحدثة عن مجموعة متنوعة من أشكال “الراديكالية الفلسفية“.”على الرغم من أنها بدأت كشخص متدين بعمق، إلا أنها أصبحت في النهاية متحدثة باسم وجهات النظر المعادية لللاهوتية للفيلسوف أوغست كونت، حيث قامت بتعميمه في عمل مكون من مجلدين. ويعتقد أيضا أن كونت بدأ في قراءة ترجمات مارتينو بدلا من عمله الأصلي وصل الأمر إلى حد ترجمة عمل مارتينو إلى الفرنسية مرة أخرى.

إسهامات مارتينو في علم الاجتماع

كانت مساهمة مارتينو الرئيسية في مجال علم الاجتماع تأكيدها على أنه عند دراسة المجتمع، يجب على المرء التركيز على جميع جوانبه. وشددت على أهمية دراسة المؤسسات السياسية والدينية والاجتماعية. ومن خلال دراسة المجتمع بهذه الطريقة، شعرت أنه يمكن للمرء أن يستنتج سبب وجود عدم المساواة. ولا سيما تلك التي تواجهها الفتيات والنساء. في كتاباتها، جلبت منظورًا نسويًا مبكرًا للتأثير على قضايا مثل العلاقات العرقية والحياة الدينية والزواج والأطفال والمنزل رغم أنها هي نفسها لم تتزوج أو تنجب أطفالاً.

تتمحور اساهماتها في مجال علم الاجتماع حول ثلاثة أعمال رئيسية، أطروحة منهجية، وأمريكا ما قبل الحرب الأهلية، وترجمتها لأعمال كونت. إذ أنتجت ملاحظاتها ومحادثاتها تحليلا ثاقبا للغاية لمعضلات مجتمع الرقيق الأمريكي.

أجرت مارتينو دراسات رائدة وموضوعية ونظرية ومنهجية في ما يسمى الآن علم الاجتماع. تراوحت مواضيع كتاباتها بين السير الذاتية والتعليم والإعاقة والصحة والتاريخ والتشريع وتربية الأطفال والتصنيع والفتن والصحة المهنية إلى الدين والاقتصاد السياسي والفلسفة وتقنيات البحث والسفر وعلم الاجتماع والعبودية وحقوق المرأة. كانت نسوية بشكل كبير, تفانت وكافحت من أجل إلغاء عقوبة الإعدام, كما كانت ناقدة. عملها “المجتمع في أمريكا” عام 1837 هو الأكثر تقديرًا بين علماء الاجتماع في الولايات المتحدة. حيث وثقت على مدى التاريخ موضوعات الديمقراطية والمساواة والحرية التي ادعى الأمريكيون أنها تعتز بها والأطر المؤسسية الموجودة. في عملها، سلطت الضوء على دورها كنسوية مع تركيزها على حياة النساء العبيد في أمريكا. يستخدم علماء الاجتماع المعاصرون عملها لكشف تعقيدات القرن التاسع عشر في إنجلترا الفيكتورية.

منهجية مارتينو في علم الاجتماع

قدمت مارتينو أول أطروحة منهجية في علم الاجتماع في كيفية مراقبة الأساليب والآداب عام 1838. وتعتبر أول محاولة نحو الملاحظة الموضوعية كمنهجية في علم الاجتماع. وفي مواجهة مشكلة دراسة المجتمع ككل، هاجمت بشكل خلاق مشاكل التحيز والتعميم والعينات والتفاعل والمقابلات والتأكيد وتقنيات تسجيل البيانات. ركزت دراستها على المؤسسات الاجتماعية الكبرى مثل الدين والأسرة والفنون والثقافة الشعبية والاقتصاد والحكومة والسجون. قبل الكثير من المفكرين الاجتماعيين مثل كارل ماركس وماكس ويبر وإميل دوركهايم. كانت هي التي درست أشكال الدين والطبقة الاجتماعية والعلاقات المنزلية وأشكال الانتحار ووضع المرأة وعلم الجريمة والانحراف والتفسير بين الأفراد والمؤسسات الاجتماعية القمعية. كانت خيالاتها الاجتماعية غير محدودة فقد وصلت من النظرية إلى الملاحظة، من الكلي إلى الجزئي. كما أنها معترف بها لمساهماتها في التفاعلات الرمزية وكانت واحدة من أوائل علماء الاجتماع الذين طوروا طريقة ومنهجية لدراسة الحياة الاجتماعية.

كان منظورها النظري الاجتماعي يركز في كثير من الأحيان على الموقف الأخلاقي للسكان. وكيف يتوافق أو لا يتوافق مع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمعها. قامت مارتينو بقياس التقدم في المجتمع بثلاثة معايير: وضع أولئك الذين يمتلكون أقل سلطة في المجتمع، وجهات النظر الشعبية للسلطة والاستقلال الذاتي، والوصول إلى الموارد التي تسمح بتحقيق الاستقلال الذاتي والعمل الأخلاقي.

هجمات مارتينو على العبودية

كانت نجاحاتها الأولى هي رسومها التوضيحية للاقتصاد السياسي. تألفت هذه القصص من أربعة وعشرين قصة توضح لجمهور شعبي أفكار توماس مالتوس وجيمس ميل وديفيد ريكاردو وآدم سميث. ظهرت على أقساط شهرية وباعت نسخا أكثر في ذلك الوقت من روايات تشارلز ديكنز. لقد حصلت على ما يكفي لتكون قادرة على الانتقال إلى لندن. وتشمل الرسوم التوضيحية هجماتها الأولى على العبودية، جنبًا إلى جنب مع مقالات مناهضة للعبودية نشرت شهريًا.

لقد بنت مارتينو حججها على أساسين، فجور العبودية، وعدم كفاءتها الاقتصادية. تكشف القصة الرابعة في الرسوم التوضيحية عن المعاناة الإنسانية الشديدة التي تنتج عن أنظمة الرقيق غير العقلانية التي تهدر رأس المال والعمل. في عام 1839، أصبحت مارتينو مريضة بشكل مزمن، وبحلول عام 1855، أصبحت حبيسة المنزل. انتهت العبودية البريطانية والتلمذة الصناعية، لكن مارتينو لم تسمح للإبطال بإعاقة كفاحها لإنهاء العبودية في الولايات المتحدة. في عام 1857، كتبت أنه على الرغم من العديد من المشاكل الجسدية، أكسب الكثير من المال من أجل إلغاء عقوبة الإعدام الأمريكية جلبت لها آخر قطعة من التطريز 100 دولار أنفقتها على تلك القضية في أمريكا.\

أبرز كتابات مارتينو

فازت بالعديد من الجوائز لكتاباتها وعلى الرغم من أنها مثيرة للجدل, كانت مثالاً نادرًا للكاتبة العاملة الناجحة والشعبية في العصر الفيكتوري. نشرت أكثر من 50 كتابا وأكثر من 2000 مقالة في حياتها. ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية ومراجعة النص الاجتماعي التأسيسي لأوغست كونت Cours de Philosophie Positive ، استقبلها القراء وكونت نفسه بشكل جيد لدرجة أنه ترجم نسخة مارتينو الإنجليزية إلى الفرنسية.

تشمل كتابات مارتينو المهمة، بالإضافة إلى تلك الموصوفة بالفعل، استعراضها السابق للسفر الغربي. وكتاب آخر عن الولايات المتحدة عام 1838، ورواية ديربروك عام 1839، وسردت تاريخ وممارسة اليهودية والمسيحية والإسلام، والحياة الشرقية الحاضر والماضي عام 1848. كتابتها تلك التي كانت محددة، سهل الوصول إليها، ذكية، واعية اجتماعيًا، تفسر السياسة والمجتمع من وقتها لعدد كبير وفئة واسعة من القراء. في عام 1831 تنازلت عن الليبرالية لصالح التفكير الحر. في عام 1853 نشرت ترجمة مختصرة لأوغست كونت في Cours de Philosophie Positive . احتضنت بحماس العلم الإيجابي كأساس لأخلاق جديدة. تجسد حياتها النسوية التي تغرس في كل أعمالها بغض النظر عن موضوعها. كانت هارييت مارتينو غير عادية كامرأة فيكتورية وكاتبة مؤثرة في إلغاء عقوبة الإعدام.

في عام 1846، استعادت إلى حد ما صحتها، فشرعت مارتينو في جولة في مصر وفلسطين وسوريا. ركزت نظرتها التحليلية على الأفكار والعادات الدينية ولاحظت أن العقيدة الدينية كانت غامضة بشكل متزايد مع تطورها. وقد قادها ذلك إلى الاستنتاج في عملها المكتوب على أساس هذه الرحلة -الحياة الشرقية والحاضر والماضي- أن البشرية كانت تتطور نحو الإلحاد، الذي صاغته على أنه تقدم عقلاني وإيجابي. الطبيعة الإلحادية لكتاباتها اللاحقة، بالإضافة إلى دعوتها للفتن، التي اعتقدت أنها شفيت من ورمها والأمراض الأخرى التي عانت منها تسببت في انقسامات عميقة بينها وبين بعض أصدقائها.

بعد تشخيص مرض قلبها على أنه قاتل، بدأت مارتينو سيرتها الذاتية في عام 1855 (نُشرت بعد وفاتها في عام 1877). لكنها عاشت 21 عاما أخرى، وأنتجت ثمانية مجلدات أخرى على الأقل، وأصبحت إمرأة رائدة في إنجلترا، حتى  توفيت في ويستمورلاند في 27 يونيو 1876. تاريخيا، تًذكر مارتينو ككاتبة صعبة التفكير قاتلت احتمالات كبيرة لتحقيق مهنة أدبية متميزة.

موجز

تم تجاهل أعمال مارتينو إلى حد كبير من قِبل علماء الاجتماع الأبوي، لم تُنسى فقط في علم الاجتماع ولكن أيضا في المجالات الآخرى التي عملت فيها، مثل الصحافة والتاريخ والأدب. أشار أنتوني جيدنز إلى مارتينو كشخص دعا علماء الاجتماع إلى القيام بأكثر من مجرد الملاحظة، ولكن أيضا للعمل لصالح المجتمع. إن النقص الكامل في الاهتمامات الأكاديمية في أعمال مارتينو يتحدث عن مكانة الباحثات في علم الاجتماع. كعلماء اجتماعيين شباب، تقع على عاتقنا مسؤولية إعادة علماء مثل مارتينو إلى الصدارة.

غالبا ما يتم التغاضي عن مساهمات مارتينو الكاسحة في الفكر الاجتماعي ضمن شريعة النظرية الاجتماعية الكلاسيكية. على الرغم من أن أعمالها كانت لامعة على نطاق واسع في عصرها، وسبقت أعمالها أعمال رواد مثل إميل دوركهايم وماكس ويبر.

المصادر

[1]Thoughtco

[2]socialsci

[3]soziologieblog

الأدوات العلمية عند كافنديش وروبرت هوك

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

يرتبط التحقق من الطبيعة ارتباطًا وثيقًا بالأدوات والمختبرات. وقد ناقشنا فيما كيف خضعت التجارب للرقابة. ومع ذلك، ومن أجل التحكم في الطبيعة وظروفها، هناك حاجة إلى بعض الأدوات الأكثر تعقيدًا، وأحيانًا لظروف أكثر تحديدًا ودقة. يمكن إرجاع استخدام الأدوات إلى أوائل العصر الحديث. سنستعرض معًا بعض الأمثلة على استخدام الآلات والأدوات في القرن السابع عشر وما صاحبه من رفض ونقاشات لجدوى استخدام الأدوات العلمية كالمجهر والتليسكوب لاستكشاف الطبية.

الأدوات

بشكل عام، تميزت الأدوات إلى نوعين:
– رياضية، تستخدم للرسومات والحسابات.
– وعلمية، تستخدم لتحليل الظواهر وتعميمها.

الفرق بين الأدوات الرياضية والعلمية

استخدمت الأدوات الرياضية منذ العصور القديمة، وتحسنت كثيرًا في أوائل العصر الحديث. بعض الأمثلة على ذلك هي البرجل والمسطرة. كما تحسنت أيضًا الأدوات الفلكية، مثل الأسطرلاب والساعات الشمسية. من جهة أخرى، إلا أن الأدوات العلمية استخدمت لأغراض مختلفة. فازدهرت صناعة الأدوات العلمية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

استخدمت بعض تلك الأدوات العلمية في تصحيح وتحسين الحواس. المجهر والتلسكوب أمثلة لذلك، فهما إما يكبران ما هو صغير لدرجة صعوبة رؤيته بالعين المجردة، مثل البكتيريا، أو يقربان ما هو بعيد بحيث لم نتمكن من ملاحظته من قبل، مثل النجوم.

تقدم أدوات أخرى معلومات دقيقة عندما تفقد حواسنا القدرة على التمييز الدقيق، كما في حالتي الحرارة والضغط. المعلومات التي يقدمها المعيار الحراري والبارومتر وزجاج الطقس، هي أكثر دقة بكثير من أحاسيسنا الجسدية.

أدوات أخرى

هناك أدوات أخرى تعمل كنماذج أو نظائر للظواهر الطبيعية، وتُستخدم عندما لا يتمكن المُختبِر من الوصول إلى ظروف دقيقة، أو لدراسة حدث لا يتكرر. كما رأينا بالفعل في مثال بيكون لاستخدام المثانة المعلقة في الثلج لإعادة إنتاج الظروف التي يمكن أن نجدها بشكل طبيعي في الكهف.

مع ذلك، لا تنتج هذه الظواهر بشكل مصطنع فحسب. بل يمكن للمساعي العلمية أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. يمكن أن تخلق ظروفًا لا تحدث في الطبيعة! ولكن لتلك الظروف القدرة على إمدادنا بمعلومات مهمة عن الطبيعة ونشاطها.

مضخة الهواء مثال جيد على ذلك. فهي قادرة على أن تفرغ مساحة ما من الهواء. يمكن للمضخة مساعدتنا في دراسة كيفية حدوث الظواهر المختلفة في هذه الظروف. ينطبق الشيء نفسه عند عزل ظاهرة ما لاكتشاف انتظامها من خلال تهيئة الظروف المثالية لحدوثها. فكر مثلاً في مهد نيوتن، المصمم خصيصًا لإثبات الحفاظ على الزخم والطاقة.

في الوقت الحاضر، يحتفظ العلماء بأدواتهم في مختبرات مصممة خصيصًا لنشاط وحيد. مختلفون عن بعضهم البعض حسب مجال البحث. أما في أوائل العصور الحديثة، كانت العديد من الأماكن تقوم بدور مختبرات اليوم. حينها، استخدمت كل تلك الأماكن الأدوات السابقة مثل: الحدائق، والمختبرات الفلكية، والمعاهد الطبية، وكذلك الخزانات الشخصية والكليات الجامعية.

سمات استخدام الأدوات الحديثة

هناك سمتان مهمتان لاستخدام الأدوات الحديثة مبكرًا نود التأكيد عليها. أولاً، كما رأينا في مثال المثانة، تم استخدام مواد شائعة كأدوات علمية، وليس فقط تلك المصممة خصيصًا لنشاط واحد محدد.

أولًا، استخدمت الأشياء والمصنوعات اليدوية الشائعة أثناء التحقق والاختبار واكتسبت مكانة أداة علمية من منظور منهجي. المرايا والعدسات المستخدمة في الحياة اليومية تمكنت حينها من إحداث تأثيرات مدهشة، فأصبحت أدوات للبحث البصري في القرن السادس عشر. أدت العدسات والمرايا إلى اكتشاف قانون الانكسار مثلًا.

ثانيًا، يحتاج المجرب إلى التدريب قبل استخدام الأدوات، أي يحتاج إلى معرفة كيفية قراءة المعلومات التي توفرها الأداة. إذ لا يمكن استخدام الأدوات حتى البسيطة -مثل التلسكوب أو المجهر- بدون تعليمات مسبقة. لن يفهم المرء ببساطة ما يرى من خلال عدساتهم.

على سبيل المثال، لم تقبل اكتشافات جاليليو التلسكوبية بسهولة، إذ لم ير كل معاصريه ما رآه في تليسكوبه. يحدث تداخل في الرؤية بين الشيء قيد الدراسة وتشوه الصورة الذي تصنعه حواسنا. تعالوا نحلل بشيء من التفصيل الحجج المؤيدة والمضادة لاستخدام المجاهر.

مؤيدو الأدوات ومعارضوها

كانت الأدوات دافعًا للجدل في القرن السابع عشر، إذ تناولت إحدى المناقشات الرئيسية استخدام التلسكوب. أدت اكتشافات جاليليو للبقع الشمسية إلى نظرية تتعارض مع فلسفة أرسطو. أثار الأمر انتقادات أعضاء الكنيسة الكاثوليكية، إذ لم يوافقوا على النتائج النظرية لاكتشافات جاليليو السماوية القائلة بأن العالم فوق القمري (سماء النجوم الثابتة في الفكر الأرسطي)، الذي ظل لفترة طويلة حقيقة راسخة، هو أمر خاطئ وقابل للتغيير تمامًا كالعالم دون القمري (ما بين الأرض والقمر).

لم تزعزع الآلات المعتقدات اللاهوتية فحسب. القناعات الميتافيزيقية أيضًا أصبحت في مهب الريح. إذ أصبح ما يتعلق بالبنية الداخلية للأجسام ووصول الإنسان إلى هذه البنية عقبة أيضًا في إنشاء منهجية بحث. انتقدت كافنديش الفيلسوف هوك -وهو أحد أهم مروجي المجهر- الذي جاء كتابه “Micrographia” أول أكثر الكتب مبيعًا في الجمعية الملكية وكانت منهجيته مهمة جدًا للمجتمع العلمي آنذاك. فعلى عكس هوك، اعتبرت كافنديش أن الأجسام المكبرة لن تجلب معرفة جديدة ومفيدة. استندت هذه الحجة إلى افتراضها أن المجهر لا يمكنه رؤية أسباب الحركة والبنية الحقيقية للمادة. واعتقدت كافنديش أن البنية الحقيقية للمواد لا يمكن تصورها إلا عن طريق العقل.

الفحص المجهري لروبرت هوك

في كتاب “الفحص المجهري – Micrographia” لروبرت هوك والمكتوب عام 1665م، ناقش روبرت هوك في هذا الكتاب فائدة المجهر. قدم هوك أيضًا سلسلة من الرسومات لما يمكن رؤيته من خلال المجهر، وأشهر رسوماته هو عين ذبابة والخلية النباتية. اعتبر روبرت هوك المجهر إضافة إلى الحواس البشرية الناقصة والضعيفة، تمامًا كالنظارات الطبية التي تعالج مشاكل إبصارنا.

عارضت مارجريت كافنديش في كتابها “ملاحظات على الفلسفة التجريبية – Observations upon experimental philosophy” المنشور عام 1668 طرح هوك. ارتكز رفض كافنديش على التشوه الذي قد تحدثه العدسات وانكساراتها وظلال الكائنات الدقيقة تحت المجهر وما قد يسببه ذلك من مشكلات. تخيلت كافنديش أن التكبير الذي تصنعه العدسة المكبرة للقمل قد يجعلنا نظنه كسرطان البحر مثلًا بسبب اختلاف الأحجام وتشوه الرؤية بسبب استدارة الأشياء على غير طبيعتها.

اعتبرت كافنديش أن اعتراضها على ما يحدث في المجهر يمكن تعميمه على باقي الحواس أيضًا وبالتي رفضت استخدام مثل هذه الأدوات. وعلى عكس ما تعتقد من مواقفها، فلم تكن كافنديش جامدة محافظة في آرائها، فقد رفضت كلاً من الفلسفة الأرسطية والفلسفة الميكانيكية الجديدة لديكارت وهوبز وأعضاء المجتمع الملكي، ودافعت عن المادية الحيوية – النظرية التي بموجبها تتكون كل الأشياء في الطبيعة من مادة حيوية وذاتية الحركة مثلًا.

روبرت هوك في مواجهة مارجريت كافنديش

تمثل أحد أهداف المشروع العلمي لروبرت هوك في بناء تلك الأدوات المساعدة للحواس على إدراك العالم الطبيعي بشكل أفضل. كان المجهر والتلسكوب -بالنسبة لهوك- الأكثر أهمية. نظر روبرت إلى المجهر والتلسكوب كركيزة أساسية في التفاعل بين الإنسان والعالم المحيط.

اعتقد هوك أنه باستخدام المجهر يمكن للبشر الوصول إلى عالم جديد؛ عالم المخلوقات الصغيرة غير المرئية للعين، وعالم جسيمات المادة. كان روبرت هوك -كأعضاء آخرين في الجمعية الملكية- من داعمي نظرية المادة الجسيمية الديكارتية. وهكذا، اعتبر أنه بمرور الوقت ومع تحسن المجهر، سيتطور الأمر إلى حد كبير، بحيث سنتمكن من رؤية جسيمات المادة وتركيبها وحركاتها من خلال عدسات المجهر. كما اعتبر هوك أن المجهر -من خلال جعل الجسيمات وحركاتها مرئية- سيقدم أدلة حاسمة ضد النظرية الأرسطية للمادة والشكل.

مفهوم كافنديش عن الطبيعة

كان لدى مارجريت كافنديش مفهوم مختلف عن الطبيعة عن مفهوم روبرت هوك. فبالنسبة لها، لا يمكن تصور حركات المادة إلا عن طريق العقل والحواس البشرية. اعتقدت كافنديش أن البشر لن يتمكنوا من رؤية حركة المادة حتى بمساعدة الأدوات. كما اعتقدت أن البصر قد يصل فقط إلى الأشكال الخارجية للأشياء. ومع ذلك، رفضت كافنديش حتى أن الأشكال الخارجية التي تُرى من خلال المجهر هي بالفعل أشكال حقيقية للأشياء واعتبرتها مجرد تشوهات ناتجة عن العدسات والأضواء والظلال تتداخل مع الجسم والعدسات.

الحجة الثانية التي قدمتها كافنديش تتعلق بالعلاقة بين الطبيعي والاصطناعي. المشكلة التي أثارتها هي إلى أي مدى يكون شكل الجسم المكبر -والذي يختلف تمامًا عما تراه العين المجردة- هو شكله الحقيقي. بسبب العدسات، قد لا يكون ما نراه هو الشيء الطبيعي، ولكن صورة مختلفة لذلك الكائن.

أكدت كافنديش أنه إذا كانت المعرفة العلمية مبنية على تلك الصورة، فقد يؤدي الأمر إلى نظريات ومعلومات خاطئة. هكذا، تفاعلت المعتقدات الميتافيزيقية واللاهوتية مع الفلسفة التجريبية لتشكيل ثورة العلم الحديث. ولكن لم يتوقف أثر روبرت هوك واكتشافاته المذهلة عنده، بل امتد إلى نيوتن ولكن في ذلك مقال آخر. فمساهمات روبرت هوك في الرياضيات والأحياء والفلك هائلة والفضل في ذلك للأدوات العلمية. فقد اكتشف الخلية الحلية باستخدام الميكروسكوب والنجم الخامس في كوكبة الجبار باستخدام التليسكوب، وغيرها من الاكتشافات والمساهمات، مما قوى حجته وحفر اسمه في التاريخ.

المصادر:
Margaret Cavendish and Scientific Discourse in Seventeenth-Margaret Cavendish and Scientific Discourse in Seventeenth-Century England Century England

Margaret Cavendish’s Critique of Experimental Science

Oxford Academic: Robert Hooke: Physics, Architecture, Astronomy, Paleontology, Biology

Robert Hooke: English scientist who discovered the cell

صراع ويليام هارفي وديكارت، صدام بين التجريبية والعقلانية

هذه المقالة هي الجزء 6 من 9 في سلسلة محطات مهمة عن الثورة العلمية

صراع ويليام هارفي وديكارت على أنقاض جالينوس

هيمنت تعاليم الفيزيائي اليوناني القديم “جالينوس” على الفكر الطبي الغربي لما يقرب من 1400 عام. لذا فليس من المستغرب أن التفسيرات الفيزيولوجية المنطقية الجديدة للظواهر قوبلت بمقاومة. رفض ديكارت وهارفي وجهة نظر جالينوس القائلة بأن الدم يتحرك ببساطة للأمام والخلف من خلال نفس الوعاء. [1]

قال هارفي أن القلب عبارة عن مضخة عضلية تضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم ثم تعود إلى القلب، وهو ما شكك فيه ديكارت. كما عارض تفسير هارفي لطبيعة الانقباض والانبساط، كل هذا دون مساعدة من أي أدوات دقيقة.

يعكس مفهوم علم وظائف الأعضاء عند ديكارت تفانيه في بناء نظام فلسفي موحد، يضم الفيزياء والرياضيات وعلم النفس وعلم الكونيات ونظرية المعرفة وجوانب معينة من الدين. لقد نظر ديكارت إلى الجسم بطريقة ميكانيكية، واعتبره مجموعة من الآلات. وأنه يمكن تحويل وظائف الجسم المختلفة إلى نماذج ميكانيكية مماثلة للساعة والآلات التي تعتمد على الروافع والبكرات.

رفض ديكارت نظرية المضخة الآلية القلبية لويليام هارفي!

على الرغم من هذه الميول الآلية الدافعة لقبول ديكارت لأفكار هارفي، رفض ديكارت فكرة أن القلب هو مجرد مضخة تدفع الدم إلى الجسد. يعكس هذا جزئيًا اعتقاد ديكارت بأن الإرادة تتحكم في جميع العضلات. لم يعلم ديكارت بإمكانية وجود عضلات لاإرادية من الأساس.

على الرغم من اعتراف ديكارت بأن بعض الحركات العضلية، مثل رد فعل اليد التلقائي للوخز، يمكن أن ينتج عنه فعل انعكاسي، إلا أنه رفض فكرة الانقباض العضلي اللاإرادي.

اعتقد ديكارت أن القلب لا يمكن أن يكون مضخة، بل هو فرن. يسخّن الفرن القلبي جزيئات صغيرة في الدم، مما تسبب تمددها على الفور. هذا التمدد الديناميكي والمفاجئ للدم داخل القلب تسبب في تضخم العضو مما أجبر الصمامات الأذينية البطينية أن تنغلق، وتفتح الصمامات شبه القمرية.

عندما ينطلق الدم الحار في الشريان، يتمدد الشريان، وهو ما كان مرئيًا للعين المجردة ويمكن الشعور به حينذاك. تخيل ديكارت أنه عندما يبرد الدم، فهو يأخذ مساحة أقل، وتنهار الشرايين والأوردة – كما يفعل القلب نفسه. لكنه اتفق مع هارفي على أن الدم يعود إلى القلب من خلال نظام من الأوردة، لكن الدم الحار هو الذي يحرك الدورة الدموية وليس القلب نفسه.

عندما يعود الدم البارد إلى القلب من أجزاء مختلفة من الجسم، يختلط بكمية صغيرة من الدم باقية في القلب. هذا الدم المتبقي وفقًا لديكارت، يمتلك خاصية تشبه الخميرة التي تسبب تمدد الدم العائد إلى البطين، وبالتالي بدء العملية مرة أخرى. لذلك، شبّه ديكارت القلب بالفرن.

لم يفكر ديكارت في القلب على أنه عضلة، ولم يتخيل أن حركته نتيجة لانقباض عضلي لا إرادي كما اعتقد هارفي. لكن تغير حجم القلب وشكله لأن الدم داخله يتمدد بسرعة مع تسخينه وإجباره على الخروج إلى نظام الأوعية الدموية بينما يبرد بسرعة أثناء دورانه في الجسم. [5]

صدام بين العقلانية والتجريبية

الفارق الرئيسي بين ديكارت وهارفي هو الفارق بين العقلاني والتجريبي. فويليام هارفي كان تجريبيًا يصل إلى استنتجاته بالتجربة. أما ديكارت، فحاول توفيق العالم مع نظرة فلسفية عقلانية. وقد بدا لنا من ذلك الصراع نشأة ملامح منهج وليد بين الأرسطية والديكارتية، هو المنهج التجريبي. لكن لم يظهر المنهج التجريبي على الفور بالطبع، كما لم تمت الأرسطية على الفور.

حتى الديكارتيين أمثال مالبرانش استمروا في استخدام مصطلحات المادة والشكل في تصورهم للعالم المادي. فالفلسفة الطبيعية الأرسطية قدمت مجموعة من المفاهيم التي ساعدتها على البقاء.

مع تطور العلم في القرن السابع عشر، لم يتخلص أتباع ديكارت من مفهوم الشكل بالكلية، بل أعادوا تفسيره ليناسب أفكارهم. بالتالي، يمكننا القول أن أفكار ديكارت والأرسطية كان لهما أثر كبير على علماء ومفكرين القرن السابع عشر. ورغم هدم ديكارت للأرسطية، إلا أنها كانت تعود في الأمور التي يغيب التفسير العلمي التجريبي الدقيق عنها في كثير من الأحيان.

المصادر

[1] Hurst JW: Robert C. Schlant. (Profiles in Cardiology[Eds. Hurst JW andFye WB]). Clin Cardiol1999;602–605

الالتزام السياسي والفلسفة السياسية

هذه المقالة هي الجزء 10 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الالتزام السياسي والفلسفة السياسية

تهتم الفلسفة السياسية (political philosophy) بدراسة المفاهيم السياسية والقضايا المتعلقة بها. ويمكن تحديد المجال السياسي بالممارسات المتعلقة بالحكومة والمواطنين وعلاقة هذين الطرفين ببعضهما. تركز الفلسفة السياسية على كيفية توظيف السلطة العامة في سبيل الحفاظ على الحياة البشرية والارتقاء بها. وفي هذا الصدد، يدخل ضمن نطاق مواضيعها المتنوعة موضوع الالتزام السياسي تجاه القانون، وكيفية تطبيق القانون من قبل السلطة [1].

هل يجب أن نتبع القوانين وفقاً للالتزام السياسي؟

تُلزم الدول أتباعها ومواطنيها بالتصرف وفق القوانين التي تحددها والامتثال لها. وقد يعتبر البعض أن الالتزام السياسي يوازي الالتزام الأخلاقي تجاه الدولة باتباع قوانينها [2]. ولكن هل نحن حقاً ملزمون بطاعة هذه القوانين؟ وإذا كنا كذلك فعلاً، فما هو سبب هذا الالتزام؟ [3]

طَرَح سوفوكليس هذه الفكرة – فيما إذا كان يجب علينا أن نمتثل للقوانين – في مسرحية أنتيغون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد تم اقتراح العديد من الإجابات على هذا السؤال في فترات مختلفة. لكن حتى الآن لا يوجد جواب واحد يحظى باتفاق واسع النطاق. بل إن عدداً من الفلاسفة المعاصرين في الفلسفة السياسية يعتبرون أنه من غير الممكن صياغة نظرية واحدة مُرضية للإجابة على سؤال الالتزام السياسي أو الالتزام بالقانون [2].

مسألة الالتزام السياسي

يتمحور موضوع الالتزام السياسي حول وجود أسباب أخلاقية لطاعة ما تفرضه السلطة على أتباعها ومواطنيها. حيث توجد نظريات تعتبر أن هذا الالتزام هو غير طوعي أو غير اختياري، في حين ترى نظريات أخرى أنه التزام طوعي وغير إجباري [4].

اللا طوعية

وفق هذا المفهوم، لا تعد إرادة الأتباع أو خيارهم من ضمن الأسباب التي تدفعهم إلى الالتزام السياسي بقوانين السلطة التي يعيشون في ظلها. أي أن خيارهم أو إرادتهم لا تدخل ضمن ما يجعلهم مرتبطين بعلاقة طاعة أو امتثال للقوانين المفروضة عليهم. وترى بعض التوجهات فيها أن مجرد طرح فكرة البحث عن تبريرٍ أو سببٍ للالتزام السياسي، يعني أننا لم نفهم حقاً معنى أن يكون الفرد جزءاً من مجتمع سياسي. حيث أن المؤسسات السياسية، وهنا يقصد بها أي مجتمع أو هيئة ينتمي المرء إليها كالعائلة أو الصداقة، هي بحد ذاتها مولدة للالتزام. فهذا الالتزام بالامتثال للقوانين هو التزام وليد مع المؤسسة المعنية [5].

أما بعض الآراء الأخرى في اللا طوعية، فتعتقد أن السلطة تفرض على أتباعها الالتزام بقوانينها بوصفها وسيلة لتساعدهم أو ترشدهم في القيام بما يجب أن يفعلوه. ومن الأفضل لهؤلاء الأفراد أن يتبعوا القوانين الملزمة للجميع، والتي ترتقي فوق أسباب أخرى قد تكون مناسبة لحالة واحدة، إذ تقوم السلطة بوضع القوانين لتساعد على التعاون بين أفراد المجتمع. وهذا ما يفسر اتباع الأفراد للقوانين حتى وإن لم ترضهم [5].

وتبرر فئة ثالثة هذا الالتزام السياسي بأنه من الضروري للسلطة أن تضع القوانين كي تؤدي مهامها. وبالتالي، من حقها أن تفرض ما يجب فعله لتأدية هذه المهام. لكن تواجه هذه الفكرة، كغيرها، أسئلة واستفسارات عما هو “ضروري” وما هي الحقوق المطلوبة للقيام بهذا [4].

الطوعية

تعزو الطوعية الالتزام بالقانون إلى أسباب تتمثل بالقبول والمنفعة والعدالة [4]. فيعتبر جون لوك (John Locke) أن مفهوم القبول هو مفهوم جوهري في الفلسفة السياسية. فيخضع الأفراد لقوانين الدولة لأنهم وافقوا على ذلك طوعاً. تعود تحليلات لوك إلى الحالة الطبيعية التي لا يكون فيها الأفراد أتباعاً لسلطة معينة. في هذه الحالة الطبيعية من الحرية والاستقلالية، يؤكد لوك على أن الموافقة الفردية هي اللبنة الأساسية لنشوء المجتمعات السياسية وانضمام الأفراد إليها. ومع أن بعض الالتزامات والحقوق تعود في أصولها لقوانين الطبيعة، لكن بعض الالتزامات تنشأ بمجرد قبولنا أو موافقتنا عليها طوعاً [5].

يواجه هذا الطرح بعض الانتقادات من مبدأ أن الأفراد لم يقوموا فعلياً بالموافقة على القوانين التي تفرضها حكوماتهم أو سلطات بلادهم. والرد هنا هو أنه من الممكن للقبول أن يكون ضمنياً. أي بمجرد أن يعيش المرء في بلد ما، يكون قد وافق ضمنياً على الالتزام بقوانين هذا البلد طالما أنه لا يزال يعيش فيها [5].

وترى تفسيرات طوعية أخرى أن التزام الأفراد باتباع قوانين بلادهم ناجم عن الفائدة التي يحصلون عليها من البلاد. فالمواطنون مستفيدون من الدولة والسلطة فيها، لذلك فهم ملزمون باتباع قوانينها. وهذا الالتزام هو نوع من الامتنان لتلك القوانين [3]. كما أنه تعبير عن مشاعر احترام الهدف من هذا القانون في إرشادنا. وأخيراً، تنمحنا طاعة القوانين شعوراً بالانتماء للمجتمع الذي يديره هذا القانون [4].

أما بالنسبة للعدالة، فتبرر هذه الطوعية أن أساس طاعتنا للقانون هو الرغبة بالانتفاع من نظام قائم على الالتزام المتبادل. ويشبه هذا مبدأ المنفعة إلى حد ما، وتحدث عنها كل من هارت (H. L. A. Hart) ورولز (John Rawls). إذ يكمن جوهر هذه الفكرة بأن من يقبل الانتفاع من خطة عادلة قائمة على التعاون، يقع على عاتقه القيام بواجبه ضمن هذه الخطة. يبني رولز هذه الفكرة على أساس أن جميع الأفراد متساوون وأحرار، وعلى المجتمع أن يكون عادلاً، وهذا ما يضفي الشرعية على السلطة السياسية وما تفرضه [6].

الالتزام السياسي أم الفوضوية؟

تواجه كل من هذه النظريات والتفسيرات للالتزام السياسي انتقادات وتساؤلات تجاه نقاط الضعف فيها. وكما ذكرنا سابقاً، فإن مسألة ما إذا كان الأفراد ملزمين باتباع القانون، أو الأسباب وراء هذا الالتزام إن وجد، لا تحظى بإجابة واحدة متفق عليها. ولا تخلو أي منها من ثغرات تفتح مجالاً لأنصار الفوضوية (anarchism) للاعتقاد بأنه من المستحيل تبرير الالتزام السياسي. ولذلك، يرفض هؤلاء الفوضويون كافة أشكال التراتبية في السلطة، ويدعون إلى انحلال الدول والحكومات بحجة أنها غير ضرورية، بل ومؤذية [4].

اقرأ أيضاً: هل تحول السلطة البشر إلى وحوش؟

المصادر

  1. Britannica
  2. Political Obligation
  3. Coursera: Fletcher,Guy, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.
  4. Legal Obligation and Authority
  5. Locke’s Political Philosophy
  6. John Rawls

الشكوكية الفلسفية بين القديم والحديث: ما هي مفاهيمها وبماذا تبحث؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

الشكوكية الفلسفية بين القديم والحديث: ما هي مفاهيمها وبماذا تبحث؟

يوجد توجهان في الشكوكية الفلسفية (Philosophical Scepticism)، يرفض أحدهما القدرة على امتلاك المعرفة، في حين يدعم الآخر فكرة تعليق الحكم على الأمور نتيجة لعدم الدقة.

تعريف الشكوكية الفلسفية

الشك هو الرؤية التي تعتبر أن وجود المعرفة (أو الاعتقاد المبرر تجاه شيء ما) هي أمر مستحيل [1]. ويعود أصل كلمة الشك بالإنكليزية (scepticism) إلى الكلمة الإغريقية (skepsis) وتعني البحث أو التحقيق. فقد كان المشككون القدماء يصفون أنفسهم بالباحثين أو المحققين الذين يسعون إلى التحري في أمر ما، وبالنهاية يعلّقون الحكم عليه. إذ يقوم جوهر الشك في الفلسفة القديمة على تكريس هدف الحياة للسعي وراء الأسئلة والبحث، وبما أنه لا يمكن تحصيل المعرفة النهائية، لا يمكن تأكيد أي شيء من وجهة نظر المشككين. فحتى المعتقدات هي موضع تساؤلات وبحث وتعليق بالنسبة لهم [2].

تختلف مفاهيم الشك لدى الإغريق عن تلك السائدة في العصر الحديث. فقديماً، كان المشككون يبحثون في مواضيع المعتقدات وتعليق الحكم على أمر ما ومعايير الحقيقة والمظاهر والتحقيق. أما حديثاً، فتتجلى المفاهيم المهمة بالمعرفة والتأكيد والاعتقاد المبرر. في حين تركز نظرية المعرفة وفلسفة اللغة على المواضيع التي كان يتناولها المشككون القدماء [2].

كيف ظهرت الشكوكية الفلسفية قديماً؟

تنقسم الشكوكية في اليونان القديمة إلى حركتين، وهما الشكوكية الأكاديمية (Academic Skepticism) والشكوكية البيرونية (Pyrrhonian Skepticism) [3].

تأسست الشكوكية الأكاديمية في أكاديمية أفلاطون (الأكاديمية الجديدة) في القرن الثالث قبل الميلاد. ويعد الفيلسوف أركسيلاوس (Arcesilaus) أول من أحال الأكاديمية إلى الفكر الشكوكي، وقد اعتمد في ذلك على قراءات جديدة لكتب أفلاطون [3].

أما الفيلسوف بيرو (Pyrrho) فيعتبر مؤسس الشكوكية البيرونية مع أنها ظهرت بعد وفاته. لم يخلّف بيرو وراءه أي كتابات أو مؤلفات. بل كان تلميذه تيمون (Timon) هو المصدر الذي نقل جزءاً من أفكاره. كما طرح الفيلسوف أنيسيديموس (Aenesidemus) فكرة الشكوكية في القرن الأول قبل الميلاد ونسب هذا المذهب إلى بيرو. وفيما بعد، في القرن الثاني الميلادي، أكد الفيلسوف سيكستوس إمبيريكوس (Sextus Empiricus) أن بيرو هو مؤسس الشكوكية، أو على الأقل كان مصدر إلهام لمبادئها ومفاهيمها [3].

اتفقت المدرستان على اتباع منهج شكوكي في الحياة يقوم على تعليق الحكم، لكن كانت بينهما نقاط خلاف حول هدف هذا المنهج أو نتيجته، بالإضافة إلى طرحهما لجدليات شكوكية مختلفة [4].

كان أنصار الشكوكية الأكاديمية يواجهون مدارس فلسفية أخرى حول إمكانية المعرفة. ومن أبرز هذه المدارس كانت الرواقية التي ادّعت أنه يمكننا معرفة الحقائق الأساسية من خلال الفهم الذي يعتبر قدرة عقلية لاستيعاب الأشياء. أما الشكوكيون الأكاديميون فقد اعتبروا جميع الأشياء غير قابلة للفهم، وأن أفضل ما يمكن أن نحققه هو مجرد احتمالية أو ترجيح [4].

بدورهم، كان البيرونيون أيضاً من الرافضين للرواقية في مسألة القدرة على فهم المعرفة، وتمسكوا بمبدأ عدم القدرة على الفهم الذي تستحيل معه كافة الأشياء إلى مظاهر. وتتمثل العملية الجوهرية في التشكيك بمساءلة كل قضية أو جدل عن طريق طرح جدل مناقض، وبهذا نبقى محايدين تجاه كل ما يتمحور حوله الجدل. عندها يتم تعليق الحكم والوصول إلى حالة من الهدوء أو السكينة [4].

الشكوكية الفلسفية الحديثة

تحدث العديد من الفلاسفة عن الشكوكية وسنستعرض بعضاً من أفكارهم.

الشكوكية عند ديكارت

حسب رينيه ديكارت (René Descartes)،  تتمثل المعرفة التامة بانعدام القدرة على إيجاد أسباب للشك بها أو التساؤل حولها. فانعدام أسباب الشك يحول القناعة إلى تأكد تام. وبهذا يظهر مفهوم الشك على نقيض مفهوم التأكد. أي كلما ازداد الشك، انخفض التأكد، والعكس صحيح. ويمثل شرط استحالة وجود أسباب للشك معياراً عالياً لتبرير المعرفة التامة. ولكن ديكارت يرى أن تحقيق هذا الشرط أمر صعب جداً [5].

تطرح الشكوكية الديكارتية تساؤلات حول إمكانية معرفة العالم الخارجي ونحن نواجه تحدياً متمثلاً بعدم معرفتنا لأوجه رفض الفرضيات الشكوكية. يمكن شرح هذا من خلال مثال ديكارت في تأمله الأول والمتمثل بفرضية وجود شيطان شرير يحول كل معتقداته – معتقدات ديكارت – إلى أمورٍ خاطئة في حين يجعلها تبدو له على أنها صحيحة. وفكرة ديكارت هنا هي كيف يمكننا أن نعرف أن نظرية الشيطان الشرير خاطئة؟ [6]

ومن الأمثلة الحديثة المنبثقة عن هذا التأمل الأول مثال “الدماغ في الوعاء – brain in a vat”. يقوم هذا الادعاء على افتراض أننا لا نعيش حياتنا كما نتخيل. بل تتم تغذية عقلنا بالتجارب عن طريق أجهزة حاسوب. إذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فمعظم ما نعرفه عن العالم ونؤمن به هو عارٍ عن الصحة (أو أنه صحيح بطريقة تختلف عمّا نتوقعه)، وبهذا نحن لا نملك المعرفة. لا يمكن تمييز هذه الحالة المفترضة من عدمها، أي أننا لا نستطيع أن نعرف فيما إذا كنا في حالة دماغ في الوعاء، أو إذا كنا نعيش التجارب فعلاً كما نفترض أننا نعيشها. بالتالي، لا يمكن أبداً معرفة فيما إذا كان هذا الافتراض أو السيناريو خاطئاً نتيجة لعدم قدرتنا على التفريق بين الحالة المفترضة وعدم وجودها [7].

الشكوكية عند هيوم

يتحدث أيضاً ديفيد هيوم (David Hume) عن المعرفة والشك. في كتابه رسالة في الطبيعة البشرية، يسير تحليله لبعض المفاهيم في ثلاث خطوات. أولاً، يناقش هيوم عدم قدرتنا على اقتناء المعرفة التامة لبعض المفاهيم الفلسفية المهمة. ثانياً، يشرح كيف يمكن لاستيعاب المفهوم أن يعطينا فكرة ضيقة جداً عنه. ثالثاً، يبين أن بعض الآراء الخاطئة عن المفاهيم تقبع أصولها في الأوهام، ويوصي برفض هذه الآراء الخاطئة. يطبق هيوم هذه الخطوات عند تناوله للعديد من المواضيع كالفضاء والوقت والأشياء الخارجية والهوية الشخصية وغيرها [8].

أما عن الشك فيتحدث هيوم عن وجود ثلاث تناقضات في النظريات الفلسفية وهذا ما يرفع من مستوى الشكوكية. يتمحور أول هذه التناقضات حول ما ندعوه بالاستقراء، فنحن نبني أحكامنا على تجارب سابقة لا تخلو جميعها من عناصر الشك. وعليه، سنكون مضطرين للخروج بحكم حول هذا الشك، وهذا الحكم بدوره مبني على تجارب سابقة، فسيخرج عنه شك جديد. سنقوم من جديد بإطلاق أحكام عن الشك الثاني الجديد، وهكذا. أما التناقض الثاني فينطوي على صراع بين نظريتين حول الإدراك الخارجي نصل إليهما بعد عملية استقراء طبيعي. أولهما هي ميلنا الطبيعي لتصديق أننا نرى الأشياء مباشرة كما هي في الحقيقة. والأخرى هي رؤية ذات طبيعة فلسفية أكثر، تعتبر أن ما نراه هو مجرد صور عقلية أو نسخ للأمور الخارجية. بالنسبة للتناقض الثالث، فيتضمن صراعاً بين التعليل السببي والاعتقاد باستمرارية وجود المادة. وينتهي هيوم في أفكاره عن الشكوكية بأن هذه التناقضات ستشوب حتى أفضل النظريات عن الظواهر الجسدية والعقلية [8].

الشكوكية الراديكالية

إذا أردنا أن نتحدث عن الشكوكية الراديكالية (Radical Scepticism)، فهي تخلص إلى أننا لا نعرف ما نظن أننا نعرفه. فإذا كنا غير قادرين على استبعاد احتمالات أو سيناريوهات شكوكية – كمثال الدماغ في الوعاء – فنحن في الواقع غير قادرين على معرفة أي شيء [9].

وكحال كل الأفكار والنظريات الفلسفية، يوجد من يواجه الشكوكية ويطرح تساؤلات فيها وينقدها ويرد عليها. فالمواضيع في الفلسفة غير منتهية ولا حدود للنقاش فيها.

اقرأ أيضاً عن الفلسفة الرواقية ونظرية المعرفة

المصادر:

  1. Meta-epistemological Skepticism – Chris Ranalli
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Ancient Skepticism
  3. Internet Encyclopedia of Philosophy – Ancient Greek Skepticism
  4. Ancient and Medieval Philosophy: Essential Selections
  5. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Descartes’ Epistemology
  6. PhilPapers
  7. Internet Encyclopedia of Philosophy – Contemporary Skepticism
  8. Internet Encyclopedia of Philosophy – David Hume
  9. Coursera: Pritchard, Duncan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

هذه المقالة هي الجزء 6 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

تعد الأبستمولوجيا (نظرية المعرفة) قديمة قدم الفلسفة، وكانت موضوعاً للعديد من التحليلات والفرضيات. فقد طرح العديد من الفلاسفة وجهات نظرهم وحاولوا تعريف “المعرفة”.

نظرية المعرفة – الأبستمولوجيا

في الفلسفة، تعرف نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا (Epistemology) على أنها الدراسة الفلسفية لطبيعة المعرفة البشرية وأصلها وحدودها. ويعود أصل كلمة أبستمولوجيا إلى الكلمتين اليونانيتين epistēmē  وتعني المعرفة، و logos وتعني المنطق [1]. يرجع تاريخ دراسة نظرية الفلسفة إلى أيام اليونان القديمة. فعند أفلاطون، كانت نظرية المعرفة تتمثل بمحاولة فهم ما معنى أن نعرف، وكيف تكون المعرفة جيدةً للعارف، ثم عند لوك (Locke) فكانت محاولة فهمٍ للعمليات التي يجريها الفهم البشري. في حين يرى كانت (Kant) أن نظرية المعرفة هي محاولة لفهم الظروف والشروط المحيطة بإمكانية الفهم البشري، وأما راسل (Russell) فيعتبر أنها محاولة فهم كيف يمكن تفسير العلم الحديث باللجوء إلى التجربة الحسية [2].

وتمثل كل هذه المحاولات التطور الذي طرأ على مفهوم المعرفة من وجهة نظر الفلسفة خلال تاريخها الطويل، والذي كانت المعرفة فيه تأخذ شكل نظريات وأطروحات، إضافة إلى أسئلة ومفاهيم وتصنيفات، وغير ذلك. يمكن تلخيص مواقف فلاسفة الأبستمولوجيا أو نظرية المعرفة عبر هذا التاريخ بأن بعضهم وضع أفكاراً عن ماهية المعرفة وماذا يمكن أن تكون، في حين أخذ بعضهم موقفاً رافضاً لإمكانية وجودها [3].

أنواع المعرفة

يتحدث د. دنكان بريتشارد من جامعة إدنبرة في كتابه ما المعرفة؟ عن نوعين من المعرفة وهما المعرفة الافتراضية (propositional knowledge) ومعرفة القدرة (ability knowledge) [4]. تتعلق المعرفة الافتراضية بافتراض معين (proposition)، تُخبرنا عنه جملة محددة تكون عادة جملة توضيحية (declarative) تفترض وجود حالة ما. مثلاً، تخبرنا جملة “تجلس القطة على السجادة” بالافتراض المتمثل بأن القطة موجودة على السجادة. يمكن القول أنّ هذه جملة توضيحية لأنها تصف حالة ما، وهذه الحالة قد تكون صحيحة أو خاطئة. فإذا كانت القطة فعلاً موجودة على السجادة، فالعبارة صحيحة، أما إذا كانت القطة موجودة على الكرسي، أو على الطاولة، فالعبارة خاطئة. كي نفهم المعرفة الافتراضية بطريقة أفضل، سنأخذ مثالاً على جملة ليست توضيحية وبالتالي لا تمثل افتراضاً. عندما نقول لأحد ما “أغلق الباب!” لا نكون قد أعطينا افتراضاً أو طرحاً معيناً لأن هذه الجملة لا تقبل أن تكون صحيحة أو خاطئة. فهي لا تفترض وجود حالة معينة [5].

أما النوع الثاني فهو معرفة القدرة ويسمى أيضاً الدراية العملية (know-how). وهي معرفة الطريقة التي تتم بها ممارسة نشاط معين. من الأمثلة على ذلك معرفة ركوب الدراجة أو معرفة السباحة. ومن المهم للإنسان أن يمتلك هذا النمط من المعرفة [4].

يكمن الفرق بين هذين النوعين بأن المعرفة الافتراضية تقتصر على كائنات متطورة نسبياً من الناحية العقلية، كالبشر، في حين أن معرفة القدرة هي شائعة بين الكائنات. على سبيل المثال، تعرف النملة الاتجاهات التي تسلكها أثناء السير في محيطها، ولكن هذا لا يعني أن النملة تمتلك معرفة افتراضية وحقائق معينة [4].

من الجدير بالذكر أنه ليس بالضرورة أن تكون المعرفة الافتراضية معصومة (infallible). فالمعرفة الافتراضية تعني وجود افتراضٍ معينٍ يصف حالة ما، ولكن هذا لا يعني أنها تشمل ما إذا كان الافتراض صحيحاً أم لا [5].

المكونات الأساسية للمعرفة

وفق تحليل المعرفة التقليدي، توجد ثلاث مكونات أو شروط رئيسية تعبّر عن المعرفة، وهي شرط الحقيقة (truth) وشرط الاعتقاد (belief) وشرط المبرر (justification). يسمى هذا بتحليل JTB للمعرفة [6]. ويتفق على هذا التحليل عددٌ من الفلاسفة، من بينهم أفلاطون وكانت وآخرون، وبناء عليه، إذا كان لدى أحد ما “اعتقاد حقيقي مُبَرّر” بأن افتراضاً ما هو صحيح، فهذا الشخص يعرف بأن الافتراض صحيح [7]. فما هي هذه الشروط؟

أولاً، وكي نقول أنّنا نعرف شيئاً ما، يجب أن يكون هذا الشيء حقيقياً، لأن الشيء غير الحقيقي أو غير الموجود لا يمكن أن يشكّل معرفة [5]. حتى تكون الجملة “تجلس القطة على السجادة” معرفة، يجب أن تكون القطة موجودة على السجادة، وإلا، فهذه ليست معرفة.

ثانياً، حتى تتحقق المعرفة، يجب أن يكون هناك اعتقاد وإيمان بالافتراض المطروح. بالعودة إلى مثال القطة، إذا لم أكن أؤمن أو أعتقد بأن القطة على السجادة، فلا أستطيع أن أقول بأنني أمتلك المعرفة الكامنة وراء هذا الافتراض [5]. في سياق تحليل JTB للمعرفة، يتمثل الاعتقاد باعتقاد كامل أو قوي وليس مجرد ثقة من شيء ما [6]. مثلاً، إذا كنت أعتقد بأن القطة موجودة على السجادة، ولكن لم يكن هذا الاعتقاد يقيناً، أي إذا لم يكن كاملاً، فلن يرقى لمستوى المعرفة. ويجب تأكيد الاعتقاد بشكل قطعي كي ندعوه معرفة [6].

ثالثاً، من الضروري وجود مبرر كي تتحقق المعرفة. فمثلاً إذا رمينا قطعة نقود وقلنا بأنها ستقع على جهة “النقش” وبالفعل حدث هذا، لا يمكن القول بأننا كنا “نعرف” أنها ستقع على جهة “النقش”. بل هذا تخمين وليس معرفة، ويعود السبب إلى أن الاعتقاد بأن القطعة النقدية ستقع على جهة دون سواها ليس اعتقاداً مثبتاً أو مبرراً، وعليه، فهو لا يمثل معرفة [6].

مسألة غيتييه (Gettier Problem)

في عام 1963، نشر الفيلسوف الأمريكي إدموند غيتييه (Edmund Gettier) مقالاً يتحدى فيه التحليل التقليدي للمعرفة ذو المكونات الثلاثة. ويضم هذا المقال عدداً من المسائل الحقيقية أو المحتملة يكون فيها لدى الشخص “اعتقاد حقيقي مُبَرّر” ولكنه لا يمثل معرفة. وقد كان لمقاله هذا أثر عميق في الأبستمولوجيا، حيث بدأ الباحثون في هذا المجال بإعادة النظر في طبيعة المعرفة، واتفق أغلبهم أن غيتييه نجح فعلاً في نقض تعريفها التقليدي. وفي الحالات المبنية على مسألة غيتييه، يوجد عنصران أساسيان، هما الخطأ في التبرير والحظ [8].

من الحالات التي عرضها غيتييه في مقاله الحالة التالية. كان لدى سميث وجونز مقابلة عمل، وقام رئيس الشركة بإخبار سميث أنّ جونز هو من سيحصل على الوظيفة. وكان سميث يعرف أن لدى جونز عشر قطع نقدية، فقد عدّها بنفسه. وبناءً على كلام رئيس الشركة وملاحظته لعدد القطع النقدية، خرج سميث بالاعتقاد المبرر التالي: من سيحصل على الوظيفة لديه عشر قطع نقدية. هنا لا يُعتبر افتراض سميث تخميناً، فلديه اعتقاد حقيقي وتبرير ليصنف افتراضه على أنه معرفة [8].

ولكن في نهاية الأمر، يحصل سميث على الوظيفة، وسميث نفسه لديه عشر قطع نقدية، وبهذا تكون فرضية سميث صحيحة ولكنها ليست معرفة. في واقع الأمر، توجد حقيقتان في هذه الحالة  – سميث حصل على الوظيفة، وهو يملك عشر قطع نقدية – وهاتان الحقيقتان تجعلان من افتراض سميث صحيحاً. ولكن لم تكن أي منهما معروفتين لسميث، وحسب رأي غيتييه، يمكن القول أنّ افتراض سميث لا يمثل معرفة. بعبارة أخرى، يرى غيتييه أن سميث فشل في معرفة أن الشخص الذي سيحصل على الوظيفة لديه عشر قطع نقدية [8].

تساؤلات لنظرية المعرفة: هل حقاً لدينا “معرفة”؟

ترى بعض أشكال الشكوكية الفلسفية (Philosophical Scepticism) أننا لا نعرف الافتراضات التي نظن أننا نعرفها [9]. ولأن الشك يمثل موضوعاً مثيراً للاهتمام في الفلسفة، فهو يستحق حيزاً مستقلاً للحديث عنه.

اقرأ أيضاً: ملخص كتاب نظرية المعرفة لزكي نجيب محمود

المصادر:

  1. Britannica – Epistemology
  2. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Epistemology
  3. Internet Encyclopedia of Philosophy – Knowledge
  4. كتاب ما المعرفة؟ تأليف دنكان بريتشارد  – ترجمة مصطفى ناصر
  5. Pritchard, Duncan, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera
  6. Stanford Encyclopedia of Philosophy – The Analysis of Knowledge
  7. Paul K. Moser. Propositional Knowledge
  8. Internet Encyclopedia of Philosophy – Gettier Problem
  9. Stanford Encyclopedia of Philosophy – Skepticism

أوغست كونت .. سيرة ذاتية

ميلاد علم الاجتماع وتطور حركة الفكر

إهتم المفكرون قبل وقت طويل بدراسة المجتمعات التي عاشوا فيها، قبل أن يصبح علم الاجتماع تخصصًا أكاديميًا منفصلا: «أفلاطون- Plato»، «أرسطو-Aristotle»، «كونفوشيوس-Confucius» ، «ابن خلدون-Ibn Khaldun» و «فولتير-Voltaire» كلها جهود مهدت الطريق لعلم الاجتماع الحديث. فمنذ العصور القديمة، كانت العلاقة بين الأفراد والمجتمعات التي ينتمون إليها من أهم الموضوعات التي اشتعلت في رؤوسهم. فقام الفلاسفة القدماء بدراسة العديد من الموضوعات التي تناولها علم الاجتماع الحديث، رغبةً منهم في وصف كيف يكون المجتمع المثالي، بما في ذلك نظريات الصراع الاجتماعي والاقتصاد والتماسك الاجتماعي والقوة. في هذه المقالة أوغست كونت .. سيرة ذاتية سنتناول جهود واحدًا من أهم مؤسسي علم الاجتماع.

في القرن الثالث عشر، اعترف «ما توان لين – Ma Tuan-Lin» وهو مؤرخ صيني، لأول مرة بالديناميكيات الاجتماعية كعنصر أساسي للتطور التاريخي. شهد القرن التالي ظهور المؤرخ الذي يعتبره البعض أول عالم اجتماع في العالم : ابن خلدون. كتب عن العديد من الموضوعات التي  تعتبر محاور أساسية في علم الاجتماع الحديث، إذ وضع أساسًا لكل من علم الاجتماع والاقتصاد الحديث، بما في ذلك نظرية الصراع الاجتماعي ومقارنة الحياة البدوية والمستقرة ووصف للاقتصاد السياسي ودراسة تربط التماسك الاجتماعي للقبيلة بقدرتها على السلطة.

في القرن الثامن عشر، طور فلاسفة عصر التنوير مبادئ عامة يمكن استخدامها لشرح الحياة الاجتماعية. استجاب مفكرون مثل «جون لوك- John Locke» وفولتير و «إيمانويل كانط-Immanuel Kant» و «توماس هوبز-Thomas Hobbes» لما رأوه من علل اجتماعية من خلال الكتابة عن الموضوعات التي كانوا يأملون أن تؤدي إلى الإصلاح الاجتماعي. مثل «ماري وولستونكرافتMary- Wollstonecraft» ، التي كتبت عن ظروف المرأة في المجتمع. تم تجاهل أعمالها منذ فترة طويلة من قبل الهيكل الأكاديمي الذكوري، ولكن منذ 1970s  وقد اعتبر وولستونكرافت على نطاق واسع من أوائل المفكرين النسويين.

شهد أوائل القرن التاسع عشر تغييرات كبيرة مع الثورة الصناعية  وزيادة التنقل  وأنواع جديدة من العمالة. فقد كان أيضًا وقتًا للاضطرابات الاجتماعية والسياسية الكبيرة مع صعود الإمبراطوريات التي عرضت العديد من الناس لأول مرة لمجتمعات وثقافات أخرى غير ثقافاتهم. انتقل الملايين من الناس إلى المدن وتحول الكثير من الناس بعيدًا عن معتقداتهم الدينية التقليدية.

أوغست كونت والد علم الاجتماع

صيغ مصطلح علم الاجتماع لأول مرة في عام 1780 من قبل الكاتب الفرنسي «إيمانويل جوزيف سياس-Emmanuel Joseph» في مخطوطة لم تر النور. وفي عام 1838، اختراع المصطلح ذاته من جديد من قبل أوغست كونت. درس كونت في الأصل ليكون مهندسًا، لكنه أصبح فيما بعد تلميذًا للفيلسوف الاجتماعي «كلود هنري دي روفروي كونت دي سانت سيمون- Henri de Saint-Simon» فكلاهما يعتقد أن علم الاجتماع هو دراسة المجتمع باستخدام نفس الأساليب العلمية المستخدمة في العلوم الطبيعية. كان كونت يأمل في توحيد جميع العلوم تحت علم الاجتماع. وأعرب عن اعتقاده بأن علم الاجتماع يحمل القدرة على تحسين المجتمع وتوجيه النشاط البشري، بما في ذلك العلوم الأخرى. ورأى أنه بمجرد أن يحدد العلماء القوانين التي تحكم المجتمع، يمكن لعلماء الاجتماع معالجة مشاكل مثل سوء التعليم والفقر.[1]

النشأة

طور الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت نظامًا للفلسفة الإيجابية. ورأى أن العلم والتاريخ يتوجان في علم جديد للبشرية، والذي أعطى اسم ” علم الاجتماع. أوغست كونت عالم الرياضيات، فيلسوف العلوم، كبير منهج الوضعية, ثم مؤسس ورئيس كهنة كنيسة الإنسانية، ولد في مونبلييه الفرنسية في 17 يناير 1798، تخلى عن الكاثوليكية المتدينة والملكية لعائلته أثناء مراهقته. دخل مدرسة الفنون التطبيقية في عام 1814 وأثبت نفسه عالم رياضيات وتميز بهذا المجال. لكنه طرد عام 1816 لمشاركته في تمرد طلابي. بعد بقائه في باريس، تمكن من إجراء أبحاث هائلة في الرياضيات والعلوم والاقتصاد والتاريخ والفلسفة. نشأ الفيلسوف الفرنسي أوغست كومت في أعقاب الثورة الفرنسية.تلك الفترة التي  شهد فيها المجتمع الأوروبي صراعًا عنيفًا ومشاعر الاغتراب. فلقد تحطمت الثقة في المعتقدات والمؤسسات الراسخة. قضى كومت الكثير من حياته في تطوير فلسفة لنظام اجتماعي جديد وسط كل الفوضى وعدم اليقين.

ميلاد أفكار كونت

رفض كونت الدين و الحكم، بدلا من ذلك ركز على دراسة المجتمع بمذهب أسماه “علم الاجتماع.” فقد قسم الموضوع إلى فئتين: القوى التي تجمع المجتمع معا “الإحصائيات الاجتماعية” وتلك التي تقود التغيير الاجتماعي “الديناميات الاجتماعية”. تلك الأفكار والأساليب العلمية التي تقدمت كثيرًا في هذا المجال. لعل كان أحد أسئلة كونت المركزية هو كيف تتطور المجتمعات وتتغير؟ منها انطلق إلى أفكاره وفلسفته الخاصة، لذا يعتبر كونت أحد مؤسسي علم الاجتماع، كما يُطلق عليه أبو علم الاجتماع

في التاسعة عشر من عمره، التقى كونت هنري دي روفروي، كونت دي سانت سيمون، وباعتباره ابنا بالتبني الروحي، أصبح سكرتيرًا ومتعاونًا مع الرجل الأكبر سنا حتى عام 1824. العلاقة بين سانت سيمون وكونت بدأت تتوتر على نحو متزايد لأسباب نظرية وشخصية حتى تدهورت في النهاية وانفصلا. كان سيمون مفكرًا بديهيًا مهتمًا بالإصلاح الاجتماعي، فكان طوباويًا. في الوقت ذاته كان كونت مفكرًا علميًا، مما يعني اعتماده المراجعة المنهجية لجميع البيانات المتاحة، مع اقتناع بأنه فقط بعد إعادة تنظيم العلم في مجمله يمكن أن يساعد في حل المشاكل الاجتماعية.

أبرز جهود كونت في علم الاجتماع

فلسفة الوضعية

عادة ما تفهم الوضعية كمصطلح على أنها طريقة معينة للتفكير. بالنسبة لكونت، فالوضعية هي عقيدة تنص على أن المعرفة الحقيقية الوحيدة هي المعرفة العلمية، وأن هذه المعرفة لا يمكن أن تأتي إلا من تأكيد إيجابي للنظريات من خلال طريقة علمية صارمة، ورفض كل شكل من أشكال الميتافيزيقيا.

فالمنهجية هي نتاج إعادة تصنيف منهجية للعلوم ومفهوم عام لتطور الإنسان في التاريخ وفقا لقانون المراحل الثلاث. كان كونت مقتنعا بأنه لا يمكن فهم أي بيانات بشكل كاف إلا في السياق التاريخي. الظواهر واضحة فقط من حيث أصلها ووظيفتها وأهميتها في المسار النسبي للتاريخ البشري.

ولكن على عكس هيجل، رأى كونت أنه لا يوجد روح (قوة معنوية)، فوق التاريخ الذي يجسد نفسه من خلال تقلبات الزمن. يمثل كونت النسبية الراديكالية: كل شيء نسبي؛ هناك الشيء المطلق الوحيد.

الوضعية كمبدأ يجعل جميع الأفكار والأنظمة السابقة نتيجة للظروف التاريخية. الوحدة الوحيدة التي يوفرها نظام الوضعية في تحيزه المضاد للفيزيائي الواضح هي النظام المتأصل للفكر البشري. وهكذا يحاول قانون المراحل الثلاث، الذي اكتشفه في وقت مبكر من عام 1820، إظهار أن تاريخ العقل البشري وتطور العلوم يتبعان نمطًا محددًا يوازي نمو المؤسسات الاجتماعية والسياسية.[3]

قانون المراحل الثلاث

 وفقًا لكونت، يرتكز نظام الوضعية على القانون الطبيعي والتاريخي فإن كل فرع من معرفتنا ملزم بالضرورة بالمرور على التوالي في مساره من خلال ثلاث حالات نظرية مختلفة.

فقانون المراحل الثلاث هو فكرة طورها أوغست كونت، وينص على أن المجتمع ككل وكل علم من العلوم يتطور من خلال ثلاث مراحل تصور عقليًا:

(1) المرحلة اللاهوتية أو الوهمية.

(2) المرحلة الميتافيزيقية أو المجردة.

(3) المرحلة العلمية أو الإيجابية. [4]

تمثل هذه المراحل أنواعا مختلفة ومعارضة من التصور البشري. النوع الأكثر بدائية هو التفكير اللاهوتي، الذي يعتمد على”مغالطة التعاطف” لقراءة التجربة الذاتية في عمليات الطبيعة. يتطور المنظور اللاهوتي بشكل جدلي من خلال الشهوة الجنسية والشرك والتوحيد حيث تفهم الأحداث على أنها متحركة بإرادتهم الخاصة أو بإرادة العديد من الآلهة أو مرسوم كائن واحد أعلى. سياسيًا، توفر الدولة اللاهوتية الاستقرار تحت الملوك المشبعين بالحقوق الإلهية والمدعومة بالقوة العسكرية. مع تقدم الحضارة، تبدأ المرحلة الميتافيزيقية كنقد لهذه المفاهيم باسم النظام الجديد. تتحول الكيانات الخارقة تدريجيًا إلى قوى مجردة تمامًا كما يتم تدوين الحقوق السياسية في أنظمة القانون. في المرحلة النهائية من العلم الإيجابي يتم التخلي عن البحث عن المعرفة المطلقة لصالح تحقيق متواضع ولكن دقيق في القوانين النسبية للطبيعة. يتم استبدال الأوامر الاجتماعية المطلقة والإقطاعية تدريجيا عن طريق زيادة التقدم الاجتماعي الذي تحقق من خلال تطبيق المعرفة العلمية.[2]

رؤية كونت في التعامل مع العلوم

من هذا المسح لتطور الإنسانية كان كونت قادرًا على تعميم منهجية إيجابية محددة. مثل «رينيه ديكارت-René Descartes» ، اعترف كونت بوحدة العلوم. ومع ذلك، لم يكن ذلك من طريقة تفكير لا لبس فيها ولكن التطور المتتالي لقدرة الإنسان على التعامل مع تعقيدات التجربة. كل علم يمتلك طريقة محددة للتحقيق. كانت الرياضيات وعلم الفلك العلوم التي طورها رجال مفكرون في وقت مبكر بسبب بساطتها وعموميتها وتجريدها. لكن الملاحظة وتأطير الفرضيات كان لابد من توسيعها من خلال طريقة التجريب من أجل التعامل مع العلوم الفيزيائية للفيزياء والكيمياء والبيولوجيا. مطلوب طريقة مقارنة أيضا لدراسة العلوم الطبيعية والإنسان والمؤسسات الاجتماعية. [5]

حتى تاريخ العلم والمنهجية يدعم قانون المراحل الثلاث من خلال الكشف عن التسلسل الهرمي للعلوم والاتجاه المنهجي من العام إلى الخاص، ومن البساطة إلى التعقيد. يدرس علم الاجتماع مجتمعات معينة بطريقة معقدة لأن الإنسان هو موضوع وبؤرة هذا الانضباط وهذه الدراسة. يمكن للمرء أن ينظر إلى الفئات الاجتماعية من وجهة نظر “الإحصائيات الاجتماعية”، التي تضم عناصر التماسك والنظام مثل الأسرة والمؤسسات، أو من وجهة نظر” الديناميات الاجتماعية ” التي تحلل مرحلة التطور المستمر التي حققها مجتمع معين.

قانون الثلاث مراحل أمام اختبار الزمن

لم تصمد رؤية كونت للعلم الموحد ولا نموذجه المكون من ثلاث مراحل أمام اختبار الزمن. فبدلا من ذلك، يأتي ذكر كونت لإضفاء توجه إيجابي على علم الاجتماع والطلب على الصرامة العلمية. إذ وجهت الدراسات الاجتماعية المبكرة تشبيها من علم الاجتماع إلى العلوم الطبيعية، مثل الفيزياء أو علم الأحياء. جادل العديد من الباحثين أن علم الاجتماع يجب أن تعتمد المنهجية العلمية المستخدمة في العلوم الطبيعية. هذا النهج العلمي، بدعم من أوغست كومت، هو في لُب الوضعية، وهو التوجه المنهجي مع الهدف الذي هو التحقيق العلمي الدقيق والموضوعي والتنبؤ.

منذ القرن التاسع عشر، وُضعت فكرة الوضعية على نطاق واسع. على الرغم من أن الوضعية لديها الآن مجموعة واسعة من المعاني أكثر مما انطوى عليه ما قصده كونت، إلا أن الإيمان بعلم اجتماع صارم علميًا، ففي جوهره نُفذ بالفعل. كما طبق علماء الاجتماع الحديث المنهج العلمي على البحث الاجتماعي في جميع جوانب المجتمع، بما في ذلك الحكومات والتعليم والاقتصاد.

اليوم، يستخدم علماء الاجتماع الذين يتبعون التوجه الإيجابي لكونت مجموعة متنوعة من أساليب البحث العلمي. على عكس علماء الطبيعة، نادرًا ما يجري علماء الاجتماع تجارب، لأن الموارد البحثية المحدودة والمبادئ التوجيهية الأخلاقية تمنع التلاعب التجريبي على نطاق واسع للفئات الاجتماعية. ومع ذلك، في بعض الأحيان علماء الاجتماع قادرون على إجراء التجارب الميدانية. على الرغم من أن الأساليب الكمية، مثل الدراسات الاستقصائية، ترتبط بشكل شائع بالوضعية، فإن أي طريقة، كمية أو نوعية، يمكن استخدامها علميا.

في حين يعتبر نهج كونت اليوم طريقة مبسطة للغاية وغير قائمة على أسس سليمة لفهم التنمية الاجتماعية، إلا أنه يكشف عن رؤى مهمة في تفكيره حول الطريقة التي يوحد بها علم الاجتماع، – كجزء من المرحلة الثالثة – العلوم ويحسن المجتمع.

ستة مجلدات من الفلسفة الإيجابية

في عام 1826، بدأ تقديم سلسلة من المحاضرات نخبة من المفكرين الفرنسيين. ومع ذلك، حوالي ثلث الطريق من خلال سلسلة المحاضرات، عانى من انهيار عصبي. على الرغم من الاستشفاء الدوري على مدى السنوات ال 15 المقبلة، أنتج عمله الرئيسي، دورة ستة مجلدات من الفلسفة الإيجابية. في هذا العمل، جادل كومت بأنه  مثل العالم المادي، يعمل المجتمع بموجب مجموعة قوانينه الخاصة.[6]

لمحة خاصة وبزوغ عقيدته “دين الإنسانية”

عززت جهود كونت دراسة المجتمع وتطوير علم الاجتماع. خلال هذا الوقت ، دعم نفسه بمنصب في مدرسة الفنون التطبيقية، لكنه اشتبك مع المسؤولين وتم فصله في عام 1842. في نفس العام, طلق زوجته, «كارولين ماسين – Caroline Massin» بعد 17 سنوات من الزواج. ومنذ ذلك الحين، اعتمد على الأصدقاء والناس لدعمه.

في عام 1844، ارتبط كونت بـ «كلوتيلد دي فو-Clotilde de Vaux» وهي سيدة متزوجة، وهو أرستقراطي وكاتب فرنسي آنذاك. استمرت علاقتها مع كونت الأفلاطونية. بعد وفاتها وفي عام 1846، كتب كونت نظام الحكم الإيجابي. وصاغ مصطلح “دين الإنسانية”. إذ اقترح كونت نظامًا دينيًا قائمًا على العقل والإنسانية، مؤكدًا أن الأخلاق كحجر الزاوية في التنظيم السياسي البشري. [7]

وفاته

واصل كونت صقل وتعزيز “النظام العالمي الجديد”، في محاولة لتوحيد التاريخ وعلم النفس والاقتصاد من خلال الفهم العلمي للمجتمع. نشر عمله على نطاق واسع من قبل المثقفين الأوروبيين وأثر على تفكير كارل ماركس وجون ستيوارت ميل وجورج إليوت. حتى توفي جراء مضاعفات سرطان المعدة في باريس في 5 سبتمبر 1857.

عُرف أوجست كونت على نطاق واسع كمؤسس علم الاجتماع و “دين الإنسانية”. وقد أثرت مساهمات كونت في تاريخ وفلسفة العلوم بشكل حاسم على المنهجيات الإيجابية. صاغ مصطلح “علم الاجتماع” وأعطاه محتواه الأول، كانت له رؤيته الاجتماعية الخاصة، فاعتقد أن علم الاجتماع يمكن – ويجب – أن يكون انعكاسيًا وموسوعيًا وطوباويًا، فقد نظر في مواضيع مثل الشهوة الجنسية والشرك والمصير والحب والعلاقات بين علم الاجتماع والعلوم واللاهوت والثقافة.

المصادر

[1] cuny

[2] journals

[3] britannica

[4] britannica

[5] stanford

[6] lse

[7] victorianweb

ما هي الفلسفة؟ وكيف يمكن شرح علاقتها بالعلوم الأخرى؟

هذه المقالة هي الجزء 1 من 11 في سلسلة مدخل إلى الفلسفة وفروعها

ما هي الفلسفة؟ وكيف يمكن شرح علاقتها بالعلوم الأخرى؟

صحيح أن معنى كلمة “فلسفة” هو “محبة الحكمة”، ولكن الحكمة لا تعني فقط توخي الحيطة في حياتنا. بل تدلّ أيضاً على معرفة كل الأشياء التي باستطاعة الإنسان أن يعرفها [1]. في الواقع، لا يمكن فصل الفلسفة عن العلوم الأخرى، بل على العكس، يمكن تطبيق جميع المفاهيم والطرق الفلسفية على جميع مجالات الدراسة والعلوم [2].

ما هي الفلسفة؟

عندما نطرح سؤال “ما هي الفلسفة؟” فنحن نغوص في عالم ما وراء الفلسفة (metaphilosophy). ويمكن تعريف هذه الدراسة على أنها استكشافٌ لطبيعة الفلسفة، أي معناها وكيفية ممارستها. وهذا وفقاً لشرح الفيلسوف البولندي/الأمريكي موريس لازروويتز (Morris Lazerowitz) [1].

كما يمكن تصنيف هذا السؤال على أنه فلسفة الفلسفة (the philosophy of philosophy). وهذا يعني تطبيق طرق الفلسفة على الفلسفة بحدّ ذاتها، حسب ما يرى الفيلسوف النمساوي/الإنكليزي لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) [1].

حتى الآن، نحن لم نجب على سؤالنا، بل كنا نشرح طبيعة هذا السؤال والمجال الذي يدور فيه.

كيف يمكن تعريف الفلسفة؟

والآن، إذا أردنا جواباً بسيطاً لسؤالنا، يمكننا القول بأن الفلسفة هي النشاط الذي نقوم به لاكتشاف الطريقة الصحيحة للتفكير بشيء ما. وفكرة تصنيف الفلسفة على أنها “نشاط” هي فكرة مهمة، تنطوي على ممارسة دائمة لهذا النشاط حتى نفهم ماهيته فعلاً [3].

أما إذا أردنا التعمق أكثر، والذهاب مع المنحى الفلسفي الغربي، فيمكن تقسيم دراسة ما وراء الفلسفة إلى ثلاث مجموعات، وذلك حسب كل من التحليلية (analytic philosophy)، أو البراغماتية (pragmatism)، أو القارية (continental philosophy). لنلقِ نظرة عامة على وجهات النظر الثلاثة، وكيف يُعرّف كل منها الفلسفة [1].

تعريف الحركة التحليلية للفلسفة

تذهب الحركة التحليلية إلى أن الفلسفة يجب أن تبدأ من تحليل القضايا. حسب آراء اثنين من رواد هذه الحركة، وهما فيتغنشتاين و بيرتراند راسل (Bertrand Russell)، يعطي هذا التحليل دوراً رئيسياً للمنطق، ويهدف إلى كشف التركيب العميق للعالم [1].

تعريف البراغماتية للفلسفة

أما وجهة النظر البراغماتية، فتعتبر أن الفلسفة يجب أن تُعنى بمشاكل حقيقية. ويرى بعض البراغماتيين الجدد أمثال الأمريكي ريتشارد رورتي (Richard Rorty) أنه يتوجب على الفيلسوف أن يصيغ فلسفته بطريقة تعزز أهدافه الثقافية والاجتماعية السياسية [1].

تعريف المدرسة القارية للفلسفة

وبالنسبة للمدرسة القارية وعلم الظواهر (Phenomenology) المرتبط بها، تُعتبر الفلسفة علماً عميقاً وتأسيسياً. ويرى الفيلسوف إدموند هوسرل (Edmund Husserl) أن الفلسفة هي قضية شخصية، بالإضافة لكونها شيئاً جوهرياً لإدراك التطلعات الإنسانية للتنوير [1].

يمكن البحث بعمق في هذه المذاهب وما انبثق عنها من أجل الوصول إلى تعريف للفلسفة، أو إلى رؤية لأهدافها وكيفية ممارستها. ولكن لدى القيام بذلك، سيصادف الدّارس آراءً كثيرةً لا تخلو من الاختلاف (وربما الخلاف!). كما أن التقسيمات الفرعية لكل مدرسة أو مذهب، وتصنيف الفلاسفة في أيّ منها، هو موضوع جدلي لا يوجد إجماع عليه. لذلك، سنركز على التعريف البسيط والذي يأخذ منحى عاماً، وننطلق منه لفهم طبيعة الفلسفة وصلتها بالعلوم الأخرى أو مظاهر الحياة اليومية.

ما علاقة الفلسفة بالعلوم الأخرى؟

سنعود إلى التعريف البسيط الذي اقترحه د. ديفيد وورد (David Ward) من جامعة إدنبرة، والذي يشرح فيه أن الفلسفة هي عبارة عن النشاط الذي نسعى من خلاله لاكتشاف الطريقة الصحيحة للتفكير بشيء ما. ومن هنا، يمكننا ربط الفلسفة مع علوم ومواضيع أخرى. فنحن نستخدمها لاكتشاف طريقة صحيحة للتفكير بشيء ما، وهذا الشيء قد يكون شيئاً عادياً في حياتنا، أو قد يكون أحد العلوم الأساسية [3].

لا نستطيع تجاهل أن كل العلوم ومجالات الدراسة تهدف إلى التفكير بمواضيعها بالطريقة الصحيحة. لكن الفرق هنا يكمن بين التفكير بالموضوع محور الاهتمام والبحث عن طريقة صحيحة للتفكير به [3].

بالطبع تتراوح أهمية هذا وفقاً للشيء الذي نفكر فيه. فيمكننا تطبيق التفكير الفلسفي على أمر عادي أو بسيط. مثلاً، قد يتساءل المرء: “هل أذهب اليوم إلى السينما؟” ويبدأ عندها بالتفكير بالأسباب التي قد تجعله يذهب والأسباب التي قد تمنعه، ويحللها ويربطها ببعضها حتى يصل إلى نتيجة “يذهب” أم “لا يذهب”. كما يمكن تطبيق هذا التفكير على أحد العلوم الأساسية والمهمة كالفيزياء أو الطب. ومن الواضح أن الفرق في الأهمية بين تطبيق التفكير الفلسفي في الحالتين يرجع إلى الموضوع محور التفكير: الذهاب إلى السينما / علم أساسي (الفيزياء أو الطب). في الحالة الثانية، علينا أولاً البدء بالعلم ومعرفة أهدافه أو المشاكل التي يسعى لحلها حتى نستطيع أن نطبق الفلسفة عليه [3].

يسعى علم الفيزياء، على سبيل المثال، إلى دراسة الطبيعة المادية عبر إجراء التجارب والقياسات وصياغة النظريات. أما ممارسة الفلسفة بالنسبة للفيزياء، فتتمثل بطرح أسئلة من قَبيل: ما المقصود “بالطبيعة المادية”؟ وكيف يمكن لنتائج تجربة ما أن تؤكد فرضية ما أو تنقضها؟ والهدف هنا هو التوصل إلى الطريقة الأمثل في دراسة الفيزياء بعد الإجابة على تلك الأسئلة التي تستهدف صلب اهتمامه وأساسياته [3].

يوضح هذا المثال البسيط علاقة الفلسفة بعلوم أخرى، الفيزياء هنا. فالمقاربة الفلسفية للقضايا تتضمن طرح أسئلة حول الافتراضات التي قد تكون من المُسلّمات، وتدفعنا لإثارة تساؤلات حولها والتفكير فيما إذا كنا نأخذها بالطريقة الصحيحة.

هل الفلسفة مهمة؟

نعم ولا في الواقع! يمكننا القول بأنها مهمة وغير مهمة في آنٍ واحد.

فمن جهة، يمكننا دائماً طرح أسئلة فلسفية حول أي قضية تمر بنا أو أي مسألة تواجهنا. وهذا يتضمن التفكير في القضية المعنية من مسافة أبعد، والتساؤل حول الافتراضات الموجودة فيها وفيما إذا كانت فعلاً صحيحة أم لا. ولكن من جهة أخرى، ليس بالضرورة أن نقوم بهذا. فمن الممكن أن نمارس أنشطة عديدة دون تطبيق مقاربة فلسفية تجاهها [3].

ما هي طريقة التفكير الفلسفي؟

يعتمد التفكير الفلسفي على عناصر أساسية، وهي المقدمات المنطقية (premises)، والنتيجة أو الخلاصة (conclusion). ويقوم التفكير الفلسفي على دراسة المقدمات وطريقة استنتاج الخلاصة منها، ثمّ الحكم عليها فيما إذا كانت صحيحة أو مقبولة، أم لا [3].

لمزيد من التفاصيل عن طريقة التفكير، يمكن قراءة: تقييم الحجة لممارسة التفكير النقدي.

طريقة التفكير الصحيحة

هل حقاً يمكننا إيجاد الطريقة الصحيحة للتفكير بشيء ما؟

السؤال هنا: هل توجد فعلاً طريقة صحيحة واحدة للتفكير بشيء ما؟ وكيف يمكننا أن نتأكد بأننا وصلنا إلى هذه الطريقة الصحيحة؟

في الحقيقة، لا تمكن الإجابة عن هذه التساؤلات، وهذا ما يؤكد الفكرة السابقة أنه يمكننا طرح أسئلة فلسفية تجاه أي موضوع، بما في ذلك تعريف الفلسفة بحد ذاتها. وهذا يأخذنا إلى الفكرة في بداية المقال عن وجهات النظر الثلاثة حول تعريفها. فلا يوجد تعريف واحد وصحيح. وهذا ينطبق على طريقة التفكير التي تسأل الفلسفة عنها. إذ لا يمكن التوقف عن طرح أسئلة فلسفية، ففكرة البحث عن طريقة تفكير أخرى في موضوع ما، ودراسة الافتراضات الموجودة في أحد العلوم أو المواقف التي نواجهها، هو الحافز الذي يبقي سلسلة الأسئلة الفلسفية قائمة ومستمرة [3].

ويمكننا بناءً على ذلك أن نفكر ببعض المفاهيم الأساسية – كالأخلاق أو المعرفة أو القانون، على سبيل المثال لا الحصر – من منظور فلسفي ونسأل أنفسنا: هل هذه المفاهيم هي صحيحة كما نعرفها؟ هل يجب أن نقتنع بالمعرفة التي نملكها عنها؟ أم يمكننا أن نذهب إلى ما وراء ذلك؟ هل هنالك ما يُلزمنا بالحفاظ على ثبات هذه المفاهيم كما عرفناها؟

سنجيب على هذه الأسئلة – أو على الأقل سنحاول ذلك – في مقالات لاحقة تكون الفلسفة والمقاربة الفلسفية محوراً أساسياً فيها.

المصادر:

  1. Internet Encyclopedia of Philosophy
  2. Philosophy and Other Disciplines
  3. Ward, Dave, et al. Introduction to Philosophy [MOOC]. Coursera.

الفيلسوف أناكساغوراس ومفهوم ناوس

هذه المقالة هي الجزء 7 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

الفيلسوف أناكساغوراس ومفهوم ناوس

اعتدنا أن ننسب المغامرات الفلسفية الأولى إلى أثينا. بالكاد نعرف شيئا عن المدن الإغريقية الأخرى التي أعطت للتفلسف حيزًا. حسب التاريخ المتفق عليه، لم تعرف أثينا الفلسفة قط قبل أن يدخلها معه أناكساغوراس بدعوة من حاكم أثينا بيريكليز. لا تتميز فلسفة أناكساغوراس بوجود نسق أصيل كما هي الحال مع هيراكليتس ولا هي بفيض شعري كما هي عند أمبادوكليس. ما يمنح فلسفت أناكساغوراس بعض الجاذبية هو مفهوم ناوس (Nous) التي حاول من خلالها أن يسد الصدع الموجودة في الأنطولوجيا القديمة. في هذا المقال سنلقي الضوء على مفهوم ناوس عند أناكساغوراس.

حياة أناكساغوراس

ولد أناكساغوراس في كلازومينيا حوالي عام 500.ق.م. كان من أسرة نبيلة ويملك ثروة طائلة، إلا أنه تخلى عن الثروة سعيًا نحو العلم والفلسفة [1]. كان له علاقة مع الوسط الأثني السياسي والأدبي، فدعاه القيادي والسياسي الأثني بريكليس إلى أثينا لتتحول إلى مركز التفلسف العالمي. ظل في أثينا ثلاثة عقود، لكن الصراع السياسي عصرئذ لم يكن لصالحه، فتم اتهامه بالإلحاد لقوله بأن الشمس والنجوم صخور ملتهبة وأن القمر كوكب. بسبب تلك التهم دخل السجن، وكان سيكون مصيره مصير سقراط لولا تدخل بريكليس الذي ساعده ليهرب من السجن. بعد النفي استقر في لامباسكوس ومات هناك وهو في الثانية والسبعين من العمر[2].

نشر أناكساغوراس كتابه (حول الطبيعة) في سن متأخر، كما أسس مدرسة فلسفية في أواخر حياته.

البداية

كما كانت الحال مع الفلاسفة الذين سبقوه، قال أناكساغوراس بعالم قديم، لكنه اختلف معهم في تفاصيل جوهرية. العالم الذي يراه أناكساغوراس عالم ميكانيكي آلي، فهو لا يؤمن بصراع الأضداد مثل هيراكليتس ولا حركة الأبيرون كما أناكسيماندر. في البدء كل أنواع المادة كانت مختلطة في كتلة سديمية، وهذه الكتلة تمتد إلى ما لا نهاية عبر المكان والأنواع المختلفة للمادة، تختلط وتنفذ كل منها في أخرى [3].

هذه البادية كانت هلامية، حيث لم تكن هناك هوية للموجود، كل الأشياء كانت موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. يصف تلك البداية بقوله: “كانت جميع الأشياء معًا لا نهاية لها في العدد والصغر، لأن الصغر أيضًا لا نهائي، لما كانت جميع الأشياء معًا فلم يكن ممكنًا لصغرها تمييز أي شيء منها[4].الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي

العقل عند أناكساغوراس

مفهوم العقل-ناوس فيه الكثير من اللبس، ذلك لأنه يوحي بأكثر من معنى، يأتي العقل أحيانًا بمعنى لاهوتي وأحيان أخرى بمعنى طبيعي. في الفلسفة الإغريقية بشكل عام لم يتم تحديد المقصد من العقل بدقة. عند أناكساغوراس، وضع العقل في موقع حرج من الأنطولوجيا الكونية، ما أدى إلى اختلافات تأويلية قديمًا وحديثًا حول جوهرة فلسفته –ناوس.

دور العقل

يبدو أن الكون كان حائرًا قبل أن يكون هناك عقل، كان يتخبط في نفسه دون دليل أو منظم إلى أن جاء العقل. العقل هو العامل المسؤول عن دوران وفصل الخليط البدائي [السديم]، وهو الذي أحدث الحركة البدائية (أنس). حول دور العقل لأناكساغوراس رأيين مختلفين، فتارة يختزل دوره في الحركة الأولى. فيقول، “في البداية كان هناك خليط سديمي من الأنواع المختلفة للمادة، والعقل ادخل دوامة في نقطة وسط هذه الكتلة”[5]. وتارة أخرى يبين أن العقل يذهب في ترتيب تفاصيل العالم.

طبيعة العقل

هذه الطبيعة غير محددة تمامًا وإن وصف أناكساغوراس لا يخلو من اللبس، غير أن ثمة سمات عامة للعقل في فلسفته[6] وهي:

  • العقل بسيط وغير مركب.
  • متميز عن المادة.
  • لا نهائي وأبدي.

البذور واستحالة الموت والولادة وفق أناكساغوراس

يجد أناكساغوراس في مسألتي الولادة والموت مشكلة فلسفية حقيقية. عندما نقول بالولادة فأننا نشير إلى أن شيء ما دخل إلينا من اللاوجود وفكرة الموت تعني المرور إلى اللاوجود. لأنه لا وجود للاوجود فالولادة غير ممكنة وليس ثمة أفق في اللاوجود ليكون هناك فناء أو موت لينتقل الموجودات إليه. يعلق على المسألة قائلًا: “يخطئ الإغريق بقولهم أن الأشياء تظهر إلى الوجود ثم تختفي. لا شيء يظهر أو يختفي عن الوجود، هناك إنفصال وامتزاج لما هو موجود وحسب”[3].

البذور

إذن، من أين تأتي هذه الأشياء الموجودة كلها؟ هل تأتي من العدم أم أنها نتجت من أشياء أخرى؟ للإجابة عن هذا السؤال يقتضي علينا العودة إلى السديم أو الحساء الأولي. هناك مبدأ رئيس في فلسفة أناكساغوراس، كل شيء موجود في كل شيء، يدل المبدأ هذا أن الأشياء موجدة منذ الأزل. لكن كيف كانت تلك الكينونة؟

الوجود –وفقًا لأناكساغوراس – لا يأتي من اللا وجود، بل كل ما هو موجود كائن منذ الأزل على صورة بذور. هذه البذور لا نهائية من حيث الكمية، لكنها تختلف في أشكالها وألوانها ومذاقها وبالتالي فهي لا تتشابه. كل الأشياء كانت توجود في الكل معًا ممتزجةً[6].

وفقًا للمبدأ المذكور فإن الأشياء غير نقية تمامًا، لا توجد مجاميع منفصلة للبذور، بل هي تتجاور، وتتجاوز تخومها المفترضة أيضا لتكون مضمرة في غيرها. يستقل الشيء عن السديم من خلال انفصال عناصره عن الكتلة السديمية بواسطة الوامة الموجودة للأبد.

الحجة الغائية عند أناكساغوراس

هنا نتساءل، لماذا احتاج أناكساغوراس إلى إدخال العقل في معادلة الخلق؟ لماذا لم يكتفي مثل سابقيه بفكرة البذور والسديم؟ هنا تبرز الثنائية التي ستكتسح الفلسفة بلا هوادة، ثنائية المادة والعقل. ما دفعه إلى هذا القول هو أنه رفض قدرة المادة وحدها على خلق عالم متسق ومتماسك وجميل. لم يجد في المادة ما يساعدها على أن تتحرر من المادة نفسها لتكوين كيان متسق وجميل؛ فجاء بالعقل كعنصر متميز ومفكر يمكنه أن يقود إلى خلق حسن.

مكانة أناكساغوراس في الفلسفة

الفيلسوف الذي وهب الفلسفة لأثينا، يعيد ترتيب حسابات الفلسفة الكونية والأنطولوجية والمعرفية. جاءت فلسفته ردًا على النزعة المادية في الفلسفة، ركز سابقوه على العنصر أو العناصر القصوى التي يتشكل منها العالم. بيد أن أناكساغوراس لم يرد أن يتمسك بعنصر ما لتفسير الكثرة الماثلة في العالم. مضى قدمًا نحو تخوم أكثر حرية ورعبًا، العقل-ناوس، هذا المفهوم هو الحجر الأساس في فلسفته. العقل هو الذي حرر الأشياء من الكتلة السديمية البدائية واعطاها هوية.

المصادر:

  1. ولتر ستيس, تاريخ الفلسفة اليونانية, ترجمة مجاهد عبدالمنعم, دار الثقافة, ص87.
  2. https://www.britannica.com/biography/Anaxagoras
  3. https://plato.stanford.edu/entries/anaxagoras/
  4. عزت قرني, الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون, ص71.
  5. ولتر ستيس, مصدر سابق, ص93.
  6. https://iep.utm.edu/anaxagor/

أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

هذه المقالة هي الجزء 8 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أمبادوكليس وصياغة الكوزمولوجيا الوردية

يبدو أن الفلسفة تحتفظ دومًا بشيء من الميثة ذلك لأنها لا تكف عن التواصل مع اللا-فلسفة والقبفلسفة في نحتها للمفاهيم. نحت سرديات ومفاهيم جديدة يمر دائما من اللحظات التي سبقت مما يعرف بالتفكير الفلسفي والمنطقي, يعد ذلك عادة في الفلسفة.  إذا ما اخذنا بتعريف دولوز للفسلفة كترسانة معرفية لإبداع المفاهيم نجد أن التفلسف الأصيل يشترط انطلاقة أصيلة. الانطلاقة تلك تحدث في الماضي لا بوصفه أول الخط إنما بوصفه الكاوس/السديم المتمثل بالاقتصاد الفكري والجمالي اللانهائي. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا من خلال بعض القصائد الفلسفية.

إن فلسفة أمبادوكليس قائمة على أساس متوتر, فهي تقول الجديد من خلال القديم, تمنطق الميثوي عبر أسطرة العالمي/الطبيعي. ذلك التوتر ربما كان انعكاسًا للتوتر السياسي في بلاد الإغريق آنذاك. نعرف من سيرة أمبادوكلس بأنه شاهد على أزمات سياسية كبيرة وقد تم نفيه أيضًا من بلاده, وهذا النفي أدى إلى اغتراب فلسفي بدوره, حيث يعود الفيلسوف إلى هزيود في تصوره للانحدار من العصر الذهبي إلى العصور الأقل سعادة ومعنًى.

حول الفيلسوف الوردي أمبادوكليس

كما هي الحال مع فلسفته, سيرة أمبادوكليس فيها الكثير من اللبس؛ لوجود خرافات وأساطير حول حياته ومماته. هو من فلاسفة ما قبل سقراط, ولد في (آكراغاس-Acragas) حوالي عام 490 ق.م وتوفي في في عام 444 ق.م. في (بيلوبينيز- Peloponness). نُسبت إليه الكثير من الألقاب بما في ذلك لقب الإله, ولقبه أرسطوطاليس بمؤسس البلاغة, في حين اعتبره جالينوس مؤسس الطب. كان له مريدين, اعتبروه شخصية مقدسة, وروجوا حوله الكثير من الأساطير والحكايات الخرافية. حادثة موته تعد قصة شعرية مميزة, فحسب الشاعر الإنكليزي ماثيو أرنولد, ألقى أمبادوكليس نفسه في حفرة بركانية في جبل إتنا لإقناع تابعيه بألوهيته.

من المعروف أنه كان فيلسوفًا وشاعرًا صوفيًا تأثره بالتراث الشعري الإغريقي وفلسفة فيثاغورس. له الكثير من الكتابات, لكنها فقدت ولم تبقى منها سوى 400 بيتًا من قصيدته “حول الطبيعة” وأقل من 100 بيت من قصيدة “التطهير”. [1]

أمبادوكليس والمقترب العلمي

رغم الهالة الأسطورية حول حياته والغموض الميتافيزيقي في آراءه الفلسفية, إلا أنه كان يتمتع بحس علمي فريد. هو أول من كشف الهواء الجوي من خلال التجربة, وله نظرية حول تطور الكائنات رغم غرابتها تحتفظ بشيء من روح العلم الطبيعي المعاصر. حسب نظريته في التطور, في البداية كانت هناك صنوف لا حصر لها من المخلوقات الفانية, منتشرة في بقاع الأرض, مختلفة الأشكال إلا ما كان أبدعه من منظر للرائي, فكان هنالك برءوس بغير أعناق, وأذرعة بدون أكتاف, وأعين بغير جباه. نشأ عن ذلك كائنات زاحفة لها أيد لا يحصى عددها, كائنات لها وجوه وصدور تتجه اتجاهات مختلفة وكائنات لها أجساد الثيران ووجوه الإنسان وكائنات تجتمع فيها الذكورة والإنوثة معصا, لكنها كانت عقيمة لا تلد. ولم يستطيع البقاء من هذا كله إلا بعض الأشكال دون غيرها.[2].

الجذور الأربعة عند أمبادوكليس

يعتقد أمبادوكليس بوجود أربعة عناصر أصيلة وهي: الهواء, والتراب, والنار والماء. وهناك قوتان تتحكمان بهذه العناصر, وهما الحب والكراهية. تلك العناصر والقوى غير مخلوقة ولا فانية, فهي أزلية وأبدية, لا ينقص منها عنصر ولا يُضاف لها عنصر. هذه العناصر هي التي تخلق كل الأشياء الموجودة في الكون, فكل موجود/مخلوق هو في الأصل عبارة عن مقادر معين من امتزاج تلك العناصر. [3]

القوى الرئيسة وفق أمبادوكليس

عكس العناصر الأربعة الرئيسة، الموجودات فانية ولا يمكن لها أن تدوم للأبد, بمعنى فهي تُخلق وتُفنى. ما يجمع بين هذه العناصر هو قوة الحب (=الصداقة)، وما يفرق بينها وسبب بفناءها هو قوة الكراهية. هاتان القوتان سرمديتان، إذ لا مجال لنهاية الحب أو الكراهية, كما أنها لا تتصارع بل تتناوب. فعندما يكون كل شيء مؤتلفًا بفعل الصداقة (=الحب) وجدنا الكراهية تشق طريقها رويدًا رويدًا أو تطرد الصداقة بالتدريج إلى أن تؤول العناصر إلى دور الإنفصال التام، حيث تغيب الصداقة تمامًا. بعدئذ وبحركة معاكسة، تدلف الصداقة من جديد إلى الكون وتطرد منه الكراهية. [4]

حسب الشاعر الإغريقي هزيود فأن العالم ينحدر أخلاقيًا، بالمعنى الميتافيزيقي للأخلاق. فالعالم في البداية كان يسوده الخير, حيث كان العصر الذهبي, ومن ثم جاء العصر الفضي وتلاه البرونزي إلى أن جاء عصر الشقاء, أي العصر الحديدي. هذه السردية انتقدها أمبادوكليس، لكن ليس على نحو سفسطائي حيث أن العالم يتجه نحو الأفضل. يرى أمبادوكليس بأن العصر الأول كان العصر الذهبي، فكانت قوة الحب هي السائدة، لكن هذا العصر انتهى بسيطرة قوة الكراهية، ولكن العصر الذهبي جاء من جديد وانتهى بعد ذلك. هكذا دواليك، عصر يلي آخر بحركة دائرية.

نظرية المعرفة عند أمبادوكليس

لأمبادوكليس نظرية رائدة في الأبستمولوجيا، نظرية الشبيه يدرك الشبيه. فالأشياء الماثلة أمامنا في العالم، هي مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها نحن. فلم يعطي أمبادوكليس أي مكانة إستثنائية للإنسان، فهو شيء موجود بجانب الأشياء الأخرى. قدم شرحًا تفصيليًا للآلية التي ندرك بها الأشياء. نظريته التي انتقدها أرسطو وثيوفراستوس، هي أن كل الأشياء تعطي دفقًا لتدخل المسامات في أعضاء الحس. تلك الدفقات المسامات ذات أشكال وأحجام مختلفة، وبالتالي فإن بعض الدفقات السائلة فقط تدخل أعضاء حسية معينة إذا اجتمعت مع مسام بالحجم والشكل الصحيحين لاستيعابها. علاوة على ذلك، يتحقق الإدراك من خلال جذب التشبيهات: ندرك الألوان الفاتحة بالنار في العين، والألوان الداكنة من خلال الماء، وتتحقق الرائحة من خلال وجود الهواء في الخياشيم. [5]

مكانة أمبادوكليس في الفلسفة

رغم مرور أكثر من ألفين وخمسمائة عام، إلا أن آراء أمبادوكليس لا زالت قادرة على خلق الدهشة. يقدم أمبادوكليس صياغة وردية للكوزمولوجيا بتدشينه الحب والكراهية في عملية الخلق. هذه النظرة الرومانسية للعالم جديرة بالاهتمام الفكري والأدبي. فالأشياء مكونة من نفس العناصر التي نتكون منها، وهذا يفسح لنا مجالًا لأن ندركها. فنحن نعي الماء لوجود الماء في تكويننا وندرك الهواء وما هو من التراب والنار الآلية ذاتها. كما أن الطرح الأخلاقي حول تعاقب العصور، الذهبية والحديدية، يعطينا أملًا بنهاية المعاناة, كما هو محبط لأن هذه المعاناة لن تنتهي على نحو أبدي، فهي ستعود بفضل سيطرة الكراهية بشكل دوري.

اقرأ أيضًا هيراكليتس واستحالة الهوية

المصادر:

  1. https://www.britannica.com/biography/Empedocles
  2. برتراند راسل, تاريخ الفلسفة الغربية الكتاب الأول, ترجمة زكي نجيب, الهيئة المصرية, ص109.
  3. https://plato.stanford.edu/entries/empedocles/#RootForc
  4. اميل برهييه, تاريخ الفلسفة, م1, ترجمة جورج طرابيشي, دار الطليعة, ص89-90.
  5. https://iep.utm.edu/empedocl/#H5

هيراكليتس واستحالة الهوية

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

هيراكليتس واستحالة الهوية

يمثل بعض الفلاسفة، القدماء على وجه التحديد، رمزية تاريخية لا غير، لنقلهم الأسئلة الكونية من المحافل الدينية إلى دار الفلسفة. بيد أن هيراكليتس لا يزال يحتفظ بملكيته في الفلسفة، فهو ملهم الكثير من الفلاسفة ومقولاته تحولت إلى سرديات يقف عندها البحث الفلسفي إلى يومنا هذا. كان هيراكليتس موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه كما يعد مصدرًا رئيسًا في المادية الماركسية. ويعترف هيغل بقيمته الفلسفية ويعطيه نيتشه اعتبارًا فلسفيًا كبيرًا، أما هايدغر فيجد فيه مادة دسمة للتأويل. فكما اعتبر هيراكليتس العالم كرموز استوجب تأويلها يرى هايدغر في مقولاته رموزًا مشفرة تحتاج التأويل. في هذا المقال سنسلط الضوء على استحالة الهوية عند هيراكليتس. ويُكتب بالعربية هيراكليتيس أو هيراكليتس أو هرقليطس.

حياة هيراكليتيس

تبدأ مع هيراكليتس مرحلة جديدة من تاريخ الفلسفة من حيث موقعة الحدث الفلسفي أو فيما يتعلق بالمنهج. ولد الفيلسوف في أفيسيوس في العقد الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. لا نكاد نعرف شيئا عن حياته سوى ملاحظات نقلها بعض المؤرخين مثل ديوجين اللايرتسي. بالنسبة لفلسفته، بقت بعض الشذرات المنسوبة إليه مع مناقشة أفلاطون وأرسطوطاليس النقدية لآرائه. ثمة سمات مهمة في شخصيته يستوجب ذكرها لأهميتها في تشريح أفكاره ونظرياته المثيرة للجدل.

السخرية عن هيراكليتيس

كان هيراكليتيس يسخر من معظم فلاسفة وشعراء اليونان مثل هومر وهزيود. كان يعتبر نفسه الفيلسوف الأوحد ويزدري الآخرين جميعًا. هذه المركزية حول الذات دفعته إلى الانتحار.

مهاجمة الدين

كان ينفي القدسية عن الدين ويتهم رجال الدين بالمتاجرة بالمقدس.

الانعزال

مال هيراكليتيس إلى العزلة، وعُرف بشخصيته المكتئبة؛ فسمي بالفيلسوف الباكي. [1]

الصيرورة عن هيراقليطس

إن المساهمة الهيراكليتية في فكرة الصيرورة ما زالت تحتفظ ببريقها في الفلسفة وبصورة جمالية في الأدب والفن. مع أنها كانت تمثل حجر الزاوية في الفلسفة الملطية بيد أن تناول هيراكليتس لها يعد منعطفًا أصيلًا في الفلسفة.

هذا ما جعل من هيراكليتس فيلسوفًا معروفًا هو مقولته:

“لا ننزل إلى نفس النهر مرتين”

ويشكل هذا القول جوهر فلسفته.

يؤمن هيراكليتس بما يمكن تسميته باستحالة الهوية، فيقول: “لا شيء يستقر على حال، لا شيء يدوم” معلنًا لا واقعية الواقع [2].

فما نسميه بالواقع ما هو سوى جريان مستمر على جميع الأصعدة: الأنطولوجي، الكوزمولوجي، الأخلاقي والأبستومولوجي. لا يوجد استقرار مادي، ولا وجود لرأي صائب دومًا ولا قيمة أخلاقية تدوم. ذلك لأن “الزمن طفل يلعب بالدمى”[3]. فيقول” ننزل إلى النهر نفسه ولا ننزل، نكون ولا نكون”، وأيضًا “لا يمكن النزول إلى النهر نفسه مرتين”. [4]

اللوغوس وصراع الأضداد

إن النزعة الصوفية لدى هيراكليتس تجعله يميل إلى السردية الصوفية الأشهر، وحدة الوجود، وجود واحد وكثير في الحين نفسه. غير أن هذه الوحدة لا تشبه الوحدة الملطية، طاليس والماء، أناكسيماندر والأبيرون، أناكسيمينس والهواء. فهي وحدة توجد بوجود الاختلاف والكثرة مع أن هيراكليتس نفسه يتمسك بمبدأ العنصر الواحد، النار.

يعلن هيراكليتس بأن “العالم لم يخلقه إله أو بشر، فهو كان ويكون وسيكون إلى الأبد” [4] وإن هذا العالم يعيش حالة صراع دون أي أمل بالخلاص ذلك لأن العالم ما هو إلا هذا الصراع. فيقول على ذلك “إن الواحد لا يوجد إلا في توتر الأضداد، ذلك التوتر الأساسي والجوهري لوحدة الواحد”[5] ويعلق على جوهرية الصراع بقوله “علينا أن نعرف أن الحرب هي العامل المشترك في كل شيء، وأن الصراع هو العدالة، وأن جميع الأشياء تظهر وتختفي من خلال الصراع”[5].

وكان يعتبر ما قاله هومر (ينبغي أن ينتهي الصراع بين الآلهة والناس) بقوله “فهو لم يدرك أنه يدعو لخراب العالم، فلو استجيبت دعوته لاختفت جميع الأشياء”.[6] وهذا الصراع محكوم بعقل كلي، اللوغوس من خلال الطريق الصاعد والهابط التي تشكل تناغمًا خفيًا في الكون.

نظرية المعرفة

يدعي هيراكليتس بأنه تعلم ذاتيًا ودون حاجة إلى معلم. هذا الإدعاء من شأنه أن يثير الإشكال الإبستمولوجي التقليدي، أي مصدر المعرفة. فهل المعرفة/التعلم تذكر وحسب كما زعم سقراط؟ أم أن الحواس هي مصادر معرفتنا كما ذهب السفسطائيون؟

الاقتصاد الهيراكليتي لا يعتمد على مصدر واحد فقط. ويعتقد هيراكليتس بأن الكل واحد والواحد هو الله/لوغوس وهذا الكل/العالم منظم بشكل مفهوم. وما يساعدنا على الفهم هو العقل، التجربة الحسية.

بالنسبة للحواس يقول “أفضل ما هو قابل لأن يُرى ويُسمع ويُجرب” لكنه في شذرة أخرى يقلل من شأن الحواس لصالح العقل، العقل في علاقته مع الفهم اللغوي ويقول “تمثل العيون والآذان شهودًا مساكين لمن هم يمتلكون روح البرابرة”[7] مع أن العالم لا يوجد بل يصير إلا أنه يُفهم، فاستحالة الهوية المتأصلة في فلسفة هيراكليتس المادية لا تغطي الحقل الإبستمولوجي.

المعرفة ممكنة في عالم غير ممكن الوجود. بيد أنه فهم العالم عن طريق العقل لا يعني بأن الحقيقة توجد في العقل أو يمكن القبض عليها من خلال توجيه عين العقل نحو جهة الحقيقة.

إن العالم الماثل أمامنا تنوجد حقيقته داخل اللغة، اليونانية على سبيل الحصر. فاللوغوس لا يقدم حقيقته كما هي بل على شكل رموز مشفرة وأسرار واقعة في علامات لغوية؛ إن طريق المعرفة غير مباشر. فيقول بأن “الإله الذي توجد كاهنته في دلفي لا ينطق بالمعنى ولا يخفيه بل يكشف عنه بالرمز وحسب”. بذا، فأن هيراكليتس الصوفي يتفلسف ألغازًا وباستخدام أدوات خطابية غير مفهومة وسمي على أثر ذلك بالفيلسوف “الغامض”. [7].

رؤية هيراكليتس للعالم

إن هيراكليتس يصور العالم من خلال الصراع الموجود فيه، بحيث كل ما هو ماثل في العالم نتيجة حتمية للصراع الموجود بين الأضداد. هذا التصور له أبعاد كثيرة، فمن الناحية الأبستومولوجية فالحقيقة لا ترقد هنا أو هناك في حالة مستقرة. ومن الناحية الكوزمولوجية فالشيء محكوم بالتغيير والصيرورة وهو في حالة جريان مستمر. وحتى الجانب الأخلاقي لا يسلم من هذا الصراع، فما هو صائب يغدو خطأ والعكس صحيح. مع أن هيراكليتس كان ضد الله الدين والكهنوت لكنه يحيل العالم كله إليه، فهو الكل، وما الأشياء إلا وحداته وعناصره.

ما هي النفعية؟

هل يمكن أن يبرر هتلرالمحرقة؟ لأن النهاية أو الغاية كانت لتنقية الجنس البشري؟ أو يمكن أن يبرر ستالين ذبحه للملايين لأنه كان يحاول تحقيق يوتوبيا شيوعية؟ أيمكن للأميركيين في القرن الثامن عشر تبرير العبودية على أساس أنها قدمت نتيجة جيدة لغالبية الأمريكيين؟ من المؤكد أن الغالبية استفادت من عمل الرقيق الرخيص، على الرغم من أن حياة العبيد السود كانت غير إنسانية! هل يمكن أن تصبح عبدًا لمعبودًا أكبر يسمى ” الصالح العام”؟ من يحظى بالقيمة الأكبر؟ أنت (كوحدة بناء المجتمع) أم الصالح العام؟ وهل هناك من يمكن أن يستحق الإزدراء؟ هل الغاية تبرر الوسيلة؟ وما هي النفعية؟

تخيل أن هناك رجلاً يُدعى “مراد”، رجل فقير وعاطل عن العمل في إحدى أحياء القاهرة الكبرى. يعول أسرة مكونة من أربع أفراد أُخر. زوجته “سارة” ذات الصحة الهزيلة، فهي مريضة بمرض مزمن، تكلفها أدويته قرابة 300 جنيهُا مصريًا كل أسبوع. وأطفالهم الصغار س، ص، ع لم يستطيعوا الحصول على أدوات التعليم الكافية كأقرانهم لمحدودية دخل والدهم. فلا يستطيعون تلقي دروسًا خاصة لتحسين مستواهم الدراسي- انتظر، إن ظروفهم تلك تمنعم من الانتظام بالدراسة في المدرسة أساسًا.

لا يوجد مصدر دخل لمراد، ليس لديه أملاك أو حيازات يمكنه بيعها مقابل المال. بل ليس لديه أي أصدقاء يمكنهم مساعدته، فقد قطع صديقه الوحيد “عادل” كل السُبل بينهما لكونه كثير المشاكل والشكوى والاقتراض.

الآن يجب عليه التصرف لكونه مسئولاً عن تلك الأرواح -على الأقل-.

تحدثت إليه نفسه، قائلة: لا يوجد لديك سوى بديلين: إما أن يتركهم لتدركهم رحمات الله. أو أن يحصل على المال عن طريق السرقة، فيسرق من صديقه عادل ما يغطي احتياجات أسرته.

دعنا نضع هذا الموقف أمام معيارين. بالأحرى مبدأين.

الأول نعلم جميعًا أن السرقة خطأً أخلاقيًا. فإن فعل -من هذا المبدأ- سنقول أن ما فعله مُراد- السرقة من صديقه عادل- خطأ أخلاقيًا!

المبدأ الثاني، سيخبرك بأن ما فعله مراد جائز وصحيح أخلاقيًا!

ما رأيك أنت الآن، وإلى أي مبدأ ستنتمي؟

فكر، أليس فعل السرقة خطأ؟

ألا يلحق بالضرر على الآخر؟

أحاجة عادل للمال بنفس قدر حاجة مراد إليه؟

الفعل ورد الفعل

بالنسبة للمنتمي للمبدأ الثاني، فإن فعل السرقة في حد ذاته ليس سيئ أو جيد، فهو فعل عادي. فما يجعله سيئ أو جيد هو العواقب التي تنتج عنه.

ففي المثال السابق ذكره، سرق مراد من شخص واحد ( صديقه عادل)  لديه حاجة أقل للمال. ومن ثم، أنفقه على ثلاثة أشخاص لديهم حاجة أكبر إليه. إذًا فإن سرقة مراد من عادل هي وسيلة إن استُخدمت الأموال في علاج سارة والرسوم الدراسية لـ س وص وع. يستند هذا التبرير على أن فوائد السرقة تفوق الخسائر الناجمة عنها. ففعل مراد من السرقة هو حق أخلاقيًا لأن إيجابياته  أكثر من سلبياته. وبعبارة أخرى، أنتجت السرقة المزيد من المتعة أو السعادة من الألم أو التعاسة، هذه هي النفعية.

ما هو مبدأ النفعية؟

النفعية هي شكل من أشكال التبعية. من أجل التبعية، يعتمد الصواب الأخلاقي أو الخطأ في الفعل على العواقب التي ينتجها. وبناءً على ذلك، فإن الفعل الذي تفوق عواقبه السلبية النتائج الإيجابية يعتبر خطأً أخلاقيًا. في حين أن الفعل الذي تفوق عواقبه الإيجابية النتائج السلبية يعتبر صحيحًا أخلاقيًا. على أسس نفعية، فإن الأفعال التي تفيد قِلة من الناس وتضر بمزيد من الناس ستعتبر خاطئة أخلاقيًا. بينما تُعتبر الأفعال التي تضر بعدد أقل من الناس وتفيد عدد أكثر من الناس صحيحة أخلاقيًا.

يمكن وصف المنفعة والضرر بأكثر من طريقة؛ بالنسبة للنفعيين الكلاسيكيين مثل جيريمي بنثام– Jeremy Bentham وجون ستيوارت ميل-John Stuart Mill، تُعرف النفعية من حيث السعادة/التعاسة والمتعة/الألم. من هذا المنطلق، فإن السلوكيات التي تسبب ألمًا/ تعاسة أقل، ومتعة/سعادة أكثر يمكن اعتبارها  صحيحة أخلاقيا، والعكس صحيح.

على الرغم من أن المتعة والسعادة يمكن أن يكون لهما معانِ مختلفة، إلا أنه في هذا السياق سنعاملهما على أنهما مترادفان.

أين القلق إذًا؟

قلق النفعيين هو كيفية زيادة الفائدة. فتستند نظريتهم الأخلاقية على مبدأ المنفعة الذي ينص على أن “العمل الصحيح أخلاقيًا هو العمل الذي ينتج خيرًا أكثر”

العمل الخاطئ أخلاقيًا هو الذي يؤدي إلى الحد الأقصى من الخير. على سبيل المثال، قد يجادل النفعي أنه على الرغم من أن بعض اللصوص المسلحين سرقوا أحد البنوك في عملية سرقة، طالما أن هناك عددا أكبر من الأشخاص الذين يستفيدون من السرقة  أكثر من الأشخاص الذين يعانون من السرقة فإن السرقة ستكون صحيحة أخلاقيا وليست خطأ أخلاقي. وعلى هذه الفرضية النفعية, إذا كان المزيد من الناس يعانون من السرقة بينما يستفيد منها عدد أقل من الناس, ستكون السرقة خطأً أخلاقيًا!

ما الفرق بين القاعدة النفعية والقاعدة الأخلاقية؟

من الملاحظ أن النفعية تعارض علم الأخلاق، فالنظرية الأخلاقية تقول أنه كعوامل أخلاقية لدينا واجبات أو التزامات معينة، يتم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الواجبات أو الالتزامات من حيث القواعد. الفرق بين القاعدة النفعية والقاعدة الأخلاقية هو أنه وفقا للقاعدة النفعية، فإن التصرف وفقا للقاعدة صحيح، فإن قبلت واتُبعت على نطاق واسع، ستنتج الأكثر فائدة. ووفقًا لعلم الأخلاق، ما إذا كانت عواقب أفعالنا إيجابية أو سلبية لا تحدد صوابهم الأخلاقي أو الخطأ الأخلاقي. ما يحدد صوابهم الأخلاقي أو خطأهم الأخلاقي هو ما إذا كنا نتصرف أو لا نتصرف وفقا لواجبنا (إذ يستند الواجب إلى قواعد لا تبررها في حد ذاتها عواقب قبولها واتباعها على نطاق واسع).

ما هي بعض أنواع النفعية؟

كل ما ذكر أعلاه هو وصف عام، وفي الواقع هناك عدة وجهات نظر من النفعية يمكن تمييزها كالآتي:

النفعية السلبية

هذا النوع من النفعية يتطلب تعزيز أقل قدر من المعاناة لأكبر عدد من الناس. هذا على النقيض من جميع أنواع النفعية الأخرى (النفعية العامة أو “الإيجابية”) التي تستند إلى القاعدة العكسية تقديم أكبر قدر من المتعة لأكبر عدد من الناس. ويأتي تبرير النفعية السلبية بأن أكبر الأضرار هي أكثر تبعية (الضرر هو نتيجة أكبر من المتعة) من أعظم المتعة، وبالتالي يجب أن يكون لها تأثير أكبر على صنع القرار.

إذًا تخيل أن تؤدي بنا النفعية السلبية إلى اتباع أقل الطرق إيلامًا لقتل جميع البشر، هذا لأنه بعد وفاة الجميع، لن يكون هناك المزيد من المعاناة على الإطلاق للبشرية، مما يضمن وجود أقل قدر من الألم في العالم، ذلك هو الانتقاد الموُجهة لتلك الرؤيةز أما الحجة المضادة لهذا هو أن للألم والمعاناة الأولوية على المتعة. ولكن يثير ذلك مسألة كم من الألم يستحق أو يعادل كم من المتعة وكيف يمكن تحديد ذلك؟

النفعية الواعية   

هذا هو النوع من النفعية الذي يعطي الاعتبار على قدم المساواة لجميع الكائنات الحية -ليس البشرفقط-. لذلك، يمكن أن تشمل هذه النظرة النفعية  الآخرين -عند النظر في نوع من النفعية، يجب أن تسأل عما إذا كانت تراعي الحيوانات الأخرى غير البشر أم لا، سواء كانت تلك “الواعية” أم لا. فالكائنات الحية جميعها (قرودًا، وكلابًا وقططًا… وسائر الحيوانات الأخرى) تعتبر واعية وتشعر بالألم. وبالتالي، يجب أن نوليها اعتبار متساو.

يجادل النقاد بأن احتياجات البشر أكثر أهمية من احتياجات الحيوانات الأخرى لأن البشر أكثر ذكاء ، وذكائهم هو الذي يجلب السعادة للجميع.

الحجة المضادة لذلك هي أن هذه الفكرة ستنطبق أيضا على البشر أنفسهم، فستصنف احتياجات البشر الأكثر ذكاء على أنها أكثرأهمية من تلك الأقل ذكاء!

فهل تلك هي فكرة مقبولة؟ وستتقدم النفع للجميع بشكل متكافئ؟

متوسط النفعية

دعنا نسأل مرة أخرى، إذا كانت تعتمد النفعية على تحقيق النفع والسعادة مقابل آلام ومعاناة أقل، فكيف نقرر مقدار أو متوسط “المنفعة” التي يجب يتمتع بها المجتمع حتى نتمكن من المقارنة وتحديد أفضل طريقة للتصرف؟

يشير متوسط النفعية إلى أننا نقيس الفائدة للأفراد عن طريق حساب متوسط المنفعة (معرفة فائدة جميع الناس ثم القسمة على عدد الأشخاص) من هؤلاء الأفراد.

مثلاً، حدد للأفراد متوسط فائدة/سعادة هو 90 (حيث الحد الأقصى للشخص هو100). معظم الناس هنا سعداء جدا، لذلك إذا قمت بإضافة شخص ما مع متوسط فائدة/سعادة فقط 80 (لا يزال سعيدًا جدًا)، متوسط النفعية ستقضي بأن ذلك عمل غير أخلاقي، لأن أقل 80 من شأنه أن يجلب متوسط فائدة (90) من الآخرين.

متوسط النفعية يدعو إلى إزالة جميع الأفراد الذين هم أقل من المتوسط في السعادة/النفع. وهذا من شأنه أن يخلق دوامة، فمن بعد إزالة المتوسط أدناه سيكون هناك متوسط جديد، وبالتالي بعض الناس الذين كانوا فوق المتوسط (قبل أن تصبح أقل من المتوسط) سيزالوا. سيستمر هذا حتى لا يكون هناك سوى عدد قليل من أسعد الأفراد على حد سواء!

حجة مضادة لهذا هو أنه من خلال إزالة الناس حزينة بعيدا عن الأفراد أكثر سعادة، فإن متوسط فائدة/السعادة للمجتمع تنخفض، فسيكون هناك شعور المجتمع من الخسارة والشفقة على تلك الفئة التي أزيلت.

النفعية الكلية

هذه وجهة نظر بديلة لمتوسط النفعية وتتحول من مجرد مفارقة الإضافة إلى القياس الأفضل للسعادة/المنفعة وذلك من خلال المنفعة/السعادة الكلية التي يمتلكها المجتمع.

ومع ذلك، فإن هذا النوع تشوبه بعض الشوائب، على سبيل المثال، المجتمع الذي يحتوي على 1 مليون شخص لديهم جميعا فائدة منخفضة، دعنا نقول فقط 1 من أصل 100، سيكون له فائدة إجمالية قدرها 1 مليون والتي ستكون أكثر تفضيلا لمجتمع من 1,000 شخص فقط سعداء جميعا بفائدة 100 لكل منهم.

الاستنتاج هنا هو أن المجتمع الأكبر سكانًا ولكن في المتوسط أقل سعادة هو أكثر تفضيلاً من مجتمع أكثر سعادة ولكنه أقل سكانًا.

النفعية الدافعة

يتضمن هذا النوع من النفعية دوافع الناس لأفعالهم ويعطي لها وزنا عند تحديد ما إذا كان الإجراء صحيحا أو خاطئًا أخلاقيًا. إذا كان من المعروف أن شخصا ما يقوم بعمل جيد على ما يبدو بدوافع غير أخلاقية، فقد يعتبر هذا الإجراء غير أخلاقي عند استخدام النفعية الدافعة. تشير النفعية الدافعة أيضا إلى غرس الدوافع التي ستكون ذات قيمة عملية في أنفسنا من خلال التدريس حتى نفعل الشيء الصحيح عندما يتعلق الأمر به.

باختصار، تعتبر النفعية الدافعة الحالة النفسية للبشرعند الرغبة في أو القيام بأفعال معينة.

القاعدة النفعية

القاعدة  النفعية تتعلق بالقواعد الأخلاقية العامة التي يجب عليك اتباعها عند اتخاذ القرارات. من المفترض أن تسهل هذه القواعد العمل الأخلاقي الذي يزيد من المتعة بغض النظر عن كيفية تطبيقها. فإذا كانت القاعدة العامة لا تقوم بالدور المطلوب، توضع قواعد فرعية أو قواعد استثنائية عامة بحيث تعمل لصالح تعظيم السعادة/المنفعة.

على سبيل المثال، قد تكون القاعدة العامة المتبعة هي عدم قتل إنسان مطلقا، وقد يكون الاستثناء من هذه القاعدة أن القتل مقبول عندما يتم دفاعا عن النفس. ألا ترى أن هذا يجعل النفعية أكثر عملية  وقابلية للاستخدام في حياتنا اليومية؟ إذ لا توجد حاجة إلى حسابات طويلة أو تحليل نقدي. ومع ذلك، فإن العديد من المواقف الصعبة  لن يكون لها قواعد. وربما لن نكون قادرين على وضع قواعد كافية لاستيعاب جميع الحالات إذا حاولنا. يجادل العديد من النقاد بأن تحليل القواعد العامة الأصلية من أجل إضافة المزيد من قواعد الاستثناء العامة الأخلاقية هو نفس عملية النفعية.

الفعل النفعي

من منظور الفعل النفعي، نحن مطالبون بتعزيز تلك الأعمال التي ستؤدي إلى أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس. فعواقب فعل إعطاء المال للجمعيات الخيرية ستعتبر صحيحة في النفعية، لأن المال يزيد من سعادة كثير من الناس، بدلا من نفسك فقط.

كما تتطلب هذه الرؤية من النفعية أخذ كل حالة على حدة وأن تجرى الحسابات المناسبة لكل منها. فتُحسب احتمالات العواقب لكل إجراء محتمل ومن ثم يجب اختيار الإجراء الذي من المحتمل أن يؤدي إلى أكبر قدر من السعادة.

النفعية ذات المستويين

النفعية على مستويين هي نظرية النفعية للأخلاق، فيجب أن تستند القرارات الأخلاقية للشخص إلى مجموعة من القواعد الأخلاقية. إلا في بعض الحالات النادرة التي يكون فيها من الأنسب الانخراط في مستوى “حَرِج” من التفكير الأخلاقي.

المستوى الأول يستخدم القاعدة النفعية (على أساس الحدس لدينا) لأنها فعالة (في كل من الوقت والتأثير) . ومع ذلك، يستخدم المستوى الثاني من النفعية عندما يتطلب الموقف المزيد من التفكير والتفكير الفعال.

هذا النظام من استخدام القواعد الأخلاقية العامة للقرارات البسيطة اليومية و التحليل الجاد والحساب للقرارات هو الأكثر أهمية إذ يحاول اتخاذ أفضل ما  في المستويين  من النفعية وجعلها أكثر عملية. المشكلة الواضحة لهذه النفعية تكمن في تحديد متى نستخدم القاعدة النفعية ومتى نستخدم الفعل النفعي.

انتقادات

إن إنتاج أكبر قدر من الخير لأكبر عدد أمر جيد طالما أنك لا تؤذي شخصا تحبه حقا في هذه العملية, فما هي بعض الانتقادات الموجهة لمثل هذا المبدأ؟ هناك بالفعل انتقادات فمثلاً، عندما تتقابل النفعية مع المشاعر تنتج المشاكل، إليك بعض تلك الانتقادات.

1-  كثير من الناس يعتقدون أنه من الصعب قياس السعادة. ومن الصعب جدًا مقارنة مستويات الناس مختلفة من السعادة.

الرأي المضاد لهذا: هو أن هناك تقديرات تقريبية في الحياة الحقيقية. فنحن نستطيع إدراك ما إن كان شخص ما حزين أو سعيد أو أكثر سعادة من خلال الطريقة التي يتصرف بها.

2- يعتبر البعض في بعض أشكال النفعية، أن متعة السادي تساوي متعة الإيثار.

الرأي المضاد: في الواقع، ينتج عن السادية متعة قصيرة المدى ولكن على المدى الطويل يؤدي إلى معاناة وألم. وبالتالي فإن السماح بأي نوع من المتعة السادية سيؤدي في الواقع إلى متعة أقل في المستقبل. من ناحية أخرى، تؤدي الأفعال الإيثارية إلى المتعة والرضا على المدى القصير والطويل، وبالتالي لا يجب أن يعطيا نفس الوزن.

3- يقول البعض أنه على الرغم من أهمية السعادة، إلا أن هناك أشياء أخرى يجب مراعاتها عند اتخاذ قرارات مثل المساواة والعدالة.

قد يجادل النفعيون بأن الغرض الرئيسي من السعي لتحقيق أي عواقب أخرى مثل المساواة والعدالة. سيكون في الأساس تحقيق أقصى قدر من السعادة، لأن معظم الناس يشعرون بالسعادة عندما يشعرون بأنهم متساوون ويلمسون وجود العدالة في حياتهم.

مقياس السعادة

عندما تواجه قرارا أخلاقيا، كيف يمكنك معرفة مسار الفعل الذي سيزيد من السعادة؟ نحن لا نرى ما في أذهان الآخرين (الجماعة)، لذلك لا يمكننا معرفة ما إذا كانوا سعداء حقًا أو ما إذا كانوا يقولون أنهم كذلك. وحتى لو استطعنا إدراك السعادة، كيف يمكننا التنبؤ بما قد يسببها؟ على سبيل المثال، يعتقد الكثير من الناس أن كسب الكثير من المال سيجعلهم سعداء. لذا فإن أفضل خيار نفعي هو التأكد من أن كل شخص لديه وظيفة جيدة ومناسبة. ومع ذلك، يمكن القول بأن المال يجلب السعادة فقط على المدى القصير، وأنه قد يكون الخيارالأفضل لبعض الناس الآخرين. في الحقيقة نحن كبشر، لا نعرف كيف نجعل أنفسنا سعداء. فكيف يمكننا أن نثق بأنفسنا لاتخاذ قرارات أخلاقية على هذا الأساس.

هل الغاية تبرر الوسيلة؟

نود أن نختتم تلك المقالة بإعادة طرح وإعادة النظر في السؤال الذي بدأنا به: هل الغاية تبرر الوسيلة؟

لقد تناولنا النفعية لمحاولة الإجابة من وجهة نظرها، فيمكن الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. في حين أن الجواب معقول وصحيح للنفعيين، إلا أنه غير قابل للتصديق من قِبل آخرين، ولا سيما بالنسبة لعلماء الأخلاق.

المصادر

utilitarianism
utilitarian
journals
stanford
lumenlearning
corporatefinanceinstitute
tamu
stanford

أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

هذه المقالة هي الجزء 3 من 9 في سلسلة مدخل إلى فلسفة ما قبل سقراط

أناكسيمينس وإعادة تدوير عجلة الأصول

إن الاجوبة التي قدمها فلاسفة ملطية لا تمثل أهمية فلسفية بقدر السؤال الذي اخترقوا من خلاله تخوم التصور القبفلسفي. إن الخطوة الملطية بإتجاه الفلسفة كانت الأكثر جرأة ذلك لأنها نزعت الصفة المقدسة عن الكون. كأن العالم قد وضع كل ثروته الروحية والأخلاقية على هذا الرهان البدائي، فلم يبقى من شيء إلا وصار نحو/من الفلسفة. إن فقدان مصادر تلك الفلسفة الأصلية تحول بيننا وبين حقيقة ما كتبوه -كأجوبة- بيد أن السؤال الملطي الأول يبرز بقوة ويعلن عن ذلك الحضور الجليل. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بيار فرنان عن تلك الحقبة: “يعود تاريخ أفول المعتقدات الخرافية إلى اليوم الذي وضع فيه الحكماء الأوائل النظام الإنساني موضع النقاش وسعوا إلى تعريفه في ذاته، وإلى ترجمته في صيغ تكون في متناول الفكر”(1). في هذا المقال سوف نسلط الضوء على أناكسيمينس وكيف قام بإعادة تدوير عجلة الأصول.

ما يشبه سيرة ذاتية للفيلسوف أناكسيمينس

المعلومات المتوفرة حول أناكسيمينس قليلة جدًا، كان قد ولد في مدينة ملطية (التركية حاليًا) عام 585ق.م. فهو إبن يورستراتوس الملطي (Eurystratos of Miletus) ويقال بأنه قد تلمذ على يد أناكسيماندر وكذلك بارمنيدس وثمة من يقول بأنه قد تأثر بفيثاغورس أيضا. عاش تحت الحكم الفارسي لفترة وشاهد على النزاعات التي كانت موجودة بين أيونيا والسلطة اليونانية.

وفقًا لكاتب سير فلاسفة اليونان، ديوجين لايرتيوس، الذي عاش في القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، إن أناكسيمينس كان قد كتب آراءه الفلسفية في كتاب كان موجودًا حتى في العصر الهلنستي، إلا أن هذا الكتاب لم ينجو منه شيئًا. (2)

المبدأ الأول عند أناكسيمينس

إن الهواء في الأدبيات الإغريقية المبكرة، لم يكن يعتبر كعنصر طبيعي وحسب، بل روح العالم. لذا نجد بأن أناكسيمينس يتعامل مع الهواء على أساس أن كل ما هو موجود كان في البداية هواءا، وصار الهواء نارًا وحجارة وناسًا. ويرجع اختلاف ماهية الأشياء إلى الاختلاف الكمي في الهواء. (3)

التخلخل والتكثيف عند أناكسيمينس

وفقًا لأناكسيمينس، يختلف الهواء في جوهره عن أي شيء آخر حسب ندرته أو كثافته. فالهواء في أضعف حالاته يتحول إلى نار وعندما يتكثف يصير ريحًا، فغيمة وإن تكثف أكثر تحول إلى ماء فتراب ومن ثم حجارة. بإستخادم عمليتي التخلخل والتكثيف يفسر صيرورة الوجود المادي. التخلخل في الهواء يؤدي إلى الأشياء الأكثر خفة في حين أن عملية التكثيف تخلق ما هو أكثر سماكة.(3)

ما يعطي اعتبارًا فلسفيًا لآراء أناكسمينس هو أنه لم يستثني موجودًا كحالة خاصة في الوجود. ففي التصور الخرافي كان الإنسان يمثل وضعًا مميزًا في عملية الخلق. بل حتى الطبقات الإجتماعية لم تتمتع بنفس المزايا بحجة أنه ثمة فروق جوهرية بين طبقة وأخرى. الفلسفة الملطية رغم طابعها المادي المحض أثرت في الجوانب الإجتماعية أيضًا، فكون كل موجود مادة وحسب وكل إنسان يحمل الجوهر ذاته فلا مبرر لوجود طبقات تعطي رتب وجودية لطبقة دون غيرها ولفرد دون سواه.

الصيرورة بين أناكسيمينس وأناكسيماندر

إن صيرورة أناكسيماندر تحدث في زمن لانهائي، مكان بلا حد وماهية غير متعينة. إذ أن الأبيرون يفتقر إلى كل صفة من شأنها أن تعينه، سوى صفة الحركة. أما الصيرورة التي يفترضها أناكسيمينس تحدث داخل الهواء نفسه، وتعطيه الهوية في معادلة كمية. والاختلاف الآخر يكون على المستوى الأنطولوجي. إن الوجود حسب أناكسيماندر ضربة من العصيان والخروج عن الكيان السرمدي، الأبيرون، لذا فأن الوجود يحمل معنى سلبيًا في نظريته. في حين أن الوجود عند أناكسيمينس يحمل معنى إيجابيًا، الحضور الأوحد والأكثر إمكانًا ومعقولية.

إقرأ أيضا الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون

وجود الآلهة عند أناكسيمينس

مع أن أناكسيمينس سعى إلى اكتشاف السبب الأول للوجود وتنوع الظواهر والموجودات دون الاستعانة بأي خرافة أو إله. بيد أنه لم ينكر وجود الآلهة، إلا أن الآلهة هي بدورها قد وجدت من الهواء جنب إلى جنب باقي الموجودات. لكن إن صح هذا الادعاء فلا نعرف ما هو دور الآلهة تحديدًا طالما أن الوجود يصير وفقًا لعمليتين ماديتين، التخلخل والتكثيف.(4)

في كتابه مدينة الله، يبين القديس أغستينيوس أن أناكسيمينس لم ينكر وجود الله ولم يصمت حيال هذا الأمر. لكنه يؤكد بأن الآلهة قد ولدت هي نفسها من الهواء ولا يذكر أغستينيوس وظيفة الإله في عملية الخلق الأناكسيمنسية.(4)

يشير شيشرون (106-43 ق.م) إلى أن “أناكسيمينس قال بأن الهواء هو الإله وأنه يأتي إلى الوجود وهو لا يقاس ولانهائي ودائم الحركة”. (4)

تأثيره على الفلاسفة اللاحقين:

يرى البعض بأن تخبط اناكسيمانس الفلسفي كان بمثابة نكسة، خطوة إلى الوراء مقارنة بما قام به معلمه أناكسيماندر. فبعد أن استبعد الأخير الماء/العنصر الطاليسي كمبدأ أولي وأصيل القى التلميذ عنصرًا آخرًا، الهواء، أصلًا للعالم في فضاء التفلسف.

إن نظرية أناكسيمينس حول التغيير المتعاقب للمادة من خلال التخلخل والتكاثف لاقت رواجًا بين الكثير من الفلاسفة. قام هيراكليتس ببعض التطورات في النظرية وتناولها بارمنيدس نقدًا. وتبنى انكساغوراس جزئية نشأة المادة الأولية من نظرية أناكسمينس رغم الاختلافات الجذرية بينهما فيما يتعلق بماهية المادة. وجد أفلاطون في نظرية أناكسمينس تفسيرًا منطقيًا للتغيير أما في نظرية الأمراض لأبيقراط بات الهواء الأناكسمينسي حجر الأساس فيها وكذلك نظرية ديوجين الأبولوني(3).

ما تركه أناكسيمينس

أناكسيمينس (586-626ق.م) ترك خلفه كتابًا فقدناه مبكرًا، أي قبل ألفي عام. لا نعرف عنه الكثير، لا عن حياته ولا عن فلسفته، وما نعرف عنه يعود إلى كتابات أرسطو وأفلاطون وشيشرون وديوجين. فسر العالم تفسيرًا ماديًا محضًا، لم يترك للإله دورًا يلعبه في عملية الخلق رغم أنه لم ينكر وجوده. نظريته الأهم هي التي تقول بأن الوجود قائم على عمليتي التخلخل والتكثيف، وأن كل الموجودات لها الجوهر ذاته وهو الهواء الذي يتحرك ويصير بلا نهاية وبلا زمن.

المصادر:

  1. جان بيار فرنان، أصول الفكر اليوناني، ترجمة سليم حداد،ط2، مؤسسة مجد، 2008، ص118.
  2. https://www.philosophybasics.com/philosophers_anaximenes.html
  3. https://iep.utm.edu/anaximen/
  4. https://www.ancient.eu/Anaximenes/
Exit mobile version