البشر الأوائل، معجزة إفريقيا إلى كل العالم

تخيل معي أنك تقف الان أمام أقدم ملجئ سكنه البشر الأوائل (العقلاء). كيف يمكن أن تتخيل حياتهم؟ كيف تصرفوا؟ ماذا أكلوا؟ ما هو شكل علاقتهم الاجتماعية؟ سلوكهم سويًا ومع باقي الأنواع الحية، حياتهم الروحية وهل كان لهم واحدة أصلًا؟ في هذا التقرير سنطرح أمامكم كل ما نعرفه ونفترضه عن حياة الإنسان العاقل في مراحلها المبكرة. وسنناقش نشوء سلوكه الاجتماعي في أحد أهم المواقع التي عثر فيها على أقدم الآدلة الآثرية المرتبطة به. وهو كهف بلومبوس في جنوب إفريقيا.

نقف الان على الساحل الجنوبي لقارة إفريقيا، تسمى هذه المنطقة بالسافانا وتعتبر حارة جدًا اليوم لدرجة أنها باتت تشبه الصحاري. لكن الأمر لم يكن كذلك في المئة ألف سنة الماضية، كان مناخها ألطف وأكثر مطرًا وبرودة مما هو عليه اليوم. انتشرت في هذه المنطقة الهضاب والسهول. وكانت تحتوي مئات البحيرات التي لا تزال قيعانها الرملية تظهر على خرائط غوغل كنقاطٍ بيضاء اليوم. وحسب توزع هذه البحيرات وبما أن العديد من الكهوف تظهر في هذه المنطقة قسمها علماء الآثار إلى بقعتين: الأولى وهي منطقة البحيرات والثانية هي منطقة الكهوف والملاجئ الصخرية.(1)

ومباشرة قبالة الشاطئ على سفح التل القريب يقع <<كهف بلومبوس-Blombos cave>>. المسافة بين الكهف والبحر صغيرة نسبيًا وغير مناسبة لأعمال الصيد والمعيشة، لكنها لم تكن كذلك قبل الخمسة ألاف سنة الماضية. فقد كان مستوى مياه البحر أكثر انخفاضًا بنسبة 50 الى 100 متر مما هو عليه اليوم. ولكن عند بحلول سنة 5000 قبل الميلاد بدأت معدلات الحرارة بالإرتفاع عالميًا فارتفع معها مستوى المياه ووصل إلى ما هو عليه اليوم. إذا فقد كان أمام الكهف مساحات شاسعة للصيد وأعمال الحياة اليومية للبشر الأوائل.(1)

كهف بلومبوس
By Vincent Mourre / Inrap – Own work, CC BY-SA 3.0,

ماذا أكل البشر الأوائل؟

إن ما يميز كهف بلومبوس هو أنه سكن من فترات العصر الحجري القديم والوسيط. وهي فترة ممتدة من 125 ألف الى 75 ألف قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة تغيرت أنواع الطرائد التي اصطادها البشر. فبين سنة 125 و 82 ألف قبل الميلاد. اعتاد البشر على أكل الحيوانات صغيرة الحجم إجمالًا كالأسماك <<والوبريات-Hyraxes>> وهي حيوانات بحجم الأرانب بالإضافة لحيوان <<الخلد الشحمي- dune mole>> وحيوانات الماشية الصغيرة. ومع تقدم الفترات الزمنية وازدياد قدرات الإنسان ومعرفته تمكن من اصطياد الحيوانات الأكبر. فحوالي سنة 75 الف قبل اليوم كان قد تمكن من اصطياد أنواع الماشية الكبيرة وأكلها.

في الغالب فإن عملية الصيد هذه لم تكن تعتمد فقط على جودة وفعالية الأسلحة وأدوات الصيد. بل على معرفة الإنسان لفسيولوجيا هذه الحيوانات التي أراد صيدها. وفهمه أن أحجامها الكبيرة تعطيها سرعة أكبر لكنها بعد بضع ساعات ستحتاج للتوقف عندما ترتفع حرارة اجسادها وإلا ستموت. لذلك كان يتم اختيار أسرع الرجال لهذه المهمة وبعد 3 إلى 4 ساعات من مطاردة الحيوان كان يقع ميتًا. ويتحول لوجبة لذيذة على العشاء.(2)(3)

ماذا صنع البشر الأوائل؟

في الحقيقة، إن دراستنا للأسلحة والأدوات التي صنعها البشر الأوائل إن كان في جنوب إفريقيا أو في أي مكان أخر من العالم. لا تساعدنا فقط على فهم أنواع الحيوانات التي اصطادوها. بل على تحديد مستوى التطور الفكري للإنسان ومدى تطور سلوكه الاجتماعي.

نحن لسنا مجرد مفترسين صانعين للأدوات وصناعة الأدوات لا تعتمد فقط على تقنية التصنيع. فالبشر الأوائل كانوا بحاجة لمعرفة أنواع الصخور التي يجب استخدمها وأين يمكن أن توجد هذه الأنواع. بالإضافة لطريقة استخراجها ومن ثم تقنية ضربها لتتحول لسلاح قاتل. ومع ذلك كان يوجد حاجة لمعرفة المسافات وطرق التنقل. فليس من السهل نقل الصخور دائمًا لتصنع في المساكن وفي بعض الأحيان كان من الأسهل صنعها قرب مكان استخراجها.(4)

وبعد ذلك حافظ الإنسان على هذه التنقية ونقلها من جيل لجيل فهي لم تكن مكتوبة في كتاب بل كان الأب يعلمها لابنه ويدله على طريق الصخور المناسبة.

بعض الأدوات التي وجدت في الكهف
By Katja Douze Sarah Wurz Christopher Stuart Henshilwood CC BY 4.0,

المغرة

الصيد والطعام ليسا الجانب الوحيد في حياة الإنسان العاقل. في كهف بلومبوس أيضًا عثر على <<صخرة المغرة-Ochre>>. وهي نوع من الصخور الهشة التي لا تصلح ليصنع منها سلاحًا، بل كان استخدامها مختلف كليًا عن هذا.

لا يمكن أن نعرف بالتحديد ما الذي كانت تعنيه المغرة لسكان كهف بلومبوس الأوائل. لكن بعض القبائل الإفريقية اليوم التي ما زالت تعيش حياة بدائية تخبرنا عن معنى المغرة بالنسبة لها. إنها تعني الدماء عند بعضهم نظرًا للونها الأحمر والخصوبة إذا ربطنها بدماء الدورة الشهرية عند النساء. في ؛<ناميبيا-Namibia>> في إفريقيا ما زالت عدة قبائل تستخدم المغرة. والنساء هي المسؤولة عن استخراجها وتصنيعها. تقوم بعد ذلك بمزجها مع الدهون والاعشاب المطيبة ثم تدهن الجسد بها فيصبح كأن لونهن أحمر. وللأسف إذا اخذنا مثلًا أقرب سنجد أن السكان الأصليين لأميركا أيضا كانوا يطلون أنفسهم باللون الأحمر. قبل الحرب أو الطقوس الدينية والجنائزية وهذا ما سبب تسميتهم بالهنود الحمر.(5)

لكن لنفهم معظم أبعاد استخدام هذا النوع من الصخور عند البشر الأوائل، لا بد من ذكر سكان جزيرة <<أندامان-Andaman>> شرقي الهند وهو يعتبرون من أقدم البشر الذين ما يزالون يعيشون حياة بدائية هي الأقرب لأسلافنا الأوائل. فعند هذا الشعب لاستخدام المغرة معنى أخر بعيد جدًا عن اللون الأحمر وهو مرتبط بشكل كبير بالرائحة.

إن الفرد من هذه المجموعة، وهذا التعبير خطأ فهم لا يعترفون بالانا كفرد بل إن الفرد منهم هو كل أسلافه مجتمعين بشخصه. كان يجب عليه أن يطلي جسده بالمغرة لكي تتمكن أرواح أسلافه، الغير مادية،من التعرف عليه بعد وفاته عن طريق رائحته المميزة. بشكل أو بأخر بالنسبة لهم فإن مسألة عبادة الأسلاف هذه كانت تستحق كل هذه الطقوس. فالأسلاف بنظرهم كانوا قادرين على مساعدتهم بالصيد والشؤون الحياة اليومية وليتمكن الفرد منهم من الاجتماع مع اسلافه كان لزامًا عليه أن يستعمل المغرة.

إقرأ أيضًا: تاريخ الإنسان العاقل، كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

أول الرموز الفنية

صخرة المغرة المحفورة برموز إكس
By https://originalrockart.wordpress.com/ – https://originalrockart.wordpress.com/, CC BY-SA 4.0,

ان جميع ما تحدثنا عنه في هذا التقرير هو فرضيات مبنية على أدلة أثرية مستخرجة من كهف بلمبوس. وقد عثر في الكهف أيضا على صخرة حفر عليها رموز إكس “X” متشابكة وهو أمر غريب جدًا. ويعتبر بداية للشيء لم يكن معروف سابقًا على الأرض وهو الفن.(5)

بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا فإيجاد تفسير لهذه الصخرة كان أمرًا صعبًا، لكن الأقرب إلى الواقع كان فرضية أنها تمثل إرث العائلة. كان يتم الاحتفاظ بها داخل العائلة الواحدة وتسلم من جيل إلى جيل كمفتاح سحري يربط العائلة ببعضها. أما إذا ضاعت فكانت تحل الكوارث عليهم.

لقد وجد في الكهف أيضًا رمز أخر لا يقل أهمية عن هذه الصخرة وهو عقد من الصدف. بالطبع قد اختفى الخيط منه لكن لا تزال علامات الحفر في وسط الأصداف ظاهرة. ومن الواضح أن مادة لامعة قد وضعت داخل هذه الأصداف. ومن الشائع قديمًاأإن كل ما يلمع يعتبر بوابة بين عالم الأحياء وعالم الروح. لكن لا نعلم اليوم بالضبط من كان يرتدي هذا العقد. ولو أن أغلب أغلب أنه يعود لرجل وهو رمزٌ لسلطته على أفراد جماعته.(6)

الرقص

يعد الرقص للبشر الأوائل من أهم طرق التواصل الاجتماعي وليس مجرد طقوس للتسلية. وكانت بعض الرقصات تدوم لأسابيع وشهور. الغرض من الرقص هو لقاء الشبان بالفتيات والزواج، وخصوصا إن كان يتم بين عدة جماعات مختلفة. ومن الأمور التي كان للرقص دور فيها هو تبادل الأغراض. فالجماعة التي تملك الكثير من الأسماك كانت تلتقي خلال طقوس الرقص مع جماعة تملك الصخور وهكذا يتم التبادل مثلًا.

اذًا كان الرقص وغيره العديد من العادات الاجتماعية المرتبطة بالبشر الأوائل تشكل جزئًا كبيرًا من حياتهم اليومية. أكثر من 60% من يومهم قضوه بالرقص وممارسة العادة الفنية المتعلقة بالأجداد كالرسم الرمزي على جدران الكهوف. والذي وجدنا منه الألاف في شتى انحاء العالم اليوم وهو رسم للطبيعة والحيوانات كنوع من الطقوس السحرية ربما كانت تتم لجلب الحيوانات أو للمساعدة على الصيد.

بشكل أو بأخر من غير العادل أن نطلق على البشر الأوائل صفة الصيادين الجامعين فقط لكون جزء من حياتهم اليومية تتعلق بالصيد. واذا أردنا ذلك لا يجب أن ننزعج إذا ما أطلق علينا بشر المستقبل صفة رواد المتاجر أو المتسوقين. فقط لأننا نزور المتاجر لنتسوق حاجاتنا اليومية منها.

المصادر

  1. Climate, Environment and Early Human Innovation: Stable Isotope and Faunal Proxy Evidence from Archaeological Sites (98-59ka) in the Southern Cape, South Africa
  2. Blombos Cave, Southern Cape, South Africa: Preliminary Report on the 1992–1999 Excavations of the Middle Stone Age Levels
  3. Identifying the Collector: Evidence for Human Processing of the Cape Dune Mole-Rat,Bathyergus suillus, from Blombos Cave, Southern Cape, South Africa
  4. Early Use of Pressure Flaking on Lithic Artifacts at Blombos Cave, South Africa
  5. Engraved ochres from the Middle Stone Age levels at Blombos Cave, South Africa
  6. Nassarius kraussianus shell beads from Blombos Cave: evidence for symbolic behaviour in the Middle Stone Age

أدلة التطور من السجل الأحفوري

هذه المقالة هي الجزء 7 من 13 في سلسلة مقدمة في نظرية التطور

رأينا في الأجزاء السابقة كيف يمكننا أن نستدل على تطور الكائنات الحية عبر الزمن من خلال النظر في صفاتها التشريحية (مثلما رأينا في الجزئين الأول والثاني)، ومراحل تكونها الجنينية، وسلوكياتها، بل وحتى كيف يمكننا مشاهدة تطور الكائنات الحية في المعامل. واليوم نحن على موعد مع نوع فريد من الأدلة، حيث يأتي السجل الأحفوري مصدقًا لما استنتجناه في الأجزاء السابقة ومؤكدًا على تطور الكائنات الحية وتغيرها عبر الزمن. فتعالوا معنا نرى أدلة التطور من السجل الأحفوري.

كيف تتكون الحفريات؟

تتكون الحفريات بـ 5 طرق مختلفة هي:

  1. «التمعدن-Permineralization»، وهي عملية تحدث عندما تحمل المياه الموجودة في التربة الأملاح إلى «الفراغات الخلوية-Cellular spaces» لدى الحيوان أو النبات. تتبلور هذه الأملاح لتنتج صخورًا على شكل الحيوان أو النبات الخاضع لهذه العملية، وهذا هو أكثر أنواع الحفريات شيوعًا. حيث نجد تلك الحفريات في السجل الأحفوري على شكل أسنان، وعظام، وأصداف، وأخشاب (في حالة الأشجار المتحجرة).
  2. «المصبوبات-Casts»، حيث يزيل الماء كل الأنسجة التي امتلكها الحيوان، تاركةً فقط أثره في الرواسب على شكل قالب. ثم تملأ الأملاح هذه القوالب فتُكوّن شكلًا مشابهًا لشكل الكائن الأصلي. يمكننا ملاحظة هذا النوع من الحفريات في حفريات «اللافقاريات البحرية-Marine invertebrates».
  3. «العنبر-Amber»، يوجد هذا النوع من الحفريات عندما يعلق الحيوان في المادة الصمغية للأشجار. تتحول تلك المادة إلى العنبر بعد دفنها في هذه الأشجار تحت الأرض، ويمكننا ملاحظة هذا النوع من الحفريات في حفريات الحشرات وبعض السحالي.
  4. «حفريات الآثار-Trace fossils»، وهي حفريات تسجل نشاط الكائن الحي في الفترة التي عاش فيها، مثل الأعشاش، والجحور، وآثار الأقدام، والبراز.
  5. «البقايا المحفوظة-Preserved remains»، نعثر في هذا النوع من الحفريات على بقايا من الكائن الحي، مثل الجلود، والشعر، والعظام المحفوظة. يعد هذا النوع من الحفريات الأكثر ندرة، حيث يتطلب العثور على حفريات من هذا النوع دفن الكائن الحي مباشرة بعد وفاته في الثلج، أو الرماد البركاني، أو «المستنقعات الخثية-Peat bogs». من أمثلة هذا النوع حفريات الماموث. [1]

ما هي الحفريات الانتقالية؟

«الحفرية الانتقالية-Transitional fossil» هي الحفرية التي تحتوي على صفات مشتركة بين الأسلاف القديمة والكائنات الحديثة. [2]

عند افتراض تطور نوع من نوع آخر، يجب أن يمر النوع بمراحل وسيطة يحمل فيها صفات من النوع الأول وصفات من النوع الثاني. فإن أردت أن تنتقل من النقطة (أ) إلى النقطة (ج) عليك المرور بالنقطة (ب) أولًا.

فعلى سبيل المثال، إذا افترضنا تطور الطيور من الديناصورات مثلما رأينا في جزء سابق، علينا العثور على حفرية لكائن وسيط يحمل صفات مشابهة لصفات الديناصورات جنبًا إلى جنب مع صفات الطيور.

وما علينا سوى أن نبحث في السجل الأحفوري عن حفريات لكائنات وسيطة بين نوعين وبهذا نستنتج علاقتهما التطورية. كما نكون قد عثرنا على دليل من أدلة التطور من السجل الأحفوري.

من المياه إلى اليابسة

رأينا في الجزء المتعلق بالأدلة الجنينية على التطور تكوّن الأقواس الخيشومية التي تمتلكها الأسماك لدى أجنة الحيوانات غير المائية. دفع ذلك العلماء إلى استنتاج تطور الحيوانات الأرضية من الحيوانات البحرية. ولكن هل هناك عيّنات من السجل الأحفوري لتوثيق انتقال الحياة على الأرض من المياه إلى اليابسة؟

حدث ذلك بالفعل، تعالوا نتعرّف على حكاية الـ «تكتاليك-Tiktaalik».

التكتاليك

عاش التكتاليك منذ حوالي 375 مليون سنة، ويمثل شكلًا من أشكال التكيّف لمناسبة المياه الضحلة شحيحة الأوكسجين التي كان يعيش فيها. وهو ما سيمهد لظهور البرمائيات وانتقال الحياة من المياه إلى اليابسة حيث تنفس الأكسجين.

يمتلك تكتاليك صفات سمكية، جنبًا إلى جنب مع صفات لرباعيات الأطراف. كما يمتلك صفات وسيطة بين كل من الأسماك ورباعيات الأطراف. فتعالوا معنا نتعرف على هذه الصفات.

صفات تكتاليك السمكية:

  • امتلاك الخياشيم.
  • امتلاك قشور الأسماك.

صفات تكتاليك المشابهة لرباعيات الأطراف:

  • عظام ضلوع مشابهة لتلك التي تمتلكها رباعيات الأطراف.
  • رقبة قادرة على التحرك (وهي صفة لا تمتلكها الأسماك).
  • امتلاك رئتين.

صفات وسيطة بين الأسماك ورباعيات الأطراف:

  • مفاصل وأطراف نصف سمكية – نصف رباعية الأطراف. فقد امتلك تكتاليك مفصل رسغ وظيفي، جنبًا إلى جنب مع زعانف سمكية بدلًا من الأصابع في نهاية الأطراف.
  • منطقة أذن نصف سمكية – نصف رباعية الأطراف.
كائن التكتاليك. حقوق الصورة: Wikimedia commons

فهل يمكننا اعتبار التكتاليك سلف مشترك لكل رباعيات الأطراف؟

بالطبع لا، فعلى الرغم من امتلاك تكتاليك لصفات وسيطة بين الأسماك ورباعيات الأطراف. إلا أنه ليس سوى حلقة في سلسلة تسبقه فيها سمكة «باندركتايس-Panderichthys» التي عاشت منذ 380 مليون سنة. ويليه في السلسلة حيوان «إكثيوستيجا-Ichthyostega» الذي عاش منذ 365 مليون سنة. [3]

فأي حفرية انتقالية نعثر عليها هي مجرد حلقة انتقالية بين حلقات انتقالية أخرى. فالتطور بطيء (في أغلب الأحيان) ويعمل بإحداث تغيرات طفيفة على مدار الزمن. حتى إذا تراكمت هذه التغيرات، حصلنا على نوع جديد.

فعلى سبيل المثال كلما تحركنا في الزمن ابتداءً من الباندركتايس مرورًا بالتكتاليك ووصولًا إلى الإكثيوستيجا، لاحظنا تراجعًا في الصفات السمكية. حيث تمثل الحيوانات حلقات انتقالية بين الأسماك والبرمائيات. فعلى سبيل المثال، نرى التدرج في فقدان الغطاء الخيشومي وتغير شكل الجمجمة تدريجيًا. يعد هذا الفقد واحدًا من أبرز أدلة التطور من السجل الأحفوري. [4]

فقد الصفات السمكية في السجل الأحفوري. حقوق الصورة: Nature

تطور الثدييات من الزواحف

تطورت الثدييات في «العصر الترياسي-Triassic period» من زواحف «السينابسيدات-Synapsids». وتُسمى السينابسيدات بـ”الزواحف الشبيهة بالثدييات” [5]، ولكن هل نملك دليلًا على هذا الادعاء حقًا؟

تمتلك الزواحف عظامًا في الفك السفلي لا تمتلكها الثدييات. فالفك السفلي للثدييات يتكون من «العظام السِنّية-Dentary bones» فقط، بينما تمتلك الزواحف تراكيبًا أخرى في فكها السفلي جنبًا إلى جنب مع العظمة السنّية. فأين ذهبت هذه العظام؟

إذا تتبعنا السجل الأحفوري الذي يسجل تطور الثدييات من الزواحف، فسنكتشف حدوث تراجع تدريجي في جماجم الحفريات للعظام الأخرى مثل «العظمة الزاوية-Angular bone» و«العظمة الفوق زاوية-Surangular bone» كلما تقدمنا في الزمن نحو ظهور الثدييات.

مقارنة لحالة الفك في العصور المختلفة. حقوق الصورة: Palomar


كما يشير تطور آلية السمع عند الثدييات إلى تطورها من الزواحف. إذ تمتلك الزواحف عظمتين هما «العظمة المفصلية-Articular bone» و«العظمة الرباعية-Quadrate bone». ويتمفصل عند هذه العظام الفك السفلي لكل الأنواع ماعدا الثدييات، فأين ذهبت هذه العظام إذا كانت الثدييات متطورة من الزواحف؟

استمرت أحجام هذه العظام في الصِغر التدريجي حتى تغيّر موقعها وهاجرت إلى الأذن الوسطى لتكوين عظمتين مهمتين في السمع لدى الثدييات هما «عظمة المطرقة-Malleus bone». تطورت عظمة المطرقة من العظمة المفصلية، وتطورت «عظمة السندان-Incus bone» من العظمة الرباعية.

السجل الأحفوري غني بالعيّنات التي توثق تطور الثدييات من الزواحف. ومن الصعب التحدث عن حفرية بعينها كحلقة مفقودة بين الزواحف والثدييات، ولكن تعالوا معنا نتعرف على أحد أبرز هذه الحفريات الانتقالية. إنه «ثريناكسودون-Thrinaxodon».

«ثريناكسودون-Thrinaxodon»

تعد هذه الحفرية واحدة من أقوى أدلة التطور من السجل الأحفوري، حيث تسود العظمة السنّية تكوين الفك السفلي للثريناكسودون (مثل الثدييات). إلا أن الثريناكسودون احتفظ بالعظام المفصلية والرباعية (مثل الزواحف). كما امتلك ثريناكسودون «سقف حلق-Palate» مكتمل النمو ليسمح له بالتنفس والأكل في نفس الوقت (مثل الثدييات). أسنان الثريناكسودون لم تكن شبيهة بالأوتاد كالتي عند الزواحف، وإنما كانت ذات تركيبة معقدة كتلك التي عند الثدييات. لذلك يصح أن نقول عنها أنها ضروس. في الواقع كلمة “Thrinaxodon” هي كلمة يونانية تعني «ذو الأسنان الرمحية ذات الثلاث شعب-Trident tooth»، في إشارة إلى تكوين أسنانه. إلا أن أنه وعلى عكس الثدييات، امتلك ثريناكسودون عظمة تفصل بين «الفك الصدغي-Temporal jaw»، و«محجر العين-Eye socket».

ومما سبق نلاحظ امتلاك الثريناكسودون لكل من صفات الثدييات والزواحف، فهو يمثل حلقة وسيطة بينهما بحق. ولكنه ليس الوحيد، فكما قلنا أعلاه، السجل الأحفوري غني بالحلقات الوسيطة بين الثدييات والزواحف مما يجعل من الصعب الحديث عن حفرية بعينها على أنها هي الحلقة المفقودة بينهما. [6]

كائن الثريناكسودون. حقوق الصورة: Pinterest

تطور الثعابين

نعلم جميعًا أن الثعابين تزحف. لكننا شاهدنا في الجزء المتعلق بالنمو الجنيني أن أجنة الثعابين تنمو لها براعم أطراف خلفية في أولى ساعات نموها. واستنتجنا من هذا امتلاك الثعابين لجينات نمو الأرجل. وبالتالي تطورها من حيوانات كانت تمشي على أربعة أطراف. فما علينا الآن سوى أن نبحث في السجل الأحفوري عن حلقة انتقالية بين الثعابين وبين رباعيات الأطراف، فهل وجدنا شيئًا مشابهًا؟

وجد الباحثون مجموعة من الحفريات تعود لأنواع مختلفة. من أهمها هو «ناجاش ريونيجرينا-Najash Rionegrina»، والذي يعود إلى العصر الطباشيري. حفرية ناجاش هي حفرية مميزة ومهمة لدراسة تطور الثعابين وفقدانها للأطراف. فالناجاش، على عكس باقي حفريات الثعابين ذات الأطراف، يمتلك «عظمة عجز-Sacrum» (عظمة مثلثة الشكل تقع في آخر العمود الفقري). بالإضافة إلى أطراف خلفية قوية وجيدة النمو.

ولم تفقد الثعابين هذه الأرجل بشكل كامل. فكما ناقشنا سابقًا تمتلك الأصلات أرجلًا ضامرة بالقرب من نهاية ذيلها. وهو ما يدل على امتلاكها لأرجل في الماضي، تمامًا كما أكد لنا السجل الأحفوري. [7]

حقوق الصورة: conchovalleyhomepage.com

تطور الخيلانيات

تمتلك «الخيلانيات-Sirenians» (أبقار البحر) الحالية أطرافًا أمامية أشبه بالزعانف لتساعدها في السباحة. نلاحظ غياب تام للأطراف الخلفية، ولكن هذا لم يكن حال أسلافها.

في عام 1855، وصف عالم التشريح البريطاني «السير ريتشارد أوين-Sir Richard Owen» جمجمة غريبة عثر عليها في جامايكا تعود إلى ما بين 50 إلى 47 مليون سنة. أدرك أوين امتلاك هذه العينة لصفات مثل انتكاس خرطوم الأنف، بالإضافة إلى فتحات الأنف الموجودة أعلى الجمجمة، والعديد من صفات الخيلانيات. هذا وقد عثر على الجمجمة مع قطع من الضلوع سميكة وكثيفة للغاية، وهي صفة فريدة ومميزة للخيلانيات.

على الرغم من كون ريتشارد أوين معارضًا للتطور إلا أنه لم يستطع أن ينكر مشابهة هذه الحفرية للخيلانيات الحديثة. وأسماها أوين “Prorastomus serinoides”، وكانت بقية العظام فتاتًا، فتُرجح كونه حيوانًا رباعي الأرجل بحجم الخِراف.

وبعد سنوات، وتحديدًا في عام 1904، عثر على حفرية لما عرف باسم “Protosiren fraasi”، تعود إلى ما بين 40 إلى 47 مليون سنة (أي أنها أحدث من الprorastomus). وكما هو متوقع، فالشبه بين الكائنات الأقرب زمنيًا والكائنات الحالية أكبر منه بين الكائنات الأقدم والحالية وهو أهم ادعاءات نظرية التطور. امتلك الprotosiren جمجمة أكثر شبهًا للخيلانيات الحديثة بانتكاس أكثر وضوحًا لخرطوم الأنف، وفتحات أنف أكثر رجوعًا إلى الوراء على الجمجمة. كما امتلك أطرافًا خلفية صغيرة. وعلاوة على ذلك، لم تكن أوراكه مثبّتة بشكل جيد في عظام ظهره الخلفية. مما يعني أن الprotosiren كان حيوانًا مائيًا بالكامل، وأنه كان بالكاد مشي على اليابسة.

تطور الخيلانيات. حقوق الصورة: Pinterest

هل الprotosiren كاف كحفرية وسيطة؟

أظهرت حفرية الprorastomus بداية العظام السميكة والكثيفة الخاصة بأبقار البحر لكن أطرافها لم تكن محفوظة بشكل جيد. بينما كان الprotosiren ذو أطراف خلفية قصيرة ترجح أنه عاش في الماء. إذًا ما نحتاجه هنا هو العثور على حفرية وسيطة بينهما، وهي حفرية يجب أن تمتلك جمجمة وضلوعًا خيلانية. جنبًا إلى جنب مع المشي على أربعة قوائم، وهذا للتأكيد على تطور أبقار البحر من حيوانات أرضية.

وبالفعل عثرنا على هدفنا المنشود، فقد نشر «داريل دومنينج-Daryl Domning» اكتشافه في مجلة «نيتشر-Nature». حيث عثر على ما أسماه “Pezosiren portelli”، وهو حيوان بحجم الخنزير تقريبًا بهيكل عظمي مكتمل إلى حد كبير.

امتلك Pezosiren portelli جمجمة وضلوعًا خيلانية. والأهم من ذلك، امتلك pezosiren عظام ورك كاملة وأطرافًا أمامية وخلفية. وعلى الرغم من قِصر هذه الأطراف إلا أنها كانت طبيعية تمامًا للمشي عليها. بالإضافة إلى عدم امتلاكه لأي تراكيب متخصصة في السباحة، وهذا يعد دليلًا من أدلة التطور من السجل الأحفوري.

وبهذا نكون قد عثرنا على الحلقة المفقودة في تطور الخيلانيات، لنثبت أن الخيلانيات الحديثة تطورت من ثدييات أرضية. والجدير بالذكر هنا هو أن الخيلانيات لم تفقد أطرافها الخلفية بشكل كامل، وإنما تملك بقايا أطراف خلفية ضامرة. [8] ، [9]

من الديناصورات إلى الطيور

بِتنا نعلم أن الطيور تطورت من الديناصورات، ولكن كيف علمنا هذا؟

بعد أن تساءل تشارلز داروين في كتابه عن سر عدم وجود حفريات انتقالية، عُثر على أولى حفريات «أركيوبتريكس-Archaeopteryx»، فقط بعد سنتين من نشر داروين لكتابه.

ويمتلك الأركيوبتريكس كلًا من صفات الطيور والديناصورات. فنراه يمتلك ذيلًا طويلًا، وهي صفة تشريحية لا وجود لها في الطيور الحديثة. إذ تكون ذيول الطيور قصيرة إذا نظرنا إلى هياكلها العظمية، كما امتلك أسنانًا. الأسنان كذلك صفة غير موجودة في الطيور الحديثة.

امتلك الأركيوبتريكس مخالبًا مشابهة لتلك التي عند الديناصورات ال «ثيروبودية-Theropods». مخالب الديناصورات كذلك صفة ليست طيرية. كما أن مكان التحام العمود الفقري بالجمجمة في الأركيوبتريكس من الخلف، وليس من الأسفل كما في الطيور. بالإضافة إلى «ضلوع المعدة-Gastralia» وهي ضلوع مميزة للزواحف (الديناصورات في هذا السياق).

الأركيوبتريكس. حقوق الصورة: ThoughtCo

إذًا فأركيوبتريكس مجرد ديناصور عادي، صحيح؟

هل الأركيوبيتريكس ديناصور عادي؟

كلا، فالأركيوبتريكس يمتلك ريشًا عند أطرافه الأمامية وعند ذيله كذلك. الريش صفة غير موجودة في الزواحف، فلا تمتلك الزواحف أي ريش على الإطلاق (عُثر على ديناصورات تمتلك ريش فيما بعد). كما أن إصبع الإبهام لدى الأركيوبتريكس كبير ومعاكس في الاتجاه لبقية أصابع قدمه، تمامًا مثل الطيور. فهل يصح تصنيف أركيوبتريكس كطائر؟

أيضًا لا، وإنما هو كائن انتقالي بين الديناصورات والطيور، وليس سلفًا للطيور. وكما في التكتاليك، فالأركيوبتريكس أيضًا حلقة واحدة وسط سلسلة من الكائنات الانتقالية التي توثّق تطور الطيور من الديناصورات، وكما الحال مع التكتاليك فقد عُثر على حفريات انتقالية أخرى غير الأركيوبتريكس لتوثيق تطور الطيور من الديناصورات، مثل “Rahonavis” والذي احتفظ بالأسنان، والمخالب، والذيل العظمي الطويل مثل أركيوبتريكس، ولكن فقرات وركه التحمت بعظام وركه (مثل الطيور الحديثة).

حقوق الصورة: Wikipedia

و”Confuciusornis” والذي فقد أسنانه، والتحمت فقرات ذيله لتكوين «ذيل ذنَبي-Pygostyle» كالذي نراه في الطيور الحديثة، ولكنه احتفظ بأصابع الديناصورات الطويلة

حقوق الصورة: Britannica

و”Sinornis”، وهو طائر بدائي احتفظ بالأسنان، وامتلك عظام حوض غير ملتحمة، و«رصغ مشط-Tarsometatarsus» غير ملتحم كذلك، إلا أنه امتلك ذيلًا ذنبيًا أقصر، وأصابع أقصر، وإصبع إبهام معاكس لبقية أصابع القدم بشكل كامل، وعظام صدر كبيرة لتثبيت العضلات المستخدمة في الطيران.

حقوق الصورة: Wikipedia


وكل هذه الحفريات الانتقالية تشهد على التطور البطيء والتدريجي للطيور من الديناصورات، وتُعد من أبرز أدلة التطور من السجل الأحفوري. [10]

السجل الأحفوري وتطور الإنسان

قد يطرح القارئ الآن سؤال “وماذا عن البشر؟”، ألا يحتوي السجل الأحفوري على أدلة تشهد على تطور البشر؟

بالطبع يحوي الكثير من الأدلة. ولكن هناك حفرية واحدة مهمة في السياق الذي نتحدث عنه (سياق الحفريات الانتقالية)، وهي حفرية «أوسترالوبيثيكاس أفارنسيس-Australopethicus afarensis». وعُرفت باسم “لوسي”، فما المهم بشأن هذه الحفرية؟

تعود هذه الحفرية إلى حوالي 3.7 مليون سنة. والمهم بشأن هذه الحفرية هو أنها تمتلك خليطًا من صفات البشر جنبًا إلى جنب مع صفات القرود. تعالوا معنا نتعرف عليها.

صفات الأوسترالوبيثيكاس

امتلك الأوسترالوبيثيكاس جمجمة تُشير إلى حجم دماغ صغير (من صفات القرود). كما تُعد أذرعه الطويلة وقفصه الصدري المخروطي من صفات القرود كذلك. إلا أن عموده الفقري وعظام حوضه وركبتيه أقرب إلى تلك البشرية.

ومن أهم مميزات أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس هي المشي المنتصب على قدمين، تمامًا كما نفعل، ولكن كيف عرفنا ذلك؟

نستطيع معرفة ذلك من خلال دراسة اتصال عظمة الفخذ بكل من الحوض والركبة. فعند البشر مثلًا، تميل عظمتا الفخذ نحو بعضهما البعض ليكون مركز الجاذبية واحدًا أثناء المشي المنتصب. بينما في أبناء عمومتنا من القرود العليا التي تمشي على أربعة قوائم. ونلاحظ أن عظام الفخذ لديهم تكون منفرجة. إذًا ما علينا هو أن نرى ما إذا كانت عظام فخذ لوسي تميل نحو بعضها البعض كالبشر أم منفرجة كالشيمبانزي. وبالفعل وجدنا أن عظمتي الفخذ تميلان باتجاه بعضهما البعض عند لوسي بدرجة مقاربة لدرجة الميل عند البشر. كما لاحظ الباحثون امتلاك لوسي لعظام حوض أقرب إلى البشر من تلك عند الشيمبانزي كما ذكرنا أعلاه. [11]

حقوق الصورة: Janet K. Ray

أدلة إضافية

عُثر على حفرية لآثار أقدام بشرية في تنزانيا تعود إلى 3.6 مليون سنة، على امتداد 27 متر، بمجموع 70 أثرًا للأقدام. حيث سار ثلاثة أفراد في رماد بركاني مبتل. عندما ثار البركان القريب من هذا الموقع ثانيةً، غطّت طبقات من الرماد البركاني هذه الآثار وحفظتها لنكتشفها بعدها بأكثر من 3 مليون سنة. ولكن كيف عرفنا أن هذه الآثار تعود بالتحديد إلى نوع أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس؟

يشير شكل الأقدام (الواضح من حفريات الآثار) جنبًا إلى جنب مع طول وترتيب أصابع القدم إلى أن هذه الآثار هي من صنع بشر بدائيين. والنوع البشري البدائي الوحيد الذي يعود إلى تلك الفترة هو نوع أوسترالوبيثيكاس أفارينسيس.

في الواقع، عُثر على حفريات ل Au. afarensis بالقرب من هذه الآثار وفي نفس الطبقة الرسوبية. وهو ما يخبرنا أن ال Au. afarensis كانوا موجودين في نفس المكان والزمان الذي تُركت فيه هذه الآثار. وبالتالي فهي آثارهم، مما يعني أنهم مشوا بشكل منتصب. [12]

وها نحن ذا نرى كيف أن حفرية قدمت واحدًا من أقوى أدلة التطور من السجل الأحفوري، تحديدًا تطور البشر.

حقوق الصورة: Humanorigins

السمك المفلطح

يُعد «السمك المفلطح-Flat fish» واحدًا من أغرب أنواع الأسماك. حيث أن عيني هذه السمكة يقعان على جانب واحد من رأسها. على عكس باقي الأسماك التي تقع كل عين من عيونها على جانب من رأسها. لذلك فتستلقي هذه السمكة على جانبها للرؤية. ولكن إن افترضنا أن هجرة العينين إلى جانب واحد من الرأس هو نتاج تطور من أسماك امتلكت عينًا على كل جانب (كما هو شائع). فيجب أن نعثر على حفرية انتقالية تمثّل حلقة وسيطة بين مواقع العيون المختلفة.

وبالفعل عثرنا على هذه الحفرية، إنها «أمفيستيوم-Amphistium». هذه الحفرية لا تمتلك عينًا على كل جانب، ولا عينين على نفس الجانب. وإنما تملك عينًا على أعلى الرأس، وعينًا على أحد الجوانب. فهي الحلقة المفقودة بين الأسماك التي تمتلك عينًا على كل جانب من الرأس، وبين السمكة المفلطحة التي تمتلك عيناها على جانب واحد من رأسها. وهذا أيضًا من أدلة التطور من السجل الأحفوري. [13]

حقوق الصورة: National Geographic

اتساق السجل الأحفوري

يقول عالم الأحياء البريطاني «ريتشارد دوكينز-Richard Dawkins»:

“يمكن إثبات خطأ التطور بسهولة لو عُثر على حفرية واحدة في ترتيب تاريخي خاطئ، وقد اجتاز التطور هذا الاختبار بنجاح عظيم”

حيث أن السجل الأحفوري يُظهر تدرجًا واضحًا في ظهور الصفات والكائنات. ويوّثق السجل الأحفوري انتقال الحياة من الأقدم إلى الأحدث، ولم يتم العثور على حفرية واحدة في غير موقعها من الخط الزمني للتطور. فلم نعثر مثلًا على حفرية بشرية تعود للعصور التي عاشت فيها الديناصورات، ولن يتم العثور على شيء كهذا.

ولكن ماذا عن الانفجار الكمبري؟ وماذا أيضًا عن وجود فجوات في السجل الأحفوري؟

كل هذا وأكثر سنجيب عليه في الجزء الأخير من هذه السلسلة.

المصادر

[1] Australian Museum
[2] Merriam Webster
[3] Nature
[4] Fandom
[5] Britannica
[6] THE STORY OF LIFE in 25 FOSSILS, by Donald R.Prothero, p.(261 – 267)
[7] Zoolinnean
[8] Nature
[9] THE STORY OF LIFE in 25 FOSSILS, by Donald R.Prothero, p.(288 – 293)
[10] Evolution: What the Fossils Say and Why It Matters, by Donald R.Prothero, p.(263 – 267)
[11] Natural History Museum
[12] Human Origins
[13] Fandom

أربع مدن ضائعة، قصة صعود المدن وانهيارها

فكر بالأمر جيدًا، ما هي المدينة؟ حسب رأي عالم الآثار الأسترالي غوردون تشايلد فهي مستوطنة مكتظة بالسكان. تحتوي على مبانٍ ضخمة. يتمتع شعبها بالقدرة على الإبداع والكتابة والفن ويستخدمون نوعًا من العملات في حياتهم ويدفعون الضرائب. لهم علاقات تجارية على مسافات طويلة، كما أنهم ينتجون فائضًا من السلع، وبالنسبة لحياتهم الاجتماعية فهي مبنية على الطبقية. إن المدن أو المراكز الحضارية، سواء كانت موجودة قبل 9 آلاف عام أو اليوم، فإن لها تاريخًا فريدًا. ومع ذلك، بغض النظر عن سبب تشكلها أو كيفية ازدهارها، فإن جميع هذه المدن ستواجه نفس المصير: النهاية المحتمة. وفي هذا التقرير سنتحدث عن قصة أربع مدن ضائعة.

المدن الأربعة

لن نتكلم هنا عن مغامرات اكتشاف المدن المدفونة تحت الرمال. ولا عن أسطورة المدينة المفقودة أو الحضارة الغارقة، فهذه المفاهيم والأفكار دائمًا ما تحجب الحقيقة؛ حقيقة كيف يدمر الناس حضاراتهم.

مدينة “شاتال هويوك-Çatalhöyük” بوسط تركيا، هي واحدة من أولى المدن في العالم. استوطنها البشر من حوالي 7100 إلى 5700 قبل الميلاد.  وصفها بعض علماء الآثار بأنها مجموعة من القرى، فقد كانت المدينة تعج بالنشاط قبل تعرضها للفيضانات وتخلي سكانها عنها. أما مدينة بومبي الرومانية عاش فيها رجال أعمال من عدة طبقات اجتماعية لعدة قرون. قبل أن تدفن في الرماد البركاني في عام 79 بعد الميلاد.

أما مدينة “أنغكور-Angkor” في كمبوديا (حوالي 800 إلى 1431 م)، فقد اعتمدت على شبكة ضخمة من القنوات وبرك التخزين التي بناها الخدم أو العبيد. قبل أن تنتهي بسبب النزاعات مع العمال المثقلين بالديون وبسبب البنية التحتية الفاشلة. وعلى طول سهول نهر المسيسيبي، جذبت مدينة “كاهوكيا- Cahokia” (حوالي 1050 إلى 1350 بعد الميلاد) الناس من جميع أنحاء المنطقة الذين تجمعوا للاحتفالات الدينية والثقافية. ومن المحتمل أن يكون سكانها قد عانوا كثيرًا لأن قادتها أصبحوا أكثر استبدادًا وربما تسبب تغير المناخ في الجفاف والمجاعة.

يروي الصحفي العلمي “Annalee Newitz” في كتابه “أربع مدن ضائعة” قصصًا رائعة عن الناس في هذه المدن الكبرى. وعن كيفية توصل الباحثين وعلماء الآثار إلى فهمهم الحالي عن هؤلاء الناس وكيف عاشوا حياتهم. والعديد من الاكتشافات في هذا المضمار تحصل بمساعدة التقنيات الجديدة والأساليب التحليلية الحديثة.

الاكتشافات الآثرية

توضح التماثيل الأنثوية التي يواصل علماء الآثار اكتشافها في شاتال هويوك الديانة والمعتقدات الذي يبدو أنها انتشرت في جميع أنحاء المنطقة. وتساعد الأدلة على الحرائق في إظهار كيف تغيرت المدينة على مدار تاريخها الذي يقارب 1500 عام. أما في بومبي، فيستخدم الباحثون “البيانات الضخمة” لبناء صورة أكثر اكتمالاً للحياة اليومية هناك.

يستفيد علم الآثار من كل شيء بدءًا من العلامات على الصخور وحتى النقوش على الورق. يمكن أن ينتج عن تحليل التآكل على أحجار الشوارع في بومبي ثروة من المعلومات: تشير الحفر في الطريق التي تصنعها آلاف المركبات التي تتحرك إلى المسافة بين عجلات العربات. تظهر القواطع على الأرصفة العالية التي منعت المشاة من السير في مياه الصرف الصحي المتدفقة عبر الشوارع أن الرومان من المحتمل أنهم قادوا عرباتهم على الجانب الأيمن من الطريق. كما توجد على بعض الجدران في مدينة بومبي كتابة لنساء يفخرن بتجارتهن حيث يحولون الإماء إلى عاملات بالجنس.

في أنغكور، يستخدم علماء الآثار تقنية الليدار، وهي تقنية تستخدم الليزر لرسم خرائط للأشكال الجغرافية المخبأة في الأرض. تُستخدم تكنولوجيا البيانات هناك أيضًا لتحليل قوائم العمال، واتضح أن غالبيتهم من النساء.

في كاهوكيا، استخدم علماء الآثار مقاييس المغناطيسية من أجل كشف الهياكل المدفونة. لأنها يمكن أن تكتشف الحالات الشاذة التي يمكن أن تمثل طبقات التربة المضطربة، والأشياء المحروقة، والمعادن على بعد عدة أقدام تحت السطح.

نظريات الانهيار

عندما يكتشف الباحثون شيئًا جديدًا عن هذه المدن – سواء كان مفهوم أعمق للجنس في الحضارة الرومانية في بومبي أو التضحية البشرية في كاهوكيا – فإن اكتشافاتهم تتأثر حتمًا بما تعتبره مجتمعاتنا الحالية مقبولًا أو غير مقبول. لا تزال منحوتات القضيب، التي يُعتقد أنها تجلب الحظ السعيد، محفوظة في قسم “الخزانة السرية” في متحف نابولي، على الرغم من أن أصحاب المتاجر عرضوها بشكل بارز في بومبي القديمة.

في الأوساط العلمية، تضاءلت فكرة سقوط الحضارات فقط بسبب التفاعل البشري مع البيئة قبل أن يعيد جاريد دياموند الحياة إلى هذه النظرية بكتابه الصادر عام 2004 بعنوان “الانهيار: كيف تختار المجتمعات أن تفشل أو تنجح”. فالبيئة عامل مساهم في التفكك الحضاري، ولكن هذا جزء فقط من القصة. التخلي عن المدينة وهجرها هو الأهم.

غالبًا ما يرغب قادة المدن أو أفراد العائلة المالكة في الاستثمار في المباني والمناظر الجميلة. بدلاً من الأشياء التي يحتاجها الناس للازدهار، مثل البنية التحتية العاملة والأسواق الآمنة. وبدون هذه الأشياء، غالبًا ما تكون المدن أكثر عرضة للكوارث البيئية، والتي يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات سياسية عندما تغمر المنازل بالمياه أو تذبل المحاصيل.

إقرأ أيضًا: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

هل تنهار الثقافة مع انهيار المدينة؟

انهارت المدينة، لكن هل تموت الثقافة عندما تختفي المستوطنة؟ إن معظم المهاجرين من المدن القديمة عبر التاريخ أخذوا معهم قيمهم وفنونهم وتقنياتهم واندمجوا في المدن الجديدة.

في حالة بومبي، على سبيل المثال، غالبًا ما انتقل أولئك الذين نجوا من الانفجار البركاني إلى مدن أخرى استعمرها الرومان. ربما انتشر سكان كاهوكيا السابقون وشكلوا مجتمعات أصغر عبر الغرب الأوسط.

تتوسع المناطق الحضرية وتتقلص مع موجات الهجرة بمرور الوقت. عندما ينقسم سكان المدينة إلى قرى أصغر، فهذا ليس إخفاقًا. إنه مجرد تحول، غالبًا ما يعتمد على استراتيجيات البقاء السليمة. وتستمر ثقافة تلك المدينة في تقاليد الناس الذين عاش أجدادهم هناك، وسيستمر الكثير منهم في بناء مدن جديدة على صورتها.

على الرغم من أنها قد لا تدوم إلى الأبد، إلا أن المدن الناجحة تحتاج إلى أشياء معينة لتزدهر: البنية التحتية المرنة، والمناطق التي يمكن للجمهور الوصول إليها، وتوفر المساكن للجميع، والحراك الاجتماعي، والقادة الذين يحترمون عمال المدينة.

المصادر
1- Four Lost Cities: A Secret History of the Urban Age
2- Man makes Himself

تاريخ الإنسان العاقل، كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

منذ حوالي ستة ملايين سنة، بدأ أحد أسلافنا المعروفين، << أناسي الساحل التشادي – Sahelanthropus >> المشي على قدمين وكانت هذه الخطوة الأولى في مسار تطور البشرية. (1) لكن الإنسان العاقل تأخر لأكثر من خمسة ملايين سنة لكي يظهر. خلال تلك الفترة الطويلة، عاشت مجموعات من الأنواع البشرية المختلفة وتطورت وماتت واختلطت وأحيانًا تزاوجت على طول الطريق. ومع مرور الوقت، تغيرت أجسادهم، كما تغيرت أدمغتهم وقدرتهم على التفكير. فما هو تاريخ الإنسان العاقل؟ وكيف أصبح النوع الوحيد على هذه الأرض؟

العظام والأدوات الحجرية هي وسيلتنا لفهم كيف تطور الإنسان العاقل من هذه السلالات القديمة من أشباه. تشير هذه الأدلة بشكل متزايد إلى أن الإنسان العاقل نشأ في إفريقيا، وإن لم يكن بالضرورة في زمان ومكان واحد. يبدو أن مجموعات متنوعة من أسلاف البشر عاشت في مناطق صالحة للسكن حول إفريقيا. وتطورت جسديًا وثقافيًا في عزلة نسبية، إلى أن دفعتهم التغيرات المناخية إلى تبادل كل شيء من الجينات إلى التقنيات والأدوات. في النهاية، أدت هذه العملية إلى ظهور التركيب الجيني للإنسان الحديث.

بداية سلالة الإنسان العاقل (550.000-750.000 سنة)

إعادة بناء لوجه Homo heidelbergensis

تساعدنا الجينات في رسم مخطط هجرات وحركات وتطور جنسنا البشري. وتلك الأجناس التي تطورت أو انحدرت من تزاوجنا معها على مر العصور.

تعود أقدم الأدلة من الحمض النووي لأحد الأقارب البشريين الأوائل إلى<< حفرة العظام- Sima de los Huesos  >> في جبال أتابويركا بإسبانيا على حيث عثر العلماء على آلاف الأسنان والعظام من 28 فردًا مختلفًا دفنوا بشكل جماعي. في عام 2016، استخرج العلماء الجينوم الجزئي من هذه البقايا البالغة من العمر 430 ألف عام. ليكشفوا أن البشر في الحفرة هم أقدم إنسان نياندرتال معروف. استخدم العلماء الساعة الجزيئية لتقدير المدة التي استغرقها تراكم الاختلافات بين أقدم جينوم لإنسان نياندرتال وجينوم الإنسان الحديث. ويقترح الباحثون أن سلفًا مشتركًا عاش في وقت ما بين 550 ألف و750 ألف سنة.

على الرغم من أن جيناتنا تُظهر بوضوح آثارًا كبيرة في حمضنا النووي لإنسان نياندرتال ودينيسوفان . (2) ولكن حتى الآن، فقط القليل من الأسنان والعظام يظهرون سلفًا مشتركًأ، وليس من الواضح من هو. << إنسان هايدلبيرغ-Homo heidelbergensis >> وهو نوع كان موجودًا منذ 200000 إلى 700000 سنة. (3) ومن المرجح اليوم أن يكون سلفًا للإنسان العاقل في إفريقيا وسلفًا لإنسان النياندرتالنسيس والدينيسوفان في أوروبا.

يمكن أن تساعد أدلة جديدة من الحمض النووي القديم في تقديم صورة أوضح. لسوء الحظ، فإن الظروف الباردة والجافة والمستقرة الأفضل للحفظ على المدى الطويل ليست شائعة في إفريقيا، وقد تم ترتيب عدد قليل من الجينومات البشرية الأفريقية القديمة التي يزيد عمرها عن 10000 عام.

أقدم إنسان عاقل عاش منذ 300.000 سنة

إعادة بناء لأقدم حفريات معروفة لإنسان العاقل

تُخبرنا الأحافير والعظام الكثير عن حياة الإنسان العاقل. لكن لا يمكن للعلماء دائمًا تفسير كل شيء من أشكال العظام التي يرونها. فتحديد الرفات بشكل نهائي على أنها تعود لإنسان عاقل، أو تصنيفها كأنواع مختلفة من أقارب البشر ليس بالأمر اليسير. فيبدو أن بعض السمات في الأحافير تتغير في أماكن وأزمنة مختلفة، مما يشير إلى أن مجموعات منفصلة من التطور التشريحي قد تنتج أشخاصًا مختلفين تمامًا.

لا يوجد علماء يقترحون أن الإنسان العاقل عاش لأول مرة في ما يعرف الآن بالمغرب. لأنه تم العثور على الكثير من الأدلة المبكرة على جنسنا البشري في كل من جنوب إفريقيا وشرق إفريقيا. لكن قطعًا من جماجم وفكين وأسنان عمرها 300 ألف عام وحفريات أخرى عُثر عليها في جبل إرهود، وهو موقع غني أيضًا موطن لأدوات حجرية متطورة، هي أقدم بقايا للإنسان العاقل تم العثور عليها حتى الآن.

ظهرت بقايا خمسة أفراد في جبل إرهود سمات وجه يبدو كوده الإنسان العاقل، مع مزيج من سمات اخرى تذكرنا بالبشر القدامى. إن وجود البقايا في الركن الشمالي الغربي من إفريقيا ليس دليلاً على نقطة نشأتنا، بل على مدى انتشار البشر في جميع أنحاء إفريقيا حتى في هذا التاريخ المبكر.

مشكلة في التصنيف

غالبًا ما تُصنَّف الحفريات القديمة جدًا على أنها الإنسان العاقل المبكر تأتي من فلوريزباد، جنوب إفريقيا (حوالي 260 ألف سنة)، وتشكيل كيبيش على طول نهر أومو الإثيوبي (حوالي 195000 سنة).

تم تصنيف الجماجم البالغة من العمر 160 ألف عام لشخصين بالغين وطفل في هيرتو، إثيوبيا، على أنها سلالات فرعية <<الإنسان العاقل الأول-Homo sapiens idaltu>> بسبب الاختلافات المورفولوجية الطفيفة بما في ذلك الحجم الأكبر. (4) لكنهم بخلاف ذلك يشبهون البشر المعاصرين لدرجة أن البعض يجادل بأنهم ليسوا نوعًا فرعيًا على الإطلاق.

إن الجدل حول تعريف البقايا الأحفورية التي تمثل الإنسان الحديث، بالنظر إلى هذه التفاوتات، أمر شائع بين الخبراء. لدرجة أن البعض يسعى إلى تبسيط التوصيف من خلال اعتبارهم جزءًا من مجموعة واحدة متنوعة.

إذن، متى أظهرت الحفريات أخيرًا لأول مرة البشر المعاصرين تمامًا بكل الميزات التمثيلية؟ إنها ليست إجابة سهلة. جمجمة واحدة من Omo Kibish تشبه إلى حد كبير إنسانًا حديثًا لكنها تعود إلى 195000 عام، (5) بينما تبدو جمجمة أخرى موجودة في كهف Iwo Eleru في نيجيريا قديمة جدًا، ولكن عمرها 13000 عام فقط. توضح هذه التناقضات أن العملية لم تكن خطية، ووصلت إلى نقطة معينة أصبح بعدها جميع الناس بشرًا حديثين.

إقرأ أيضًا: الإنسان الأخير .. كيف انقرض إنسان النياندرتال؟

الإنسان العاقل خارج إفريقيا (100،000 إلى 210،000 سنة)

توضح العديد من التحليلات الجينية التي تتبع جذورنا إلى إفريقيا أن الإنسان العاقل نشأ في تلك القارة. ولكن يبدو أنه كان لدينا ميل للتجول من حقبة أقدم بكثير مما كان يشتبه العلماء في السابق.

اكتشف عظم الفك الموجود داخل كهف منهار على منحدرات جبل الكرمل بفلسطين، أن البشر الحديثين سكنوا هناك، بجانب البحر الأبيض المتوسط ​​، منذ حوالي 177000 إلى 194000 سنة. الفك والأسنان من كهف ميسليا متشابهين بشكل لا لبس فيه مع الإنسان العاقل، وتم العثور عليها مع أدوات يدوية متطورة وأدوات صوان.(6)

الاكتشافات الأخرى في المنطقة تتراوح ما بين 100000 إلى 130.000 سنة، مما يشير إلى وجود طويل الأمد للبشر في المنطقة. كما تم العثور على بقايا بشرية مع قطع من المغرة الحمراء وأدوات ملطخة بالمغرة في موقع تم تفسيره على أنه أقدم دفن بشري متعمد.

من بين أنظمة كهوف الحجر الجيري في جنوب الصين، ظهرت المزيد من الأدلة منذ ما بين 80.000 و 120.000 سنة مضت. مما يشير إلى أن مجموعات الإنسان العاقل كانت تعيش بالفعل بعيدًا جدًا عن إفريقيا منذ 120.000 سنة.

حتى الهجرات المبكرة ممكنة ؛ يعتقد البعض أن هناك أدلة على وصول البشر إلى أوروبا منذ 210 ألف عام. في حين أن معظم الاكتشافات البشرية المبكرة تثير بعض الجدل العلمي، إلا أن القليل منها يصل إلى مستوى جزء جمجمة Apidima في جنوب اليونان، والذي قد يكون عمره أكثر من 200000 عام وربما يمثل أقدم حفرية بشرية حديثة تم اكتشافها خارج إفريقيا. ومع ذلك، فإن الموقع غارق في الجدل، حيث يعتقد بعض العلماء أن البقايا المحفوظة بشكل سيئ تبدو أقل من تلك الخاصة بنوعنا وتشبه إنسان نياندرتال، الذي تم العثور على بقاياه على بعد أمتار قليلة في نفس الكهف. يشكك آخرون في دقة تحليل التأريخ الذي تم إجراؤه في الموقع، وهو أمر صعب لأن الأحافير قد سقطت منذ فترة طويلة من الطبقات الجيولوجية التي ترسبت فيها.

الإنسان العاقل (15000 إلى 40.000 سنة)

بالنسبة لمعظم تاريخنا على هذا الكوكب، لم نكن البشر الوحيدين. لقد تعايشنا معًا، وكما توضح جيناتنا بشكل متكرر تزاوجنا مع أنواع مختلفة من أشباه البشر، بما في ذلك بعض الأنواع التي لم نتعرف عليها بعد. لكنهم تراجعوا، واحدًا تلو الآخر، تاركين جنسنا البشري ليمثل البشرية جمعاء. على مقياس زمني تطوري، اختفت بعض هذه الأنواع مؤخرًا فقط.

في جزيرة فلوريس الإندونيسية، تظهر الحفريات وجود فضولي وضئيل من الأنواع البشرية المبكرة الملقبة بـ “الهوبيت”. يبدو أن Homo floresiensis قد عاش حتى ما يقرب من 50000 عام، لكن ما حدث لهم هو لغز. لا يبدو أن لديهم أي علاقة وثيقة بالإنسان الحديث بما في ذلك مجموعة Rampasasa pygmy، التي تعيش في نفس المنطقة اليوم.

انتشر إنسان نياندرتال مرة واحدة عبر أوراسيا من البرتغال والجزر البريطانية إلى سيبيريا. تزامن ذلك مع اختفاء إنسان نياندرتال، منذ حوالي 40 ألف عام.

ترك أبناء عمومتنا الأكثر غموضًا، دينيسوفان، وراءهم عددًا قليلاً جدًا من الأحافير التي يمكن التعرف عليها لدرجة أن العلماء ليسوا متأكدين تمامًا من شكلهم. أو ما إذا كانوا أكثر من نوع واحد. تشير دراسة حديثة للجينوم البشري في بابوا غينيا الجديدة إلى أن البشر ربما عاشوا وتزاوجوا مع دينيسوفان منذ 15000 عام. ورث العديد من الآسيويين الأحياء ما يقرب من 3 إلى 5 في المائة من حمضهم النووي من الدينيسوفان.

لقد مات جميع أقربائنا في النهاية، تاركين الإنسان العاقل وحيدًا على هذه الأرض.

المصادر

  1. The Earliest Hominins: SahelanthropusOrrorin, and Ardipithecus
  2. You may have more Neanderthal DNA than you think
  3. Homo heidelbergensis
  4. 160,000-year-old fossilized skulls uncovered in Ethiopia are oldest anatomically modern humans
  5. Human fossils from Omo Kibish
  6. Israeli fossils are the oldest modern humans ever found outside of Africa

نابليون الشرق والمعركة الأولى في التاريخ

على الضفة الشرقية لنهر النيل وتحديدًا في شمال محافظة الأقصر جنوب مصر، حيث حرارة الجو، يقف الفرعون تحتمس الثالث على جدار صرحه في معبد الكرنك مرتديَا تاجه الأحمر، ممسكًا بيده اليسرى مجموعة من الأسرى ويهم بضربهم باليمنى، فيما يحيط بهذا المشهد المهيب نقوش وكتابات قديمة نقشت لتسجل إنجازات هذا الملك والمعركة الأولى في التاريخ.

نابليون الشرق كما يدعوه علماء الأثار تمكن من أن يجعل مصر في عهده أقوى إمبراطورية. لكن أبرز إنجازاته كان انتصاره على تحالف أكثر من 300 دويلة في معركة كانت من أولى المعارك المسجلة في التاريخ.

نابليون الشرق

لا نعرف بالضبط كيف ماتت حتشبسوت، لكن بعد وفاتها تسلم تحتمس الثالث السلطة واتجه بدايةً إلى أعدائه في الداخل حيث قضا على مناصري حتشبسوت، وهم العاملين في بلاطها، ثم أخذ بعد ذلك في القضاء على كل آثارها بصورة مروعة يشهد بشناعتها وعنفها ما أحدثه من الدمار في معبد الدير البحري، وهو المعبد المخصص لحتشبسوت، وبخاصةً في تماثيلها، هذا فضلا َّعما ألحقَه بسائر آثارها في كل أنحاء البلاد.

ولم يعترف تحتمس الثالث بحُكم حتشبسوت، بل جعل التواريخ تبتدئ بالسنة الأولى التي نُصب فيها حاكمًا لمصر عندما أعلنه الإله «رع» ووالده «تحتمس الثاني» ملكًا شرعيًّا على عرش مصر (١٥٠٤–١٤٥٠ق. م).

نقش في معبد الكرنك يظهر تحتمس الثالث يضرب أعدائه في معركة مجدو (مواقع التواصل)

 مصر أُم المشرق

لم تقم حتشبسوت في عهدها بأي حملة عسكرية بل اهتمت بالبناء والاصلاح الداخلي لكنها بالوقت نفسه حافظت على جاهزية قواتها. وقد كانت مصر مهيمنة اقتصاديًا وعسكريًا في تلك الفترة على مناطق المشرق القديم التي كانت تضم مدنًا من سوريا ولبنان وفلسطين اليوم.

خلال فترة انتقال الحكم إلى تحتمس الثالث، اعتبرت المدن المشرقية أن مصر ستمر بمرحلة ضعف واضطرابات، فأقامت هذه الدول تحالفًا وجمعت قواتها في مدينة 《مجدو-Meggido》 وأعلنت بدأ التمرد على مصر. (1)

إقرأ أيضًا: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

معركة مجدو

في سهل مرج ابن عامر شمال فلسطين حيث تمتد المساحات الخضراء بدون نهاية، تقع مدينة مجدو، وعلى بعد 30 كلم جنوب شرقي حيفا ترتفع المدينة على تل في موقع استراتيجي يتحكم بالطريق التجاري والعسكري الذي يخترق جبل الكرمل من السهل الساحلي. كما أن المدينة تربط مصر بسوريا ومن أجل نجاح هذا التمرد كان لا بد من الحفاظ على هذه المدينة.

قرر تحتمس الثالث أن وقت الانطلاق بالحملة هو بداية شهر نيسان سنة 1457. وشهر نيسان هو شهر حصاد القمح في مصر. أما هذا التوقيت الاستراتيجي للانطلاق فاستهدف انتهاء المزارعين المصريين من الحصاد واستعدادهم للقتال في الجيش المصري المكون من العمال والفلاحيين، ولضمان اشتراك القطاع الزراعي في مصر كان لا بد من الانتهاء من الحصاد أولا ثم الانطلاق للمعارك. (2)

سار الجيش المصري المكون من 10 ألاف مقاتل مسافة 220 ميلا في 10 أيام أي ما يقارب 20 ميلا في اليوم، واستقر في غزة ليوم كامل من أجل الراحة قبل الانتقال إلى مدينة 《يحم-Yehem》 التي تقع جنوب غربي مجدو وتبعد عنها حوالي 40 كلم حيث توقف تحتمس الثالث ليجتمع مع كبار الضباط. على طول الطريق المؤدي لمجدو. كانت العديد من المدن المشرقية التي لا تزال موالية لمصر تدعم الجيش بالجنود والعتاد. (2)

على مفترق طرق

في مدينة يحم وُضعت الخطة، أمام تحتمس ثلاث طرق: طريق وعر يمر بأرونا وهو طريق ضيق يسمح بمسير فردي، وطريقين جانبين يمكن عبورهما بسهولة وسرعة. وقد اختار الفرعون أن تعبر القوات في طريقها إلى مجدو عبر ممر أرونا Aruna الضيق والوعر. التزم الجنرالات فورًا بالقرار، وحثوا الجيش على السير بسرعة، فقد دخلوا الممر تقريبا الساعة 6 صباحًا، ربما تم تفكيك العربات وقاد الرجال الخيول في صف واحد للخروج في وادي كينا القريب من مجدو. (3)

وكما توقع تحتمس، لم يجدوا أيًا من الأعداء بانتظارهم في الواقع فإن التحالف المشرقي قد توقع أن المصريين سيسلكون إحدى الطريقين السهلين ووضع جنوده هناك لملاقاته.

استغرق الجنود ليعبروا الممر حوالي ست ساعات لكن عنصر المفاجأة الآن بيد المصريين.

حوالي الواحدة ظهرًا أمر تحتمس الثالث الجنود ببناء المعسكر في منطقة 《Qina Brook》 التي تقع جنوب مجدو ولا تبعد عنها كثيرًا، وبعد خروج آخر القوات من الممر وزع الطعام، وفي تلك الليلة تلقى تحتمس شخصيًا تقارير الحراسة وأصدر الأوامر بأن المعركة ستبدأ في اليوم التالي، ووزع قواته بحيث الجناح الجنوبي كان  على التل فوق 《Qina Brook》 والجناح الشمالي كان في الجهة الشمالية الغربية لمجدو. وقاد الملك شخصيًا الهجوم من الوسط.

كما في صراع العروش

بحسب النصوص انطلق تحتمس إلى المعركة فجر اليوم التالي بعربة من الذهب الخالص وبحماية الآلهة، وقد ارتعب الأعداء منه فهربوا تاركين عرباتهم وخيولهم متجهين نحو المدينة التي أغلقت أبوابها في وجوههم، لكنهم تمكنوا من دخول المدينة عبر الملابس التي علقت لهم كالحبال على أسوار المدينة. (4)

أما لائحة الغنائم فتتضمن 340 أسير، 2041 حصان، 924 عربة والعديد من الماشية التي تركت خارج الأبواب. (2)

يشير تقرير 《Tjaneni》 الكاتب العسكري الذي رافق تحتمس إلى أنه إذا كان الجيش قد طارد العدو الهارب عبر الميدان وقتلهم أثناء فرارهم، فإن المعركة كانت ستنتهي بشكل حاسم في ذلك اليوم. في حين أن الجنود قد تخلوا عن قلوبهم للاستيلاء على الغنائم في الميدان وسمحوا لخصومهم بالوصول إلى حرم المدينة (4).

أمر تحتمس الثالث بحفر خندق حول مجدو، وبناء حاجز خشبي حول الخندق المائي. ولم يُسمح لأي شخص من داخل المدينة بالخروج إلا للاستسلام. استمر الحصار سبعة أشهر على الأقل، قبل استسلام قادة التحالف وتسليمهم للمدينة. حيث تم تجريدهم من مناصبهم وعين مكانهم مسؤولين جددًا، موالين لمصر. وكما في مسلسل صراع العروش أخذ أطفالهم كرهائن إلى مصر لضمان حسن سلوكهم وموالاتهم. تم الإعتناء بالرهائن جيدًا وواصلوا العيش في مستوى الراحة التي اعتادوا عليها.  تم تعليم الأطفال الثقافة المصرية وعندما بلغوا سن الرشد عادوا إلى أراضيهم مع ضمان الولاء للملك المصري. (3)

على الرغم من انتهاء معركة مجدو إلا أن أصدائها بقيت تتردد عبر الأجيال، فكل قوة تحالف المشرق قد هُزمت على يد مصر، أما تل مجدو أو 《Har-Megiddo》  كما ورد في العهد القديم فقد ترجم إلى اليونانية وأصبح 《Armageddon》 ومنه تحولت المعركة الأولى في التاريخ إلى معركة نهاية الزمان في بعض المعتقدات الدينية والنصوص السرية.

المصادر

  1. Redford D. The wars in Syria and Palestine of Thutmose III. Leiden: Brill; 2003.
  2. Spalinger A. War in Ancient Egypt. Blackwell Pub; 2007.
  3. . Mark J. Thutmose III at The Battle of Megiddo [Internet]. Ancient History Encyclopedia. 2020 [cited 1 November 2020]. Available from: https://www.ancient.eu/article/1101/thutmose-iii-at-the-battle-of-megiddo/
  4. Pritchard J, Fleming D. The ancient Near East. Princeton, N.J.: Princeton University Press; 2011.

كيف شكل المؤرخون اليونانيون التاريخ الغربي الحديث؟

طور الإغريق القدماء خلال العصور الكلاسيكية القديمة ما نعرفه اليوم باسم التاريخ. وقد خرج من بين اليونان أوائل المؤرخين في العالم. الذين بنوا أعمالهم عبر دراسة الوثائق والاعتماد على الأبحاث التاريخية السابقة. حتى أن بعض المؤرخين اليونانيين القدماء شاركوا في الأحداث التي وصفوها بأنفسهم أو شهدوها. مع مرور الوقت، ضاعت كتابات العديد من هؤلاء المؤرخين. وبعضها بقي فقط كأجزاء أو اقتباسات أو مراجع في أعمال لاحقة. وبغض النظر عما إذا كانت جميع أعمالهم قد نجت أو لا، فقد شكل المؤرخون اليونانيون فهمنا للعصور القديمة الكلاسيكية ولدراسة التاريخ.

هوميروس

المؤرخون اليونانيون

لا يُعرف شيء تقريبًا عن هوميروس، المؤلف الأسطوري الذي تنسب إليه للإلياذة والأوديسة؛ قصائد ملحمية تحكي قصة حرب طروادة وعواقبها. كانت هوية هوميروس والفترة التي عاش فيها والظروف التي ألف فيها هذه القصائد موضع نقاش ساخن لعدة قرون. حتى أن البعض يذهب إلى حد التشكيك في وجوده ذاته. أما ما لا يمكن التشكيك فيه فهو تأثير أعماله على التأريخ الغربي وتطور التاريخ في اليونان القديمة.

خلال العصور القديمة، كانت حرب طروادة أول “حدث تاريخي” يتم تسجيله في اليونان القديمة وأصبحت أساسية. تمت قراءة أعمال هوميروس على نطاق واسع وتم دمجها في النظم التعليمية للعديد من مدارس الفلسفة. نتيجة لذلك، استوحى العديد من المؤرخين اليونانيين الإلهام من هوميروس عندما قاموا بتأليف تاريخهم. كانت حرب طروادة أيضًا نقطة بداية للمؤرخين اليونانيين القدماء لأنها غالبًا ما كانت أول حدث معروف لديهم وكان أبطالها مرتبطين بأساطير مختلف القبائل والسلالات والمدن والمناطق والممالك. لكن البعض انتقد هوميروس بسبب معاملته للآلهة وشكك في روايته لأحداث حرب طروادة. على الرغم من أنهم يميلون جميعًا إلى قبول حدوث هذه الحرب.

هيرودوت (484-425 قبل الميلاد)

المؤرخون اليونانيون

وُلد هيرودوت، الملقب بـ “أبو التاريخ”، في مدينة هاليكارناسوس اليونانية التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الأخمينية الفارسية. لأسباب غير واضحة، ولكن ربما كانت مدفوعة بالسياسات المحلية، سافر هيرودوت على نطاق واسع في جميع أنحاء الشرق الأدنى وشرق البحر الأبيض المتوسط ​​ومن المعروف أنه زار ساموس ومصر وصور وبابل وأثينا وماغنا جراسيا ومقدونيا. تم تصور عمله العظيم، “التاريخ”، كمحاولة لشرح أصول الحروب اليونانية الفارسية. يركز هذا العمل، الذي بدأ في الفترة الأسطورية، على السنوات ما بين 550-479 قبل الميلاد ويمتد إلى 9 كتب.

أدرج هيرودوت ثروة من المعلومات في “التاريخ” ويميل إلى الاستطرادات الطويلة في المسائل الأنثروبولوجية والإثنوغرافية. على الرغم من أن عمله ألهم العديد من المؤرخين اللاحقين، إلا أن هيرودوت نفسه لا يزال مثيرًا للجدل وقد لقب “بأبو الأكاذيب”. يحتوي عمله على العديد من الروايات الأسطورية والخيالية. ومع ذلك، يقول هيرودوت نفسه أنه لا يذكر إلا ما قيل له، بل إنه يلاحظ عندما لا يصدق مصدره. اليوم، تم تأكيد عدد من الجوانب الخيالية في كتاب التاريخ لهيرودوت من خلال الأبحاث في علم الآثار.

ثيوسيديدز (حوالي 460-400 ق.م)

المؤرخون اليونانيون

》ثيوسيديدز-Thucydides》 الأرستقراطي الأثيني، الذي كان يمتلك منجمًا للذهب، خدم كجنرال خلال 《الحرب البيلوبونيسية-Peloponnesian War》، ونجا من طاعون أثينا، ونفي في النهاية من أثينا لفشل الحملة عسكرية في تراقيا. اشتهر بتاريخه، والذي يتم تقديمه اليوم بشكل شائع باسم “تاريخ الحرب البيلوبونيسية”. يمتد هذا العمل على 8 كتب ويصف أحداث الفترة التي تشمل 438-411 قبل الميلاد تقريبًا. مع توقف تأليفه لهذا العمل فجأة، يُعتقد أن ثيوسيديدس مات فجأة وبشكل غير متوقع.

يعتبر ثيوسيديدز، إلى جانب هيرودوت، “أبو التاريخ”؛ إن نهجه العلمي الذي لم يعترف بالتدخل الإلهي، إلى جانب أسلوبه غير القضائي الذي سعى إلى الإبلاغ عن الأحداث بطريقة غير منحازة، أدى إلى اعتباره أيضًا أول “مؤرخ حقيقي”. ومع ذلك، فهو يقر أيضًا بحرية إلقاء الخطب المناسبة للشخصيات في كتابه التاريخ، بناءً على ما شعر أنه كان يجب عليهم قوله. ومع ذلك، كان تأثير ثيوسيديدز هائلاً على المؤرخين اليونانيين القدماء المتأخرين وعلى التاريخ الغربي.

زينوفون (430-354 ق.م)

زينوفون متحف برلين

وُلِد 《زينوفون-Xenophon》 في أثينا، وكان مؤرخًا يونانيًا قديمًا وجنديًا وفيلسوفًا قاد جيشًا من عشرة آلاف مرتزق يوناني من بلاد فارس، مرتبطين بسقراط وأفلاطون، وكان لهم علاقات وثيقة بأسبرطة. يعكس عمله كمؤرخ خبراته حيث تشمل: 《أناباسيس-The Anabasis》، الذي يعرض تفاصيل مسيرة العشرة آلاف؛ 《Cyropaedia》، التي تصف الحياة المبكرة لكورش العظيم؛ Agesilaus، التي تصف سيرة 《أجيسيلاوس-Agesilaus》 الثاني ملك قوي من سبارتا؛ وتاريخ اسبرطة ومؤسساتها.

ومع ذلك، كان أهم عمل لـ زينوفون هو “Hellenica” أو “كتابات حول مواضيع يونانية”، والتي تغطي السنوات 411-362 قبل الميلاد وتمتد على إجمالي 7 كتب. بشكل عام، كان Hellenica بالنسبة لـزينوفون مشروعًا شخصيًا بعمق، لذلك يظهر تحيزه المؤيد للإسبرطة والمناهض للديمقراطية في هذا العمل.

كتيسياس (القرن الخامس قبل الميلاد)

كان 《كتيسياس-Ctesias》 يونانيًا يعيش في كنيدوس، وهي مدينة كاريانية في الأناضول، عاش هذا المؤرخ اليوناني القديم في ظل الإمبراطورية الأخمينية. طبيب ملكي للملك الأخميني أرتحشستا الثاني، رافق الملك في رحلات استكشافية مختلفة وعالج جروحه. كان لكتيسياس إمكانية الوصول إلى المحفوظات الملكية للإمبراطورية الأخمينية، والتي استند إليها في بناء تاريخه.

اشتهر بعملين، “بيرسيكا وإنديكا”. يعكس 《إنديكا-Indica》 المعرفة والمعتقدات الأخمينية عن الهند ولا يُعرف إلا بالشظايا والاقتباسات المحفوظة في أعمال المؤرخين الآخرين. امتدت أعمال كتيسياس الأخرى، 《بيرسيكا-Persica》، إلى 23 كتابًا وقد كُتبت في الأصل ضد هيرودوت وروايته. كانت بيرسيكا ذات قيمة عالية ونقلت على نطاق واسع في العصور القديمة، على الرغم من وجود شكوك حتى في ذلك الوقت حول موثوقيتها.

إقرأ أيضًا: رحلة في تاريخ الفن، من أين أتى القنطور؟

ديودورس الصقلي (90-30 قبل الميلاد)

ديودورس الصقلي

كان 《ديودورس الصقلي-Diodorus Siculus》 يونانيًا من مدينة Agyrium في صقلية، ولم يُعرف أي شيء آخر عن حياته. أعظم أعماله هو 《المكتبة التاريخية-Bibliotheca Historica》. كان هذا عملاً هائلاً امتد في الأصل إلى حوالي 40 كتابًا. لإكمال هذا العمل الملحمي، اعتمد ديودوروس الصقلي على أبحاث العديد من المؤرخين السابقين. ومع ذلك، فقد ضاع الكثير من المكتبة التاريخية مع مرور الوقت، بحيث بقيت الكتب 1-5 و11-20 فقط؛ إلى جانب بعض الأجزاء والاقتباسات المحفوظة في أعمال المؤرخين اللاحقين.

كان القصد من مكتبة هيستوريكا أن تكون تاريخًا عالميًا. أي أنها حاولت تقديم تاريخ البشرية جمعاء في وحدة واحدة متماسكة. على هذا النحو، تم تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء. تناول القسم الأول التاريخ الأسطوري حتى تدمير طروادة. غطى القسمان الثاني والثالث الفترات ما بين تدمير طروادة وموت الإسكندر، ومن وفاة الإسكندر إلى بداية حروب الغال قيصر. جغرافيًا، امتدت أعماله إلى العالم المعروف وشملت مصر والهند والجزيرة العربية وسيثيا وبلاد ما بين النهرين وشمال إفريقيا والنوبة وأوروبا.

ترك المؤرخون اليونانيون القدماء بصمة دائمة على المجتمع الغربي الحديث. على الرغم من أنهم عاشوا منذ آلاف السنين. من ملحمة هوميروس القديمة جاءت الفكرة الحديثة التي تححدث عن رحلة البطل، ومن توثيق الحروب القديمة، تمكن المؤرخون من دراسة الغزوات العسكرية للعصور القديمة وتطوير تكتيكات الحرب الحديثة. كان لتوثيق التاريخ القضائي والسياسي والعسكري والثقافي والفني في العصور القديمة تأثير لا يُحصى على الثقافة الغربية الحديثة. بدون مساهمات هؤلاء المؤرخين اليونانيين القدماء، كان عالمنا اليوم سيبدو مختلفًا تمامًا.

المصادر

  1. Ancient Historians
  2. Greek historiography
  3. Why Homer Matters: A History 

رحلة في تاريخ الفن، من أين أتى القنطور؟

لا بد وأنك شاهدت قنطورًا ولو لمرة في حياتك على الأقل؛ في لعبة Hercules مثلًا.《 والقنطور-Centaur 》 هو كائن غريب من الميثولوجيا اليونانية. نصفه إنسان ونصفه، حصان وقد عاش في غابات البر الرئيسي لليونان. استخدم الإغريق هذا المخلوق كرمز، للدلالة على الشعوب الأخرى التي اعتبروها بربرية وهمجية. لكن في حالة 《تشيرون-Chiron》 فقد كان رمزًا للحكمة الإلهية.

أدبيًا، ظهر أقدم ذكر للقنطور في نصوص هوميروس. أما في الفن فقد ظهر هذا المخلوق في اليونان بدايةً، في نهاية ما يسمى بالعصور المظلمة اليونانية، أما في الحضارات الشرقية فله شواهد تعود إلى ما قبل هذا التاريخ.

ولادة القنطور-Centaur

مشهد منحوت من أسطورة Centauromachy 447-438 المتحف البريطاني

في الأساطير والميثولوجيا اليونانية، كان القنطور جنسًا أخر من المخلوقات. كائنات مركبة نصفها بشر ونصفها أحصنة. يقاتلون باستخدام أغصان الأشجار وبرمي الحجارة في معظم الأوقات، ونادرًا ما قاتلوا باستخدام الأقواس والأسهم.

إن قصة ولادة القنطور غريبة بعض الشيء. لم يجد 《إيكسيون-Ixion》 ابن الإله أريس أحدًا يمكن أن يسامحه لما اقترفه من ذنب عندما قتل والده بالتبني، حتى تبناه في النهاية الإله زيوس واستقبله كضيف في جبل الأولمب. لكن إيكسيون عاد لذنبه ووقع في حب 《هيرا- Hera》 زوجة زيوس. ولكشفه قام زيوس بصنع سحابة على شكل زوجته فوقع إيكسيون بالفخ بعد أن تزاوج معها. أما القنطور فقد ولد من تزاوجهم.

استطاع القنطور أن ينجب ذرية عبر زواجه من أفراس منطقة 《ماغنيسيا-Magnesian mares》

كان القنطور يمثل الهمجية والوحشية بعيد كل البعد عن الحضارة. مثل القنطور العنف يظهر في الميثولوجيا كقاتل ومغتصب. عاش في الغابات في مناطق 《ثيساليا- Thessaly》 والبعض الأخر عاش في منطقة إيبيروس أما النوع الذي كان يمتلك قرونًا كالثور فقد انتشر في جزيرة قبرص.

ريد ويدنغ أو الزفاف الأحمر

أكثر المشاهد شهرة والتي تظهر في الميثولوجيا اليونانية هي أسطورة 《Centauromachy》. في هذه الأسطورة يدعو 《بيريثيوس-Pirithous》 القنطور لحضور حفل زفافه مع  《هيبوداميا-Hippodamia》 وفي أثناء الحفل يسكر القنطور ويهاجم جميع الضيوف ويحاول خطف هيبوداميا. لحسن الحظ يتمكن بيريثيوس بمساعدة البطل ثيسيوس من هزيمته وابعاد هذا التهديد.

إن القنطور الأكثر شهرة في الأساطير اليونانية هو تشيرون. وقد اعتبره هوميروس الأصلح بينهم جميعًا. ويعتبر من أكثر الكائنات حكمة في الميثولوجيا اليونانية. لقد كان معلم أخيل وهرقل وفرساوس وثيسيوش والكثير غيرهم. كان تشيرون ابن 《كرونوس-Cronus》 وفيليريا وربما كانت قصة ولادته المختلفة هذه من أجل شرح سبب اختلافه عن باقي أنواع القنطور الهمجية.

كائنات مركبة

رجل وقنطور من البرونز منتصف القرن الثامن ق.م.

مثل كل الحضارات الأخرى تقريبًا كان للإغريق أساطيرهم الخاصة. ولو يكن القنطور هو الكائن الوحيد المركب في هذه الأساطير. كان هنالك أيضًا 《Sphinex أو أبو الهول》 وهو كائن نصفه أسد ورأسه إنسان والعديد من هذه الكائنات أيضًا.

بهذه الأساطير حاول الإغريق فهم وشرح العالم الطبيعي الذي يحيط بهم.

قبل ظهور العالم اليوناني في التاريخ، كانت صور المخلوقات المركبة موجودة بالفعل في حضارات بحر إيجة والبحر المتوسط.  هنالك تمثيل واحد على الأقل لقنطور من العصر البرونزي وجد في أوغاريت أو ما يعرف برأس شمرا حاليًا على الساحل السوري. كما تم التعرف أيضًا على عدة مخلوقات مركبة في الحضارة الميناوية والميسينية التي ازدهرت في بحر إيجة خلال عصر البرونز.

وخلال العصور المظلمة اليونانية، الفترة التي تلت انهيار حضارات عصر البرونز، اختفت هذه المخلوقات المركبة في ظروف غامضة حتى عادت فيما يعرف بالعصر الهندسي اليوناني. وهو عصر ازدهر فيه الفن الهندسي اليوناني من سنة 700-900 قبل الميلاد.

تشترك جميع هذه المخلوقات المركبة في الفن اليوناني في أن تصميمها كان قيد التجريب في جميع هذه المراحل وصولًا للقرن السادس قبل الميلاد.

في الفن الشرقي

الثور المجنح من الحضارة الأشورية 721-705 ق.م.

على الرغم من اعتبار القنطور الهام يوناني بامتياز، فهذا لا يعني أن اليونان لم يستوحوا شيئًا من رموزهم وأيقوناته من حضارات وثقافات أخرى.

لم تكن مناطق وجزر بحر إيجة معزولة عن بقية العالم. فقد أحاطت باليونان ممالك قوية ذات تاريخ عميق وأساطير غنية. أثرت مصر وممالك الشرق الأدنى والأوسط على الإغريق في كل جانب، من العمارة والفن إلى الدين. ليس من قبيل المصادفة أن يتضمن الفن القديم فترة استشراقية. بحلول الوقت الذي كتب فيه هوميروس ملاحمه، كان بحر إيجة قد شهد بالفعل الحرب والتجارة والهجرة لدرجة أن صور وقصص الشرق كانت في متناول الإغريق. لم يكن اليونانيون، بطبيعة الحال، مستقبِلين سلبيين بل فاعلين. لقد تبنوا هذه الصور والمحفزات، وخلطوها مع صورهم الخاصة، وأنتجوا أساطير وقصص وفنون فريدة جديدة تحتوي على كل هذه التأثيرات القديمة.

تم استخدام رموز هذه الوحوش المركبة مثل أبو الهول من الحضارات الشرقية، أحيانًا مع بعض التغييرات الصغيرة وأحيانًا أخرى دون أي تغييرات على الإطلاق. علاوة على ذلك، فإن الوحوش الشرقية مثل الأسد البشري والثور البشري تقدم العديد من أوجه التشابه الشكلي مع القنطور.

هل كان هنالك قنطور-Centaur في الشرق؟

خنم أسطواني أشوري من القرن 13 ق.م.

في ختم أسطواني آشوري يعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، يمكننا أن نرى بوضوح رجلًا له أجنحة وجسم حصان وذيل عقرب. يحمل هذا الفارس المجنح المميز قوسًا.

تصوير مبكر آخر للقنطور في الفن الشرقي يأتي من ختم أسطواني آشوري آخر من القرن الثالث عشر قبل الميلاد. كان الشكل يحمل أيضًا قوسًا، وخلال القرون التالية تبلورت في صورة برج القوس.

باستثناء هذه الأختام الآشورية، يمكن إرجاع جذور 《القنطور-Centaur》 إلى بلاد ما بين النهرين ، وهو نوع خاص من الأسود المركبة. بالطبع، هناك أيضًا كائنات أخرى لها أجسام بشرية وحيوانية ولكن لا شيء مثل القنطور كما ظهر في الفن والأساطير اليونانية.

القنطور في حضارات بحر إيجة

القنطور الميسيني

كانت الحضارات الميسينية والمينوية هي الحضارات التي ازدهرت في بحر إيجه خلال العصر البرونزي اليوناني وحتى القرن الثاني عشر قبل الميلاد عندما بدأت العصور المظلمة اليونانية.

هناك دليل جيد يدعم استخدام الحضارة الميسينية لرمز 《القنطور-Centaur》. إنه عبارة عن تمثالان من الطين الميسيني تم العثور عليهما في أوغاريت. ليس من الغريب العثور على أشياء ميسينية في أوغاريت فقد كانت مركزًا تجاريًا رئيسيًا في منطقة سوريا. في الواقع، كان الميسينيون على اتصال دائم من خلال التجارة والحرب والسفر مع الشعوب من حولهم.

هناك ايضًا عدة أدلة تشبه القنطور وهي تماثيل خزفية نذرية من معابد في جزيرة كريت وقبرص من القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد. ومع ذلك، بدت هذه الأشياء أشبه بأبي الهول وأقل شبهاً بالقنطور لأنها لم تكن لها أيدي.

القنطور والعصور المظلمة لليونان

قنطور لافكندي 1000 ق.م.

تم اكتشاف شخصية لافكندي بالقرب من بلدة 《Euboea》 الصغيرة في منطقة تسمى لافكندي. يعود تاريخه إلى العصور المظلمة اليونانية، وبشكل أكثر تحديدًا القرن العاشر قبل الميلاد. بشكل عام، يعتبر لافكندي موقعًا أثريًا مهمًا قدمت أعمال التنقيب فيه معلومات قيمة فيما يتعلق بالعصر اليوناني المظلم والاتصال بين اليونان ومصر وقبرص وسوريا وليفانتي.

إقرأ أيضًا: سلسلة الفن القديم: الجزء الرابع – الفن الهيلينستي (اليوناني)

إنه أول مثال كامل للقنطور. أهميته كبيرة لدرجة أن العديد من الكتيبات تعتبر هذه بداية الفن اليوناني. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه في هذا الوقت لم تكن هناك أساطير يونانية موحدة. لم يتم تدوين ملاحم هوميروس إلا بعد قرنين من الزمن. في وقت نحت هذا التمثال، كانت الأساطير اليونانية لا تزال في بدايتها. حيث كانت الأساطير تتفاعل مع بعضها البعض وتتغير باستمرار. لذلك لا يمكننا افتراض أنه كان له نفس المعنى والرمزية كما في القرن السادس قبل الميلاد.

يعتبر القنطور من 《لافكندي Lefkandi》 أول قنطور كامل في الفن اليوناني. لكن ماذا يعني الكامل؟ على الرغم من أن فكرة الهجينة بين الإنسان والحصان ليست اختراعًا يونانيًا، إلا أن فكرة القنطور ككائن برأس وجسم الإنسان العلوي وجسم الحصان هي إلهام يوناني.

هل يمكن أن يكون قنطور-Centaur ليفكندي هو تشايرون؟

قنطور-Centaur ليفكندي كان لديه ستة أصابع في يده كذلك كان تشايرون صاحب الحكمة الأسطورية. مات تشيرون بعد إصابته بسهام هرقل في ركبته اليسرى. إذا ألقينا نظرة فاحصة على الركبة اليسرى لشخصية ليفكندي، فسنلاحظ خدشًا عميقًا. قد يكون هذا إضافة مقصودة أو نتيجة غير مقصودة ناتجة عن مرور الوقت. إذا كان الأول صحيحًا، فسيكون هناك سبب آخر للاعتقاد بأن بأن هذا القنطور هو مثل مبكر لـلتشايرون أو مخلوق له أسطورة مماثلة لأسطورة تشايرون.

المصادر

  1. The Centaur’s Smile
  2. The Lapiths and the Centaurs
  3. Classical Myth

التغير المناخي.. كيف صمد الإنسان أمام غضب الطبيعة؟

أنهى بيل غيتس كتابه عن التغير المناخي في نهاية سنة 2020. (1) حيث كانت جائحة الكورونا قد قتلت حوالي 1.4 مليون إنسان. أرتفع الأن هذا العدد بشكل مخيف فقد أظهرت هذه الجائحة عدم استعدادنا لمواجهة الكوارث. وفي حال لم نبدأ من الأن بالاستعداد لخطر التغير المناخي فالكارثة القادمة ستكون أكثر فتكًا بكثير.

فيما يطرح بيل غيتس في كتابه أسباب وحلول التغير المناخي، سيلفت هذا التقرير انتباهكم لعدة كوارث مناخية قد أصابت الأرض أثناء التاريخ البشري. فلربما نتعلم من تجربتهم كيف نتجنب هذا الخطر القادم.

الخطر الكبير القادم

“من لم يتعلم من دروس الثلاث ألاف سنة الماضية سيبقى دائمًا في العتمة.” غوته

نحن اليوم في حالة طوارئ مناخية وربما سنتخطى نقطة اللاعودة ما لم نتخذ القرار المناسب لمواجهة التغير المناخي.(2) لقد واجه القدماء هذا التغيير المناخي أيضًا. في الواقع هنالك عدة فرضيات أثرية اليوم تتحدث عن دور التغيير المناخي في تشكيل التاريخ البشري. فالمجتمعات التي عاشت قبل 6000 سنة على الأرض واجهت تقلبات مناخية كبيرة. كان أثر هذه التقلبات المناخية على الحضارات القديمة متفاوتًا أو بالأحرى نقمةً لبعضها ونعمةً لبعضها الأخر.

حضارة نهر السند

ربما يكون مصير حضارة نهر السند من الأمثلة الأبرز على تأثير التغيير المناخي على المجتمعات القديمة التي امتلكت ما يكفي من التطور لتزدهر.

لحضارة نهر السند موقعين كبيرين هما Moenjodaro and Harappa وكلا الموقعين يظهران درجة عالية من الإدارة والتنظيم والتصميم الهندسي للمباني الكبيرة. عاش فيهما ما يقارب 35 ألف إلى 50 ألف نسمة. وامتلكوا شبكات من أقنية المياه وخزانات مياه كبيرة واخترعوا شكلًا من أشكال الكتابة.

خزان المياه في موقع Moenjodaro المصدر: Wikimedia Commons

ازدهرت هذه الحضارة سنة 2400 ق. م. واستمرت لسنة 1600 ق.م. حيث كانت نهايتها الغامضة. افترضت أسباب كثيرة لهذه النهاية وأكثرها درامية كان مذبحة على يد الأريين الذين غزوا هذه الحضارة. لكن الأدلة الاثرية من الهياكل العظمية للسكان والتي كان بعضها مدفونة أيضًا لا تشجع على القبول بهذه الفرضية.

في المقابل يروي لنا التغيير المناخي قصة صعود هذه الحضارة وأفولها: قبل سنة 3050 ق.م. كانت الأمطار غزيرة جدًا في هذه المنطقة وكثرت معها الفيضانات مما جعل السكن فيها مستحيلًا. أدى التغير المناخي بعد سنة 3050 إلى تقليل نسبة الأمطار وبالتالي الفيضانات مما ترك أراض زراعية خصبة وسمح بإنشاء المستعمرات في هذه المنطقة.

لكن وللأسف لم يتوقف التغيير المناخي عند هذه النقطة فبحلول عام 1700 ق.م.  كانت المنطقة قاحلة كليًا ولم تستمر سوى القليل من النباتات المتكيفة مع هذه الظروف الجافة. في الدراسات الحديثة نجد أن ملوحة خليج البنغال قد زادت في هذه الفترة أيضًا بسبب انخفاض تدفق النهر. (3) وبحلول عام 1600 كانت هذه الحضارة قد انتهت وما تبقى من السكان قد هاجر إلى مناطق أخرى.

فيما تتزايد الأدلة اليوم على أن التغير المناخي قد قضى على حضارة كانت على هذا القدر من البارعة في التحكم بمصادر المياه لصالحها. يبقى السؤال المهم، إلى أي مدى ستصمد استراتيجياتنا اليوم في مواجهة التغير المناخي؟ وتحت أي ظروف ستنهار؟

المناخ في مصر

ربما تكون مصر قد ضعفت أمام هذا الجفاف أيضًا. المملكة القديمة في مصر انهارت في أواخر الألفية الثالثة ق.م. بعد أن كانت دولة قوية وغنية ويكفي أنها المملكة التي بني في عصرها الهرم الأكبر. فقد كانت تمتلك كل المهارات المطلوبة في التصميم والتخطيط والعمل بالإضافة لفائض زراعي يسمح بكل هذه الأعمال كان توفره الفيضانات المستمرة للنيل.

انهارت المملكة القديمة حوالي عام 2160 ق.م. ودخلت مصر في مرحلة انتقالية وعزا المؤرخون أسباب الانهيار إلى الصراع على السلطة أو الغزو، ولكن هناك أدلة قوية على أن الجفاف خلال هذه الفترة سبب انخفاضًا في نسبة فيضان النيل عبر السنة وقد وثقت دراسات عديدة انتشار الجفاف في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​وغرب آسيا في هذه الفترة (2250 قبل الميلاد).

 تظهر السجلات الجيولوجية من دلتا نهر النيل انخفاض في تدفقه في هذه الفترة. (4) وفي هذه الحالة يكون الجفاف قد ساعد على انهيار الدولة. قد يكون الجفاف قد أضعف مصر لكنه لم يدمر الحضارة المصرية ومع ذلك، فإن التغييرات الثقافية التي ظهرت خلال الفترة الانتقالية الأولى كان لها آثار دائمة.

هل بدأ الاحتباس الحراري قبل 7 ألاف سنة؟

 اكتشف الانسان الزراعة حوالي سنة 7000 ق.م. كان هذا اكتشافًا عظيمًا وكارثة في الوقت عينه. فقد زاد المزارعون الأوائل من انبعاثات غازات التي تؤدي إلى الاحتباس الحراري. كما أن التوسع في الرعي وتربية الحيوانات خلقت المزيد من غاز الميثان.

 قطع وحرق الأشجار، أدى إلى زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أثناء العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي. هذا ما اقترحه ويليام روديمان لأول مرة في 2003، افترض أن التدخل البشري مع المناخ بدأ قبل فترة طويلة من الثورة الصناعية نتيجة للثورة الزراعية واستخدام الأراضي.

 يأتي الدليل على مثل هذا التأثير البشري المبكر من الزيادة الملحوظة في ثاني أكسيد الكربون التي بدأت منذ 7000 عام، وفي بدأ ارتفاع نسبة الميثان منذ حوالي 5000 عام، وهو نمط لم يتم رؤيته في النقطة المقابلة في الفترات الجليدية السابقة (5)

نهاية عصر

لم تتوقف كوارث التغيير المناخي عند هذه النقطة فبعد حوالي 1000 سنة من انهيار المملكة القديمة في مصر أتت نهاية العصر البرونزي في منطقة البحر المتوسط. امتد العصر البرونزي من سنة (3100-1200 ق.م.)  وعندما حلت نهايته أنهى معه معظم الحضارات والإمبراطوريات الكبرى التي ازدهرت في هذه الفترة.  

في مصر، انتهت الدولة الحديثة عام 1070 قبل الميلاد وتم تقسيم البلاد. أما في الأناضول، فانهارت الإمبراطورية الحيثية بحلول عام 1160 قبل الميلاد. وفي الساحل السوري، انهارت دولة أوغاريت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وانهارت حضارات اليونان تمامًا. تم التخلي عن قصر كنوسوس في جزيرة كريت في أواخر العصر البرونزي أيضًا.  انهارت حضارة ميسينا بين عامي 1200 و1100 قبل الميلاد.

ما الذي تسبب في هذه السلسلة من النكسات الحادة في نهاية العصر البرونزي؟ المعارك والغزوات هي إحدى الاحتمالات. والكوارث الطبيعية أيضًا.ويعتبر تغير المناخ اليوم سببًا محتملاً جدًا لإنهيار هذا العصر. تشير سجلات الغطاء النباتي من دلتا نهر النيل إلى سلسلة من حالات الجفاف الإقليمية، (1050 قبل الميلاد). (6)

وفي السنوات الأخيرة زادت الأبحاث في هذا المجال فقد نشر فريق دولي من الباحثين يضم 《ديفيد كينوسكي – David Kaniewski》 بحثًا يتضمن عدة أدلة علمية على التغير المناخي والجفاف في إقليم البحر المتوسط في نهاية القرن الثالث عشر ق.م. اعتمد الباحثون على بيانات استمدوها من تل تويني في شمال سوريا. وعبر دراسة حبوب لقاح مأخوذة من رواسب طمي بالقرب من الموقع استنتجوا وجود فترة جفاف شديدة في المنطقة (7). استمرت هذه الفترة ما يقارب 300 عام وتسببت في تلف المحاصيل ونقص الغذاء والمجاعة مما سرع الأزمات وفرض نزوحًا بشريًا إقليميًا في شرق المتوسط وغرب آسيا.

بعد بحث كينوسكي نشر براندون دريك من جامعة نيو مكسيكو عدة أدلة اضافية من مناطق في فلسطين وغرب اليونان، تشير إلى حصول جفاف في هذه المناطق وفي ذات الفترة تقريبًا.

يمكن أن يحسم التغير المناخي الجدل أخيرًا في سبب انهيار عصر البرونز القديم ولكن يبقى أن نتعلم من هذه الكارثة دروسًا لمستقبلنا.

اقرأ أيضًا: العصر البرونزي الحديث .. كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

هل قضى التغير المناخي على روما؟

بدأت فترة من المناخ الدافئ والمستقر نسبيًا من حوالي 400 قبل الميلاد إلى 200 م، تزامن ازدهار الإمبراطورية الرومانية مع هذه الفترة المستقرة. وتوسعت بعدها لتحكم كل من إيطاليا، حوض البحر الأبيض المتوسط ​​بأكمله، وفي النهاية مناطق شاسعة من داخل غرب وجنوب شرق أوروبا. لكن وعلى مدى عدة قرون، وصلت الإمبراطورية الرومانية إلى نهايتها وانهارت. هذا الانهيار لم يحدث في نفس الوتيرة في جميع المواقع التي سيطرت عليها وربما يعود هذا أيضًا لأسباب مناخية.

وصلنا الأن إلى فترة الإمبراطورية الرومانية التي تعد من أعظم الامبراطوريات في التاريخ وربما تكون قد استمدت عظمتها وكذلك انهيارها من التغير المناخي.

 انهارت الإمبراطورية الغربية عام 476 م، ولكن نجت الإمبراطورية الشرقية لعدة قرون بعد ذلك. تلك الإمبراطورية الشرقية أصبحت تُعرف باسم الإمبراطورية البيزنطية. لكن ما هو دور المناخ في هذا الانهيار؟

أشار المؤرخون إلى أحداث متعددة كأسباب محتملة لانحدار روما. لكن الأبحاث المناخية أسفرت عن أدلة على أن تغير المناخ قد ساهم في اضعاف روما، كانت قدرة روما في إدارة وتخزين المياه قوية ولكن النمو السكاني فيها جعلها أكثر عرضة للتقلبات المناخية.جاء الجفاف في القرن الثالث في نفس الوقت الذي كانت فيه روما تنهار تقريبًا. وانخفضت المحاصيل الزراعية بشكل كبير (8). مما سرع في عملية الانهيار هذه.

لكن المناخ في الإمبراطورية الشرقية قد أخذ منحًا أخر فقد أدت الرطوبة العالية وهطول الأمطار إلى تحسين ظروف الزراعة في بعض الأجزاء من شرق البحر الأبيض المتوسط ​​والأناضول. كان المناخ المستقر أحد العوامل العديدة التي ساعدت الحضارة الكلاسيكية على الصمود بشكل كبير أطول في الشرق مما كانت عليه في المناطق الغربية للإمبراطورية الرومانية.

مستقبل دافئ

أثر التغير المناخي على التاريخ البشري بشكل كبير وشكله في بعض الأحيان حتى أصبحوا مرتبطين بشكل وثيق ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. تسبب التغير المناخي في انهيار المجتمعات المعقدة عبر آلاف السنين والقرون لكنه جعل الإنسان أكثر مرونة في مواجهة التغيرات المناخية. نقف اليوم أمام الحدث المناخي الأعنف في التاريخ. قرارتنا ونشاطاتنا لأن هي العامل الرئيسي الذي سيدفعنا نحو الكارثة أو سينجينا منها. يجب أن ننظر إلى التاريخ بتمعن وأن نقرر بحكمة فقرارنا اليوم هو الذي سيحدد في أي مستقبل سنعيش.

المصادر

  1. How to Avoid a Climate Disaster: The Solutions We Have and the Breakthroughs We Need
  2. World Scientists’ Warning of a Climate Emergency
  3. Holocene aridification of India
  4. Nile flow failure at the end of the Old Kingdom Egypt: strontium isotopic and petrologic evidence
  5. Late Holocene climate: Natural or anthropogenic?
  6. Nile Delta response to Holocene climate variability
  7. Kaniewski D, Van Campo E, Weiss H. Drought is a recurring challenge in the Middle East. Proceedings of the National Academy of Sciences. 2012;109(10):3862-3867.
  8. Climate Change during and after the Roman Empire: Reconstructing the Past from Scientific and Historical Evidence

التاريخ ينصف المرأة.. دورها في الحكم أعظم مما نتصور!

مرة بعد أخرى يعيد العلم للمرأة بعضًا من حقوقها المهدورة. فمن الشائع جدًا بين المؤرخين وعلماء الآثار أن الرجال قد حكموا معظم المجتمعات خلال العصر البرونزي في أوروبا. كان ذلك قبل أن تظهر أدلة جديدة يمكن أن تعيد كتابة التاريخ، لكن بطريقة منصفة. فهل سينصف التاريخ المرأة هذه المرة؟

ظهرت وعلى رأسها تاج 

تهيمن على موقع 《 La Almolya 》في اسبانيا أطلال هيكل شبيه بالقصر كان مبنيا في ما مضى على قمة تل صخرية تطل على السهول المحيطة. كان الباحثون الإسبان يحفرون في الموقع سنة 2014 عندما عثروا على قبر تحت أرضية غرفة كبيرة تفتقر إلى معظم أدوات المعيشة. لم يكن فيها أي عناصر احتفالية تشير لوظيفة دينية بل مجرد مقاعد حجرية متشققة ومتوزعة على طول الجدران. مما يشير إلى أن هذا المكان كان مركزًا للحكم.

في القبر وجد الباحثون جرة فخارية احتوت على عظام المرأة وإلى جانبها هيكل عظمي لرجل. كان الرجل يرتدي سوارًا نحاسيًا وسدادات أذن ذهبية. أما المرأة فكانت ترتدي العديد من الأساور والخواتم الفضية، وقلادة من الخرز، وإكليل فضي مذهل يزين جمجمتها. هذه القطعة الشبيهة بالتاج مطابقة تقريبًا لأربعة قطع أخرى وجدت على نساء مدفونات في منطقة أخرى في 《الأرغار- El Argar.》

الجرة المدفنية التي وجد فيها عظام المرأة وزوجها.

اما الأرغار فهو مجتمع سيطر على مناطق الجنوبية الشرقية لشبه الجزيرة الأيبيريةمن حوالي عام 2200 إلى 1550 قبل الميلاد. كان هذا المجتمع منتجًا رئيسيًا للمنسوجات وربما مركزًا إقليميًا ثريًا، كما يقول عالم الآثار والمؤلف المشارك في الدراسة روبرتو ريش من جامعة برشلونة المستقلة.

اقرأ أيضًا: العصر البرونزي الحديث .. كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

نخبة مجتمع الأرغار

حسب التأريخ بالكربون المشع للرفات فقد مات الرجل والمرأة عام ١٦٥٠ قبل الميلاد، وقد ماتوا في نفس الوقت أو تقريبًا. كان الرجل يبلغ من العمر حوالي 35 إلى 40 عامًا عندما توفي، أما المرأة فقد ماتت بين 25 و30 عامًا. لا يمكن للباحثين التأكد من سبب موتهم، فلم تظهر الهياكل العظمية إصابات مميتة بشكل واضح. يكشف التحليل الجيني أن الاثنين لم يكونا مرتبطين (ليسوا من عائلة واحدة)، لكن لديهما ابنة ماتت في سن الطفولة ودُفنت في مكان قريب.

ويشير الباحثون في  الدراسة  التي نشرت حديثًا في مجلة Antiquity إلى أن القبر القيّم للزوجين يدل على أنهما كانا من بين نخبة La Almoloya. وتشير الزخارف النسائية إلى أن سلطة المرأة كانت أقوى من الرجل في ذلك الوقت وربما كانت حاكمة إقليمية في مجتمع الأرغار.

تم العثور على زخارف أنثوية غنية في مواقع أخرى من العصر البرونزي في جميع أنحاء أوروبا. في الماضي، كان العديد من علماء الآثار يعيدون ذلك الطقس إلى أنهن زوجات لمحاربين أقوياء. لكن بالنظر إلى أهمية وبروز المرأة في موقع La Almoloya، لماذا لا نقول بساطة أن المرأة كانت الحاكمة في هذا المجتمع؟

الحكم للمرأة

لا يمكن ان نعلم الأن مدى اتساع سلطة هذه الحاكمة لكن الباحثين تمنوا أن يدفع هذا الاكتتشاف الأخرين إلى إعادة النظر في افتراضاتهم حول وضع  المرأة طوال عصور ما قبل التاريخ.

تقول عالمة الآثار 《سامانثا سكوت رايتر-Samantha Scott Reiter 》التي لم تشارك في الدراسة: “فكرة أن نساء العصر البرونزي ربما احتللن مكانة وسلطة في حد ذاته كانت موجودة منذ بعض الوقت”. “في الآونة الأخيرة فقط – بمقالات مثل هذه – يبدو أن النظام يعطي قوة الإناث اعتبارات أكاديمية أكثر جدية الأن.”

يقول《 مارك هوجتون-Mark Haughton》 عالم الآثار بجامعة كامبريدج، إنه من المستحيل معرفة كيف ينظر مجتمع الأرغار إلى الأفراد المدفونين. لكنه سعيد لرؤية أن الباحثين لم يحسموا فرضيتهم بأن مجوهرات المرأة المدفونة معها هي رمز لقوة زوجها. يقول: “إذا قبلنا أن الأغراض الجنائزية هي ممتلكات المتوفى، فإننا بحاجة إلى القبول بامتلاك النساء لهذه الأغراض في رواياتنا عن القوة في عصر البرونز”.

تقول عالمة الآثار جوانا بروك: “إذا قبلنا أن النظام الأبوي ليس أمرًا حتميًا، فربما يمكننا تخيل مستقبل أفضل لأنفسنا.”

المصادر

الدراسة المنشورة في مجلة Antiquity

هل استطاع إنسان النياندرتال التكلم مثلنا؟

عزيزي القارئ قد تظن أنك، وباستثناء الببغاء، الكائن الوحيد القادر على الكلام على سطح هذه المعمورة. لكن يؤسفني أن أخبرك أن كل ذلك قد تغير. فمؤخرًا ظهر أن النياندرتال، أقرب أقربائنا، امتلك القدرة على إصدار الأصوات وسماعها، بالقدر نفسه الذي تمتلكه أنت قبل أن تكون موجودًا حتى. فهل استطاع إنسان النياندرتال التكلم مثلنا؟

هل تكلم النياندرتال؟

استطاع أقرب اقربائنا النياندرتال السمع وإصدار الأصوات كالإنسان الحديث تمامًا وفق ما جاء في دراسة حديثة. فعبر تحليل مفصل وإعادة تشكيل رقمي لعظام الجمجمة لدى النياندرتال. تمكنت هذه الدراسة من إنهاء جدل استمر لسنوات عن قدرة هذا الكائن على التكلم.

حسب عالم الحفريات البشرية 《رولف كوام-Rolf Quam》 من جامعة بينغهامتون هذه الدراسة واحدة من أهم الدراسات التي حصلت في مجال الحفريات البشرية. فنتائجها القوية تظهر بوضوح أن إنسان النياندرتال كان لديه القدرة على إدراك وإنتاج الكلام البشري. وهي واحدة من عدد قليل جدًا من الدراسات الحالية التي تعتمد على الأدلة الأحفورية لدراسة تطور اللغة. وهو موضوع صعب التأكد منه في علم الأنثروبولوجيا.

إن الفكرة القائلة بأن 《إنسان نياندرتال-Homo neanderthalis》 كان أكثر بدائية من 《البشر المعاصرين-Homo sapiens》 عفا عليها الزمن. ففي السنوات الأخيرة، تُظهر مجموعة متزايدة من الأدلة أنهم كانوا أكثر ذكاءً مما افترضنا في السابق. لقد طوروا تكنولوجيا لصناعة الأدوات وابتكروا الفن وأقاموا الجنازات لموتاهم.

ومع ذلك، لم نكن نعلم ما إذا كانوا قد تحدثوا بالفعل مع بعضهم البعض، فقد ظل هذا الأمر لغزًا. يبدو أن سلوكهم المعقد يشير إلى أنه كان من المحتمل جدًا أن يكونوا قادرين على التواصل. لكن بعض العلماء أكدوا أن البشر المعاصرين فقط هم الذين لديهم القدرة العقلية للقيام بهذه العمليات اللغوية المعقدة.

سيكون من الصعب للغاية إثبات قدرتهم على التكلم بطريقة أو بأخرى. ولكن الخطوة الأولى ستكون تحديد ما إذا كان النياندرتال يستطيع إنتاج الأصوات وإدراكها في النطاق الذي يسمح بالتواصل القائم على الكلام.

تصميم ثلاثي الأبعاد لأذن الإنسان العاقل على اليسار وأذن النياندرتال على اليمين(مواقع التواصل)

هل ستحل الصورة المقطعية اللغز؟

باستخدام مجموعة من العظام القديمة. شرع  فريق بقيادة عالمة الأنثروبولوجيا القديمة 《مرسيدس كوندي فالفيردي – Mercedes Conde-Valverde》 بأخذ صور مقطعية عالية الدقة لجماجم خمسة من إنسان نياندرتال. وذلك لإنشاء نماذج افتراضية ثلاثية الأبعاد لهياكل الأذن الخارجية والوسطى له. قاموا أيضًا بنمذجة هياكل الأذن في الإنسان العاقل. وأحفورة أقدم بكثير – جمجمة Sima de los Huesos hominin، والمعروفة بإسم (Sima hominin،) سلف إنسان نياندرتال، والتي يعود تاريخها إلى حوالي 430 ألف سنة.

وقد استخدم أيضًأ نموذج للقدرة السمعية لهذه الهياكل بالإستعانة بمجال الهندسة الحيوية السمعية. من أجل فهم نطاق التردد الذي كانت الأذنين أكثر حساسية تجاهه، والمعروف أيضًا باسم النطاق الترددي المشغول. بالنسبة للإنسان الحديث، فإن النطاق الترددي المشغول هو النطاق سماع الأصوات البشرية.

وجد الفريق أن إنسان نياندرتال يتمتع بسمع أفضل في نطاق 4 إلى 5 كيلوهرتز من سلفه Sima. وأن النطاق الترددي المشغول لإنسان نياندرتال كان أقرب إلى النطاق الترددي للإنسان المعاصر من سلفه المباشر. يشير هذا التحسن بالقدرة السمعية إلى أن بشر النياندرتال كانوا بحاجة إلى سماع أصوات بعضهم البعض.

قالت كوندي فالفيردي هذا هو المفتاح لحل اللغز حقًا. فوجود قدرات سمعية مماثلة، في النطاق الترددي الذي يستطيع النياندرتال سماعه يدل على أنه يمتلك نظام اتصال معقد وفعال يمكنه من إصدارأصوات مثل الكلام البشري.

ومن المثير للاهتمام، أن عرض النطاق الترددي المشغول لإنسان نياندرتال امتد إلى ترددات أعلى من 3 كيلوهرتز. والتي تشارك بشكل أساسي في الإنتاج الثابت للأصوات. مما سيميز أصوات إنسان نياندرتال عن الأصوات القرود غير البشرية والثدييات الأخرى.

اقرأ أيضًا: الإنسان الأخير .. كيف انقرض إنسان النياندرتال؟

هل كان لديهم لغة؟

إن إحدى النتائج الأخرى المثيرة للإهتمام في الدراسة هي الاقتراح بأن كلام إنسان النياندرتال يتضمن على الأرجح استخدامًا متزايدًا للحروف الساكنة. ركزت معظم الدراسات السابقة لقدرات الكلام لدى إنسان نياندرتال على قدرته على إنتاج حروف العلة الرئيسية في اللغة الإنجليزية المنطوقة. ومع ذلك، يظن الباحثون أن هذا التركيز في غير محله. نظرًا لأن استخدام الحروف الساكنة هو وسيلة لتضمين المزيد من المعلومات في الإشارة الصوتية. كما أنه يفصل الكلام البشري واللغة عن أنماط الاتصال في جميع الرئيسيات الأخرى تقريبًا.

لقد تحسن السمع لدى النياندرتال مما مكنه من إنتاج الحروف الساكنة التي تظهر غالبًا في اللغات البشرية الحديثة، مثل “s” و “k” و “t” و “th”. وهي نفس الطريقة التي تكون بها سمعنا. جرب الصراخ ب  “sssss” سترى أنها طريقة جيدة للتواصل وربما إستخدمها النياندرتاليون للتواصل فيما بينهم.

لكن هل القدرة على الكلام تعني امتلاك لغة؟

لقد حذر الباحثون من أن امتلاك القدرة التشريحية على إنتاج الكلام وسماعه لا يعني بالضرورة أن إنسان نياندرتال لديه القدرة الإدراكية للقيام بذلك. ومع أنه ليس لدينا أي دليل على أن أشباه البشر هؤلاء قد تكلموا بلغة. إلا أننا نعلم أنهم قد أظهروا سلوكًا رمزيًا معقدًا، مثل القدرة على التعبير بالرسم وأنهم قد أقاموا طقوسًا لدفن موتاهم.

لا نعرف ما إذا كان لديهم لغة، ولكن على الأقل لديهم جميع الأجزاء التشريحية اللازمة للتمكن من الكلام. كما تقول مرسيدس كوندي فالفيردي. ليس الأمر أن لديهم نفس لغتنا، وليس مهمًا إن كانت الإنغليزية أو الإسبانية، ولا شيء من هذا القبيل. بل قدرتهم على إصدار الأصوات، فإن استطعنا سماعهم فسنعرف أنهم بشر.

تختلف قدرة إنسان النياندرتال على السمع عن باقي أشباه البشر مما يشير إلى تطور مشترك للسلوكيات المعقدة والقدرة على التواصل الصوتي بين البشر المعاصرين والنياندرتال.

إن هذه النتائج بالإضافة إلى الاكتشافات الحديثة التي تشير إلى السلوكيات الرمزية في إنسان نياندرتال، تعزز فكرة امتلاكهم لنوع من اللغة البشرية. لغة مختلفة تمامًا في تعقيدها وكفاءتها عن أي نظام اتصال شفهي آخرتستخدمه الكائنات الحية غير البشرية على هذا الكوكب.

لم يعد هناك نياندرتال ليتكلم

لم يقتنع روبرت بيرويك، عالم اللغويات الحاسوبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كفاية بقدرة النياندرتال على الكلام . وبرأيه إن قدرة النياندرتال على الكلام لا تعني أبدًا أنه امتلك لغة.

قد لا يتم حل مسألة قدرة النياندرتال على التكلم بلغة أبدًا، حتى مع استمرار تراكم الأدلة. الأمر ببساطة لم يعد هناك إنسان نياندرتال يتكلم.

تقدم العديد من الاكتشافات الحديثة أدلة حول طبيعة حياة النياندرتال فقد كان قادرًا على التعبير الرمزي، وارتداء المجوهرات، والمشاركة في صناعة فن الكهوف حتى قبل الإنسان العاقل كما أنه اقام طقوسًا مدفنية لموتاه وإعتنى بالعجزة من أقربائه. لقد حررت هذه الأدلة إنسان نياندرتال من التصور طويل الأمد بأن البشر الأوائل كانوا متوحشين بدائيين، وهي أسطورة متجذرة جزئيًا في الأيديولوجية العنصرية في حياتنا اليوم.

لفترة طويلة، كان العلماء يميلون إلى الاعتقاد بأن هناك “قفزة” فصلت الإنسان الحديث عن بقية العالم البيولوجي، مثل الإدراك واللغة. لكن ربما يكون هذا قد تغير اليوم فيبدو أن النياندرتال كان بشرًا مثلنا.

أما أنت الأن فأخبرني إن التقيت بالنياندرتال يومًا ما فما الذي ستخبره به؟

المصادر

أبراج الصمت ” دخمه” كيف دفن الزرادشتيون موتاهم؟

هذه المقالة هي الجزء 2 من 8 في سلسلة أغرب طقوس الدفن عبر التاريخ

أبراج الصمت ” دخمه” كيف دفن الزرادشتيون موتاهم؟

الطقوس الزرادشتية في الدفن تعد طقوس غريبة، ومميزة، دفعت قناعات الزرادشتيين بقدسية عناصر الطبيعة، لتفادي تلويث الجثث فيها. ورُفِع الموتى إلى أبراج الصمت في طقس دفنٍ سماويّ.


أحد أبراج الصمت ” دخمه” في مدينة يزد


لمحة عن الزرادشتية:


تعد الزرداشتية من أقدم الأديان التوحيدية القائمة حتى يومنا هذا. و هي من الأديان المجوسية، نشأت على يد زرادشت في القرن السادس قبل الميلاد في بلاد فارس. وكانت الدين الرسمي للإمبراطوريات الأخمينية والباراثية والساسانية.
قام زرادشت بتبسيط مجمع الآلهة الفارسية القديم وتحويله إلى ثنائية كونية، وتتمثل بالحرب المستمرة بين الخير والشر، الخير متمثلًا بالإله الأعلى في الزرادشتية وهو “أهورا مازدا” أو سيد الحكمة، وهو الخالق ويمثل النور والحكمة.
والشر متمثلًا ب “أهريمان” الذي مثل الشر، والدمار، والظلام.
تركز الزرادشتية على تقديس عناصر الطبيعة. أي الماء والأرض والنار والهواء. ولكن النار كانت الأكثر تقديسًا، ودخلت كعامل رئيسي في طقوسهم، كما هو الحال في معابد النار. ومنه نشأ الاعتقاد الخاطئ أن الزرادشتيون يعبدون النار، وفي الواقع فإن تقديسهم للنار نابع من قدسية الإله الأعلى أهورا مازدا الذي يمثل النور، تُعتبر النار وسيطًا تُكتسَب من خلاله البصيرة الروحية والحكمة.


الموت في الزرادشتية:


يؤمن الزرادشتيون بالحساب بعد الموت، فالجنة للزرادشتي الصالح والجحيم للأشرار منهم. كما تؤكد الزرادشتية على أهمية النقاء والطهارة في الحياة، وارتباط الطهارة الروحية بالطهارة الجسدية. وبالتالي فإن التلوث الجسدي يؤدي للتلوث الروحي. فعملية تحلل الجثث من أنواع التلوث الجسدي ولا يجب خلطها بعوامل الحياة الرئيسية بشكل مباشر وإلا لوثتها.
والروح تهيم لعدة أيام بعد الوفاة، وفي هذا الوقت تعرض الجثة لخطر سكنها من قبل شياطين الجثث ال”ناسو”  لذلك توجب تطهيرها قبل الدفن.
لذلك ابتعد الزرادشتيون عن الدفن الأرضي، والدفن النهري، والحرق.  وهذا ما دفعهم لاعتماد أبراج الصمت أو ما يعرف بالدخمه في اللغة الفارسية القديمة.


أبراج الصمت:


وهي المدافن الرسمية عند الزرادشتيين. تتمثل في برج دائري الشكل أطرافه أعلى من المنتصف. السطح مقسم لثلاثة دوائر، الدائرة الخارجية والأعلى مخصصة لجثث الرجال، وفي المنتصف جثث النساء، والدائرة الأقرب للمركز مخصصة للأطفال.
في منتصف البرج حفرة عميقة تجمع فيها العظام بعد أن تجف الجثث وتتفكك بالتدريج عن طريق عوامل الطبيعة، وتمر بطبقات من الفحم والرمل إلى أن تتحلل كليًا وتصرف إلى المياه.
تمدد الجثث على السطح وتقدم للطيور الجارحة لتأكلها، وهذا قريب من مبدأ الدفن السماوي عند البوذيين في التيبت. ولكن الاختلاف يكمن في المنطق الذي دفعهم للجوء للدفن السماوي. ركز المنطق الزرادشتي على عدم تلويث عناصر الحياة الأساسية بالجثة المتحللة. أما بوذيو التيبت ركزوا على أهمية عدم بقاء مخلفات من الجسد لأنه أداة أو مركبة للروح في رحلة الانبعاث “سامسارا” بالإضافة لرمزية النسور في الديانة البوذية.
ولكن كلا الديانتين ركزتا على أن الجسد هدية سخية للنسور وعلى أهمية السخاء في حياة الانسان.

مراسم الدفن:

تحضير الجثة للدفن:


تغسل جثة المتوفي بسائل الغوميز “مياه وبول الثور”. وتحضر الثياب التي سيدفن فيها الميت، وبالطبع هذه الثياب سيتم التخلص منها بعد احتكاكها بالميت لأن الجثة تلوثها.
تُوضع بعدها الجثة على غطاء أبيض ليلقي عليها أهل الميت الوداع الأخير، ولكن محظور عليهم لمسها. ولأن الجثة تستقطب الشياطين يحرس الجثة كلب لطرد الشياطين والأرواح الشريرة في طقس يدعى ” ساجديد”.
يسمح لغير الزرادشتيين بمشاهدة الجثة ووداع المتوفي، لكن يحظر عليهم مشاهدة باقي مراسم الدفن.

طقوس حفظ الجثة من التلوث:


بعد تحضير الجثة للدفن، تسلم لحاملي الجثث المختصين، وهم الوحيدون المخولون بالاقتراب من الجثة بعدها.
يقومون بغسل ثياب الميت في محاولة لإبعاد التلوث قدر المستطاع، ويلف القماش الأبيض الذي وضعت عليه الجثة حولها مثل الكفن.
تُرسم دوائر حول الجثة كحاجز روحي لمنع انتشار تلوث الجثة ولتحذير الزوار حتى يحافظوا على مسافة آمنة منها.

الطقوس الأخيرة في أبراج الصمت:

تُنقل الجثة إلى “الدخمه” أي برج الصمت، ودائمًا ما يتم النقل في النهار، ويكون عدد حاملي الجثة عدد زوجي دائمًا.
يتبعهم أهل الميت في ثنائيات، وكل ثنائي يحملون قطعة قماش تدعى ال”بايواند”.
يقرأ راهبان الصلوات ثم ينحنون أمام الجثة. ثم تُزال الثياب والكفن عن الجثة بأدوات لتجنب اللمس. تترك الجثة أمام الطيور لتأكلها وغالبًا تتم هذه العملية في ساعات، ثم ترمى العظام المتبقية في الحفرة الموجودة في منتصف البرج.

طقوس الحداد وتذكر المتوفي بعد الجنازة:

تتلى الصلوات على الميت لمدة ثلاثة أيام بعد الوفاة، ساد الاعتقاد أن روح الميت لا تغادر الأرض ضمن الأيام الثلاثة الأولى.
في اليوم الرابع تصعد الروح إلى جسر الحساب، أو ما يعرف باسم “شينفات”. في الأيام الثلاثة الأولى يتفادى أهل الميت أكل اللحم وحتى الطبخ في المنزل التي غُسِلت فيه الجثة. ويقوم الأقارب بمهمة تحضير الأكل في منازلهم.
يحرق البخور في منزل الميت في أيام الحداد الثلاثة، وفي الشتاء لا يقترب أحد من المنطقة التي غُسلت فيه الجثة لمدة عشر أيام. ويترك فيها مصباح مشتعل. أما في الصيف فيمنع الاقتراب منها لثلاثين يومًا.

إن هذه الطقوس ممنوعة في إيران من عام 1970، لكن ما تزال قائمة في مناطق من الهند، حيث يعيش قسم من الزرادشتيين، والجدير بالذكر أن النقص في أعداد  الطيور التي تأكل الجثث يهدد هذه الطقوس في مدينة مومباي في الهند.
أما الزرادشتيين الذين يعيشون في المناطق التي تمنع قوانين الدولة طقوسهم، قاموا بالتكيف مع بيئتهم المحيطة عملًا لتعاليم زرادشت التي تحتم على الفرد التكيف مع مجتمعه. فيقوم معظمهم بدفن الجثة في صفيح معدني أو محاطة بالإسمنت. فهم بذلك لا يلوثون الأرض ولا يخالفون تعاليمهم وفي نفس الوقت لا يخالفون القوانين السائدة في مجتمعهم. تبدو لنا هذه الطقوس غريبة، بل وحتى مرعبة. ولكن من المهم دائمًا معرفة ما الذي يدفع الناس للقيام بطقوس تختلف عما نعرفه، فالهدف الأسمى في نظر الزرادشتيين هو المحافظة على عدم التلوث وعلى طهارة الأرض ونقاوتها من تلويث الجثث.






عجائب مصر القديمة: السحر

هذه المقالة هي الجزء 2 من 9 في سلسلة عجائب مصر القديمة

مما لا شك فيه أن حضارة مصر القديمة برعت في مختلف الفنون والعلوم، ولكن الغريب أن تعرف أن المصريين القدماء هم أول من مارسوا السحر، ليس هذا وحسب، وإنما كان السحر متوغلًا في كل جوانب حياتهم، فقد استخدموه لمباركة الملوك وحمايتهم، واستخدموه كذلك في العلاج، وهذا ما سنتحدث عنه اليوم في الجزء الثاني من سلسلة (عجائب مصر القديمة) بعد أن تحدثنا عن الفن في الجزء الأول.

السحر والسحرة

لعب مفهوم السحر دورًا محوريًا في إيمان المصري القديم، حيث اعتقد الناس في مصر القديمة أن الخالق قام بخلق العالم باستخدام قوة السخر، ورأوا أن السحر قوة كامنة بداخل كل إنسان، إلا أن الكهنة وحدهم القادرون على تسخير هذه القوة والتعامل معها، وكان الكهنة هم أول من مارسوا السحر في مصر القديمة، حيث يُحكى أنهم كانوا يمتلكون القدرة على تحريك الماء في البحيرات الراكدة، وإحياء تماثيل الحيوانات لتحويلها إلى حيوانات حقيقية.

حِكا إله السحر

ويأتي سحرة العقارب في مرتبة أقل من الكهنة، وقد أُطلق عليهم هذا الاسم لأنهم مارسوا السحر للتخلص من الحشرات السامة والأفاعي في منطقة ما.

ولم تقتصر ممارسة السحر على الكهنة ورجال الدين وحدهم، بل إن مهارة السحر كانت مهارة مطلوبة للممرضات في مصر القديمة، كما كان للكهنة دور في العلاج أيضًا، حيث مارس كهنة الإلهة «سخمت-Sekhmet» السحر لعلاج المرضى، ويرجع هذا للاعتقاد السائد في مصر القديمة بأن سخمت هي من تتسبب في الأمراض.

سِخمت

طريقة عمل السحر

كان وقت الفجر وقتًا مثاليًا لممارسة السحر في مصر القديمة، حيث كان يلقي السحرة تعاويذهم في هذا الوقت، وكان على الساحر أن يكون في حالة صفاء روحي، فكان السحرة يمارسون الجنس قبل القيام بالسحر، وهذا للمساعدة على التركيز ومنع تشتت الانتباه.

كما كان على الساحر أن يبتعد عن ما اعتُقد في ذلك الوقت دنسًا، مثل النساء خلال فترة دورتهم الشهرية، فكان الساحر يرتدي ملابس جديدة نظيفة قبل إلقاء تعويذته.

استخدم السحرة في مصر القديمة عصي مصنوعة من العاج، ونُقشت صور الآلهة وبعض الحيوانات على هذه العصي، وهذا كرمز لإعطاء الساحر القدرة على تسخير الكائنات القوية من العوالم الأخرى.

عصا سحرية من العاج

لم تكن الأغلبية في مصر القديمة تستطيع القراءة، مما أعطى للتعاويذ المكتوبة قيمة بالغة الأهمية، حيث كان السحرة يكتبون التعاويذ على ورق البردي، ويتوارثونها من جيل إلى جيل داخل العائلة الواحدة.

احتوت التعاويذ على الكلام والحركات، فكانت تُقرأ بعض الكلمات على جرعات من أشياء غريبة، كدم كلب أسود، أو لبن ثدي امرأة ولدت مولودًا ذكرًا، وكان يُعتقد أن الكلام مسئول عن تنشيط القوى السحرية لهذه الجرعات، كما شملت الحركات بعض الرقصات والإيماءات على ألحان الموسيقى وذلك لتحضير أرواح الآلهة والمعبودات.

السحر للحماية

اعتقد الناس في مصر القديمة أن الشياطين هي التي تتسبب في الأمراض، والحوادث، والفقر، والعقم، فاستخدم المصريون القدماء السحر كآلية دفاعية ضد الشياطين، فعلى سبيل المثال، كانت إذا أوشكت امرأة على وضع مولودها، قوم السحرة برسم دائرة حماية حولها، باستخدام عصي العاج السحرية، وكانوا ينقشون على هذه العصي صور الآلهة التي يستعينون بها وهي تطعن أو تعض الأفاعي (كرمز للشياطين).

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الأمر قد طال البيوت في مصر القديمة، حيث كانت تُنقش صورة الإله «بِس-Bes» والذي كان يرمز له بأسد قزم، وصورة الإله «تاورت-Taweret» والذي كان يرمز له بفرس النهر على أثاث البيوت والأدوات المنزلية، وهذا لطرد الأرواح الشريرة والتي كان يُعتقد أن قوتها تزداد أثناء الليل.

بِس
تاورت
كرسي مصري عليه رسومات سحرية

بالإضافة إلى التمائم التي استخدمها الناس في مصر القديمة لإعطاء صاحبها بعض الصفات المرغوبة مثل العمر الطويل والصحة الجيدة.

تميمة 1
تميمة 2

السحر للعلاج

اعتقد الأطباء في مصر القديمة أن الشياطين التي تتسبب في الأمراض كانت تنجذب للأشياء القذرة، فاستخدموا روث الحيوانات لإبعادها عن جسد المريض، أو يدهن الطبيب جسد المريض بالعسل لتنفير الشيطان من الجسد، وفي بعض الأحيان كان يرسم الطبيب صور كائنات اعتقد الناس في مصر القديمة أنها ذات قدرات علاجية على جسد المريض، ليقوم المريض بلعقها بدوره لامتصاص قواها السحرية العلاجية، بل إن الأطباء كانوا يستخدمون التعاويذ للتعريف بأنفسهم على أنهم الإله تحوت الذي عالج عين حورس المجروحة، ليُعطي نفسه القدرة على علاج المريض كما عالج تحوت عين حورس في الأسطورة المصرية.

تحوت
حورس

اللعنات

كان الكهنة في معابد مصر القديمة يقومون بنقش اسماء الأعداء والخونة على الأواني الفخارية، ثم يقومون بحرقها، لاعتقادهم بأن هذا يُضعف جيوش العدو، وكانت ترسم صور «أبوفيس-Apophis» في حرب مع الخالق على أوراق البردي، ثم يقومون بحرق هذه البرديات، ليقوموا بإذابة الرماد المتبقي في دلو يحتوي على البول.

حاول بعض الكهنة أن يلعنوا الملك رمسيس الثالث بعدما استولوا على كتاب سحر من المكتبة الملكية، إلا أنهم احتاجوا إلى شيء منه كالشعر أو الأظافر أو السوائل الجسدية، فاستعانوا بحريم الملك لمساعدتهم في الحصول على هذه الأشياء، إلا أن المؤامرة كُشفت وحُكم عليهم بالإعدام.

خاتمة

يتضح مما سبق هوس الإنسان في مصر القديمة بالسحر وخوفه من الشياطين والأرواح وما إلى ذلك، ولا عجب في ذلك إذ أن هذه هي عقلية الإنسان القديم، وفي الجزء القادم سنتحدث عن شيء آخر ميز حضارة مصر القديمة عن غيرها، اللغة الهيروغليفية.

المصادر

coursera
bbc
ancient.eu

انعكاس المجال المغناطيسي للأرض، سببٌ أخر لفناء البشرية.

منذ 42 ألف سنة تقريبًا، وفي الوقت الذي كان يعيش فيه إنسان النياندرتال جنبًا إلى جنب مع الإنسان العاقل في أوروبا. انعكس المجال المغناطيسي الأرضي وضعف تدريجيًا، سامحًا للجسيمات دون الذرية الأتية من الشمس أن تخترق غلافنا الجوي. مما سبب كارثة مناخية على الأرض أدت إلى عدة انقراضات وربما تكون هي من قتل إنسان النياندرتال. فهل سيكون انعكاس المجال المغناطيسي للأرض سببًا أخر لفناء البشرية؟

المجال المغناطيسي للأرض

يحمي المجال المغناطيسي كوكب الأرض من الجسيمات دون الذرية الأتية من الشمس. هذه الجسيمات شديدة التأثير على الإنسان وعلى كافة أنواع الحياة الأخرى. فكوكب المريخ مثلا يفتقر اليوم إلى مجال مغناطيسي قوي، وتعتبر الظروف الموجودة على سطحه مدمرة جدًا للحياة لدرجة أن أي ميكروبات قد تعيش على المريخ ستعيش تحت سطحه. أما على الأرض، فيضمن المجال المغناطيسي وجود الحياة واستمرارها.

انعكس المجال المغناطيسي الأرضي أكثر من مرة سابقًا وسينعكس مستقبلًا. ومع انعكاسه فإنه يضعف ويتلاشى في بعض الأحيان. وفي كوكب يدعم الحياة مثل كوكب الأرض فإن اختفاء المجال المغناطيسي سيسبب حتمًا كارثة على الحياة فيه.

المجال المغناطيسي يحمي الأرض من الجسيمات دون الذرية الأتية من الشمس

الأشجار أرشيف للغلاف الجوي

تقدم ورقة بحثية نُشرت في مجلة《 Science》 تأريخًا دقيقًا بشكل مثير للإعجاب لأخر انعكاس للحقل المغناطيسي للأرض. عبر دراسة حلقات أشجار ماتت منذ عشرات ألاف السنين تبين أن الفترة التي انعكست فيها الأقطاب المغناطيسية للأرض حصل فيها أيضا تغير واضح في المناخ.

التقط العلماء المشاركون في الدراسة دليل هذا التغير من أشجار《كوري-kauri》، التي تعتبر أحد الأنواع المميزة الأصلية لنيوزيلندا. هذه الأشجار كبيرة جدًا وطويلة العمر، ويصل عمرها إلى أكثر من 1000 عام. وغالبًا ما يبقى خشب الشجرة مدفونًا في المستنقعات، حيث يبلغ عمر بعض العينات عشرات الآلاف من السنين.

يقول 《فلوريان أدولف- Florian Adolphi》، عالم المناخ القديم في معهد ألفريد فيجنر، إن أشجار الكوري شبه الأحفورية هي أرشيف مثير لتكوين الغلاف الجوي. يمكن أن تعيش هذه الأشجار لعدة آلاف من السنين. وتسجل التغيرات السنوية لكمية الكربون المشع في الغلاف الجوي أثناء نموها، وهو ما قاسه فريق البحث بدقة.

أشجار الكوري.

يعود تاريخ الأشجار المدروسة إلى وقت حدث 《Laschamps》 ، وهو الإسم الذي يطلق على حدث الأقطاب المغناطيسية الأرضية، وحدث ذلك منذ حوالي 40 ألف عام. تم تأريخ العينة باستخدام تقنية الكاربون 14، وحسب حلقات الأشجار الفردية تم استنتاج الظروف المناخية التي كانت سائدة في السنوات الفردية في تلك الفترة.

يمكن أن توفر دراسة النظائر الأخرى الموجودة في الخشب تقديرات تقريبية لكل شيء. من النشاط الشمسي في تلك الفترة إلى أنماط هطول الأمطار.

وجد الفريق أن كمية الكربون 14 في حلقات الأشجار المترسبة في ذلك الوقت شهدت ارتفاعًا ملحوظًا، بما يتفق مع وصول المزيد من الجسيمات دون الذرية إلى الأرض بسبب تلاشي مجالها المغناطيسي.

ثقب الأوزون

لم يقتصر الأمر على زيادة نسبة الكربون. فباستخدام نموذج لكيمياء الغلاف الجوي، وجد الباحثون أن هذه الجسيمات الأتية من الشمس يمكن أن تولد مواد كيميائية تدمر طبقة الأوزون. وفقًا لغافن شميدت من ناسا، فإن ثقب الأوزون الناتج عن ذلك ليس كبيرًا مقارنة بثقب الأوزون الحالي.

كان الإشعاع غير المفلتر من الفضاء يكسر جزيئات الهواء في الغلاف الجوي للأرض، ويفصل الإلكترونات بحيث تخرج منها فوتونات الضوء وهي عملية تسمى التأين. أدى ذلك إلى موجة من التغيرات في الغلاف الجوي، بما في ذلك زيادة الضوء المبهر الذي نسميه بالشفق القطبي، والذي ربما لوحظ في ذلك الوقت ليس فقط بالقرب من القطبين ولكن في جميع أنحاء العالم.

تحليل  النتائج

بغض النظر عن نسبة الضرر الذي من الممكن أن يسببه هذا الحدث. إن الباحثين اليوم يحاولون ربطه بجميع الأحداث مجهولة الفاعل التي حصلت في تلك الفترة كإنقراض إنسان النياندرتال مثلًا.

كما أن أستراليا في تلك الفترة قد شهدت انقراضًا كبيرًا للحيوانات الضخمة. مما يشير إلى وجود ارتباط بين الانقراض ونسبة هطول الأمطار المتغيرة في نصف الكرة الجنوبي الذي يعتقد أن الإنعكاس المغناطيسي قد سببه. إنها فكرة مثيرة للإهتمام، على الرغم من أن أحداث الانقراض مثل هذه تمتد عادةً على فترات زمنية طويلة.

في ذات الفترة تقريبًا انتقل الإنسان العاقل من أفريقيا ومنطقة شبه الجزيرة العربية إلى أوروبا. وانقرض إنسان نياندرتال بعد ذلك بوقت قصير. في حين أنه من المعقول الشك في أن هذين الحدثين الأخيرين مرتبطان، إلا أنه ليس من الواضح سبب ارتباط أي منهما بانقلاب المجال المغناطيسي وأي تأثير له على المناخ. لكنه يبقى احتمالًا ضعيفًا.

تشهد هذه الفترة أيضًا نموًا في مدى وتطور فن الكهوف من قبل مجموعات البشر العقلاء المهاجرة. ومرة أخرى، يحاول الباحثون ربط هذا التطور الفني بالإنعكاس المغناطيسي. فبرأيهم إن البشر قد لجأوا إلى الكهوف هربًا من الإشعاعات القاتلة. واستخدموا المغرة الحمراء كواقي من أشعة الشمس القاتلة، وهكذا اكتشفوا هذه المادة التي استعملوها في الفن أيضًا.

الحقيقة هي أن البشر والنياندرتال كانوا يستخدمون المغرة الحمراء لأسباب فنية لعشرات الآلاف من السنين في تلك المرحلة كما أنهم سكنوا الكهوف لفترة طويلة.

يمكنك أن تقرأ أيضًا: الإنسان الأخير .. كيف انقرض إنسان النياندرتال؟

في المقابل فإن العديد من علماء المناخ وعلماء الأنثروبولوجيا قد أعربوا عن الكثير من الشكوك حول هذه الادعاءات. على الرغم من أن عددًا منهم وجد المزاعم الفردية مثيرة للاهتمام وتستحق المتابعة. لكن الاختبار الحقيقي لبعض هذه الأفكار سيأتي عندما يستخدم الباحثون الكربون 14 في تأريخ عينات أخرى تسجل التغيرات البيئية في تلك الفترة. سيعطينا هذا صورة أوضح عما إذا كانت الأحداث التي وقعت في نفس الوقت تقريبًا هي نتيجة لهذا الانعكاس القطبي أم لا.

مستقبل الأرض

هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن الأقطاب المغناطيسية للأرض تتجه نحو انعكاس آخر. إذا حدث ذلك، فسيؤدي إلى كارثة عالمية تجعل من الفيلم 《 The day after tomorrow》 ليس سوى يوم ثلجي عادي.

حسب ما قال 《آلان كوبر- Alan Cooper》 المؤلف المشارك للدراسة إذا حدث شيء مماثل اليوم، فستكون العواقب وخيمة على المجتمع الحديث. الإشعاع الكوني القادم من شأنه أن يدمر شبكات الطاقة الكهربائية وشبكات الأقمار الصناعية التي تعتبر ركيزة حضارتنا اليوم.

بالطبع، مع انتشار جائحة عالمية اليوم، وتهديد مستمر للأرض من أخطار الإحتباس الحراري، وتخوف من حرب نووية مدمرة. فإن الانعكاس المغناطيسي كسبب لنهاية العالم يعتبر شيئًأ جديدًا علينا.

المصادر:

دراسة بحثية منشورة في مجلة Science.

سلسلة من روائع الأدب العالمي ٢..الإلياذة.

من روائع الأدب العالمي هي ملحمة الإلياذة، والتي تعتبر ثاني أقدم النصوص الأدبية بعد ملحمة جلجامش، وهي عبارة عن قصائد شعرية كتبها الشاعر اليوناني هوميروس.

في هذا المقال سنحكي قصة ملحمة الإلياذة، وفيها نعيش أجواء حرب مدينة طروادة حتى سقوطها الأخير.

تاريخ كتابة الإلياذة

من المفترض أن هوميروس كتب الإلياذة في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن يرجح اليونانيون أن حرب طروادة نفسها حدثت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد في العصر البرونزي.

كانت الملحمة تُحكى شفويًا وتناقلها العديد من الشعراء حتى وصلت إلى هوميروس الذي كتبها، وتتكون من أكثر من 15.000 شطر، ونظمها بعض العلماء من الإسكندرية في 24 كتاب، والنسخة الموجودة لدينا الآن هي النسخة الأصلية.

حرب طروادة

تأخذنا الإلياذة لأجواء الحرب والتي استمرت لعقد من الزمن بين أهل مدينة طروادة وهي في (الأناضول) وبين اليونانيين. تبدأ الحرب بسبب خطف أمير طروادة ( باريس – Paris) لأجمل نساء الأرض في هذا الوقت (هيلين – Helen) والتي تكون زوجة (ميلنيوس – Menelaus) من مدينة أسبرطة.

بعد معرفة ميلنيوس لذلك شجع أخوه (أجاممنون- Agamemnon) وهو ملك ميسينا إلى محاربة طروادة واستعادة زوجته من جديد!

هنا بدأت الحرب والتي استمرت لمدة طويلة راح ضحيتها الكثير من أهل طروادة ومن الأغريق أنفسهم، كما أن فعل الأمير باريس أدى إلى تدمير مدينته للأبد!

قصة ملحمة الإلياذة

تبدأ الملحمة بكلمة (menin) ومعناها غضب، فالمحارب اليوناني الذي لا يقهر وهو بطل الملحمة (أخيل – Achilles) قرر أن ينسحب من تلك الحرب التي طالت فها هم الآن في السنة العاشرة من محاصرة مدينة طروادة!

لكنه لم يقرر ذلك إلا بعدما اختلف مع ملك أجاممنون والذي سرق ابنة قسيس لإله أبولو واسمها (كريزيس)، ولهذا ارسل الإله أبولو وباء تفشى بين الجيش، عندها طلب أخيل من أجاممنون أن يطلق سراح كريزيس.

فوافق أجاممنون على ذلك ولكنه طلب منه في المقابل أن يأخذ محظية أخيل والتي تسمى (بريسيس -Briseis).

انسحاب أخيل من الحرب

بعد هذه الحادثة انسحب أخيل من الحرب هو وصديقة بتروكليس وأتابعه (المرميديون – Myrmidons)، لكن انسحاب أخيل وجيشه أضعف الجيش اليوناني وتسبب في تكبده الكثير من الخسائر. حاول أجاممنون أن يهاجم مدينة طروادة ولكنه لم يفلح في ذلك.

وفي نزال فردي يواجه باريس في درعه البراق خصمه ميلنيوس، ولكن الغلبة كانت لميلنيوس، وبالفعل كان سيقضي على باريس لولا تدخل الإلهة أفروديت فأنقذت باريس من موت محقق.

في هذه الأثناء كان النقاش محتد بين آلهة الأوليمب، فهيرا وأثينا تريدان تدمير مدينة طروادة، وزيوس يوافقهما الرأي ولكنه يقرر تدمير مدينة ميسينا كذلك، وأفروديت وأبولو منحازين لمدينة طروادة. مع كل تلك النقاشات كانت دماء البشر تسيل من كلا الجانبين!

الحرب كانت على أشُدها فالبطل الأغريقي (ديوميديس -Diomedes) يقتل كل من يوجهه، حتى أنه أصاب أفروديت والإله إيريس أثناء المعركة، وعندها تصدى له أبولو، وهنا تذكر البطل ديوميديس الفجوة بين الآلهة والبشر!

يذكرنا هوميروس بويلات الحرب فها هي (أندروماش- Andromache) زوجة (هيكتور- Hector) وهو أعظم محارب في طروادة، قلقة على زوجها ومستقبل مدينتها.

يطلب هكتور مبارزة أي مقاتل في الجيش اليوناني فينازله (آياس -Ajax) وهو محارب قوي، ولكن القتال ينتهي بدون هزيمة أي من المقاتلين.

ظلت الحرب في سيجال بين أهل طروادة وبين الإغريق، أحيانًا يتقدم أهل طروادة ويقهروا اليونانيين، وأحيانًا أخرى يعودون إلى داخل أسوار مدينتهم، وهكذا ظلت الحرب على حالها وأصيب الكثير من ضمنهم أجاممنون و(أوديسيوس-Odysseus) وهو أحد قادة الجيش اليوناني والمعروف بالمكر والدهاء.

لإنهاء الحرب تتدخل الآلهة، فها هو الإله (بوسيدون – Poseidon) يتضامن مع اليونانيين ويصيب الأرض بزلزال قوي، فيعود على إثره الطرواديين إلى داخل أسوار مدينتهم.

كما أن الإله أبولو يشارك في الحرب لصالح الطرواديين فيتقدموا من جديد، ويصيبوا الجيش اليوناني بالكثير من الأضرار.

موت باتروكلس

يقرر المحارب باتروكلس (صديق أخيل) أن يعود إلى الحرب من جديد، لأنه يعلم بحاجة الجيش اليوناني إلى قائد قوي، فيأذن له أخيل، فيخرج باتروكلس في درع أخيل.

يبدأ في معركة جديدة مع الطرواديين، وفي أثناء المعركة يتدخل الإله أبولو ويحطم درع باتروكلس، فيقوم هيكتور بقتل باتروكلس برمحه.

أخيل يعود إلى الحرب

تصل الأنباء إلى أخيل تخبره بموت صديقه، فيقرر أخيل المشاركة في هذه الحرب وتدمير مدينة طروادة!

المعركة الأخيرة تلوح في الأفق، فأخيل عاد من جديد إلى أرض المعركة لينتقم من هيكتور لقتله صديقه. تبدأ المعركة، فيأخذ كل إله جانبه من المعركة، ويهاجم أخيل الجنود الطرواديين ويقتل الكثير منهم حتى ينتهي به الحال بمنازلة هيكتور بمفرده.

موت هيكتور وسقوط طروادة

في مشهد مهيب أخذ البطلان يتنازلان على مرأى من الملك (بريام- Priam) ملك طروادة، ولكن الغلبة كانت لأخيل، فأصاب برمحه هيكتور وقتله، ومن ثم ربط جثته في عربته الحربية وجره إلى معسكر اليونانيين ليمعن في إذلاله وإذلال الطرواديين!

لاسترجاع جثة ابنه يذهب بريام إلى معسكر اليونانيين بمساعد الإله هوميروس، فيتوسل إلى أخيل ليعيد إليه جثة ابنه، في النهاية يوافق أخيل على ذلك وهنا تنتهي أحداث الإلياذة.

ماذا حدث بعد

كان موت هيكتور دلالة على سقوط طروادة عند هوميروس، فبعد قتله، تحدث العديد من المعارك والتي تنتهي بقتل أخيل على يد باريس، وقتل باريس على يد رامي السهام (فيلوكتيتيس)، وبعد حيلة حصان طروادة تسقط المدينة.

هل مدينة طروادة مدينة حقيقية؟

الأمر ظل غامضًا حتى نهاية العقد التاسع عشر، عندما اكتشف رجل الأعمال الألماني وعالم الآثار الهاوي (هاينريش شليمان – Heinrich Schliemann) آثار المدينة المحطمة مع زوجته اليونانية، وأثبت أن تلك المدينة حقيقية بالفعل! يعتقد المؤرخون أن مدينة طروادة تم هدمها للعديد من المرات، فطروادة الخامسة هي التي هدمها اليونانيين في ملحمة الإلياذة، وبعد هدمها ظلت مهجورة. حاول الإسكندر الأكبر أن يُعيد ترميمها ولكنه لم يقدر على ذلك لأنها كانت محطمة تمامًا.

الإلياذة في العصر الحديث 

تأثر العديد من الكتاب وصناع الأفلام بملحمة الإلياذة وحرب طروادة، وأغلبنا شاهد فيلم (Troy) والذي يحاكي الملحمة ويصور لنا تلك الحرب التي راح ضحيتها الكثير.

سر روعة الإلياذة

كتب هوميروس الإلياذة بأسلوب جميل وقوي، كما أنه كتبها بعد أن ظلت تُنقل شفهيًا لمدة طويلة، فلم يكتفي بكتابتها بل ربط أحداثها وجعلها أكثر تماسكًا حتى خرجت لنا بشكلها الأصلي.

كما أن القصة نفسها تمدنا بنظرة عن الرغبات البشرية ودورها في الحرب، وتحكي لنا عن البطولة والصراعات التي لا تنتهي حول القوة.

رغم مشاهد القوة والبأس في الملحمة إلا أن هناك مشاهد إنسانية مثل الوداع بين هيكتور وزوجته وابنه الرضيع قبل أن يخرج للمرة الأخيرة لمقاتلة اليونانيين، وحزن أخيل وغضبه بعد موت صديقه، فلا أحد ينجو من ويلات الحرب.

كما أن الملحمة ركزت على فكرة أن المصير محتوم ولا هرب منه، فبرغم من محاولة أخيل الانسحاب من الحرب وعدم المشاركة بها إلا أنه عاد من جديد ولقى مصرعه في النهاية.

الخاتمة

ملحمة الإلياذة من روائع الأدب العالمي ومن أشهر الأعمال اليونانية، والتي وضعت حجر الأساس للأدب اليوناني، ففي هذه الملحمة خضنا حربًا ضارية استمرت لعقد كامل من الزمن خلدها لنا هوميروس في رائعته الإلياذة.

المصادر

أقرأ أيضًا:

https://elakademiapost.com//من-روائع-الأدب-العالمي-ملحمة-جلجامش

استمع لصوت الماضي .. هل عزف البشر الموسيقى قبل 17 الف عام؟

للمرة الأولى منذ أكثر من 17 ألف سنة، تخرج ثلاث نغمات من صدفة بسيطة قام حرفيون من عصور ما قبل التاريخ بتحويلها لآلة موسيقية. حسب علماء الأثار فإنها أقدم بُوق مصنوع من الصدف تم اكتشافه حتى الان. وتبرز أهمية هذه القطعة باعتبارها اكتشافًا فريدًا يعود للعصر الحجري لقديم الأعلى. فكيف عزف البشر الموسيقى قبل 17 الف عام؟

تم اكتشافها لأول مرة في كهف 《مارسولاس- Marsoulas》 الواقع في سفوح جبال 《البرانس- Pyrenees》 الفرنسية. في البداية ظن المكتشفون انها كأس احتفالي للشرب، ولم يلاحظوا عليها أي تعديلات من قبل البشر فتجاهلوها. لكن اكتشافها الثاني قد حصل أثناء جرد المواد التي استخرجت من الحفريات السابقة في الكهف. والتي تم الاحتفاظ بمعظمها في متحف تولوز في فرنسا. فحص العلماء صدفة كبيرة من نوع Charonia lampas  كان قد تم تجاهلها عند اكتشافها سنة 1931 واكتشفوا بعدها نموذجًا لأقدم الآلات الموسيقية في العالم.

الصدفة المكتشفة (مواقع التواصل)

إضغط هنا للإستماع الى الموسيقى التي تخرج عند النفخ في الصدفة

كهف مارسولاس: حقائق سريعة

إن أول أعمال التنقيب في الكهف التي حصلت عام 1931 قام بها هنري برويل وأندريه ليروي جورهان. كان الكهف مليء بصور البشر والخيول والبيسون التي رسمها فنانون من عصور ما قبل التاريخ. ويُعتقد اليوم أن هذه اللوحات عمرها 17000 عام. تم إغلاق كهف مارسولاس في عام 1996 بسبب التخريب والكتابة على الجدران. وأول تأريخ للكهف بواسطة الكاربون 14 تم اجراؤه على قطعة فحم وقطعة من عظم الدب من نفس المستوى الأثري للصدفة. وقد قدم عمرا يقارب 18 ألف سنة وهذا ما يجعل من أداة مارسولاس أقدم آلة نفخ من نوعها.

موسيقى قديمة بعيون حديثة

بعد النظر إلى القطعة بعيون جديدة وباستخدام تقنيات تصوير متطورة. قررت كارول فريتز وزملاؤها في فريق البحث الذي درس الصدفة، أن شاغلي الكهف قد عدلوا على الصدفة بعناية لتركيب قطعة ما على الفم. كما قام هؤلاء الحرفيون القدامى أيضا بإزالة الحواف الخارجية لشفا الصدفة. وزينوا الجزء الخارجي من الصدفة بتصميمات صبغية حمراء . تتناسب مع نمط فن الجدران الموجود داخل كهف مارسولاس.

 إن الفريق البحثي الذي درس الصدفة من المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية CNRS ومتحف وجامعة تولوز وقد نشروا الدراسة في مجلة Science advances.

ولفهم أكبر لهذه الصدفة فإن طولها عند أقسى نقطة يصل الى 31 سم و18 سم في بعدها الأوسع.

استخدم الباحثون تقنيات 《القياس التصويري – Photogrammetry》 لدراسة سطح الصدفة. وقد لاحظوا علامات للون قريب من الأحمر يسمى لون المغرة. هذه العلامات الباهتة على شكل بصمات الأصابع كانت منتشرة على طول الشفة. كما لاحظوا اشارات على أن رأس الصدفة قد أزيل بعناية وبشكل متعمد لإنشاء فتحة ثانية لها. فقد تم كسر طرف القشرة مكونًا فتحة قطرها 3.5 سم. وبما أن هذا الجزء هو الأكثر صلابة في الصدفة فكسره بشكل طبيعي غير مرجح.

ومما لفت انتباه العلماء أيضًا وجود مادة عضوية بنية اللون قد تكون شمعًا أو راتنجًا حول الفتحة في رأس الصدفة. فربما تم استخدامها كمادة لاصقة لوضع أنبوب لحماية الفم أثناء النفخ. 

استخدم الباحثون أيضًا 《التصوير المقطعي المحوسب- Computerised tomography》من أجل تصوير الجزء الداخلي للصدفة. ووجدوا أن فتحتين في الطبقات اللولبية أسفل فم الصدفة مباشرة تم فتحهما بشكل متعمد.

رسم يجسد طريقة النفخ في الصدفة

ليست الآلة الوحيدة

هناك العديد من الأمثلة على آلات النفخ المصنوعة من العظام، لكن صدفة المحارة الموسيقية هذه تعتبر اكتشاف غير عادي من هذه الفترة الزمنية. فيعتبر مؤلفوا الدراسة أنه في جميع أنحاء العالم، كانت أصداف المحار بمثابة آلات موسيقية، وأجهزة اتصال أو إشارات، وأشياء مقدسة أو سحرية حسب كل ثقافة. فأعمال الحفر السابقة قد وثقت وجود مزامير وصفارات مصنوعة من العظام في المواقع الاثرية التي تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى. لكن الأدوات الموسيقية المصنوعة من أدوات غير العظام مثل هذه الصدفة غير موجودة.

موسيقى على الجدران

يبدو أن صدفة المحارة قد زُينت بنفس طريقة تزيين الكهف حيث تم العثور عليها. يوجد على الصدفة صبغة حمراء غير مرئية للعين المجردة كما أن السطح الداخلي لفم الصدفة المفتوح على نطاق واسع وبه علامات حمراء. ويقول جيل توسيلو، عالم ما قبل التاريخ إنها تذكرنا بالنقاط الحمراء التي تم رسمها بأطراف الأصابع على جدران الكهف.

استخدم رسامو الجداريات في كهف مارسولا هذه التنقية ببصمات الأصابع لإنشاء صور لحيوانات مثل البيسون. وهذا ما يؤسس علاقة رمزية قوية بين رسومات الكهوف والموسيقى.

هذه الأنماط، على الكهف وعلى الصدفة كانت مصنوعة من صبغة أكسيد الحديد (المغرة الحمراء)، وكانت تأخذ شكل بصمات الأصابع.

الموسيقى أزلية

لفهم أكبر لطريقة عمل هذه الصدفة استعان الباحثون بعالم موسيقى متخصص في آلات النفخ. والذي عزف على الآلة الموسيقية في استوديو تسجيل. مع حماية قطعة الفم الخاصة بالصدفة لتجنب تلفها. قام عالم الموسيقى بنفخ الهواء من خلال الصدفة بطريقة مشابهة لعزف البوق، مما سمح للصدفة بالاهتزازعند رنينها الطبيعي واخراج النغمات. تم تسجيل ثلاث نغمات مميزة، والتي كانت مشابهة للنغمات الحديثة C و D و C الحادة.

وقالت كارول فريتز ، كبيرة علماء المركز الوطني للبحث العلمي في فريق المشروع أن صوت هذا الصدفة هو رابط مباشر مع شعب 《مجدلين – Magdalena》 الذي كان يسكن المنطقة  

لم يخاطر العلماء في العزف طويلًا على الآلة حسبما يوضح فيليب والتر، كبير علماء الأبحاث في CNRS كان الأمر مجرد اختبار وقررنا عدم الأستمرار في العزف عليها.

إن العلماء المشاركون في الدراسة مقتنعون بأن هذه الصدفة هي آلة موسيقية. فالبحث الذي أجروه على اللوحة والأصباغ الموجودة داخل القشرة قادهم إلى الاعتقاد بأن هذه ، ربما ، تكون أداة وربما كانت تستخدم في عزف الموسيقى.

إن الآلات مثل الطبول أو الخشخيشات المصنوعة من مواد قابلة للتلف مثل الجلد أو الخشب لن تبقى في السجل الأثري طويلًا. وهذا هو السبب في أن أقدم الآلات الباقية هي مزامير مصنوعة من مواد صلبة مثل العظام والآن أصبح لدينا هذا البوق من الصدف.

نرشح لك أيضًا: كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

طقوس قديمة

يقول نيكولاس كونارد ، عالم الآثار بجامعة توبنغن في تفسير هذه القطعة أنها استثنائية. تم نقلها على بعد عشرات الكيلومترات من البحر إلى الكهف حيث تم اكتشافها. ويعتقد أنه تم نقلها لسبب ما. وتم تعديلها لسبب ما. ويقول أنه يمكننا أن نكون على يقين من أنه قبل حوالي 18000 عام تم استخدام هذه الصدفة لعزف الموسيقى في الكهوف.

يمكن أن تكون موسيقى العصر الحجري القديم جزءًا من الطقوس أو الاحتفالات المقامة داخل الكهوف. يمكن أن تندمج المشاهد على الجدران المرسومة والموسيقى المقدسة وربما الأدوية النباتية معًا في تجربة قوية مصممة لإيصال الذكريات أو الرسائل الثقافية المهمة.

في الكهوف، غالبًا ما يكون الجو باردًا، وغالبًا ما يكون مظلمًا. هناك بعض الماء الذي يقطر، كما يوجد أصداء للأصوات. سكان الكهوف لديهم مصابيح مصنوعة من الحجر ومع حرق بعض الدهون الحيوانية فيها يخرج منها وميض ودخان. والأن لا ينقص الجو إلا بعض الموسيقى لتكتمل الطقوس السحرية.

المصادر:

Exit mobile version