عوالم من الصخر، استكشاف مملكة الأنباط

تضم شبه الجزيرة العربية العديد من الممالك القديمة التي حكمت المنطقة خلال العصور القديمة. ومن بين هذه الممالك مملكة الأنباط التي نجحت في تحويل الصخر والحجارة إلى مدن وقرى لا تزال حاضرة إلى الآن.

نشأة وتاريخ الأنباط

الأنباط قوم من العرب جاؤوا من قلب شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وشمالي الحجاز. حيث كان مجيء الأنباط إلى جنوبي الأردن نحو القرن السادس ق.م على الأرجح، على أن أول ذكر لهم في التاريخ، يعود إلى عام 312 قبل الميلاد عندما غزاهم «أنتيغون» أحد قادة الاسكندر المقدوني ولكنه باء بخيبة الأمل.

ويُقسم تاريخ الأنباط إلى فترتين أساسيتين، تمتد الأولى من 312 قبل الميلاد حتى احتلال الرومان لبلاد الشام. وتمتد المدة الثانية من عام 64 قبل الميلاد حتى عام تأسيس الإمبراطور الروماني ترايانوس للولاية الجديدة التي سميت «الولاية العربية» وعاصمتها بصرى، وقد حلت محل مملكة الأنباط. وهم أيضاً عرب وموطنهم كان يسمى «العربية  الحجرية» وأسماء الأعلام لديهم عربية (حارث – عبادة – مالك – قصي – جميلة)، ومعبوداتهم عربية (ذو الشرى واللات والعزى وهُبَل ومَناة).

البتراء عاصمة الأنباط

البتراء هي مدينة أثرية وتاريخية تقع في محافظة معان في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية، وتشتهر بعمارتها المنحوتة بالصخور ونظام قنوات جر، وتعتبر واحدة من أهم المعالم الأثرية في العالم. كانت البتراء عاصمة مملكة الأنباط القديمة، وكانت محطة استراتيجية على طريق الحرير. وتعتبر البتراء موقعًا أثريًا مهمًا للغاية، وقد تم تسجيلها كموقع للتراث العالمي من قبل اليونسكو في عام 1981م. وتحتوي البتراء على العديد من المعالم الأثرية الهامة، مثل الخزنة والمعبد الكبير والمسرح والدير. وتعتبر البتراء وجهة سياحية شهيرة في الأردن وتستقطب السياح من جميع أنحاء العالم.

خزنة البتراء

تعتبر الخزنة الصخرية الضخمة المَعلَم الأهم في الموقع الأثري الرئيسي ضمن مدينة البتراء جنوب الأردن التي يطغى عليها لون رمالها وجبالها الوردية. شهد المكان وعبر سنوات سبقت التقويم الميلادي رحلات أهل الصحراء وأصول عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم. حيث يستدعي الوصول إلى الخزنة المرور في طريق يشق جبال صخرية على الطرفين ويطلق عليه “سيق” يمر وسط أجزاء طبيعية وأخرى منحوتة.

وأثناء تجاوز “سيق” الصخور مشياً على القدمين أو بواسطة عربة يجرها حصان يوجّهه مُرشد من أبناء المكان. يمكن مشاهدة بقايا أقواس بمثابة بوابة للمدينة على جانبيها قنوات مياه وسدود وبعض الأحجار التي تنتشر بين أرضية من البلاط تنسجم مع محراب بارز وتماثيل يونانية. وبمجرد عبور “السيق” تظهر الخزنة عبر مبنى أثري محفور في الصخر يستقبل ولوج المدينة الوردية التي انضمت عام 2007 إلى عجائب الدنيا السبع وفق التصنيف الجديد وقتها. وقد حازت البتراء على غطاء التراث العالمي عام 1985 وأُدرجت ضمن محمية طبيعية ذات تقييم متقدم.

تتكون واجهة المبنى من طابقين بارتفاع يصل إلى 40 متراً وعرض يقترب من 25 متراً. فيما تشير معلومة مُرفقة على أحد الأعمدة الصلبة إلى افراغ المكان من مئات آلاف الأمتار المكعبة من الحجر الرملي عند اعادة اكتشافه في القرن التاسع عشر، وذلك من أجل الحصول على شكل أثري كفيل بمقاومة ظروف طبيعية. 
يوجد أعلى الخزنة قناة مائية تسهم في منع احتجاز الأمطار بما لا يؤثر سلباً في البناء. أما على بعض الجوانب، فثمة ثقوب مزدوجة يعتقد أنها كانت تستخدم في تثبيت “السقالات” لإنجاز عمليات النحت.

الديانة السائدة في مملكة الأنباط

الديانة النبطية تشبه ديانة العرب قبل الإسلام، كانت تقوم بالأصل على تقديس الأجسام الفلكية وغيرها من عناصر الطبيعة وبعض القيم كالشجاعة والعدالة. وبعض الأرباب كانوا بالأساس أرباب لقبيلة معينة أو مكان محدّد كما يدل اسمائها ونسبتها بـ «ذو» والأرباب. والربات لا يمثلون تمثيلاً تشخيصياً بل رمزياً، إذا صح التعبير، ويتقرب الناس منها بالنذور والأضحيات وبالدعوات.

ومن معبودات مملكة الأنباط اللات واسمها يعني الربة وهي موحدة بأثينا. وكانت عبادتها غالباً في القسم الشمالي من بلاد الأنباط، وقد اختلطت خصائص اللات بالعزى أحياناً. أما ربة القَدَر فهي «مَناة» اسمها يتردد كثيراً في كتابات المدافن خاصة في موقع الحجر (مدائن صالح). وتقابل مناة بالربة نيمسيس، ومناة لدى عرب الحجاز هي الثالثة في ثالوث الربّات  اللات والعزّى ومناة.

أشهر ملوك الأنباط

ليس بين الباحثين اتفاق على سياق الترتيب الذي توالى فيه الملوك على حكم مملكة الأنباط. فقد يعد حارثة الأول أول ملك نبطي وتطول المدة بعد حارثة الأول حتى نسمع عن ملك نبطي آخر. والأخر هو عبادة الأول الذي استمر في عهده النزاع بين الأنباط والحشمونيين. والذي انتصر عليهم في معركة أم قيس. وتلاه الحاكم الحارث الثالث حيث يعتبر المؤسس الحقيقي لمملكة الأنباط. يقترن اسم الحارث بفتوحات كبرى وانتصارات هيأت المجال للأنباط أن يوسعوا نطاق أملاكهم على حساب السلوقيين واليهود في آن واحد.

النشاط الاقتصادي في المملكة النبطية

كان الاقتصاد النبطي يقوم أساساً على التجارة والوساطة وعلاقة الأنباط بالبطالمة، والسلوقيين ومن ثم بالرومان. وانتشارهم على طول طريق التجارة الدولية بين البحر الأحمر وسورية ناتج غالبًا عن الحاجة إلى ضمان السير الطبيعي المأمون لتجارتهم الناجحة. فقد كان أقدم تجارة للأنباط هي إنتاج الإسفلت وبيعه لمصر حيث يستخدم في التحنيط. وقيامهم بالمبادلات الدولية والسيطرة على طرق التجارة العالمية مستفيدين من موقعهم الممتاز الذي تتلاقى عنده أهم طرق القوافل، ومنها الطرق الجنوبية الشمالية التي تصل اليمن وحضرموت ببلاد الشام. مرّت تجارة الأنباط بمحاذاة البحر الأحمر ثم تفرعت إلى موانئ البحر المتوسط. هناك طريق أخرى غربية تسير من معان باتجاه غزة وشمالي مصر، كما أن هناك طريق ثالثة شرقية تجتاز دُومة الجندل (واحة الجوف اليوم) لتتصل بمنطقة الخليج العربي.

على هذه الطرقات كانت تتم المبادلات التجارية لبضائع كالعطور والبخور واللبان من الجزيرة العربية والحرير والرياش من فارس والهند وما وراء النهر. بينما الزجاج والتماثيل والأخشاب والأقمشة والحبوب من بلاد الشام. وقد جمَّع الأنباط من هذه العمليات أموالاً طائلة، مكنتهم من إقامة مملكتهم القوية التي كان قوامها طبقة من أغنياء التجار ورجال القوافل. تحلقت دولة الأنباط حول عاصمة منيعة هي البتراء، فضربوا العملة الخاصة بهم ووضعوا مكوساً على الترانزيت وعلى البيع والشراء. وكان يحمي هذه المصالح هجانة شديدو البأس وجيش متمرس.

الفن والنحت النبطي

إن الفن النبطي فن مَحلّي متأثر بفن جنوبي الجزيرة العربية والرافدين، وقد طبع بطابع هلنستي خاصة من مدرسة الاسكندرية والمدرسة السورية، نتيجة للقرب الجغرافي والعلاقات السياسية والاقتصادية المشتبكة. وتجلى الفن النبطي أكثر ما تجلى في العمارة، وخاصة عمارة المدافن، والمعابد التي أصبح لها طابع متميز.

تركز معظم فن العمارة في مدينة البتراء وتجلَّى بنحت الصخر الرملي الجميل وإنشاء الأوابد في أعماقه أو على ذراه حتى لو كانت معابد أو مسارح. وقد برز الفن النبطي خاصة بنحت واجهات معمارية زخرفية رشيقة بديعة للأوابد، وأكثرها من المدافن. وتعتمد هذه الواجهات على زخرف المدرجات وأشكال الصور، وعلى كل حال فإن الأنباط، في حدود ما يعرف من منحوتاتهم، أمناء للتقاليد الشرقية في الميل إلى النقش البارز أكثر من الميل إلى التماثيل.

أما نحت التماثيل لدى الأنباط فهو أقل طرافة وأهمية، وهو منفَّذ بالحجر الكلسي أو الرملي في الجنوب وبحجر البازلت في الشمال. ومنه ما هو محليِّ صرف، ومنه ما هو تقليد لموضوعات إغريقية، أو مزيج من الفن الإغريقي والتقاليد المحلية.

لغة مملكة الأنباط

لغة الأنباط كانت اللغة النبطية. وهي لغة سامية شرقية قديمة كانت تكتب في المملكة النبطية القديمة التي كانت تقع في منطقة شمال شبه الجزيرة العربية وجنوب الشام. يعتقد أن اللغة النبطية كانت بالأبجدية النبطية، وكانت لها تأثير كبير على اللغة العربية واللغات السامية الأخرى في المنطقة.

أهم المواقع النبطية

تقع واحة العلا إلى الجنوب من الحجر وفيها كتابات نبطية. فقد كشفت بعض النصوص في واحة الجوف (دُومة الجندل في المملكة العربية السعودية)، وقد عمل الآثاري بيتر بار بالتعاون مع دوائر الآثار السعودية بمسح لهذه المواقع في أواخر الستينات. ومن المواقع النبطية الأخرى وادي رمّ شرقي العقبة وتنور غربي طريق البتراء _ الكرك، وموقع عَبْدة (أفدات) في شبه جزيرة سيناء. وتوجد مأدبا وكانت من أهم المراكز النبطية، وفي بصرى (في سورية) يوجد العديد من الآثار كالحي النبطي والأقواس النبطية. 

نهاية المملكة النبطية

تم تدمير مملكة الأنباط على يد الإمبراطور الروماني تراجان في عام 105 ميلادي. وتشير المصادر إلى أن هناك عدة أسباب لانهيار المملكة النبطية، بما في ذلك الصراعات الداخلية والتقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكانت المملكة تعتمد بشكل كبير على التجارة والتحكم في طرقها في المنطقة. ولكن مع تغيّر الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة، مما أدى إلى تراجع نفوذ المملكة وتدهور اقتصادها.

المراجع

1. Worldhistory
2. Britannica
3. Alchetron.com
4. Historyfiles
5. History.com

ماذا تعرف عن مملكة أوغاريت ومتى اكتشفت وبم اشتهرت؟

تصدرت سوريا بممالكها التاريخية المقام الرفيع في سلم الحضارة الانسانية، كمملكة أوغاريت التي تعد من أهم ممالك الشرق القديم. نأخذكم معنا في هذا المقال في رحلة إلى مملكة أوغاريت في سوريا.

موقع مملكة أوغاريت

 تقع مملكة أوغاريت على تل أثري يسمى رأس شمرا ، على ساحل البحر الأبيض المتوسط في شمال سوريا. ومن ناحية أخرى كانت مركزًا اقتصاديًا رئيسيًا في الشرق الأدنى القديم وبمثابة مركز تجاري رئيسي بين مصر وآسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين. فقد تم اكتشافها بالصدفة على بعد حوالي نصف ميل من الشاطئ من قبل مزارع كان يحرث أرضه. وفيما بعد بدأت الحفريات في عام 1929 من قبل بعثة أثرية فرنسية تحت إشراف كلود شيفر. [1]

أبجدية مملكة أوغاريت

 الأبجدية في مملكة أوغاريت كان عبارة عن نظام كتابة مسماري استخدم على الساحل السوري من القرن الخامس عشر إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. يُعتقد أنه تم اختراعه بشكل مستقل عن أنظمة الكتابة المسمارية الأخرى والأبجدية الخطية الشمالية السامية ، المكتوبة من اليسار إلى اليمين. وهي مكونة من ثلاثين رمزًا تتضمن ثلاثة أصوات للحروف المتحركة ، على عكس 22 حرفًا ثابتًا في الأبجدية السامية الشمالية.

كما كُتبت الوثائق الأوغاريتية على ألواح طينية بقلم إسفيني الشكل وتعود إلى القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد. بذلك تم العثور عليها لأول مرة في أوغاريت (رأس شمرا) على الساحل السوري في عام 1929.[2]

الديانة في مملكة أوغاريت

يفترض علماء الآثار أن المعبد كان مكونًا من فناء مغلق وفي وسطه وُجِدَ أول مذبح حجري. وراء جدران الباحة الأولى تواجدت الحرم المخصصة لإله المدينة بعل. بالإضافة إلى ذلك مجمًعْ الأرباب الإلاهي في مملكة أوغاريت، ضم العديد من الآلهة كالاله بعل، إله العاصفة والمطر الخصيب، وغالبًا ما توج بالذهب .[3]

الاكتشافات في مملكة أوغاريت

تم الكشف ايضاً عن العديد من الطرق المعبدة والمنازل الجميلة والمباني السكنية والمباني الإدارية والحكومية. ومن أفضل الاكتشافات هي المكتبة الفخمة في القصر الملكي الذي يعتبر من أفخم القصور في الشرق القديم ، بمساحة تقدر بـ 10.000 متر مربع بالإضافة إلى مجموعة من المدافن والمقابر في الجهة الجنوبية وعلى الخلفية. من الأرشيف المكتوب الكبير الذي تم العثور عليه في القصر الشمالي ، والذي يعود تاريخه إلى عهد الملك عميشتارو.

تم الكشف ايضاً عن أقدم نغمة مسجلة في العالم  عمرها 3400 عام هذا هو الترنيمة الحورية ٦ مكرسة لزوجة إله القمر. كما انها وجدت في أوغاريت في سوريا القديمة. وبذلك يمكنك الاستماع إليها من هنا: [4]

أوغاريت وعلاقاتها التجارية

أن للتجارة أهمية بالنسبة لأوغاريت وهذا ما نلمسه من خلال تشجيع ملوك أوغاريت للتجارة إذ وجدت آثار كثيرة للنحاس والبرونز في الميناء إضافة إلى كتل كبيرة من الرصاص وبما ان كان لاوغاريت علاقات تجارية مع كثير من الدول كمصر هذا يعطي دليلها مصدر مصري وهو عبارة عن لوحة من مدفن في طيبة يعود إلى حوالي 1400 قبل الميلاد. ويظهر سفناً من الطراز المصري مزدحمة بطاقم من العمال الفينيقيين يفرغون الحمولة في مدينة مصرية ( لعلها طيبة).

ووجدت ايضًا مجموعة كبيرة من المنحوتات المستوردة من مصر ومنها منحوتة تمثل شخصًا يدعى سنوسرت. فكانت أوغاريت دائمًا في نصوص إيبلا ايضًا , لأن التجار المصريون كانوا يأتون إليها عن طريقها حاملين بضائعهم المختلفة ويعودون ومعهم اللازورد والاخشاب وغير ذلك.[2]

الأرض والسكان

كانت أراضي مملكة أوغاريت قرابة 2000 كيلو متر مربع,  وهي غنية بأمطارها وكثرة مصادر مياهها. كما تؤكد ذلك الوثائق المكتشفة التي تشير إلى انتشار الأعمال الزراعية ولعل أهم المحاصيل المنتجة الحبوب و الاعناب والزيتون, كما اهتموا بالحدائق والبساتين فضلًا عن تربية المواشي.

لم يشكل سكان أوغاريت وحدة متماثلة ففضلًا عن الأوغاريتيين الذين يشكلون الجزء الرئيس من السكان ويتكلمون بإحدى  اللغات الجزرية وهي الأمورية كان الحوريين يشكلون جزءًا مهمًا من سكان المدينة. أما عن أصل سكان مملكة أوغاريت فهم من الكنعانيين والذين أطلق اليونانيين عليهم اسم (الفينيقيين) الذين اشتهروا بإنتاج الصبغة القرمزية من مواقع البحر وكما سكنوا المناطق الممتدة من فلسطين وصولًا إلى الشمال السوري ومنها أوغاريت وأصبحوا يتكلمون لغة واحدة نجد أقدم أشكالها على الرقم الطينية بحروف مسمارية.

نهاية مملكة أوغاريت

أكدت الدراسات و الأبحاث أن نهاية هذه المملكة كانت عنيفة إذ أُبيدت أوغاريت ومملكتها حوالي عام 1180 قبل الميلاد. فهناك عدة فرضيات عن نهاية أوغاريت: حيث تقول الفرضية الأولى: إن أوغاريت قد دمرت بزلزال عنيف ضربها إلى غير عودة أما الفرضية الثانية: فترى أن أوغاريت تعرضت لاكتساح مدمر من قبل غزاة عرفوا بشعوب البحر وهذا أدى إلى الحاق الخراب و الحريق والدمار في المدينة.[4]

المصادر:

Britannica.com _1
UNESCO _2
Academia.edu _3
4_ Archaeology.com

مدينة عنجر المهجورة: تخطيط روماني وبناء لم يكتمل

من الآثار الأموية القليلة الموجودة في لبنان، مدينة كاملة أُنشِئت لتكون مركزًا تجاريًا على نقطة تقاطع للطرق التجارية من بيروت إلى دمشق، ومن حمص إلى طبريا مرورًا بالبقاع، فلنتعرف على مدينة عنجر الأثرية.

موقع وتقسيم مدينة عنجر

الشكل 1: مدينة عنجر كما تظهر على خرائط Google
الشكل 2: مخطط المدينة ويظهر به: 1- قصر الخليفة الكبير، 2- المسجد، 3-القصر الثاني، 4-حمام ومسجد ثاني، 5-منطقة سكنية، 6-شارع رئيسي، 7- شارع ثانوي، 8-تقاطع الشارعين والتترابيل، 9-بوابات المدينة [3]

تقع المدينة على بعد 58كم شرق بيروت، [1] في نقطة التقاء طريقين تجاريين مهمين. أحدهما يصل بين بيروت ودمشق، والآخر يقطع البقاع واصلًا بين حمص وطبريّا.

تم اكتشاف هذه المدينة في أربعينات القرن ال20، حيث أظهرت عمليات التنقيب مدينة مستطيلة الشكل بأبعاد (350×385م) مسوّرة محاطة بجدران وب40 برج (36 برج نصف دائري متصل بالجدران بالإضافة إلى برج في كل زاوية من الزوايا الزوايا الأربعة). [2]

يقطع مدينة عنجر شارع في كلّ من محوريها، محور شمالي-جنوبي رئيسي، ومحور أقل أهمية شرقي-غربي يقسمانها إلى أربع أقسام متساوية. يقع قصر الخليفة الكبير والمسجد في الربع الجنوبي-الشرقي من المدينة ويشغلان القسم الأكثر ارتفاعاً منها. في حين تقع القصور الأصغر والحمامات في الربع الشمالي-الشرقي. وتوزّع الوظائف الثانويّة والمناطق السكنية في الربعين الشمالي-الغربي والجنوبي-الغربي. [3]

الشكل 3: واجهة قصر الخليفة بعد أن تم ترميمها بشكل جزئي

تخطيط وتقنيات بناء رومانية

يعد الشارعان الرئيسيان اللذان يقطعان المدينة مثالًا على تخطيط الشوارع في المدن الرومانية. حيث يوجد المحور الرئيسي (شمال جنوب) الذي يسمى «كاردو ماكسيموس – Cardo Maximus» بعرض 20م والذي كان محاطًا بالمتاجر من الجهتين. ويتقاطع في منتصفه مع الشارع الثانوي الذي يسمى «ديكومانوس ماكسيموس – Decumanus Maximus» الذي كان محاطًا بالمتاجر والدكاكين من الجهتين أيضاً. تم اكتشاف 600 متجرًا أو دكانًا بالمجمل، [4] مما يجعل مدينة عنجر مثالًا على المراكز التجارية الداخلية. [2]

الشكل 4: احد الشارعين الرئيسيين لمدينة عنجر وتظهر في الصورة الأعمدة التي تم بناؤها بشكل جزئي والمتاجر المحيطة بالشارع من الجانبين

نلاحظ في نقطة تقاطع الشارعين وجود أربعة «تترابيلات – Tetrapylons» على الزوايا الأربعة لمفترق الطرق هذا. وقد تمت إعادة بناء أحد التترابيلات بشكل كامل بأعمدته الأربعة. ونلاحظ الكتابات الإغريقية على القواعد والتيجان الكورنثية التي تتميز بأوراق نبات «الأكانتوس – Acanthus» المنحنية. [4]

الشكل 5: التترابيل

كما نلاحظ استخدام تقنية بناء ذات أصل بيزنطي تتألف من صفوف من الحجارة المنحوتة والتي تتناوب مع صفوف من القرميد. هذه التقنية التي استخدمها البيزنطيون للتخفيف من آثار الزلازل. [4] (وتطوّرت لاحقًا في العالم الإسلامي لتعرف باسم “الأبلق“).

الشكل 6: صورة مقرّبة لأحد الجدران في مدينة عنجر تظهر استخدام تقنية صفوف الحجارة المتناوبة

يمكننا رؤية قواعد أعمدة ذات أبعاد متساوية عن بعضها على جانبي الشارعين والعديد من الأعمدة المنهارة والتي كانت جزءًا من رواق كان ممتدًا على جانبي الشارعين. تم إعادة بناء قسم من أعمدته من أجل إعادة تخيّل المشهد. [4]

بناء لم يكتمل

تم تأسيس مدينة عنجر من قبل الخليفة الأموي الوليد الأول (الوليد بن عبد الملك (705-715م)) في بداية القرن 8 الميلادي، ولم يكتمل بناؤها حيث لم تحظَ إلا بفترة قصيرة من الازدهار. إذ هزم الخليفة الأموي ابراهيم بن الوليد في عام 744م ، وبعدها، تم هجر المدينة شبه المدمّرة ليعاد اكتشافها من قبل علماء الآثار في أربعينات القرن ال20 م. أضيفت المدينة إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي في عام 1984م. [2] وتعدّ عنجر مثالًا على تأثّر الحضارات ببعضها من خلال تخطيطها وأسلوب بنائها، ومثالًا على قيام الأمويين بإعادة استخدام الآثار الموجودة والمتوفرة في بناء مبانٍ جديدة.

المصادر

  1. Anjar – Umayyad Route
  2. Anjar – UNESCO World Heritage Centre
  3. phoenician-anjar (pdf)
  4. Aanjar – middleeaast.com

الشتاء قادم، كيف نجا الإنسان العاقل من جليد الشمال القارص

قبل 40 ألف سنة في أوروبا لاحق الإنسان العاقل الحيوانات واصطادها، واستكشف غابات أوروبا ومراعيها لأول مرة. لكن مع تقدم الزمن بدأ كل شيء يتغير. فبحلول عام 28 ألف ق.م بدأت الطبقات الجليدية تتقدم وتنهي كل شيء في طريقها. معظم أوروبا الشمالية أصبحت تحت الجليد ولكن على عكس المتوقع بقي الإنسان العاقل في أوروبا، اصطاد وعاش في المناطق الجليدية. طور عادات وسلوكيات خاصة كانت أساسًا لحضارتنا اليوم. وتمكن من النجاة من أخر عصر جليدي مدمر ضرب الأرض.

صيادو الشمال المتجمد

ظهرت الحضارة <<الكرافيتية-Gravettian culture>> في أوروبا بدايتًا من سنة 28 ألف قبل الميلاد. و  الكرافيتيين هم مجموعة من الصيادين الذين تمكنوا من الصمود والاصطياد في الظروف الجليدية الصعبة. فأوروبا بين 28 و20 ألف ق.م كانت ترزح تحت طبقات الجليد السميكة حتى عدة كيلومترات. دول مثل إنجلترا والدنمارك والنرويج اليوم كانت وقتها عبارة عن طبقات من الجليد السميك.

لا نعلم بالضبط اليوم ماذا نادى الكرافيتيون بعضهم. لكن اليوم أعطاهم علماء الآثار هذا الإسم نسبة للمواقع الأثرية التي وجدو أثرًا لهم فيها. لقد سكنوا بشكل عام على طول طريق تنقل الحيوانات الكبيرة. ففي تلك الفترة كانت أوروبا تعج بحيوان الماموث مثلًا. ومع أن فروه كثيف إلا انه كان يكره البرد. لذلك كان عندما تشتد برودة الطقس ينتقل نحو جنوب القارة الأوروبية وعلى طول مسار تنقله وجدت آثار الكرافيتيين. (1)

أول معطف في التاريخ

رسم تخيلي يظهر معطف من الثقافة الكرافيتية(مواقع التواصل)

بشكل أو بأخر يمكننا اعتبار أن صناعة الملابس للتدفئة هي اختراع يعود للثقافة الكرافيتية. فمع ازدياد البرودة أخذ الكرافيتيان الفرو والجلد وصنعوا ملابسًا اهم. يعتبر العلماء اليوم أن أول من بدأ الخياطة بإبر مصنوعة من العظام مع نوع من الخيوط هم الكرافيتين. بالإضافة إلى الملابس صنع الكرافيتيان الأحذية. لكن الخياطة كانت عمل نسائي ولم تكن بالشيء السهل. فكان على النساء اختيار أنواع الجلد ثم مضغها لتنعيمها ثم ثقبها ، بالأسنان على الأرجح، من أجل خياطتها في النهاية.

لكن ما يلفت نظر العلماء اليوم ليس فكرة اختراع الملابس بالتحديد. فالكرافيتيين لم يرتدوا الملابس بغرض التدفئة فقط وعلى الأرجح كان لها بعدٌ أخر عندهم. ففي أحد الكهوف وجد هيكل عظمي مدفون بجانبه صخرة المغرة. في الغالب كان لرجل وكان يرتدي رداء مميز من الجلد. مزين بكريات صغيرة من عظام الماموث مثقوبة في المنتصف. وووجدت أربطة على الرأس لم نعلم بالتحديد إذا كان لشاب أو عجوز. لكن من الواضح ان الرداء هذا ليس مجرد لباس اعتيادي للتدفئة. فصنعه استغرق عملًا لأكثر من سنة. لذلك يعتقد العلماء أنه يرمز لشيء أخر.

في مجتمع صيادين وفي هذه الظروف الجليدية كان الانضمام للمجموعات مهمًا للغاية. فالأمر ليس كما في الجنوب الدافئ تأتي الفريسة اليك. في التندرا الباردة تكون المعركة أكثر شراسة والمخاطر أعلى. لذلك نرى من الواضح ظهور نوع من المركزية في البنى الاجتماعية شيء قريب من فكرة زعيم القبيلة كما نعرفها اليوم.(2)

فينوس العصر الحجري

لم تقتصر الرمزية عند صيادي أوروبا الأوائل على السلطة. بل ظهر في هذه الفترة واحد من أكثر الرموز المثيرة للاهتمام وقد أشتهر وانتشر بشكل كبير وهو تمثال فينوس. المرأة العارية بالطبع ليس له علاقة بإلهة الحب في اثينا بل كان مرتبطًا أكثر بالخصوبة والحماية. لا نعلم تحديدا هدفه، هذا النوع من التماثيل لنساء أكثر ما يبرز فيها هو صدرها الكبير وحوضها وبطنها الكبير. وكانت هذه التماثيل صغيرة الحجم. نعلم انها كانت تدفن بجانب النار في الرمل ربما كان الهدف منها اعطاء القوة والحماية للكوخ. وجد الكثير منها بمختلف الاشكال والاحجام فقد تم صناعتها بأعداد كبيرة نوعًا ما.

وهذه التماثيل مع اختلافها تظهر نوعًا من الجمالية. فالأمر ليس فقط بأنهم يخيطون ملابسهم او يصنعون تماثيل بل يحاولون في الواقع خلق نوع من الموضة. نوع من التمثيل لفكرة الأنثى البشرية المجردة وفكرة الخصوبة بشكل عام.

إقرأ أيضًا: البشر الأوائل، معجزة إفريقيا إلى كل العالم

الشامان، ساحر الشمال الأول

جلست عائلة من الكرافيتيين في وسط كوخهم المصنوع من الاخشاب والجلود وعظام الماموث. يتسع الكوخ ل 12 إلى 15 شخص وهم متحلقين حول النار التي تشتعل في وسطه. تروي لهم الجدة والجد حكايات عن أسلافهم واساطيرهم القديمة عن الماموث العملاق والروح المقدسة والدب العظيم لمئات المرات قبل أن ينتهي الشتاء. وكانت هذه القصص تنقل عبر الأجيال مما جعل هذه الاكواخ ليست فقط للاحتماء بل لها دور  احتفالي مقدس أيضًا. فعند سرد تقاليد العشيرة مرارًا وتكرارًا ينتج نوع من التماسك. فتصبح هذه الاكواخ اماكن شبه مقدسة.

جزء من العالم الخارجي الذي يحتمي منه الكرافيتيين هو عالم مليء بالحيوانات القوية الشرسة. وبما أن عبادة الأسلاف صفة مشتركة مع شعوب السافانا فإن لها دورًا حقيقيًا في الصيد. المشكلة في الأراضي الجدليدية المفتوحة لن تأتي الفريسة إلى الصياد أبدًا. لذلك كان عليه أن يطور فكرة أخرى عن عبادة الأسلاف. لذلك طوروا علاقة خاصة مع الحيوانات التي تبنى بعض الصيادين شخصياتها.

فإذا أخذنا الدببة كمثال عند سلخه يبدو كالإنسان. جلد أبيض لديه يدين وقدمين يشبه الانسان فاعتبره الكرافيتيون انه انسان ضخم. وعندما ترتدي جلد الدب ستصبح أنت أيضًا دب. لذلك وجدت علاقة بين الدب والانسان الذي يخرج مع الانسان ويتشارك معنا ذات انواع الطعام. لذلك كان هنالك نوع من الطقوس تحدث من اجل اصطياد الدب فكانت العلاقة والطقوس كنوع من طلب الانسان من الدب ان يضحي بنفسه لأجل حياة الانسان. فبمخيلة الكرافيتيين ربما كان هذا الدب روح احد الأسلاف.

من هنا ظهرت الحاجة لوجود الشامان. وهو ساحر قادر على التواصل مع عالم الأرواح. انتشر بشكل واسع في معظم المجتمعات الشمالية. وساعد الانسان بالتواصل مع عالم الارواح التي كانت تنتشر في كل مكان حسب ظنهم. وكانوا غالبًا يحملون معه أدوات كالطبول لتساعدهم في مهمتهم.

هناك رسم يظهر العالمين عالم البشر وعالم الارواح مفصولين يمكن للشامان ايضا ان يشفوا فهم يعرفون الكثير عن النبات

مهد الحضارة

بحلول سنة 10 الاف قبل الميلاد كانت الأراضي المفتوحة الجليدية في أوروبا قد اختفت وحلت مكانها الأعشاب والأشجار والمراعي مرة أخرى. اختفت ثقافة الكرافيتية معها وحلت مكانها ثقافة أخرى تسمى بالمجدلية. أعادت الحياة إلى الكهوف في أوروبا وجعلتها من أجمل الأعمال الفنية التي مرت على التاريخ البشري. لم ينتهي العصر الجليدي كما بدأ بل خلاله تعلم البشر وطوروا سلوكياتهم وقدراتهم العقلية وتمكنوا من الصمود. أن حصيلة معارفنا او تطورنا الفكري والاجتماعي ليس كما هو شائع قد حدث عندما خرج البشر من الكهوف وبنوا أولى القرى. بل إن جذورها أقدم من ذلك بكثير فهي تعود إلى أخر عصر جليدي مر علينا. (3)

المصادر

  1. The Gravettian on the Middle Danube
  2. The Eastern Gravettian “Kostenki Culture” as an Arctic adaptation
  3. Climate Change in Prehistory: The End of the Reign of Chaos

البشر الأوائل، معجزة إفريقيا إلى كل العالم

تخيل معي أنك تقف الان أمام أقدم ملجئ سكنه البشر الأوائل (العقلاء). كيف يمكن أن تتخيل حياتهم؟ كيف تصرفوا؟ ماذا أكلوا؟ ما هو شكل علاقتهم الاجتماعية؟ سلوكهم سويًا ومع باقي الأنواع الحية، حياتهم الروحية وهل كان لهم واحدة أصلًا؟ في هذا التقرير سنطرح أمامكم كل ما نعرفه ونفترضه عن حياة الإنسان العاقل في مراحلها المبكرة. وسنناقش نشوء سلوكه الاجتماعي في أحد أهم المواقع التي عثر فيها على أقدم الآدلة الآثرية المرتبطة به. وهو كهف بلومبوس في جنوب إفريقيا.

نقف الان على الساحل الجنوبي لقارة إفريقيا، تسمى هذه المنطقة بالسافانا وتعتبر حارة جدًا اليوم لدرجة أنها باتت تشبه الصحاري. لكن الأمر لم يكن كذلك في المئة ألف سنة الماضية، كان مناخها ألطف وأكثر مطرًا وبرودة مما هو عليه اليوم. انتشرت في هذه المنطقة الهضاب والسهول. وكانت تحتوي مئات البحيرات التي لا تزال قيعانها الرملية تظهر على خرائط غوغل كنقاطٍ بيضاء اليوم. وحسب توزع هذه البحيرات وبما أن العديد من الكهوف تظهر في هذه المنطقة قسمها علماء الآثار إلى بقعتين: الأولى وهي منطقة البحيرات والثانية هي منطقة الكهوف والملاجئ الصخرية.(1)

ومباشرة قبالة الشاطئ على سفح التل القريب يقع <<كهف بلومبوس-Blombos cave>>. المسافة بين الكهف والبحر صغيرة نسبيًا وغير مناسبة لأعمال الصيد والمعيشة، لكنها لم تكن كذلك قبل الخمسة ألاف سنة الماضية. فقد كان مستوى مياه البحر أكثر انخفاضًا بنسبة 50 الى 100 متر مما هو عليه اليوم. ولكن عند بحلول سنة 5000 قبل الميلاد بدأت معدلات الحرارة بالإرتفاع عالميًا فارتفع معها مستوى المياه ووصل إلى ما هو عليه اليوم. إذا فقد كان أمام الكهف مساحات شاسعة للصيد وأعمال الحياة اليومية للبشر الأوائل.(1)

كهف بلومبوس
By Vincent Mourre / Inrap – Own work, CC BY-SA 3.0,

ماذا أكل البشر الأوائل؟

إن ما يميز كهف بلومبوس هو أنه سكن من فترات العصر الحجري القديم والوسيط. وهي فترة ممتدة من 125 ألف الى 75 ألف قبل الميلاد. وخلال هذه الفترة تغيرت أنواع الطرائد التي اصطادها البشر. فبين سنة 125 و 82 ألف قبل الميلاد. اعتاد البشر على أكل الحيوانات صغيرة الحجم إجمالًا كالأسماك <<والوبريات-Hyraxes>> وهي حيوانات بحجم الأرانب بالإضافة لحيوان <<الخلد الشحمي- dune mole>> وحيوانات الماشية الصغيرة. ومع تقدم الفترات الزمنية وازدياد قدرات الإنسان ومعرفته تمكن من اصطياد الحيوانات الأكبر. فحوالي سنة 75 الف قبل اليوم كان قد تمكن من اصطياد أنواع الماشية الكبيرة وأكلها.

في الغالب فإن عملية الصيد هذه لم تكن تعتمد فقط على جودة وفعالية الأسلحة وأدوات الصيد. بل على معرفة الإنسان لفسيولوجيا هذه الحيوانات التي أراد صيدها. وفهمه أن أحجامها الكبيرة تعطيها سرعة أكبر لكنها بعد بضع ساعات ستحتاج للتوقف عندما ترتفع حرارة اجسادها وإلا ستموت. لذلك كان يتم اختيار أسرع الرجال لهذه المهمة وبعد 3 إلى 4 ساعات من مطاردة الحيوان كان يقع ميتًا. ويتحول لوجبة لذيذة على العشاء.(2)(3)

ماذا صنع البشر الأوائل؟

في الحقيقة، إن دراستنا للأسلحة والأدوات التي صنعها البشر الأوائل إن كان في جنوب إفريقيا أو في أي مكان أخر من العالم. لا تساعدنا فقط على فهم أنواع الحيوانات التي اصطادوها. بل على تحديد مستوى التطور الفكري للإنسان ومدى تطور سلوكه الاجتماعي.

نحن لسنا مجرد مفترسين صانعين للأدوات وصناعة الأدوات لا تعتمد فقط على تقنية التصنيع. فالبشر الأوائل كانوا بحاجة لمعرفة أنواع الصخور التي يجب استخدمها وأين يمكن أن توجد هذه الأنواع. بالإضافة لطريقة استخراجها ومن ثم تقنية ضربها لتتحول لسلاح قاتل. ومع ذلك كان يوجد حاجة لمعرفة المسافات وطرق التنقل. فليس من السهل نقل الصخور دائمًا لتصنع في المساكن وفي بعض الأحيان كان من الأسهل صنعها قرب مكان استخراجها.(4)

وبعد ذلك حافظ الإنسان على هذه التنقية ونقلها من جيل لجيل فهي لم تكن مكتوبة في كتاب بل كان الأب يعلمها لابنه ويدله على طريق الصخور المناسبة.

بعض الأدوات التي وجدت في الكهف
By Katja Douze Sarah Wurz Christopher Stuart Henshilwood CC BY 4.0,

المغرة

الصيد والطعام ليسا الجانب الوحيد في حياة الإنسان العاقل. في كهف بلومبوس أيضًا عثر على <<صخرة المغرة-Ochre>>. وهي نوع من الصخور الهشة التي لا تصلح ليصنع منها سلاحًا، بل كان استخدامها مختلف كليًا عن هذا.

لا يمكن أن نعرف بالتحديد ما الذي كانت تعنيه المغرة لسكان كهف بلومبوس الأوائل. لكن بعض القبائل الإفريقية اليوم التي ما زالت تعيش حياة بدائية تخبرنا عن معنى المغرة بالنسبة لها. إنها تعني الدماء عند بعضهم نظرًا للونها الأحمر والخصوبة إذا ربطنها بدماء الدورة الشهرية عند النساء. في ؛<ناميبيا-Namibia>> في إفريقيا ما زالت عدة قبائل تستخدم المغرة. والنساء هي المسؤولة عن استخراجها وتصنيعها. تقوم بعد ذلك بمزجها مع الدهون والاعشاب المطيبة ثم تدهن الجسد بها فيصبح كأن لونهن أحمر. وللأسف إذا اخذنا مثلًا أقرب سنجد أن السكان الأصليين لأميركا أيضا كانوا يطلون أنفسهم باللون الأحمر. قبل الحرب أو الطقوس الدينية والجنائزية وهذا ما سبب تسميتهم بالهنود الحمر.(5)

لكن لنفهم معظم أبعاد استخدام هذا النوع من الصخور عند البشر الأوائل، لا بد من ذكر سكان جزيرة <<أندامان-Andaman>> شرقي الهند وهو يعتبرون من أقدم البشر الذين ما يزالون يعيشون حياة بدائية هي الأقرب لأسلافنا الأوائل. فعند هذا الشعب لاستخدام المغرة معنى أخر بعيد جدًا عن اللون الأحمر وهو مرتبط بشكل كبير بالرائحة.

إن الفرد من هذه المجموعة، وهذا التعبير خطأ فهم لا يعترفون بالانا كفرد بل إن الفرد منهم هو كل أسلافه مجتمعين بشخصه. كان يجب عليه أن يطلي جسده بالمغرة لكي تتمكن أرواح أسلافه، الغير مادية،من التعرف عليه بعد وفاته عن طريق رائحته المميزة. بشكل أو بأخر بالنسبة لهم فإن مسألة عبادة الأسلاف هذه كانت تستحق كل هذه الطقوس. فالأسلاف بنظرهم كانوا قادرين على مساعدتهم بالصيد والشؤون الحياة اليومية وليتمكن الفرد منهم من الاجتماع مع اسلافه كان لزامًا عليه أن يستعمل المغرة.

إقرأ أيضًا: تاريخ الإنسان العاقل، كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم؟

أول الرموز الفنية

صخرة المغرة المحفورة برموز إكس
By https://originalrockart.wordpress.com/ – https://originalrockart.wordpress.com/, CC BY-SA 4.0,

ان جميع ما تحدثنا عنه في هذا التقرير هو فرضيات مبنية على أدلة أثرية مستخرجة من كهف بلمبوس. وقد عثر في الكهف أيضا على صخرة حفر عليها رموز إكس “X” متشابكة وهو أمر غريب جدًا. ويعتبر بداية للشيء لم يكن معروف سابقًا على الأرض وهو الفن.(5)

بالنسبة لعلماء الأنثروبولوجيا فإيجاد تفسير لهذه الصخرة كان أمرًا صعبًا، لكن الأقرب إلى الواقع كان فرضية أنها تمثل إرث العائلة. كان يتم الاحتفاظ بها داخل العائلة الواحدة وتسلم من جيل إلى جيل كمفتاح سحري يربط العائلة ببعضها. أما إذا ضاعت فكانت تحل الكوارث عليهم.

لقد وجد في الكهف أيضًا رمز أخر لا يقل أهمية عن هذه الصخرة وهو عقد من الصدف. بالطبع قد اختفى الخيط منه لكن لا تزال علامات الحفر في وسط الأصداف ظاهرة. ومن الواضح أن مادة لامعة قد وضعت داخل هذه الأصداف. ومن الشائع قديمًاأإن كل ما يلمع يعتبر بوابة بين عالم الأحياء وعالم الروح. لكن لا نعلم اليوم بالضبط من كان يرتدي هذا العقد. ولو أن أغلب أغلب أنه يعود لرجل وهو رمزٌ لسلطته على أفراد جماعته.(6)

الرقص

يعد الرقص للبشر الأوائل من أهم طرق التواصل الاجتماعي وليس مجرد طقوس للتسلية. وكانت بعض الرقصات تدوم لأسابيع وشهور. الغرض من الرقص هو لقاء الشبان بالفتيات والزواج، وخصوصا إن كان يتم بين عدة جماعات مختلفة. ومن الأمور التي كان للرقص دور فيها هو تبادل الأغراض. فالجماعة التي تملك الكثير من الأسماك كانت تلتقي خلال طقوس الرقص مع جماعة تملك الصخور وهكذا يتم التبادل مثلًا.

اذًا كان الرقص وغيره العديد من العادات الاجتماعية المرتبطة بالبشر الأوائل تشكل جزئًا كبيرًا من حياتهم اليومية. أكثر من 60% من يومهم قضوه بالرقص وممارسة العادة الفنية المتعلقة بالأجداد كالرسم الرمزي على جدران الكهوف. والذي وجدنا منه الألاف في شتى انحاء العالم اليوم وهو رسم للطبيعة والحيوانات كنوع من الطقوس السحرية ربما كانت تتم لجلب الحيوانات أو للمساعدة على الصيد.

بشكل أو بأخر من غير العادل أن نطلق على البشر الأوائل صفة الصيادين الجامعين فقط لكون جزء من حياتهم اليومية تتعلق بالصيد. واذا أردنا ذلك لا يجب أن ننزعج إذا ما أطلق علينا بشر المستقبل صفة رواد المتاجر أو المتسوقين. فقط لأننا نزور المتاجر لنتسوق حاجاتنا اليومية منها.

المصادر

  1. Climate, Environment and Early Human Innovation: Stable Isotope and Faunal Proxy Evidence from Archaeological Sites (98-59ka) in the Southern Cape, South Africa
  2. Blombos Cave, Southern Cape, South Africa: Preliminary Report on the 1992–1999 Excavations of the Middle Stone Age Levels
  3. Identifying the Collector: Evidence for Human Processing of the Cape Dune Mole-Rat,Bathyergus suillus, from Blombos Cave, Southern Cape, South Africa
  4. Early Use of Pressure Flaking on Lithic Artifacts at Blombos Cave, South Africa
  5. Engraved ochres from the Middle Stone Age levels at Blombos Cave, South Africa
  6. Nassarius kraussianus shell beads from Blombos Cave: evidence for symbolic behaviour in the Middle Stone Age

أربع مدن ضائعة، قصة صعود المدن وانهيارها

فكر بالأمر جيدًا، ما هي المدينة؟ حسب رأي عالم الآثار الأسترالي غوردون تشايلد فهي مستوطنة مكتظة بالسكان. تحتوي على مبانٍ ضخمة. يتمتع شعبها بالقدرة على الإبداع والكتابة والفن ويستخدمون نوعًا من العملات في حياتهم ويدفعون الضرائب. لهم علاقات تجارية على مسافات طويلة، كما أنهم ينتجون فائضًا من السلع، وبالنسبة لحياتهم الاجتماعية فهي مبنية على الطبقية. إن المدن أو المراكز الحضارية، سواء كانت موجودة قبل 9 آلاف عام أو اليوم، فإن لها تاريخًا فريدًا. ومع ذلك، بغض النظر عن سبب تشكلها أو كيفية ازدهارها، فإن جميع هذه المدن ستواجه نفس المصير: النهاية المحتمة. وفي هذا التقرير سنتحدث عن قصة أربع مدن ضائعة.

المدن الأربعة

لن نتكلم هنا عن مغامرات اكتشاف المدن المدفونة تحت الرمال. ولا عن أسطورة المدينة المفقودة أو الحضارة الغارقة، فهذه المفاهيم والأفكار دائمًا ما تحجب الحقيقة؛ حقيقة كيف يدمر الناس حضاراتهم.

مدينة “شاتال هويوك-Çatalhöyük” بوسط تركيا، هي واحدة من أولى المدن في العالم. استوطنها البشر من حوالي 7100 إلى 5700 قبل الميلاد.  وصفها بعض علماء الآثار بأنها مجموعة من القرى، فقد كانت المدينة تعج بالنشاط قبل تعرضها للفيضانات وتخلي سكانها عنها. أما مدينة بومبي الرومانية عاش فيها رجال أعمال من عدة طبقات اجتماعية لعدة قرون. قبل أن تدفن في الرماد البركاني في عام 79 بعد الميلاد.

أما مدينة “أنغكور-Angkor” في كمبوديا (حوالي 800 إلى 1431 م)، فقد اعتمدت على شبكة ضخمة من القنوات وبرك التخزين التي بناها الخدم أو العبيد. قبل أن تنتهي بسبب النزاعات مع العمال المثقلين بالديون وبسبب البنية التحتية الفاشلة. وعلى طول سهول نهر المسيسيبي، جذبت مدينة “كاهوكيا- Cahokia” (حوالي 1050 إلى 1350 بعد الميلاد) الناس من جميع أنحاء المنطقة الذين تجمعوا للاحتفالات الدينية والثقافية. ومن المحتمل أن يكون سكانها قد عانوا كثيرًا لأن قادتها أصبحوا أكثر استبدادًا وربما تسبب تغير المناخ في الجفاف والمجاعة.

يروي الصحفي العلمي “Annalee Newitz” في كتابه “أربع مدن ضائعة” قصصًا رائعة عن الناس في هذه المدن الكبرى. وعن كيفية توصل الباحثين وعلماء الآثار إلى فهمهم الحالي عن هؤلاء الناس وكيف عاشوا حياتهم. والعديد من الاكتشافات في هذا المضمار تحصل بمساعدة التقنيات الجديدة والأساليب التحليلية الحديثة.

الاكتشافات الآثرية

توضح التماثيل الأنثوية التي يواصل علماء الآثار اكتشافها في شاتال هويوك الديانة والمعتقدات الذي يبدو أنها انتشرت في جميع أنحاء المنطقة. وتساعد الأدلة على الحرائق في إظهار كيف تغيرت المدينة على مدار تاريخها الذي يقارب 1500 عام. أما في بومبي، فيستخدم الباحثون “البيانات الضخمة” لبناء صورة أكثر اكتمالاً للحياة اليومية هناك.

يستفيد علم الآثار من كل شيء بدءًا من العلامات على الصخور وحتى النقوش على الورق. يمكن أن ينتج عن تحليل التآكل على أحجار الشوارع في بومبي ثروة من المعلومات: تشير الحفر في الطريق التي تصنعها آلاف المركبات التي تتحرك إلى المسافة بين عجلات العربات. تظهر القواطع على الأرصفة العالية التي منعت المشاة من السير في مياه الصرف الصحي المتدفقة عبر الشوارع أن الرومان من المحتمل أنهم قادوا عرباتهم على الجانب الأيمن من الطريق. كما توجد على بعض الجدران في مدينة بومبي كتابة لنساء يفخرن بتجارتهن حيث يحولون الإماء إلى عاملات بالجنس.

في أنغكور، يستخدم علماء الآثار تقنية الليدار، وهي تقنية تستخدم الليزر لرسم خرائط للأشكال الجغرافية المخبأة في الأرض. تُستخدم تكنولوجيا البيانات هناك أيضًا لتحليل قوائم العمال، واتضح أن غالبيتهم من النساء.

في كاهوكيا، استخدم علماء الآثار مقاييس المغناطيسية من أجل كشف الهياكل المدفونة. لأنها يمكن أن تكتشف الحالات الشاذة التي يمكن أن تمثل طبقات التربة المضطربة، والأشياء المحروقة، والمعادن على بعد عدة أقدام تحت السطح.

نظريات الانهيار

عندما يكتشف الباحثون شيئًا جديدًا عن هذه المدن – سواء كان مفهوم أعمق للجنس في الحضارة الرومانية في بومبي أو التضحية البشرية في كاهوكيا – فإن اكتشافاتهم تتأثر حتمًا بما تعتبره مجتمعاتنا الحالية مقبولًا أو غير مقبول. لا تزال منحوتات القضيب، التي يُعتقد أنها تجلب الحظ السعيد، محفوظة في قسم “الخزانة السرية” في متحف نابولي، على الرغم من أن أصحاب المتاجر عرضوها بشكل بارز في بومبي القديمة.

في الأوساط العلمية، تضاءلت فكرة سقوط الحضارات فقط بسبب التفاعل البشري مع البيئة قبل أن يعيد جاريد دياموند الحياة إلى هذه النظرية بكتابه الصادر عام 2004 بعنوان “الانهيار: كيف تختار المجتمعات أن تفشل أو تنجح”. فالبيئة عامل مساهم في التفكك الحضاري، ولكن هذا جزء فقط من القصة. التخلي عن المدينة وهجرها هو الأهم.

غالبًا ما يرغب قادة المدن أو أفراد العائلة المالكة في الاستثمار في المباني والمناظر الجميلة. بدلاً من الأشياء التي يحتاجها الناس للازدهار، مثل البنية التحتية العاملة والأسواق الآمنة. وبدون هذه الأشياء، غالبًا ما تكون المدن أكثر عرضة للكوارث البيئية، والتي يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات سياسية عندما تغمر المنازل بالمياه أو تذبل المحاصيل.

إقرأ أيضًا: الانهيار الحضاري الكبير .. هل احتلت شعوب البحر العالم؟

هل تنهار الثقافة مع انهيار المدينة؟

انهارت المدينة، لكن هل تموت الثقافة عندما تختفي المستوطنة؟ إن معظم المهاجرين من المدن القديمة عبر التاريخ أخذوا معهم قيمهم وفنونهم وتقنياتهم واندمجوا في المدن الجديدة.

في حالة بومبي، على سبيل المثال، غالبًا ما انتقل أولئك الذين نجوا من الانفجار البركاني إلى مدن أخرى استعمرها الرومان. ربما انتشر سكان كاهوكيا السابقون وشكلوا مجتمعات أصغر عبر الغرب الأوسط.

تتوسع المناطق الحضرية وتتقلص مع موجات الهجرة بمرور الوقت. عندما ينقسم سكان المدينة إلى قرى أصغر، فهذا ليس إخفاقًا. إنه مجرد تحول، غالبًا ما يعتمد على استراتيجيات البقاء السليمة. وتستمر ثقافة تلك المدينة في تقاليد الناس الذين عاش أجدادهم هناك، وسيستمر الكثير منهم في بناء مدن جديدة على صورتها.

على الرغم من أنها قد لا تدوم إلى الأبد، إلا أن المدن الناجحة تحتاج إلى أشياء معينة لتزدهر: البنية التحتية المرنة، والمناطق التي يمكن للجمهور الوصول إليها، وتوفر المساكن للجميع، والحراك الاجتماعي، والقادة الذين يحترمون عمال المدينة.

المصادر
1- Four Lost Cities: A Secret History of the Urban Age
2- Man makes Himself

التاريخ ينصف المرأة.. دورها في الحكم أعظم مما نتصور!

مرة بعد أخرى يعيد العلم للمرأة بعضًا من حقوقها المهدورة. فمن الشائع جدًا بين المؤرخين وعلماء الآثار أن الرجال قد حكموا معظم المجتمعات خلال العصر البرونزي في أوروبا. كان ذلك قبل أن تظهر أدلة جديدة يمكن أن تعيد كتابة التاريخ، لكن بطريقة منصفة. فهل سينصف التاريخ المرأة هذه المرة؟

ظهرت وعلى رأسها تاج 

تهيمن على موقع 《 La Almolya 》في اسبانيا أطلال هيكل شبيه بالقصر كان مبنيا في ما مضى على قمة تل صخرية تطل على السهول المحيطة. كان الباحثون الإسبان يحفرون في الموقع سنة 2014 عندما عثروا على قبر تحت أرضية غرفة كبيرة تفتقر إلى معظم أدوات المعيشة. لم يكن فيها أي عناصر احتفالية تشير لوظيفة دينية بل مجرد مقاعد حجرية متشققة ومتوزعة على طول الجدران. مما يشير إلى أن هذا المكان كان مركزًا للحكم.

في القبر وجد الباحثون جرة فخارية احتوت على عظام المرأة وإلى جانبها هيكل عظمي لرجل. كان الرجل يرتدي سوارًا نحاسيًا وسدادات أذن ذهبية. أما المرأة فكانت ترتدي العديد من الأساور والخواتم الفضية، وقلادة من الخرز، وإكليل فضي مذهل يزين جمجمتها. هذه القطعة الشبيهة بالتاج مطابقة تقريبًا لأربعة قطع أخرى وجدت على نساء مدفونات في منطقة أخرى في 《الأرغار- El Argar.》

الجرة المدفنية التي وجد فيها عظام المرأة وزوجها.

اما الأرغار فهو مجتمع سيطر على مناطق الجنوبية الشرقية لشبه الجزيرة الأيبيريةمن حوالي عام 2200 إلى 1550 قبل الميلاد. كان هذا المجتمع منتجًا رئيسيًا للمنسوجات وربما مركزًا إقليميًا ثريًا، كما يقول عالم الآثار والمؤلف المشارك في الدراسة روبرتو ريش من جامعة برشلونة المستقلة.

اقرأ أيضًا: العصر البرونزي الحديث .. كيف تصبح العولمة سببًا لانهيار الحضارات ؟

نخبة مجتمع الأرغار

حسب التأريخ بالكربون المشع للرفات فقد مات الرجل والمرأة عام ١٦٥٠ قبل الميلاد، وقد ماتوا في نفس الوقت أو تقريبًا. كان الرجل يبلغ من العمر حوالي 35 إلى 40 عامًا عندما توفي، أما المرأة فقد ماتت بين 25 و30 عامًا. لا يمكن للباحثين التأكد من سبب موتهم، فلم تظهر الهياكل العظمية إصابات مميتة بشكل واضح. يكشف التحليل الجيني أن الاثنين لم يكونا مرتبطين (ليسوا من عائلة واحدة)، لكن لديهما ابنة ماتت في سن الطفولة ودُفنت في مكان قريب.

ويشير الباحثون في  الدراسة  التي نشرت حديثًا في مجلة Antiquity إلى أن القبر القيّم للزوجين يدل على أنهما كانا من بين نخبة La Almoloya. وتشير الزخارف النسائية إلى أن سلطة المرأة كانت أقوى من الرجل في ذلك الوقت وربما كانت حاكمة إقليمية في مجتمع الأرغار.

تم العثور على زخارف أنثوية غنية في مواقع أخرى من العصر البرونزي في جميع أنحاء أوروبا. في الماضي، كان العديد من علماء الآثار يعيدون ذلك الطقس إلى أنهن زوجات لمحاربين أقوياء. لكن بالنظر إلى أهمية وبروز المرأة في موقع La Almoloya، لماذا لا نقول بساطة أن المرأة كانت الحاكمة في هذا المجتمع؟

الحكم للمرأة

لا يمكن ان نعلم الأن مدى اتساع سلطة هذه الحاكمة لكن الباحثين تمنوا أن يدفع هذا الاكتتشاف الأخرين إلى إعادة النظر في افتراضاتهم حول وضع  المرأة طوال عصور ما قبل التاريخ.

تقول عالمة الآثار 《سامانثا سكوت رايتر-Samantha Scott Reiter 》التي لم تشارك في الدراسة: “فكرة أن نساء العصر البرونزي ربما احتللن مكانة وسلطة في حد ذاته كانت موجودة منذ بعض الوقت”. “في الآونة الأخيرة فقط – بمقالات مثل هذه – يبدو أن النظام يعطي قوة الإناث اعتبارات أكاديمية أكثر جدية الأن.”

يقول《 مارك هوجتون-Mark Haughton》 عالم الآثار بجامعة كامبريدج، إنه من المستحيل معرفة كيف ينظر مجتمع الأرغار إلى الأفراد المدفونين. لكنه سعيد لرؤية أن الباحثين لم يحسموا فرضيتهم بأن مجوهرات المرأة المدفونة معها هي رمز لقوة زوجها. يقول: “إذا قبلنا أن الأغراض الجنائزية هي ممتلكات المتوفى، فإننا بحاجة إلى القبول بامتلاك النساء لهذه الأغراض في رواياتنا عن القوة في عصر البرونز”.

تقول عالمة الآثار جوانا بروك: “إذا قبلنا أن النظام الأبوي ليس أمرًا حتميًا، فربما يمكننا تخيل مستقبل أفضل لأنفسنا.”

المصادر

الدراسة المنشورة في مجلة Antiquity

هل استطاع إنسان النياندرتال التكلم مثلنا؟

عزيزي القارئ قد تظن أنك، وباستثناء الببغاء، الكائن الوحيد القادر على الكلام على سطح هذه المعمورة. لكن يؤسفني أن أخبرك أن كل ذلك قد تغير. فمؤخرًا ظهر أن النياندرتال، أقرب أقربائنا، امتلك القدرة على إصدار الأصوات وسماعها، بالقدر نفسه الذي تمتلكه أنت قبل أن تكون موجودًا حتى. فهل استطاع إنسان النياندرتال التكلم مثلنا؟

هل تكلم النياندرتال؟

استطاع أقرب اقربائنا النياندرتال السمع وإصدار الأصوات كالإنسان الحديث تمامًا وفق ما جاء في دراسة حديثة. فعبر تحليل مفصل وإعادة تشكيل رقمي لعظام الجمجمة لدى النياندرتال. تمكنت هذه الدراسة من إنهاء جدل استمر لسنوات عن قدرة هذا الكائن على التكلم.

حسب عالم الحفريات البشرية 《رولف كوام-Rolf Quam》 من جامعة بينغهامتون هذه الدراسة واحدة من أهم الدراسات التي حصلت في مجال الحفريات البشرية. فنتائجها القوية تظهر بوضوح أن إنسان النياندرتال كان لديه القدرة على إدراك وإنتاج الكلام البشري. وهي واحدة من عدد قليل جدًا من الدراسات الحالية التي تعتمد على الأدلة الأحفورية لدراسة تطور اللغة. وهو موضوع صعب التأكد منه في علم الأنثروبولوجيا.

إن الفكرة القائلة بأن 《إنسان نياندرتال-Homo neanderthalis》 كان أكثر بدائية من 《البشر المعاصرين-Homo sapiens》 عفا عليها الزمن. ففي السنوات الأخيرة، تُظهر مجموعة متزايدة من الأدلة أنهم كانوا أكثر ذكاءً مما افترضنا في السابق. لقد طوروا تكنولوجيا لصناعة الأدوات وابتكروا الفن وأقاموا الجنازات لموتاهم.

ومع ذلك، لم نكن نعلم ما إذا كانوا قد تحدثوا بالفعل مع بعضهم البعض، فقد ظل هذا الأمر لغزًا. يبدو أن سلوكهم المعقد يشير إلى أنه كان من المحتمل جدًا أن يكونوا قادرين على التواصل. لكن بعض العلماء أكدوا أن البشر المعاصرين فقط هم الذين لديهم القدرة العقلية للقيام بهذه العمليات اللغوية المعقدة.

سيكون من الصعب للغاية إثبات قدرتهم على التكلم بطريقة أو بأخرى. ولكن الخطوة الأولى ستكون تحديد ما إذا كان النياندرتال يستطيع إنتاج الأصوات وإدراكها في النطاق الذي يسمح بالتواصل القائم على الكلام.

تصميم ثلاثي الأبعاد لأذن الإنسان العاقل على اليسار وأذن النياندرتال على اليمين(مواقع التواصل)

هل ستحل الصورة المقطعية اللغز؟

باستخدام مجموعة من العظام القديمة. شرع  فريق بقيادة عالمة الأنثروبولوجيا القديمة 《مرسيدس كوندي فالفيردي – Mercedes Conde-Valverde》 بأخذ صور مقطعية عالية الدقة لجماجم خمسة من إنسان نياندرتال. وذلك لإنشاء نماذج افتراضية ثلاثية الأبعاد لهياكل الأذن الخارجية والوسطى له. قاموا أيضًا بنمذجة هياكل الأذن في الإنسان العاقل. وأحفورة أقدم بكثير – جمجمة Sima de los Huesos hominin، والمعروفة بإسم (Sima hominin،) سلف إنسان نياندرتال، والتي يعود تاريخها إلى حوالي 430 ألف سنة.

وقد استخدم أيضًأ نموذج للقدرة السمعية لهذه الهياكل بالإستعانة بمجال الهندسة الحيوية السمعية. من أجل فهم نطاق التردد الذي كانت الأذنين أكثر حساسية تجاهه، والمعروف أيضًا باسم النطاق الترددي المشغول. بالنسبة للإنسان الحديث، فإن النطاق الترددي المشغول هو النطاق سماع الأصوات البشرية.

وجد الفريق أن إنسان نياندرتال يتمتع بسمع أفضل في نطاق 4 إلى 5 كيلوهرتز من سلفه Sima. وأن النطاق الترددي المشغول لإنسان نياندرتال كان أقرب إلى النطاق الترددي للإنسان المعاصر من سلفه المباشر. يشير هذا التحسن بالقدرة السمعية إلى أن بشر النياندرتال كانوا بحاجة إلى سماع أصوات بعضهم البعض.

قالت كوندي فالفيردي هذا هو المفتاح لحل اللغز حقًا. فوجود قدرات سمعية مماثلة، في النطاق الترددي الذي يستطيع النياندرتال سماعه يدل على أنه يمتلك نظام اتصال معقد وفعال يمكنه من إصدارأصوات مثل الكلام البشري.

ومن المثير للاهتمام، أن عرض النطاق الترددي المشغول لإنسان نياندرتال امتد إلى ترددات أعلى من 3 كيلوهرتز. والتي تشارك بشكل أساسي في الإنتاج الثابت للأصوات. مما سيميز أصوات إنسان نياندرتال عن الأصوات القرود غير البشرية والثدييات الأخرى.

اقرأ أيضًا: الإنسان الأخير .. كيف انقرض إنسان النياندرتال؟

هل كان لديهم لغة؟

إن إحدى النتائج الأخرى المثيرة للإهتمام في الدراسة هي الاقتراح بأن كلام إنسان النياندرتال يتضمن على الأرجح استخدامًا متزايدًا للحروف الساكنة. ركزت معظم الدراسات السابقة لقدرات الكلام لدى إنسان نياندرتال على قدرته على إنتاج حروف العلة الرئيسية في اللغة الإنجليزية المنطوقة. ومع ذلك، يظن الباحثون أن هذا التركيز في غير محله. نظرًا لأن استخدام الحروف الساكنة هو وسيلة لتضمين المزيد من المعلومات في الإشارة الصوتية. كما أنه يفصل الكلام البشري واللغة عن أنماط الاتصال في جميع الرئيسيات الأخرى تقريبًا.

لقد تحسن السمع لدى النياندرتال مما مكنه من إنتاج الحروف الساكنة التي تظهر غالبًا في اللغات البشرية الحديثة، مثل “s” و “k” و “t” و “th”. وهي نفس الطريقة التي تكون بها سمعنا. جرب الصراخ ب  “sssss” سترى أنها طريقة جيدة للتواصل وربما إستخدمها النياندرتاليون للتواصل فيما بينهم.

لكن هل القدرة على الكلام تعني امتلاك لغة؟

لقد حذر الباحثون من أن امتلاك القدرة التشريحية على إنتاج الكلام وسماعه لا يعني بالضرورة أن إنسان نياندرتال لديه القدرة الإدراكية للقيام بذلك. ومع أنه ليس لدينا أي دليل على أن أشباه البشر هؤلاء قد تكلموا بلغة. إلا أننا نعلم أنهم قد أظهروا سلوكًا رمزيًا معقدًا، مثل القدرة على التعبير بالرسم وأنهم قد أقاموا طقوسًا لدفن موتاهم.

لا نعرف ما إذا كان لديهم لغة، ولكن على الأقل لديهم جميع الأجزاء التشريحية اللازمة للتمكن من الكلام. كما تقول مرسيدس كوندي فالفيردي. ليس الأمر أن لديهم نفس لغتنا، وليس مهمًا إن كانت الإنغليزية أو الإسبانية، ولا شيء من هذا القبيل. بل قدرتهم على إصدار الأصوات، فإن استطعنا سماعهم فسنعرف أنهم بشر.

تختلف قدرة إنسان النياندرتال على السمع عن باقي أشباه البشر مما يشير إلى تطور مشترك للسلوكيات المعقدة والقدرة على التواصل الصوتي بين البشر المعاصرين والنياندرتال.

إن هذه النتائج بالإضافة إلى الاكتشافات الحديثة التي تشير إلى السلوكيات الرمزية في إنسان نياندرتال، تعزز فكرة امتلاكهم لنوع من اللغة البشرية. لغة مختلفة تمامًا في تعقيدها وكفاءتها عن أي نظام اتصال شفهي آخرتستخدمه الكائنات الحية غير البشرية على هذا الكوكب.

لم يعد هناك نياندرتال ليتكلم

لم يقتنع روبرت بيرويك، عالم اللغويات الحاسوبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كفاية بقدرة النياندرتال على الكلام . وبرأيه إن قدرة النياندرتال على الكلام لا تعني أبدًا أنه امتلك لغة.

قد لا يتم حل مسألة قدرة النياندرتال على التكلم بلغة أبدًا، حتى مع استمرار تراكم الأدلة. الأمر ببساطة لم يعد هناك إنسان نياندرتال يتكلم.

تقدم العديد من الاكتشافات الحديثة أدلة حول طبيعة حياة النياندرتال فقد كان قادرًا على التعبير الرمزي، وارتداء المجوهرات، والمشاركة في صناعة فن الكهوف حتى قبل الإنسان العاقل كما أنه اقام طقوسًا مدفنية لموتاه وإعتنى بالعجزة من أقربائه. لقد حررت هذه الأدلة إنسان نياندرتال من التصور طويل الأمد بأن البشر الأوائل كانوا متوحشين بدائيين، وهي أسطورة متجذرة جزئيًا في الأيديولوجية العنصرية في حياتنا اليوم.

لفترة طويلة، كان العلماء يميلون إلى الاعتقاد بأن هناك “قفزة” فصلت الإنسان الحديث عن بقية العالم البيولوجي، مثل الإدراك واللغة. لكن ربما يكون هذا قد تغير اليوم فيبدو أن النياندرتال كان بشرًا مثلنا.

أما أنت الأن فأخبرني إن التقيت بالنياندرتال يومًا ما فما الذي ستخبره به؟

المصادر

كيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

كم مرة في اليوم نحمل القلم لنكتب أو نفرقع اصابعنا للفت الانتباه؟ نمسك هاتفنا الذكي لنتصفح بعض المواقع، أو حتى نفتح كيسًا من البطاطس المقرمشة للتسلية؟ كم من مرة نستخدم أصابع أيدينا لنمسك او نصنع الأشياء؟ يقولون إننا لا نعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن نفقدها. لكن في بعض الأحيان تكون هذه الأشياء هي من أعطت قيمة لحضارتنا بأكملها. تطور الإبهام عند البشر منذ ما يقارب مليوني سنة وبعدها غير التاريخ البشري بدون رجعة. فكيف يمكن لإبهامٍ صغير أن يحمل حضارةً بأكملها؟

الإبهام في أيدينا وعلى الرغم من صغر حجمه (مقارنةً بباقي الجسد) ارتكزت عليه حضارتنا الإنسانية بأكملها. هذه المعجزة التطورية سمحت لأسلافنا الأوائل بصناعة الأدوات وزيادة خيارات غذائهم. تقترح دراسة حديثة منشورة في مجلة Current Biology أن الإبهام كما نعرفه اليوم ربما يكون قد ظهر من حوالي مليوني سنة. وفي الغالب قد ظهر مع جنس الإنسان.

مهارة يدوية قديمة

منذ مليوني سنة كان البشر الأوائل يعيشون في شرق أفريقيا. كان يمكن أن نجد بعض الشخصيات التي تشبه الشخصيات البشرية اليوم، عدة أطفال يلعبون بالطين، وبعض الشباب المشغولين في بعض الأعمال، وعدة عجائز كانوا قد شاهدوا هذا كله.  لعب هؤلاء البشر وكونوا صداقات وعملوا وتنافسوا عل السلطة. لكن هذا أيضا ما فعلته حيوانات أخرى كالشنابز والفيلة.. لم يكن هنالك ما يميز البشر بل كانوا حيوانات عديمة الأهمية لا يتجاوز تأثيرهم على بيئتهم تأثير الغوريلات أو قنادل البحر.

تمتلك العديد من الرئيسيات إصبع الابهام لكن القليل منها يشبه إبهام الإنسان. فإبهام الإنسان مواجه ومناسب بشكل دقيق لكف اليد مما يسمح له بالقيام بالعديد من الأعمال الدقيقة. ويرى العلماء أنه من أهم هذه الأعمال التي ساعد فيها الإبهام البشر الأوائل كانت صناعة الأدوات.

تشير 《كاتارينا هارفاتي – Katerina Havarti》  المشاركة في الدراسة، أن المهارة اليدوية المرتبطة مباشرة بصناعة الأدوات كانت تحددها الأبحاث سابقًا فقط من خلال المقارنة التشريحية لعظام يدي الإنسان المعاصر مع أحافير متحجرة لأيدي بشر قدماء. ومدى التشابه بين العظام كان يحدد قدرة البشر القدماء في صنع الأدوات. هذه المهارة اليدوية والتي ربطت سابقًا بتطور يد الإنسان كانت تؤرخ لحوالي 2.5 مليون سنة.

كانت الأبحاث في السابق تنظر إلى 《الأسترالوبثقس – Australopithecus》 بأنهم يمتلكون إبهاما متطورًا بسبب قدرتهم على صنع بعض الأدوات. والأسترالوبثقس ربما كانوا السلف المباشر الذي تطور منه الإنسان.

تذكير

تطور البشر لأول مرة في شرق أفريقيا منذ حوالي 2.8 مليون سنة من جنس أسترالوبثقس والتي تعني الإنسان الجنوبي. وقبل حوالي مليوني سنة ترك بعض هؤلاء الرجال والنساء موطنهم ورحلوا إلى المناطق الشاسعة في شمال أفريقيا وأوروبا وآسيا واستوطنوها. ولأن البقاء في الغابات الثلجية في شمال أوروبا تطلب سمات تختلف عن تلك المطلوبة للبقاء في أدغال أندونيسيا الحارة، فإن المجموعات البشرية تطورت في اتجاهات مختلفة.

في أوروبا وغرب آسيا تطور البشر إلى نوعان: Homo Neanderthalensis والمعروف شعبيًا بالنياندرتال وهو أضخم من الإنسان العاقل وله عضلات أكبر تمكن من التكيف مع مناخ العصر الجليدي البارد. أما في شرق آسيا فسكن نوع بشري يدعى 《الإنسان المنتصب- Homo Erectus》 وبقي هنالك لمدة مليوني سنة. في المناطق الاستوائية عاش 《إنسان سولو- Homo Soloensis》. وبقي البشر يتطورون في شرق أفريقيا أيضًا، وصولًا إلى 300 ألف سنة من يومنا حيث ظهر 《الإنسان العاقل- Homo Sapiens》.

 ميزة تطورية

بالعودة إلى الدراسة فإن المهارة اليدوية لجميع أنواع الإنسان الذي سكن العالم القديم وصولًا لنوعنا اليوم كانت أكثر تطورًا من باقي أنواع الرئيسيات مثل الشمبانزي. فقد اعتمدت هذه المهارة على حركة إبهام فعالة ودقيقة مكنت الإنسان من صناعة واستخدام أدوات أكثر تعقيدًا.

من أجل التوصل إلى هذه النتيجة درس الباحثون أيادٍ بشرية حديثة مع أيادٍ لشمبانزي وعدد كبير من أحافير نوع الإنسان منهم هومو نياندرتالينسيس وهومو ناليدي وثلاث أنواع من الأسترالوبثقس وقد اعتمد الباحثون على عنصرين لتحليل هذه العظام هما تشريح عظام الكف والأنسجة الهشة.

صورة تبين شكل العضلات المستعملة لاحتساب فعالية حركة الإبهام
Image: Katerina Harvati, Alexandros Karakostis, Daniel Haeufle

ولأن العضلات تتحلل في الأحافير بشكل طبيعي، فقد ركز الباحثون مجهودهم على تحديد المكان الذي كان مهيئ لها على سطح الطبقة العظمية. هذه العضلة كانت مسؤولة عن حركة الإبهام. وقد تم احتساب نسبة المهارة اليدوية التي امتلكها كل نوع عبر المقارنة التشريحية لعظام اليد بالإضافة إلى انشاء تمثيل افتراضي ثلاثي الأبعاد لليد البشرية .

بينت النتائج أن جميع أنواع الجنس البشري ومن مليوني سنة قد أظهروا تطور بحركة الإبهام بشكل فعال. وهذا الأمر يدل على الأهمية العظيمة لهذه الميزة التطورية في التطور الثقافي الحيوي لجنسنا. فقد ظهرت هذه الميزة في ذات الفترة تقريبًا التي ازداد فيها مستوى صنع واستعمال الأدوات الحجرية في أفريقيا. وفي ذات الفترة التي تميزت بزيادة مستوى التعقيد الثقافي في العالم القديم. ومع أن نوع 《الهومو ناليدي- Homo naledi》 الذي كان يعيش في ذات الفترة تقريبًا في جنوب أفريقيا امتلك دماغًا صغيرًا نسبيًا إلا أن هذه الميزة التطورية قد وجدت في أحافير تعود له أيضًا.

نرشح لك أيضا: الفينيقيون الجدد .. كيف ترسم السياسة حدود الحضارات؟

ثقافة مبنية على حركة إصبع

هذا التطور في صناعة واستعمال الأدوات الحجرية أدى إلى استغلال متزايد وتدريجي للموارد الغذائية الحيوانية. فقد تمكن الإنسان عبر أدوات أفضل من صيد حيوانات أضخم ومن محاربة الحيوانات الأشرس. وبعد أن كان الإنسان ينتظر دوره ليأكل ما تبقى من الفريسة بعد الأسود والضباع أصبح على رأس الطابور. فقد ظهر الإنسان المنتصب وهو من اشباه البشر ذوي الأدمغة الكبيرة والأجساد الضخمة وقد سكن في أفريقيا وأوراسيا.

بالطبع لم يكن من الممكن أن تبنى هذه الثقافة على حركة الإبهام فقط. فهي كانت بحاجة لتفكير أكبر ولحجم دماغ يساعد على ذلك. وهذا ما حصل بعد أن ازدادت الخيارات الغذائية للإنسان عبر تناول لحوم أكثر.

بعد هذا البحث يسعى الفريق اليوم للنظرعن كثب إلى مجموعات أخرى محددة منها النياندرتال. ليرسم صورة أكبر لمدى تطور المهارة اليدوية للبشر القدماء. ومدى اختلاف مهارتهم عن المهارة التي نمتلكها اليوم. ويأمل الفريق أن التحقيقات الأبعد ستظهر نتائج جديدة لانتشار الاستعمال المنظم للأدوات بين اقاربنا القدماء. أما أنت وفي المرة القادمة التي تمسك فيها هاتفك لتصفح موقع الأكاديمية أو لطلب ديلفري للغداء تذكر أن إبهامك قد ساعدك على ذلك.

ملاحظة:

استعان الكاتب الى جانب البحث المنشور في مجلة  Current Biology  عل كتاب “العاقل تاريخ مختصر للنوع البشري” للكاتب يوفال نوح هراري.

المصادر

  1. الدراسة المنشورة في مجلة Current Biology

التضحية بالأطفال .. قصة فينيقيو قرطاجة

المكان 《منطقة تانيت – The Precinct of Tanit》 في قرطاجة (تونس حاليًا) أما الزمان فبين القرنين السابع والثاني قبل الميلاد. يتقدم رجل بقدمه اليمنى إلى الأمام، مرتديًا زيه الكهنوتي، يحمل بيده اليسرى ما يبدو وكأنه طفل صغير بدون ملامح، يرفع يده ليطلب من الآلهة تقبل قربانه ويحرق الطفل. فما الدافع وراء التضحية بالأطفال حرقًا؟

توفيت قرطاجة

يقع توفيت قرطاجة خارج المدينة وما نسميه اليوم توفيت كان مدفن كبير لجثث الأطفال المحترقة. هذا ما توصل له 《لورنس ستاجر –LAWRENCE STAGER》 الذي كان مسؤول الحفريات في مدينة تونس من سنة 1975 إلى سنة 1980. (1) لقد استخدم الفينيقيون التوفيت كمدفن للجثث المحترقة من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن الثاني ق.م. حيث تدمرت قرطاجة على يد الرومان. (2) وجد ستاجر في الموقع بقايا جثث محترقة لآلاف الأطفال الرضع مدفونة مع بقايا عظمية تعود لحيوانات كالخراف والماعز والطيور في جرار تعلوها علامات حجرية منحوتة (مسلات)، وغالبًا ما تحمل نقوشًا أيقونية فسرها بعض الباحثين على أنها تدل على التضحية بالأطفال.

تضحية أم بروباغاندا؟

بالعودة إلى الماضي، إلى الزمن الذي ازدهرت فيه قرطاجة، كان الإغريق والرومان في كتاباتهم الأدبية يتهمون الفينيقيين في قرطاجة بالتضحية بأطفالهم للإله 《كرونوس – kronos》 من أجل كسب المعارك، وجاءت الأدلة الأثرية المتمثلة بعظام الأطفال الكثيرة المحترقة في منطقة توفيت لتدعم كتاباتهم، لكن العداوة بين الرومان والفينيقيين في قرطاجة كانت معروفة، لذلك بقيت هذه الكتابات محط جدل كبير وغير موثوقة في الأوساط العلمية كونها يمكن أن تكون بروباغاندا مغرضة ضد القرطاجيين. سنة 2010 قام عالم الأحياء والأنثروبولوجيا 《جيفري إتش شوارتز – Jeffrey H. Schwartz》 من جامعة بيتسبرغ بأول دراسة على عينات من بقايا الهياكل العظمية البشرية المحترقة (348 جرة دفن، العدد = 540 فردًا) التي استخرجها من التوفيت القرطاجي(1)

جرى هذا البحث بناءًا على دراسة تكوين الأسنان وأنسجة المينا وعلى عظام من الجمجمة 《العظم الصدغي- Temporal bone》 مع الأخذ بالحسبان الآثار المحتملة لانكماش العظام الناجم عن الحرارة. الهدف الأساسي من الدراسة كان معرفة ما إذا كان البشر المدفونين في التوفيت أضحيات محروقة حية أم أحرقوا بعد الموت كما كان شائعًا في العالم القديم. لكن دراسة شوارتز وعلى عكس المتوقع أظهرت أن معظم العينات تعود لأجنة ماتت قبل فترة الولادة، أو ما بين 5-6 أشهر بعد الولادة، وبدلا من الحديث عن التضحية كسبب للوفاة يقول شوارتز أن هذه النسبة من الأعمار تتوافق مع البيانات الحديثة حول وفيات الفترة المحيطة بالولادة، أي أن هذه الوفيات طبيعية. وفي قرطاج تفاقمت نسبة الوفيات بسبب العديد من الأمراض التي كانت شائعة في العالم القديم كما في المدن الكبرى الأخرى، مثل روما وبومبي. إذن كان توفيت قرطاجة مدفن للأطفال أو الأجنة الذين ماتوا قبل الولادة أو بعدها بفترة وجيزة، بغض النظر عن سبب الوفاة. يبقى أن الأمر لم ينتهي هنا فكل فرضية علمية تحمل هامشها من الخطأ.

تأريخ الأعمار دليل على التضحية

إن إثبات التضحية بالبشر من عدمه عموما يعتمد بشكل كبير على القدرة على تحديد أعمار العظام المدروسة، والعمر ليس من السهل تحديده. في السنة التالية لنشر شوارتز لبحثه قامت 《باتريشيا سميث – Patricia Smith》 المتخصصة في البيولوجيا والأنثروبولوجيا وفريق من المتخصصين، بنشر ورقة بحثية اعتمدت فيها على مجموعة من التقنيات الجديدة لتأريخ الأعمار، وقد بينت الدراسة أن معظم الأطفال في قرطاجة قد ماتوا بين شهر وشهر ونصف بعد الولادة، لذلك اعتبرت سميث أن التضحية بالأطفال كانت محتملة جدا. (2)

إقرأ أيضًا: ما هو التحنيط الذاتي ؟

تقول سميث في دراستها أنه من أكثر القضايا المحورية في النقاش عن كيفية تقدير أعمار الرضع هو كيفية تأثير حرق الجثث على العظام المستخدمة في التأريخ. وتقول سميث أن هذه الدراسة اعتمدت على مجموعة من التقنيات منها 《القياس الحيوي- biometry》،《والمجهر الضوئي-light microscopy》 لتحديد عمر العظام للأطفال.

طول الأسنان يحدد عمر الميت

باستخدام طول الاسنان، وبعد تصحيح الانكماش، وجدت سميث وفريقها أن عمر الاطفال الرضع في توفيت بلغ ذروته بين الشهر والشهر والنصف مع بعض العينات التي وصل عمرها لأربع سنوات، وهذا التوزيع العمري يختلف عما هو موجود في مدافن الرضع في المواقع الأثرية الأخرى الذين ماتوا بشكل طبيعي. هذا التوزيع العمري، وكذلك المعاملة الجنائزية الخاصة للأطفال الرضع، يدعم الأدلة النصية والأيقونية التي تقول: إن الفينيقيين مارسوا التضحية بأطفالهم. وهذا ما عارض دراسة شوارتز الذي قال إن توفيت قرطاجة قد استخدم كمقبرة لدفن الرضع المجهضين أو الذين ماتوا قبل الولادة.

من ناحية أخرى حسب سميث فإن حرق الجثث على نار مكشوفة هو طقس أكثر تكلفة ويستغرق وقتًا طويلاً من الدفن وفي معظم المجتمعات عادة ما يتم هذا الطقس لكبار السن أو للنخبة في المجتمع. وقد توصلت سميث إلى قناعة بأن الفينيقيين أحرقوا الجثث في أماكن مفتوحة وليس في أفران مغلقة بعد أن وجدت اختلافات في نسبة الحرق على العينات التي درستها وأرجعت ذلك إلى تساقط بعض العظام وعدم تعرضها لنار كافية أثناء عملية الحرق. أمر أخر يدعم فرضية سميث، في مدينة قرطاجة بأكملها كان نمو الأشجار نادرًا إن لم يكن غائبًا. (3)

إذا فندرة الأشجار جعلت عملية الحرق مكلفة جدا، فلم قد يلجأ الفينيقيون إلى حرق جثث أطفالهم المتوفين وتحمل كل هذه التكلفة بدل دفنهم بطريقة اعتيادية؟ لذلك وكما تفترض سميث فقد ضحى الفينيقيون بأطفالهم كنوع من الطقوس الدينية التي تقربهم من الآلهة.

آلة الزمن هي الحل

بالنسبة للفريقين فكلاهما على حق، ومع أن الإثنين اعتمدوا على تقنيات علمية دقيقة في تحليل العظام إلا ان نتائجهم أتت مختلفة والسبب في ذلك يعود للتفسير العلمي للفرضيات المطروحة، وهذا ما يميز العلوم الإنسانية بشكل عام عن غيرها، فالتفسير والتحليل فيها لا ينتهي. بعد البحث الذي نشر سنة 2011 عن سميث وفريقها والذي ناقض بحث شوارتز عاد الأخير في السنة التالية إلى نشر ورقة بحثية ليرد على نقد سميث لبحثه. (4) وبناءًا على خبرة شوارتز الطويلة في دراسة العظام يؤكد أن معظم العينات من التوفيت التي درساها كانت تعود لأجنة قد ماتوا قبل الولادة. كما أن شوارتز قد اعترض على بحث سميث واعتبر أن الأخيرة قد أخطأت في حساب انكماش العظام بسبب الحرق ومن هنا فقد أخطأت بتأريخ عمر العظام وبسبب هذا الخطأ توصلت لنتيجة أن التضحية بالأطفال كانت محتملة. إن قضية التضحية بأطفال قرطاجة لم تحسم بعد، بانتظار اكتشافات أثرية جديدة في المستقبل لتحل المشكلة، أو ربما إذا حصلنا على ألة زمن سنعرف الحقيقة.

المصادر

  1. Schwartz J, Houghton F, Macchiarelli R, Bondioli L. Skeletal Remains from Punic Carthage Do Not Support Systematic Sacrifice of Infants. PLoS ONE. 2010;5(2):e9177.
  2. Smith P, Avishai G, Greene J, Stager L. Aging cremated infants: the problem of sacrifice at the Tophet of Carthage. Antiquity. 2011;85(329):859-874.
  3. Zeist W, Veen M, DIET AND VEGETATION AT ANCIENT CARTHAGE THE ARCHAEOBOTANICAL EVIDENCE. Groningen Institute of Archaeology University of Groningen. 2001
  4. Schwartz J, Houghton F, Bondioli L, Macchiarelli R. Bones, teeth, and estimating the age of perinates: Carthaginian infant sacrifice revisited. here.

اكتشاف سلسلة من المنحوتات الآشورية على ضفة قناة مائية في دهوك

اكتشاف سلسلة من المنحوتات الآشورية على ضفة قناة مائية في دهوك

كشفت نتائج مشروع فايدة Faida الأثري عن عشر منحوتات صخرية يظهر فيها الملك والآلهة الآشورية منحوتة على طول قناة مائية كبيرة. شارك في إدارة المشروع البروفيسور Daniele Morandi Bonacossi (جامعة Udine الإيطالية)، والبروفيسور حسن أحمد قاسم (من دائرة آثار دهوك)، وهو مشروع أثري مشترك يعمل في منطقة دهوك في إقليم كردستان العراق.

موكب الملك والآلهة الآشورية على ضفة القناة المائية

قام الفريق من شهر أيلول إلى شهر تشرين الأول من عام 2019 باكتشاف فريد من نوعه في موقع فايدة الأثري (20كم جنوب دهوك). حيث تم الكشف عن عشرة لوحات حجرية آشورية تعود للقرن الثامن قبل الميلاد على الجانب الشرقي لقناة مائية طولها حوالي 7كم.

من المحتمل أنه قد تم تخطيط القناة من قِبل الملك الآشوري سرجون (720-705 قبل الميلاد)، على طول الضفة الشرقية للقناة تمتد سلسلة من اللوحات الحجرية بطول 5م وعرضها مترين.

مشهد لأعمال التنقيب في القناة المائية

تصور لوحات فايدة سبعة آلهة آشورية رئيسية تقف على حيواناتها المقدسة بحضور الملك الذي تم نحته مرتين على كلا طرفي سلسلة اللوحات الأيمن والأيسر. تم تمثيل الآلهة من منظور جانبي تتجه نحو اليسار، أي بنفس جهة تيار الماء المتدفق في القناة، يمكن التعرف على الإله الرئيسي آشور وهو يقف على تنين وأسد على رأسه قرون، تجلس موليسو زوجة الملك آشور على عرش يحمله أسد، كذلك يقف إله القمر سين على أسد على رأسه قرون، أما نابو إله الحكمة فهو يقف على تنين، وإله الشمس شمش يقف على حصان، يليه إله الطقس يقف على ثور وأسد له قرون، بالإضافة إلى الإلهة عشتار إلهة الحب والحرب الواقفة على أسد.

تفصيلات من موكب الآلهة الآشورية

تٌعدّ هذه السلسلة من الفن الصخري جزءاً من سيناريو مابعد الحرب، حيث أنها مهددة بشدة بسبب أعمال التخريب والتنقيب الغير شرعي، وتوسع القرية المجاورة، والأنشطة الإنتاجية للسكان التي أضرّت بها بشكل خطير. بالإضافة إلى ذلك كانت سلسلة اللوحات تقع في منطقة الاشتباك مع تنظيم الدولة الإسلامية منذ عام 2014 وحتى عام 2016، حيث أنها تبعد مسافة 25كم فقط عن خط الاشتباك.

بسب هذه التهديدات فإن مشروع فايدة هو عمل إنقاذي يهدف بالإضافة إلى دراسة هذه اللوحات الآشورية المهمة إلى توثيقها باستخدام التقنيات الحديثة. حيث تم خلال موسم عام 2019 توثيق اللوحات بستخدام طائرات بدون طيار، والمسح الليزري، والتصوير الرقمي، والنمذجة ثلاثية الأبعاد.

عند الانتهاء من أعمال الحفر والصيانة والحفظ في السنوات القادمة ، سيتم بالتعاون مع دائرة دهوك للآثار إنشاء حديقة أثرية لمنحوتات فيدا، سيسمح هذا المشروع بفتح القناة المائية والنقوش الحجرية للسسياحة المحلية والدولية.

المصدر:

1- qui uniud

2- archaeology news network

كيف أثرت الرضاعة الطبيعية على النمو السكاني في المدن القديمة؟

كيف أثرت الرضاعة الطبيعية على النمو السكاني في المدن القديمة؟

يقوم المؤرخون بدراسة زيادة وانحسار الكثافة السكانية في المجتمعات القديمة. ولكن معظم هذه الدراسات كانت تميل إلى التركيز على الأحداث التي يهيمن عليها الذكور، كالحروب والسياسة والمال. لكن هناك جانب آخر يصارع لإثبات وجوده، وهو جزء من التاريخ الغير مدوّن والذي سيكون محور هذا البحث.

قام باحثون من جامعة Bournemouth وجامعة Warsaw باستخدام تقنيات كيميائية متقدمة لدراسة الرضاعة الطبيعية في أجزاء من سوريا ولبنان؛ وهي من أقدم المدن في العالم القديم. حيث تم تحليل عينات صغيرة من عظام الرضع والأطفال والأمهات التي تم اكتشافها في مقابر من العصر البرونزي، والتي يتراوح تاريخها مابين 2800_1200قبل الميلاد وذلك باستخدام تقنية تُعرف باسم “تحليل النظائر المستقرة”. من هذا المنطلق تم تأسيس نموذج رقمي يقدر عمر الفطام الجزئي (يتم فيه إدخال أطعمة مكملة للنظام الغذائي عند الطفل الذي يرضع رضاعة طبيعية) والفطام الكامل(توقف الرضاعة الطبيعية تماماً) عند هؤلاء السكان.

طفل مدفون في جرة فخارية يعود للعصر البرونزي، صيدا، لبنان

 

كشفت الفحوصات أن النساء كنّ يعتمدن على الرضاعة الطبيعية بشكل حصري حتى يبلغ الرضيع سن الستة أشهر وكنّ يتوقفن تماماً عندما يبلغ الرضيع حوالي العامين النصف، أي في وقت أبكر مما كان شائعاً في أماكن أخرى من هذه المرحلة التاريخية. ربما ساعدت أوقات الفطام المبكرة في زيادة أعداد السكان في هذه المدن التي أصبحت مراكز حضارية مزدهرة في تلك الفترة.

إن المواقع التي استهدفتها هذه الدراسة كانت عبارة عن مراكز حضرية على ساحل البحر المتوسط، ومابين نهري دجلة والفرات (مابين النهرين). غالباً ماتكون عظام الأطفال التي يكشفها علماء الآثار أكثر هشاشة من عظام البالغين، لأنها تكون أصغر حجماً وأقل تمعدناً، أي أنها في كثير من الأحيان تتضرر أو تضيع من خلال التحلل.

ومع ذلك تم الكشف عن عدد كافي من عظام الأطفال لتحليلها كيميائياً ولإجراء الدراسات الإحصائية اللازمة لها، ويعود ذلك إلى طريقة الدفن المعتمدة في الشرق الأدنى القديم، حيث كان يتم دفن الرضع والأطفال داخل جرار فخارية، والتي كانت تحمي العظام جزئياً من بيئة الدفن.

الرضاعة الطبيعية في بلاد الرافدين، قطعة من متحف السليمانية، العراق، تعود إلى 2000- 1500 قبل الميلاد

تتناسب فترة الرضاعة في المواقع المدروسة مع توصيات منظمة الصحة العالمية لتغذية الرضع، حيث تقوم الأمهات بإرضاع أطفالهن حتى سن الستة أشهر تقريباً، ومن ثم يتم إدخال بعض الأطعمة إلى جانب الرضاعة الطبيعية، ويتم الفطام الكامل بعمر العامين والنصف. ويبدو أن هذا يتناسب مع السجلات المكتوبة المكتشفة في هذا الجزء من العالم. على سبيل المثال، هناك بعض العقود البابلية التي يعود تاريخها إلى ما قبل 1000 قبل الميلاد بين والدي طفل ومرضعة، حيث ستقوم وفقاً لهذا العقد بإرضاع الطفل حتى يبلغ من العمر حوالي السنتين إلى ثلاثة سنوات . وسيتم دفع أجورها بالشعير والزيت والصوف وأحياناً الفضة.

الرضاعة الطبيعية وتأثيرها على الكثافة السكانية: 

تؤثر استراتيجيات الرضاعة الطبيعية والتغذية على البنية السكانية، حيث تقوم الرضاعة الطبيعية لفترة طويلة بترك فجوات كبيرة مابين فترات الحمل، وقد اعتبر ذلك عاملاً رئيسياً في السيطرة على الخصوبة في مجتمعات الصيادين_الجامعين حيث كانت تمتد فترة الرضاعة الطبيعية حتى عمر الخمس سنوات ومابعد، في المقابل يرتبط الفطام المبكر بالمجتمعات الزراعية المبكرة ذات النمو السكاني العالي.

هذا يعني أن فترات الرضاعة الأقصر التي أظهرتها نتائج الفحوصات ربما ساعدت في الزيادة السكانية في مدن سوريا ولبنان القديمة. وربما كانت مرتبطة بإنتاج المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير وكذلك منتجات الألبان والتي يمكن إطعامها بسهولة للرضع كمكملات غذائية. ظهرت الزراعة في وقت باكر من هذا الجزء من العالم وتزامنت مع ظهور المراكز الحضرية وإنشاء شبكات دولية واسعة النطاق.

إن الرضاعة الطبيعية والفطام في لبنان وسوريا القديمة لم تدخل في النصوص التاريخية الكبيرة. لكن تُظهر الدراسة أن هذه القضية كان  لها تأثير كبيرعلى المجتمع.

 

المصدر:

1- ancient origins

2- the conversation

 

اكتشاف تمثال نادر للملك رمسيس الثاني على هيئة “الكا”

اكتشاف تمثال نادر للملك رمسيس الثاني على هيئة “الكا”

تم الكشف عن تمثال نادر للملك رمسيس الثاني على هيئة “الكا”، أثناء أعمال حفائر الإنقاذ التي قامت بها وزارة الآثار المصرية داخل قطعة أرض يمتلكها رجل اُعتقل في وقت سابق من الشهر لقيامه بأعمال تنقيب غير شرعية بالقرب من معبد الإله بتاح بمنطقة ميت رهينة، وكُشف النقاب عن كتل أثرية ضخمة مغمورة في المياه الجوفية.

كشفت بعثة الإنقاذ الأثري الجزء العلوي لتمثال نادر من الجرانيت الوردي للملك رمسيس الثاني علي هيئة “الكا” رمز القوة و الحيوية و الروح الكامنة، يبلغ ارتفاع التمثال 105 سم و عرضه 55 سم و سماكته 45 سم، و يصور الملك رمسيس مرتديًا باروكة و يعلو رأسه علامة “الكا” كما نُقش على عمود الظهر الخاص به الاسم الحوري للملك رمسيس “كا نخت مري ماعت” والتي تعني ” الثور القوي محبوب ماعت.”

الاسم الحوري للملك رمسيس “كا نخت مري ماعت

إن هذا الكشف يعتبر من أندر الاكتشافات الأثرية، حيث أن هذا التمثال هو أول تمثال “للكا” من الجرانيت يتم كشف النقاب عنه؛ حيث أن التمثال الوحيد “للكا” الذي تم العثور عليه من قبل مصنوع من الخشب لأحد ملوك الأسرة الثالثة عشر ويدعى “او ايب رع حور” و هو معروض حاليًا بالمتحف المصري بالتحرير.

و قد تم نقل التمثال وباقي القطع المكتشفة خلال حفريات الإنقاذ إلى المتحف المفتوح بميت رهينة؛ لإجراء أعمال الترميم اللازمة للحفاظ عليها، حيث عثرت البعثة على عدد كبير من القطع الأثرية من الجرانيت الوردي و الحجر الجيري عليها نقوش تصور الإله بتاح إله مدينة منف، بالإضافة إلى خراطيش للملك رمسيس الثاني، تدل على أن هذه القطع تمثل أجزاء من المعبد الكبير للإله بتاح بمنطقة ميت رهينة.

أقدم معاهدة سلام في التاريخ

حكم رمسيس الثاني في عهد الأسرة التاسعة عشرة، بين عام  1279 و 1213 قبل الميلاد. يُشار إليه باسم رمسيس الأكبر بسبب فترة حكمه الطويلة والناجحة، كان لديه عدد كبير من الأبناء. وقد قاد عدة حملات عسكرية في بلاد الشام، وقام بعقد أقدم معاهدة سلام مع الحثيين. يُعتقد أنه توفي عن عمر يناهز 90 عامًا ودُفن في وادي الملوك.

المصدر:

1- موقع وزارة الآثار المصرية 

2- Newsweek

3- Ancient Origins

اكتشاف جمجمة شبه كاملة لسلف أحفورة “لوسي” الشهيرة

اكتشاف جمجمة شبه كاملة لسلف أحفورة “لوسي” الشهيرة

اكتشف علماء الحفريات جمجمة شبه كاملة لحفرية أوسترالوبيتيك الأنامي في إثيوبيا، يعود تاريخها إلى 3.8 مليون عام، ممايشير إلى أن الأنامي ربما تداخل مع نوع أوسترالوبيتيك العفاري (النوع التي تنحدر منه أحفورة لوسي lucy الشهيرة) لمدة لا تقل عن 100.000 عام.

يسلط هذا الاكتشاف الضوء على أوجه التشابه مع لوسي وهي عينة من (أوسترالوبيتيك العفاري) تم اكتشافها عام 1974م ويعود تاريخها إلى حوالي 3.2 مليون سنة ولكن مع وجود بعض الاختلافات الملحوظة بين العينتين.

وقد صرح المؤلف المشارك في الدراسة يوهانس هيل سيلاسي وهو عالم في الحفريات في متحف كليفلاند للتاريخ الطبيعي: “ماعرفناه عن أوسترالوبيتيك الأنامي حتى الآن كان مقتصراً على بقايا فك وأسنان، لم يكن لدينا أي بقايا للوجه أو الجمجمة باستثناء جزء صغير واحد بالقرب من منطقة الأذن”.

وقد تغير كل ذلك في 10 شباط 2016، عندما عثر سيلاسي وزملاؤه على قطعتين كبيرتين لجمجمة في جودايا في منطقة عفار في أثيوبيا. وقالت بيفرلي سايلور أستاذة علم طبقات الأرض والرواسب بجامعة at Case Western Reserve University : “كانت الحفرية مدفونة في رمل دلتا تابعة لنهر قديم، يصب هذا النهر في شاطئ بحيرة”.

جمجمة شبه كاملة لسلف أحفورة “لوسي”

وقال هيل سيلاسي: “ربما كان يعيش هذا السلف على طول النهر وشواطئ هذه البحيرة، كانت هذه الشواطئ عبارة عن غابات ولكن المنطقة المحيطة بها كانت قاحلة”. قامت سايلور وزملاؤها بتحديد عمر الحفرية بثقة من خلال تأريخ المعادن والرماد البركاني في المنطقة، وتبين أنها تعود إلى 3.8 مليون عام، ويعتقد العلماء أن العينة تعود إلى ذكر استناداً إلى حجم العظام.

وقالت أميلي بوديت عالمة أنثروبولوجيا الحفريات بجامعة Witwatersrand: “هذه العينة تملأ فجوة مهمة في معرفتنا للتشريح القحفي للأسترالوبيثيك خلال هذه الفترة، الحفرية لا تكشف فقط عن المزيد من التغييرات في أسترالوبيثيك عبر الزمن، ولكنها قد تساعد في إلقاء الضوء على الروابط الجغرافية بين الأنواع، إن الجمجمة تشترك في السمات مع أوسترالوبيتيك الأفريقي، وهو نوع منقرض موجود في جنوب إفريقيا.

وقد أفاد الباحثون لمجلة Nature أن وجه هذا السلف لم يكن ضخمًا تمامًا أو قاسيًا مثل لوسي ، لكنها لا تزال تُعتبر غليظة. كانت الأنياب أصغر من تلك الموجودة في البشر القدامى ولكنها أكبر من تلك التي لدى أسترالوبيثيك العفاري مثل لوسي. الفك السفلي بارز مثل القرود. وهذا مختلف تمامًا عن الوجوه المسطحة نسبيًا للإنسان الحديث والأنواع الأخرى من جنس Homo ، التي تطورت لأول مرة منذ حوالي 2.8 مليون عام.

وقالت ستيفاني ميليلو مؤلفة مشاركة في الدراسة، وهي عالمة الحفريات في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا: “إن العظام الكبيرة لأستروبيتك ربما تطورت لمساعدة هؤلاء الأسلاف على مضغ الأطعمة القاسية”. وقال هيل سيلاسي إن الوجوه الأكثر نعومة للإنسان ربما تطورت مع انتقال أجداد البشر إلى مواطن أكثر انفتاحًا في الأراضي العشبية، عندما بدأوا بدمج اللحوم في وجباتهم الغذائية، مما أدى إلى تغذية أدمغة أكبر حجماً وتقليل الحاجة إلى المضغ.

الأحفورة الجديدة تضيف دليلاً جديداً على أن البشر الأوائل كانوا مجموعات متنوعة، حيث أن أشكال الجماجم والأسنان الموجودة في الأوسترالوبيتيك العفاري والأنامي مختلفة تمامًا. وقال هيل سيلاسي إن جزءًا آخر من جمجمة يرجع تاريخها إلى 3.9 مليون عام، عثر عليها في موقع العواش الأوسط في إثيوبيا، تعود إلى أوسترالوبيتيك العفاري هذا يعني أن أوسترالوبيتيك الأنامي لم ينقرض إلا بعد 100000 عام على الأقل من ظهور أوسترالوبيتيك العفاري على الساحة.

اعتقد العلماء سابقاً أن أسترالوبتيك الأنامي قد تطور بشكل تدريجي إلى استرالوبتيك العفاري، لكن هذا الاكتشاف يشير إلى أن هذين النوعين كانا يعيشان معاً في عفار، وهذا يغير فهمنا للعملية التطورية، ويجعلنا نطرح أسئلة جديدة مثل هل كانت هذه الأنواع تنتافس على الغذاء أو المكان؟

المصدر: live science

الفن القديم والفن الروماني

هذه المقالة هي الجزء 5 من 9 في سلسلة مقدمة في تاريخ الفن القديم

سلسلة الفن القديم والفن الروماني

أصل الفن الروماني

كان الفن الروماني القديم واسعًا ومنتشرًا للغاية، فقد امتد إلى ما يقرب من 1000 عام بين ثلاث قارات، أوروبا وإفريقيا وآسيا. ويعود تاريخ الفن الروماني إلى عام 509 ق.م مع تأسيس الجمهورية الرومانية، واستمر حتى عام 330 م.

بدأ الفن الروماني بصب الكثير من الثقافات في مدينة روما باعتبارها بوتقة انصهار حضارية، ولم يكن لدى الرومان أي قلق بشأن التأثيرات الفنية الأخرى من ثقافات البحر المتوسط التي أحاطت بها وسبقتها.

من الشائع أن نرى التأثيرات اليونانية والمصرية والإتروسكانية -حضارة قديمة عاشت في إيطاليا- على جميع أشكال الفن الروماني.

عندما أدرك النقاد أن عدد كبير من أفضل القطع الرومانية كانت في الواقع نسخًا، أو على الأقل مستوحاة من الأصول القديمة التي فُقدت، بدأ تقدير الفن الروماني  -بعدما ازدهر جنبًا إلى جنب بجانب فنون العصور الوسطى وعصر النهضة– بالنزول.

على الرغم من أن روما ظلت لفترة طويلة مركزًا للفن الروماني، ظهرت حينها مراكز عديدة لإنتاج الفنون متبعة اتجاهات وأذواق خاصة بها، لا سيما في الإسكندرية وأنطاكية وأثينا.

نتيجة لذلك، جادل بعض النقاد في أمر عدم وجود شيء اسمه (الفن الروماني).

تطور الفن الروماني

من الجدير بالذكر أن القطع الفنية المنتمية للمدن التي غزاها الرومان سُلبت وتمت إعادة عرضها على الجمهور.

تم إنشاء المدارس الفنية في جميع أنحاء الإمبراطورية تحت تدريس الفنانين الأجانب، بالإضافة لنشر ورش العمل في كل مكان، وقد أصبح الفن متعلقًا بشكلٍ شخصي بالأفراد والأفكار، وذلك للزيادة الكبيرة لرعاة الفنون من الجهات الخاصة، بدلاً من رعاية الدولة.

يظهر ذلك جليًا في الأشكال النابضة بالحياة للأفراد في اللوحات والمنحوتات. وعلى غير عادة الحضارات السابقة، أصبح الفن متاحًا لجميع طبقات المجتمع وليس للأثرياء فقط.

العلاقة بين الفن الروماني واليوناني (الإغريقي)

كثيرًا ما اختلط علينا الأمر بين الفنين اليوناني والروماني؛ وذلك لأن الفن اليوناني أثّر تأثيرًا قويًا على الممارسات الفنية الرومانية، وعلى الرغم من غزو روما لليونان، فقد أخذت روما الكثير من التراث الثقافي والفني منها، معتمدةً عليها في إنتاج أكثر أعمالها شهرة.

كُلِّف العديد من الرومان بإصدار نسخ من الأعمال اليونانية الشهيرة تعود لعدة قرون سابقة؛ مما نراه الآن في إصداراتٍ رخاميةٍ رومانية، من تلك الأصول البرونزية اليونانية المفقودة، مثل تمثال “Doryphoros” للفنان (Polykleitos).

نسخة من تمثال “Doryphoros” من العصر الروماني للفنان (Polykleitos). متحف نابولي الأثري الوطني. المادة: الرخام. الارتفاع: 2.12 متر (6 أقدام و 11 بوصة).

ولم يؤمن الرومان -كما نفعل اليوم- أن نسخة العمل الفني تقل قيمة من العملي الأصلي، لكن رغم ذلك صُنعت النسخ في أغلب الأحيان بتغييرات بسيطة عليها، ولم تكن نسخًا مباشرة.

وقد تم إجراء تلك التغييرات على سبيل الدعابة، وذلك بتحويل العنصر الجاد و”البائس” في الفن اليوناني رأسًا على عقب.

لذا فالفنان الروماني لم يكن مجرد ناسخ، بل تكيف بطريقة واعية ورائعة مع الثقافات الأخرى، فتلك القدرة الإبداعية على التحويل وجمع العناصر وإضافة لمساتٍ من الفكاهة، هي ما جعلت الفن الروماني “رومانيًا”.

سمات الفن الروماني

أعتنق فنانو العصر الروماني الفن الكلاسيكي بشكلٍ مذهل، والذي أخذوه عن الفن اليوناني بفترتيه: الكلاسيكي والهيلينستي.

وتشمل تلك العناصر الكلاسيكية عدة خصائصٍ، منها:

  • الخطوط الناعمة والأقمشة الأنيقة
  • الأجسام العارية المثالية
  • الأشكال الطبيعية بشكلٍ مبهر، والنسب المتوازنة

والتي أتقنها الإغريق على مدار قرونٍ من الممارسات الشاقة.

وقد ولع معظم أباطرة الرومان بالفن الكلاسيكي، فقد تم صنع تمثال “Augustus of Primaporta” في نهاية حياة الإمبراطور “Augustus“، ورغم ذلك جسّده التمثال في فترة الشباب وأظهره بوسامة مثالية وجسم رياضيّ، وتم استخدام جميع سمات الفن الكلاسيكي عليه.

“Augustus of Primaporta”، القرن الأول الميلادي. متاحف الفاتيكان. حقوق ملكية الصورة: Steven Zucke.

وكان الإمبراطور “Hadrian” معروفًا باسم ” philhellene”، أي العاشق لكل ما هو يوناني! فقد بدأ في ارتداء “لحية الفيلسوف” اليونانية في ظهوره الرسمي أمام الشعب، والتي لم يكن سمع أحد بها من قبل هذا الوقت، وقام بتزيين قصره بالكثير من اللوحات اليونانية المشهورة.

لكن بعد ذلك، بدأت الإمبراطورية بالابتعاد عن التأثيرات الكلاسيكية السابقة والرجوع لفنون العصور القديمة، والذي نراه واضحًا في منحوتة (Chariot procession of Septimus Severus).

وقد شملت خصائص الفنون القديمة عدة أشياءٍ، أهمها:

  • الإظهار بواجهةٍ أمامية
  • صلابة الأقمشة والملابس وعدم انسيابها
  • الخطوط العميقة المحفورة؛ مما يجعل الشكل يبتعد عن الطبيعة
  • ظهور الأشخاص كمجموعات وقلة الفردية
Chariot procession of Septimus Severus، تعود لعام 203 ق.م. متحف القلعة، طرابلس، ليبيا.

وقد شمل الفن الروماني مجموعة واسعة من الوسائط والخامات، فقد تضمن أعمالًا من التصوير الجداري (الفريسكو) والفسيفساء والرخام، وأنتج الكثير من الأعمال الفضية والبرونزية وغيرها، بالإضافة لاستعماله الأحجارِ الكريمة.

وذلك بالإضافة لاهتمامهم بالفنٍ المصنوعٍ خصيصًا للمنازل، والذي قام ملّاكها بعرض الأعمال الفنية فيها للجمهورِ والزوار، بغرض العرض والتعليم.

أخذت الزخارف اهتمامًا كبيرًا في منازل ذلك العصر، وتم دمج جميع اللوحات الجدارية والفسيفساء والمنحوتات بسلاسة مع العناصر الفاخرة الصغيرة كالتماثيل البرونزية والأوعية الفضية.

أما بالنسبة للمواضيع التي استخدموها، فقد تراوحت بين عدةٍ شائعين:

  • تماثيل الأسلاف المهمة والمشهورة
  • المشاهد الأسطورية والتاريخية
  • الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية

وقد أدى استخدام تلك الأفكار لخلق فكرة رئيسية عند الجمهور تعبر عن مدى وسع معرفتهم الفكرية، وكأنما نقعوا في الثقافة نقعًا.

النحت الروماني

صنع النحاتون الرومانيون نسخهم الشهيرة من روائع وأعمالٍ لا تقدر بثمن من اليونان القديمة؛ والتي كانت ستخسر تمامًا وجودها في الفن العالمي، وقد خُصصت مدارس لنسخ الأعمال اليونانية الأصلية الشهيرة، في أثينا وروما نفسها.

فضّل الرومان البرونز والرخام على أي شيء آخر على أعمالهم، وقد أنتجوا أيضًا نسخًا مصغرة من النسخ الأصلية اليونانية، والتي جُمعت من قبل عشاق الفن ووضعها في المنازل.

لكن بحلول منتصف القرن الأول الميلادي، بدأ الروم بالابتعاد عن جذورهم اليونانية فسعى الفنانون لالتقاط وإنشاء تأثيرات بصرية للضوء والظل من أجل واقعية أكبر.

نُحتت التماثيل النصفية باهتمامٍ أكبر بالتجاعيد والندوب لتحاكي الحقيقة، بالإضافة لجعلهم التماثيل الكبيرة أكثر ضخامة.

التصوير الجداري الروماني

كانت التصميمات الداخلية للمباني الرومانية بدميع أنواعها مزخرفة بألوان وتصاميم جريئة، والتي تراوحت بين تفاصيلٍ معقدة وواقعية إلى الأشكال الانطباعية. وقد وجدت في المباني العاملة والمناز والمعابد والمقابر، وصولًا للهيئات العسكرية.

تفصيلية من لوحة جدارية لحديقة في الهواء الطلق من غرفة الطعام من قصر “Livia” زوجة أوغسطس. قصر ماسيمو، روما، إيطاليا.

فضل رسامو الجدران الرومان ألوان الأرض الطبيعية، مثل الدرجات الداكنة من الألوان من الأحمر والأصفر والبني، وقد استخدمت الأصباغ الزرقاء والسوداء أيضًا في التصاميم البسيطة.

شملت موضوعات التصوير الجداري مشاهد من الأساطير والطبيعة، بالإضافة لاستخدامهم المنظور المعماري لإضفاء خداعٍ بصري، بالإضافة للنباتات والحيوانات.

قام الرومان بتصوير المناظر الطبيعية ومناظر كاملة للمدينة بتقنية البانوراما وبزاوية 360 درجة بشكلٍ مذهل، والتي نقلت المشاهد من حدود غرفته الصغيرة إلى عالمٍ لا حدود له من خيال الرسام.

من الأمثلة البارزة على ذلك، بيت ” Livia” في روما والذي يتضمن بانوراما لحديقة تم صنعها بشكل انطباعي، والذي يدور حول غرفةٍ واحدة بشكل كامل متجاهلًا الزوايا تمامًا.

أغراض الفن الروماني

تم استعمال الفن الروماني لعدة أغراض، منها: العسكري والديني والجنائزي. أما العسكري، فقد قامت الأعمال التذكارية ذات الوظيفة التعليمية والاحتفالية باحتلال مكانة كبيرة في فن ذلك العصر.

عبّرت الأقواس والأعمدة -مثل قوس تيتوس (Arco di Tito) وعمود تراجان (Trajan’s Column)- عن الانتصارات والحروب والحياة العسكرية عن طريق تصوير الأراضي الأجنبية وأعداء الدولة أحيانًا.

عمود تراجان أو “Trajan’s Column”. من أشهر المعالم الأثرية الرومانية، يرجع لعام 113 م . روما، إيطاليا.

ثم تم التعبير عن الفن الديني في العصر الروماني بشدة –كحال كل الفنون القديمة-. فقد صنعت تماثيل غاية في الجمال للعبادة تمثلت في آلهتهم: ك ڤينوس وجوبيتر.

شقت ديانات وآلهة من ثقافات أخرى طريقها للعاصمة الرومانية، كالإلهة المصرية “إيزيس” والإلهة الفارسية “ميثراس” حتى وصول المسيحية في نهاية المطاف.

جلبت كلًا من هذه الديانات مجموعاتها الفريدة من القطع الفنية إلى الثقافة الرومانية؛ لنشر عبادتها وتعليم أتباعهم.

أما بالنسبة للفن الجنائزي، فقد ترك الرومان وراءهم صورًا عرفتهم كأفراد معروفين بعد موتهم، وغالبًا ما أكدت الصور الجنائزية على السمات الفريدة للأشخاص، أو الآلهة المفضلة لديهم.

استخدم الفن الجنائزي الروماني العديد من الخامات وامتد على جميع الفترات، وقد تضمن عدة أشياء، منها:

  • التماثيل النصفية
  • نقوش على الحائط في المقابر جماعية للطبقة العاملة
  • والمقابر المزينة للعائلات العريقة

بالإضافة إلى ذلك، وجدت لوحات لوجوه الفيوم –والتي ذكرناها في مقالنا السابق- مرسومة على المومياوات والتوابيت، ولأن الموت قد مس جميع مستويات المجتمع، رجالًا ونساءً وأباطرة وعمالًا وأحرارًا-، سجل الفن الجنائزي تجارب متنوعة عديدة لمختلف الشعوب التي عاشت في الإمبراطورية الرومانية القديمة.

المصادر:
Ancient History
Khan Academy

Exit mobile version