ما هي تقنية النانو وكيف بدأت؟

غالبًا ما تؤدي الأحلام والخيال البشري الخصب إلى ظهور علوم وتقنيات جديدة تماماً. ومن رحم هذه الأحلام كانت تقنية النانو ملتقى الخيال العلمي مع الحقيقة. فما هو النانو؟ وما هي تقنية النانو؟ كيف بدأت؟ وإلى أين تتجه اليوم في القرن الحادي والعشرين؟

ما هو النانو “NANO”؟

قبل أن نبدأ الحديث عن تقنية النانو لنلقي نظرة عن مفهوم النانو. تُشتق البادئة “nano” من الكلمة اليونانية القديمة “nanos” والتي تعني القزم. أما اليوم فتستخدم على مستوى العالم كبادئة تعني عامل بالشكل (9-)^10. وإذا قرنت كلمة نانو مع كلمة متر ستجلب مصطلح النانو متر والذي يشير إلى وحدة قياس مكاني تساوي جزء واحد من مليار جزء من المتر أو من (وحدة القياس).

اقتُراح مفهوم “النانومتر” لأول مرة من قبل “ريتشارد أدولف زيجموندي – Richard Adolf Zsigmondy”، الحائز على جائزة نوبل عام 1925 في الكيمياء، لوصف حجم الجسيمات.

ريتشارد أدولف زيجموندي

لمساعدتكم في تخيل النانومتر نستعرض المثال التالي:

لنفرض أننا قطعنا متراً إلى 100 قطعة متساوية، فسيكون حجم كل قطعة سنتيمتراً واحداً هذا يعادل حجم مكعب السكر. إذا قطعنا السنتيمتر إلى مائة قطعة متساوية، فستكون كل قطعة مليمترًا واحدًا. يتراوح حجم حبة الرمل من 0.1 مم إلى 2 مم. ويمكن رؤية الأشياء الصغيرة مثل المليمتر بالعين المجردة ولكن عندما تقل أبعاد الجسم عن المليمتر فقد يكون من الصعب تمييزها.

إذا قمنا بتقطيع المليمتر إلى مائة قطعة متساوية فسيكون طول كل قطعة ميكرومتراً. ويبلغ قطر الشعرة من 40 إلى 50 ميكرومتراً. وعادة لا يمكن رؤية الأشياء على هذا المقياس بأعيننا، بل يمكن تصورها باستخدام عدسة مكبرة أو مجهر ضوئي.

إذا قطعنا ميكرومتراً إلى ألف قطعة متساوية، فسيكون طول كل قطعة نانومتراً! وعندما تكون الأشياء صغيرة إلى هذا الحد لا يمكننا ملاحظتها بأعيننا أو بالمجهر الضوئي. وتتطلب هذه الأشياء الصغيرة أداة خاصة للتصوير. إذ يبلغ الحمض النووي 2 نانومتر، والذرات تكون أصغر من نانومتر. فالذرة الواحدة تبلغ قرابة 0.1-0.3 نانومتر، اعتمادًا على نوع العنصر.

توضيح لمقياس النانومتر مقارنة بحجوم المواد

ما هي تقنية النانو؟

تعرف بأنها أي تقنية تتم على مواد من المقاييس النانوية، فهي العلوم والهندسة والتكنلوجيا التي يتم إجراؤها على نطاق 1 – 100 نانومتر. وتتيح فهم المواد والتحكم بخواصها على المستوي الذري والنووي للتخطيط لعناصر جديدة تنتج ظواهر جديدة لتطبيقات جديدة. حيث تظهر المواد المعدلة على المستوي النانوي خصائص (فيزيائية، وبصرية، وحرارية، وميكانيكية، وكهربائية، وإلكترونية، وغيرها…) فريدة وجديدة تماماً.

تقسم المكونات النانوية إلى هياكل بحسب أبعادها كالتالي:

  • العناقيد النانوية: هي هياكل تتراوح من 1 إلى 100 نانومتر في كل بُعد مكاني. يتم تصنيف هذه الهياكل على أنها هياكل نانوية صفرية البعد 0D.
  • الأنابيب النانوية والأسلاك النانوية: لها قطر بين 1 و100 نانومتر وطول يمكن أن يكون أكبر من ذلك بكثير. ويتم تصنيف هذه الهياكل على أنها هياكل نانوية أحادية البعد 1D.
  • السطوح ذات النسيج النانوي أو الأغشية الرقيقة: يتراوح سمكها بين 1 و100 نانومتر، في حين أن البعدين الآخرين أكبر بكثير. ويتم تصنيف هذه الهياكل على أنها هياكل نانوية ثنائية الأبعاد2D .
  • أخيرًا، المواد الضخمة: ذات الأبعاد التي تزيد أبعادها الثلاث عن 100 نانومتر من الهياكل السابقة تسمى الهياكل النانوية ثلاثية الأبعاد 3D.
أنواع الهياكل النانوية بحسب أبعادها.

ما مقدار أهمية تقنية النانو اليوم؟

تعلمنا تقنية النانو فهم العالم الذي نعيش فيه وتمكننا من فعل أشياء مثيرة للاهتمام عندما ننتقل للمقاييس النانوية.

فعلم النانو وتقنياته يمكن أن يساعدا في إعادة تشكيل العالم من حولنا. إذ نعلم أن كل شيء من حولنا يتكون من ذرات _ الطعام، الملابس، الأبنية، وأجسادنا _ مرتبة بطريقة محددة لتقوم بوظائف محددة، يمكننا أيضًا باستخدام علوم وتقنيات النانو التلاعب وإعادة ترتيب الأجزاء في المواد المختلفة لإنتاج نماذج محددة تقوم بوظائف محددة.

وهناك قضية مهمة لنأخذها في الحسبان وهي أن خصائص الأشياء تتغير عندما تصبح أصغر. بالتالي، عندما يتم التلاعب بالمادة وإعادة تنظيمها على مقياس النانو، سيتمكن العلماء من ضبط خصائص المادة بدقة.

تاريخ تقنيات النانو

منذ حوالي النصف قرن لم تكن تقنية النانو أكثر من مجرد خيال علمي، ثم في عام 1959 قدم الفيزيائي ريتشارد فاينمان الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء خلال اجتماع للجمعية الفيزيائية الأميركية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (CalTech) محاضرة عن مفهوم التلاعب بالمادة والتحكم بها على المستوي الذري. خلق فاينمان بذلك نهجًا جديدًا للتفكير، وبدأت رحلة إثبات صحة فرضياته منذ ذلك الحين. ولهذا السبب يعتبر المؤسس الأول لتقنية النانو.

ريتشارد فاينمان

بعد أكثر من عقد من الزمان، صاغ البروفيسور ” Norio Taniguchi ” مصطلح تقنية النانو (nano-technology).

Norio Taniguchi

ومع ذلك، فإن العصر الذهبي لتقنية النانو بدأ فقط في عام 1981، عندما تم تطوير واستخدام مجهر المسح النفقي الذي مكننا من رؤية الذرات الفردية. وشهدت بداية القرن الحادي والعشرين اهتمامًا متزايدًا بالمجالات الناشئة في علم وتقنيات النانو. ففي الولايات المتحدة دعا الرئيس السابق بيل كلينتون إلى تمويل الأبحاث في هذه التقنية الناشئة خلال خطاب ألقاه في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في 21 يناير 2000.

وبعد ثلاث سنوات وقع الرئيس جورج بوش على قانون البحث والتطوير في مجال تكنولوجيا النانو للقرن الحادي والعشرين. وقد جعل هذا التشريع لأبحاث تقنيات النانو أولوية وطنية وخلق مبادرة تقنية النانو الوطنية (National Nanotechnology Initiative) (NNI) والتي لا زالت قائمة حتى اليوم.

حاضر ومستقبل تقنيات النانو

في إطار زمني يقارب النصف قرن، أصبحت تقنية النانو الأساس لتطبيقات صناعية رائعة.

اليوم:

تؤثر تقنية النانو على حياة كل إنسان، والفوائد المحتملة منها كثيرة ومتنوعة. ونرى أنها تدخل في العديد من القطاعات مثل:

  • إدارة وسلامة الغذاء والصناعات الغذائية ومستحضرات التجميل لتحسين الإنتاج ومدة الصلاحية والتوافر البيولوجي وغيرها…
  • إدارة البيئة وتنظيفها وهي واحدة من أكبر مشاكل العالم الحقيقي وأكثرها إلحاحا. ستساعد تقنية النانو في حماية البيئة والمناخ من خلال توفير الطاقة والمياه وتقليل الغازات الدفيئة والنفايات الخطرة مع زيادة متانة المواد التي تدوم لفترة أطول وتقلل إنتاج النفايات، وإنتاج الطاقة المتجددة والمستدامة.
  • قطاع التقنيات الرقمية وتعتبر المدخل الرئيسي لعالم رقمي أصغر وأكثر كفاءة.
  • القطاعات الصحية فهي اليوم تستخدم للوقاية التشخيص والعلاج. وتزيد تقنية النانو من فعالية التصوير الطبي التشخيصي مما يجعل العلاجات أكثر فعالية.
  • ونرى اليوم الكثير من المحاولات لتطوير أنظمة توصيل الدواء للعديد من الأمراض وخاصة دون المستوي الذري. حيث يساعد تغليف الجسيمات النانوية على توصيل الدواء مباشرة للخلايا السرطانية. كما يقلل مخاطر تلف النسج السليمة، مما يغير بشكل جذري الطريقة الحالية المتبعة لعلاجات السرطان. ويقلل بشكل كبير من الآثار السامة للعلاج الكيميائي.

في المستقبل:

فيعتبر العصر الناشئ في الطب هو ” طب النانو” وحصرًا عصر ” الروبوتات النانوية ” التي يمكنها إكمال المهام بطريقة آلية. وتتمتع الروبوتات النانوية بالقدرة على الاستشعار وتمييز الصديق من العدو والاستجابة بتقديم حمولاتها الدوائية وذلك كله على مستوى النانو.

وتسخر تقنية النانو اليوم التقدم الحالي في الكيمياء والفيزياء وعلوم المواد والتقنيات الحيوية لإنشاء مواد جديدة لها خصائص فريدة بفعل هياكلها المحددة على مقياس النانومتر.

كما أدت البحوث العلمية في هذه الأفكار وغيرها على مستوى النانو إلى ابتكارات مثيرة للاهتمام. ورغم ذلك لا تزال تقنية النانو في مرحلة الاستكشاف المبكرة جداً، ولكنها تتطور بشكل سريع. فرغم أن آليات مكافحة الأمراض دون الذرية كانت خيالًا علميًا لعقود من الزمن، فقد اقتربنا اليوم من جعل هذه الفكرة حقيقة. وعلى الرغم من الطبيعة المعقدة للمواد النانوية إلا أن مستقبل تقنية النانو يبدو مشرقاً جداً.

المصادر:

.Haick, P. H. (2013). Nanotechnology and Nanosensors
JE Hulla, S. S. (2015). Nanotechnology: History and future. Human and Experimental Toxicology, p. 42
.kohler, J. M. (2021). Challenges for Nanotechnology. Encyclopedia
.Sakhare, D. (2022). Nanotechnology Applications in Science and Technology

 

هل يمكننا بناء الدماغ البشري في المعمل؟

هذه المقالة هي الجزء 7 من 8 في سلسلة دليلك لفهم أساسيات الهندسة الطبية

خلال السنوات القليلة الماضية أصبح العمل والبحث في إمكانية بناء دماغ بشري اصطناعي أكثر جديًة من ذي قبل. حيث أن التطور التكنولوجي خصوصًا في مجال هندسة النسج قد فتح الباب لعدة تساؤلات عن إمكانية بناء دماغ بشري اصطناعي. وتعد هذه الفكرة من أهم الأفكار المطروحة حاليًا لأنه كلما فهمنا الدماغ البشري أكثر كلما استطعنا كشف ومعرفة أسباب العديد من الأمراض، وازدادت قدرتنا على بناء معالجات وحواسيب أفضل من قبل.

هل يمكن بناء الوعي ضمن الدماغ المخبري؟

نعلم أن الخلايا الجذعية يمكن أن تنقسم و تتمايز إلى نوع معين من الخلايا المختصة كالخلايا العضلية، أو العصبية أو الدموية. درس العلماء إمكانية تشكيل الدماغ نسيجيًا عن طريق تحفيز هذه الخلايا الجذعية لتعطينا خلايا عصبية وخلايا دبقة المُكونة للقسم الأكبر من الدماغ.[1]

في أحد التجارب المخبرية لوحظ أنه وبعد مدة زمنية معينة من زراعة الخلايا، قامت هذه الخلايا بالاستجابة لمصدر الضوء الموجود. كما شكلت حساسات ضوئية (عيون بدائية) مرتبطة مع مركز الخلايا عن طريق عدد من الأعصاب. وبعد فحص هذه الخلايا تم كشف نشاط كهربائي مشابه إلى حد ما للنشاط الموجود عند الأطفال الخدّج. الأمر الذي دفع العلماء لطرح تساؤل جديد حول إمكانية تطوير درجة معينة من الوعي ضمن هذه الخلايا المخبرية.

في مطلع عام 2021 أعلن فريق من «جامعة ييل- Yale University» عن نجاح عملية إعادة إحياء جزئية لدماغ خنزير نافق. حدث ذلك قبل ساعات من إجراء العملية من خلال إزالة الدماغ ووضعه في محلول كيميائي خاص. وقد لوحظ أن الدماغ استعاد قدرة خلاياه على التحفيز والنقل الكهربائي. [2]

حالة الوعي لدى الدماغ الاصطناعي

يعرّف العلماء والباحثون الوعي بعدة طرق ولكن حتى الآن لم يتم الوصول إلى تعريف كافي لفهم آلية تشكله ضمن الدماغ. وبالتالي لا يمكن الحكم بشان حالة الدماغ المزروع، وهل تعد ذات درجة معينة من الوعي أو لا.

بمناقشة النتائج المخبرية المذكورة سابقًا، نرى أن الدماغ المخبري قد أعطى إشارات كهربائية مشابهة إلى حد ما للنشاط الموجود عند الأطفال الخدّج. ولكن لم نستطع تجربة ردة فعل هذه الخلايا تجاه المؤثرات المختلفة. يمكن تشبيه الحالة هذه بطبيب يقوم بتجريب عدة مؤثرات على مريضه حتى يحلل استجابة نظامه العصبي. ناهيك عن أن الدماغ الواعي يعطي إشارات معقدة جدًا مقارنة بالإشارات المقتبسة من هذه الخلايا. [1]

يمكن تحديد الوعي بشكل تشريحي باعتباره عدد التلافيف الدماغية والتوصيلات العصبية داخل الدماغ. لذلك كلما زادت هذه التوصيلات زادت درجة الوعي لدى هذا الدماغ. وانطلاقًا من هذا المبدأ، يمكن القول بأن أدمغة الخنازير تعد بيئة أكثر استقرارًا لدراسة الوعي. حيث تحوي أدمغتها توصيلات عصبية كثيرة ناتجة عن التجارب والذكريات التي عاشها أو مر فيها هذا الحيوان.

الدماغ والكهرباء

يمكن تشبيه الخلية العصبية بالدارة الكهربائية البسيطة، حيث يمثل هيكل الخلية المقاومة وجسم الخلية البطارية. لذلك نجد فرق جهد على طرفي الخلية العصبية، وهو الأمر الذي بدوره يولد تيار وحقل كهربائي.

ولكن على عكس الدارة الكهربائية المصنوعة من المعادن، فالخلايا العصبية نسيج بيولوجي تعتمد على الأيونات السالبة والموجبة. وتستخدم الدارة الكهربائية الإلكترونات لتشكل التيار الكهربائي، بينما في الخلية العصبية نرى ثلاث مصادر للأيونات وهي الصوديوم Na+، والبوتاسيوم K+ والكلور Cl . وهذا يشبه أن يكون لدينا عدة طرق لنقل الكهرباء من وإلى الخلية العصبية. وبما أن الدماغ يحوي ملايين الخلايا العصبية، لذا يمكن تشبيهه بمعالج الحاسوب. إذ يحتوي معالج الحاسوب على ملايين الترانزستورات. لذلك وفي ظل صعوبة التجريب المخبري على الأنسجة، بدأ التوجه لمحاكاة عمل الدماغ بشكل إلكتروني ضمن الحواسيب. وتم تطوير حواسيب تحاكي الدماغ بشكل جزئي، مما فتح الباب للعديد من التطبيقات التي استوحت من هذه التجربة الكثير من المعلومات. كان آخر تلك التطبيقات رقاقة إيلون ماسك نيورالينك للتحكم بعض وظائف الدماغ. [3]

ويعمل العلماء على تحديد نظريات الوعي التي قد تكون الممر لمعرفة السر وراء عمل الدماغ. حيث تشكل الدماغ إلى الآن حاجز ضبابي وموضع جدل واسع ومثار طرح علماء الفلسفة والأخلاق لعدة تساؤلات حول صحة امتلاك مخلوقات مخبريه نوع معين من الوعي.

المصادر:

[1]- Nature
[2]- Smithonian Mag
[3]- Youtube

ما هي إيجابيات وسلبيات تقنية النانو؟

ما هي إيجابيات وسلبيات تقنية النانو؟ تُعرف تقنية النانو بأنها العلم الذي يهتم بدراسة المادة على المقياس النانوميتري والذي يتراوح من 1 إلى 100 نانومتر. يستغل العلماء تقنية النانو لدراسة وتطبيق أشياء متناهية في الصغر ويمكن استخدامها في جميع مجالات العلوم الأخرى، مثل الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء وعلوم المواد والهندسة.  إن فكرة تقنية النانو ليست حديث النشأة إذ يُعتقد أن أول تطبيق لتقنية النانو  يعود للقرن الرابع الميلادي  لكأس الملك الروماني «لايكورجوس-Lycurgus» الموجودة في المتحف البريطاني.  يحتوي هذا الكأس على جسيمات ذهب وفضة نانوية، حيث يتغير لون الكأس من الأخضر إلى الأحمر عندما يوضع فيه مصدر ضوئي. اكتسب الكأس اسمه من حقيقة أنه يحتوي على مشاهد تمثل وفاة الملك ليكورجوس وذلك وفقًا للأسطورة اليونانية والرومانية، حيث حاول الملك ليكورجوس قتل “أمبروسيا” – أحد أتباع الإله ديونيسوس-. وفقًا لهذه النسخة من الأسطورة، حُول أمبروسيا إلى نبيذ من قبل الآلهة التي التفت حول الملك  لايكورجوس وضيقت الخناق عليه حتى الموت ويظهر ديونيسوس أيضًا على فنجان الكأس مع تابِعين  يسخران من الملك الهالك.  ولكن بعيدًا عن الحكايات الأسطورية، متى ظهرت البدايات الفعلية لتقنية النانو؟

  كأس الملك الروماني «لايكورجوس-Lycurgus»

“هنالك مُتسعٌ كبيرٌ في القاع

بدأت الأفكار والمفاهيم الحديثة لتقنية النانو في محاظرة للفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان بعنوان ” هنالك مُتسعٌ كبيرٌ في القاع”” وذلك في  اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «CalTech» في التاسع والعشرين من  ديسمبر عام 1959، وذلك قبل فترة طويلة من ظهور مصطلح تقنية النانو. في محاضرته، وصف فاينمان عملية يمكن للعلماء من خلالها التحكم في الذرات والجزيئات الفردية والتلاعب فيها. بعد أكثر من عقد من الزمان، صاغ البروفيسور “نوريو تانيجوتشي” مصطلح تقنية النانو أثناء استكشافاته للآلات فائقة الدقة . وفي عام  1981، ومع تطوير مجهر المسح النفقي الذي يمكنه “رؤية” الذرات الفردية، بدأت تقنية النانو الحديثة بالظهور.

العالم ريتشارد فاينمان اثناء إحدى محاضراته

المفاهيم الأساسية في علم النانو وتقنية النانو

 من الصعب تخيل مدى صغر حجم تقنية النانو. النانومتر الواحد هو جزء من المليار من المتر ، أو 10^-9 من المتر. فيما يلي بعض الأمثلة التوضيحية: هناك 25400000 نانومتر في البوصة ويبلغ سمك ورقة صحيفة الأخبار حوالي 100000 نانومتر! وعلى سبيل المقارنة، إذا كانت قطعة الرخام  بحجم  واحد نانومتر، عندئذٍ سيكون حجم الكرة الأرضية واجد متر فقط!. يتضمن علم النانو وتكنولوجيا النانو القدرة على رؤية الذرات والجزيئات الفردية والتحكم فيها. يتكون كل شيء على الأرض من الذرات كالطعام الذي نأكله والملابس التي نرتديها والمباني والمنازل التي نعيش فيها وحتى أجسادنا تتكون من ذرات. ولكن شيئًا متناهيًا في الصغر مثل الذرة يستحيل رؤيته بالعين المجردة. في الواقع، من المستحيل رؤيته باستخدام المجاهر المستخدمة عادةً في فصول العلوم بالمدرسة الثانوية.

اُخترعت  المجاهر اللازمة لرؤية الأشياء بالمقياس النانوي مؤخرًا نسبيًا  أي منذ حوالي 30 عامًا وبمجرد حصول العلماء على الأدوات المناسبة، مثل مجهر المسح النفقي (STM) ومجهر القوة الذرية (AFM)، بزغ عصر تقنية النانو الحديثة. على الرغم من أن تقنية النانو الحديثة بدأت  في الآونة الأخيرة، إلا أن المواد النانوية قد استخدمت لعدة قرون، إذ تُكوّن جزيئات الذهب والفضة ذات الحجم البديل ألوانًا في نوافذ الزجاج الملون في كنائس العصور الوسطى منذ مئات السنين. لم يكن الفنانون في ذلك الوقت يعرفون أن العملية التي استخدموها لإنشاء هذه الأعمال الفنية الجميلة أدت بالفعل إلى تغييرات في تكوين المواد التي كانوا يعملون بها. يجد العلماء والمهندسون اليوم مجموعة متنوعة من الطرق لصنع المواد على المقياس النانوي للاستفادة من خصائصها المعززة مثل القوة العالية والوزن الخفيف والتحكم المتزايد في طيف الضوء والتفاعل الكيميائي الأكبر من نظرائهم على نطاق واسع.

ما هي إيجابيات وسلبيات تقنية النانو؟

تظهر تطبيقات تقنيات النانو جليًا في مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية ففي مجال علم المواد توفر الإضافات النانوية أو المعالجات السطحية للأقمشة مقاومة للتجاعيد والتلطيخ ونمو البكتيريا عليها. كما يمكن للأفلام النانوية الشفافة الموجودة على النظارات وشاشات الكمبيوتر والكاميرا والنوافذ والأسطح الأخرى أن تجعلها طاردة للماء والبقايا ومضادة للانعكاس وتنظف ذاتيًا ومقاومة للأشعة فوق البنفسجية أو الأشعة تحت الحمراء وتجعلها مضادة للضربات الميكروبات كما تعززمقاومتها للخدش أو تزيد من توصيل بعض المواد للكهرباء.

أيضًا ساهمت تقنية النانو بشكل كبير في التقدم الكبير في الحوسبة والإلكترونيات مما أدى إلى أنظمة أسرع وأصغر وأكثر قابلية للنقل يمكنها إدارة وتخزين كميات أكبر وأكبر من المعلومات فعلى سبيل المثال، أصبحت الترانزستورات -وهي المفاتيح الأساسية التي تمكن كل الحوسبة الحديثة- أصغر بشكل لا يصدق من خلال تقنية النانو ففي مطلع القرن الحالي، كان حجم الترانزستور النموذجي من 130 إلى 250 نانومتر وفي عام 2014، طورت شركة “Intel” ترانزستورًا بحجم 14 نانومترًا، ثم أنشأت شركة “IBM” أول ترانزستور بحجم سبعة نانومتر في عام 2015، ثم طور مختبر لورانس بيركلي الوطني ترانزستور بحجم واحد نانومتر فقط عام 2016!

أما في المجال الطبي، فتستخدم الجسيمات النانوية في توصيل الأدوية إلى أجزاء معينة داخل جزء الإنسان وتستعمل أيضا في صناعة أجهزة اختبار الحمل وأيضًا تستخدم الجسيمات النانوية في تدمير الخلايا السرطانية وغيرها. في خضم هذه التطبيقات الجمة يطرأ السؤال التالي: هل هناك مخاوف أو تهديدات للسلامة والصحة جراء استخدام تقنيات النانو؟

لوح شمسي خفيف الوزن ومرن مزود بجزيئات نانوية

تقنيات النانو والأطعمة: فوائد ومخاوف

يقول مؤيدو تقنية النانو إنها ستحدث ثورة في الزراعة وأنظمة الغذاء العالمية وذلك مع استكشاف التطبيقات التي يمكن أن تقلل من الهدر وتجعل الطعام أكثر أمانًا وتساعد في إنشاء “محاصيل فائقة الجودة”  في محاولة لتفادى التسمية المثيرة للجدل للأطعمة المعدلة وراثيًا (الأطعمة المعدلة وراثيًا). إذا نجحت، فقد تساعد في التغلب على ضعف المحاصيل وسوء التغذية ولكن لا تزال هناك تحديات كبيرة تحيط بتقنية النانو.

يعتبر علم تكنولوجيا النانو متطورًا، ولكنه بسيط بما يكفي ليكون في متناول الجميع على مستوى العالم لذلك ليس من المستغرب أن العديد من البلدان النامية قد شرعت بالفعل في تسويق التكنولوجيا. لكن ازدهار هذه التكنولوجيا الجديدة نسبيًا يثير أيضًا مخاوف بشأن سلامتها على المدى الطويل لصحة الإنسان والبيئة، حيث يدعو العديد من العلماء إلى تنظيم ورقابة أفضل وأكثر تنسيقًا دوليًا للاستخدامات المتكاثرة للجسيمات النانوية.

الجدير بالذكر أن الدول النامية  قد استيعدت من المحادثات المتعلقة بتنظيم تقنيات النانو ولا تزال هناك حاجة إلى تنظيم أفضل للتقنية على المستويين الوطني والعالمي لضمان تلبية التكنولوجيا لاحتياجات الفقراء بأقل قدر من المخاطر على الناس. إذن، ما هي أحدث الأفكار في استخدام تقنية النانو في الأمن الغذائي ، وماذا يمكن أن تفعل، وما هي مخاوف السلامة المحيطة بها؟ يشير مصطلح تقنية النانو عمومًا إلى أي استخدام للجسيمات النانوية (بين 1 و 100 نانومتر) ويمنحها حجمها الصغير خصائص غير عادية يمكن أن تؤثر على ملمس الأطعمة ومظهرها ونكهتها وهي تُستخدم بالفعل كإضافات غذائية.

كما  يجري العمل على استكشاف منتجات جديدة تحتوي على هذه الجسيمات لصنع عبوات قابلة للتحلل وتحسين مدة الصلاحية ومنع التسمم الغذائي والنفايات. فعلى سبيل المثال، قد تخبرك مستشعرات النانو الموجودة في تغليف المواد الغذائية قريبًا ما إذا كان الطعام قد تعرض لأشعة الشمس وبالتالي تدهورت جودته. يخطط بعض العلماء لاستخدامه لتحسين التغذية حيث  يدرسون استخدام مستحلبات النانو – الزيت في مخاليط الماء ذات القطرات الصغيرة – كسواغات (الأطعمة التي تعمل على تحسين النشاط الحيوي للأطعمة التي يتم تناولها معهم). يمكن أن يزيد ذلك من تناولنا للمغذيات من الفاكهة والخضروات – وهو استخدام واعد بشكل خاص في معالجة سوء التغذية ونقص المغذيات الدقيقة.

يدرس العلماء حاليًا استخدام المواد النانوية لتحسين توصيل الأسمدة ومبيدات الآفات وإنتاج محاصيل لا يمكن اعتبارها معدلة وراثيًا بالمعنى الحرفي ويستكشف فريق Landry استخدام الأنابيب النانوية الكربونية لتغيير جينات النبات دون إدخال الحمض النووي الغريب في جينوم النبات نفسه ، مما قد يؤدي إلى محاصيل معدلة جينيًا لا تعتبر معدلة وراثيًا. بالنظر إلى المعارضة الشعبية الكبيرة والمستمرة للمحاصيل المعدلة وراثيًا في الدول النامية، يمكن أن يكون هذا النهج طريقة أكثر قبولًا لتقديم فوائد مثل مقاومة الجفاف أو الفيضانات. أظهر الفريق مؤخرًا أنه يمكن استخدام الأنابيب النانوية الكربونية لتوصيل آلية تعديل الجينات المعروفة باسم CRISPR / Cas9 داخل خلايا النبات – من خلال جدار الخلية والغشاء – وهو أمر يصعب القيام به. يسمح التعديل الجيني بعد ذلك بالتحسين الجيني الدقيق لإنشاء محاصيل مقاومة لمبيدات الأعشاب والحشرات والأمراض والجفاف ولديها القدرة على إنتاج محاصيل أفضل دون هذا النوع من المخاوف العامة المحيطة بالتعديل الوراثي.

مخاوف الصحة والسلامة

لكن في مواجهة هذه المسيرة التكنولوجية، أظهر البعض مخاوفهم  بشكل متزايد بخصوص الافتقار إلى دراسات طويلة الأمد حول تأثير المواد النانوية على صحة الإنسان والبيئة. تقول “ماتيلد ديتشيفري”، رئيسة قسم المعلومات في Avicenn :

“الشفافية واليقظة تجاه المخاطر محدودة للغاية وما زلنا في الظلام. لا أحد يعرف ما إذا كانت آمنة وكيف تكون آمنة على المدى الطويل نظرًا لأن معظم أبحاث السلامة قد أجريت في المختبر أو على الخلايا أو الفئران وفي أماكن غير واقعية”

وتضيف الباحثة “زهرة راتراي” من جامعة “ستراثكلايد” في اسكتلندا: “لقد عملت في مشاريع كان فيها ضرر واضح ، وقمت أيضًا بمراجعة بعض المنشورات الحديثة التي لم تُنشر بعد وكان هناك دليل واضح من عملهم على وجود كان تأثيرًا سامًا لهذه الجسيمات “. خلصت مراجعة أجريت عام 2017 لسلامة الجسيمات النانوية في الغذاء إلى أن بعضها قد يكون له “تأثير ضار” وأن الاختبارات الأفضل لهذه التأثيرات كانت “مطلوبة بشكل عاجل”. تشمل الآثار الضارة المحتملة ترشيح جزيئات الفضة النانوية المستخدمة في تغليف الأطعمة ، والتي يمكن أن تقتل البكتيريا الغير ضارة في الأمعاء. مثال آخر هو ثاني أكسيد التيتانيوم، “TiO2 “، المعروف أيضًا باسم “E171” ويستخدم كمبيض للطعام ، والذي ثبت أنه يتراكم في أنسجة الفئران وله تأثيرات سامة عند جرعات معينة. ومع ذلك ، فقد وجدت دراسات أخرى أنها ليست سامة وأن الصناعة التي تجعل المواد تزعم أنها آمنة. لا تزال هناك حالة من عدم اليقين ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن تأثيرات الجسيمات النانوية تعتمد على مجموعة واسعة من العوامل المعقدة والمتشابكة بما في ذلك حجمها وهيكلها وطلائها وجرعاتها، بالإضافة إلى ما تستهلكه.

المصادر

scidev
nano.gov
nano.gov
sciencedirect
interesting engineering

Exit mobile version